الناس

التعليم في سوريا… هواتف وأسئلة مسرّبة في امتحانات البكالوريا/ ورد بيك

التعليم المجاني هو كذبة حكومة النظام، التي يتفاخر بها ويمنَّ بها على السوريين، لكن الحقيقة تقول إن الفساد ينخر هذه المنظومة المجانية، والفوضى تسبب تفاوتاً كبيراً بين مستويات الطلاب وعلاماتهم.

“كنت في طريقي نحو مركز التقديم، قبل بدء امتحان مادة العلوم بنصف ساعة حين ناداني صديقي قائلاً: تم تسريب أسئلة العلوم… تعالَ اشتري مصغّر الحل من المكتبة”، والأخير عبارة عن ورقة صغيرة كُتبت عليها الإجابات بخط صغير جداً. رفض عمرو (اسم مستعار) وهو طالب في الثالث ثانوي بدايةً الأمر ظناً بأنه مجرد إشاعة، كما سبق وحصل قبل امتحانات أخرى، معتقداً أنه لا يمكن أن تتسرب أسئلة وزارية بهذه السرعة وأن تنتشر في المكتبات ببساطة، إلا أنه اقتنع في النهاية بعدما أخبره صديقه أن سعر الملخص هو 2000 ليرة سورية فقط، ما يساوي بضعة سنتات أميركية، ولن تكون هناك أي خسارة في ذلك.

تم تسريب أسئلة العلوم في سوريا بشكل علني قبل انطلاق الامتحان بساعة، إذ انتشرت عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل “تيليغرام”. في هذا التطبيق، أُنشئت قنوات خاصة لتبادل الأخبار بين الطلاب والمعلمين، بالإضافة إلى مجموعات عامة تحمل أسماء مثل “تسريب أسئلة البكالوريا في سوريا علمي أدبي” و “حيدرة آل جعفر”، وسُميت بهذه الأسماء للتمويه.

“دفعت مبالغ ضخمة من أجل هذه الدروس على رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها.”

روشتة صغيرة مقابل عام دراسة كامل

يقول عمرو: “خرجنا من المكتبة سوياً ونحن نرتجف، عشرات الطلاب كانوا يركضون نحوها، يشترون مصغرات الحل لهم ولأصدقائهم ويتجهون نحو مراكزهم الامتحانية.كنا ما زلنا نعتقد أنها ليست الأسئلة الحقيقية، حتى وإن كانت فحتماً سيتم استبدالها وإرسال نموذج وزاري جديدي عبر الفاكس لكل المحافظات”.

سُربت أسئلة الدورة الأولى في 24 حزيران/ يونيو الساعة السادسة صباحاً على إحدى القنوات، وقام أحد الأساتذة بحل النموذج كاملاً وإرساله الى القناة. وبدورها، طبعت بعض المكتبات نموذج الحل على أوراق صغيرة وباعتها للطلاب بقيمة 2000 ليرة سورية.

تفاجأ الطلاب عند دخولهم القاعات بوجود زملاء يحملون مصغرات تحتوي على إجابات الأسئلة، فيما هم لم يكونوا على علم بتسريب الأسئلة مسبقاً. وعلى رغم وجود مراقبة، لم يفتَّش  الطلاب الذين يمتلكون واسطة قوية. تعبّر ريم (اسم مستعار) عن استيائها قائلة: “أعرف كثيرين من أصدقائي الذين لم يدرسوا طوال العام ولم يبذلوا جهوداً تعادل جهودي، خصوصاً في مادة علم الأحياء التي أثرت سلباً على قدرتي على التركيز والحفظ لفترات طويلة في ظروف الاضطرابات الناتجة من انقطاع التيار والإضاءة الضعيفة. وعلى رغم ذلك، حصل هؤلاء الأشخاص على درجات عالية، بينما حصلت أنا على نظارة طبية لعينيَّ”.

من جهتها، تقول رند: “درست في قرية نائية بعيدة عن مركز المدينة في محافظة السويداء، حيث تتميز المدارس بكوادر تدريسية قوية ومؤهلة، وتتوافر معاهد تقدّم دورات مسائية مكثفة للطلاب الذين يحتاجونها. لطالما كنا في عالم آخر نحن طلاب القرى، حيث كانت جودة التعليم أقل بكثير مقارنة بالمدارس في المدن. لذا، اضطررت لأخذ دروس خصوصية في العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء لتعويض النقص التعليمي طوال السنوات الماضية. دفعت مبالغ ضخمة من أجل هذه الدروس على رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها. وفي المقابل، تمكن طلاب آخرون بمبلغ 2000 ليرة سورية من الحصول على درجات أعلى مني”.

لم تكترث يوماً وزارة التربية السورية ممثلة بمديرياتها كافة بوضع الأماكن النائية وخدمات التعليم فيها، خصوصاً أمام موجة الاستقالات التي شهدتها مناطق عدة بسبب تدني رواتب المعلمين وعدم توافر وسائل نقل للمدارس الحكومية، وهذا التقصير أثر سلباً على الطلاب وأدى إلى تفاقم الفجوة بين طلاب المدن والقرى.

إجابات متطابقة وعلامات مختلفة

يضيف عمرو: “لا يمكن وصف شعورنا عندما دخلنا القاعة ووجدنا أسئلة الامتحان ذاتها التي في المصغر، استطاع معظمنا نقل الإجابات بسرعة وتسليم الورقة والخروج مبكراً. جميعنا في القاعة كنا قد كتبنا الإجابات ذاتها الموجودة في المصغر  من دون زيادة أو نقصان، رغم ذلك حين صدرت النتائج كانت علاماتنا متباينة بشكل كبير”، فهل المشكلة بالمصغر أم بالتصحيح؟!

اختلاف العلامات رغم تطابق الإجابات، إن كان يدل على شيء فهو إما أنها محاولة مقصودة لتجنب الاشتباه في وجود تسريبات، لأن العلامات المتشابهة تثبت وجود حلول متطابقة، وهذا صعب الحصول نسبياً في مركز كامل، أو أنها تدل على أن عملية التصحيح غير دقيقة وهذه مشكلة أكبر. لطالما عانى طلاب الشهادات في سوريا من تدني معدلاتهم مقارنة بإجاباتهم، فسلالم التصحيح المعقدة والتفصيلية والمناهج غير الفعالة ساهمت في خروج سوريا من التصنيف العالمي لجودة التعليم الصادر عن منتدى التعليم الاقتصادي العالمي في “دافوس 2021”.

ليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها تسريب لأسئلة الشهادة الثانوية في سوريا. إذ سُجلت حالات مماثلة في السابق، ففي عام 2016 خلال دورة الشهادة الثانوية الأولى، سُرّب عدد من أسئلة المواد عبر صفحات على موقع “فيسبوك”. وتكرر ذلك في عام 2019 عندما تم تسريب أسئلة الرياضيات من خلال ملاحق وملخصات موزعة قبل يوم واحد من الامتحان من قبل بعض المعاهد الخاصة في دمشق، حيث يعمل فيها أساتذة لهم وصول إلى وضع الأسئلة النهائية.

أمام هذه التسريبات العلنية، تنكر وزارة التربية السورية حقيقة هذه الأسئلة وتعتبرها إشاعة تمس بمصداقية التعليم السوري، رغم تقديم أدلة وصور لمحادثات تثبت ما حصل. أصرت الوزارة على أنها صور مفبركة ومفتعلة ولا وقت لديها لهذه الأمور. هذا الاستخفاف العلني يعد جزءاً من مشكلة أكبر تتعلق بالمناهج والتعليم ونظام المراقبة، وهي من المسببات الرئيسية التي أدت إلى تراجع مستوى التعليم في سوريا منذ بداية الأزمة وحتى اليوم.

سابقاً، قبل ظهور تطبيق “تيليغرام”، كانت تنتشر موضة “التوقعات الامتحانية”، بحيث يقوم بعض الأشخاص القائمين على كتابة الأسئلة سنوياً برصد أسئلة متوقعة ومهمة وإعطائها للطلاب بطرق ملتفّة، كان هذا الأسلوب شائعاً ومهماً لدى الطلاب، إذ لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة نقل المحتوى متوافرين. ولمنع هذه الظاهرة، حاولت وزارة التربية السورية تعيين مجموعة مختلفة من المعلمين كل عام لكتابة نماذج شاملة للاختبارات لجميع المواد (25-40 نموذجاً)، وقبل بضع ساعات من الموعد المحدد للاختبار، يتم اختيار نموذج عشوائي وتوزيعه على جميع المحافظات ومراكز الامتحانات، سواء عن طريق وسطاء ينقلونه في سيارات خاصة أو يرسلونه عبر الفاكس. ورغم ذلك، لا يزال تسريب الأسئلة بين الطلاب ظاهرة تتكرر، لكن تختلف طرق تسريبها في الداخل، فمنهم من يشتريها مقابل مادي ضخم وتبدأ بالانتقال من يد طالب الى آخرى، ومنهم من يرسلها فور اختيارها من الوزارة، وآخرون يسربونها خلال طباعة الأسئلة قبل الامتحان بساعات، وهذا ليس أمراً غريباً في سوريا، حيث تسود الرشوة وتسيطر الواسطة.

يقول رامي (اسم مستعار)، طالب بكالوريا من محافظة دمشق: “والد صديقي يعمل مع المخابرات وله نفوذ سياسي قوي، كان ابنه يدخل الى الامتحان ومعه هاتفه المحموله علناً ويضعه أمامه ويبدأ بنسخ الإجابات بعد نصف ساعة من الوقت، إذ ترسل إليه محلولة جاهزة من أساتذة متخصصين. وعندما يكون الإنترنت مقطوعاً، يقترب أحد المدرسين من المركز ويرسل له الحل عبر البلوتوث”. وفي حادثة مشابهة، تقول سيدرا (اسم مستعار): “أعرف فتاة كانت تدخل جوالها معها للقاعة أمام المراقبين الذي كانوا يعرفونها جميعاً، يقتربون منها كأنهم على اتفاق مسبق. في إحدى المرات، دخل مدير المركز نحو قاعتنا بغتة وأمسك الفتاة تنسخ من جوالها، حينها سحب بطاقتها وهددها، فأجابته بصوت منخفض أنا فلانة بنت فلان، ما كان منه بعدما تأكد من الاسم إلا أن أرجع لها البطاقة وقال لها أمام الطلاب بتمثيلية ضعيفة: “ضبي الجوال وما عاد تفتحيه”، عرفنا لاحقاً أن والد الفتاة قام بتقديم رشوة مسبقة للمدير والمراقبين بحصص متفاوتة.

هذه القصص أمثلة مصغّرة عن الفساد الواسع النطاق الذي ينتشر في البلاد، لا يمكن تقديم أمثلة محدودة أو اتهام مجموعة معينة من الطلاب الذين استفادوا من التسريب، ولا الأسف على الطلاب الذين لم يستفيدوا منه. هذا الأمر يعكس حقيقة مريرة لا يمكن فهمها أو وصفها بسهولة. فالتعليم المجاني هو كذبة حكومة النظام، التي يتفاخر بها ويمنَّ بها على السوريين، لكن الحقيقة تقول إن الفساد ينخر هذه المنظومة المجانية، والفوضى تسبب تفاوتاً كبيراً بين مستويات الطلاب وعلاماتهم، فقد تجد طالباً ذكياً بمعدل أقل من طالب آخر ضعيف، فقط لأنه يمتلك واسطة قوية.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى