نصوص

لأنّ لا أحد يعرف من أين ينهض/ توماس تسالاباتيس

ثُلاثاء الأشياء

عندما تجد نفسك في متاحف ألبا، فإن أوّل ما ستكتشفه هو الغياب الصارخ للأعمال الفنية. ابسط نظرك، دعه يتجوّل في الفراغ.

سرعان ما ستتعرّف إلى علامات ترقيم لم تكن مرئية قبل هذه اللحظة. سلسلة من النقوش ناتئة هنا، بجانب القواعد التي بلا تماثيل والواجهات الزجاجية الفارغة. لا تكلّف نفسك عناء فكّ رموزها. إنها بلا معنى، كما يبدو.

ثمّة كتابة منسيّة أو لا توصف. كلماتٌ لم يتمّ تداولها أو تمّ تداولها في زمن سحيق وأصبحت من الماضي. هنا، لا أحد يعرف ما إذا كان كلّ هذا يعني شيئاً.

في هذه الفسحة يتوه البشر. تتشعّب الخطوط المستقيمة، المتوازيات تتقاطع، وتغطي النقاطُ أسطحاً هائلة. عندما يتطلعون، ترتدّ نظراتهم إلى مظهرهم. عندما يحاولون قراءة الزخارف المحفورة، يباشرون مزج الذكريات والرغبات والمخاوف. وعندما يتفحّصون النقوش، ينتهي بهم الأمر بتفحّص بعضهم بعضاً.

(هتفنا كثيراً هذه الليلة لتأجيل التجاعيد، تجوّلت نظراتنا لتفادي النظر إلى الذات).

في هذه المتاحف، يأمل الناس في كلّ شيء ينسونه، في كل ما يبقيهم بلا حراك. في مثل هذا الفراغ يتدربون على الذهول. وبينما هم عُرضةٌ لهذا الذهول الجديد، ينتهي بهم الأمر بأن يتحولوا إلى أعمال فنية معروضة.

تقع هذه الضاحية خارج الجَردة. إنها تُضاف إلى ما يتمّ طرحه. هكذا تتراجع بقدر ما تكبر.

هنا يندمج الإلهام والانقضاء في نقطة واحدة ووحيدة. الكتل الهوائية وعلامات المرور المخفية، الزمن العمودي على خط الأرض وكل اتجاه عودة.

احذر من سقوطك هنا، لأنّ لا أحد يعرف من أين ينهض. صوتنا هنا ليس أكثر من رجع صدًى مضى. هذا الصدى التلقائي الذي لم يتمخّض عنه صوت. لذلك لا تقذف الحجارة إلى السماء. ربما تبصرها لاحقاً تنبثق بأقصى سرعة من رحِم الأرض.

أو من صدرك.

غالباً ما نجد في هذه الضاحية تنويعات مختلفة للصورة نفسها. رجلٌ ابتعد عن عُقدة الحشد، بعيداً عن الأنظار، بعيداً حتى حافّة رِمش. قابعاً في الزاوية، ليس هو في حالة الاستحالة، بل في حالة انعدام اليقين التي تتجلى لدى بدء العدّ. يعود السبب إلى أنّ والده مات شاباً. في هذه الساعة هو أكبر منه.

هذا المكان مدفونٌ ومحفوظٌ عميقاً بداخله.

ينظر الطفل إلى مواقع البناء. كان عاملاً في تلك الزاوية، ذات مرة، عندما كان كبيراً. أشياء قليلة لا تزال غائمة حتى الآن. ذاكرة المستقبل، علامةٌ في اليد، وربما ذلك هو ما تُذكِّر به هذه العلامة.

يضغط الطفل الآن بيديه على يدها. مثل العصافير التي تتشبث بأغصان الأشجار. ليس خوفاً من السقوط، أو لكي يظل متماسكاً، لكن لمعانقة كل الطيران المتبقّي من يومهما.

تلك الفتاة

تمشي الآن في طريق تحفّه أشجارٌ منتقاة

حافيةً ونصف عارية

مبقيةً قطراتِ المطر على شفتيها

وفسحةً تحميها من البلَل.

لكن بينما تتمشى، تعرف تماماً

أن الأشجار هي التي ترسّخ أنفاسَنا.

لهذا السبب تحمل الأوراقُ آهاتِنا.

■ ■ ■

صدى

السيد كراك لا يستطيع النوم. حشدٌ من شعب الهون يمنعه. القصة ذاتها، كل ليلة، ترهقه. الضجة ذاتها تسحب الملاءات. الضجة ذاتها تشعل الأضواء، وتفتح العيون. حوافر خيولهم تقتطع حجارة البلاطات. من أنوفها، ينبعث بخار الغضب. ونظراتها القاسية المكسوّة بالحديد، تبرِّدُ الدم. عندما ينظّفون نِصالهم المتّسخة بالبقايا البشرية، يتجمّد الدم.

الرعب عندما يشحذون سيوفهم، الرعب عندما يأكلون اللحم النيئ، الرعب عندما يحشون بنادقهم صارخين، الرعب عندما يغتصبون الرهبان، الرعب عندما يحرقون القرى، الرعب عندما يبنون إمبراطورياتهم. الرعب، خصوصاً، عندما يَسكرون ليلة زفافهم، غارقين في دماء أنوفهم المكسورة، بينما هم ينامون في حُلم لزج.

بالتأكيد، كل هذا حدث عام 450 بعد الميلاد، أي قبل قرون من ذهاب السيد كراك إلى الفراش.

(شروق الشمس مذبحةٌ، أيّها السيد كراك).

* Thomas Tsalapatis، شاعر يوناني من مواليد عام 1984. درس المسرح في “جامعة أثينا”. من مجموعاته الشعرية التي ترجمت إلى الفرنسية: “شروق الشمس مجزرة يا سيد كراك” (2011)، و”ألبا” (2015، الصورة). تسبح قصائد تسالاباتيس في أجواء عجائبية عبثية، وتتقدم بسخريتها السوداء في عالم يفتقد إلى المعنى، حيث يتهاوى كل شيء.

* ترجمة: ميشرافي عبد الودود

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى