منوعات

مجانين ومتسولون: معالم بشرية في ذاكرة دمشق، من الملاك الأبيض إلى أبو العز/ سامي مبيض

دمشق: من يتجوّل في شوارع دمشق اليوم يلاحظ أن عددا كبيرا من الأشخاص يمشون وهم يكلمون أنفسهم كالمجانين. هذا أمر طبيعي نتيجة اثنتي عشرة سنة حربا وهموما اقتصادية ومعيشية كفيلة إفقاد عقل أي شخص. في المجتمع يعدّ الناس كل من يكلم نفسه “مجنونا”، والكثير من السوريين وصلوا فعلا إلى حد الجنون، وتحديدا في مدينة مثل دمشق، التي عرفت سنوات طويلة من الاستقرار والازدهار قبل بدء الانهيار السريع ابتداء من العام 2011.

في سنة 2017 نُشر تقرير في مجلة المنظمة الدولية للصليب الأحمر جاء فيه أن مليون سوري يعانون من اضطراب نفسي شديد و90 % منهم لا يحصلون على الرعاية الطبية المطلوبة، مما سيؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية والنفسية.من المؤكد أن هذه الأرقام قد تضاعفت خلال السنوات الستّ الماضية. ويضيف التقرير أنه حتى قبل سنة 2011، لم يكن في سوريا إلا 120 طبيبا نفسيا مختصا، مع ثلاثة مستشفيات للأمراض العقلية (اثنان في دمشق وواحد في حلب).

في تاريخها الطويل عرفت دمشق عددا كبيرا من المتسولين والمجانين، حتى في أيام الرخاء والسلم. الكثير من هذه الحالات كانت تستهويني ككاتب ومؤرّخ، لأنها مرتبطة بظروف الحربين العالميتين وسنوات الاحتلال الفرنسي وما جاء بعدها من قلاقل أمنية ونفسية نتيجة مرحلة الانقلابات العسكرية منذ سنة 1949. لم يكتب عن هذه الحالات إلا القليل، وكل ما هو موجود جاء بالتداول الشفهي والتوارث عبر الأجيال. في وقت تحتاج حالات اليوم إلى اهتمام طبي سريع، كانت الحالات السابقة مصدرا للتندر والضحك، حيث يذكرها الدمشقيون بشيء من الرفق، كأنها جزء من الفولكلور الشعبي.الطاعنون في السن يذكرون عددا من هؤلاء المتسوّلين المجانين باعتبارهم جزءا من ذاكرة المدينة، أو معالم بشرية عاشت طويلا بينهم وأضفت نكهة خاصة على شوارعهم.

سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على بعض هؤلاء، وفقا للمعلومات الشحيحة المتوفرة عنهم، فنحن لا نعرف أسماءهم الحقيقية وليس لدينا تشخيص لحالاتهم الطبية، كما أننا لا نعرف متى ولدوا وكيف عاشوا ومتى توفوا.

ملاك دمشق الأبيض

في مرحلة الستينات من القرن الماضي، كان يتجوّل في شوارع الشام رجل أنيق جدا، ببدلة بيضاء ناصعة وطربوش أحمر. كثيرا ما كان الناس يرونه أمام قصر الضيافة عند شارع أبي رمانة، أو بالقرب من ساحة باب توما، وكلما مرّت امرأة أمامه، جميلة أكانت أم قبيحة، كبيرة أم صغيرة، كان يضع يده فوق قلبه ويتظاهر بالإغماء قبل أن يبدأ بالغناء لأجلها. كان يحفظ كل أغاني محمد عبد الوهاب ويردّدها على بنات مدرسة الفرنسيسكان في منطقة الشعلان، متحديا الجميلات منهن أن يقمن بدور راقية إبراهيم في أغنيتها الشهيرة مع عبد الوهاب “حكيم عيون”. عندما تقبل إحداهن التحدي، ينطلق في تأدية دور عبد الوهاب الغنائي مرددا عبارته الشهيرة: “عشان تحرمي تاكلي غلاس واتدوبي في قلوب الناس…”.

رسم الملاك الأبيض

إنه “الملاك الأبيض”، أحد أشهر معالم دمشق البشرية في زمن مضى. قلائل يعرفون اسمه الحقيقي، والجميع يعدّونه من المجانين المتسوّلين، علما أنه كان ابن نعم ومن عائلة دمشقية معروفة، لم يأخذ مالا من أحد ولم يتطاول على أحد في حياته. عند سؤاله عن سبب اختياره أغاني عبد الوهاب العاطفية كان يقول: “هي ليست لعبد الوهاب أبدا بل لي. عبد الوهاب سرقها مني”. وإذا استرسل “الملاك” أكثر كان يقول إنه جاهز للغناء في الأفراح، ويطلب من الناس ألا يأتوا بعبد الوهاب من مصر قائلا: “شو بدكم فيه؟ أنا بغني ببلاش”.  ادعى “الملاك” أن عبد الوهاب أرسل أشخاصا لقتله وأطلقوا عليه النار لكنه لم يمت “لأني لست من بني البشر ولا أخضع لقوانين الطبيعة. أنا الملاك الوحيد بدمشق”.

يا عصفوري يا عصفور

قبل”الملاك” عرفت دمشق رجلا لقّب باسم “يا عصفوري يا عصفور” لأنه كان يتجوّل وفي يده عصفور بلاستيك أو طير محنط، ينادي عليه ويداعبه. كان طويل القامة، خرنوبي الوجه، حليق الذقن والشوارب، يرتدي ثيابا بالية وينتعل قبقابا خشبيا، يقف يوميا في شارع النصر بالقرب من إذاعة دمشق وينادي: “يا عصفوري يا عصفور”. لم يكن أميّا أو جاهلا، وكان يخلط بين “الجنون” والحكمة في كلامه، ومن أقواله المأثورة: “بدنا مال وبدنا رجال، بدنا نساعد مراكش لتأخذ الاستقلال”.ومن أقواله أيضا: “أنت يا أبو البنّي… شايفك عم تهرب منّي! ما بدي منك غير فرنك، يا عصفوري يا عصفور!” ذات يوم وصل الى منطقة باب البريد عند نهاية سوق الحميدية ودخل مطعم أبو حرب المعروف وفي يده عصفوره الشهير، قائلا: “يا عصفوري يللي مالك ذنب، بدك تاكل من عند أبو حرب”.

ليس جميع هؤلاء كانوا أبرياء، وبعضهم أثيرت حوله الكثير من الشبهات. أحدهم مثلا كان يجلس في الشوارع وعلى رأسه قبعةٌ مشكوكةٌ فيها ريشة طويلة، ينادونه “أبو ريشة” ولعله من ألهم شخصية “أبو ريشة” الحالم بالسفر في مسرحية “غربة”، التي جسدها الفنان الراحل نهاد قلعي في سبعينات القرن الماضي. أشيع أن “أبو ريشة” اختفى قبيل الوحدة السورية –المصرية ليعود ويظهر كأحد رجال المباحث المصرية سنة 1958. وفي السبعينات كان هناك رجل غريب الأطوار يُعرف باسم “زوزو”، قيل إنه أفضل من نظف زجاج المنازل في دمشق. دخل كل بيوت الأحياء الراقية لمعاونة سيداتها، قبل أن يعثر عليه مقتولا في داره وقيل يومها إنه “جاسوس” كان يعمل لصالح الموساد الإسرائيلي.

في العصر الحديث كان هناك مجنون آخر يقف عند أبواب جامعة دمشق يُدعى “أبو العز” عانى من صدمة عاطفية في حياته مما جعلته ناقما على جنس حواء كله. قيل إنه كان طالبا في كلية الطب وإن الصدمة جعلته يتردد على كليات الجامعة بعبارته الشهيرة: “وز…وز…وز…إجا أبو العز”. كان يخالط الطلاب ويحذرهم من الحب والزواج، وعندما يقال له إن فلانا على وشك الزواج كان ينفجر بالضحك ويقول “زادوا الحمير واحد”.حقق “أبو العز” شهرة كبيرة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وصلت إلى تسجيل أقواله وكلامه على أشرطة “كاسيت” كانت توزع مجانا في شوارع دمشق.

راغب

وهناك طبعا “راغب”، مجنون آخر من المجانين، صديق الشباب والسياسيين، كان يقف أمام السرايا الحكومية في ساحة المرجة ويمازح الناس قائلا: “قولوا لهم لن أقبل أن أكون أقل من وزير داخلية! لن أقبل بأقل من ذلك وإلا سأطيح الحكومة كلها”.كانت أبواب الزعماء مفتوحة أمام راغب بلباسه العتيق وعصاه الغليظة، يتعاملون معه برفق من باب الشفقة أحيانا أو التسلية، فكان يدخل على الرئيس أديب الشيشكلي مثلا بعد تأسيس حزبه “حركة التحرير العربي”. كان راغب يقف أمام الرئيس الشيشكلي ويقول: “جماعة أنطون سعادة يقولون له تحيا سوريا وجماعة هتلر يقولون هايل هتلر. ماذا عن جماعتك؟ هل يقولون: هاي أديب؟”.كان الشيشكلي يضحك من صميم قلبه على هذا الجنون،ثم يُخرج ما تيسر من نقود ويعطيها لراغب شاكرا “الضيف”على زيارته بالقول: “شرفتنا يا راغب، عيدها!”.

ذات يوم، رأى راغب رئيس الحكومة الراحل خالد العظم على باب السرايا يصعد إلى سيارته فقال: “خالد بك… عطيني هاالصبّاط (الحذاء)”.ابتسم العظم ورد مازحا: “له ياراغب بيهون عليك أرجع عالبيت حافي؟”. رد راغب الابتسامة بالمثل: “سلامة خيرك خالد بك أنت راكب أطونبيل، أنا يلي حافي. شلاح الصباط!”.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى