منوعات

عن حيوانات بلادنا التي لا تنطق!/ عمّار المأمون

10.06.2025

لا تنطق الحيوانات إلا ساعة الخطر أو تقديم النصح للحاكم، لكن حيوانات بلادنا لا تتكلم، أو لم تتكلم بعد لأن لا حكمة لتنطقها، فما الذي يمكن أن تقوله النمور العربية التي أهدتها السعودية إلى ترامب؟ أو الفيلة التي أصابها الاكتئاب في حديقة حيوان في تونس؟

وافقت السعودية أخيراً على منح دونالد ترامب، ضمن وعود الاستثمار التي “باعته” إياها، نمرين عربيين نادرين، سيُقيمان في حديقة الحيوان الوطنية التابعة لمتحف السمثونيون، الذي تحدثت مديرته مع ترامب، وأخبرها أنه “مهتم كثيراً بالنمور كفصيلة، يريد أن يعرف أكثر عن شخصيتها”.

اللافت انفتاح الدبلوماسيّة الدولية على مجال مثل تبادل حيوانات نادرة، تلك التي لا تنُطق حتى، فربما بروتوكولات المواء قد تغير رأي أقوى دولة في العالم، أو على الأقل، رأي رئيسها الحالي الذي تراوده فكرة الترشح لدورة انتخابية ثالثة، محافظاً على أقفاص الأطفال المكسيكيين المهاجرين على الحدود.

لا تنطق الحيوانات إلا ساعة الخطر أو تقديم النصح للحاكم، لكن حيوانات بلادنا لا تتكلم، أو لم تتكلم بعد، ولا حكمة لتنطقها، وإن كان ابن المقفّع في “كليلة ودمنة” ترجم كلامها عن الهندية، فلا مترجم اليوم لما يمكن أن تقوله، هذا إن رغبت في الكلام.  في تونس مثلاً، حيث قيس سعيدّ يعطل تشكيل محكمة دستورية، أصيبت 3 فيلة بالاكتئاب، واضطرت جمعيات حماية الحيوان للتدخل لنقل الفيلة إلى الهند،  وهذا ليس بجديد، إذ سبق لفيل عام 2023 أن أُخرج من تونس لسوء المعاملة.

في خضم حرب الإبادة، ظهرت علينا صور الحمير، التي تحولت إلى شرايين للحياة في غزة، تحمل الموتى، والمهجّرين، وأثاث المنزل، تلك التي احتار راشد عيسى  في حسم حقيقة إن كانت تجفل من القصف أو لا، لكن الأكيد أنها تتعرض أيضاً للإصابات، وتختبر شح الطعام، كون علفها أصبح خبزاً لأهل غزّة، أولئك الذين لم يجدوا مفراً من المجاعة سوى البحر، فتحولت سلاحفه إلى طعام يصل ثمن الكيلوغرام الواحد من لحمها إلى 30 دولاراً!

قبلها في لبنان، ركضت نعامة هرباً من القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان، لم تهتم النعامة لشيء، بقيت تركض طويلاً، وبدأ البعض يسأل عن مصير النعامة، بينما تُمسح قرى الجنوب بالقصف الإسرائيلي. لاحقاً، تواردت أخبار أن النعامة بخير، ما زالت حيّة، وربما عادت إلى أصحابها، لكن يبقى السؤال، من ذاك الذي تخلى عن الهرب من القصف وقرر مطاردة نعامة؟

أما في سوريا الجديدة، حيث العواء ليس حصراً على الكلاب، فاجتمع متظاهرون دفاعاً عن حقوق الحيوانات الشاردة، الكلاب التي تقتل في الشارع لمجرد أنها كلاب، في سوريا أيضاً يقتل في الشوارع أشخاص لأنهم مجرد أشخاص، في حين عشاق بني أمية، نسوا أن ثاني خلفاء بني أمية، يزيد بن معاوية، كان له قرد ماجن، ينافس يزيد بمجونه، اسمه أبو قيس، و” كان (أي يزيد) يسقيه (أي أبو قيس) النبيذ ويضحك مما يصنع، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسلها مع الخيل فيسبقها”، مع ذلك، قيل أن يزيد “مات بعضة قرد”.

سابقاً، عام 2018،  هربت قردة من حديقة حيوان الجيزة في مصر والتقطها الناس وأعادوها الى القفص، أشخاص عاديون، مواطنون، وجودوا قردة هاربة فـ”ألقوا القبض عليها”. وأخيراً، في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، دشن السيسي نسر الجمهورية الجديد، الذي وُصف بأنه “أقرب الى الحمامة، بلا رقبة، ومنقاره أقرب الى منقار الببغاء، ومخالبه مغروسة حرفياً في جملة (جمهورية مصر العربية)، والدهانات التي استُخدمت لتلوين علم مصر شديدة الرداءة”.

قروش تلتهم كابلات إنترنت، وقروش أخرى تلتهم مصطافين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، البهائم في منطقتنا، تعيش شروطاً تختلف عما تتوقعه فطرتها، كأن يعبر نمر نصف العالم كهديّة، أو تختبر نعامة سرعتها على الاسفلت هرباً من القصف الإسرائيلي ،  الشروط التي تعيشها الدّواب لا أثر تطوريّ لها،  هي غرائز الضرورة، ولا تتوارثها السلالة ذاتها، أي لا تتكرر جيلاً بعد جيل، خصوصاً أن حيواناتنا لا تنطق، ولا تُخبر عن نفسها، لكن ربما في السياقات حيث تظهر، تفصح في ألسنتنا كلاماً أو مشهداً لم نعرفه من قبل، لنعيد النظر في  مساحة لا يفترض أن توجد الدابة فيها أصلاً، كأن تكون “معتقلة” تقاد إلى الأقفاص حيث “تكتئب”.

استنزف مجاز الحيوانات والحكمة والحُكم، خصوصاً  الوحوش التي تنطق،  فما بالك بتلك التي ما زالت على بهيميتها، لا ضبط لغريزتها ولا سياسة تحكم وجودها إلا حبساً؟! تلك الكائنات حين نتتبع أخبارها، لا جدوى من محاولة ربطها بالفلسفة، كالقول إنها خارج النظام الدستوري/ القانوني، الصفة التي يشاركها معها، السيّد، و”الحياة الصرفة،” تلك التي تستحق القتل من دون أن يكون قتلها جريمة. لا حق لشخص هنا ولا حق للجميع (الحق العام)، حتى هذا المجاز استنزف حيث تستهدف إسرائيل الحمير لعرقلة إنقاذ الأرواح، وتمنع سلطات إيران الكلاب من الفضاءات العامة وتحد من “نزهاتها”، وحين يطلب مسلحون من مدنيين عزّل أن يبدأوا بالعواء،  أي أن تَستكلب آخرَ بكلمة أخرى، أن تخلق الطاعة بشكلها الصرف، بلا كلمات، مجرد نباح.

يفترض عبد الفتاح كيليطو، ألا وجود لنسخة هندية من “كليلة ودمنة”، كل حكاية الكتاب المترجم هي خدعة من ابن المقفع، أي لا أصل هندي، ولا ملك، ولا وزير، هناك كاتب ابتدع سلطة فاسدة وضرورة نصحها، واخترع مجاز حيوانات ناطقة لإصلاح السلطة الحقيقية أو مخاطبتها، دورة طويلة لتفادي البطش ربما، ولاحقاً، يمكن القول إن مجاز الحيوانات الناطقة أصبح شكلاً فقط، لم يعد له السحر ذاتها أو السطوة ذاتها، وحتى الإنسان الذي يعوي مهاناً فقد قدرته على التأثير، ولم يبق لنا ربما، سوى صورة النعامة التي تركض هرباً، أو سوري يعوي أو فيلة مصابة بالاكتئاب.

العنف الذي يطبق على الحيوانات والبهائم يبدو غريباً دوماً حين نتأمل به، كون العداوة مع بعضها طبيعيّة، أي حرصاً على الشرط البشريّ، وبعضها وجد نفسه في خضم حروب البشر وفساد السلطة السياسية وعطبها، فأن تكون قرداً على كتف الخليفة لا يختلف كثيراً عن أن تكون قرداً هارباً من البشر الذين يريدون إلقاء القبض عليك، هو اختلاف أحوال وتصاريف. لكن اللافت أن الوحش (البهيمة) إن اقترب من السلطة نال طائرةً خاصة و”نبيذاً”، وإن ابتعد، قد يكتئب، أو يغدو طعاماً لأصحاب المجاعة، فهل من مجاز هنا صالح لتكون الحيوانات منهلاً للحكمة؟ ما العناصر التي يجب ترتيبها في الحكاية لتتحول من مأساة إلى موعظة؟ أيصلح أن نقول إن هروب نعامة في جنوب لبنان من القصف الإسرائيلي حكمة مفادها أن النجاة الفرديّة حقّ للجميع؟

– كاتب سوري

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى