أبحاث

برهان غليون أمام واقع الدولة العربية الحديثة والتحديثية/ جمال نعيم

المفكر والباحث السوري يسعى إلى تغيير المجتمعات ورسم طريق المستقبل انطلاقاً من خلفية نظرية

الجمعة 5 أبريل 2024

ملخص

يمثل المفكر برهان غليون ظاهرة فريدة في الحركة الفكرية العربية الراهنة، فهو يجمع بين البعد المعرفي والنظري العملاني في ما يكتب ويحلل، وهو صاحب تجربة غنية ومميزة في الممارسة السياسية، فهو لم يكتف بما لديه من عدة أفهومية في نقد أداء الأنظمة العربية ومعارضته إياه، بل نزل إلى الميدان ولم يتعامل في المقابل مع الواقع من دون إبداع ما يناسب هذا الواقع من ترسانة نظرية، ولعل كتباً مثل “خطاب التقدم، خطاب السلطة: فكرة الحداثة في الفكر الجيا.عربي الحديث” و”العرب وتحولات العالم” و”المحنة العربية: الدولة ضد الأمة” وسواها تمثل مراجع مهمة لا غنى عنها لفهم أحوال العالم العربي، سياسياً وفكرياً واجتماعياً وأيديولوجياً.

ليس برهان غليون مفكراً عادياً أو مجرد متخصص في علم الاجتماع السياسي، بل هو مفكر مناضل ومثقف ملتزم يسعى إلى تغيير المجتمعات التي يدرسها وحثها على طلب الأفضل، إنه إذاً صاحب قضية التزمها ولا يزال يناضل من أجلها، ولم يأت اختياره المجتمعات العربية ميداناً رئيساً لدراساته بالمصادفة، بل نجم عن انهمام قومي عميق بقضايا العالم العربي ومشكلاته. ويحاول غليون جاهداً أن يفهم فهم عالم متخصص حتى يستطيع أن يغير تغيير فيلسوف ومثقف، وغني عن البيان أن غليون صاحب تجربة غنية وفريدة في الممارسة السياسية، فهو لم يكتف بما لديه من عدة أفهومية في نقده أداء الأنظمة العربية ومعارضته إياه بل نزل إلى الميدان، كما لم يتعامل في المقابل مع الواقع من دون إبداع ما يناسب هذا الواقع من ترسانة نظرية، ولذلك يعمد دائماً إلى تعديل وجهة نظره وتطويرها بما يناسب الواقع الموضوعي وبما يناسب الواقع الميداني، فالمعرفة النظرية إن لم تحتك بالواقع وإن لم تنخرط في الحركة الاجتماعية عبر الممارسة السياسية المباشرة تبقى فقيرة وتجريدية.

من هو برهان غليون؟

ولد المفكر والمعارض السوري البارز برهان غليون في مدينة حمص، وفيها تلقى دروسه الابتدائية والإعدادية لينتقل من ثم إلى دمشق ويتخرج في جامعتها عام 1969 مجازاً في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ثم غادر دمشق إلى فرنسا فحصل على شهادة الدكتوراه – الحلقة الثالثة في علم الاجتماع السياسي (1974) من جامعة باريس الثامنة عن رسالة بعنوان “الدولة والصراع الطبقي في سوريا 1945 – 1970”.

وبعد مدة أعد أطروحته لنيل الدكتوراه -دولة في الفلسفة والعلوم الإنسانية التي كانت بعنوان “خطاب التقدم، خطاب السلطة: فكرة الحداثة في الفكر العربي الحديث” تحت إشراف فرانسوا شاتله، وإضافة إلى تخصصه في علم الاجتماع السياسي فقد نهل من الفلسفة وتغذى بشكل دائم من مائدتها الغنية.

منهجية فكرية

وعلى رغم تعمقه في الفلسفة لم يترك الواقع ولم يترك الميدان، ولم يدر ظهره للسياقات التاريخية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية والفكرية التي هي المسؤول الأول، في رأيه، عن تفسير ما نعانيه من تخلف وعجز وفشل في توطين الحداثة، ولذلك لم يعف النخبة الاجتماعية الحاكمة من مسؤولياتها عن استمرار التخلف وفشل التحديث، ولا سيما عندما استلمت السلطة بعد فترة طويلة من الاستعمار وراحت تعتمد نموذج الدولة التحديثية طريقاً إلى التطور والحداثة، وعليه رفض غليون تفسير ما يدرسه من ظاهرات بالرجوع لبنية فكرية خاصة بالعقل العربي لا تزال بشكل أو بآخر مهيمنة عليه ومتحكمة به كما قال الجابري، وبذلك لا يعفي غليون المسؤولين الذين تصدوا لإدارة الدولة من مسؤولياتهم عما وصلنا إليه من أوضاع مزرية، إذ لم نتمكن من توطين الحداثة في مجتمعاتنا، وفي رأي غليون فليس هناك من استثناء عربي يحول دون ذلك، كما أننا لسنا متمسكين بتراثنا وهويتنا أكثر من غيرنا من الشعوب، ولسنا ضد الحداثة فنحن منغمسون فيها حتى آذاننا، لكننا اكتفينا منها، في أحسن الأحوال، بالحداثة الشيئية ولم نعمل بشكل جدي على توطين الحداثة القيمية، ولقد اكتفينا بالآليات ونسينا القيم والمبادئ التي تصاحب هذه الآليات، وعليه فلا يمكن إغفال ديناميكية القوى التي تتحكم بالمجتمعات العربية، كما لا يمكن الركون إلى تفسيرات جاهزة وثابتة ونهائية.

يقول غليون في الصفحة 105 من كتابه “العرب وتحولات العالم”، “أنا أنطلق من مقاربة ترى أن ما يكون المجتمعات هو ديناميكية القوى، وأن فهم حركة المجتمعات رهن بفهم حركة هذه القوى والقواعد التي تحكمها والأهداف التي تدفعها إليها”، ومن ثم فيرفض غليون ما يسميه الحلول الجاهزة التي تقدم لحل مشكلاتنا المعاصرة، سواء أتت من تراثنا أو من الغرب المعاصر، فالمجتمعات تتغير باستمرار ومشكلاتها كذلك، وعلينا الانتباه إلى ذلك وابتكار الحلول المناسبة للمشكلات التي نعانيها، فما نفع في ماضينا ليس له بالضرورة أن ينفع في حاضرنا، وما نفع عند غيرنا علينا أن نرى إلى مدى ملاءمته مع واقع مجتمعاتنا.

يذهب غليون إذاً، كما ذهب فوكو من قبل، إلى تشخيص الحاضر أو إلى ما سماه فوكو أخيراً “أنطولوجيا الحاضر”، فيقول “البعد التاريخي مهم في فهم أية ظاهرة، لكنه ليس كافياً لفهمها ولا هو البعد الرئيس فيها، ومنهجي هو أن فهم الحاضر ينبغي أن يبدأ من تحليل شروط الحاضر والتاريخ أو الماضي يفسر تمايزات وتنويعات في النموذج الحاضر لا غير” (العرب وتحولات العالم) [ص11]. وعليه أخفقنا في الحداثة ولم نلجها فعلاً كما فعلت بقية شعوب الأرض، لكن ليس لأننا نعاني نقصاً أنطولوجياً في عقلنا يحول دون ذلك، بل لأن ما أنشأناه من حداثة كان عبارة عن مجرد حداثة رثة ومترددة وقابلة للتراجع إلى ما تحتها وإلى ما دونها، ولأن هناك سياقات تاريخية حالت دون ذلك.

بين غليون والجابري

يتهكم غليون، وهو المتخصص في علم الاجتماع السياسي، على نقد الجابري العقل العربي، ذلك بأنه لو اكتفى الجابري بالحفر عميقاً في الأرضية الأبستمولوجية للثقافة العربية لكي يفهم كيفية تكون العقل العربي في القرن الثالث الهجري لكان عمله رائعاً، أما أن يعد أن ما نعانيه اليوم من أزمات وتخلف يعود لبنية هذا العقل اللاشعورية اللاعقلانية، فهذا ما ينافي العلم ويتعارض مع أهم مكتسبات العلوم الاجتماعية والسياسية.

إن الادعاء بأن بنية العقل العربي قد تكونت في القرن الثالث الهجري، وأن هذه البنية اللاعقلانية اللاشعورية التي تكونت عصر ذاك لا تزال مهيمنة وفاعلة لهو ادعاء غير مؤسس ولا شيء يسنده، وهذا ما يناسب القيمين على الدولة لأنه يعفيهم، بوصفهم الفاعلين الحقيقيين، من المسؤولية، فغليون بدلاً من أن يحفر في بنية العقل العربي ليعرف لماذا وصلنا إلى هنا، ينزل إلى الميدان ويدرس السياقات التاريخية والمجتمعية التي أوصلتنا إلى هنا، ولم تأخذ بأيدينا إلى آفاق الحداثة، فيتبين له أن “الدولة الوطنية” التي نشأت بعد فترة الاستعمار والتي كان من المفروض بها أن تزرع فينا قيم الحداثة، أوصلتنا إلى هنا عندما تحولت إلى “دولة – مافيا” أو “دولة – وحش” أو “دولة – غول” وكانت حاجزاً منيعاً أمام كل تقدم، وعليه فإن ما نعانيه اليوم لا يعود لبنية ذهنية استثنائية خاصة بالعقل العربي تكونت في القرن الثالث الهجري ولا تزال فاعلة حتى اليوم، كما لا يعود لتعلق مجتمعاتنا العربية المفرط بالهوية، ولا حتى إلى مقاومة الإسلام العنيدة للحداثة، بل يعود أصلاً للدولة ذاتها، سواء القومية منها أو الوطنية، ذلك بأنها أنشأت حداثة مسخاً، حداثة رثة، وتحولت من “دولة نخبة” إلى “دولة طائفة”، ومن ثم إلى “دولة مافيا” مما حال دون توطين الحداثة في العالم العربي.

وبناء عليه حاول غليون أن يبين في كتابه “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة” [ص8] أن “السبب الرئيس لإعاقة مسيرة التطور والتقدم الحضاري والسياسي في المجتمعات العربية لا يكمن في مصدر آخر قديم ديني أو ثقافي، وإنما في الدولة التحديثية نفسها التي راهن عليها المجتمع من أجل تقدمه وتحريره”، بل يذهب أكثر من ذلك عندما يرسم أن الطائفية نفسها إفراز من إفرازات الحداثة الرثة أو حثالة الحداثة التي حاولت الدولة ترويجها. ورداً على الجابري يقول غليون، “إننا [في نظر الجابري] ثمرة عقل بني في الماضي، وبني بطريقة خاطئة سيطرت عليها العناصر الأجنبية الهرمسية، ولا مخرج لنا إلا بتفكيك هذا العقل وتدميره، وبانتظار تحقيق ذلك ليس هناك أي شيء يمكن أن نعمله” (العرب وتحولات العالم) [ص 270 ].

هكذا تعفى النخب العربية من مسؤولياتها وتقاعسها وعجزها، وبحسب طريقة الجابري تغفل الأسباب الحقيقية التاريخية والاجتماعية والفكرية المسؤولة عن إخفاق التجربة العربية التحديثية الراهنة، وهكذا تتحول الأفكار الجابرية الجديدة إلى ذريعة للهرب من المسؤولية، وباختصار فإن عقلنا الراهن، أي طريقة تفكيرنا والمشكلات التي يطرحها هذا العقل، أقرب إلى عقل معاصرينا منه إلى عقل أجدادنا، فنحن على سبيل المثال نتعلم في المدارس ما يتعلمه غيرنا في جميع بقاع الأرض، وعليه لا يمكن الركون إلى ما يقوله الجابري، ولذلك علينا دائماً أن ننزل إلى الميدان لنكتشف الأسباب الحقيقية الخاصة بكل ظاهرة على حدة.

في الدولة التحديثية

ظهرت الدولة التحديثية في فترات مختلفة من التاريخ المعاصر وفي بلدان مختلفة وأيديولوجياً وثقافياً ودينياً، ذلك بأن اتساع الهوة الحضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة دفع قادة هذه الدول وحكامها للتفكير في تسريع عملية النهوض من أجل اللحاق بركب الحداثة، فكانت الدولة التحديثية الحل الذي اعتمد في كثير من بلدان العالم الثالث مثل الدولة الشاهنشاهية في إيران، ودولة الحبيب بورقيبة في تونس، ودولة هواري بومدين في الجزائر، ودولة العراق صدام حسين، ودولة سوريا حافظ الأسد، ودولة مصر جمال عبدالناصر، إلى ما هنالك من دول حاول قادتها افتعال الحداثة ونقل المجتمع من التخلف إلى الحداثة بسرعة قياسية، ومن ثم منحت الدولة التحديثية صلاحيات استثنائية حتى يتسنى لها القيام بالمهمات التاريخية الموكلة إليها، لكن فشل الدولة التحديثية في مهماتها أدى إلى استئثار الطبقة البيروقراطية الحاكمة بجميع الصلاحيات وتوظيفها لخدمة مآربها الخاصة، مما حول الدولة التي كان من مهماتها توطين الحداثة والنهوض بالمجتمع إلى “دولة غول” ابتلعت الحداثة والمجتمع معاً، وقضت على كل أمل لدى الشعوب بالتغيير.

ميز غليون الدولة الحديثة الناجزة دولة القانون والمؤسسات والمواطنة التي تحركها القيم والمبادئ، من الدولة التحديثية غير الناجزة التي تسرع عملية اللحاق بالحداثة من دون أن تنجح في ذلك، وعليه فلا بد من تمييز “الدولة الحديثة الناجزة التي تحركها المبادئ والقيم، وتحكمها قواعد العمل القانونية والسياسية، ويتحكم بها مجتمع منظم تجاوز أزمة مراحل الانتقال من الدولة التحديثية غير الناجزة أو الفجة التي تحركها إرادة اللحاق بركب الحداثة والسعي إلى استيعاب وسائلها وتقنياتها، ويوجهها الاعتقاد أن قدرتها على إنجاز مشروعها مرتبط طرداً بتحررها من الضغط الداخلي، وابتعادها من آليات العمل الديمقراطية واحتكارها السلطة والقرار، وتخليها عن أوهام التمثيل الإحصائي، وتبنيها في المقابل مبدأ تجسيد الإرادة الشعبية الشعبوي المعبر عنه بالتطلع الجامح إلى الخروج من حال التأخر والفقر والبؤس التاريخية والراهنة” (المحنة العربية: الدولة ضد الأمة) [ص 8].

إن النخبة الاجتماعية التي قادت الشعوب العربية بعد مرحلة الاستعمار الخارجي كان حرياً بها أن تسعى إلى بناء وطن ودولة، لكنها انقلبت على المجتمع الذي راهن عليها، وتفردت بمقدرات الدولة التحديثية التي وضعت يدها على كل شيء في الدولة الوطنية من أجل تسريع نقل المجتمع من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم والحداثة.

وقد ظهر أفهوم “الدولة – الوحش” بشكل رئيس في كتاب “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة”، إذ قال غليون في مقدمة الطبعة الرابعة، “يمثل هذا الكتاب محاولة مبكرة لفهم الآليات والسياقات التاريخية والسياسات التي حولت الدولة الحديثة في فكرتها وتجسيدها المادي، من أداة للتحرر والانعتاق عند العرب إلى غول ابتلع الحداثة والمجتمع في الوقت نفسه، وأخضعهما لمصالح خاصة غير إنسانية، وأدى في النهاية إلى تفجير المجتمعات وتشظيها وتشتيتها.”

وخلاصة القول إن مشروع غليون الفكري يختلف عن مشاريع كثير من المفكرين والمثقفين العرب، ولا سيما مشروع الجابري، فقد ركز غليون على الأسباب الحقيقية الفعلية التي حالت دون توطين الحداثة في مجتمعاتنا العربية، ووجدها في الدولة التحديثية التي منحت صلاحيات استثنائية في حين استأثر القيمون عليها بهذه الصلاحيات، وحولوا الدولة الوطنية الوليدة إلى “دولة – وحش” أو “دولة -غول” قضت على المجتمع نفسه وعلى الحداثة، وفي هذا الجانب لم يغفل غليون السياقات التاريخية الجيوسياسية الاقتصادية والاجتماعية التي أسهمت في إخفاقنا وعجزنا.

اندبندنت عربية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى