جولة على أطلال الميليشيات العراقية في سورية -7 أجزاء-/ عثمان المختار

سياسة
“العربي الجديد” يجول على أطلال المليشيات العراقية في سورية (1)/ عثمان المختار
03 يونيو 2025
وضعت قوات الأمن السورية الجديدة يدها على سبعة مقرّات رئيسية لفصائل عراقية مُسلحة، تتوزّع ضمن خطوط عسكرية متقاطعة في محيط محافظة حلب، شمالي سورية، في ريفي حلب الغربي والشرقي، وواحد رئيسي عند أطراف المدينة. مدارس ودوائر حكومية ومدرسة تدريب عسكرية، ومنزل كبير لعائلة حلبية معروفة نزحت منه ليتحوّل مقرّاً ومركز احتجاز يستخدمه أحد تلك الفصائل، بينما تعج ضواحي دمشق بأكثر من هذا العدد، خصوصاً في السيدة زينب والغوطة الشرقية وقدسيا، وجرمانا، وهي بالمُجمل مكاتب ومقرّات تضم مسلحين عراقيين ينتمون إلى فصائل عدة. وفي السنوات الأخيرة من عُمر نظام الأسد، لم يكن يُسمح لعناصر المليشيات العراقية بالخروج والاختلاط بالأهالي بصفتهم المُسلحة، مُحتفظين بهامش حركة كبير في دمشق وريفها عبر أنشطة دينية واستخبارية مختلفة، كان من آخرها اعتقال عراقيين مقيمين في دمشق، قبل شهر من سقوط النظام، ونقلهم إلى بغداد بتنسيق مع النظام المخلوع.
يبدو هذا الواقع أوضح بكثير في محافظة دير الزور، حيث مناطق الميادين، والبوكمال، والطلائع، والهري، وثنايات، التنف، وبلدات أخرى قريبة من خطوط التماس مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، أو القريبة من المعسكرات الأميركية في الشرق السوري، حيث تضم عشرات المقرّات، واحتفظت المليشيات العراقية فيها بأنشطتها العسكرية حتى الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط نظام الأسد.
إلى الشرق من حمص، حيث مدينة تدمر، تظهر كتابات لأسماء مليشيات مختلفة، على مبانٍ عامة، وبقايا نقاط تفتيش حول المدينة، تعود إلى مليشيات مسلحة، أبرزها “فاطميون”، و”الإمام علي”، و”قوات الرضا”، و”الدفاع الوطني”، والأخيرة مليشيا محلية تزعم ارتباطها بالحزب القومي السوري، لكنها عمليا كانت مرتبطة بالجهد الإيراني الداعم لنظام الأسد.
إرث دموي
جميع هذه المقرّات، سواء التي كانت فيها فصائل عراقية، أو إيرانية، أو الجماعات متعدّدة الجنسيات، كما في حال “زينبيون” و”فاطميون”، اللتين انسحبتا إلى داخل العراق بعد سقوط النظام، باتت، وبقرار من وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، تحت إشراف وزارة الدفاع، وجرى نشر أفراد من الجيش فيها، لمنع استمرار العبث أو سرقة ما تبقى من شبابيك وحديد تسليح وأسلاك كهرباء. غير أن قسماً تعود ملكيته لوزارة التربية والتعليم، مثل المدارس والمعاهد، بات تحت إشراف وزارة الداخلية، بينما استرد أصحاب المنازل والمجمعات التجارية أملاكهم، كما في حالة البوكمال السورية.
تُظهر إفادات المواطنين السوريين، إرثاً دموياً للفصائل العراقية المسلحة، على مدى سنوات الثورة، لا يقتصر على مشاركة النظام في العمليات العسكرية والدعم الناري، وما رافقها من جرائم مروّعة، خصوصاً في أرياف دمشق وحمص وحلب والبوكمال وإدلب، بل تتعدّى إلى عمليات خطف وتغييب مواطنين، وأخرى نهب وسرقة من مناطق عدة، وصولاً إلى استغلال سيطرتهم على الشريط الحدودي مع العراق في عمليات تهريب مختلفة، منها الوقود ومحرّكات السيارات والأدوية.
في ريف حلب الغربي، حيث المعقل الأهم للفصائل المسلحة بعد عام 2016 ولغاية سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، يؤكد مواطنون سوريون أنهم طالبوا مسؤولين في وزارة الداخلية الجديدة في دمشق بالبحث عن أبنائهم الذين اعتقلتهم المليشيات العراقية خلال تلك الفترة ولا يُعرف لهم مكان. غير أن أياً من الأهالي لا يُقدّمون أدلة ملموسة تدين تلك المليشيات، أو تُمكّن حكومة بلادهم الجديدة من ملاحقتهم، وهذا طبيعي في مثل الأوضاع التي واجهت مجمل الجغرافية السورية.
الشهادات العينية والإفادات من أهالي الضحايا الذين خطفوا أو تورّطت المليشيات بقتلهم، كل ما يملكه السكان المحليون.
يتهم أبو أنس الحمامي، وهو مواطن سوري، “المليشيات”، بالوقوف وراء خطف ابنه عام 2018. يقول إنه دفع مبالغ مالية، للحصول على أي معلومة عنه، وانتهى به المطاف أخيراً إلى مطالبة والدته أن “تقرأ عليه الفاتحة”، في إشارة إلى يأسه من العثور عليه حياً، وأن تكف أمه عن البحث والمتابعة.
يقول الحمامي لـ”العربي الجديد”، إن ابنه (مالك) جرى اعتقاله من حاجز تفتيش لمليشيات لا يعرف إن كانت عراقية، لأن الإيرانيين كانوا موجودين أيضاً في تلك الفترة، لكن شهود عيان أكّدوا أن أفراد الحاجز الذين اعتقلوا ابنه، دخلوا مدرسة كانت مقرّاً لهم، وعند ذهابه وجد فيها أشخاصاً يتحدثون اللهجة العراقية، وطلبوا منه الابتعاد عن المكان.
يقول ماجد عبد الكريم، وهو أحد عناصر الأمن العام في حلب، إنهم وضعوا أيديهم على وثائق ومعلومات وأسلحة ومعدّات تركها أفراد الفصائل المسلحة خلفهم يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، من عدّة مقرّات، وأخرى استولى عليها سكان محليون، أضرموا النار بالمقرات بعد أخذ ما فيها. وقد نُقلت وثائق كثيرة إلى دمشق في محاولة للأرشفة وجمع المعلومات، لكن هذا الإجراء جاء متأخراً وفقاً لعبد الكريم، بسبب عمليات الإتلاف والعبث بالأوراق التي استمرّت عدة أسابيع بعد سقوط النظام. ويضيف في شهادته لـ”العربي الجديد” إن “سيارات بيك أب تابعة للحكومة جمعتها في أكياس كبيرة ونقلتها إلى الشام”. ويفيد بأن السكان المحليين نهبوا أغلب تلك المقرّات في ريف حلب الغربي، بما فيها من مؤونة غذائية، وملابس وأسلحة، ووصل الحال إلى انتزاع أسلاك الكهرباء من الجدران، وحتى الشبابيك جرى نزعها من الجدران من لصوصٍ بغرض بيعها لاحقا.
تظهر في مدرسة ثانوية كبيرة تقع خلف “مول القاطرجي”، في حي حلب الجديدة، آثار وكتابات ورايات على الأرض لجماعتي “النجباء” و”كتائب حزب الله” العراقيتين، مع أوراق على الأرض، تُظهر جدول المناوبات لحراسة في المكان الذي جرى تعريفه باسم بـ”مركز الإمام مسلم”. ويقول محمد الأسلمي، الذي رمّم غرفتين من هذا المقر، ونقل زوجته وأطفاله إليه، تاركاً خيمته التي ظلّ فيها أكثر من سبع سنوات، إنه جاء إلى المكان في فبراير/ شباط الماضي، ووجد أن الناس أخذت ما فيه، ولم يبق منه شيء، ووافقت إدارة الأمن الجديدة في حلب على أن يبقى في المكان مقابل حراسته ووقف سرقة ما تبقى منه.
يستأذن الأسلمي أن ننتظر قليلاً قبل الصعود إلى الدور العُلوي من المدرسة، إلى حين استعداد زوجته وبناته، حيث باتت غرفتان مسكناً لهم، وثالثة للغسيل والتخزين. يخبر “العربي الجديد” أن “المكان سيئ للغاية، لكنه أفضل من الخيمة”، وفقاً للأسلمي الذي يصرّ على صعودنا إلى سطح المدرسة، ورؤية الحواجز التي وضعها الأهالي فوق منازلهم المحيطة بالمقرّ، لحجب رؤية عناصر المليشيات عنهم، حيث كانوا يجلسون على السطح ساعات طويلة ويُشرفون على المنازل القريبة.
جميع من في هذا المقر تركوه بشكل مفاجئ وسريع باتجاه أكاديمية الهندسة العسكرية (على بعد 5 كيلومترات منه)، مع اقتراب فصائل عمليات ردع العدوان من أطراف المدينة.
تفريط بالوثائق
يقول الضابط في الأمن العام وأحد المسؤولين الحاليين عن مقرّ الأكاديمية، نبهان العيسى، لـ”العربي الجديد”، إن هذا المكان كان يجمع عدة عناوين مسلحة، بينها إيرانية، وليست عراقية فقط، وإن هذه الأكاديمية كانت من آخر ما جرت السيطرة عليه في حلب، وتم وضع اليد على وثائق ومعلومات كثيرة عن طبيعة الأنشطة التي كانت فيها.
ويقول الناشط السياسي، فراس العكيدي، لـ”العربي الجديد”، إن الأهالي وضعوا أيديهم على كثير من محتويات مقرّات فصائل عراقية مسلحة كانت تعمل في منطقة دير الزور. ويوضح أن أسلحة وأجهزة اتصال وكاميرات مراقبة نهبت بعد الانسحاب السريع لهذه الفصائل قبيل ساعات من سقوط النظام، لكن الأهم أن معلومات ووثائق فرّطت بها الإدارة السورية الجديدة، وكان يمكن من خلالها معرفة مصير من اعتقلتهم تلك الفصائل، أو حتى إدانتها دولياً على ما اقترفته من جرائم بالسنوات الماضية.
وقد اختطفت مليشيات عراقية مسلحة 180 سورياً في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ما زال مصيرهم مجهولاً بعد اقتحام هذه المليشيات قريتي السويعية والهري ضمن محافظة دير الزور، لكن المرصد السوري لحقوق الانسان تحدث عن أكثر من مائتي سوري اختطفتهم تلك المليشيات في تلك الفترة. وقد تظاهر في 11 فبراير 2025، أهالي المفقودين في ساحة عامة وسط البوكمال، مطالبين بمعرفة مصير أبنائهم ومتّهمين المليشيات العراقية بالوقوف وراء تغييبهم، بعد اعتقالهم وإبلاغ ذويهم بأنهم سيدقّقونهم أمنياً، لكن لا أثر لهم.
أسر كاملة منكوبة، فقد جميع رجالها، بعد اعتقالهم، وتتردّد أسماء كثيرين منهم، بسبب عدم يأس أهاليهم من العثور عليهم أحياء: علي مشلح هويدي، غانم مشلح هويدي، ثامر مفلح الحوران، محمود كمال النعيمي، ماجد نايف الجبوري، عاسج عبيد مطلك، محمد خميس الحرفوش، ومطر خميس الحرفوش، عبد الله السور، وعشرات آخرون من قريتين فقط في البوكمال اختطفتهم المليشيات العراقية.
أبو تقوى وأبو سجاد اسمان لقائدين في الفصائل العراقية في المنطقة حيث كان يتردد أهالي البوكمال. يقول مالك الجاسم، وهو والد أحد المختطفين، إنه قابلهما وأبلغاه أنهما سلّما ابنه للسوريين، في إشارة إلى نظام الأسد، مؤكداً لـ”العربي الجديد”، أن أولياء مفقودين أبلغوهم بإجابة مختلفة عندما قابلوهم قبل سقوط النظام، وقالوا لهم، “عند جماعة حجي باقر”. وباقر هذا هو المسؤول الإيراني المقيم في البوكمال من 2017 إلى 2023.
بسبب تكرار نقل مقرات هذه الفصائل وتغييرها بين وقت وآخر في منطقة دير الزور، إثر القصف الأميركي المتكرّر لها، فإنه لا عدد دقيقاً لهذه المقرّات. غير أن أحد أفراد الأمن العام في البوكمال، قال عبر الهاتف لـ”العربي الجديد”، إنها تتجاوز الـ30، وكان بعضُها يضم أنفاقاً للاختباء، ومخازن محفورة تحت الأرض.
الإدارة السورية مُتأخرة كثيراً في إنشاء قاعدة بيانات للمختفين قسرياً، هذا ما يمكن استخلاصه من أحاديث من قابلناهم من السوريين في عدة مدن ونواح. ومنهم أمينة أحمد حسين (56 عاماً) التي لا تزال تبحث عن زوجها محمد الشعيطي، وابنها حميد (21 عاماً) الذي كان، عند اختفائه في حاجز لمليشيا “سيد الشهداء” العراقية سنة 2023، يحمل معه 400 دولار لشراء مضخّة مياه جديدة. تقول لـ”العربي الجديد”، إن الأمل بوجودهما حيّين تراجع، وقد دخل إخوتها مقرّ هذه المليشيا بعد انسحابها من المدينة، ولم يعثروا على أحد.
توسّطت أمينة عند شخص يُدعى الحاج عسكر، لإطلاق سراح زوجها وابنها، عن طريق شخص من المتعاونين مع الفصائل العراقية، وهو سوري، وطالبها بثلاثة آلاف دولار أعطته إياها مقابل الوساطة، لكن لا شيء تحقق، وجاء سقوط النظام ليختفي هذا المتعاون أيضاً.
وقد عَثر الأمن العام السوري، الشهر الماضي (مايو/ أيار)، على جثة أحد المتعاونين مع المليشيات العراقية في منطقة صناعية ببلدة البوكمال. وقد باتت هذه الظاهرة تتكرّر بين وقت وآخر، ويعتقد أن التصفيات مرتبطة بأنشطة هؤلاء الاشخاص في فترة النظام ووجود المليشيات العراقية في المنطقة.
رابطة لضحايا المليشيات العراقية في سورية
ويستعد الناشط السياسي حامد الديري، مع آخرين، لتشكيل رابطة تُعنى بشؤون ضحايا هذه الجماعات وعائلاتهم في محافظة دير الزور. ويقول لـ”العربي الجديد” إن مقرّات الفصائل العراقية “ارتبطت بذاكرة سيئة عند أهالي دير الزور خصوصاً، والمدن السورية الأخرى على وجه عام”. ويضيف: “كنّا نضطر لمجاملتهم في نقاط التفتيش التي ينصبونها، لأن اعتقالهم أي شخص يعني إما أنه سيعود إلى منزله بكسور وعاهات قد تكون مستديمة، أو قد لا يعود من الأساس”.
ويقول المحامي والحقوقي السوري، وضاح الجبوري، الذي نزح من الحسكة باتجاه حلب بعد سقوط النظام واستقرّ هناك، إن “الحكومة السورية لا تملك الحق في التنازل عن حقوق الضحايا الذين تورّطت المليشيات العراقية بدمائهم، تحت أي سبب كان”. ويُحذّر الجبوري في حديث مع “العربي الجديد” من وجود محتالين يخدعون ذوي المفقودين من أن أبناءهم جرى نقلهم إلى العراق مع انسحاب المليشيات قبل سقوط النظام، ويؤكّد أن هذا كله غير صحيح، والغرض منه أخذ أموال من أسر الضحايا، وأن جميع من اعتقلتهم المليشيات العراقية، أو النظام ولم يظهروا في اليوم الأول للتحرير، يعني أنه تم إعدامهم.
في السيدة زينب بريف دمشق، كانت عدّة مقرّات للفصائل العراقية، في الحجيرة، والحيدرية، والمقام، والصناعية، والذيابية، منها “كتائب حزب الله” و”النجباء” و”سيد الشهداء” و”عصائب أهل الحق”، وأسّست تلك الفصائل مكاتب وزاولت أنشطة دينية ودعوية كانت من خلالها تنظم حملات مساعدة، مثل سلال غذائية للسكان المحليين.
يقول حيدر السيد محمود، وهو أحد سكان منطقة الحجيرة، لـ”العربي الجديد”، إن الفصائل العراقية لم تكن تخرج بسلاحها بالشارع ولا تنصب أي نقاط تفتيش أو حواجز منذ عام 2020، ووجودها في السيدة زينب مختلف عن باقي المناطق. ويوضح: “علمت أن جميع من في تلك المقرّات غادروا إلى لبنان بعد سقوط النظام ودخول الفصائل السورية دمشق، وقسما منهم تأخّر بالانسحاب حتى اليوم الثاني”، متحدثاً عن استيلاء أطراف مختلفة على محتويات تلك المقرات.
المليشيات العراقية/أحد مقرات المليشيات العراقية في حلب (عامر السيد علي)
أحد مقرات المليشيات العراقية في حلب (عامر السيد علي)
وتبرز فصائل “كتائب حزب الله” و”النجباء” و”الإمام علي” و”كتائب سيد الشهداء” و”عصائب أهل الحق”، و”الخراساني” والطفوف” و”أبو الفضل العباس”، بوصفها أهم الجماعات التي تصدّرت العمل العسكري في سورية لدعم نظام الأسد. وما زالت هذه الفصائل في مناطق القائم وحصيبة ومكر الذيب وعكاشات، غربي العراق ضمن محافظة الأنبار، منذ انسحابها من الأراضي السورية المجاورة قبل سقوط النظام بيوم. وقد تورّطت هذه المليشيات بجرائم إلى جانب قوات النظام، أبرزها في الغوطة الشرقية، حيث شاركت مليشيا “عصائب أهل الحق”، و”كتائب حزب الله”، إلى جانب قوات النظام، وتحديداً في دوما وحزرما، وكفر بطنة، بالإضافة إلى جرائم القصير في ريف حمص، ومجازر في ريف حلب الغربي والجنوبي، ودير الزور وريف حماة والوعر في حمص، التي تتهم مليشيا “الإمام علي”، بتنفيذها، إلى جانب عمليات التغيير الديمغرافي والتهجير في مناطق سورية مختلفة، أبرزها في الغوطة بريف دمشق.
وأظهر تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، في يناير/ كانون الثاني 2015، تورّط المليشيات بقتل مئات المدنيين خلال تلك الفترة، قال إن من بين القتلى 962 مدنيا، و172 طفلا و143 امرأة، وحمّل التقرير آنذاك الحكومة العراقية مسؤولية الجرائم التي تتورّط بها تلك المليشيات وخصّ منها مليشيا أبو الفضل العباس. وطالبت الشبكة مجلس الأمن بإصدار قرار بشأن هذه المليشيات المقاتلة في سورية على غرار القرار 2170 الخاص “بالفصائل الإسلامية المتشدّدة”، وفرض عقوبات على المسؤولين والسياسيين المتورّطين بدعمها.
ويتحدث الخبير في الشأن الأمني والسياسي السوري، عبد الله النجار، (مقدّم في الجيش منشقّ سابقاً) عن تقديرات بتورّط أكثر من 70 ألف عنصر مسلّح من تلك المليشيات في جرائم مباشرة في الأراضي السورية. ويوضح أن “المليشيات العراقية في المجمل كانت شريكة في كل الانتهاكات التي ارتكبها النظام، سواء بعمليات القتل الجماعي أو التجريف والتهجير أو القتل على الهوية الطائفية، إضافة الى عمليات التغيير الديموغرافي، خصوصاً في دير الزور”، مبيناً أن هذه المليشيات “دعمت وساهمت أيضا بتشكيل مليشيات سورية محلية طائفية”. ويلفت إلى أن “الحكومة السورية الجديدة مطالبة برفع دعاوى أمام محاكم دولية لإدانة إيران والمطالبة بالتعويض على جرائم وانتهاكات المليشيات بوصفها راعياً ومؤسّساً”، على حد تعبيره.
وقد أظهر مسح ميداني أجراه مركز جسور للدراسات في عام 2023، وهو مركز معني بالشأن السوري، وجود 570 موقعاً عسكرياً إيرانياً في الأراضي السورية. وأفاد بأن إيران تمتلك أكبر حجم نفوذ خارجي في الخريطة السورية، تليها تركيا بـ125 موقعاً، ثم روسيا بـ105 مواقع، وأخيراً التحالف الدولي بـ30 موقعاً. وخلُص إلى أن إيران زادت من حضورها العسكري جنوبي سورية، مستفيدة من تخفيض روسيا التزاماتها أمام إسرائيل في المنطقة، بسبب موقف الأخيرة من الصراع في أوكرانيا.
ويقول الباحث السوري، أحمد الحوراني، إن “غالبية المراكز البحثية والمراقبين، عندما يتحدثون عن النفوذ الإيراني، فإنهم يشملون المليشيات والجماعات العراقية المسلحة”. ويضيف: “لطالما ارتبطت المليشيات العراقية بالتحرّك والجهد الإيراني بسورية، ولا يمكن فصلها باعتبارها كياناً مستقلاً بهوية خارج النطاق الإيراني، لذا كان انسحابها متزامنا مع انسحاب مستشاري الحرس الثوري الإيراني من دمشق”، معتبراً أنها “تبقى صفحة داخل كتاب التغول الإيراني في سورية خلال السنوات الماضية، والأفضل عدم وصمها أو وصفها بصفة العراقية، مراعاة للجيرة والعلاقات بين الشعبين العربيين الشقيقين”.
العربي الجديد
———————————
عندما ذاب “التحالف الرباعي” ضد داعش بعد سقوط الأسد (2)/ عثمان المحتار
04 يونيو 2025
تتفق المواقف في كل من دمشق وبغداد على انتهاء “التحالف الرباعي” ضد داعش فعلياً، بسقوط نظام بشّار الأسد، حيث لم يعد للتحالف أي وجود فعلي على الأراضي السورية، فضلاً عن انقطاع حلقات هذا التشكيل بين دمشق من جهة وطهران وموسكو من جهة أخرى.
ولادة “التحالف الرباعي” ضد داعش
أعلنت موسكو عن “التحالف الرباعي” للمرة الأولى في نهاية سبتمبر/أيلول 2015 بين كل من روسيا والعراق وإيران، إلى جانب نظام بشّار الأسد في دمشق، لمواجهة تنظيم داعش، بعد فترة وجيزة من إعلان واشنطن عن التحالف الدولي لمواجهة التنظيم، والذي استثنى بطبيعة الحال روسيا وإيران ونظام الأسد. هذا الأمر دفع إلى اعتبار “التحالف الرباعي” موجّهاً، بالدرجة الأولى، إلى التكتل العسكري الأول الذي تزعمته الولايات المتحدة، وانخرطت فيه دول غربية وعربية عديدة، أبرزها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وألمانيا وهولندا والسويد والأردن والسعودية وقطر، لمواجهة “داعش”. وقد أسّس “التحالف الرباعي” مقرّات له في العواصم الأربع، على أن تكون بغداد المقرّ الرئيسي، بممثلين مُنتدبين، وهم ضباط من إيران وروسيا وجيش النظام السوري آنذاك، وضباط عراقيون، على أن تتولى دولة من الدول الأربع كل ثلاثة أشهر رئاسة هذا التحالف الذي دأب منذ العام 2015 على إصدار بياناتٍ عقب كل اجتماع لهم في بغداد أو خارجها، وتبنى عملياً عملياتٍ عدة قال إنه نفذها، لكنها انحصرت في المجمل داخل الجغرافيا السورية من دون العراقية.
وأشهر “التحالف الرباعي” ضد داعش عن نفسه بأنه قائم على مواجهة التنظيم، وتبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية، وتنفيذ (وتنسيق) الهجمات على معاقل التنظيم في العراق وسورية، وملف الحدود الدولية بين العراق وسورية البالغة أكثر من 600 كيلومتر، وانتداب مستشارين من روسيا وإيران إلى العراق وسورية، ومنحهم صفة رسمية بعنوان مستشارين عسكريين.
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تلاشت الأخبار عن هذا التحالف، وتُظهر معلومات خاصة حصلت عليها “العربي الجديد” أن مقر التحالف في بناية مديرية الاستخبارات العسكرية وسط بغداد، لم يشهد أي نشاط، كما لم يصل أي مندوب روسي أو إيراني إلى مبنى المديرية. وفي السياق، أكد مسؤول عسكري عراقي في بغداد توقف أنشطة التحالف بالكامل، لكنه لا يتوقّع إعلاناً رسمياً بانتهاء التحالف الرباعي، كونه قد يعني فشلاً روسياً إيرانياً، يكون في المحصلة إثبات التفوّق الأميركي الغربي، المتمثل بالتحالف الدولي ضد “داعش” الذي تأسس بالتزامن معه التحالف الرباعي. وقال المصدر لـ”العربي الجديد”، إنه لا يعتقد بوجود رغبة روسية في إعادة تفعيل أي تعاون استخباري مع العراق ضد “داعش” حالياً، ليس بسبب تراجع قوة التنظيم وتلاشي سيطرته، إنما بسبب التغييرات الجيوسياسية في المنطقة.
واستعملت موسكو فعلياً غطاء “التحالف الرباعي” ضد داعش لرفع الحرج عن حكومة رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي، في منح الطيران العسكري الروسي الإذن بالعبور من الأجواء العراقية تجاه سورية، خصوصاً بعد التوتر الروسي التركي، إثر إسقاط المقاتلات التركية مقاتلة عسكرية روسية من طراز سوخوي 24، قالت إنها دخلت أجواءها الوطنية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2015. واعتمدت موسكو الأجواء الإيرانية ثم العراقية جسراً جوياً عسكرياً إلى دمشق، قبل أن تستخدمه إيران في قصف الأراضي السورية بالصواريخ عبر العراق أيضاً.
وباستثناء بياناته الاجتماعات الدورية، أصدر “التحالف الرباعي” ضد داعش مواقف عن تنفيذ عمليات عسكرية في حمص وتدمر وحلب ودير الزور ومناطق سورية أخرى، جميعها عبر قصف جوي، تحت طابع واحد، ضرب أهداف لـ”داعش”، غير أن البيانات هذه فضلاً عن افتقارها إلى الدقة في توصيف الأهداف التي سقط جرّاءها مدنيون سوريون، فإنها تميل إلى المبالغة أيضاً. وأعلنت غرفة التحالف الرباعي عام 2018 أنها قتلت خلال أربع سنوات “23 ألف إرهابي من داعش” بينهم 430 قيادياً” في كل من سورية والعراق، وهو ما لاقى حينها ردود فعل كثيرة مُشكّكة بتلك الأرقام.
ورداً على سؤال “العربي الجديد” بشأن مصير “التحالف الرباعي”، أجاب مسؤول سوري في وزارة الدفاع السورية في دمشق، باقتضاب، بأنه لا يعرف شيئاً عنه، و”غير مذكور أساساً في النقاشات اليومية السورية، الرسمية الأمنية والسياسية، أو اليومية عند السوريين المهتمين بالأوضاع”. وأضاف طالباً عدم ذكر هويته، كونه غير مخوّل التحدث باسم الوزارة: “النظام انتهى وانتهى معه كل ما كان يرتبط بتقويته وبقائه”.
بالتتبع أكثر، ظهر أن مقر “التحالف الرباعي” ضد داعش في سورية، كان داخل قاعدة حميميم الروسية، شمال غربي سورية (في محافظة اللاذقية)، ما يعني أن أي أولويات أو معلومات لا تتوفر للحكومة السورية الجديدة بشأنها. وفي هذا الإطار، قال عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي ياسر وتوت، لـ”العربي الجديد”، إن “التحالف الرباعي بين العراق وسورية وإيران وروسيا انتهى بعد سقوط نظام الأسد، ولهذا أصبح لدى العراق تنسيق ثنائي مع تلك الدول، ومنها سورية، فهناك تنسيقٌ أمني متواصل ما بين بغداد ودمشق، وحتى الزيارات الأمنية متواصلة ولن تنقطع لوجود مشتركات أمنية ما بين البلدين”. وبيّن وتوت أن هدف التحالف الرباعي كان التنسيق وتبادل المعلومات بالدرجة الأولى، ولهذا أصبح من الماضي، خصوصاً وأن هناك قطيعة ما بين طهران ودمشق حالياً، والعلاقات غير جيدة بالكامل بين دمشق وموسكو، و”لهذا انتهى دور التحالف وعمله بشكل كامل، والعراق يعمل على التنسيق مع دول هذا التحالف بشكل ثنائي كحال باقي دول المنطقة والعالم”.
وكان المتحدث باسم قيادة العمليات العراقية المشتركة، اللواء تحسين الخفاجي، قد صرح في يوليو/تموز 2023، بأن “التحالف الرباعي بين روسيا وإيران والعراق وسورية، ومقرّه في وزارة الدفاع، يعمل وفق الأسس التي تشكّل لأجلها، ومواجهة التحديات الأمنية والإرهابية التي لا تزال تمثل خطراً على العراق وسورية”، مبيناً لـ”العربي الجديد”، أن “التحديات الأمنية، قلّت أو تراجعت، إلا أن ملفات مهمة لا تزال حاضرة. التنسيق والتعاون كبيران ما بين الدول الأربع المشتركة في التحالف، ونجد أن وجوده ما يزال مهماً، لضرب ما تبقى من عناصر تنظيم داعش، وتقديم الاستشارات والمعلومات لتنفيذ المهام الأمنية الدقيقة، لا سيما وأن بعض العمليات تحتاج إلى جهود مكثفة”.
غرفة ارتباط
في هذا السياق، رأى أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا، مهند سلوم، أن “ما يسمى التحالف الرباعي الذي أُعلنَ عن تأسيسه في بغداد بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 2015 ضد تنظيم داعش، لم يتحوَّل قطّ إلى تحالفٍ استخباري مؤسَّس، بل ظلّ غرفة ارتباط مؤقتة أملتها اللحظة العسكرية الأولى للحملة الروسية وتدخلها في سورية”. وأضاف أن التحالف الرباعي دخل أساساً في فترة سبات قبل سقوط النظام بفترة كبيرة، مع تراجع التهديد الجهادي. وبعد انحسار “داعش”، اتجه كلُّ طرفٍ إلى ترتيباته الثنائية، وعادت بغداد إلى التنسيق مع التحالف الدولي، بينما كرّست موسكو وطهران تنسيقاً منفصلاً ظهر جليّاً في حملتهما المشتركة لإخراج القوات الأميركية من شرق سورية خلال عام 2023”. وأوضح أنه “مع انصراف الأولويات الروسية إلى حرب أوكرانيا وبدء تقليص روسيا وجودها العسكري في سورية وسقوط الأسد وانحسار محور مليشيات إيران في المنطقة، عُدَّ التحالف الرباعي منتهياً بحلول ديسمبر 2024”.
من جهته، اعتبر الخبير المختص في الشأن العسكري والاستراتيجي العراقي، أحمد الشريفي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “التحالف الرباعي” ضد داعش تراجع حتى قبل سقوط نظام الأسد”، لافتاً إلى أن “العراق كان قد انضم إلى هذا التحالف في نوع من المجاملة مع هذه الدول التي كانت جزءاً مما يعرف بـ”المحور”، وبعد سقوط الأسد انتهى التحالف بشكل كامل ولا وجود له حالياً”. وبيّن الشريفي أن “العراق خلال السنوات الماضية لم يستفد أمنياً أو عسكرياً من التحالف الرباعي، فهذا التحالف لم يكن يقدّم أي شيء ملموس للعراق على مستوى تبادل المعلومات، فرغم وجوده، كانت عمليات التسلل من الأراضي السورية نحو العراق مستمرّة من إرهابيين أو مهرّبين أو غيرهم، فالتحالف كان شكلياً وإعلامياً أكثر مما هو حقيقي وواقعي”.
وأضاف الخبير المختص في الشأن العسكري والاستراتيجي، أن “العراق يحتاج حالياً إلى تحالف إقليمي يضم دول جواره، وخصوصاً سورية وتركيا، من أجل مواجهة أي تحدّيات أمنية، وهناك نية لهذه الدول، ومنها الأردن، لتفعيل دور تحالفٍ إقليمي كهذا في ظلّ التطورات الأمنية والعسكرية أخيراً في المنطقة من تحركات الكيان الصهيوني، وكذلك زيادة أنشطة تنظيم داعش في بعض المناطق السورية”.
————————————-
محنة العراقيين في إدلب: لاجئون من الدرجة الثانية (3)/ عثمان المختار
05 يونيو 2025
4 آلاف أسرة عراقية لاجئة تعيش في إدلب وريفها منذ 2016
إحصاء العراقيين في إدلب لمنحهم وثائق لإثبات هويتهم وتدريس أطفالهم
مخاوف من تكرار إجراءات سابقة تعرّض لها عراقيون عادوا من إدلب
تفيد تقديرات المنظمات الإنسانية العاملة في محافظة إدلب وريفها، أقصى الشمال السوري، بوجود نحو أربعة آلاف أسرة عراقية لاجئة منذ عام 2016، في تلك المناطق، يتركز أغلبهم في وأريحا وسرمين وسلقين وقرى غفير وأطمة وحارم ودير حسان وقاح، إلى جانب مركز مدينة إدلب، وقرى في شمال ريف إدلب، فضلاً عن أعزاز في ريف حلب وعدّة مخيمات رئيسة، أهمها مخيم إكده الذي لا يبعد سوى 700 متر عن الحاجز الحدودي السوري التركي، والكومنه، والدانة. وللعام السادس على التوالي، تتنصّل الحكومات العراقية المتعاقبة من أي التزام تجاه العراقيين في إدلب وريفها، ولم تشملهم ببرامج العودة الطوعية التي نظمتها أخيراً مع الأردن وتركيا ولبنان ومصر، إلى جانب الموجودين في مخيم الهول الواقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). ويظهر من إفادات لنساء ورجال عراقيين لاجئين في تلك المناطق، تحدثوا لـ”العربي الجديد”، أن حكومات بلادهم تتعامل مع أوضاعهم باعتبارها ملفّات أمنية، على اعتبار أن هؤلاء كانوا في مناطق سيطرة تنظيم داعش، ونزحوا منها إلى سورية، وبالتالي تمثل أوضاعهم ملفات أمنية، لكن الواقع يؤكد غير ذلك تماماً.
مأساة العراقيين في إدلب
يتحدر أغلب العراقيين الموجودين في ما كان يُعرف، حتى وقت قريب، بـ”الشمال السوري المحرّر”، من مدن الموصل وتلعفر والبعاج والقائم والرمادي والفلوجة وتكريت والحويجة وكركوك وبغداد والكرمة والخالدية، ومناطق عراقية أخرى في شمال البلاد وغربيها، ويشتركون جميعهم في أنهم من العراقيين السنّة، الذين وجدوا أنفسهم في زلزال اجتياح “داعش” العراق في منتصف عام 2014، وما تلاه من مآسٍ ما زالوا يواجهونها.
وأنجزت السلطة السورية الجديدة، أخيراً، نظاماً إحصائياً للعراقيين في إدلب، تضمّن منحهم أوراقاً تثبت هويتهم، وتثبيت عناوين وجودهم، والسماح لأطفالهم بالدخول إلى المدارس السورية للتعلّم، وهو إجراء يراه العراقيون النازحون في تلك المناطق مهمّاً لمعالجة جيلٍ من عراقيي إدلب مهدّد بأن يكون أُميّاً.
ينقسم هؤلاء العراقيون في إدلب وريفها إلى عدّة أقسام، الأول، وهم الأغلبية، يشمل العراقيين الذين كانوا يسكنون في محافظات الأنبار ونينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، واختاروا التوجّه إلى تركيا عبر الأراضي السورية، وهو إجراء كان معتمداً بين عامي 2015 و2016، إذ يُفضّل العراقيون العبور إلى تركيا من داخل سورية التي مسح “داعش” حدودها مع العراق ثلاث سنوات متتالية.
كان هذا الخيار اضطرارياً بسبب تكرار جرائم التغييب الجماعي والخطف على الهوية في العراق الذي تعرّضت له عوائل نازحة على يد المليشيات الشيعية المسلحة، وتحوّلت حينها مناطق الرزازة وبزيبز والصقلاوية وحمام العليل والكيلو 160 والسجارية والبو عكاش وبادوش والحويجة ويثرب وسليمان بيك إلى بقع خطف وتغييب على الهوية للنازحين العراقيين بدوافع طائفية ما زالت التقديرات تتحدّث عن أرقام تفوق 40 ألف مغيّب بتلك الفترة. لكن جاء قرار السلطات التركية الذي فاجأهم قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، حين شن الجيش التركي هجوماً على معاقل “داعش” في منطقة الباب السورية، فأغلق الحدود مع سورية ومنع العراقيين القادمين عبر سورية من الدخول. يُقدّر عدد تلك العائلات بنحو 1500 عائلة جرى منعها من الدخول، ومعها عدة عوائل من فلسطينيي العراق اختارت الطريق نفسه، ووجد أفرادها أنفسهم في مصير مشابه أيضاً.
القسم الثاني، هم عراقيو ما بعد الغزو الأميركي لبلدهم عام 2003، ووجدوا أنفسهم في أتون الثورة السورية متنقلين بين مدينة وأخرى، حتى وصل الحال بهم إلى إدلب. بينما هناك قسم آخر، وهو الأقل، لا يخفي أصحابه انتماء أفراد من أسرهم لتنظيم داعش، وخشيتهم من العودة إلى العراق بسبب أعمال انتقامية قد تواجههم من أبناء قبائلهم أو مدنهم نفسها، لكنهم في الوقت نفسه يؤكدون أنهم غير مسؤولين عن تصرفات أبنائهم وأن القانون لا يأخذ أحداً بجريرة آخر. وتحدّثت عائلة من داخل مخيم إكده عن حالات إجبار نفذها “داعش”، بعد انكساره في المدن، وهو نقل العوائل مع أرتاله قسراً، مستخدماً إياهم دروعاً بشرية.
في المحصلة، تتفاوت مستويات العراقيين في إدلب وحالاتهم المعيشية بين من يعيش في خيمة أو في شقة سكنية أو هيكل لبناء غير متكمل، وتاريخهم بين موظف ومتقاعد وعسكري وغيرها. وهناك طبيبة أسنان، ومشرفة تربوية، وصحافي، وأستاذ سابق في كلية العلوم بجامعة بغداد، كلهم جمعهم قدر القرار الخاطئ في الوقت الخاطئ، فاللجوء إلى منطقة يعاني سكانها الأصليون من النزوح، ويعيش كثيرون منهم في الخيام فاقم معاناة العراقيين هناك، إذ تتركّز أنشطة أغلب المنظمات الأممية والإنسانية الدولية في المساعدة لصالح السوريين النازحين. وبالتالي لا يتم الانتباه لوجود شريحة عراقيين نازحين في تكتّلات شبه مستقلة.
مخاوف من العودة
وبرزت في السنوات الأخيرة عدّة منظمات من المجتمع العراقي نفسه، هدفها المساعدة، أبرزها منظمتا الرافدين ودجلة، أقامها عراقيون من اللاجئين أنفسهم، لمساعدة بعضهم بعضاً، لكن ما تلا الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية في فبراير/ شباط 2023، وما ألقى من خراب ودمار على السوريين، غطى على القلة العراقية هناك، وبالتالي، تراجعت كل مستويات الإغاثة المقدّمة لهم.
يقيم الخمسيني علي الجميلي، وهو من أهالي مدينة الكرمة، شرقي الأنبار، في شقة ببلدة أريحا في إدلب، ويقول لـ”العربي الجديد”، إن الإيجار الشهري يبلغ ما يعادل 40 دولاراً، بينما يعمل ابنه في البناء ويتقاضى يومياً مائة ليرة تركية (نحو 2.56 دولار)، وهي العملة المعتمدة في تلك المناطق حالياً. يشرح قصة وصوله إلى أقصى زاوية من الشمال السوري بأنه خشي من العبور إلى بغداد عبر طريق إبراهيم بن علي، وقرّر أخذ عائلته والتوجّه إلى أقصى الأنبار، ومن هناك العبور إلى البوكمال السورية. ويوضح أنه وصل إلى إدلب من البوكمال، ومن إدلب سعى للدخول إلى تركيا بجوازات سفر عراقية رسمية، لكن السلطات التركية أغلقت الحدود في تلك الأيام. يعيل الجميلي ثمانية أشخاص، ويمنعه مرضه من العمل، ولهذا يتولى ابنه مهمّة الإعالة. يعيشون بالكفاف حسب ما يدخل لهم يومياً، وينتظرون أي لجنة حكومية للتدقيق وإنصافهم للعودة إلى وطنهم، لكنهم، في الوقت نفسه، يخافون من إجراءات سابقة تعرّض لها عراقيون كانوا في إدلب، وجرى اعتقالهم فور دخولهم العراق، بمن فيهم النساء، وإخضاعهم للتحقيق. ويثني الجميلي على المجتمع السوري الحاضن لهم، ويقول إنه لا يشعر بأي تمييز في هذا السياق، والسوريون يعاملونهم بشكل طيب.
أدّى قرار أسرة عراقية العودة عبر استخراج وثائق لها من القنصلية العراقية في مدينة غازي عنتاب التركية إلى مخاوف كبيرة بين الأسر العراقية، دفع كثيرين منهم إلى إلغاء فكرة العودة من دون ضمانات. فعودة هذا الرجل الستيني مع زوجته إلى العراق انتهت باعتقالهما بدعوى تورّط ابنهما الذي قُتل بغارة للتحالف الدولي عام 2017 استهدفت موقعاً لمسلحي “داعش”. هذه المخاوف أدت إلى توقف محاولات العراقيين المجازفة بالعودة، وهم، في المجمل، ينتظرون لجاناً حكومية عراقية تأتي للاستماع إليهم وفحصهم أمنياً، وفرز ملفاتهم.
يقول عمر الطائي، وهو من أهالي كركوك ويعيش في مخيّم صغير بمنطقة الزيزفون بريف حلب الشمالي، لـ”العربي الجديد”، إنهم يُعاقَبون طائفياً، “والحكومة قرّرت اعتبار جميع من في إدلب إرهابيين بدون حتى أن تبذل أي جهد لمعرفة من هي العائلات الموجودة وكيف وصلت”. ويصف السياسة الحكومية تجاههم بأنها “مبنية على أحكام مسبقة عندما تم وسم أهالي المدن التي احتلها داعش بالإرهاب”.
محمد نور رشيد، من مواليد 1962، وكان عقيداً سابقاً في الجيش العراقي، وكان يسكن في مدينة تلعفر بمحافظة نينوى ذات الغالبية التركمانية. نزح من بلاده عام 2004، وعاش في دمشق وحلب، قبل أن يجد نفسه في بلدة سلقين بإدلب. فَقَد اثنين من أولاده، ويعيل اليوم تسعة أفراد بمن فيهم أحفاده الأيتام. يقول إن التهم الكيدية وغير الحقيقية تواجه غالبية الموجودين في مخيم إكده الذي تسكن فيه 225 أسرة عراقية فيها 135 يتيماً و65 أرملة. وتنتشر في المخيم الأمراض، وسوء التغذية واضحة على وجوه الناس، بينما يعيش الأهالي فيه واقعاً يظهر أنهم اعتادوا عليه، فلم يعودوا يتحدثون بشأنه، وهو استغلال العمالة، إذ تخرج النساء والأطفال للعمل عدة ساعات في قطف الزيتون أو رعاية الأراضي مقابل ثمانين ليرة تركية في اليوم (نحو دولارين) في ظروف عمل سيئة للغاية.
لم تصل إلى هذا المخيم أي رعايةٍ طبيةٍ منذ أشهر، وتكوّنت مقبرة في قرية كفرغان القريبة من المخيم، يَدفن فيها الناس موتاهم. وما زالت منظمة أفاد التركية تجلب الخبز لهم، بواقع رغيفين ونصف الرغيف لكل فرد، لكنه يصل متأخراً بيوم أو اثنين، مع رائحة كريهة، أو يصل يابساً لا يمكن أكله إلا بعد نقعه بالماء، بينما يشتري الناس براميل الماء المستخرج من الآبار بمبلغ 15 ليرة تركية.
تُقسم أم محمد (65 عاماً)، التي فقدت زوجها وابنها وتعيل أحفاداً لها أيضاً أنها لم تذق طعم اللحم أو الدجاج منذ ما قبل شهر رمضان الماضي (في مارس/ آذار الماضي)، عندما تبرّع متصدق بكيس صغير فيه بضع قطع لحم لهم. كانت تسكن في حي السلام في الموصل، وخرجت مع أسر أخرى إلى الأراضي السورية، فيما يدفعها الخوف من التوجّه إلى الاتجاه المعاكس الذي كانت تسيطر عليه الشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب ومليشيا “كتائب حزب الله”.
أمراض وغياب المساعدات
تفتك الأمراض بالعراقيين، ويبلغ معدّل الوفيات بينهم ثلاثة أشخاص كل أسبوع، بينما قضى كثيرون منهم في الزلزال، وفقا لشهادات حصلت عليها “العربي الجديد”. والاعتقاد السائد عند قسم من المنظمّات أن هؤلاء العراقيين في إدلب تأتيهم دولارات من أقاربهم، وهو ما حرمهم من أي برنامج مساعدة يستهدفهم، وفقاً للناشط في مجال الإغاثة وائل جابر، من مدينة إدلب، الذي يؤكّد لـ”العربي الجديد” أن هناك اعتقاداً بأن العراقيين غير محتاجين للمساعدة، لكن وضعهم مأساوي. ويضيف جابر أن “حكومة بلادهم يمكنها أن تحل مأساتهم، بنقل الأطفال والنساء على أقل تقدير، إلى بلادهم ومنازلهم، وتتولى تدقيق أسماء الرجال منهم، رغم أن الغالبية هم من النساء والأطفال”. ويعتبر أن “وضعهم ساء بعد التحرير (سقوط نظام بشّار الأسد)، بسبب تراجع حملات الإغاثة التي كانت تصل إلى الشمال السوري”.
عملياً، تتصدّر منظمات خيرية، قطرية وكويتية، العمل الإغاثي في تلك المناطق. وفي حالة مدينة مثل إدلب، يشمل الحديث عن اللاجئين في المجمل مئات آلاف من السوريين، ويكون رقم أربعة آلاف عائلة عراقية هامشياً في هذا الملف.
يقول رياض سليمان محمد، وهو المدير السابق لمنظمة الرافدين التي تنشط في إدلب، لـ”العربي الجديد”، إن المُهجّرين العراقيين في إدلب وأطمة، والدانا، وسرمدا، والكمونة، وحارم، وسلقين، ومناطق ريف العاص، ودركوش وما حولها، وأريحا، وأعزاز، يعانون واقعاً مأساوياً غير مسبوق يستدعي إغاثتهم طبياً وغذائياً في أسرع وقت ممكن. ويضيف: “هؤلاء أغلبهم أرامل وأيتام يفتقدون أبسط مقوّمات الحياة، خصوصاً بعد اهتراء الخيام التي لديهم”، موجّهاً دعوته إلى المنظمات الدولية وغيرها لمساعدتهم، خصوصاً في مسألة التكفل بعلاج وتعليم الأطفال الأيتام.
محمد السلماني (19 عاماً)، عراقي لاجئ دخل إدلب في عمر 11 عاماً، وتوفي والده بسبب المرض، ويعيل والدته وشقيقاته، يصف حالهم بـ”المعدوم”. ويقول لـ”العربي الجديد”: “فكرت بالانتحار مرّات عدة للتخلص من هذا الواقع، لكن أمي وأخواتي يمنعنني، ولا أدري كم سأصبر… أتمنى أن يحل مساء علينا ونحن تحت سقف وليس قماش خيمة ممزقة، وأن تنام سهام (أخته) وقد شبعت، لكن ليس من العجين، بل من اللحم”.
———————————–
عراقيو دمشق والسؤال عن المنطقة والطائفة (4)/ عثمان المختار
06 يونيو 2025
لم تعد دمشق تضم أعداداً كبيرة من العراقيين كما كان الحال عليه بين عامي 2003 و2011، فالعدد الحالي لا يتجاوز بضعة آلاف من الأسر، موزّعين على مناطق مختلفة، وغالبيتهم ممن يقيم منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ولظروف وأسباب مختلفة ظل أكثرهم هناك، بينها الأمل بظهور أسمائهم ضمن قوائم اللجوء الذي ترعاه الأمم المتحدة بالتنسيق مع دول غربية وأوروبية، وأخرى تتعلق بالعمل أو كونهم مُلاحقين من النظام الجديد في بلادهم. وعلى خلاف مواطنيهم في إدلب وريفها، يواجه عراقيو دمشق سؤالاً بات متوقّعاً بالنسبة لهم، بعد معرفة هويتهم العراقية، وهو ذكر اسم المنطقة التي يتحدرون منها بالعراق، بعد إشهار هويتهم الوطنية طبعاً، في مراجعتهم الدوائر والمؤسّسات العامة، وحتى على مستوى التعاملات اليومية، بدءاً من حواجز التفتيش، ووصولاً إلى محال التبضّع والحلاقة وسائقي التاكسي، حيث اللهجة العراقية التي يصعب على أهلها إخفاء مخارج حروفها. وليس هذا السؤال ساذجاً، إذ يخفي “خبثاً” غايته معرفة الطائفة أو حتى تلمّس الموقف السياسي.
عراقيو دمشق والأسئلة الدخيلة
يقول أبو أحمد القيسي، وهو عراقي خمسيني، ويقيم في دمشق منذ 2004 مع زوجته السورية وأولاده الذين لا يجيدون الكثير من اللهجة العراقية إلا ما يسمعونه من أبيهم، إن سؤال المنطقة بعد معرفة أنه عراقي، “من الأسئلة الدخيلة” على المجتمع السوري، سواء للعراقي أو اللبناني أيضاً، وينبغي لهم عدم الوقوع به وعليهم الترفّع عنه. ويضيف لـ”العربي الجديد”: بعضهم يسأل عن أي منطقة في العراق لمعرفة الهوية الطائفية، وعلى أساسه قد يكون التعاون أو التعامل”، معتبراً هذا التصرف “مؤذياً، رغم درايتنا أنه من تراكمات السنين الماضية”.
وينحدر القيسي من بغداد المُختلطة طائفياً ودينياً وعرقياً، وهو ما يزيد حيرة بعضهم وفضولهم عند إجابته لهم أنه من بغداد، فيذهب إلى فتح مواضيع سياسية أو أسئلة مباشرة عن القبيلة “لفهم من أي الأطياف العراقية أنا”، بتعبيره. ويوضح القيسي أن هذا الفعل الذي جاء بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سورية “دخيل على الشعب السوري، ويجب تجاوزه، لأنه قد ينسحب لاحقاً على الداخل السوري، وليس الخارج المجاور له”.
لكن جاره نائل الخياط (55 عاماً) الذي شارك الحديث عند باب العمارة التي يقيم فيها القيسي في منطقة كفرسوسة في دمشق، يرى أن الحالة انعكاس لمواقع التواصل الاجتماعي والأخبار السلبية التي يتم بثها. ويقول لـ”العربي الجديد”: “ليس كل الشوام (أهل الشام) يسألون، وبعضهم لم يعد يهتم حتى بجاره وخلفياته الثقافية أو الدينية، لكن ما جرى في السنوات الأخيرة أن سوريين كثيرين لم يعودوا يرون من العراقيين إلا الجانب السلبي المتمثل بالجماعات المسلحة، ودعم النظام، فصار يتبادر إلى الذهن بشكل مباشر أن هناك حاجة لمعرفة مع أي العراقيين أتعامل، مع مؤيدي الثورة أو مؤيدي نظام الأسد”. يبتسم الخياط مع جاره العراقي الذي يقول إنه “أخرس أطرش”، وهذا جعله في مأمن طوال السنوات الماضية.
توضح العراقية سعاد جاسم العزاوي (49 عاماً) لـ”العربي الجديد” أن السؤال ظهر أولاً من عناصر في جهاز الأمن العام الجديد، وهو لا يختلف عن سبب السؤال نفسه الذي كان يواجهه العراقيون الوافدون إلى سورية في السنوات الأخيرة من عُمر النظام، لمعرفة وضعهم أمنياً وموقفهم من النظام. وتضيف أنها “تشعر بشيء من التحقير”، عند سؤالها بعد معرفة أنها عراقية، من أي منطقة تنتمي أو تنحدر، بينما في عشيرتها من السنّة والشيعة، وهي من محافظة كركوك التي تضم عرباً وأكراداً ومسلمين من الطائفتين ومسيحيين وتركمانيين. وتجد العزاوي أن “قسماً من عناصر الأمن الجدد لا يدركون أن العراق لا يمكن اختزاله بمليشيا أو موقف سياسي من حزبٍ ما، وأن من الضرورة الكبيرة التعامل مع العراقي بوصفه جاراً عربيّاً، وقبل كل شيء، ضيفاً في هذه البلاد”.
مبررات أمنية أم طائفية؟
ليس السؤال عن المنطقة بعد تقديم الانتماء العراقي غريباً عن عراق ما بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، واستعملته داخلياً السلطات الأمنية، الجيش والشرطة، ثم المليشيات والتنظيمات الإرهابية المتطرّفة، وهو سؤال يصفه الباحث العراقي أحمد النعيمي بأنه “طائفي منمّق، بديل عن سؤال الطائفة، لكن استعماله مع العراقيين في الخارج مؤذٍ لهم في غربتهم”. ويقول لـ”العربي الجديد” إن “الشعب السوري، لم ير خلال الـ14 سنة الأخيرة من المشهد العراقي غير المليشيات الداعمة للنظام والإعلام الموجّه ضد الثورة، أو المتبنّي للرؤية الإيرانية، وهذا ما أدّى إلى بروز هذه الظواهر. وعلى الإدارة السورية أن توعّي أفراد الأمن لديها بأن أسئلة كهذه غير قانونية”.
من جهته، يقول الباحث السوري محمد الحموي، لـ”العربي الجديد”، إن مبرّر السؤال قد يكون أمنياً، لكن من المهم القول إن المجتمع السوري، بطبيعته، شعب مدني، غير طائفي، والعودة إلى هذا الوضع الطبيعي يجب أن تبدأ، ولو تدريجياً. ويقرّ بأن “الضخ الإعلامي الذي رافق تغطية السنوات الماضية من الثورة السورية كان يستخدم الهويات الوطنية في تسمية كثير من الجماعات والمليشيات التي دعمت النظام، وهذا لم يكن موفقاً، وبسبب تفاوت فهم الناس تولّدت صور سلبية وغير صحيحة عند كثيرين من بسطاء التعليم، خصوصاً الجيل الذي تصدّر بعد الثورة”.
لكن العراقي ياسر العبيدي الذي يُقيم في دمشق منذ 2009، يؤكد أنهم لا يواجهون هذا السؤال بسبب اندماجهم مع المجتمع السوري هناك، وعدم تمييزهم بأنهم غير عراقيين، إلى جانب أنهم لم يسافروا، فلم يحتكّوا بحواجز التفتيش أو الأمن. ويقول لـ”العربي الجديد” إن “السؤال عن المنطقة لم يعد للعراقيين فقط، بل لجنسيات أخرى، وهو من الأسئلة الارتجالية لعناصر الأمن الجديدة، يُفهم أنها بمثابة فحص أمني سريع. وفي المحصلة، يُمكن لأي عراقي الادعاء أنه ينتمي لأي مدينة من دون معرفة الآخر صحة ذلك من عدمها”. ويأمل العبيدي “تجاوز هذه الأسئلة لأنها تُرسّخ حالة سلبية في سورية الجديدة”.
————————————-
عراقيون في زنازين الأسد: أرقام ومفقودون بلا أثر (5)/ عثمان المختار
07 يونيو 2025
لا تتوفر لدى وزارتي العدل والداخلية السوريتين أي أعداد نهائية للمعتقلين العراقيين الذين عُثر على مستندات إعدامهم في سجون النظام السوري السابق، أو الذين أُطلق سراحهم فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 عقب إسقاط بشار الأسد. لكن جميع من تحدثت معهم “العربي الجديد” من المسؤولين والمعنيين مُتفقون على أن العراقيين في زنازين الأسد هم “مئات”، وأن الجنسية العراقية هي الأولى بين الجنسيات العربية والأجنبية التي كان حملتها موجودين في سجون النظام السابق.
في التنقل بين سجن صيدنايا وفرع فلسطين وسجن المزّة العسكري، برزت عشرات من أسماء العراقيين الذين كانوا فيها، وفقاً لإفادات سبعة معتقلين سوريين، وعراقي، وآخر مصري، التقتهم “العربي الجديد” في دمشق وحلب. وعلمت “العربي الجديد” من مصادر مطلعة على الملف، أن دولاً عربية وأجنبية أرسلت وفوداً رسمية إلى دمشق للبحث عن مواطنيها والتحقق من مصيرهم، غير أن بغداد لم تُرسل أحداً لغاية الآن، فيما الحديث عن مئات المعتقلين العراقيين الذين دخلوا واختفوا في السجون الرئيسة لنظام بشار الأسد.
العراقية ثم الفلسطينية أكبر جنسيتي “سجن فرع فلسطين”
أحد الذين كانوا في زنازين الأسد قبل إسقاط النظام، وهو مهند حسنين الغندور، الذي حُرر من سجن فرع فلسطين، المعروف بالفرع 235، قال إنه كان مع عراقيين كثر في مهجعي 8 و11. وكان الغندور اعتُقل بداية الثورة السورية (2011)، بتهمة المشاركة في التظاهرات، و”الظهور في قناة الجزيرة الإخبارية”، وفقا للوائح الاتهام التي واجهها في السجن. وأضاف أن “الجنسية العراقية كانت الأكثر انتشاراً من بين الجنسيات العربية والأجنبية” داخل زنازين الأسد. أما الجنسيات الفلسطينية والمصرية والأردنية واللبنانية والسودانية، ثم التركية والجزائرية، فكانت تلي العراقية في عدد المعتقلين داخل “فرع فلسطين”. وذكر الغندور عراقيين دخلوا معه السجن، بعضهم لا يُعرف غير اسمه، وآخرون يُعرفون بكنيتهم فقط، من بينهم أبو أحلام، خبّاز عراقي من أهل بغداد، اعتُقل في دمشق ثم أُعدم لاحقاً. وزيد، من بغداد، قدّر عمره بنحو 19 عاماً، أُعدم أيضاً، أما العراقي منير تيسير فياض، فقد توفي في إحدى جلسات التعذيب.
شرح الغندور الذي أجلس ابنه البكر خليل بجانبه خلال اللقاء، ما عانوه داخل زنازين الأسد. وقال إنه “كل أربعين يوما كانوا يُخرجوننا ساعة إلى الشمس، في الساحة العامة للسجن، يحلقون شعرنا، ويتركوننا تحت الشمس، وكنا نسمع من الاتجاه الثاني أصوات نساء وأطفال في القسم المخصّص للنساء”. وأضاف أنّ “في يوم التشميس، كان بالإمكان تمييز أصوات أطفال بعمر أقل من أربع سنوات أو خمس، وأصوات أمهاتهم أيضاً، لكن الأصوات كانت تختفي في الأربعين يوماً التي تليها، ما يجعلنا نظن أن الأمهات أُعدمن أو نُقلن، ولا نعرف أين ذهبوا بهن”.
قصة وفاء في صيدنايا
معتقل سابق في زنازين الأسد أيضاً تحدث لـ”العربي الجديد”، عن معتقلين عراقيين. زهير يوسف الزعبي، المُعتقل السابق في سجن صيدنايا، وهو من أهالي درعا، اعتُقل في 22 يناير/ كانون الثاني 2019، وبعد التحقيق معه، نُقل إلى سجن “فرع فلسطين”، وظل فيه سنوات. وكانت تهمته، على غرار باقي المعتقلين الآخرين، المشاركة في أنشطة ضد النظام. ذكر الزعبي عراقيين اثنين كانا معه في السجن، هادي حويجة العمر (1996)، ورائد عياش المطلك، الذي لديه ابنة كانوا يلقبونه باسمها، أبو رنا (1994)، وهو من قرية أبو حردوب في نينوى، ومن عشيرة العكيدات، وأودع في المهجع رقم 12. ورغم أن هادي العمر كان يُقدّم نفسه سورياً من دير الزور، ووالدته عراقية، لكنهم اعتبروه عراقياً. الزعبي، الذي كان يحمل الرقم 55 في سجنه، كشف أن لبنانياً كان معهم يُدعى علاء المولى، وأنجبت زوجته المعتقلة في قسم النساء ولداً خلال سجنها في زنازين الأسد. وعلم بذلك في يوم ترحيلهم من “فرع فلسطين” إلى سجن القابون، وسمحوا له بحمل ابنه ورؤيته في الباص، حيث نقلوهما، هو وزوجته، إلى سجن القابون، مقر الشرطة العسكرية.
نُقل هادي العمر ورائد المطلك إلى قسم “ب يمين”، المخصّص للأجانب، ويُقسّم إلى مهجعي 8 و10. وخلال جائحة كورونا بداية عام 2020، قال الزعبي إنه رآهما معاً في الساحة، حيث يخرج الجميع بيوم التشميس، والذي يسمّيه آخرون “يوم التنفس”. ونُقل الرجلان، نهاية عام 2020، إلى سجن صيدنايا، بعد إحالتهما إلى “محكمة ميدانية”، كانت في السجن نفسه. معنى ذلك أنه حُكم عليهما بالإعدام، وفق الزعبي، وقد توفيا بالسل في السجن، عام 2021، وشاع الخبر عن قصة وفاء بينهما على لسان معتقل آخر، اسمه عبد الله الخيزران، قال إن رائد أصرّ على رعاية هادي بعد إصابته بالسل، وظل معه يعالجه ويرعاه في الزنزانة، رافضاً تركه بمفرده، لكنه أصيب أيضاً بالمرض، ونقلوهما إلى مستشفى تشرين، و”هناك علمنا أنهما ماتا”. ذكر الزعبي اسم عراقي آخر في زنازين الأسد اسمه عمار قاسم، لكنه أكد عدم معرفة مصيره، حياً أم ميتاً.
إعدام عبد الرحمن بعد قلع عينه
الشاهد الآخر على الإعدامات داخل زنازين الأسد بحق عراقيين، معتقل سابق من أهالي بلدة السلمية، عدنان قدور السلمي، أكد أنه تعرّف إلى العراقي يوسف تحسين جاسم الراوي، من مواليد بداية التسعينات، من أهالي منطقة الزاب، وآخر اسمه عبد الرحمن الفهداوي، من مواليد 2002. اعتُقل الأول في الرقّة بتهمة بيع سيارات للأكراد السوريين (التعامل مع الأكراد)، وأُعدم في 2021، بعد سنة من دخوله سجن صيدنايا. أما الثاني، وكان لقبه في السجن أبو عوف، فقد قلعت إحدى عينيه بالتعذيب، في مهجع رقم 15، ثم جرى تحويله من “فرع فلسطين”، ثم إلى صيدنايا، وهناك أُعدم أيضاً.
وقال المعتقل السابق، وهو المصري سعيد إسماعيل السوسي، والدته سورية، ومقيم في جرمانا وأجري اللقاء معه في سجن “فرع فلسطين”، إنه كان يعرف عدة عراقيين، أحدهم من أهل ديالى اسمه أحمد العبيدي، وهو معتقل منذ عام 2007، ودخل السجن وعمره 35 سنة، ثم أُعدم وهو في عمر الـ49 سنة. وأضاف: “كان معنا عراقي آخر اسمه بشار حامد الدليمي، من أهل بغداد كما كان يقدّم نفسه، وعمره 30 عاماً، مع عراقي آخر اسمُه عمّار (أقل من 20 سنة)، نقلوهما من فرع فلسطين إلى مكان آخر، ولا نعرف مصيرهما”. وأكّد السوسي أن 11 عراقياً كانوا معه في المهجع الذي يضم الأجانب، أحدهم اسمُه محمد هادي، متحدّثاً عن حفظ أرقام فقط للباقين، فالسجّانون في زنازين الأسد كانوا يتعاملون بالرقم لا بالاسم. وقال: “في يوم كسر بوابات السجن فجر الثامن من ديسمبر، خرج عراقيون كانوا معنا أيضاً، ولا نعرف مكانهم”.
أسماء بذاكرة جدران زنازين الأسد
حصل بضعة عراقيين كانوا معتقلين في سجون النظام السوري السابق على الحرية يوم سقوطه، أما آخرون، فلا ذكر لهم، باستثناء جوازات سفر وهويات مدنية عراقية عُثر عليها في إدارات سجون صيدنايا وكفرسوسة والمزّة وفرع فلسطين، وسجن آخر يُعرف بالفرع 277 أو سجن الأمانات. محمود حسن دخيل الجغيفي، وليد حمد الله محمد الراوي، إبراهيم حسين المسلط، مثنى مالك عبد الكريم، غزوان أحمد المشهداني، محمد سويد علي المحلاوي، عمّار خلف سويد المحلاوي، إبراهيم علاء الدين، أحمد جاسم عليوي، حذيفة مؤيد مزهر، إلى جانب اسم سيدة عراقية، عثر على وثيقة سفر لها باسم هناء برّاك عبود.
وضع المعتقلين المغاربة في سجون سورية غامض، 31 يناير 2025 (همار أحمد/ فرانس برس)
وأسّس معتقلون سوريون ناجون من مسلخ نظام الأسد “رابطة معتقلي صيدنايا”، وأنشأوا مجموعة على تطبيق واتساب، للتواصل عبرها مع بعضهم البعض، فيما يكتب كل سجين فيها تجربته وأسماء من كانوا معه، ويبحثون عن أهلهم أو أي دليل يوصل إليهم. وقال المحامي السوري، أحمد الحوراني، لـ”العربي الجديد”، إن الجنسية العراقية كانت الأكثر حضوراً في زنازين الأسد ونظامه، لأسباب عديدة “أولها الجالية العراقية الكبيرة في سورية منذ 2003، وثانيها دخول العراقيين من سكّان الأنبار ونينوى تحديداً على خط دعم الثورة السورية منذ بدايتها، والعلاقات الاجتماعية التي تربط مواطني البلدين”. وأضاف الحوراني أنه “لا يوجد عدد محدّد. لكن يُمكن القول إنهم مئات، غالبيتهم ماتوا بالإعدام أو بالمرض”. أما محمد الأحمد، وهو عضو رابطة معتقلي صيدنايا ، فتحدث لـ”العربي الجديد”، عن بدء دول عديدة البحث عن مواطنيها منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، باستثناء العراق. وعزا ذلك إلى أسباب سياسية مرتبطة بالموقف العراقي الحكومي.
الاثنين الأسود كل أسبوع
معتقل عراقي وجد حريته من “فرع فلسطين” يوم سقوط النظام، تحدث لـ”العربي الجديد” طالباً عدم ذكر اسمه، خوفاً على أهله في العراق، حسب قوله. واستخدم كنية أبو فاطمة العراقي التي كان معروفاً بها في سجن المزّة العسكري، ثم سجن “فرع فلسطين”. قال إنه اعتُقل بتهمة “تخزين أناشيد” مؤيدة للثورة السورية وجدت في هاتفه داخل حاجز تفتيش عام 2013. ولفت إلى أن النظام كان “يُراعي المعتقلين من الدول التي قد يتمكّن من خلالهم فتح قنوات اتصال، أو الحصول على مكاسب ما، لكن بالنسبة للعراقيين، على اعتبار أن العلاقة مضمونة معها، فإن التخلص منهم بالإعدام على غرار السوريين، كان هو السائد”. وكان أبو فاطمة العراقي يتوقع سحبه من المهجع لتنفيذ الحكم في أي وقت، لولا سقوط النظام وخروجه من السجن.
أورد أبو فاطمة أسماء عراقيين آخرين، مثل، محمد الدندل، ويوسف الدليمي، وعمر ديالى، وجمال العاني، ومحمد جيجان، قال إنهم أُعدموا عام 2022، مضيفاً أن “من يسحبونه فجر يوم الاثنين من كل أسبوع، يعني أنه تقرّر إعدامه”. وفي المهجع رقم 8 كان هناك 29 سجيناً عربياً لم يتبق غير 12 منهم، قال إنه عرف ذلك، من الإحصاء الصباحي للسجناء باليوم التالي، ومن سحب ملابسهم وحاجياتهم التي تركوها خلفهم. وقرّر أبو فاطمة العيش في سورية، وعدم العودة إلى العراق، مؤكّداً أن والدته المُسنة جاء بها خاله عبر لبنان لرؤيته بعدما تواصل معها في الساعات الأولى لسقوط نظام الأسد، وفكاكه من السجن. إلى ما سبق كله، لا أرشفة إلكترونية لسجون النظام في وزارتي العدل والداخلية بإدارتيهما الجديدتين، ممن دخل إليها وخرج حياً، وممن توفي بالتعذيب أو أُعدم. وقال مسؤولان في الوزارتين لـ”العربي الجديد”، إن لا شيء لديهما محدّدا وجاهزا عن العراقيين أو الأجانب الذين قضوا في سجون الأسد، يمكن تقديمه حالياً، لكن أحدهما ذكر أن “أكثر العرب في السجون عراقيون، يليهم الفلسطينيون”. وأكد أن العمل متواصل لتوثيق حقبة النظام وفظائعه، والخطوة الأولى كانت بجمع الأرشيف المتمثل بالأوراق والملفات ووضعها تحت اليد.
من جهته، أوضح عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي، مختار الموسوي، لـ”العربي الجديد”، أنه “لا توجد معلومات عند الجانب العراقي، بشأن أعداد الذين كانوا معتقلين في سجون الأسد وظروف اعتقالهم ومصيرهم”. عيسى عبد الله، من أهالي بلدة زمار غربي محافظة نينوى، عراقي كردي أعلنت أسرته العثور عليه في سجن صيدنايا بعد اختفائه عشر سنوات، إذ خرج يوم سقوط نظام الأسد، من أحد سجونه. أظهرت هذه الحادثة أن عراقيين عادوا فعلاً إلى بلادهم بصمت ومن دون أن تلاحظهم السلطة، خصوصاً في مناطق إقليم كردستان شمالي البلاد، وآخرين فضّلوا البقاء داخل سورية على العودة خوفاً من مصير غامض ينتظرهم حال عودتهم.
في هذا الصدد قال الحقوقي العراقي، محمد الراوي، لـ”العربي الجديد”، إن معتقلاً آخر من أهالي حديثة، غربي الأنبار اتصل بأهله وأبلغهم بأنه حي وخرج من سجون النظام. وأضاف أن “أغلبية الأحياء الذين خرجوا من سجون النظام السوري، فضّلوا البقاء وعدم الاستعجال بالعودة، تحسّباً لاعتماد التهمة نفسها التي كانوا يواجهونها عند نظام الأسد، وأن يُعتقلوا على أساسها”. وأفاد بأن “عراقيين كثيرين سافروا إلى سورية بحثاً عن أي خيط يوصل إلى أبنائهم المفقودين في السجون السورية التابعة للنظام المخلوع، لكن الحكومة أو الأجهزة الأمنية والخارجية لا تعير أي اهتمام بالموضوع، على خلاف كل الدول الأخرى”.
——————————
“داعش” في سورية: خلايا مبعثرة وبيئة اجتماعية طاردة (6)/ عثمان المختار
08 يونيو 2025
يُراقب السوريون باهتمام متفاوت أخبار الأنشطة المتصاعدة لتنظيم داعش، وعمليات قوات الأمن ممثلة بوزارتي الدفاع والداخلية السوريتين تجاهها، والتي غلب عليها طابع “الاستباقية”، وأسفرت عن مقتل عناصر في “داعش” واعتقال آخرين، فضلاً عن مصادرة كميات ضخمة من الذخيرة والسلاح التي عثر عليها في “مضافات” أو مخابئ تديرها خلايا التنظيم الإرهابي.
تركّزت العمليات ضد تنظيم داعش في سورية، والتي أدّت أيضاً إلى سقوط قتلى وجرحى من عناصر الأمن السوري، وفقاً لإعلانات رسمية في هذا الشأن، في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، كان أعلاها في شهر مايو/أيار الماضي بمناطق الغوطة الغربية، شملت الكسوة، ديرخبية، المقيليبة وزاكية في ريف دمشق. وأسفرت هذه العمليات التي نفذتها وزارة الداخلية السورية عن اعتقال عناصر من التنظيم وضبط كميات كبيرة من الأسلحة، بما في ذلك صواريخ مضادّة للدروع وعبوات وأحزمة ناسفة.
كما نفّذت قوات الأمن السورية، عملية مماثلة في 17 مايو الماضي في حيي الهلك والحيدرية في مدينة حلب، وأسفرت عن اعتقال أربعة من عناصر التنظيم وقتل ثلاثة آخرين، بينما قُتل عنصران من الأمن السوري في المواجهات، وتبيّن لاحقاً أن أحد أفراد التنظيم فجّر نفسه بحزام ناسف في مواجهاتٍ مع الأمن. كما سُجّلت عملية ضخمة أخرى في منطقة صبيخان في دير الزور، في الشهر ذاته، أسفرت عن اعتقال نحو 40 عنصراً يشتبه بانتمائهم إلى تنظيم داعش الذي فجّر في الثامن من الشهر الماضي سيارة مفخّخة في الميادين بمحافظة دير الزور، وأسفرت عن مقتل خمسة سوريين وجرح آخرين، كما تبنّى تالياً عملية إرهابية استهدفت أفراداً بالأمن السوري في السويداء، وأخرى في حوران.
جاءت هذه التطورات بالتزامن مع عملية للتحالف الدولي و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في ريف دير الزور الغربي، أسفرت عن اعتقال عناصر من “داعش” وتفكيك خلايا نائمة، قال بيان لـ”قسد” إنها كانت تخطط لتنفيذ هجمات. غير أن العملية الأكثر حساسية وخطورة كانت ما أعلنته وزارة الداخلية السورية في 11 يناير/كانون الثاني الماضي، عن إحباط هجوم إرهابي لتنظيم داعش، كان سيستهدف تفجيراً داخل مرقد السيدة زينب في ريف دمشق، مؤكّدة القبض على المتورّطين في المخطط وضبط عبوات ناسفة كانت معدّة للتفجير. ولاحقاً، أكدت تقارير سورية أن المتورّطين من جنسيات عراقية ولبنانية ومعهم مواطن سوري، وهم رهن التحقيق.
ومنتصف فبراير/شباط الماضي، اعتقل الأمن السوري أبو الحارث العراقي، وهو أحد قادة “داعش” المحسوب على الخط الثالث الذي برز في الأعوام الأخيرة إثر تصفية غالبية قيادات التنظيم. وأوردت وكالة الأنباء السورية (سانا) عن مسؤول في جهاز الاستخبارات السوري قوله: “تمكّنا من القبض على أبو الحارث العراقي، القيادي في تنظيم داعش، والذي كان يشغل مناصب مهمة في ما يسمى ولاية العراق”. وأضاف: “يقف العراقي وراء التخطيط لعمليات عدة، كان أبرزها اغتيال القيادي ميسر الجبوري (القيادي البارز في هيئة تحرير الشام ويُعرف باسم أبو ماريا القحطاني) واغتيالات أخرى”. وأوضح أن الخلية التي جرى إحباط مخطّطها في استهداف مقام السيدة زينب بمحيط دمشق، كانت تعمل بتوجيه من القيادي أبو الحارث العراقي. وأكّد أن العملية “تأتي ضمن سلسلة العمليات النوعية لملاحقة خلايا تنظيم داعش”.
6 هجمات إرهابية معدل شهري
وتُظهر منصّات “داعش” على تطبيق تليغرام، الذي بات المنصّة الإعلامية الرئيسية له، بعد التضييق عليه في منصة إكس، وإغلاق الحسابات التي تروّج بياناته، تنفيذ التنظيم أكثر من 30 عملية له في الأراضي السورية، خلال الأشهر الخمسة الماضية، ما يعني أن ست عمليات ينفذها “داعش” في الشهر الواحد داخل سورية، وهو عدد أعلى من العراق بالفترة نفسها التي بلغت أقل من عشر عمليات، غالبيتها عبوات ناسفة أو هجمات مسلحة على الطرق الخارجية.
غير أن الباحث في التنظيمات الإرهابية في العراق وسورية، أحمد الحمداني، قال لـ”العربي الجديد”، إن الأنشطة الإجمالية لـ”داعش” أكثر من العمليات المعلنة التي نفذها فعلاً، إذ يعمل، منذ سقوط النظام السوري (في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024) على إعادة ترتيب صفوفه في المدن الكبيرة، لكنه يواجه صعوبة كبيرة داخل الحاضنة السنّية السورية في تقبل طروحاته. وأضاف: “داعش 2025 يفتقد أهم ماكينة له في التجنيد داخل سورية، حيث لم يعد بالإمكان إقناع الحاضنة العربية السنّية، وتحديداً التيار المتدين فيها، بطروحاته أو دعوته، القائمة حالياً، على أساس أن الحكومة الحالية “مرتدّة”، كونها لم تعد تحتكم إلى الشريعة”. واستشهد الحمداني، في هذا السياق، باستعمال صحيفة النبأ الناطقة باسم التنظيم عبارات مثل “المرتدة”، والمرتدين على أفراد الأمن السوريين، و”الخائنة”، و”القوانين الوضعية”، و”الدساتير الكفرية”، في الحديث عن تبنّي الإدارة السورية كتابة دستور جديد ناظم للبلاد.
وشخّص الحمداني نقطة مهمة أخرى في حديثه عن مستقبل “داعش” في سورية، في أن الممسكين بالملف الأمني في الدولة السورية، “على دراية فكرية وتنظيمية مسبقة بأسماء “داعش” وقواعده ومنطلقاته، وكيف يفكّر والخطوة المتوقّعة له، كونهم افترقوا سابقاً وتصادموا دموياً في مساحة واحدة، وهي الفكر الجهادي، ما يعني أن التنظيم يواجه أكثر من مشكلة، لا تتوقّف على نفور التيار الإسلامي وقواعده الشعبية منه فقط، بل في انكشاف خطوطه أمام الإدارة الأمنية السورية الجديدة”.
تقوم طروحات تنظيم داعش، كما يظهر هذا في قنواته، على “تكفير” الإدارة السورية الجديدة، انطلاقاً من سردية تعاونها مع الولايات المتحدة، ومهادنتها “دول الكفر”، بينما اعتبر التنظيم الإعلان عن لجنة ستتولى كتابة الدستور السوري الدائم، بأنه “التحاكم بغير ما أنزل الله”، وبـ”القوانين الوضعية”. ولم تعد هذه الطروحات مقبولة من التيار الإسلامي في سورية، عوضاً عن المجتمع الذي يتوقّع حالياً الانتقال إلى مرحلة الاستقرار الدائم، والتعافي الاقتصادي، بحسب الحمداني الذي رأى أن “الفرد السوري مع الدولة، حتى وإن كان رافضاً لها، ضد أي تنظيم جهادي يحاول الظهور وأخذ مساحة له. لأنهم ببساطة منهكون، وتجربة السوريين في العقد الماضي سيئة مع كل التنظيمات، بما فيها التي شاركت بإسقاط نظام الأسد”، وفقاً لقوله.
وبعد ساعات من لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض، في 14 مايو الماضي، شنّت حسابات تنظيم داعش هجوماً لاذعاً على الرئيس السوري، واستدعت مقاطع خطب صوتية وكلمات له في السنوات الماضية، تضمّنت مواقف له من الولايات المتحدة. وحَمل التنظيم في حملته الإعلامية المتواصلة على “الجولاني”، كما يُصر على استعمال هذا اللقب، طابعاً تحريضياً موجهاً إلى التيارات الإسلامية ضد الرئيس السوري والإدارة الجديدة في المجمل. وفي بيان له أصدره أخيراً، استعمل التنظيم عبارة “ولاية الشام”، حين تبنى مهاجمة دورية للقوات الأمنية السورية في حوران تحت عبارة “النظام السوري المرتد”، وذلك يوم الخميس الماضي، ما يؤكّد أن تحرّك خلايا “داعش” لم يعد عبثياً أو فردياً، إنما بتنسيقٍ، حيث جاءت بالتزامن مع عملية متزامنة في دير الزور، وتحت العنوان أو التبرير نفسه.
فراغات تُنعش جيوب تنظيم داعش
يستفيد “داعش”، من مساحات الفراغ الأمني الكبير على الخطوط الفاصلة بين قوات الأمن السورية التابعة للدولة الجديدة و”قسد”، أبرزها دير الزور الحدودية مع العراق، وريف حلب، والرّقة، وهي المناطق نفسها المعروفة بتضاريسها المعقدة، والمساحات التي يمكن الاختباء فيها، والاندماج بين الأهالي، بسبب ظاهرة النازحين المتوطّنين في تلك المناطق، والذين يسهل الاندماج معهم، على عكس ما إذا كانت المناطق يسكنها أهلها الأصليون ويعرف بعضهم بعضاً، فضلاً عن عدم وجود معلومات وقواعد بيانات للموجودين فيها.
وفي هذا الشأن، أكد ضابط في الداخلية السورية في محافظة حلب، لـ”العربي الجديد”، مطّلع على مجريات عملياتٍ نفذها الأمن أخيراً ضد خلايا التنظيم التي يُطلق عليها محلياً “مضافات” (مقرّات التنظيم أو مخابئه)، أن “الجنسية السورية هي العليا من بين أفراد التنظيم حالياً، وتتجاوز 90% من الخلايا الموجودة، وهناك عراقيون أيضاً”. وأوضح أن وجودهم يعتمد على التناقضات الأمنية في منطقة الجزيرة السورية بالدرجة الأولى، شرق الفرات وغربه، لكنهم يحاولون حالياً البحث عن موطئ قدم في مناطق أخرى، خارجها، كما الحال في حلب ودمشق. وبحسب قوله، فإن فرص عودة هؤلاء قوة مؤثرة ضعيفة للغاية، بسبب النفور المجتمعي والتغيير السياسي الذي تحقق، وتاريخهم القريب وما اقترفوه في سورية والعراق، لكن السؤال هل يمكنهم التأثير على الأمن؟ مجيباً: نعم، أعتقد أنهم يشكلون تهديداً أمنياً خطيراً.
وكان الباحث في معهد واشنطن للدراسات هارون زيلين، خلص إلى أن تنظيم داعش “يستهدف الحكومة السورية الجديدة”. وكتب في بحث له نشره المعهد في 22 مايو الماضي، أن عمليات التنظيم أخيراً تُسلّط الضوء على “حقيقة أنها، رغم تراجعها الكبير، ما تزال قادرة على إحداث اضطرابات كبيرة، لا سيما في الفترة الانتقالية الحسّاسة التي تمر بها سورية. وبالتالي، لدى الولايات المتحدة أسباب أكثر من أي وقت مضى لعدم سحب قواتها بالكامل من سورية إلى حين استكمال السلطات الجديدة دمج “قوات سوريا الديمقراطية”، وتأسيس حملة مكافحة داعش على أسس أكثر استدامة”. وبرأيه، فإن هذا “يتطلب حثّ الأكراد ودمشق على المضي في الاتفاق القائم الذي ينص على أن تتولى الحكومة المركزية السيطرة على كامل محافظة دير الزور، معقل تنظيم داعش. وبذلك، سيتم إنشاء إدارة واحدة في المحافظة، ما يمنع التنظيم من استغلال الفجوات بين منطقتي السيطرة، وهي نقطة ضعف لعبت على الأرجح دوراً في الهجوم الناجح الذي وقع أخيراً”.
عملية استباقية مرتقبة ضد “داعش”
من جهته، رأى الباحث في الشأن السياسي السوري محمد عناد سليمان، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الوضع الأمني في مناطق شمال شرق سورية حسّاس، لافتاً إلى أن “خلايا داعش ما زالت موجودة، وقد تُستثمر أو قد تُستقطب في أي وقت من أطراف إقليمية معنية بالملف السوري، لغاية عدم تحقيق الأمن والاستقرار في سورية”. وأوضح أن خلايا التنظيم التي توجد على شكل جيوب أو تجمّعات نائمة في الشمال الشرقي السوري، ضمن منطقة الجزيرة المحاذية للعراق، تُشكل تحدّياً أمنياً للدولة السورية الجديدة، مبيناً أن “بعض الأطراف، وفي مقدمها إيران، التي جرى تحجيم نفوذها في الشرق الأوسط عموماً، وسورية على وجه الخصوص، قد تحاول استقطاب تنظيماتٍ وجماعاتٍ إرهابية ومسلحة، لتهديد الأمن وإفشال الاستحقاق السوري، الذي يسعى إلى مغادرة المشهد المسلح ككل، والانتقال إلى العمل السياسي والبناء”. وأضاف: “إن حدث ذلك فعلاً، سنكون أمام تحد جديد في الجغرافية السورية ككل، ومناطق شمال شرق سورية خصوصاً”. ووصف خلايا التنظيم بأنهم “سوريون ومن جنسيات أخرى، مرتزقة، والحكومة السورية قد تسارع بهذا الملف وتبدأ بمواجهته استباقياً”.
———————————–
ذاكرة سورية عن شخصيات النظام في عراق ما بعد الغزو (7)/ عثمان المختار
09 يونيو 2025
شكّلت سورية ودمشق خصوصاً محطة رئيسية للتيارات والشخصيات المعارضة لحكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، منذ مطلع الثمانينيات إلى عام 2003 الذي احتلت فيه الولايات المتحدة العراق، حتى إن سورية تفوّقت على إيران لجهة العراقيين المقيمين فيها بين عامي 1980 و1983. وقدّم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد دعماً واسعاً لمختلف عناوين معارضة صدام حسين، بتوجهاتها الإسلامية أو العلمانية والمدنية والقومية. وأقام في دمشق أعضاء من الحزب الشيوعي العراقي والقومي والإخوان المسلمين، وحزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الإسلامي الأعلى. واعتبرت شخصيات أخرى سورية محطة انتقال إلى دولة ثالثة لأسباب عديدة، ترتبط بالرغبة في الانتقال إلى دولة غربية، والحصول على الجنسية والدعم المالي، وأخرى ترتبط بطبيعة العلاقة التي وضعها النظام السوري معهم، والقائمة على التعاون في الجانبين، الأمني والاستخباري، حتى ارتبط وجودهم باللواء محمد ناصيف خير بك (أبو وائل) مسؤول الفرع 235، الذي كان المشرف على ملف المعارضة العراقية آنذاك.
أسماء عراقية في سورية
خلال ذلك برزت أسماء عديدة من بين العشرات الذين مكثوا في سورية مثل جلال الطالباني، ومحمد باقر الحكيم، ونوري المالكي، وإبراهيم الجعفري، وعزت الشابندر، وعزيز محمد علي، وحسن العلوي، وصدر الدين القبنجي، ونجم الدين كريم، وحسن السعيدي، ومحمود عثمان، وفائق الشيخ علي، بالإضافة إلى صحافيين وكُتّاب عراقيين رفضوا الانخراط بالتنظيمات، لكنهم زاولوا دوراً فردياً معارضاً، أبرزهم مظفر النواب، ومحمد مهدي الجواهري، وزهير الجزائري. وتباين وجودهم بين استقرار دائم في دمشق، أو تنقل بين سورية وإيران، وآخرين بين سورية وبريطانيا، وأقاموا في أحياء السيدة زينب، وأبو رمانة، والمزّة، وبرزة، وركن الدين، جرمانا، كفر سوسة، ومناطق أخرى مختلفة.
وعلى خلاف الأنباء التي تداولها عراقيون ومهتمّون بهذا الملف في العقود الأربعة الماضية، فقد اتضح عدم دقّة مسألة منح حافظ الأسد منازل لعناصر عراقية معارضة آنذاك. إذ سكن أغلبهم في منازل استأجروها، أو في “منازل الضيافة”، وهي شقق سكنية أغلبها في المزّة تابعة للحكومة السورية. وفي حالات قليلة جداً، هناك منازل اشتراها المعارضون العراقيون، وهو ما لم يكن سهلاً حينها، إذ كان يشترط القانون السوري آنذاك موافقة مسبقة من مجلس الوزراء لتملّك العربي عقاراً باسمه في سورية، على غرار منزل جلال الطالباني في حي المزرعة وسط دمشق. وأفاد بهذه المعلومات مسؤولان في وزارة العدل السورية، قالا لـ”العربي الجديد” إن اللجنة التي شكلتها الوزارة وجدت عقارات لعراقيين مؤيدين لنظام الأسد، لكنهم اشتروها بأنفسهم وليست هبة أو منحة منه. وأكد أحدهم “وضع اليد على أملاك الدولة السكنية، وهي منازل وشقق، في مختلف مدن سورية، كان قسم منها يُمنح لشخصيات في النظام أو من خارج سورية، على سبيل الاستعمال والسكن، لا الاستملاك”.
العلاقات العراقية السورية بعد الأسد… تعايش مع الأمر الواقع
واحتضن حافظ الأسد أولى فعاليات “المعارضة العراقية” في نوفمبر/ تشرين الثاني 1980، وضمّت قوى إسلامية وشيوعية وكردية وقومية، وكان المؤتمر بمثابة النقطة الفارقة بين البلدين آنذاك، قابلتها بغداد بخطوةٍ مماثلةٍ في دعم الشخصيات المعارضة للأسد، ليست الموجودة في العراق فحسب، بل في دول وعواصم مختلفة، وأخذ هذا الدعم في المجمل طابعاً أمنياً واستخبارياً أكثر من كونه سياسياً. وخصّص النظام السوري عام 1981 برنامجاً إذاعياً من دمشق، موجّهاً ضد نظام صدام حسين، باسم “صوت العراق”، ويدعو الجيش العراقي إلى وقف الحرب مع إيران، وإسقاط نظام صدام حسين. وأعدّ البرنامج وقدمه شخصيات من المعارضة التي احتضنها الأسد، وهو ما دفع سلطات بغداد إلى نصب أجهزة قطع الإشارة في محافظة الأنبار لمنع وصول البث إلى العراق. كذلك سمح النظام السوري بإقامة ساحة تدريب عسكرية في إحدى ضواحي دمشق، بطلب من بعض شخصيات المعارضة آنذاك، وزوّد عدداً منهم بجوازات سفر سورية (من دون جنسية)، حتى يتمكّنوا من السفر إلى مختلف العواصم العالمية وترويج أنفسهم ومشروع معارضتهم صدّام حسين. كذلك يُسجّل أن باحثين توسّطوا لدى نظام حافظ الأسد، في الخلافات والتقاطعات التي كانت تحصل بين تيارات المعارضة العراقية لنظام صدّام، آنذاك، عبر التوفيق بينهم ومنع تفتت ما كان يُطلق عليه آنذاك سورياً “جبهة المعارضة العراقية”.
وفي السابع من يناير/ كانون الثاني الماضي اقتحم الأمن السوري شقة الرئيس العراقي الراحل، جلال الطالباني، في حي المزرعة في دمشق، ضمن حملة تتبع أصول وممتلكات صادرها نظام حافظ الأسد. لكن وكيل وزارة الخارجية العراقية، شورش خالد سعيد، قال إن “قوات سورية دخلت الشقة وأخذت مفاتيحها، معتقدة أن النظام السابق منحها لعائلة الطالباني”. ثم وجّهت وزارة الخارجية العراقية مذكّرة إلى نظيرتها السورية، تؤكّد أن الشقة ملك لعائلة الطالباني، وأنهم اشتروها بأنفسهم عام 1974. وتردّدت أخيراً أخبار مماثلة عن مصادرة الإدارة السورية الجديدة عقارات لشخصيات سياسية عراقية كانت تقيم في دمشق واستملكتها، بينها منازل وفنادق، وهو ما لم تنفه دمشق أو تؤكده.
في حي السيدة زينب، شرقي دمشق، أشار المختار عبدو سعيد العائدي، إلى أسماء عدة عراقيين تولوا السلطة في العراق بعد الغزو الأميركي كانوا يعيشون في المنطقة. وقال العائدي في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إن رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الذي كان يُعرف آنذاك باسم جواد المالكي، كان يقيم في شارع علي الوحش، ويبيع خواتم الفضة والأحجار أمام مقام السيدة زينب. ونفى العائدي روايات أخرى بشأن عمل المالكي أو مصدر رزقه، قيلت بحقه من باب التنكيل من الخصوم، لكنه أكد في الوقت نفسه أن شقته كانت مستأجرة، وظل فيها لقربها من المقام. وتحدّث العائدي عن شخصية عراقية، تولت توزيع مساعدات مالية لمعارضين، بقيمة مائة دولار لكل فرد، لكنه أبدى اعتقاده أن الشخصية كانت وسيطة مع جهات خارجية عملت على دعم المعارضة مادياً. وقد رافقنا العائدي بالسيارة إلى مكان إقامة نوري المالكي الأخير، الذي لم يصل إليه منذ عودته إلى العراق عام 2003، وأفاد بأن آخرين كانوا يسكنون قربه، مثل حسن العلوي، وصدر الدين القبنجي، في الشارع القريب المعروف حالياً بشارع العراقيين. وأعرب عن اعتقاده أن أياً من معارضي صدام حسين أيام حافظ الأسد لم يكن يمتلك منزلاً، كذلك لم يكن الأسد يعطي عقارات من الأساس. لكنه أكد إقامتهم بشقق مستأجرة، أو من دون مقابل مادي شهري، من دون أن تكون لهم حقّ التصرف بها.
النظرة السورية للمعارضة العراقية
في السياق، قال الباحث في الشأن السياسي السوري، عمر الهاشمي، عن الثمانينيات تحديداً في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إن “غالبية الشعب السوري، بمن فيهم المقرّبون من حافظ الأسد، كانوا ينظرون إلى المعارضة العراقية التي آواها الأسد على أنها سياسية وطنية عراقية، بمقدار ما هي ورقة أو أجندة سياسية للنظام السوري آنذاك والمصالح الإيرانية ككل”. واعتبر أنّ “توفير الأسد مساحة لشخصيات المعارضة العراقية كان بناءً على دوافع شخصية ضد صدّام حسين”. ويوضح أن “هذه الشخصيات ظلت موجودة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، لكنها لم تنجح في إقامة أي علاقات اجتماعية، أو سياسية، أو حتى فكرية وثقافية مع الوسط السوري، إذ كانت تحرّكاتهم، تحت علم النظام، الذي كان يتولّى فعلياً أنشطة عدائية ضد العراق، ومن خلال الضابط المقرّب من حافظ الأسد آنذاك، محمد الخولي، وهو المشرف أيضاً على الاستخبارات الجوية”. وأضاف الهاشمي: “كانوا يسافرون ويدخلون سورية بإذن مسبق. وبعد وفاة حافظ الأسد، عام 2000، استمرّ الحال نفسه على أنهم ملف أمني وليس معارضة سياسية حتى احتلال العراق عام 2003 (على يد الأميركيين) ومغادرتهم إلى بغداد”. وتابع أن “نظام بشار الأسد لعب دوراً في تجميع الشخصيات العراقية المعارضة الموجودة في دمشق، والتنسيق مع الأميركيين في هذا الإطار، قبيل الغزو الأميركي البلاد، في الوقت الذي كانت واشنطن تحتضن فيه فعاليات ومؤتمرات مختلفة بعنوان المعارضة العراقية”.
العربي الجديد