صفحات الحوار

مهنّد حاج علي: نخشى من رهان روسيّ على اجتراح دورٍ ما للنظام السوريّ في لبنان

غسان ناصر

ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، هو الكاتب والمحلّل السياسيّ والباحث الأكاديميّ اللبنانيّ الدكتور مهنّد الحاج علي، الحاصل على ماجستير في دراسة الصراعات، ودكتوراه في السياسة المقارنة، من كليّة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة (LSE).

ضيفنا درّسَ مادة العلوم السياسيّة والصحافة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة سابقًا، وشغل منصب رئيس تحرير موقع (NOW) باللغة العربيّة، وعمل محرّرًا سياسيًّا ومراسلًا في صحيفة “الحياة” اللندنيّة، في مكتبَي بيروت ولندن، حيث ركّز عمله في الغالب على الشؤون العراقيّة والإسلام السياسيّ. وهو في هذا الحوار يكشف لنا أنّه “لا يُمكن لأسباب ديموغرافيّة، بالمقام الأول، تكرار التجربة اللبنانيّة في سورية”؛ حيث “لا وجود لمجتمع شيعيّ متواصل جغرافيًّا في سورية، ولا قدرة على تغيير ذلك”. ويرى أنّ “الادّعاءات بتشيّيع سوريّين هي مزحة، ولا يُمكن أخذها على محمل الجدّ، بالرغم من استثمار القوى الإسلاميّة فيها، واستخدامها كوسيلة دعاية لاستجلاب الدعم أو الاستقطاب”. مؤكّدا أنّ لروسيا القدرة على تقليص الوجود الإيراني، والتخفيف من وطأته، لكنّ أحدًا لم يضع ثمنًا لذلك لموسكو وللنظام أيضًا.

وشدّد حاج علي على أنّ الدور الإيرانيّ في لبنان يشمل دعم قوّة مسلّحة تستخدم العنف لأغراض سياسيّة، علاوة على تمويل شبكة مؤسّسات هدفها خلق تبديل جذريّ في الهويّة المحليّة، وربط جماعة سكانيّة بالخارج…

هنا نصّ الحوار..

قامت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ضدّ شموليّة فساد الطبقة الحاكمة في البلد، ماذا عنت لكم هذه الثورة، على الصعيدين الشخصيّ والعامّ؟ وكيف كانت نظرتكم إليها؟

كانت الثورة، بالنسبة إليّ وإلى كثيرين غيري، حدثًا مفصليًّا ولحظة ذروة لعملٍ تراكمي في رفض السلطة وممارساتها على مدى السنوات الماضية. أنا من جيل وُلد في زمن الحرب، ولم يعرف في حياته سوى هذه الطبقة السياسيّة ووجوهها. ولهذا كانت لحظة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بشعاراتها ورفضها السلطة السياسيّة بكل أركانها، نقلةً نوعيّة في العمل السياسيّ، لم نشهد لها مثيلًا. والثورة أو الانتفاضة أنتجت حالة سياسيّة مرتبطة بها، وتجترح أدبيّات خارج المألوف، إن كان لجهة تقديم أوراق سياسيّة واقتصاديّة ولغة بعيدة عن الاصطفاف الإقليميّ الذي عرّف السياسة في لبنان بعد غزو العراق وحركة (14 آذار) والانسحاب السوريّ من لبنان، ولم يشهد لبنان أو الساحة السياسيّة فيه، هذا الخروج عن المألوف، والذي نراه اليوم. وهذا يعني لي الكثير شخصيًّا، ويبعث على الأمل بوعي سياسيّ مختلف قادر على النهوض.

على المستوى العامّ، العمل السياسيّ تراكمي، ومن الصعب إلغاء حدث بحجم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بالرغم من التراجع الحالي الذي نشهده اليوم. والحقيقة أنّ هذه اللحظة الاحتجاجيّة كانت كاشفة لمدى نفوذ وتغلغل القوى المهيمنة على القرار اللبنانيّ، ذلك أنّ الانتفاضة انكشفت أمام شبكة إعلاميّة – ماليّة – دينيّة – سياسيّة، انقضّت عليها بتصميم للدفاع عن الواقع الحالي. لكنّ حجم التحوّلات في البلاد لا يسمح بانتصار حاسم للسلطة ضدّ الانتفاضة.

إدارة بايدن… وجمود في الملف السوريّ

هدف الثورة المنشود الذي قامت من أجله هو تغيير نظام الحكم في لبنان (الذي هو نظام متصف برمته بفساد سلطويّ شامل) والمجيء بنظام حكم وطنيّ أفضل؛ هل تعتقدون أنّ من الصعب تحقيق هذا الهدف في ظلّ الأوضاع الراهنة؟ وما الحلول الممكنة بتقديركم؟

من الصعب اجتثاث الطبقة السياسيّة برمتها في ضربة واحدة، وخلال فترة زمنيّة محدودة، فضلًا عن إبدالها بالشكلِ المطلوب (وهي مهمّة تتّسم أيضًا بصعوبة بالغة). العمل السياسيّ تراكمي، ويجب أن يأخذ في الاعتبار حجم المجهود والصبر المطلوب لمواجهة طبقة سياسيّة تتجاوز في نفوذها الأحزاب التقليديّة إلى المجتمعات الحاضنة وهويّاتها، علاوة على بنائها شبكات مافيويّة داخل مؤسّسات الدولة كافّة، باسم الطوائف.

من هذا المنطلق، كانت الثورة كاشفة لحجم السلطة وجذورها في المجتمع من جهة، وأيضًا، للمهمّة المُعقدة الملقاة على عاتق من يريد التغيير. صحيح أنّ هناك قدرة على ممارسة العنف بحقّ المشاركين في الانتفاضة، وهذا كان جليًّا خلال الفترات الأخيرة، وقد يردع كثيرين عن المواجهة في الشارع على الأقلّ. ولكن أيضًا هناك فرصة مواتية لمقارعة السلطة لسببين: الأول أن الطبقة السياسيّة في مرحلة انتقاليّة، إذ يُحاول أركانها نقل الزعامة إلى الأبناء أو الأصهار، كما الحال مع رئيس الجمهورية ميشال عون. وهذه ليست بالعمليّة السهلة، وتفتح الباب أمام انقسامات داخل الأحزاب والقوى، وبين الورثة وبين كوادر ومسؤولين أكثر قدرة على الحشد. لهذا، تنطوي هذه المرحلة الانتقاليّة على صعوبات، لا بدّ أن تفتح ثغرات في جدران هذه الزعامات. ذلك أنّ القادة الأساسيّين بنوا أسماء وزعامات وسرديّات فئويّة عمادها تاريخ دمويّ في الحرب، مكّنهم من الاستمرار خلال العقود الماضية. وهذا الأمر غير متوفر للأبناء اليوم. والسبب الثاني أن التحوّل الاقتصادي بعد الانهيار سيكون بُنيويًّا، وإن تقلّص الحجم الكلّي للاقتصاد. وسيحمل هذا التحوّل، من الاقتصاد الريعي إلى نمط إنتاجي، انعكاسات سياسيّة لن تكون غالبًا لمصلحة القوى السياسيّة. لن تتمكّن السلطة السياسيّة من استخدام سلاح التوظيف بالقطاع العامّ بالطريقة ذاتها. وهذا ينسحب أيضًا على الخدمات العامّة وتوزيعها بين الناس.

ومثل هذا الواقع الجديد يفرض على القوى السياسيّة اللجوء إلى مزيد من العنف، لمقاومة التغيير مع تقدّم الانهيار. ولهذا أيضًا ثمن شعبيّ، وفي العلاقة مع العالم الخارجيّ. ولهذا، من المنطقيّ أن يضيق فضاء السياسة في لبنان، ويعود الى أصوله والهويّة الميليشيّويّة لأركانه. لكن هذه محاولات الرمق الأخير، وقد نرى نتيجتها تغيّرات ليست بالهينة في الخريطة السياسيّة.

ما قراءتكم التحليليّة لما ستؤول إليه الأوضاع، مع قدوم إدارة أميركيّة جديدة لها رؤيتها المختلفة عن رؤية الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب للمنطقة، خاصّة في ظلّ حالة التوتر بين إيران و”حزب الله” من جهة، و”إسرائيل” من جهة ثانية، ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة السوريّة المفترض في نيسان/ أبريل المقبل، بالرغم من تعطل الإنجاز ضمن مفاوضات اللجنة الدستوريّة في جنيف؟

لا يخفى أنّ الادارة الأميركيّة مهتمّة بـ “إعادة إيران إلى الصندوق”، كما جاء على لسان مستشار الأمن القومي جايك سوليفان. وللرئيس الأميركيّ جو بايدن اهتمام شخصّي في مكافحة انتشار الأسلحة النوويّة، وقد ارتبط بعلاقة مع بعض الباحثين في هذا المجال. لكن هذا لا يعني عدم التفاوض مع إيران في شأن امتداداتها الإقليميّة ودورها في بعض الدول، ولا سيّما مثلًا في اليمن، حيث تريد الإدارة إنهاء الحرب. لهذا، من المتوقّع أن تنحسر دائرة العنف بمجرد البدء بالمفاوضات، سرًا أو علنًا. لكن في الملف السوريّ، المسألة أكثر تعقيدًا، ولا بدّ أن تخضع لإرادة الحلفاء الأوروبيّين الذين عادوا إلى حسابات واشنطن، بعد غياب أربع سنوات عنها. لا تريد أوروبا تطبيعًا مجانيًا مع النظام، أي دون عمليّة انتقاليّة وتنازلات أساسيّة. لكنّها أيضًا لا ترغب في انهيار شامل في الاقتصاد السوريّ. لهذا سنرى جمودًا في الملف السوريّ، وسرعة أكبر على مستوى الأزمة مع إيران. لا يبدو أنّ هناك أفقًا لحلّ سوريّ، وهذا يُقلق موسكو بالدرجة الأولى. والخشيّة هنا هي في رهان روسيّ على اجتراح دور ما للنظام السوريّ في الإقليم، في لبنان مثلًا، لفتح كوة في جدار الحصار الدوليّ.

لا تترك حكومة بنيامين نتنياهو والقيادات العسكريّة في تلّ أبيب مناسبةً دون أن تؤكّد أن هدفها الرئيس في المرحلة الحالية هو إنهاء النفوذ الإيرانيّ داخل سورية لا تقليصه؛ فهل تعتقدون أن تحقيق هذا الهدف ممكن؟

لا يملك النفوذ الإيرانيّ في سورية عناصر ديمومة، على عكس الروسيّ. صحيح أنّ هناك بعض الوجود والاستثمار الاقتصاديّ والثقافيّ والميليشيّويّ، لكن حجم الاختراق ليس مثار قلق، إلا على مستوى أمني ضيّق. ولا يُمكن، لأسباب ديموغرافيّة بالمقام الأول، تكرار التجربة اللبنانيّة في سورية؛ حيث لا وجود لمجتمع شيعيّ متواصل جغرافيًّا في سورية، ولا قدرة على تغيير ذلك. وإن الادّعاءات بتشيّيع سوريّين هي مزحة، ولا يُمكن أخذها على محمل الجدّ، بالرغم من استثمار القوى الإسلاميّة فيها، واستخدامها كوسيلة دعاية لاستجلاب الدعم أو الاستقطاب.

ولهذا، فإنّ تقليص النفوذ الإيراني في سورية ممكنٌ، إلّا أنّ الثمن المناسب لم يُسدد بعد، لمن يقدر على التنفيذ. “إسرائيل” تتعامل مع التهديدات بنفسها، من دون أن يكون هناك ردّ إيرانيّ يُذكر. على مدى السنوات الماضية، كانت سورية حلبة لإهانات متواصلة وجهتها “إسرائيل” إلى إيران وميليشيّاتها. كان الإيرانيّ، وما زال، أشبه بسجناء في الإمبراطوريّة الرومانيّة، يُلقى بهم مع حيوانات مفترسة في الحلبة، ليتحوّل بعضهم إلى وجبة سريعة، كلّما تعثّر بحجرة، أو تلقى سهمًا من الحراس حين يسأمون الانتظار. على مدار السنوات القليلة الماضية، أدارت روسيا الوجود الإيرانيّ بهذه العقلية، ونسّقت مع الجانب الإسرائيليّ وحدّدت له الأهداف. قصف الإيرانيّين في سورية، بالتنسيق مع روسيا، هو مماثل لعراضات استخدام السلاح الروسيّ. ولروسيا القدرة على تقليص الوجود الإيراني، والتخفيف من وطأته، لكنّ أحدًا لم يضع ثمنًا لذلك لموسكو وللنظام أيضًا.

تشابك بين الفساد في لبنان وسورية

كيف تنظرون إلى إعلان الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة تشكيل “مفوضيّة عليا للانتخابات”، بالرغم من أن هذا الأمر هو من اختصاص هيئة الحكم الانتقاليّة بعد تشكيلها، وفق بيان “جنيف1″، والقرار الأمميّ 2254؟ ألا يعني هذا اعترافًا رسميًّا بشرعيّة نظام الأسد؟

يُحاول النظام اليوم إغلاق ملف العمليّة السياسيّة بأقلّ كلفة ممكنة، وأيّ مساعدة له في هذا المجال تُمثل استكمالًا لنهج العقد الماضي وما تخلّله من جرائم. الانخراط في هذه العمليّة دون انتقال للسلطة بضمانات دوليّة هو تواطؤ أو ضرب من الغباء الخالص، وكلاهما سيّان.

يدور حديث اليوم في أوساط سياسيّة لبنانيّة، عن وصاية جديدة من قبل نظام بشار الأسد، من خلال النفوذ الذي يحاول عبره الهيمنة على القرار السياديّ في لبنان من خلال “حزب الله” وحلفائه السياسيّين، إنقاذًا للنظام المصرفيّ في سورية؛ وسؤالنا هل يمكن أن يُترك لبنان لهذا المصير المرعب؟

لا أتفق مع هذا التوصيف. ذاك أنّ الطبقة السياسيّة والمصرفيّة في لبنان لطالما تقاطعت مع عصابة النهب المنظم والاحتكارات في سورية. المصارف اللبنانيّة التي تُحذر عبر أبواقها الإعلاميّة من هيمنة النظام و”حزب الله” على النظام اللبنانيّ، افتتحت فروعًا لها في سورية بالشراكة مع رامي مخلوف. رجال الأعمال السوريّون الموالون للنظام، مثل سامر فوز، يملكون شبكة علاقات واسعة تتجاوز الانقسام السياسيّ في لبنان. وهذا كان جليًّا في مرسوم التجنيس اللبنانيّ الذي تشاركت فيه الأقطاب السياسيّة المختلفة. هناك تشابك بين الفساد في لبنان وسورية، وشراكات تتجاوز الحواجز السياسيّة التقليديّة.

عبّرت الإدارة الأميركيّة، أخيرًا، عن قلقها ممّا يواجه لبنان من ممارسات من قبل النظام السوريّ الذي يسعى لزعزعة الاستقرار في الوضعين السياسيّ والاقتصاديّ. وبحسب مجلة “فورين بوليسي” الأميركيّة، فإنّ نظام الأسد يعمل على التعكز والاستثمار في حالة الفوضى بلبنان، لزيادة نفوذه على الحكومة اللبنانيّة التي يهيمن عليها “حزب الله”، ناسبة ذلك إلى وزارة الخارجيّة الأميركيّة، في تصريح سابق شاركته مع الكونغرس. وكان بشار الأسد قد نسبَ في الآونة الأخيرة التدهورَ الاقتصاديّ في العملة السوريّة إلى ودائع السوريّين في مصارف لبنان، على حدِّ وصفه! هل من مخاوف حقيقيّة تستشعرونها في هذا الصدد؟ وكيف يمكن التصدّي لمخطّطات الأسد ومن خلفه إيران و”حزب الله”؟

أيّ استقرار في الوضع السوريّ، وبدء النظام عمليّة التعافي من الانهيار الذي لحق به، يعني حتمًا زعزعة لاستقرار لبنان. وهذا يتقاطع مع دخول لبنان مرحلة خطرة من الانهيار الماليّ والاقتصاديّ فيه، ويجعله عُرضة أكثر لأدوار خارجيّة.

السيناريو الأخطر -برأيي- هو تدخل للنظام السوريّ بدعم روسيّ في شمال لبنان، في حال حدوث انهيار أمني هناك، وبحجة مواجهة الإسلاميّين وحماية الأقليّات الدينيّة. قد يبدو هذا السيناريو بعيدًا، أو ربما صعبًا في هذه اللحظة، لغياب الظروف المُسبّبة له، لكنّه إذا حدث فسيُوفّر للنظام فرصة سانحة لاختراق جدار الحصار الدوليّ. ومع تعافي النظام، علينا أخذ مثل هذه الاحتمالات في الحسبان.

ما مآل ملفّ الادّعاء الذي تقدّم به أهالي المعتقلين والمختفين قسريًّا اللبنانيّين في سجون النظام السوريّ، نهاية حزيران/ يونيو الماضي، أمام مدعي عامّ التمييز في بيروت، ضدّ بشار الأسد وأركان نظامه وكلّ من يظهره التحقيق، بجريمة اختطاف مدنيّين لبنانيّين من الأراضي اللبنانيّة وإخفائهم قسريًّا في سورية وتعرّضهم للتعذيب، وعددهم (622) لبنانيًّا، ما زالوا مُغَيّبين منذ عقود في أقبيّة الأجهزة الأمنيّة الأسديّة؟ وهل تعتقدون أنّه يمكن صدور أحكام ضدّ بشار الأسد وضباطه في بلدٍ يسيطر فيه “حزب الله” على كلّ مفاصل الدولة تقريبًا؟

بالتأكيد لا. النظام القضائيّ اللبنانيّ يُشبه بقية مؤسّسات الدولة التي نخرها تقاسمُ الحصص والنفوذ، وحوّلها الى أجساد فاقدة للروح وللاستقلاليّة. من الصعب التعويل على هذه المؤسّسة في إحداث أيّ تغيير، بل الحقّ يُقال إنّ القضاء ما زال إلى اليوم وسيلةً لمواجهة الخصوم. والدليل أنّ عدد الأحكام الصادرة بحقِّ الصحافيّين والكتّاب في القضاء يفوق بأضعاف عدد الأحكام ضدّ السياسيّين والموظفين الفاسدين. صحيح أنّ هناك قضاة نزيهين وناديًا للقضاء مأمولًا به، ولكن من الصعب رؤية هذا الجهاز يخوض معركة باسم الناس وللمصلحة العامّة، في حين أنّ الساسة عيّنوا جميع المسؤولين فيه.

“حزب الله” سارع إلى قمع الانتفاضة بالعنف

على وقع الأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة التي تعصف بلبنان، تسود البلاد في الأشهر الأخيرة أجواء من القلق من نهاية وشيكة لدعم الدولة للمحروقات والمواد الأوليّة، ومخاوف من زيادة الجوع، في بلد أصبح نصف سكانه من الفقراء، في ظلّ الانهيار الماليّ غير المسبوق الذي ضرب لبنان منذ حوالي العام. ما الذي أوصل لبنان إلى هذا الدرك الأسفل؟ ومن المسؤول عن ذلك؟

المسؤوليّة في المقام الأول سياسيّة. الطبقة السياسيّة بمكوّناتها كافة قادت البلاد إلى هذا الواقع المأسوي. ولا شكّ في تورط كلّ أركانها، مهما تكاذبوا وتبادلوا الاتّهامات. جميعهم شاركوا في الحكومات، وكانوا يتّخذون القرار ويتقاسمون الحصص من دون استثناء يُذكر. ألم يكونوا جميعًا شركاء في التوظيف العامّ بهذا الحجم، ألم يُصوتوا على الموازنات وناقشوا بنودها؟ كانوا أيضًا في نادي أصدقاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وما زال أغلبهم في طليعة المدافعين عنه بالرغم من كلّ ممارساته. على رأس هذه الطبقة، “حزب الله”، وهو المنافح الأول عنها وعن مصالحها. وهو سارع إلى قمع الانتفاضة بالعنف وتشكيل شارع طائفيّ مضاد لها.

المسؤوليّة الأولى سياسيّة، ومن ثمّ، طبعًا، هناك طبقة مالكي المصارف وعرّابهم حاكم مصرف لبنان. كان هؤلاء بمنزلة الوسيط بين المودعين (داخل لبنان وخارجه)، من جهة، وبين السلطة السياسيّة، من جهة ثانية. وكان هذا الوسيط مرتبطًا بشكلٍ جذري بالطبقة السياسيّة، ويُراعي توازناتها، ويتشارك معها في مشاريع كبرى. والحقيقة أنّ العلاقة تكامليّة بين الطبقة السياسيّة وبين المصارف، ومن الصعب الفصل بينهما وبين مصالحهما.

البعض يحمل أميركا مسؤوليّة انهيار العملة في لبنان، بسبب “قانون قيصر”، والبعض يحمل “حزب الله” المسؤوليّة بسبب ارتباطاته الخارجيّة، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟

تتحمل إدارة ترامب بعض المسؤوليّة عن تسريع الانهيار الحالي. هي لم تصنع السياسة الماليّة خلال السنوات الماضية. ولكن سياسة العقوبات هيمنت على الساحة السياسيّة هنا، وطغت على الإعلام. خلال السنوات الماضية، كان لبنان في حالة انتظار وترقب دائمة لعقوبات جديدة كلّ شهرين أو ثلاثة، وهذا الوضع أسهم في مفاقمة الأزمة وتسريع الانهيار. إضافة إلى أنّ لبنان شهد أكبر موجة سحوبات ماليّة، بعد خطف رئيس الوزراء سعد الحريري نهاية عام 2017. عمليّة الخطف كانت ضمن سياق الحملة الأميركيّة على إيران، وأيضًا في الإطار العامّ للسياسات الأميركيّة في المنطقة. لهذا تتحمل الولايات المتّحدة شقًا من المسؤوليّة لتسريعها الانهيار، ومفاقمتها آلام اللبنانيّين.

بتقديركم، ما أسباب غياب قدرة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون على إلزام القوى السياسيّة اللبنانيّة بالمشروع الإصلاحيّ والمبادرة الفرنسيّة، ولا سيما بعد اللهجة القاسية له مع الطبقة الحاكمة والحديث عن فسادهم وتهديدهم بالعقوبات؟ وأيّ موقف سيتّخذه بعد فشل مبادرته واصطدامها بلا مسؤوليّة القوى السياسيّة اللبنانيّة وإصرارها على نهج الفساد والمحاصصة؟

حاول الرئيس الفرنسيّ جاهدًا تحريك العمليّة السياسيّة، لكن الإصلاح المطلوب ليس بالهيّن، ومن الصعب تجاوز نفوذ الأقطاب الأساسيّة وحرمانهم من التمثيل في الحكومة. رأينا ذلك في وزارة الماليّة التي طالب فيها الثنائيّ الشيعيّ، وأيضًا في الوزارات المسيحيّة التي يريدها رئيس الجمهورية وصهره (وريثه في السياسة). تريد الطبقة السياسيّة طريقًا ثالثًا غير الانهيار الشامل والتنازلات المحليّة، لحلّ الأزمة، وهذا غير متوفر إلى الآن. واستخدمت السلطة السياسيّة الجائحة، وأسهمت في تفاقمها من خلال سياسات صحيّة فاشلة، أدت إلى إحجام الناس عن الاحتجاج. لا ضغط على السلطة السياسيّة في ظلّ تفاقم جائحة كورونا، وإن كان الوضع الاقتصاديّ ينهار، والليرة تواصل سقوطها، فيما تتّسع رقعة البؤس والفقر في البلاد.

دور إيران في لبنان… تبديل جذريّ في الهويّة المحليّة

هل يمكن للمؤتمرات التي تدعو إليها باريس وتحتضنها بحضور شركاء دوليّين (الأول عُقد في 9 آب/ أغسطس والثاني في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2020)، أن تنقذ لبنان وتُسهم في إعادة الإعمار بعد انفجار مرفأ بيروت المروّع، وتقديم مساعدات إنسانيّة للبنان في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة الخانقة؟

الطبقة السياسيّة تريد مفاوضة العالم الخارجيّ على دورها وتثبيت حقّها في الحكم، بغض النظر عن النتائج، لا على سلّة انقاذ دوليّة للشعب اللبنانيّ. هذا لا يندرج في سلم اهتماماتها، إلا في حال الموافقة على أن تمرّ الأموال في آلة النهب التوافقيّة اللبنانيّة. لهذا، لن نحتار إذا وُضعت السلطة أمام خياري بقاء الوضع على حاله مع كلّ الألم المترتب على ذلك، أو الحصول على المساعدات بعد إجراء إصلاحات تنال من مستويّات نفوذ هذه الطبقة. ستتجنب الطبقة السياسيّة إجراء إصلاحات، وستختار دومًا دفع البلاد إلى مزيد من الفقر والآلام.

هناك من اللبنانيّين من يعدّ رهان الشعب اللبنانيّ على دور خارجيّ، بخاصّة الفرنسيّ والأميركيّ، خروجًا عن الوطنيّة. كيف ترونه أنتم؟

طبعًا، هناك فارق بين الدور الإيرانيّ في لبنان، وهو يشمل دعم قوّة مسلّحة تستخدم العنف لأغراض سياسيّة، علاوة على تمويل شبكة مؤسّسات هدفها تبديل جذريّ في الهويّة المحليّة وربط جماعة سكانيّة بالخارج، وبين الوساطة الفرنسيّة الظرفيّة.

فرنسا تتوسط لفك الجمود السياسيّ. للرئيس الفرنسيّ ايمانويل ماكرون رأي سلبيّ (يخفي عنصريّة) في الربيع العربيّ، وهو حريص فقط على مصالحه في لبنان. لكن هذه المصالح، سواء أكانت وقف التمدّد التركيّ أو الحؤول دون لجوء مئات الآلاف الى أوروبا، تلتقي في جانب مهمّ منها مع المصلحة اللبنانيّة. من مصلحة اللبنانيّين أن تشهد البلاد إصلاحات بنيويّة، تشمل القضاء والإدارة الماليّة وقطاع الطاقة المتعطّل. ومن مصلحتهم أيضًا حصول مشاريع بنى تحتيّة وتحفيز الاقتصاد ووضع خطة ماليّة وعمليّة انتقاليّة تُوزع الخسائر بشكلٍ عادل بين القطاع المصرفيّ واللبنانيّين. لكن علينا الانتباه من تحوّل المبادرة الفرنسيّة إلى سياسة تجمع السياسيّين حول فكرة مواجهة تركيا وحلفائها في لبنان، ما يستجلب تدخلًا ما من أنقرة. علينا وضع حدود لأيّ مبادرة، والحؤول دون استخدامنا كساحة، كما تفعل إيران وخصومها.

ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حدث تاريخيّ مفصليّ، يحتّم على المثقّفين اللبنانيّين دورًا مواكبًا لهذا الفعل التغييري، فكيف ترون هذا الدور؟ وما قراءتكم الخاصّة للأبعاد الثقافيّة لهذه الثورة؟

السمّة الأساسيّة لهذه الطبقة السياسيّة أنّها طاردة للثقافة والمثقّفين. شهد لبنان قبل الثورة وقبل الأزمة، أفولًا لوسائل إعلام رئيسيّة، كانت منبرًا ثقافيًّا في البلاد. اغتالت الطبقة السياسيّة، وعلى رأسها “حزب الله”، المثقّفين وهمّشتهم جسديًّا في مراحل مختلفة، ثمّ اقتصاديًّا واجتماعيًّا وإعلاميًّا. في مقابل هذا الأفول، أنتجت السلطة السياسيّة نموذجًا عامًّا جديدًا هو النجم الإعلاميّ الموالي، ووفرت له معلومات السبق الصحافيّ والمال والمنابر التلفزيونيّة، وفتحت له أبواب الصالونات السياسيّة. هذه الوجوه الإعلاميّة التي تتصدّر الشاشات والمنابر تخدم مصالح السياسيّين وتخوض صراعاتهم، ودافعت عن عرّابيها في لحظة 17 تشرين الأول/ أكتوبر وبعدها. وما تزال تُسهم في إعادة إنتاج صورة السياسيّ وتقديسه في سرديّاتها للأزمات السياسيّة. إنّها ظاهرة جديرة بالدراسة.

في الإعلام المكتوب، فرزت الثورة الصحافيّين والمؤسّسات بين مؤيد للثورة ومعارض لها، حتّى إنّ هناك صحافيّين استقالوا من مؤسّسات شاركت في حملة تشويه صورة المنتفضين وتخوينهم. كان هذا الفرز مهمًّا، وأسهم في تأسيس تجمع النقابة البديلة، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ كمنابر بديلة عن وسائل الإعلام التقليديّة. هناك اليوم جسدان إعلاميّان وثقافيّان وفنيّان أيضًا.

أخيرًا، ماذا تقولون للمثقّفين الذين لم يشاركوا في ثورة شعوبهم، واختاروا الاستقالة الأدبيّة والأخلاقيّة أو التعاون مع الوضع القائم؟

المشاركة في ديمومة الوضع الحالي، وآلام الناس وأوجاعهم، جريمة موصوفة عابرة للأجيال، وهي عنوان يطغى على سواه.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى