سياسة

مقالات مختارة تناولت تطورات الموقف التركي

تركيا والعرب: “الصفر” والعقائد!/ محمد قواص

لا شيء تغير في السياسة الخارجية لمصر والسعودية والإمارات يبرر اندفاعة تركيا المعلنة لفتح صفحة جديدة مع الدول الثلاث. ولا شيء في سلوك تركيا خلال السنوات الأخيرة يحفز العواصم العربية الثلاث على الثقة باستفاقة أنقرة على ضرورات التوافق والصلح معها. وإذا ما كان من تغير ما قد حصل فعلاً، فهو لدى الجانب التركي، بحيث يدفع الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ووزير الدفاع خلوصي آكار إلى إعلان اكتشاف خصال البلدان الثلاثة.

وفق عقيدة المصالح عمل حزب “العدالة والتنمية” عند دخوله أبواب السلطة عام 2002 على تأسيس علاقات تركيا مع العالم القريب والبعيد على قاعدة “صفر مشاكل”. ورد هذا المفهوم في كتاب أحمد داود أوغلو، “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”، الصادر عام 2001. بدا أن إطلالة الإسلام السياسي التركي الجديد (الوريث للنسخة التي كان يمثلها نجم الدين أربكان) على المنطقة والعالم، تحتاج إلى مرونة في التعامل مع أرمينيا وأوروبا ومنظومات الشرق والغرب، وإلى تطوير لعلاقات البلد مع المحيط العربي، لا سيما مع البلدان الحدودية المباشرة.

بيد أن عقيدة المصالح نفسها أسقطت النظرية الصفرية وأبعدت صاحبها عن الحزب والحكم والرئيس. سقطت نظرية داود أوغلو من دون أن يسقط كتابه. ما زال أردوغان  يؤمن بـ “العمق الاستراتيجي” لتركيا، لكنه لم يعد يجد في “الصفر” الشهير وسيلة فعالة للسيطرة عليه.

ساعدت الولايات المتحدة وبعض المنظومة الغربية أردوغان في إسقاط “صفره”. صدر عن واشنطن وبعض العواصم الأوروبية بعد اندلاع “الربيع العربي” ما يبشّر بحكم إسلامي وفق النموذج التركي. رعت إدارة باراك أوباما تشجيع التيارات “الإخوانية” في المنطقة لتكون بديلاً من الأنظمة المترنحة. ذهب أردوغان إلى مصر يبشر بالعلمانية التي تطرب لها آذان العواصم الكبرى، فيما بدت رعايته هجومية عدائية لمصلحة التيارات الدينية في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا.

تعامل أردوغان مع المنطقة العربية بصفتها حقاً تركياً ينهل مشروعيته من التاريخ العثماني القديم. ظهر أن “العمق الاستراتيجي” لتركيا يستحق من أنقرة تمارين تجريبية تصادق وتعادي نظام دمشق، مثلاً، وفق موقع “الصفر” وغيابه في خريطة المصالح. شنّ أردوغان حملة ضد بغداد في عهد نوري المالكي وتراجع عنها، واقترب من طهران وفق إيقاعات ارتجالية ماكيافيلية يعوزها منطق الدول الكبيرة. خاضت تركيا في عهده معارك عسكرية مباشرة في العراق وسوريا وليبيا، ومعارك دبلوماسية شرسة ضد السعودية والإمارات ومصر. وبدا في كل تلك المعارك استخفاف بقواعد منطقة خرجت نهائياً من تحت العباءة العثمانية منذ أكثر من قرن.

سعى الرئيس التركي إلى تعزيز حكمه في الداخل. أفشل محاولة انقلابية عام 2016 ما زال يجابهها حتى اليوم، ومرر تعديلات دستورية عام  2017 تعزز من صلاحيات منصبه على رأس الدولة. عمل على التحاذق بين روسيا والولايات المتحدة مستغلاً ضبابية موقف دونالد ترامب وغموض استراتيجيات واشنطن. صعّد تمارينه العدائية ضد الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا واليونان وقبرص، وراح في شرق المتوسط يمارس إبحاراً مضاداً لتعطيل خطوط ما يرسم لسوق الطاقة في تلك المنطقة.

بيد أن تركيا تستفيق على نتائج قاتمة لامتحاناتها. خسرت أنقرة معاركها مع الجميع. بات “حكم الإخوان” للمنطقة وهماً مندثراً وحصاناً سقط الرهان عليه. خسر أردوغان صولاته وجولاته في مياه المتوسط وبات مستعداً لفتح صفحة جديدة مع أوروبا والتفاوض مع اليونان وقبرص. خسر حليفه حسن البشير في السودان، وخسر رهانه على حكم ليبيا وباتت ضغوط الاقتصاد في الداخل موجعة تدفع بسؤال الأتراك في الداخل عما تفعله تركيا في الخارج.

فقد أردوغان تلك الرمادية الخلاقة في واشنطن. ما زال الرئيس التركي ينتظر مكالمة الرئيس جو بايدن التي لا تأتي. والمسألة لا تتعلق فقط بعداء الرئيس الديموقراطي الجديد، بل بمزاج أميركي عام لم يستسغ مناورات أردوغان وبهلوانية مواقفه داخل معسكر الحلفاء والتي قد لا تختلف في خبثها عن مواقف إيران وهي في معسكر الخصوم. قرأ أردوغان التحولات القريبة والبعيدة جيداً، وأسقط من حساباته إمكان التعويل على تحولات لاحقة، فكان لا بد من الالتفاف في كل ميادين المصالح التركية بما في ذلك مستقبل العلاقة مع العرب.

لا يمكن لعلاقات سليمة بين الدول أن تقتصر على التبادلات الاقتصادية فتلك سمة نفعية لا تؤسس لتماس سليم. ولا يمكن أن يكون التواصل المخابراتي سبيلاً ناضجاً لتعزيز شبكات المصالح بين العواصم. كما أنه لا يمكن للتصريحات الودودة أن تطوي صفحة سوداء وتفتح صفحة جديدة بيضاء. ولا يمكن لعلاقات تركيا مع العالم، خصوصاً مع العالم العربي، أن تقودها مزاجيات تحدد موقع “الصفر” وغيابه في اكتشاف أو إغفال “تاريخية” العلاقة مع مصر والسعودية والإمارات.

سعت تركيا في رعايتها ودعمها للإسلام السياسي إلى تقويض أنظمة الحكم في المنطقة. عملت أنقرة بالدعم والتمويل والتسليح على مدّ هذه الجماعات بوسائل مهددة لأمن هذه الدول واستقرارها ومصالحها. تستضيف تركيا شخصيات ومؤسسات تستخدم منابر لشن هجمات ضد الدول الثلاث، ناهيك بأن الموقف الرسمي التركي لطالما كان متقدماً على تلك المنابر في العداء لتلك الدول، على النحو الذي لا يساعد على قلب الصفحة بين ليلة وضحاها.

لم تعتدِ مصر على مصالح تركيا في ورشتها لترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان، ذلك أن لا عقائد لمصر ضد تركيا ولا خطط للتدخل في شؤون هذا البلد والنيل من نظامه. عملت السعودية والإمارات على انتهاج خيارات دفاعية حين قررت أنقرة الانخراط في شؤون الخليج وإرسال قوات عسكرية إلى داخل البيت الخليجي أثناء الأزمة مع قطر.

لن ترد الدول الثلاث، وإن أبدت حذراً مشروعاً، طلب الودّ الذي ترسله تركيا هذه الأيام. بيد أنه من الصعب الثقة بمناورة أنقرة الجديدة، ذلك أن مقاربتها لهذه الدول لا تتأسس على المصالح بالمعنى الذي تفهمه القاهرة والرياض وأبو ظبي، بل على موقع هذه الدول في الخريطة العقائدية لأردوغان وحزبه. فإذا ما كانت تلك العواصم تريد موقفاً تركياً حاسماً واضحاً من جماعات تعتبرها إرهابية، فإن شرعية الحكم الراهن في تركيا تستند الى عقيدة هذه الجماعات وليس الى نقيضها.

النهار العربي

——————————-

تركيا عدواً رئيسياً: وسواس المحور الرجعي العربي/ جلبير الأشقر

خطيرٌ جداً الكلام الخاص بسوريا الذي أدلى به وزير الخارجية المصري، سامح شكري، أمام الدورة العادية لمجلس جامعة الدول العربية المنعقدة في الثالث من هذا الشهر. فقد قال الوزير ما يلي، نقلاً عن نص كلمته الذي نشرته «بوابة الأهرام»:

«عشرة أعوام مرّت، ولا زالت الأزمة السورية تدور في حلقة مفرغة، والشعب السوري وحده هو من يدفع الثمن بلا أي أفق يحمل على التفاؤل في المستقبل القريب، وأقول من موقعي هذا إن عودة سوريا إلى الحاضنة العربية كدولة فاعلة ومستقرة لهو أمر حيوي من أجل صيانة الأمن القومي العربي، إلا أن ذلك يفترض أن تظهر سوريا بشكل عملي إرادة للتوجه نحو الحل السياسي المؤسس على قرارات مجلس الأمن، فاستيعاب المعارضة الوطنية من شأنه تخفيف حدة النزاع وتعبيد الطريق لكي تخرج سوريا من أتون تلك الحرب المستمرة إلى برّ الأمان، إذ أن وجود سوريا موحّدة آمنة قوية ومستقرة يجعل من المشرق العربي خط الحماية الأول للمصالح العربية، ومن ثم فإن الحل السياسي ينبغي أن يسير قدماً بقدم مع إخراج جميع القوات الأجنبية من جميع الأراضي السورية، وفي مقدمتها الاحتلال التركي، والعمل الدؤوب من أجل دحر التنظيمات الإرهابية التي امتد لهيبها ليحرق الأخضر واليابس، ليس في سوريا وحدها، ولكن في جميع أرجاء المنطقة».

لاحظوا أولويات الوزير المصري: تقبع سوريا تحت خمسة احتلالات، إسرائيلي وإيراني وتركي وروسي وأمريكي، أما أخطرها في نظر الوزير المصري فليس الاحتلال الصهيوني (وإسرائيل بلا شك «دولة صديقة» في نظر الوزير) ولا حتى الاحتلال الإيراني، ناهيكم من الروسي والأمريكي التابعين لدولتين تربط الحكم المصري بهما علاقة وطيدة، إذ يتعاون مع إحداهما في دعم خليفة حفتر في ليبيا ويثمّن دعم الأخرى المالي والعسكري. كلا، بل إن أخطر الاحتلالات في سوريا، حسب سامح شكري، هو التركي بعينه، وهو الوحيد الذي نعته بالاحتلال مكتفياً بالإشارة إلى «القوات الأجنبية» بما يخصّ سائر الاحتلالات. وهذا يلقي ضوءاً خاصاً على ما يقصده الوزير المصري بإشارته إلى جعل المشرق العربي «خط الحماية الأول للمصالح العربية».

فإيانا أن نظنّ أن أخطر ما تتعرّض له «المصالح العربية» ومعها «الأمن القومي العربي» من خطر أجنبي في المشرق هو دولة الاحتلال الصهيوني التوسّعي، كلب حراسة مصالح الهيمنة الأمريكية على أموال النفط العربي؛ أو الولايات المتحدة التي دمّرت العراق وخرّبت المنطقة بما أوقعها في أسوأ انحطاط شهدته في التاريخ الحديث؛ أو إيران التي عملت على استغلال العصبية الطائفية بغية بسط نفوذها على الشرق العربي من العراق حتى البحر المتوسط؛ أو روسيا التي ساهمت بأكبر قسط في تدمير سوريا والتي تسعى وراء مدّ نفوذها الرجعي في المنطقة بالتعاون مع حليفيها المميّزين، الإمارات المتحدة ومصر، وقد عقدت اتفاقاً مع حكام السودان العسكريين كي تبني على شاطئ البحر الأحمر مرساً ثانياً لسفنها الحربية في دولة عربية، بعد مرساها السوري القديم، بينما يساهم «مرتزقتها» شبه الرسميين بدعم حفتر إلى جانب قوات محمد دقلو الجنجاويدية السودانية والقوات المصرية والإماراتية.

إنما أخطر ما يتعرّض له «الأمن القومي العربي» في المشرق العربي في نظر الوزير المصري هو تركيا، وهي العدو الرئيسي ذاته الذي تواجهه الأطراف سابقة الذكر في ليبيا، بوابة المغرب العربي. هذا المنطق الخاص بالحكم المصري والحكم الإماراتي، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدائهما الشديد للإخوان المسلمين، الذين يريان فيهم ألدّ أعدائهما على الإطلاق، هو الذي جعلهما بصورة طبيعية يتقرّبان إلى الحكم السوري ويدعوان إلى إعادته إلى «الحاضنة العربية». ومن المعلوم أن حكم عبد الفتّاح السيسي وحكام الإمارات حافظا على علاقة بنظام آل الأسد، باعتباره حليفاً في العداء المشترك لتركيا والإخوان المسلمين، ويدعمان مسرحية «التسوية السياسية» المتمثّلة بما أسماه الوزير المصري «استيعاب المعارضة الوطنية» وهو يعني احتواء «المعارضة» التابعة للقاهرة وأبو ظبي وموسكو بفصلها عن المعارضة التابعة لتركيا.

ومن الطريف للغاية أن الحكمين العربيين الأوثق ارتباطاً بالدولة الصهيونية هما اللذان يدعوان اليوم إلى إعادة حكم آل الأسد إلى «الحاضنة العربية» بل يحثّانه بالتعاون مع موسكو على تسوية علاقته بإسرائيل بما يُلحق دمشق رسمياً بالمحور الإقليمي الرجعي الذي يشكّله الحكمان المذكوران بالتحالف مع الحكم الصهيوني، ويدعمه نظام فلاديمير بوتين الذي يراهن على الجفاء في العلاقة بين الأطراف الإقليمية الثلاثة والإدارة الأمريكية الجديدة.

وإذا لم تلتحق المملكة السعودية بهذا المحور، فلأنها ترى أن أخطر ما يهدّد مصالحها هو إيران، فيرتهن أمنها بالتالي بالحماية الأمريكية. هذا ما عبّر عنه على طريقة الشيفرة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، بمناسبة زيارة نظيره الروسي سيرغي لافروف للرياض، وذلك بتصريحه أن «المملكة تؤكد أهمية استمرار دعم الجهود الرامية لحل الأزمة السورية، بما يكفل أمن الشعب السوري الشقيق ويحميه من المنظمات الإرهابية والميليشيات الطائفية» حيث ترمز «الميليشيات الطائفية» إلى القوات التابعة لطهران بخلاف اكتفاء الوزير المصري بما أسماه «التنظيمات الإرهابية» وهو يقصد الأطراف المرتبطة بأنقرة.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

——————————–

تركيا تبتعد عن إيران..والمعارضة السورية في حالة ترقب؟/ عقيل حسين

بات ملف العلاقات التركية-الإيرانية على رأس اهتمامات المعارضة السورية، بعد تطورات أخيرة دفعت للاعتقاد بدخول هذه العلاقات مرحلة جديدة عنوانها “الابتعاد التركي عن إيران” بناء على متغيرات إقليمية عديدة.

ورغم عدم الكشف عن تفاصيل الزيارة التي أجراها وزير خارجية إيران جواد ظريف إلى أنقرة الجمعة، واللقاء الذي عقده مع نظيره التركي مولود جاووش أوغلو، إلا أن التوقعات تشير إلى أن الملفين السوري واليمني كانا أبرز ما تركزت عليه المباحثات.

زيارة ظريف إلى تركيا جاءت بعد يوم واحد من قصف صاروخي استهدف مدينة كيليس الحدودية مع سوريا الخميس، وقالت أنقرة إن مصدر القصف كان قوات النظام، بينما توعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بردٍ قوي.

سبق ذلك هجوم حاد شنّته صحيفة “كيهان” الإيرانية التي تمثل التيار المحافظ، على تركيا، بسبب معلومات عن اقتراب أنقرة من عقد صفقة مع السعودية، لتزويدها بطائرات مسيرة من طراز “بيرقدار” التي استخدمها الجيش التركي في سوريا وأثبتت فعالية كبيرة مطلع العام 2020، حيث هددت الصحيفة الإيرانية في مقال لها، بأن تركيا ستدفع ثمن ذلك هجمات تطاول أراضيها.

وعلى الرغم من إعلان طهران دعم لقاء الدوحة الثلاثي حول سوريا الذي ضمّ روسيا وتركيا بالإضافة إلى قطر وعُقد الاسبوع الماضي، إلا أن طيفاً واسعاً من المعارضة السورية رأى في استثناء إيران من هذا الاجتماع أول مؤشرات السعي إلى تقليص دورها في سوريا، بل وربما يعني بدء تغيّر في التحالفات واستراتيجيات العمل في المنطقة، لصالح تقارب تركي-سعودي-مصري بدأت تتزايد المؤشرات عليه بشكل متسارع.

ويرى المعارض السوري بسام حجي مصطفى أن التحول التركي في الموقف تجاه إيران بات أمراً محسوماً، والعلاقات الاستراتيجية التي كانت تربط الطرفين رغم خلافاتهما في عدد من الملفات لن تبقى كذلك بعد اليوم، لأن أنقرة فهمت بوضوح على ما يبدو أن الجميع حسم أمره بحجم دور إيران ونفوذها في المنطقة، إضافة إلى ازدياد حجم التناقض بالمصالح التركية-الايرانية في منطقة عادت تركيا لتعتبرها مساحة لنفوذها أيضاً، بعد عقود من الإهمال الاضطراري لها، وخاصة في سوريا والعراق ولبنان والخليج.

ويضيف ل”المدن”، أنه “على الرغم من تصريحات واشنطن الأخيرة التي تظهر مرونة تجاه إيران، إلا أن استراتيجية الإدارة الأميركية  الجديدة تقوم بوضوح على مواجهة التحديات التي فرضها خصومها الدوليون خلال السنوات ال8 الماضية في مناطق مختلفة من العالم”.

ويقول: “إذا كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد عبّر بوضوح عن ذلك تجاه روسيا بالدرجة الأولى والصين كذلك، إلا أن الموقف من التمدد الإيراني في الشرق الأوسط سيكون من أولويات واشنطن، بعد أن استُنفذ هذا التمدد الذي غضّت الولايات المتحدة الطرف عنها طيلة العقدين الماضيين، بل وربما سهّلته، حيث أسهم في إضعاف بعض الدول ودفع بعضها الأخر للتطبيع مع إسرائيل تحت هاجس الخوف من إيران، ولعل تركيا أكثر من يستطيع التقاط هذه المؤشرات، وبالتالي فإنها لن تستمر في الرهان على حصان إيران الذي سيكون خاسراً في المرحلة القادمة”.

وكانت معلومات قد تم تداولها عن إطلاق بعض فصائل الجيش الوطني السوري المعارض المتحالفة مع تركيا في ريف حلب، حملة لتجنيد عناصر للقتال إلى جانب قوات التحالف العربي في اليمن، وهو ما أكدته مصادر متطابقة في شمال سوريا.

المصادر التي طلبت عدم الكشف عن هويتها، أخبرت “المدن”، أن أحد الفصائل التركمانية بدأ باستقطاب مقاتلين سوريين للتعاقد معهم من أجل التوجه إلى اليمن، وأن العرض الذي قدّمته شركة أمنية تركية خاصة، يتضمن العمل كحرس للحدود والمنشآت الحيوية مقابل راتب شهري كبير، يبلغ أضعاف الذي حصل عليه المقاتلون الذي أُرسلوا سابقاً إلى ليبيا وأذربيجان، لكن هذه المصادر أكدت أنه حتى الآن لم يتم تجميع العناصر الذين أبدوا موافقتهم على العرض، حيث جرت العادة أن يتم إخضاع المقاتلين الذين يوقعون عقوداً للقتال في الخارج إلى معسكرات تدريبية قصيرة قبل السفر.

ويرى البعض أنه حتى في حال أوقفت الحكومة التركية هذه العملية، إلا أن الرسائل السياسية من ورائها تبدو شديدة الوضوح، ولذلك فإن المباحثات التي أجراها ظريف في أنقرة الجمعة،  كانت على درجة كبيرة من الأهمية بالنظر إلى مجمل التطورات التي سبقتها أو تزامنت معها.

لكن المحلل السياسي غسان ياسين يستبعد أن تتخلى تركيا عن علاقاتها الاستراتيجية مع إيران، ويقول في تصريح ل”المدن”، إنه “لا يعتقد بأن تحولاً كبيراً يمكن أن يطرأ على العلاقات التركية-الإيرانية، فهي علاقات قديمة واستراتيجية، وحتى مع اشتداد العقوبات الاقتصادية على طهران، ظلت تركيا المنفذ الوحيد بالنسبة لها”.

ويضيف “صحيح أن الطرفين يتصارعان في عديد من الملفات، وبينها الملف السوري، وأيضاً قد نشهد أنخراطاً تركياً في الملف اليمني إلى جانب السعودية قريباً، لكن هذا لا يرقى إلى توقع القطيعة أو المواجهة بين تركيا وإيران، وحتى مع الحديث عن حلف جديد يجري الترتيب له في المنطقة لمواجهة إيران، ويضم بعض دول الخليج ومصر بالإضافة إلى اسرائيل”، مستبعداً أن تنخرط أنقرة فيه، وأكثر ما يمكن أن يحصل هو دخول أنقرة إلى الملف اليمني بجانب الرياض، لكن من دون أن يعني ذلك الاصطفاف الكامل ضد إيران أو التخلي عن العلاقات الاستراتيجية معها.

بين الأمل والرغبة في حدوث تحولات كبيرة تصبّ في صالحها، تحاول المعارضة السورية فهم التطورات في العلاقات بين الدول والمحاور، وانعكاساتها على الملف السوري، وفي مقدمة ذلك العلاقات التركية-الإيرانية التي تبدو معقدة بالفعل، لاسيما وأن سوريا ستظل ميدان تنافس بالنسبة لكلا الطرفين.

المدن


=====================

تحديث 02 نيسان 2021

—————————-

ناشونال إنتريست: التوترات بين أمريكا وتركيا لم تكن مطلقا بسبب منظومة “إس 400” الروسية

واشنطن: تعد الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وتركيا نتاج إحباط أمريكا المتزايد تجاه تركيا والذي بدأ بوجه خاص في مطلع القرن الحالي، عندما بدأت تركيا في اتباع سياسة خارجية مستقلة، لم تكن بالضرورة متوافقة مع المصالح الأمريكية المحددة. وببساطة فإنه كلما قاومت أنقرة مطالب أمريكا بصورة متزايدة، كلما زادت أمريكا الضغط عليها.

ويضيف الدكتور على ديميداس، أستاذ العلوم السياسية الأمريكي في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية، أن أزمة منظومة الصواريخ “إس 400” مجرد أحدث ملامح هذه الدائرة المفرغة، كما أنها دليل واضح على أن واشنطن على حافة فقدان قبضتها على تركيا تماما كما يتضح من تأكيد وزير الخارجية التركي مؤخرا مولود جاويش أوغلو على أن شراء المنظومة “صفقة منتهية”.

وأشار ديميداس إلى أن تحدي تركيا المتزايد لأمريكا بدأ يتصاعد مع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية السلطة، في نفس الوقت الذي كانت تستعد فيه الولايات المتحدة لغزو العراق عام 2003. ونظرا لأن تركيا كانت قد عانت بالفعل من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لحرب الخليج التي قادتها الولايات المتحدة عام 1991، رفضت حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان في آذار/ مارس 2003 طلب واشنطن استخدام الأراضي التركية لفتح جبهة شمالية باتجاه العراق للإطاحة بصدام حسين. وأدى ذلك إلى غضب إدارة بوش التي قررت حينئذ اتباع سياسة خارجية أكثر تركيزا على المجال العسكري. وكانت هذه السياسة سببا في زرع بذور الشقاق الذى شكّل إلى حد كبير العلاقات الثنائية حتى يومنا هذا.

وزاد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 من تعميق الانقسام المتزايد بين “الدولتين الحليفتين”؛ مما أظهر تماما عدم كفاءة واشنطن في التعامل مع الأزمة. وكانت إدارة أوباما مضطربة للغاية فيما يتعلق بسوريا لدرجة أن مختلف الأجهزة الأمريكية بدأت في دعم جماعات معارضة مختلفة، لكل منها أجندات مختلفة. فبينما بدأت وكالة المخابرات المركزية في تدريب وتجهيز الجيش السوري الحر، وهو جماعة معارضة سنية حليفة لتركيا، لم تتردد وزارة الدفاع في اتخاذ خطوات من شأنها أن تثير غضب تركيا من خلال دعم وحدات حماية الشعب الكردية، التي أعلنت تركيا مرارا وتكرارا أنها فرع من حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية. ولم تستجب أمريكا لطلبات تركيا المتكررة بالعدول عن دعم تلك الوحدات.

وقال ديميداس إن ما زاد الأمر سوءا بالنسبة لتركيا قرار الولايات المتحدة في ذروة الحرب الأهلية بسحب منظومات الدفاع الجوي الصاروخي باتريوت من حدود تركيا مع سوريا، مما أدى إلى أن تصبح تركيا معرضة للهجوم. كما أن واشنطن لم تستجب سريعا لمطلب تركيا المتكرر لشراء صواريخ باتريوت، وعندما وافقت بعد مرور 17 شهرا رفضت السماح بنقل التكنولوجيا العسكرية لتركيا لتولي أمر الصواريخ التى تريد شراءها.

وعندما شعرت تركيا بتخلي واشنطن عنها، لم تجد أمامها خيارا سوى الاتجاه لروسيا طلبا للمساعدة، التي قدمها بوتين بكل سرور، منتهزا الفرصة لتقويض حلف شمال الأطلنطي. وعندما تدخلت روسيا في الحرب الأهلية السورية وفتحت المجال الحوي السوري، استطاعت تركيا أن تقيم منطقة آمنة في جزء كبير من المنطقة الواقعة غرب نهر الفرات، وبذلك تحقق لتركيا مطلبا رفضته واشنطن مرارا وتكرارا. والأكثر من ذلك، عرض بوتين شيئا عزز ابتعاد تركيا شبه الكامل عن فلك الولايات المتحدة وهو منظومة الدفاع الجوي “إس 400”. ورغم إعلان واشنطن المتكرر عن رفضها لهذه الصفقة، وصلت الدفعة الأولى من المنظومة في تموز/ يوليو 2019. وأدركت أنقرة الآن أن بوسعها تنفيذ سياسات قد تتعارض مع رغبة واشنطن دون أن يحدث أي شيء.

وبالفعل شنت تركيا عملية ربيع السلام شرق الفرات في تشرين أول/ أكتوبر 2019، وأزاحت تماما وحدات حماية الشعب التي تحظى بالدعم الأمريكي من على حدودها ودفعتها أكثر عمقا نحو الصحراء السورية. وأثار ذلك غضب القيادة المركزية الأمريكية لدرجة أن الجنود الأمريكيين سيطروا على مدينة منبج لمنع الأتراك من الاستيلاء عليها وتقديمها للروس فيما بعد.

ويقول ديميداس إن إحباط واشنطن الحالي تجاه تركيا له جذور عميقة تمتد لعقود من الزمان، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أنها دليل واضح لتدهور سريع في النفوذ الأمريكي. فقد تولت الأيام التي كانت تستطيع فيها الولايات المتحدة، كما حدث في عام 1991 حشد تحالف عالمي بالإجماع وتجميع جيش يضم أكثر من 500 ألف جندي أمريكي. فاليوم وصلت أمريكا إلى حد الاعتماد على ميليشيا وحدات حماية الشعب التي تتقاسمها بالفعل مع روسيا وإيران. كما يبدو أن تهديدات واشنطن بفرض عقوبات على ألمانيا بسبب خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 لا تردع ألمانيا عن استكمال المشروع مع روسيا. وبالإضافة إلى ذلك فإن رؤية عدم تأثر تركيا نسبيا من جراء قانون “مواجهة خصوم أمريكا من خلال العقوبات” (كاتسا) شجع الهند على المضي قدما في السعي للحصول على منظومة “إس 400” رغم تحذيرات واشنطن.

وأضاف ديميداس أنه من الخطأ اعتبار منظومة “إس 400” هي السبب في الجفاء الأمريكي- التركي الحالي. فبصورة تقليدية هناك تصادم بين المصالح الأمريكية المتصورة والمخاوف الأمنية التركية في الشرق الأوسط. وقد زاد عجز واشنطن عن إدارة تصرفات تركيا -والإحباط الناجم عن ذلك- من رغبة واشنطن في تبني أسلوب عقابي، وهو ما قوبل بعناد من جانب أنقرة.

ويتوافق صعود نجم تركيا في شرق البحر المتوسط، وفي ليبيا وسوريا والعراق والقوقاز مع الأفول المطرد لأمريكا ونظامها العالمي. لذلك من الخطأ أن تحاول إدارة بايدن “الترويض” المتوقع كثيرا لتركيا لأن من المرجح أن لا يحقق ذلك النتائج التي ترجوها أمريكا.

واختتم ديميداس تقريره بالقول إنه نظرا لأن الصين تسعى لتحل محل أمريكا كقوة عالمية مهيمنة، تهدد مصالحها الاقتصادية والسياسية، ربما حان الوقت لصانعي السياسات في واشنطن للتوقف عن إضاعة الجهد الثمين من خلال تنفير حلفاء مثل تركيا، بالانشغال باستعراض القوة، وأن يدركوا حدود النفوذ الأمريكي.

( د ب أ)

القدس العربي

——————–

الحرب غير المعلنة بين تركيا والإمارات – إلى أين؟/ عبد الحميد صيام

منذ انطلاقة الربيع العربي عام 2011 حدث شرخ واسع في المنطقة بين مؤيد للحركات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطة والتخلص من أنظمة الفساد والقهر والطغيان، وبين من عمل منذ اليوم الأول على إجهاض هذه الحركات متخوفا من قيام أنظمة تمثل إرادة شعوبها تعتمد الصندوق والانتخابات الحرة والمساءلة حتى ولو أدى ذلك إلى صعود الإسلام السياسي الأكثر تنظيما وإمكانيات. وقد وقفت تركيا في صف دعم ثورات الربيع العربي بينما وقفت الإمارات ضدها وعملت بكل الوسائل الناعمة والخشنة لمنع التحول الديمقراطي في المنطقة حتى لو كان على حساب مئات الألوف من الأرواح والدمار والتشرد.

بدأ بعدها مباشرة التنافس بيت تركيا والإمارات، وأخذت تلك المنافسة مسارات عديدة بعضها عسكري- أمني وبعضها اقتصادي- تجاري. وسنحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء على تلك المنافسة التي وصلت إلى حد التهديدات وحبك المؤامرات ودعم الحروب بالوكالة، كما أخذت تلك المنافسة طابعا شخصيا بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جهة وولي عهد دولة الإمارات محمد بن زايد من جهة أخرى. هذه الحرب الباردة والتي ترتفع حراراتها بين الحين والآخر ما زالت قائمة إلا أن نهاية رئاسة دونالد ترامب ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض قد يغير قواعد اللعبة.

منذ تلك الأيام ودولة الإمارات تعمل على لعب دور أكبر من حجمها. البعض يفسر ذلك بأن الإمارات كانت تشعر بالفراغ الذي سببه غياب مصر في سنوات مبارك الثلاثين وأن القوى الثلاث الأخرى في المنطقة من غير العرب، إسرائيل وإيران وتركيا، هي التي ستملأ هذا الفراغ أو تتقاسمه، لذا أرادت أن تقفز إلى الساحة وتصبح اللاعب الإقليمي الجديد حتى لو أنها لا تملك من عناصر القوة إلا المال. وقد حددت منذ البداية أن حليفتها إسرائيل وأن عدوها تركيا بينما ستتعامل مع إيران بخطاب مزدوج عدو بالكلام وفي الإعلام، ولكنها في الحقيقة على علاقة جيدة وخاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية، بل إن الإمارت راضية عن الدور الإيراني في سوريا خوفا من سقوط نظام بشار الأسد.

تركيا من جهتها عاشت أفضل أوقاتها في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ورممت علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي، إنطلاقا من نظرية وزير خارجيتها آنذاك، أحمد داود أوغلو، القائمة على تصفير المشاكل. فقد وقعت مع سوريا وحدها عام 2010 أكثر من 35 اتفاقية وألغيت تأشيرة الدخول بين البلدين. وكان أردوغان لا ينتهي من جولة في المنطقة إلا بدأ بأخرى. طموح أردوغان أصبح حتى أكبر من قدرات تركيا لكنه كان واثقا من النجاح. لقد لعب أردوغان على الوتر الحساس لاستمالة الشعوب العربية عندما انسحب احتجاجا على كذب شمعون بيريس في دافوس عام 2009 بينما بقي عمرو موسى جالسا وأرسل سفينة نافي مرمرة في أيار/مايو 2010 لتخترق الحصار المفروض على غزة وهو ما أدى إلى استشهاد عشرة أتراك بعد قيام إسرائيل بالهجوم على السفينة، حيث أدت الحادثة إلى أزمة كبيرة بين إسرائيل وتركيا تركت آثارها على العلاقات بين البلدين لغاية الآن.

أردوغان كان يطمح أن يستعمل القوة الناعمة ليجذب مزيدا من الاستثمارات إلى بلاده من جهة وأن يقيم علاقات تجارية وسياسية واقتصادية مع الدول العربية والإسلامية من جهة أخرى. وقد نجح إلى حد كبير قبل الربيع العربي وبدأت البضائع التركية تملأ الأسواق العربية بشكل كبير، وتقاطر على اسطنبول والمدن التركية الجميلة ملايين السياح العرب، وانتشرت ظاهرة شراء العقارات في كل مكان حتى يظن الزائر لمدينة طرابزون الجميلة أنه في مدينة سعودية.

طموح أردوغان تضاعف مع البدايات الواعدة للربيع العربي، وخاصة عندما شاهد الرئيس التونسي بن علي يهرب ويتصدر حزب النهضة الإسلامي المشهد التونسي، ثم جاء سقوط مبارك المدوي واستحواذ الإخوان المسلمين على كل الانتخابات بما فيها الرئاسية. كان أردوغان أول من زار مصر مهنئا ومتحدثا في دار الأوبرا عن الإسلام والعلمانية. وتابعت التيارات الإسلامية الفوز، ففي ليبيا تصدر الإسلاميون انتخابات 2012 ونجح لاحقا حزب العدالة والتنمية المغربي في الوصول إلى السلطة بينما كان يستعد حزب الإصلاح اليمني للفوز في أي انتخابات قادمة بعد سقوط صالح وحزب المؤتمر والذي تحالف فيما بعد مع الحوثيين لاجتثاث عملية التحول الديمقراطي ووأدها في المهد.

من المنافسة إلى المواجهة

تصدرت الإمارات حركة الثورة المضادة وكانت مصممة على اجتثاث الحركات الإسلامية التي كثيرا ما تصفها بالإرهابية حتى لو لم تكن كذلك. وقد عملت في نفس الوقت على إسقاط حكومة محمد مرسي المنتخبة، ثم شاركت بقمع ثورة البحرين بالقوة عن طريق قوات «درع الخليج» واستقبلت الإمارت أحمد بن عبد الله صالح ليبدأ هو ووالده عمليات عسكرية بالتحالف مع الحوثيين لإعادة اليمن إلى حكم العسكر بالقوة المسلحة خوف انتقال البلاد إلى الديمقراطية ووصول حزب الإصلاح إلى السلطة. كما حرص بن زايد على إبقاء الخطوط مفتوحة مع النظام السوري حيث كانت بشرى الأسد أخت الرئيس بشار مقيمة في الإمارات ووالدتها أنيسة تقضي معظم وقتها هناك، ولم يسمح بن زايد بأي تحرك ضد النظام السوري كالمظاهرات وجمع التبرعات، وظلت السفارة السورية التابعة للنظام تمارس التمييز ضد معارضي النظام. وقد تحولت العلاقة بعد عام 2016 إلى علاقة دعم وتأييد وعرض الأموال وتسليح قوات الحماية الكردية لمحاربة تركيا ثم عرضت أموالا طائلة على النظام ليبدأ عملية تحرير إدلب وخرق الاتفاقية الروسية التركية إلا أن روسيا أوقفت العملية. وليس مستهجنا أن الإمارات هي أول دولة أعادت فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2018 ولحقت بها البحرين.

لقد كان انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر ضربة موجعة لأردوغان خاصة وأنه كان يراهن على دور مصر والتحالف معها والاستمرار في دعم التيارات الإسلامية المعتدلة، وكان لا يتردد في رفع إشارة رابعة في أحاديثه وخطبه وفتح بلاده لكل الفارين من نظام السيسي يحرضون على النظام عبر العديد من القنوات.

في تلك الفترة عقدت الإمارات اتفاقية لإدارة المواني على البحر الأحمر والمتوسط وأقامت قواعد عسكرية في شمال الصومال وفي ميناء عصب الإريتري وجيبوتي وجنوب اليمن ثم استولت بالقوة على جزيرة سقطرى اليمنية بعد أن دخلت الحرب على اليمن إلى جانب السعودية ولكن بأجندة مختلفة تماما تقوم أساسا على فصل الجنوب اليمني والسيطرة على ميناء عدن ومضيق باب المندب.

الأزمة الليبية

المواجهة بين الإمارات وتركيا أخذت أبعادا خطيرة في ليبيا. كانت العلاقات الليبية التركية في أوج قوتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2009 زار أردوغان ليبيا مصحوباً بعدد من الوزراء و150 رجل أعمال لبحث سبل التعاون في مجالات الإعمار والتجارة والصناعة والنفط والغاز والسياحة والفندقة وغيرها. وقد نفذت الشركات التركية في الفترة ما بين 2002 و2008 مشاريع إنشائية في ليبيا بقيمة 8 مليارات دولار. فما كان لتركيا أن تتخلى عن استثماراتها في ليبيا بكل بساطة.

انحازت الإمارات للثورة المضادة كي لا تنتقل ليبيا إلى الديمقراطية والاستقرار. فقد عملت الإمارات على إسقاط انتخابات 2012 وبدأت تدعم منذ عام 2013 القوات المناوئة للإسلاميين حيث جاءت الانتخابات البرلمانية عام 2014 تحولا في المشهد الليبي بعد نجاح القوى الوطنية والعلمانية بدعم إماراتي ما دعا أعضاء المؤتمر الوطني العام إلى رفض نتائج الانتخابات فانتقل البرلمان إلى طبرق في الشرق الليبي. في نفس الوقت أعلن اللواء خليفة حفتر يوم 16 أيار/مايو 2014 بدء «عملية الكرامة» لتحرير ليبيا من الإرهابيين كما قال، معتمدا على دعم إماراتي وبعض الدول الأخرى. بدأ حفتر يمدد نفوذه من الشرق إلى الجنوب ثم اتجه إلى الغرب ليحتل آخر مواقع حكومة الوفاق الشرعية والمعترف بها دوليا. قام فايز السراج بالتوصل إلى اتفاقيتين مهمتين مع الحكومة التركية في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ترسيم الحدود البحرية من جهة والتعاون العسكري والأمني من جهة أخرى. واتفاقية ترسيم الحدود البحرية جاءت ردا على اتفاقية عقدت بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر وشاركت الإمارات فيها كمراقب. بدأت الأسلحة التركية والمتطوعون والمقاتلون والطائرات المسيرة، بالتدفق على منطقة طرابلس والمدن الغربية وغيرت خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2020 مجرى الحرب وألحقت الهزيمة وراء الأخرى في قوات حفتر المدعوم من الإمارات ومصر ثم روسيا. هزيمة حفتر في الغرب الليبي هي التي فتحت المجال للتوصل إلى اتفاقيات سلام ووقف لإطلاق النار وانتخاب حكومة وحدة وطنية تعمل على تنظيم الانتخابات في 24 كانون الأول/ ديسمبر المقبل.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

القدس العربي

—————————

بعد خمس سنوات على صفقة اللاجئين السوريين/ بكر صدقي

مرت الآن خمس سنوات على الاتفاق الموقع بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بشأن اللاجئين. ففي الثامن عشر من شهر آذار عام 2016 تم التوقيع على اتفاق يقضي بتقديم الاتحاد الأوروبي ستة مليارات يورو تصرف على اللاجئين في تركيا، القسم الأعظم منهم سوريون هربوا من جحيم القمع والحرب في بلدهم. ووصف الاتفاق، في حينه، على أنه رشوة مقدمة للحكومة التركية كي تمنع انتفال اللاجئين الموجودين على أراضيها إلى القارة الأوروبية. وتضمن الاتفاق حوافز لتركيا بشأن العودة إلى المباحثات حول عضويتها في الاتحاد، وتحديث اتفاقية الوحدة الجمركية، وإلغاء تأشيرة الدخول للمواطنين الأتراك الراغبين في السفر إلى دول الاتحاد، بقيت جميعاً على مستوى الوعود التي لم يتحقق أي منها طوال السنوات الخمس الماضية.

ولكن ما الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى عقد الاتفاق بشأن اللاجئين مع تركيا؟

في صيف العام 2015 أعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن أوروبا مستعدة لاستقبال قسم كبير من اللاجئين السوريين (وغيرهم) لكن دول الاتحاد الأخرى لم تنظر بإيجابية إلى هذا الإعلان، ورفضت التعاون مع ألمانيا بهذا الخصوص. بالمقابل أدى إعلان ميركل إلى تدفق عدد كبير من اللاجئين إلى أوروبا عبر تركيا، بحيث بلغ عدد اللاجئين الذين استقبلتهم ألمانيا وحدها المليون لاجئ في ذلك العام وحده.

وإذا كانت صورة جثة الطفل آلان كردي ذي الخمس سنوات على الشاطئ الغربي لتركيا قد استثارت موجة من التعاطف في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية مع اللاجئين، فقد جاءت الهجمات الإرهابية التي تبنتها داعش في فرنسا وبلجيكا، بعد شهرين، لتؤدي إلى موجة صعود للتيارات اليمينية والعنصرية في عدد من الدول الأوروبية بينها ألمانيا نفسها. وهكذا تحول المزاج العام في أوروبا من ترحيب باللاجئين إلى مطالبات بوقف تدفقهم، بل وإعادة من وصلوا إلى البلدان الأوروبية من حيث جاءوا. بين تشرين الثاني 2015 وآذار 2016، زارت ميركل تركيا ثلاث مرات بحثاً عن حل يوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وبعد اجتماعات عديدة، ومنها دعوة رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو آنذاك، لحضور الاجتماعات الدورية للاتحاد في بروكسل، تم التوصل إلى اتفاق 18 آذار. وعلى رغم أن الاتفاق لا يتضمن بنداً زمنياً لسريانه، فالمليارات الستة التي وعد بها الأوروبيون تركيا تم إنفاقها بالكامل، وبات تجديد الاتفاق من عدمه مطروحاً بصورة موضوعية. فهل هناك مؤشرات إلى رغبة الطرفين في تجديده؟

لقد تغيرت أمور كثيرة في السنوات الخمس، لعل أهمها أن الأوروبيين لم يعودوا في حاجة إلى تركيا لوقف تدفق اللاجئين، وذلك بسبب تأييدهم للإجراءات القاسية التي تلجأ إليها السلطات اليونانية لمنع هذا التدفق. وتنتهك اليونان حقوق الإنسان والأعراف الدولية الخاصة باللاجئين ولا تتلقى أي نقد من الدول الأوروبية. هذا الموقف الذي أقل ما يمكن أن يوصف به هو الخسة. فالاتحاد الأوروبي، والدول المكونة له، لا تنبس ببنت شفة بشأن انتهاكات اليونان بحق اللاجئين، بل يبدو أنها تعتبر تلك الانتهاكات ضرورية للتملص من تقديم مزيد من الأموال لمساعدة اللاجئين على الأراضي التركية، يبلغ عدد السوريين منهم فقط 3,6 مليون تحت الحماية المؤقتة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من صعوبات كبيرة.

الواقع أن تركيا بدأت باستقبال اللاجئين السوريين منذ صيف العام 2011، وتكفلت ببناء مخيمات لهم، وتقدمات اجتماعية كالطبابة والتعليم وغيرها، من غير أن تتلقى أي مساعدات من الدول الأخرى، فكانت أوروبا هي التي في حاجة لتركيا، حين تم توقيع الاتفاق، لوقف تدفق اللاجئين. وقد اتضح، خلال السنوات الماضية، أنها تعاملت مع أمر المليارات الستة كرشوة تنقذها من أزمات أدى إليها تدفق اللاجئين إلى أراضيها. أما اليوم فلا تبدو متحمسة لتجديد «الرشوة» ما دامت اليونان «تقوم بالواجب» مقابل حماس تركي، هذه المرة، لأنها تتحمل وحدها العبء الثقيل، إضافة إلى تأثير موضوع اللاجئين على السياسة الداخلية التركية، على ما رأينا في الانتخابات البلدية الأخيرة التي فقد فيها الحزب الحاكم بلديات المدن الكبرى لمصلحة أحزاب معارضة حولت موضوع اللاجئين السوريين إلى مادة للتكسب السياسي ضد الحزب الحاكم. وكانت ردة فعل الأخير على فقدان البلديات المذكورة إجراءات قاسية بحق اللاجئين السوريين، صيف العام 2019، وتهديدات لأوروبا بـ«إفلاتهم» نحوها.

أضف إلى ذلك أن اتفاق 2016 تضمن حوافز أخرى لتركيا لا علاقة لها بموضوع اللاجئين، بل بالعلاقات التركية ـ الأوروبية ومستقبلها كما سبقت الإشارة أعلاه. وإذا كان الأوروبيون قد تناسوا وعودهم بشأن الاتحاد الجمركي وإلغاء تأشيرات الدخول وإعادة فتح عناوين فرعية في مباحثات انضمام تركيا إلى الاتحاد، فهم يتذرعون بفشل تركيا في الوفاء بوعودها بشأن الإصلاحات السياسية وتراجع مستوى الحريات لتبرير ذلك. ولم يقتصر أثر الفشل التركي هذا على تقديم الذريعة للأوروبيين للتنصل من وعودها، بل أدى كذلك إلى تصاعد موجة الانتقادات لتركيا في الرأي العام كما على ألسنة المسؤولين في الحكومات الأوروبية. والحال أن تركيا تحتاج الإصلاحات المذكورة بصرف النظر عن مطالبة الأوروبيين بها، أو تذرعهم بغيابها لتبرير تنصلهم من وعودهم.

كاتب سوري

القدس العربي

————————-

مؤتمر عام لحزب العدالة والتنمية وسط تجاذبات سياسية/ بكر صدقي

يعقد حزب العدالة والتنمية الحاكم مؤتمره العام وسط تجاذبات داخلية وضغوط خارجية مكثفة. فقد شهد الأسبوع الذي سبق انعقاد المؤتمر مجموعة من الإجراءات الحكومية التي أثارت جدلاً واسعاً في الداخل والخارج، والتقى وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو نظيره الأمريكي بلينكن في بروكسل، الأربعاء، على هامش اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وبالتزامن مع انعقاد المؤتمر، في أول لقاء بين الوزيرين.

فقد بدأ الأسبوع العاصف في السياسة الداخلية بإسقاط الحصانة النيابية عن النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي عمر فاروق غرغلي أوغلو، ورفع دعوى قضائية ضد حزب الشعوب بهدف إغلاقه مع حظر النشاط السياسي لثمانين من كوادره القياديين. وفي ساعة متأخرة من ليل الجمعة أصدر الرئيس أردوغان مرسومين، الأول بإقالة محافظ البنك المركزي ناجي آغبال، والثاني بسحب التوقيع على معاهدة إسطنبول الدولية حول مكافحة العنف ضد المرأة.

ويشير موضوع غرغرلي أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي إلى استمرار التحالف بين «العدالة والتنمية» وحزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي، بعد كل توقعات المعارضة بشأن وجود شرخ بين الحزبين، في حين يشكل سحب التوقيع على معاهدة إسطنبول «هدية» لحزب السعادة الإسلامي المحافظ الذي رحب بحرارة بهذا التطور. أما أحزاب المعارضة فقد عبرت عن صدمتها من كلا الموضوعين، من غير أن يترافق ذلك مع خطة للمواجهة تتناسب وشدة الصدمة، فبقيت ردود فعلها في مستوى التصريحات، في حين بدت حائرة أمام قرار إقالة آغبال الذي لم يمر على تعيينه محافظاً للبنك المركزي أكثر من أربعة أشهر.

وافتتحت بورصة إسطنبول نشاطها يوم الاثنين التالي على صدور المرسوم بهبوط كبير في قيمة الأسهم، وفي سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار.

القرار محير فعلاً، فقد أقيل المحافظ السابق بسبب انخفاض قيمة الليرة أمام العملات الصعبة بسبب خفض سعر الفائدة. والآن يقال المحافظ الجديد بسبب رفعه لسعر الفائدة حفاظاً على قيمة الليرة، ويستبدل بمحافظ جديد سيعود إلى السياسة النقدية السابقة القائمة على خفض أسعار الفائدة. هذا التغيير السريع لإدارة السياسات النقدية خلق جواً من انعدام الثقة في الأسواق وهو ما انعكس سلباً على عمليات البورصة وقيمة صرف الليرة التركية.

ويعبر محللون مستقلون عن مخاوفهم من أن يؤدي استمرار التضييق على حزب الشعوب إلى دفع الكرد إلى اليأس من المشاركة في الحياة السياسية، وما قد ينتج عن ذلك من نمو التطرف بينهم. الواقع أن التيار الإسلامي الذي تعرض لعدد كبير من قرارات إغلاق الأحزاب التي تمثله، لا ينظر بعين الود إلى العودة إلى ذلك التقليد الذي كرسته سنوات الوصاية العسكرية على الحياة السياسية، وكان من إنجازات حكم «العدالة والتنمية» أنه أجرى تعديلات دستورية، في العام 2014، جعلت من إغلاق الأحزاب بقرارات قضائية أمراً في غاية الصعوبة. لكن الضغط المستمر لحزب الحركة القومية بهذا الاتجاه أثمر في النهاية.

أما القرار الخاص بسحب التوقيع على معاهدة إسطنبول، فهو يغامر بفقدان تأييد كتلة نسائية معتبرة من قواعد حزب العدالة والتنمية نفسه، إضافة إلى الحركة النسائية والتيار العلماني والكرد. ففي السنتين الأخيرتين ارتفعت وتيرة حوادث الاعتداء على النساء، بما في ذلك القتل، لكونهن نساء، في ظل معاهدة إسطنبول، وتخشى المنظمات النسوية من أن سحب التوقيع عليه قد يشجع الاعتداءات الموجهة ضد النساء. أما إعلام السلطة والتيار المحافظ فهما يدافعان عن سحب التوقيع لنفس الاعتبارات، أي بالقول إن وجود المعاهدة لم يكن رادعاً للمعتدين، ويمكن مكافحة العنف ضد النساء بالقوانين الوطنية. فقانون العقوبات التركي الذي تم تكييفه سابقاً ليتناسب مع موجبات المعاهدة، يكفي وحده لمواصلة مكافحة الاعتداءات المذكورة.

وكانت هناك ردود فعل سلبية من دول أوروبية والولايات المتحدة بشأن موضوعي معاهدة إسطنبول والتضييق على حزب الشعوب الديمقراطي، في وقت تتعرض فيه تركيا لضغوط أوروبية – أمريكية من جهة، وروسية من جهة أخرى (التصعيد العسكري الروسي في منطقة إدلب). لذلك استقطب اللقاء بين جاويش أوغلو وبلينكن في بروكسيل الاهتمام، كونه أول اتصال مباشر بين حكومتي البلدين. وقد عبرت بيانات الطرفين بشأن مضمون اللقاء عن اهتمامات متباينة ومواقف مختلفة في عدد من النقاط. لكن السمة الغالبة على اللقاء كانت إيجابية من وجهة نظر الحكومة التركية، فقد أكد بلينكن على أهمية الشراكة الأطلسية بين البلدين. وسبق ذلك موقف أمريكي لافت بشأن تركيا، وهو أن إدارة بايدن طلبت من الاتحاد الأوروبي عدم تعريض تركيا لعقوبات كان قد توعد بها في الاجتماع السابق قبل ثلاثة أشهر، على أن يبدأ تطبيقها في الاجتماع الذي سيعقد في 26 آذار الحالي. قد يمكن تفسير هذا الموقف الأمريكي بأنه رغبة واشنطن في التمسك بتركيا حليفاً أطلسياً في ظل مؤشرات إلى عودة حرب باردة بينهم وبين كل من روسيا والصين. حتى تصريح أردوغان الذي انتقد فيه اتهام بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه «قاتل» لم يدفع إدارة بايدن إلى رد فعل ضد تركيا، بل من الواضح أنها تريد التمسك بتركيا بعيداً عن روسيا والصين، على رغم موضوعات الخلاف الكثيرة بين البلدين.

في هذه الأجواء الداخلية والخارجية، انعقد مؤتمر الحزب الحاكم، وسنرى في الأيام والأسابيع القادمة ما هي الوجهة التي ستسير فيها تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

إيران وتركيا، تواجه عن بعد/ جان ميشيل موريل

مع تنامي طموحاتهما الإقليمية، تبدو العلاقات بين الإمبراطوريتين القديمتين اللتين تحلمان باسترجاع عظمتهما المفقودة في تدهور. ومن الواضح أن تركيا هي المتسبب في هذا المناخ المتوتر مع إيران.

ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.

“لا مشاكل مع الجيران”. تدريجياً تحولت الاستراتيجية الشهيرة الناتجة عن نظرة أحمد داود أوغلو عندما كان وزيراً لخارجية تركيا إلى “لا جيران بدون مشاكل.” وقد التحقت إيران بقائمة الدول التي تنظر إلى سياسة تركيا الخارجية بريبة وقلق.

حتى ذلك الحين، احتفظت العلاقات بين البلدين – والتي يشكل تبادل الطاقة فيها الجانب الرئيسي – بحالة من عدم التحارب، بل وحتى من عدم العدائية، على الرغم من مواقفهما المتباينة في الصراع السوري حيث تعارض تركيا نظام دمشق بينما تؤيده إيران.

تزايد التوتر في سنجار

لكن الأمور احتدت خلال السنوات الأخيرة في منطقة سنجار العراقية ثم خلال أزمة ناغورني قره باغ. تعد مدينة سنجار التي تحمل نفس الاسم والموجودة شمال غرب الموصل، مكانا مقدسا لليزيديين، وهم أقلية طائفية كردية ترجع جذورها الدينية إلى الأساطير الفارسية.

في عام 2014، قام جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية، الذين اعتبروهم من الكفار، بقتل آلاف من الرجال اليزيديين واستعبدوا النساء والأطفال. ساعد مقاتلو حزب العمال الكردستاني، بعد تحرير المنطقة من الوجود الجهادي، في تشكيل ميليشيات يزيدية مستقلة. وبقي حزب العمال الكردستاني بعد ذلك في سنجار كما هو موجود في جبل قنديل، في شمال شرق كردستان العراق.

في شهر يناير/كانون الثاني، وفي إطار العلاقات الجيدة التي تسعى تركيا جاهدة لإقامتها مع العراق وحكومة إقليم كردستان، قام وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بزيارة العاصمتين، بغداد وأربيل.

وبعد الزيارة، وجه الرئيس رجب طيب أردوغان تحذيرا بخصوص سنجار: “قد ننزل فجأة هناك ذات ليلة”. ومما يزيد من احتمال حدوث ذلك كون أن الجيش التركي ورط نفسه، في 10 فبراير/شباط 2021، في منطقة غارا (أيضا في شمال العراق) في محاولة فاشلة للإفراج عن جنود وأفراد من المخابرات التركية كانوا أسرى لدى حزب العمال الكردستاني. وهو فشل ذريع تسبب في مقتل 13 سجيناً.

ورداً على هذا التهديد الكامن بالتدخل التركي، طالبت ميليشيا “أصحاب الكهف” الشيعية المدعومة من إيران بأن “تكف تركيا عن أعمالها العدائية. كنا نتوقع أن تكمل تركيا انسحابها من الأراضي العراقية، وليس أن تزيد من تدخلها”

1

وهددت الميليشيا تركيا -في حال وقوع هجمات- بالانتقام من خلال عرضها لشريط فيديو يظهر صواريخ آرش ذات الصنع الإيراني.

يعتبر الإيرانيون سنجار منطقة استراتيجية بالنظر إلى مشروع كبير لإنجاز طريق سريع يربط طهران بالبحر الأبيض المتوسط، والذي يمر مُخَطَّطه عبر محافظة ديالى، على بعد 60 كيلومترًا شمال بغداد، قبل الصعود نحو سنجار وصولا إلى سوريا. وبعد اجتياز الحدود، يستمر الطريق السريع إلى قامشلي ثم كوباني، مروراً بشمال حلب لينتهي عند ميناء اللاذقية

2

.

ينظر الأتراك من جانبهم إلى سنجار على أنها نقطة التقاء في شمال العراق بين قنديل، القاعدة الخلفية لحزب العمال الكردستاني، وروج آفا السورية ( الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا) التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتي يُعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي القوة الحاسمة فيها. كما أن محافظة نينوى هي أيضًا منطقة تتواجد فيها بقوة وحدات الحشد الشعبي وهي مليشيات شيعية. قد يسمح تدخلٌ بالقوات الجوية والطائرات بدون طيار، كما حدث في غارا، ومن خلال قوات برية على الأرض، لأنقرة بضرب عصفورين بحجر واحد. وكذلك كسب عداء الميليشيات الشيعية المقربة من إيران.

ملف ناغورني قره باغ المسموم

خلال الحرب في ناغورني قره باغ، وبإرساله عدة مئات من المرتزقة للوقوف إلى جانب الأذريين وكذلك طائرات بدون طيار “بيرقدار تي بي 2” التي وفرتها شركة بايكار، التي يديرها صهره، عزز أردوغان تفوقه في القوقاز بفضل إنشاء ممر بين جيب ناخيتشيفان الأذربيجاني وأذربيجان. وقد تحصل بالتالي على شكل من الاستمرارية الإقليمية وخلق رابط أسرع بين البحر الأسود وبحر قزوين، مما يسهل نقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر خط أنابيب الغاز عبر الأناضول (تاناب).

كما لم يفته أيضا اللجوء إلى خطاب ذي نبرة عثمانية جديدة، متحججا بأن الأتراك والأذريين يشكلون أمة واحدة موزعة بين دولتين. ولدعم مقولته، لجأ إلى قراءة قصيدة اعتبرها الإيرانيون أنشودة لأذربيجان الإيرانية، التي تضم أقلية كبيرة من الناطقين باللغة التركية. وقد تسبب ذلك في سيل من الاحتجاجات من جانب طهران.

الرئيس التركي، الذي تحصل على كل السلطات بعد إصلاحات يناير/كانون الثاني2017، متورط عسكريًا في صراعات إقليمية عالية الكثافة (ليبيا، سوريا). كما قاده مفهوم “الوطن الأزرق” (Mavi Vatan)، الذي طوره بعض من أميرالاته، إلى تعزيز أسطوله القتالي (وقد أُطلق على تدريباته الأخيرة قبالة بحر إيجه على وجه التحديد اسم “الوطن الأزرق-Blue Homeland-2021”) وإلى الاعتراض على تحديد مسار المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، الغنية بالمحروقات.

أما الفوز الأخير لمرشحه في الانتخابات الرئاسية للجمهورية التركية لشمال قبرص – غير معترف بها من طرف الأمم المتحدة – فقد سمح له بغلق الباب في وجه أية فرضية لإعادة توحيد الجزيرة وتمهيد الطريق إلى ضمها الكامل إلى تركيا.

الضم الزاحف لمنطقة عفرين

جاء عرب وتركمان ليحلوا مكانهم، أما الذين بقوا فقد أصبحوا أقلية في بلادهم. “صار العلم التركي يرفرف فوق المباني ويتم التعليم في المدارس باللغتين العربية والتركية. أما الكهرباء وشبكات الهاتف فهي موصولة بتلك الموجودة في تركيا. يتم تعيين ودفع رواتب أئمة المساجد وخطبائها من قبل رئاسة الشؤون الدينية التركية (ديانت) وأصبحت الليرة التركية عملة التبادل التجاري

3

. تتجه تدريجيا منطقة عفرين نحو تبعية إدارية لمحافظة هاتاي في تركيا، أي لواء الإسكندرونة السورية السابق الذي وضعت أنقرة يدها عليه في عام 1939 بموافقة فرنسا وبريطانيا العظمى.

لا يفلت العراق من شهية أردوغان، وليس في منطقة سنجار فقط بل أيضًا بخصوص مدينتي الموصل وكركوك. ففي عام 1925، اِعْتَرَضَ مصطفى كمال، الرئيس الأول لتركيا الحديثة، ومن خلفوه فيما بعد، على تصويت لعصبة الأمم ألحق ولاية الموصل بالعراق بدلاً من تركيا. يلمح أردوغان بانتظام، خلال فترات الإفراط في الغطرسة التي يهواها، بشأن موضوع “الوطن المفقود”، إلى هذا الاعتراض، مستمراً في المطالبة بضم إلى تركيا كل من الموصل، المدينة السنية – وهي اليوم في حالة خراب بعد تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية – وكركوك، أكبر مركز بترولي في العراق.

شهية الأتراك تشتد في الموصل

علاوة على ذلك، كما يؤكد فهيم تستكين في موقع “المونيتور”: “يميل حزب العدالة والتنمية (حزب أردوغان) إلى النظر إلى الموصل في الإطار الإداري العثماني ـ أي ولاية الموصل، المكونة من مناطق الموصل وكركوك والسليمانية. أي بعبارة أخرى، السليمانية وأربيل ودهوك، المناطق الثلاث التي تشكل اليوم كردستان العراق، كانت جزءًا من محافظة الموصل العثمانية “

4

.

تؤدي هذه “الرؤية” إلى تغيير كبير في صياغة حجم الاعتراض القديم بخصوص مسار الحدود التركية العراقية ليشمل كردستان العراق. بصفة واضحة هذا يعني أن تقسيم العراق يعد خيارا بالنسبة لأنقرة. وقد تمت بالفعل دراسة هذا الخيار بجدية عالية مرتين: في عام 1958 عندما حاول العراق والأردن التقارب من أجل الوحدة بين البلدين، وفي عام 1991، عندما نفذت الولايات المتحدة عملية “عاصفة الصحراء” ضد صدام حسين. لكن في المرتين لم تعط واشنطن الضوء الأخضر لذلك.

فضلا على ذلك، أصبح الإيرانيون الآن في موقع قوة في الموصل بفضل المليشيات الشيعية العراقية لوحدات الحشد الشعبي، التي بقيت في عين المكان بعد مشاركتها في تحرير المدينة عام 2018. وفي مواجهة مثل هذا السيناريو، صرح وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في بيان نشر يوم 21 فبراير/شباط: “نرفض الوجود العسكري التركي في العراق وسوريا، نعتقد أنه سيئ”. وهو تصريح لا يمكن سماعه، على الرغم من صيغته الدبلوماسية المدروسة، إلا كتحذير حازم لأنقرة.

أحلام العظمة في آسيا الوسطى

شهد عام 2020 إعادة تنشيط القومية التركية (وحدة الشعوب التركية أو طوران الكبرى)، وهو مشروع توحيد الناطقين باللغة التركية في آسيا الوسطى، الموروث عن أنور باشا، وزير الحربية في الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وهو رجل قومي متشدد وعنصري وأحد المحرضين على الإبادة الجماعية للأرمن. فمن خلال إثارة مشاعر مؤيديه بذكر “التفاحة الحمراء” (قزل إلما-Kizil Elma)، يدرك أردوغان جيدا بأنه يتلاعب بالرمز الأساسي للهيمنة التركية في آسيا الوسطى. وباستناده إلى تجانس عرقي- لغوي زائف، فهو يشير إلى أذربيجان وتركمانستان، وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان.

في عام 1992، أطلقت تركيا من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية الحكومية (Turk Isbirligi ve Kalkinma Ajansi -TIKA)، مبادرة شراكة في السياسات الثقافية والتعليمية والتجارية والطاقية بين هذه الدول. غير أن موسكو، التي تعتبر بأن دول الاتحاد السوفيتي السابق تنتمي إلى منطقة نفوذها، أبلغت معارضتها الشديدة لأنقرة. لكن بعد 40 عامًا، لم يعد ميزان القوى كما كان عليه. واليوم، تسعى القومية البان-تركية (التي تخلت عن الأويغور حفاظا على الأنشطة التجارية مع الصين) إلى الانبعاث من جديد من خلال نظرة، تتجاوز البلدان الخمسة المذكورة، تنشد حماية تتار القرم ومسلمي البلقان.

كما نرى، فإن طموحات “سلطان اسطنبول” ليست بالهزيلة. وهي طموحات تهدف أيضا إلى إخفاء وضع داخلي يمتزج فيه التضخم والبطالة وانخفاض سعر الليرة والاحتجاجات الطلابية وتشديد الإجراءات الأمنية وسجن المنتخبين الأكراد لحزب الشعب الديمقراطي. كما يواجه اردوغان تراجع شعبيته في حين يقترب موعد الانتخابات الرئاسية. وبالمقابل يشكل رئيسا بلديتي اسطنبول وأنقرة، مرشحين محتملين ذوي مصداقية في هذه الانتخابات.

في مواجهة هذا الوضع المتفجر، يتواصل الغلو حول العامل الديني كعنصر من الهوية الوطنية. وقد وجد تجسيدا له خلال عام 2019، في إنجاز مسجد تشاملجا – مقابل 90 مليون دولار- وهو الأكبر في تركيا. كما تجسد مؤخراً في تحويل آيا صوفيا إلى مكان للعبادة، وبالتالي إحياء ذكرى عام 1453 عندما حكم لأول مرة سلطان الإمبراطورية العثمانية بأكملها، وتم تحويل الكاتدرائية إلى مسجد.

طهران تعتمد على حلفائها

في مواجهة الدفعة التوسعية لجارتها العدوانية في الشمال، ليس لإيران – التي دخلت في مواجهة مع الولايات المتحدة التي ترفض رفع العقوبات حتى توافق طهران على إعادة التفاوض على شروط الاتفاق المتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة المبرم في فيينا سنة 2015- نفس إمكانيات أنقرة العسكرية والدبلوماسية لتأكيد طموحها في أن تكون قوة إقليمية بلا منازع؛ وأن تكون أيضا، كما تزعم ذلك منذ الثورة الإسلامية عام 1979، “الوطن” المرجعي للشيعة.

كما أن الجيو-سياسية الغازية لتركيا (لها ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي) لا تواجه إلا لوما ضعيفا من جانب الإدارة الأمريكية، في حين تعاني إيران، المتهمة بدعم الإرهاب، من إجراءات انتقامية شديدة. ومع ذلك، فإن طهران ليست بدون حلفاء استراتيجيين (مثل أرمينيا والصين)، وليست دون أتباع ملزمين (مثل الميليشيات الشيعية العراقية أو حزب الله اللبناني وبدرجة أقل الحوثيين اليمنيين)، ولا من داعمين (مثل نظام الأسد السوري)؛ ولها أيضا قوة مساعدة (مثل الهزارة الأفغان الشيعة الفارين من الحرب في بلادهم والذين يجدون أنفسهم، بالنسبة لأصغرهم، مجندين قسريًا عندما يلجؤون إلى إيران).

تحتفظ إيران أيضًا بعلاقات جيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو أحد المكونين اللذين يشتركان في التحكم على كردستان العراق. وكما يحلو لإيران ذكره فهي ليس لها أي نزاعات مع أذربيجان.

وضع صعب على الجبهة الداخلية

بالمقابل يواجه النظام على المستوى الداخلي حركات احتجاجية في كل من محافظة بلوشستان وخوزستان، التي يسكنها العرب السنة، وكذلك في محافظته الكردية، على الحدود مع تركيا والعراق، وهي أحد أفقر المناطق في البلاد. تقوم إيران هناك باعتقالات جماعية تطال المدافعين عن الديمقراطية وحقوق المرأة، فضلا عن اغتيالات مستهدفة ضد الكولبار، هؤلاء المهربين المعدمين الذين يحاولون عبور الحدود لبيع بضائعهم أو إدخالها.

من جهة أخرى، لا يزال وضع إيران الاقتصادي مقلقا، نتيجة للحصار الأمريكي وبسبب أخطاء تسيير خطيرة، عشية الانتخابات الرئاسية التي تهدف إلى استخلاف حسن روحاني الذي يتعرض لانتقادات شديدة. يوجد إلى حد الآن ما لا يقل عن سبعة متنافسين لاستخلافه، جميعهم من “المحافظين” الذين ينتقدون بدرجات متفاوتة غياب العزيمة لدى الرئيس المنتهية ولايته.

كان هناك وقت في الماضي يحب فيه الأتراك والإيرانيون التذكير بأنهم لم يتحاربا فيما بينهما منذ 300 عام. واليوم، كل شيء يوحي بأن هذه الهدنة السارية على امتداد ثلاثة قرون والتي ضعفت، توشك على الانتهاء.

جان ميشيل موريل

كاتب ووسيط ثقافي سابق

————————

==================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى