أبحاث

الثورة السورية في عشريتها .. حكام هزيلون لشعوب منكوبة/ دلال البزري

تسمّرنا أمام التلفزيون أياماً وليالي وقت الثورة المصرية. وعندما سقطَ حسني مبارك، اتجهت أنظارنا نحو سورية. هل ممكن؟ هل تحصل الثورة هناك؟ هل يسقط بشار الأسد؟ كنا نتطلّع إلى هذا الشطر العربي الآخر بعين المتلهّف والجاهل، معتقدين، في مكان ما من إدراكنا، بأن سورية “تختلف”. ليس فقط عن بقية العرب، إنما تختلف عنا، نحن اللبنانيين، باعتبار نظامنا الفريد من نوعه، فيما نظامها الاستبدادي يحكمنا بـ”الوصاية”. ولكننا أيضاً، استناداً إلى سقوط مبارك السريع، استسهَلنا سقوط الأسد. نبكي حظنا اللبناني الذي أوقعنا بين رؤوس ديكتاتورية عديدة، بعدد طوائفنا: ويا ليته ديكتاتور واحد! فنلحّ على أصدقائنا السوريين: “هيا ماذا تنتظرون؟ متى تثورون؟”. حتى انفجر ذاك البركان السوري، ومعه أول شعاراته: “الشعب السوري ما بينْذَلْ” (لا يُذَلّ). وعندما رفعت الثورة لاءاتها الثلاث “لا للطائفية والعسْكرة والتدخل الخارجي”.. تعجّبنا بعض الشيء.

“لا للطائفية” أولاً: كيف تكون سورية طائفية؟ هي التي حكَمها بعثيون علمانيون؟ ولو من باب مماشاة الشعارات العلمانية بأدنى ما تتطلّبه الصورة الخارجية، وبأقصى ما يمكنه أن يغطي على الطغيان، وعلى وصايتها على لبنان، حيث أمعن حكّامها في توثيق الأطر الطائفية، أكثر مما هي موثّقة، فنحن اللبنانيين أوْلى بمحاربة الطائفية، نظامنا العريق. طبعاً فهمنا، لاحقاً، أن الطلاء العلماني كان هزيلاً ضئيلاً. تلمّسه السوريون بمجرّد العيش في سورية. وما إن انطلقت الألسن السورية إثر الثورة، حتى فاضت النصوص والشهادات الجديدة، وخرجت القديمة منها من أسوار المكتبات المغلقة.

الثانية، “لا للعسْكرة”، لا حاجة للمقارنة. تعسْكرنا من عقودٍ سبقت الثورة السورية. بحرب أهلية، بمليشيات طائفية تقرَّر إبقاء وجودها بعد نهاية هذه الحرب. واحدة بسلاحها الشرعي، والأخريات من دون سلاح. لكن بـ”روح” مليشياوية عالية. ثم سلاح “فردي”، غير منظّم، غير “الشرعي”. لكن العسْكرة التي تجنّبتها الثورة السورية أتت بالجديد منها. بعد إسرائيل وقوات الأسد الرسمية، تعسكرت سورية بجيوش روسية وتركية وأميركية، وبمليشيات إيرانية، أبرعها حزب الله اللبناني. والأخيرة، أي المليشيات، جديدة على لغة الاحتلالات. نشأت على محاربة الاحتلال. وهي اليوم تتدثّر ببدْلات المحتلين. وهنا تنقلب الآية ظاهرياً: إذ تبدو العسْكرة في سورية أكثر وضوحاً وتعقيداً في آن من العسْكرة اللبنانية. يخال إليكَ أن جيوشاً ومصالح غائبة عن الصراع الدائر في لبنان. ومع قليلٍ من التمعّن، سوف تلاحظ أن أساطيل وصواريخ وربما أيضاً قنابل نووية.. تدير مفاصل هذا الصراع. كما في سورية. وغالباً بالتناغم مع ما يحصل في لبنان وسورية من تبدّلات، ولو طفيفة، لموازين القوى.

اللاء الثالثة، “لا للتدخل الأجنبي”، هي أيضاً من ملعب الأقنعة: في لبنان اللعبة الخارجية مكشوفة، والتدخل الأجنبي لا ينْفيه أحدٌ من المتعاملين معه. فيما سورية الأسد استطاعت أن تقنعنا جميعاً، سوريين ولبنانيين، بأن الأسد هو حامي حمى قلعتَيه، السورية واللبنانية. مع اعتقاد لبناني بأن انسحاب الجيش السوري، قبل ست سنوات من اندلاع الثورة، سوف يحرّر لبنان من تبعية، ويقلّل من عدد المتدخلين في شؤوننا، أو يكشفنا على تدخلاتٍ أخرى. وهذا شعار رفعه حزب الله لمرحلة ما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، معدّاً نفسه لوراثة الهيمنة الأسدية، وبـ”كفاءة” عالية، حتى هذه اللحظة.

وكان من سذاجة بعضنا، ربما مللاً من الطوائف “التوافقية، الديموقراطية”، أو كفراً بها: من أن تفخيخ السياسة بالمراوغة وانتحال الشخصية والكذب والتضليل، لا تصدر عن ديكتاتور وارث، تسلّطه على المكشوف، وأن هذه صفات الساسة اللبنانيين، أو “النخبة” اللبنانية. لكن بشار الأسد نجح في إسقاط اللاءات الثلاث بأشدّ ما يمكن للبشر اختراعه من سُبل. وهنا لا أتكلم عن إجرامه البواح. وهذه صفة كان السبّاق إليها، بل نموذجاً يُحتذى. كان يختلف عنه زعماء الطوائف اللبنانيون، ولكنهم تمكنوا، في الآونة الأخيرة، من اللحاق به. أولئك الزعماء لم يعودوا يتوانون عن أخذ اللبنانيين إلى الموت، بصفته “قدراً” عند وزير، أو حادثة عابرة لا معنى لها عند آخر (“قتلتُ رجلين…” قال الوزير للمذيع على الشاشة). هذا إذا تكلموا. وإذا صمتوا، مارسوا القتل عمداً، أو جالسين في الزاوية، يسبحون في بحر صراعاتهم الخاصة لنيل غنيمةٍ مما تبقى من موارد لبنان. وعند الاثنين، السوري واللبناني، لصوص المساعدات الإنسانية، يعيثون فساداً في الأرض.

على صعيد الأشخاص والأمكنة الآن. كشفت الثورة عن الشعب السوري بأكمله، بقراه ومدنه وجباله ووديانه. وكشفت عن مجموعاتٍ، أشهرها التنسيقيات، هي ابنة لحظة ثورية بامتياز. لم تعش، ولكنها صارت إرثاً لا يُبدّد. كشفت عن المثقفين وعن الشخصيات. بعضها بلغ صفة العالمية. بعضها الآخر سطع نجمه ثم خبا. ومصائرهم تُروى. سيَر حياة صاخبة. وأفراد وأيقونات، غاب بعضها، وبعض آخر ينتظر الموت ليكرَّس. في المقابل، تعرّض اللبنانيون لأقدار مختلفة. تأخروا مع ثورة 17 تشرين. ولكن لم تبرز من بينهم مجموعات بعينها. ولا لعب المثقفون من بينهم الدور المطلوب منهم تقليدياً. الطاعنون في السن، كما الشباب، وعددهم أقل، تساوت درجة أدوارهم.. بعضهم عوّض عن ضآلة الدور في ميدان الشاشة الصغيرة. وهذه من عيوب الإعلام اللبناني المرئي، “الحرّ، المتعدّد”، جاذِب الوجوه، من دون عقولها، أو حتى عقولها الخلفية.

والأهم من ذلك أن الردّ على الثورة بالمجازر أخرج السوريين عُنْوة من بلادهم، ووزّعهم على نواحي المعمورة، فكانت الفرصة لعديدين منهم أن ينطلقوا، ويضخّوا على الثورة تأريخاً ودروساً، ويستمدوا من ثقافة البلد المضيف ما في وسعهم أن يتعلموه. في الضفة اللبنانية، يصعب أن تجد مثقفاً خرج من بلاده بعد ثورة 17 تشرين. وإذا قابلتَ رغبته للهروب من بلده، فليس أمامه سبل هينة، أو جماعية، في هذه الأوقات بالذات. وعلى كل حال، أي مواطن لبناني طافش من بلاده سوف يسمى “مهاجراً”، فيما السوري لن يكون سوى “منْفي”. وكأن التسميتين تشيران إلى مستقبل العلاقة مع الوطن الأم. المنفي لن يعود إليها، فيما المهاجر قد يعود.

مشتركات أيضاً: الصراع المذهبي بعد ذبح الثورة السورية. الأكثر توافقاً مع الواقع أصوليتَان، الشيعية والسنّية. ولكلتيهما داعمون خارجيون، إقليميون. مع فرق بين الإيراني والتركي، بتفوق الأول على الثاني في مناح كثيرة. مع سؤال: هل كان يمكن توقع أن يكون الردّ على تدخل مليشيات مذهبية رداً “علمانياً”؟ وليس “فزعة” لنصرة “أهل السنة” بوجه المليشيات الشيعية؟ تؤجّج المشاعر السنّية اللبنانية ما يغري جماعاتها للانضمام إلى المجموعات السنّية المختلفة، أو على الأقل استبطان طرقها وفكرها.

آخر المشتركات هم الفلسطينيون. السوريون من بينهم وجدوا فجأة أنفسهم في مخيمات الفلسطينيين اللبنانية. البلدة الفلسطينية الرمز، اليرموك، ولطالما أحبّت سورية، حوصرت وجوّعت وفُرغت من أهلها، وخرج جلّهم إلى لبنان، حيث لم يجدوا لاستقبالهم غير أندادهم، من لاجئي 1948 الفلسطينيين. وأملهم بالعودة إلى الديار التي عاملتهم معاملة العروبة في بداية عهدها يقلّ عن أمل السوريين أنفسهم.

وبنتيجة ذلك كله، عُجِنَ السوريون واللبنانيون، ومعهم الفلسطينيون، في عجينة واحدة، عنوانها الخراب والفقر والتشرّد والغربة والوباء والموت… لن تنتهي سورية عند هذا الحدّ من التشابك مع لبنان. ثورتها مهزومة الآن. مثلها مثل اللبنانية. لكن أعداءها لم ينتصروا، على الرغم من قرارات الموت التي في حوزتهم. يتفنّنون بها ويبالغون بما يكفي لإهلاكهم. ليصبحوا حكاماً هزيلين لشعوب منكوبة.

العربي الجديد

فرع الأمن بوصفه حقلاً لتأريخ الأفكار والاجتماع/ نائلة منصور

قبل حوالي السنتين، وعند قراءتي لكتاب/دليل صغير بعنوان؛ كيف تُسقِطُ ديكتاتوراً حين تكون صغيراً، وحيداً ودون سلاح، لناشط وكاتب صربي هو سيريا بوبوفيتش (Srdja Popovic)، لفتني إيرادُه في بعض صفحات كتابه عن لقائه، بصحبة زميل له من مؤسسة كانفاس للمقاومة اللاعنفية، بمناضلين/ ناشطين سوريين من «الصف الأول» بحسب تعبيره، أسسوا للحركات المقاومة الصغيرة التي تمت في دمشق بين عامي 2011 و2013، مثل إلقاء كرات البينغ بونغ من أعلى شوارع المهاجرين باتجاه دمشق، وصبغ مياه بحرة ساحة السبع بحرات أمام المصرف المركزي في دمشق، ليصنع رجال الأمن من أنفسهم مهرجين بلحاقهم بالكرات أو بانتظار التعليمات للتصرف حيال مياه السبع بحرات أو مكبرات الصوت التي تصدح بأغاني معارضة في دوائر الدولة الرسمية. ربما يكون ضمن الري العام السائد الكثير من الأشياء يُمكن أن تُكتبَ وتُحلَّلَ حول تعبير «الصف الأول»: من هم؟ 1 كيف التقاهم الناشط الصربي؟  وعبر مَن؟ وهل التقى بغيرهم؟ وهناك كذلك الكثير ليُقال عن كيف أن طبيعة توجه المناضلين والناشطين في العالم المركزي الأول تحاول أن تُسبِغَ على الناس في العالم غير المركزي، في بلداننا مثلاً، صبغتها الخاصة لتعطيها شرعية. يمكننا أن نختبر ذلك بالعدد الكبير للصفحات الأناركية على الإنترنت، التي تتحدث عن عمل عمر عزيز في تأسيس المجالس المحلية والحوكمة الذاتية اللاسلطوية. عمل عمر عزيز أساسي وملهم للغاية في لحظة تأسيس المجالس في ريف دمشق، وتعود الكثير من أفكاره إلى كتابات روزا لوكسبورغ والأدبيات حول الصمود اللامركزي في أحياء باريس أثناء أحداث الكومونة. لكن،  فيما بعد، تلقت المجالس المختلفة في محليتها وخصوصياتها فكرة المجالس المحلية وأقلمتها بطريقة نسيت فيها فكرة اللاسلطوية والكومونة و مرجعية عمر عزيز، ولكن الأدبيات السياسية الغربية اللاسلطوية التي تتحدث عن سوريا بقيت ترجع الفكرة في كل صورة لها إلى فكرة عمر عزيز الأولى.

ليس كل ما سبق بالمهم. حين قرأتُ تلك السطور، تذكرتُ كيف يقهقه كثير من السوريون الذين أعرفهم من تلك التفاصيل، «الدمشقية» سيقول قائل، «المنمنمة حتى المجهرية» سيقول آخر، حال قائلي ذلك هو حال المستشرقين حتى الأكثر تقدميةً منهم، الذين لا يرون في بلادنا أي تفاعلات مع أفكار كونية وعالمية ولا أية محاولات سياسية نضالية ذات أهمية، إلا القوة الكبرى الإسلامية الطابع أو الإسلامية التنظيم، التي يمكن أن تؤثر سياسياً، وربما من بعدها الأفكار القومية التي تبلورت حزبياً في القرن الماضي. الأفكار الدينية التي كان يُعلي من قوة فعلها محللون وصحفيون في أول الثورة السورية، عندما كانوا يقهقهون من «النيش» المدني اللاعنفي النخبوي غير ذي المعنى، والذين انتقلوا فجأة، بسلاسة ملفتة دون محطات، إلى القول بأن الثورة الرثة قيمياً لم تنتج أي فكرة. من البديهي بحسب السابقين أن لا أحد في بلادنا يتفاعل مع أي أفكار عالمية. كذلك، الكثير من «اليساريين» الأصيلانيين يستخفون بوزن الأفكار العالمية وكيف تُستقبَل وتُأقلم في بلدنا، يستخفون بكمّها وبثقلها في ثقافاتنا. في مقال سابق ذكرتُ أن في هذا التغييب عنف، لكن يجب قول أن كثافة الأحداث وهولها و تسارعها في بلداننا يُحدث عماء عن «المجهريات» من الأفكار المتناقلة، التي بـ«التزويم» عليها وربطها ببعضها يمكن فهم أشياء أكبر، وأحيانا بعيداً عن الأفكار بحد ذاتها، نفهم عن الاجتماع والتاريخ الاجتماعي والفاعلين الاجتماعيين وناقلي الأفكار المشتغلين في الحقول الثقافية2.

2. من الذين اشتغلوا على ربط تاريخ الأفكار والمفاهيم وتطورها وتلقيها عبر الترجمة بالتاريخ الاجتماعي هو الفيلسوف الألماني راينهارت كوزوليك Reinhart Kosellek، إلا أن أي تاريخ هو تأريخ اجتماعي، كما يقول الفيلسوف نفسه في مقال شهير حمل عنوان ” التاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار”، فبتأريخ كارل شميت للتشريعات كان يؤرخ للتاريخ الاجتماعي كذلك.

في مقال للباحثة  دوناتيلا ديللا راتا على الجزيرة عام 2012، الذي ترجمه إلى العربية تجمع المترجمين الأحرار، يبتسم معتصم أبو الشامات، العضو في الحراك السلمي، حين تسأله الباحثة إن كان قد قرأ كتاب جين شارب: من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، ويقول لها إنه أحد المراجع الأساسية لحركتهم، ولكنه لا يذكر مسار التأثير ومن بدأ بهذا التثقيف واقتراح القراءات. في الخاتمة، نقرأ أن النضال اللاعنفي قد ابتدأ وألهم الحركات اللاعنفية مع جودت سعيد وأفكاره التي بدأ بنشرها في الستينيات. في تقرير أشرفت عليه مؤسسة دولتي حول النضال اللاعنفي في سوريا، يُذكَر أن الثقافة اللاعنفية في سوريا غير شائعة قبل 2011، ومن التوصيات التي يوردها التقرير في نهايته، حثُّ المنظمات المحلية على زيادة الارتباط بالمنظمات العالمية اللاعنفية وزيادة العمل على التثقيف الاستراتيجي والعمليات التكتيكية.

بنظرة سريعة، فعلاً… ما الذي يمثله النضال السلمي اللاعنفي في بلادنا؟ وبالمناسبة، تمايزَ اللفظان بعض الشيء مع مرور الوقت، فأصبح كل عمل مدني حتى ضمن الإطار المسلح يقال عنه سلمي، واللاعنفي بقي مصطلحاً تقنياً إلى حد ما، يستدعي مخيالاً غير محلّي وأحياناً قد يوحي بلغة «إنجِوأوزية». نرجع لسؤال ما الذي تمثله هذه الأفكار البؤرية في ثقافة المقاومة في بلداننا؟ في الحقيقة هي تمثل تماماً موقعها البؤري المجهري في خارطة المتداول من المفاهيم، وشبكات علاقات حامليها مع المجتمع ككل، ومصادرهم وما يمثلونه في مجتمعاتهم المحلية الضيقة أو على الصعيد الوطني.

شباب داريّا  الذين تتلمذوا على يد الشيخ عبد الأكرم السقّا، المتأثر بدوره بفكر الشيخ جودت سعيد، وبدأوا بنشاطاتهم التثقيفية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبرزوا في الفعاليات المدنية التي قاموا بها إبّان الغزو الأميركي للعراق واعتقلوا إثرَ ذلك عام 2004، يمثلون تجربة متفرّدة ضمن التيارات الدينية المتنورة، وتفردوا كذلك في تجربتهم الثورية كأمثولة للنضال المدني. لهذه التجربة سياقها في تطور فاعليات التيارات الدينية التي قُمعت في الثمانينيات وبحثت لنفسها على هامش فعل حينئذ، وفي سياق بداية الألفية، حين كان الوضع السياسي في المنطقة يتغير بسرعة، كما تتحدث الباحثة كارولين دوناتي في مقالها تحت عنوان «شباب داريّا، التكوين والقرابة مع الحركة اللاعنفية في سوريا»، والتي تظهر أن الأفكار اللاعنفية لم تأتِ من العدم في لحظة 2011.

إلا أن هذه الخيط المجهري من الفكر اللاعنفي، الواصل بين الشيخ عبد الأكرم السقا وجودت سعيد وشباب داريّا، وازاهُ خيط آخر في سياق آخر؛ من هم ناقلو هذه الأفكار؟ ما هي خلفياتهم السياسية والمعرفية؟ وما الذي يدفعهم في قناعاتهم؟ في العام 2007، صدرَ عن دار الحقوق المدنية في بيروت، بالتعاون مع دار معابر وبدعم من مؤسسات لا عنفية دولية، قاموس اللاعنف من تأليف جان-ماري مولر، مترجمه محمد علي عبد الجليل، عضو مجلة ودار معابر. والقاموس من مراجعة ديمتري أفييرينوس، أحد مؤسسَي مجلة معابر الالكترونية مع أكرم الأنطاكي. محمد علي عبد الجليل هو خريج أدب فرنسي في جامعة دمشق، أكمل دراسة الدكتوراه في فرنسا في العلوم الترجماتية بإشراف الأستاذ المستعرب ريتشارد جاكمو في جامعة إكس بروفانس.

عن تجربة هذا الكتاب التي يرويها المترجم ضمن روايته عن علاقته بمعابر، يقول محمد علي عبد الجليل إن الكتاب المُترجَم لم يتلقى موافقة وزارة الإعلام في سوريا لنشره وتوزيعه  ضمن البلد، فطُبِعَ في بيروت ووُزِّعَت النسخ العربية بشكل غير رسمي في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق. ويبدو أن اعتراض الوزارة كان على مادة العصيان المدني تحديداً ضمن القاموس، غير أن الوزارة نفسها، بعد سنتين، رحبّت بقوة بكتابه المترجم الثاني اللاعنف في التربية، وتم توزيعه على مدارس وزارة التربية. وترجم عبد الجليل للمؤلف والناشط  الفرنسي نفسه جان-ماري مولِّر عام 2011 كتاب غاندي المتمرِّد: ملحمة مسيرة المِلْح.

في جولة على مجلة معابر، يمكن استطلاع الكمّ الغني من المضمون النظري والأقل نظرية في ثقافة النضال اللاعنفي، من الممكن حتى أن نقرأ محاضر افتتاحيات الورشات التدريبية حول الاستراتيجيات اللاعنفية التي تمت في سوريا، لنرى أسماء وخلفيات المشاركين وطبيعة ارتباطهم بالآخرين المتواجدين معهم في الورشات، أو بِدُعاة اللاعنف الموجودين في مواقع آخرى في سوريا، مثل الأب باولو في دير مار موسى الحبشي، والذي يعتبر – بحسب ما ورد في افتتاح الجلسة التدريبية الأولى عام 2008 – من «الأصدقاء»، ويُعاد نشر مقابلات معه ومواد عنه نُشرت في مواقع أخرى. الموقع ليس أبداً نازعاً للسياسة. في إصدار خاص، نقرأ مثلاً ملفاً خاصاً عن الديمقراطيين السوريين في تاريخ سوريا، عن الأعلام الذين اشتغلوا بالسياسة من أجل تحول ديمقراطي لا عنفي.

ولِرسم صورة أدق عن الطبيعة  الاجتماعية لهذا «الحقل» الفكري والثقافي المجهري الذي كان يتم فيها تلقي الأفكار العالمية، وأَقلمتها محلياً وربطها بسياق اللحظة، يفيد أن نقرأ مذكرات أكرم أنطاكي، الذي أسس مع ديمتري آفييرينوس مجلة معابر كما سبق الذكر. ولد أكرم أنطاكي عام 1945 في عائلة حلبية من أصول يونانية توطنت حلب منذ منتصف القرن الثامن عشر، وهو ابن بيت سياسي. أحد أولاد عموم أبيه هو نعيم الأنطاكي، المنخرط في الكتلة الوطنية إلى جانب إبراهيم هنانو إبّان الاستقلال؛ وعمه رزق الله أنطاكي النائب في مجلس الشعب ووزير المالية والاقتصاد في أعوام 1954 و1955. انتقلت أسرة جد أكرم أنطاكي لتعيش في دمشق مبكراً، ليشهد أكرم نصف قرن مضطرب ومتسارع سياسياً بين استقلال وحكومات بعد الاستقلال والانقلابات والوحدة والانفصال واستلام البعث الحكم في 1963، وهزيمة 1967 التي حمل فيها بندقية بخمس رصاصات مع رفيق له ليدافعوا عن مبنى الهاتف الآلي في شارع النصر. إلى أن وصلت «الحركة التصحيحية» وقلق السبعينيات، الذي انتهى بتمكين الحكم عبر المجزرة والمعتقل السياسي.

درس أكرم أنطاكي في المدارس الفرانكوفونية التبشيرية، أولها الفرير حيث درس عمه رزق الله، ومن ثم في مدرسة الآباء العازاريين في باب توما، حيث التقى بمدرس الاجتماعيات ندرة اليازجي، الذي أصبح فيما بعد كذلك واحد من أساتذة ديمتري أفيرنييوس في مدرسة اللاييك، شريك أكرم في تأسيس معابر. ونُدرة يازجي كاتب وفيلسوف اشتغلَ كثيراً في فلسفة الأديان. في الفرير ومدرسة العازرية دَرَّسه آباء فرنسيون ولكن بمشارب فكرية مختلفة، أحدهم التزم كأبِ، مثلاً، هرباً من الجيش والجر إلى حرب الجزائر. كان لأقرانه، ومنهم فاروق مردم بك على سبيل المثال، الذي درس في مدرسة اللاييك وتأثر بالثقافة الفرانكوفونية وبالفلسفة النقدية الفرنسية، أثرٌ كبيرٌ على توجهاته السياسية، فهذا الأخير هو الذي نَسّبه إلى الحزب الشيوعي السوري في أوائل الستينيات، ليصبح من القيادات الطلابية في الجامعة وكلية الهندسة المدنية على وجه الخصوص، ويخوض بالتوازي مع أخته الأديبة إكرام أنطاكي، الرفيقة في الحزب هي الأخرى، عشرين عاماً حافلة بالنشاط الحزبي البكداشي، والذي يُقيّمهُ في آخر كتابه ذاكرة الباطن بـ «الساذج والعقيم»، بعد أن اكتشفَ فسادَ أطر الحزب ومنفعيتهم وزبائنيتهم وتبعية الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي. واكتشف كذلك، أثناء عمله كمهندس مشرف في جزء من عمل سد الفرات ومن ثم مشرفاً على بناء جسر الميادين وبعض السكك الحديدية، ومن ثم أثناء إشرافه على مشفى الأسد الجامعي بدءاً من  منتصف الثمانينيات وحتى التسعينيات، تسوَّسَ النظام فساداً ونهباً.

لقد تم تصريف الطاقات النضالية الحزبية اليسارية في سوريا بعد التسعينات في أقنية متعددة. هناك أفراد تحولوا نحو الدين؛ وآخرون تحولوا للانخراط في نضالات عابرة للأقطار والقوميات مثل حركة مناهضة العولمة مثلاً، التي كان معظم أفرادها من حزبييّ العمل الشيوعي؛ وبداية التفكير بالعمل الأهلي وإحياء لجان المجتمع المدني. في تحول أكرم أنطاكي، الذي يصفه هو نفسه بالعودة إلى الذات، تأثيراتٌ ثيو-فلسفية  وفلسفية نفسانية تسعى من جديد إلى كونيةٍ ما، بعد أن كان أكرم نفسه الطالب المتحمس في الستينيات يجهد لحماية المشروع الاشتراكي في البلد بمنع اختراقه من عناصر يسارية طفولية من البرجوازية، ويعلي من شعار أن القومية هي حامية للاشتراكية. في نهاية مذكراته، يقول هو نفسه إنه بدأ يقرأ عن الماسونية وكل الأفكار التي تحاول الفعل دون عنف، وعاد كذلك إلى مصادره المسيحية التي كانت مُحيَّدَة لمدة ربع قرن. من الواضح أن التاريخ العسكري، وفشله فيما عدا في إرساء القمع على سكانه، أثقلَ بخيباته على أكرم أنطاكي. في الخيبات الجمعية يستدعي الفاعلون السياسيون والثقافيون مصادرهم وخلفياتهم بتأثير اللحظة الراهنة.

في تجربة معابر الموازية زمنياً لتجربة الأكرميين في داريا، كانت المصادر نخبوية وكوزموبوليتية (ديمتري وأكرم يمثلان نموذجاً مشرقياً منقرضاً لسوريين من أصول يونانية، ناطقون بلغات مختلفة، مرتاحون مع ثقافة المدن الكبرى مثل حلب ودمشق وبيروت ويتنقلون بينها براحة، لغوياً وفي طرائق عيشهم)، بتأثيرت فرانكوفونية واضحة (ناطقون بالفرنسية، المركز الثقافي الفرنسي، المدارس التبشيرية ومدرسة اللاييك)، وبتأثيرات تكوين تعليمي وأدوات قراءة للعالم تكونت قبل البعث في بيئات سياسية مدينية نخبوية، وقدرة على التقرّب وتعبئة نخب مثقفة مدينية معينة، ورأسمال معرفي اجتماعي أهمّه اللغات ومهارات الاتصال مع العالم والمنظمات العالمية الداعمة للأفكار الكونية. ولا يمكن نكران أن المنبت المسيحي، في بحثه عن مخرج كوني في مواجهة تهديدات أولية وأزمة هوية سياسية إسلامية قد لعبَ دوراً مهماً في هذا التحول.

على الرغم من اتصال معابر وهذا الموطن المصغر لنشر أفكار النضال اللاعنفي مع حاملين آخرين لنفس الفكر، مثل الأب باولو أو الشيخ جودت سعيد، الذي اتصل بجان ماري مولر عبر معابر وبث فيديو عزاء عند وفاة أكرم أنطاكي، إلا أن هذه الجُزُرَ الصغيرة لم تصبح يوماً حقلاً، شأنهم شأن أي جزيرة أفكار في بلادنا. لدينا انطباع خادع أنها متنوعة وغنية، ولكنها في النهاية غير مرئية لأن الشرط الأساسي الذي صنعه النظام هو أنه الحقل الأساسي للمرئية الفكرية. دور النشر قد تطبع منشوراتها بعد موافقة ما أو تدبير ما، لكنها لن تُباع إلا في مراكز ثقافية وفي أعشاش بحيث يبقى التجزّر هو المشهد العام، ويبقى «الحقل» بمعنى المرجعية في المشهد العام الجامع لعموم السوريين هو الرقابة في وزارة الإعلام وأفرع الأمن الذين يدققون بأهمية مدخل «عصيان مدني» في قاموس اللاعنف عام 2007.   

1. هي حركة أيام الحرية، امتداد وواحدة من تجمع الحراك السلمي السوري، يمكن الاطلاع على مختلف فعالياتها في عدة مقالات، منها المنشور في موقع حكاية ما  انحكت. وفي موقع عنب بلدي هناك أرشيف عن الحراك السلمي السوري، والتي يُّعد مؤسسوها من الفاعلين في الحراك السلمي السوري. في واحدة من مقالات هذا الأرشيف التي تستعيد محطات الناشط نبيل الشربجي، نجد أسماء أخرى لناشطين سلميين آخرين. يُذكر أن أهم الناشطين السلميين هو يحيى شربجي ونبيل شربجي. وهناك حساب فيسبوك للحراك السلمي السوري. كما أنه كان هناك خارطة تفاعلية للحراك السلمي في سوريا، أعلن عنها على موقع منظمة العفو الدولية.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى