الناس

أسى دمشق/ خالد خليفة

أي جنون أن يأتي السياح الآن في زيارة إلى دمشق. أتخيل السياح يعلقون كاميراتهم في رقابهم وينظرون بدهشة إلى وجوه الناس الخارجين من حرب دامت ثلاث عشرة سنة، يستنشقون رائحة توابلها ويعربدون حتى الصباح في حانات المدينة القديمة.

تبدو الفكرة نوعا من فانتازيا لا يمكن تخيلها، رغم أني منذ سنوات توقظني الكوابيس التي لا يمكن وصفها، رؤوس مقطوعة، سكاكين تذبح أعناق أطفال، طيور تتساقط موتى فجأة دون سابق إنذار بمجرد وصولها إلى هذه المدينة الغريبة التي تدعى دمشق، والتي يقول أهلها إنها أقدم مدينة في التاريخ.

ما زلت أقطع طرقاتها يوميا، وأتذكر أنني كنت قبل ثلاث عشرة سنة لا أتوقف عن استقبال الأصدقاء من كل مكان في العالم. كانت زياراتهم بهجتي التي لا تنتهي، نرتجل البرامج في مدينة وديعة، مستكينة، تخفي صمتها أكثر مما تفصح عنه في كلامها، لكننا دوما نجد وقتا ناعسا نقضيه في الشرب ليلا والتحدث في كل المواضيع التي لا يتوقف تدفقها.

ما زلت وسط هذه الكوابيس، أحلم بأن أصدقائي عادوا إلى زيارتي، وبأنني يجب أن أخرج مسرعا إلى المطار للحاق بمواعيد وصول طائراتهم. أكاد أنفجر من الضحك، المطار متوقف منذ سنوات ما عدا الرحلات الغامضة التي تهبط بين دمشق وعواصم حلفاء نظامها، مثل طهران وبغداد. ولا نعرف ماذا تحمل بالضبط، لكن مستلزمات الحرب متشابهة، ولا تحتاج إلى تخمين. ما عدا رحلات قليلة متبقية تنقل مواطنين سوريين من القاهرة وبعض دول الخليج.

اليوم استيقظت المدينة، الجو ربيعي كعادته، قبل أيام أعلن الراديو عن منخفض جوي جديد، لم يكترث البشر الواقفون في طوابيرهم، اعتادوا على الخوض في طين الطرقات، في سيارتي بنزين يكفيني لمشوارين صغيرين بعدها ستتوقف، لا يهم، سأجد حلا، سيأخذ جيراني سيارتي مع سياراتهم ونقتسم جميعا الانتظار.

تختلط الذاكرة، تعود الصور القديمة لدمشق التي عشناها قبل عشرين، ثلاثين، أربعين سنة، تلك المدينة ذهبت ولن تعود، حتى روائحها تبخرت وبقيت دمشق المسكينة اليوم، يوحدهما الصمت والترقب غير المفهوم، طوال خمسين سنة كانت تنتظر أن يحدث شيء يعيدها مرة أخرى إلى مسارها الطبيعي. من الصعب أن تكتشف أنك تعيش على هامش مكان له عدة طبقات، وعدة وجوه، وأنت تحدق في خطوط الكفين والوجه باحثا عن حقيقة مدينتك التي يريد لها الجميع أن تندثر، لم أر مكانا أحب أعداؤه الاستحواذ عليه وتدميره كما دمشق. كل الأعداء الذين حكموها شعروا بجبروتها وخرجوا خاسرين في النهاية. سؤال دمشق هل يصمد قبرك فيها أم لا؟

إنها معادلة غريبة، أن تبقى مدينة لعشرات القرون جذابة للغزاة، كجاذبيتها لمجموعة كبيرة من العاشقين الذين حين يأتون للحديث عنها ينتابهم صمت طويل، لا ينتهي معحبل الدمع.

منذ سنوات عديدة رأيت دمشق في صور لا يمكن تخيلها. مدينة مظلمة بشكل كامل، يسير ناسها في الشوارع ليلا على ضوء الموبايلات كي لا يتعثروا. مدينة طافحة بالأسى والحزن الشديدين، بيوت مهجورة، وأغلب المناطق والأحياء المحيطة بالمدينة مدمرة بالكامل، تعيش فيها الخفافيش منذ ثلاث سنوات بعد توقف المعارك فيها.

أصبح الظلام شيئا طبيعيا لا يستدعي منا الغضب، نتعامل مع الأشياء كأننا لم نعرف الضوء ولا الكهرباء يوما، رغم أن دمشق من أوائل المدن التي عرفت الكهرباء عام 1907 وكانت تفاخر بعربات ترامها الذهبي.

كأننا كنا نعيش في كهوف حجرية، والآن خرجنا من عزلتنا، رغم ذلك نمارس الترف، ونتحدث عن مشاريع الكتابة، أحدث أصدقائي عن رواياتي الجديدة التي سأكتبها ولوحاتي التي سأرسمها، وهم في المقابل يحدثونني عن مشاريعهم المسرحية التي يعملون عليها، عن رواياتهم، عن أفلامهم، نعقد جلسات مع كتّاب شباب، نساعدهم في بناء نصوصهم السينمائية، ونصوصهم الأولى، نغرق في العمل على ضوء البطاريات ولا ننتظر شيئا، نحن أبناء هذا المكان “الخرابة”، نحن أبناء هذا الظلام، هذا القهر، نعرف أنه من هنا، من وسط كل هذه البشاعة، تشع مدينتنا كأيقونة ساحرة تطلب منا التمرن على الصبر، ليأتي زمنها وتعود مرة أخرى تنهض من ركامها.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى