صفحات الحوار

جمانة سيف: نواجه الفيتو الروسي بمسارات قضائية بديلة لمحاسبة نظام الأسد

غسان ناصر

تحلُّ الناشطة النسوية والحقوقية المحامية جمانة سيف، ضيفة على مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية الأسبوعية.

ضيفتنا من مواليد دمشق عام 1970، وهي كريمة المعارض الوطني الكبير رياض سيف (أطال الله عمره). وتترأس حاليًا مجلس إدارة مؤسّسة (اليوم التالي) لدعم الانتقال الديمقراطي في سورية، وتعدُّ من مؤسّسات الحركة السياسية النسوية السورية، ومن مؤسّسات شبكة المرأة السورية، وهي عضو في “اللوبي النسوي السوري”. وقد دخلت معترك الحياة السياسية مبكرًا كناطقة باسم والدها، ومثّلته رسميًا في المحافل السياسية بعد اعتقاله من قبل أجهزة نظام بشار الأسد الأمنية، في أيلول/ سبتمبر 2001. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2007، شاركت في التحضير للمجلس الوطني لإعلان دمشق.

درست سيف الحقوق في الجامعة العربية في بيروت، وخاضت مع نقابة المحامين السوريين معركة قضائية طويلة وشاقة، بعد منعها من التسجيل في قوائم المحامين في فرع النقابة في دمشق، لتكسب حكمًا في شباط/ فبراير 2012 بإعادة التسجيل، لكنها خرجت بعد وقت قصير من سورية.

وكانت الحقوقية السورية، منذ بداية الثورة الحرّية والكرامة في آذار/ مارس 2011، من المشاركات في اعتصام الداخلية وبعض تظاهرات حي الميدان، وأسهمت في دعم أعمال الإغاثة بخاصّة الإغاثة الطبية في المناطق المستهدفة. وفي نهاية آذار/ مارس 2012، غادرت سورية باتجاه الولايات المتحدة، ومنها إلى القاهرة، ثم إلى برلين، لتعمل بعد مدة من إقامتها في ألمانيا، وتحديدًا في أيار/ مايو 2017، مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR على قضية المحاسبة، وما زالت تعمل فيه حتى الآن.

تم اختيار جمانة سيف، في كانون الأول/ ديسمبر 2020، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ضمن قائمة مبادرة “نساء نوبل” (منظمة الحائزات على جائزة نوبل للسلام)، من بين 12 مدافعة عن حقوق الإنسان حول العالم في سعيهن للسلام، العدالة والمساواة بطرق سلمية. عن هذا الاختيار، وعن سيرتها ومسيرتها الحقوقية، وعن مكانة والدها ودوره السياسي البارز، وعن الكتاب الاحتفائي بسيرته النضالية الموسوم بـ «رياض سيف.. سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ» الذي صدر أخيرًا عن مؤسّسة “الجديد” في بيروت، وحرّره أكرم البني وأسامة العاشور، وعن نشاطها الحقوقي في المحاكم الألمانية في محاسبة نظام الأسد عن إجرامه بحق الشعب السوري ومكافحة إفلات الجناة من العقاب، وعن البحث عن مسارات قضائية بديلة عن محكمة الجنايات الدولية في ظل إغلاق طريقها عبر الفيتو الروسي، كان حديثنا، وتطرقنا إلى الجديد في الدعاوى القضائية التي رفعتها ضد أجهزة الأمن الأسدية، خاصّة جهاز “المخابرات الجوية” و”فرع الخطيب” أمام القضاء الألماني،ورأيها في الحكم الصادر أخيرًا بمحكمة (كوبلنز) بحق أحد المتهمين، وما تحقق من مكاسب قانونية ليس آخرها إضافة جرائم العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي كجرائم ضد الإنسانية إلى لائحة الاتهام، التي ستنظر فيها المحكمة في قادم الأيام. وهذا نصّ الحوار:

بداية، من هي جمانة سيف؟

بدأتُ الحياة المهنية، بعد حصولي على الشهادة الثانوية عام 1987، في مجال عمل عائلتي في صناعة الملابس، وعلى الرغم من دخولي جامعة دمشق قسم الأدب الفرنسي، فإنني لم أكمل حتى امتحانات السنة الأولى، فقد فضلتُ حينها الانخراط في العمل في شركة والدي، على متابعة الدراسة، محبةً بجو العمل والعلاقات السائدة في الشركة، فقد كنت منذ طفولتي أستمتع بقضاء أوقات طويلة من العطل المدرسية في المصنع بين العمال والعاملات، وأحسّ بأنهم عائلتي الكبيرة.

تدرّجتُ في مهنة الخياطة الصناعية، من أبسط الأعمال إلى العمل على مكنات الدرزة والحبكة، طوال شهور عديدة، ثماني ساعات يوميًا، وذلك قبل الانتقال إلى العمل الإداري. اختبرت في هذه التجربة ظروف العمل الحقيقة والمصاعب التي يعيشها العمال والعاملات. وهناك كلمات لا تغيب عن ذهني أبدًا، فقد سألني أبي في إحدى المرات، عندما رآني متعبة بعد يوم عمل طويل: هل تحسّين بألم في ظهرك ورقبتك؟ أجبته (نعم). فابتسم وظهرت ملاح الرضا على وجهه، وقال لي: فقط عندما تعملين مثل الآخرين وتعانين ما يعانون يمكنك الإحساس بهم وفهم شكواهم ومطالبهم.

مع تأسيس والدي لشركة “أديداس” عام 1993، قمت بتأسيس قسم الإشراف الاجتماعي فيها، والذي كان يعنى بالجوانب النفسية والاجتماعية للعمال والعاملات وعائلاتهم، وبتمكينهم ودعمهم في متابعة تعليمهم وتطوير إمكاناتهم ومواهبهم وينظم رحلات وبرامج ترفيهية لهم ولعائلاتهم.. كان هذا العمل الذي يتمثّل بدور الأم أحبّ الأعمال والأدوار إلى قلبي، إلى يومنا هذا.

في نهاية عام 2000، فقدت عملي في الشركة، بعد أن خسرنا كل أموالنا، واضطررنا إلى بيع كامل حصتنا في الشركة، لتسديد الضرائب الوهمية التي فرضتها الحكومة، كإحدى وسائل الانتقام من والدي بسبب مداخلاته في مجلس الشعب منذ 1994 التي تنتقد الحكومة وتكشف فسادها، وطبعًا الانتقام الأكبر كان فقدان أخي إياد في صيف 1996 إذ خُطف من البحر في رحلة مدبّرة للانتقام. وفي أيلول/ سبتمبر 2001، اعتُقل والدي على خلفية إعادة افتتاح منتدى الحوار الوطني، بعد أن تراكم حقدهم عليه لكشفه صفقة “عقود الخليوي” ومطالبته بالإصلاح السياسي وإلغاء المادة الثامنة من الدستور.

جمانة سيف مع والدها رياض سيف

مع اعتقال أبي، تم ترهيب العائلة والأصدقاء والضغط عليهم وتهديدهم أمنيًا للابتعاد عنه، وأجبرهم ذلك فعلًا على الانكفاء، وهنا اتّخذت قراري وأعلنته أمام الجميع، بأنني أؤمن بكل القيم التي يناضل من أجلها وبأنني إلى جانبه، وكانت أولوياتي حمايته والحفاظ على حياته في السجن، وإبقاء قضية اعتقاله ورفاقه من معتقلي ربيع دمشق حيّةً، وعدم تركه معزولًا في سجنه، بعدها أصبحتُ صلته مع العالم الخارجي، من محاميين وسياسيين ودبلوماسيين، والناطقة باسمه وممثّلته الرسمية، كنتُ أحمل له بريدًا أسبوعيًا يتضمن أهم المقالات والأخبار عن سورية والعالم، وفي عام 2003، تسلمت نيابة عنه جائزة مدينة فايمر الألمانية لحقوق الإنسان والمواطنة، ومثّلته في اجتماعات إعلان دمشق بعد تأسيسه عام 2005، وحضرت الكثير من اللقاءات الحقوقية والاجتماعات الدبلوماسية رفيعة المستوى، للحديث عن قضية معتقلي ربيع دمشق وعن الاعتقال السياسي في سورية بشكلٍ عام.

قررت دراسة الحقوق في أثناء وجود أبي في السجن، لبناء معرفة وخبرة قانونية حول القضايا الحقوقية، فسجلت في الجامعة العربية في بيروت، تخرجت دون إعادة أي مادة في الأربع سنوات، بالرغم من كل الضغوط ومسؤولية ثلاثة أولاد، اجتزت امتحانات معادلة الشهادة في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وسجلت في نقابة المحامين، لكني مع الأسف لم أتمكن من ممارسة المهنة، نتيجة إصدار مجلس فرع النقابة بدمشق قرارًا بفصلي بحجة ممارستي “للصناعة والتجارة”، (كما جاء في القرار)، ولكن الحقيقة كان هذا القرار عقوبة لي لرفضي مساوماتهم والتخلي عن نشاطي الحقوقي والسياسي ودعم مواقف والدي. فدخلت معركة قضائية طويلة وشاقة مع النقابة ومع جهاد اللحام، رئيس مجلس فرع دمشق آنذاك، وقد تصدى لي بشكلٍ شخصي. وفي شباط/ فبراير 2012، كسبت الحكم بإعادة التسجيل، ولكنني خرجت من سورية بعد وقت قصير.

شاركت في التحضير للمجلس الوطني لإعلان دمشق، الذي عقد في منزل والدي في ضاحية قدسيّا في كانون الأول/ ديسمبر 2007. وعلى إثر انعقاده، اعتُقل والدي مجددًا مع العديد من القادة المنتخبين لقيادة المعارضة، ومنهم الدكتورة فداء حوراني وأكرم البني. ومنذ بداية الثورة، كنت من المشاركات في اعتصام الداخلية وبعض تظاهرات حي الميدان، أسهمت في دعم الإغاثة، وخصوصًا الإغاثة الطبية في المناطق المستهدفة. وشاركت في محاولات إيصال صوت ومطالب المتظاهرات والمتظاهرين، وفضح جرائم النظام بكل الطرق. كما شاركت في لقاءات عديدة مع الدبلوماسيين الأوروبيين والأميركان والبعثات الدولية والعربية.

غادرت سورية نهاية آذار/ مارس 2012، للمشاركة في برنامج (قادة من أجل الديمقراطية) لمدة ثلاثة أشهر في الولايات المتحدة الأميركية، يتلقى فيه 20 مشاركة ومشاركًا من كل البلدان العربية محاضرات ونقاشات حول الديمقراطية والتفاوض وبناء السلام في جامعة “سيراكيوس”، ويتم فيه تبادل الخبرات، والاستفادة من لقاءات مع صناع القرار على أعلى مستوى، ومع منظمات المجتمع المدني الأميركية في واشنطن. مع انتهاء البرنامج، عدت إلى مصر بدلًا من العودة إلى سورية، بعد أن سُمح لوالدي بالسفر لتلقي العلاج، بعد استجابة النظام للضغوط الدولية على إثر محاولة اغتياله الفاشلة. في مصر شاركت في تأسيس شبكة المرأة السورية، وبقيت فيها حتى أيلول/ سبتمبر 2013، حين غادرت إلى ألمانيا.

في برلين، بعد الانتهاء من دورات اللغة والاندماج الاجبارية، حصلت -بتزكيةٍ من صديقة- على فرصة للتدرّب في شركة محاماة ألمانية، قدّمت لي عرض عمل جزئي بعد انتهاء مدة التدريب، ولكن اكتشافي لإصابتي بمرض سرطان الثدي منعني من قبوله. استمر العلاج لمدة سنة تقريبًا وبعد الانتهاء منه، حصلت على عرض عمل مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR على قضية المحاسبة، وما زالت أعمل معهم، منذ أيار/ مايو 2017 إلى الآن، بكل الامتنان لعملهم، ولما قدموه لي من دعم وخبرة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أسهمت مع مجموعة من السيدات السوريات في تأسيس الحركة السياسية النسوية السورية، للسعي لتحقيق المشاركة الفاعلة للنساء في جميع مراكز صنع القرار، بعد أن تم إقصاؤهن وتهميش أدوارهن بالرغم من مشاركتهن في الثورة والأثمان الباهظة التي دفعنها، وللعمل على بناء سورية على أسس المواطنة المتساوية، والعمل على الملفات الإنسانية والانتقال السياسي من منظور جندري. ومع بداية عام 2000، تم انتخابي لرئاسة مجلس إدارة مؤسّسة اليوم التالي لدعم الانتقال الديمقراطي، لمدة عامين. وتعمل المؤسّسة على تقوية المجتمع المدني السوري والتأثير في صناع القرار بما يخدم الانتقال الديمقراطي والعدالة في سورية. أعتز بوجودي في هذه المؤسّسة السورية، إلى جانب مجموعة من الزميلات والزملاء من أعلى الخبرات والكفاءات وأعتز جدًا بثقتهن/م ودعمهن/م.

عطاء رياض سيف وبناء سورية الحديثة

ماذا عنى لكِ اختيارك بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان، في كانون الأول/ ديسمبر 2020، ضمن قائمة مبادرة “نساء نوبل” (منظمة الحائزات على جائزة نوبل للسلام)، من بين 12 مدافعة عن حقوق الإنسان حول العالم في سعيهن للسلام والعدالة والمساواة بطرق سلمية؟

أسعدني جدًا اختياري ضمن القائمة، فالاعتراف والتقدير حاجة إنسانية طبيعية، ولها تأثير مهم في التحفيز، خصوصًا عندما يأتي التقدير بعد سنوات من التعب، فالعمل على قضايا الاعتقال والتعذيب والعنف الجنسي بشكلٍ خاصّ مؤلمٌ جدًا ومتعبٌ نفسيًا. نحن نتعامل مع العنف بشكلٍ مستمر، سواء في التوثيق أو متابعة التقارير الحقوقية أو التعامل مع الناجيات والناجين اللذين واللواتي نشاركهم في معاناتهن/م ونمتص جزءًا من ألمهن/م.

كل هذا قد يكون مدمّرًا، لولا الانتباه إلى مخاطر عملنا وحرصنا على تلقي الدعم النفسي بشكلٍ منتظم، لكي نتمكن من المتابعة والحفاظ على توازننا وصحتنا النفسية، فحجم جرائم النظام وبشاعتها لا يمكن وصفه. من ناحية أخرى، وجود اسمي في القائمة وضعني ووضع عملي تحت الضوء، ما يعني مسؤولية وأعباء أكبر، أتمنى أن أستطيع حملها.

أضاف المعارض السياسي البارز الأستاذ رياض سيف (أطال الله عمره)، بسيرته التي صدرت أخيرًا عن مؤسّسة “الجديد” البيرويتة، في كتاب حمل عنوان «رياض سيف.. سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ» حرره أكرم البني وأسامة العاشور، وثيقةً مهمةً للتاريخ السوري المعاصر. ماذا تحدثيننا عن هذا الكتاب، وعن أهمية صدوره ونحن على أعتاب الذكرى العاشرة لثورة الحرّية والكرامة؟

بالإضافة إلى الإضاءة على تجربة والدي في مجال الصناعة ومجلس الشعب السوري، وثّق الكتاب لمرحلتين مهمتين من تاريخ سورية المعاصر: الأولى هي مرحلة ربيع دمشق، وتميّزت بانتشار ظاهرة المنتديات التي بدأت بمنتدى الحوار الوطني، وفتحت باب الحوار حول القضايا الوطنية في كل المحافظات السورية علنًا وأمام أعين عناصر الأمن، وأظهرت رغبة الناس وتعطشهم إلى ممارسة حرّياتهم وتقديم آرائهم في القضايا العامّة، ففي المحاضرة الأخيرة في منتدى الحوار الوطني، وقد أعقبها اعتقال عشرة من قيادات الربيع، حضر ما يقارب 500 مواطنة ومواطن، على الرغم من تحذيرات أجهزة الأمن وتهديداتها.

والمرحلة الثانية هي مرحلة المجلس الوطني لإعلان دمشق، وفيها تجلّت الجهود الحثيثة لقوى المعارضة لتشكيل قيادة بآليات ديمقراطية وبشكلٍ علني، فقد عُقد المجلس الوطني لإعلان دمشق، على مدى عشرين ساعة متواصلة، بحضور167 مشاركة ومشاركًا يمثّلون كل أطياف المجتمع السوري، وانتخاب قيادة بشكلٍ ديمقراطي، ثم كانت ردّة فعل النظام كعادته اعتقال القيادة المنتخبة. 

تأتي أهميّة الكتاب، ونحن على أعتاب الذكرى العاشرة لثورة الحرّية والكرامة، بتذكير السوريين والسوريات بمحاولات السعي إلى التغيير الديمقراطي التي جرت في ظل الاستبداد، وبتطلعاتهم إلى بناء سورية الحديثة، وبعث الثقة بقدرتهم على إقامة دولة ديمقراطية، وتسليط الضوء أيضًا على التجارب الديمقراطية للشعب السوري، وعلى ما أنجزه السوريون بالخمسينيات وقبلها في عهد الانتداب، بما يثبت تفوق الشعب السوري وقدرته على تحقيق معجزات.

برأيكِ، ما أهمّ ما ميّز رياض سيف في مسيرته الإنسانية والصناعية وتجربته السياسية والقانونية؟

برأيي، أهمّ ما ميّز رياض سيف في مسيرته هو الصدق والإخلاص للقضايا التي آمن بها، وحبه للعطاء وحسه الإنساني العالي. أنا من أشد المعجبين بهذا الرجل، ليس لأنّ كل فتاة بأبيها معجبة، فلست من الأشخاص الذين تلعب رابطة الدم والقربى دورًا كبيرًا في تقييم أو رسم حدود علاقتهم بالآخرين، أراقب هذا الرجل منذ بداية وعيي، عملت معه في الصناعة، وكنتُ قريبة منه في كل المراحل، حتى في فترة سجنه، وفي السياسة، وعلى الرغم من اختلافنا بالرأي أحيانًا، فإنّ هذا الرجل لم يتوقف حتى اليوم عن إدهاشي بصدقه وشجاعته وعفويته وإحساسه بالآخرين.

في الصناعة، كان رياض سيف شخصًا محبوبًا جدًا من العمال والعاملات وموظفي وموظفات الشركة، بسبب صدقه في محبتهم واحترامهم وضمان حقوقهم. وفي السياسة، قدّم الكثير، وضحى بالكثير من أجل الديمقراطية والدفاع عن قيم المواطنة وحقوق الإنسان، خسر ابنه وكلّ أمواله، وتعرّض للسجن سنوات، وللضرب مرات عديدة في الشارع وفي الفروع الأمنية، وللتهديد بالإذلال المستمر.. لكنه لم يغيّر من مواقفه، ولم يتراجع بالدفاع عن مبادئه.

منذ ربيع دمشق، وافتتاح جلسات منتدى الحوار الوطني في أيلول/ سبتمبر 2000، أسهمت شخصية رياض سيف إسهامًا كبيرًا في جمع قوى المعارضة، كما أسهمت لاحقًا في 2007 بعقد المجلس الوطني لإعلان دمشق، فهو شخصية جامعة مقبولة ومحط احترام الجميع.

“المخابرات الجوية” في عين العاصفة

لنتحدث الآن عن عملك ونشاطك الحقوقي في ألمانيا، بدءًا من رفع دعاوى قضائية ضد أجهزة الأمن الأسدية، خاصّة جهاز “المخابرات الجوية” و”فرع الخطيب”، أمام القضاء الألماني، الخلفيات والنتائج؛ وما الجديد في هذا الصدد؟

دافعي لهذا العمل هو إيماني بالعدالة، وبأنها شرط أساسي لتحقيق السلام، وبضرورة محاسبة نظام الأسد عن إجرامه بحق الشعب السوري، والبحث عن مسارات قضائية بديلة عن محكمة الجنايات الدولية، في ظل إغلاق طريقها عبر الفيتو الروسي. وأعتقد أننا استطعنا أن نحقق تقدّمًا يعدّ إنجازًا على الصعيد القانوني، عبر الدفع بتفعيل الولاية القضائية العالمية، وهو إنجاز يحسب للضحايا وشجاعتهم وللمجتمع المدني السوري كمؤسّسات وأفراد، وللهيئات والمؤسّسات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان   ECCHRالذي أخذ المبادرة وفتح الطريق بالعمل على قضية المحاسبة، ونجح في إبقاء الملف حيًّا وتحت الأضواء. ونستطيع اليوم، بعد ما تم تحقيقه، ملاحظة ازدياد الأصوات الدولية المطالبة بمحاسبة نظام الأسد وبمكافحة الإفلات من العقاب. 

الجديد في هذا الصدد هو الحكم الذي صدر أخيرًا بمحاكمة “فرع الخطيب”، في مدينة كوبلنز، بحق أحد المتهمين بتاريخ 24 شباط/ فبراير الماضي، وهو يعدّ خطوة مهمة على طريق العدالة. وتأتي أهميته من حيثياته التي فصّلت في الأحداث في سورية ومجازر النظام، واستخدامه للاعتقال العشوائي والتعذيب والعنف المميت وتجميع جثث القتلى في المستشفيات العسكرية ثم دفنها في مقابر جماعية. بالإضافة إلى حيثيات كثيرة أخرى، منها استخدام المخابرات العامّة للخداع العسكري لإظهار نفسها كضحية للإرهاب أمام المجتمع الدولي، عبر دسّ أسلحة بين المتظاهرات والمتظاهرين السلميين لتبرير عنف قوات الأمن. والجديد الآخر هو إضافة جرائم العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي، كجرائم ضد الإنسانية، إلى لائحة الاتهام التي ستنظر فيها المحكمة.

لماذا اخترتِ التركيز في عملك الحقوقي على الدفاع عن ضحايا الاغتصاب والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي في معتقلات النظام السوري؟ وما أبرز المعوقات والعراقيل التي تواجهك وأنت تعملين على قضايا غائبة أو لنقل مغيبة، ولا يعترف بها كثير من الضحايا، في مجتمعاتنا الأبوية التي تحمّل الضحية وصمة العار وقد تصل الأمور في بعض الأحيان إلى قتلها؟

اخترت التركيز في عملي الحقوقي على الدفاع عن ضحايا العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي، لأنها جرائم مسكوت عنها، ولأنّ أغلب ضحاياها يعانون بصمت خوفًا من النبذ والإقصاء من عائلاتهم/ن ومجتمعاتهم/ن. ومن المعروف أنّ لهذا النوع من العنف آثارًا عميقة وطويلة الأمد، ويحتاج ضحاياه إلى خدمات صحية ودعم نفسي وحماية، لكي يتمكنوا من تجاوز الصدمة والعودة إلى ممارسة حياة شبه طبيعية، ولكن مع الأسف ما يحدث في أغلب الحالات هو عكس ذلك.. فبدلًا من تقديم الرعاية والاحتضان والدعم يتم نبذ الضحايا وإجبارهم/ن على الصمت، وأحيانًا معاقبتهم/ن من قبل المجتمع وخصوصًا للنساء، “الحاملات لشرف العائلة” في مجتمعاتنا.

المحامية جمانة سيف مع زميلتها الألمانية ألكسندرا ليلي كاثر وهما تحملان ملف الدعوى القضائية ضد جهاز المخابرات الجوية السوريّة

هدفي من تسليط الضوء على هذه الجرائم وفضحها والاعتراف بها دوليًا كجرائم ضد الإنسانية، هو محاسبة المسؤولين وتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا والدفع في تغيّر نظرة المجتمع، ووضع المنظمات الدولية عند مسؤولياتها في توفير الخدمات الصحية وبرامج الدعم النفسي الاجتماعي والدعم الاقتصادي لهم/ن. أما عن التحديات، فهي كثيرة بسبب حساسية القضية، ولكن التحدي الأساسي هو كيف يمكن إثارتها وإجراء التحقيقات والتقاضي دون التسبب بأي أذى للضحايا وخصوصًا من ردة فعل المجتمع؟ لقد احتاج العمل على بناء الدعوى إلى أكثر من ثلاث سنوات، واليوم أستطيع القول بأننا نجحنا، كفريق في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان وبالتعاون مع المنظمات النسوية السورية الشريكة والداعمة، في وضع هذا الملف على الطاولة وفتحه، وأبدت السلطات القضائية الألمانية أخيرًا اهتمامًا به وستبدأ التحقيقات بخصوصه قريبًا.

ما الجديد في محكمة الضابط أنور رسلان، خاصّة بعد أن عدّلت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، في الآونة الأخيرة، التهم المتعلقة بالعنف الجنسي الموجهة إلى رسلان بصفته المتهم الرئيسي، بتوجيه الاتهام بالعنف الجنسي في “فرع الخطيب”، باعتباره جريمة من الجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين في سورية، بعد أن كانت مجرد قضايا فردية بموجب القانون الجنائي الألماني؟ وما الذي يعنيه هذا التعديل القضائي من الناحية القانونية لجهة الناجين وعائلاتهم، وكذلك المتهمين بقضايا التعذيب؟

جاءت إضافة العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي إلى لائحة الاتهام كجريمة ضد الإنسانية، بعد أن قدّم المحاميان باتريك كروكر وسيباستيان شارمر، اللذان يمثّلان موكلين مركزنا ECCHR، مذكرة قانونية إلى المحكمة، أشارا فيها إلى ما يقارب مئة دليل من ملف الدعوى ذاته على وقوع هذه الجرائم. وقد أضافت المحكمة جرائم العنف الجنسي، وستقوم بفحص هذه الأدلة والإثباتات بالإضافة إلى ما سيرد من أدلة في الشهادات اللاحقة. وهذا لا يعني بالضرورة أنّ أنور رسلان سوف يُجرّم بها، وإنما تأتي أهمية هذه الخطوة في التحقيق في هذه الجرائم والاعتراف بها، بعد أن كانت غائبة عن التحقيقات كجرائم ارتكبت بشكلٍ منهجي وواسع النطاق إلى جانب جرائم التعذيب والقتل. الاعتراف بارتكاب جرائم العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي في الفروع الأمنية في وثيقة قضائية سيقدّم الكثير للضحايا، فإضافة إلى ردّ الاعتبار لهن/م، على المدى المنظور، سيؤسّس مستقبلًا للمطالبة بالرعاية والدعم والحصول على تعويضات عما تعرّضن/وا له.

أنتِ من مؤسّسات الحركة النسوية السورية، وهذا يدعوني إلى سؤالك عن دور وعمل المنظمات النسائية الداعمة للمرأة السورية، في الخارج أينما وجدت، وبخاصّة قدرتها على تقديم الدعم الكافي للنساء اللواتي يعشن في الداخل السوري الممزق جغرافيًا، والتابع لسلطات الأمر الواقع في مناطق سيطرة النظام وفي الشمال، وفي شمال شرق سورية؟

نحن في الحركة السياسية النسوية السورية موجودون على الأرض في الداخل السوري ودول اللجوء المجاورة والشتات، وعلى تواصل مع مجموعات كثيرة من النساء في الداخل السوري، من خلال الجلسات التشاورية التي أنتجت العديد من الأوراق السياساتية حول رؤاهن في القضايا المهمة كالعودة الآمنة، إعادة الاعمار، الدستور، الأمان الاقتصادي والعقد الاجتماعي، الهوية الوطنية الجامعة. وإننا نعمل باستمرار على إيصال أصوات النساء ومطالبهن إلى ساحات القرار السياسي، وتسليط الضوء على أوضاعهن واحتياجاتهن ومطالبهن، كذلك فإنّ قضية المعتقلات والمعتقلين والمختفيات والمختفين قسرًا وقضية المحاسبة والعدالة على رأس أولوياتنا. بالإضافة إلى العمل السياسي والمناصرة السياسية، فإنّ عددًا كبيرًا من الزميلات في الحركة وغيرها يعملن في منظمات مجتمع مدني تقدّم دعم وخدمات للنساء. وما أعرفه -من خلال متابعتي- أنّ هذه المنظمات تعمل بأقصى طاقتها ودون توقف، بحسب الإمكانيات والموارد المتاحة، ولكن الحديث عن تقديم “الدعم الكافي” أمرٌ مستحيل في الوضع السوري، فالاحتياجات كبيرة لدرجة تعجز عنها المنظمات الدولية، مع الأسف.

كيف ترين أوضاع المرأة الحالي الحقيقي في الداخل السوري المحكوم باستبدادين سياسي وديني؟ وما هي الطرق الممكنة لإيجاد حلول لهذا الوضع؟

بكل أسف، أوضاع شعبنا بالعموم أصبحت مزرية للأسباب التي نعرفها جميعًا، ولكن أوضاع النساء تبقى الأسوأ بسبب ما تتعرّض له من استبداد سلطوي ومجتمعي، بالإضافة للمعاناة الأخرى من التهجير وفقدان مقوّمات الحياة الأساسية وغيرها الكثير للأسف. ولا حلّ لما تتعرّض له النساء من استبداد إلّا في بناء دولة ديمقراطية تعددية قائمة على أسس المواطنة المتساوية، دون تمييز بين مواطنيها. ووجود دستور وقوانين ضامنة لحقوق النساء وخالية من التمييز ضدهن، بالإضافة إلى العمل على التمكين ونشر الوعي حول أهمية مشاركتها الفاعلة في جميع مناحي الحياة، وخصوصًا مشاركتها السياسية. والعمل على تغيير الثقافة السائدة التي تتسامح مع التمييز على أساس النوع الاجتماعي. 

وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته النساء في السنوات العشر الماضية، وعلى الرغم من معاناتها، أعتقد أن المرأة السورية استطاعت أن تثبت قوتها وقدرتها على الاستجابة للتحديات بشكلٍ مذهل، من خلال خروجها للعمل لتأمين قوت عائلتها في ظل غياب الرجل، أو من خلال مشاركتها في نشاط المجتمع المدني رغم سطوة الاستبداد. هذه التحديات فرضت واقعًا جديدًا وخبرات جديدة وبعض الحقوق التي انتزعتها النساء من مجتمعاتها، ولن تتنازل عنها، وهذا سيسهم في التأسيس لتغيير حتمي مع الوقت.

الدستور تتويجًا للحلّ السياسي وليس الخطوة الأولى فيه

اسمحي لنا بالانتقال للحديث معك عن العملية السياسية التفاوضية، وقد وصلت فيها اللجنة الدستورية إلى الجولة الخامسة بلا نتائج تذكر، وبعد انقسام السوريين حول عملية التفاوض وكتابة الدستور، ومن قبل انقسامهم حول شرعية اللجنة الدستورية وفعاليتها ونجاعة أو فشل الفكرة عمومًا، ما تقويمك لهذه العملية السياسية برمتها؟ وما موقفك من اللجنة الدستورية؟

 أنا مع الحلّ السياسي الذي يضمن وحدة سورية، ويضمن الانتقال إلى دولة ديمقراطية تعددية.. دولة المواطنة الكاملة والمتساوية لكل مواطنيها، بغض النظر عن الجنس والدين والعرق وأي تصنيفات أخرى. يجب التأسيس لهذا الحلّ عبر خطوات بناء الثقة وإرساء بيئة آمنة ومحايدة على أساس مرجعية “بيان جنيف” وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وكحال كثير من السوريات والسوريين، أرى أنّ الدستور يجب أن يكون تتويجًا للحلّ السياسي وليس الخطوة الأولى فيه، ولكن كلنا يعرف الظروف التي رافقت تشكيل اللجنة الدستورية وما رافق إعلانها من غموض وافتقار للمقوّمات التي تجعل منها ركنًا من أركان الحلّ السياسي. ومع هذا ساندناها في الحركة السياسية النسوية، بعد نقاشات مطولة، من موقع المراقب والناقد والمصوب لعملها كوسيلة لتحريك المسار نحو الحلّ السياسي، واعتبار عدم المضي في المسارات الأخرى للحلّ السياسي هو دليل قاطع على الرغبة في إفشال عمل اللجنة الدستورية واستخدامها وسيلة للتهرّب من الاستحقاقات، وهو ما أثبته النظام الذي يستثمر في الوقت والذي لن يقبل بأي خطوة على طريق الحلّ إلّا مكرهًا.

غالبية أعضاء فريق المعارضة في اللجنة الدستورية يقولون: إنّ “اللجنة الدستورية هي المدخل لتطبيق القرار الأممي رقم 2254 وتحقيق الانتقال السياسي”، مؤكّدين أنّ مشاركتهم “لا تعني أبدًا التنازل عن أيّ من أحكام القرار المذكور”. ما رأيكِ في ذلك بعد ما آلت إليه الأوضاع؟

لا أشكك في صدق أقوال غالبيتهم. أعتقد أنهم رأوها المدخل الوحيد المتاح لتحريك المسار السياسي في ظل الاستعصاء الحاصل بسبب تضارب مصالح القوى الدولية والإقليمية، وعدم إمكانية التوصل إلى تسوية تلبي مصالحها، مع الأسف والحزن لهذه الحقيقة. وما آلت إليه الأمور كان متوقعًا، فلن يتقدّم نظام الأسد خطوة واحدة باتجاه الحلّ إلّا مرغمًا، وهذا لن يحدث إلّا بإرادة واتفاق دولي وبضغوط جدّية، ويبدو أنّ الظروف لم تنضج بعد، وما زال الدعم الروسي والإيراني يسند استمرار النظام.

إعداد دستور سوري جديد هو جزء من القرار الأممي 2254، لكن هناك من الخبراء القانونيين من يرى أنّ العمل على هذا الجزء ينسف هذا القرار، الذي ينصّ على خطوات ثلاث هي: (الهيئة الحاكمة، فالدستور، فالانتخابات)، وأنّ عدم مراعاة هذا التسلسل يطيح بالقرار؛ ماذا تقولين في ذلك؟

لا أعتقد أنّ العمل على الدستور يطيح بالقرار، فالدستور جزء أساسي من العملية السياسية، كونه الضامن الأساس لحقوق المواطنات والمواطنين، ومن الضروري وضع دستور عصري جديد يتجاوز ما وضعه النظام الدكتاتوري، ولذلك كان العمل على صياغة الدستور الجديد تحديًا تم قبوله في إطار الممكن، وفي إطار الجهود الرامية للتوصل إلى الاتفاق السياسي حول المرحلة الانتقالية، مع الإصرار على أهمية التفاوض حول هيئة الحكم الانتقالي وأولوية تأمين البيئة الآمنة والمحايدة، قبل إجراء أي عملية استفتاء أو انتخابات.

هل لديك ملاحظات على فريق المجتمع المدني المشارك في المفاوضات؟ وهل ترين أنّ بعض الأعضاء غير مؤهلين للخوض في هذا الاستحقاق المصيري، خاصّة من حيث افتقارهم إلى الاختصاص بالقانون الدستوري؟

لا أعرف جميع المشاركات والمشاركين في فريق المجتمع المدني. قد يكون هناك بعض الأعضاء غير المؤهلين، وبرأيي، ليس بالضرورة أن يكون جميع المشاركين من الخبراء بالقانون الدستوري، ولكن الأمر المؤكد بالنسبة إلي هو وجود أعضاء اختصاصيين، نساء ورجالًا، مؤهلات ومؤهلين على أعلى مستوى، وأنا شخصيًا أثق بهن/م وبخبراتهن/م وأطمئن لوجودهن/م.

لا لـ “العدالة التصالحية” كبديل عن “العدالة الانتقالية”

كخبيرة قانونية، ماذا عن مفهوم “العدالة التصالحية” الذي طرحه المبعوث الأممي غير بيدرسون، أخيرًا (قبل أن يتراجع عنه بعد احتجاجات أعضاء من اللجنة الدستورية)؛ ما الذي كان يريده (بيدرسون) من تبديل مفهوم “العدالة الانتقالية” إلى “التصالحية”؟ وما أهمية توقيت ذلك؟ وما الفرق بين “العدالة الانتقالية” و”العدالة التصالحية”؟

“العدالة التصالحية” هي نهج قانوني بديل عن العقاب، يميل إلى إشراك الضحايا والجناة في إجراءات العدالة، وتصديهم معًا للأضرار والمعاناة الواقعة نتيجة الفعل. فالفكرة تقوم على السعي إلى إقامة العدل على الجناة والضحايا على السواء، فإضافة إلى استعادة حقوق الضحايا يجب إعادة ادماج الجاني بهدف إعادة توطيد العلاقات الاجتماعية.

من حيث المبدأ، قد تكون “العدالة التصالحية” وسيلة مجدّية لحلّ المنازعات الطفيفة والمشاكل الأسرية والمدرسية والمجتمعية التي يتورط فيها الشباب غالبًا، كونها تحد من استخدام الأحكام القضائية والسجن، ولكن لا يمكن قبول طرحها في الوضع السوري كبديل عن العدالة الجنائية كأحد تدابير “العدالة الانتقالية”، إذ إنها تهمل مصلحة الضحايا وتضعهم في وضع أكثر مساواة مع الجناة. وهنا أود أن أحيي الزميلات والزملاء الذين رفعوا أصواتهم واعترضوا على استخدام هذا المصطلح ومنعوا تكريسه في الأوراق الرسمية.

أعتقد أنّ طرح المبعوث الأممي غير بيدرسون لـ “العدالة التصالحية”، بدلًا من “العدالة الانتقالية”، لم يكن عن طريق الخطأ، فمنذ تأسيس غرف المجتمع المدني، وقد دُعيت للمشاركة في بعض جولاتها، بدت لنا بوضوح محاولات الأمم المتحدة للالتفاف والهروب من طرح قضية “العدالة الانتقالية”، بحجة أنها تستفز النظام وممثّليه، ولا تساعد في دفعهم للانخراط بالعملية السياسية، والسماح لمن بالداخل المشاركة في غرف المجتمع المدني.

بتقديرك، ما أهمّ معوقات تحقيق العدالة الانتقالية في سورية، في هذه المرحلة، على الصعيدَين المحلي والدولي؟

الانتقال الديمقراطي هو الشرط الأساسي اللازم للبدء بتدابير العدالة الانتقالية. فمن المستحيل تحقيق العدالة الجنائية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بوجود النظام الذي قام بارتكابها. كذلك لا يمكن إنصاف الضحايا وجبر الضرر واستعادة الثقة في الدولة ومؤسّساتها دون الانتقال إلى عهد جديد قائم على سيادة القانون والمواطنة المتساوية.

أخيرًا، هل يمكن التنبؤ بمآلات الأوضاع في سورية؟

الأوضاع في سورية مفتوحة على كل الاحتمالات، قد يتبدل كل شيء بين عشية وضحاها، على الأقل أنا أعيش على هذا الأمل، لأنّ لكل شيء نهاية، ولا بدّ من نهاية لنظام الأسد المجرم الذي لم يعد مقبولًا في هذا العالم، ومع إدراكي لحجم الخسائر البشرية والمادية والأوضاع السيئة فإنني أعول على الإنسان السوري وعلى قدرته في إعادة البناء، خصوصًا بعد أن أثبت جدارته وحبّه للعمل والإنجاز والتفوق، بمجرد حصوله على فرصة وظروف مناسبة.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى