أبحاث

نقاش عن الفيدرالية والوطنية بين راتب شعبو وبكر صدقي

الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية/ راتب شعبو

تعكس كثرة الحديث بين النخب السياسية السورية عن ضرورة الفيدرالية، وإبراز حسناتها واعتبارها شرطاً للديمقراطية، وحماسة الاستشهاد بالدول الفيدرالية الديمقراطية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا…، للتدليل على أن الفيدرالية تترافق بالديمقراطية (تستبعد روسيا مثلاً من الاستشهاد وكذلك الاتحاد السوفييتي قبلها، وفنزويلا والسودان والصومال والعراق… إلخ)، نقول يعكس هذا الحماس “الفيدرالي” تحوّلاً في طبيعة الصراع في سورية، من كونه ثورة، أو صراعا يحرّكه المطلب الديموقراطي بين شعب ونظام مستبد، إلى كونه صراعاً بين قوى أمر واقع ذات كيانات “دولتية” مستجدّة ومستبدّة، بطبيعة الحال، ونظام مركزي. مع هذا التحول، من الطبيعي أن يتفوّق المطلب الفيدرالي على المطلب الديموقراطي الذي تبعثرت القوى صاحبة المصلحة فيه (الشعب السوري المشرّد والمقموع في كل مكان)، فيما تحضر بكثافة القوى صاحبة المصلحة باللامركزية السياسية أو بالمطلب الفيدرالي، ليس لأن هذا المطلب مدخل إلى الديمقراطية، كما يمكن أن يقال للتشويش، بل لأنه يمكن أن يطوّب لهذه القوى “غير الديموقراطية” سلطانها على مناطق سيطرتها.

لا يصبّ كلامنا هذا في رفض الفيدرالية أو قبولها، بل في محاولة تبيُّن دلالة غلبة هذه الفكرة وسخونة طرحها في المجال السياسي السوري، في حين أن الوجع الذي أخرج السوريين إلى الشوارع كان الاستبداد وغياب القانون والفساد أو، باختصار، سيطرة طغمةٍ على جهاز الدولة. لماذا يجري اليوم التركيز على الفيدرالية التي لا تعني، بحدّ ذاتها، حلاً لأي من المشكلات والأوجاع التي خرج السوريون لمعالجتها؟ لماذا تتراجع عموم النخب السياسية المعارضة، وتستعد للقبول بمجلس عسكري، يعني القبول به تجميد المطلب الديموقراطي، فيما يطفو على السطح المطلب الفيدرالي؟

مرة أخرى، لا يعني كلامنا أننا لا نعي تعقيد الوضع السوري، ولا نعي أن المطلب الديمقراطي حلمٌ يفصلنا عنه مستنقع يتعين علينا الخوض فيه، مستنقع من الانقسامات السياسية والمجتمعية ومن الأزمات الاقتصادية وانتشار الفصائل والمجموعات المسلحة والخراب… إلخ، وأن عبور هذا المستنقع يحتاج إرادة سياسية غير مشتتة، وحزما لاستعادة الشروط الأولية لمعنى بلد موحد. لا يصعب فهم هذا بالتأكيد، ولكن لماذا لا تنعكس هذه المقدمات نفسها على المطلب الفيدرالي؟ لماذا يبدو المطلب الديموقراطي معيقاً لاستعادة وحدة البلد الجغرافية والسياسية، فيما لا تبدو الفيدرالية كذلك؟

لا يقتصر ترويج الفكرة الفيدرالية على المحيط الإعلامي والسياسي والثقافي لقوى الأمر الواقع (ما عدا النظام السوري حتى الآن) التي تتقاسم الأرض السورية، وتطمح إلى ترسيخ حدودها ووجودها وترسيمها، بل يشمل أوساطاً بعيدة أو مستقلة عن هذه القوى.

بالتدقيق نجد أن تصوّر الفيدرالية غير متفق عليه بين من يطرحونه. هناك من يريده حلاً لمشكلة “الأقليات”، فيقترح فيدرالية على أساس قومي ومذهبي، (هذا طرح المحيط السياسي للقوى المشار إليها)، وهناك من يطرح الفيدرالية (يفضّلون تسميتها اتحادية) على أساس جغرافي، أي إعطاء المحافظات (مع تفضيل تسميتها ولايات) استقلالية كبيرة (هذا طرح أوساط مستقلة عن هذه القوى).

من نافل القول إن شكل الحكم والإدارة وتوزيع السلطات والموارد الطبيعية والعلاقات بين المركز والمحيط… إلخ، هي من القضايا التي تحتاج إلى نقاش وتوافق وحلول يكون للشعب السوري أو لممثليه المنتخبين دور في تقريرها، ولكن هذا غير ممكن، إلا بعد تفكيك سيطرة الطغمة الأسدية على الدولة السورية. على هذا، الحديث عن فيدرالية (اتحادية)، أو عن أيٍّ من درجات اللامركزية على أساس جغرافي، سابق لأوانه، ولا يحوز أولوية، ولا يمكن التقرير فيه قبل تحرير الدولة السورية (جزئياً على الأقل) في سياق عملية إرساء نظام حكم ديمقراطي.

أما الكلام عن أساس قومي ومذهبي للفيدرالية، وهو برأينا الدينامو الأساسي الذي يحرّك هذا المطلب، (يمكن الانتباه إلى أن الفيدرالية العراقية التي أقرّها الدستور في 2005 لم تطبق سوى في إقليم كردستان العراق، ولم تعد بالخير المأمول على قاعدة الشعب العراقي، ولم تكن مدخلاً إلى ديموقراطية فعلية، لا في العراق، ولا في الإقليم الكردي)، فإنه ينطوي على إمكانية أو احتمال تواطؤ مع الطغمة الأسدية وحماتها الخارجيين. أساس هذا التواطؤ إمكانية تعايش سلطات الأمر الواقع الحالية في سورية، وفق توزيع للسلطات يتم الاتفاق عليه بينها، ذلك أن هذه الفيدرالية لا تستدعي “إسقاط النظام” أو تفكيك قبضة الطغمة الأسدية عن الدولة السورية، إنها تستدعي فقط قبول هذه الطغمة بالتعايش مع السلطات المشابهة لها في الطبيعة، في شمال شرق سورية وشمال غربها وجنوبها، بعد الاعتراف المتبادل فيما بينها.

الطرح الفيدرالي على أساس قومي ومذهبي مرشّح أن يكون مخرجاً تسووياً احتياطياً لطغمة الأسد، فقد يكون في هذا الطرح فتح صفحة جديدة للطغمة الأسدية، على عكس التبشير الديموقراطي لدعاته. ومن غير المستغرب أن تتحوّل سلطات الأمر الواقع في إدلب والقامشلي ودرعا، إذا تلقت وعداً بترسيم وضعها الحالي في إطار دولة فيدرالية، إلى أعوان للطغمة الأسدية، يخرجونها من عنق الزجاجة، وتخرجهم من حالتهم غير الرسمية، ويشمّرون عن زنودهم معاً للانتهاء من دفن المطلب الديموقراطي الذي حرّك السوريين ذات يوم إلى الثورة.

عندما نرى مشكلة النظام السوري في مركزيته نرى الحل في المطلب الفيدرالي أو في درجةٍ ما من اللامركزية. وإذا كان المطلب الديموقراطي يعني تفكيك النظام، بحكم الضرورة، فإن النظام يمكنه استيعاب المطلب اللامركزي، وصولاً إلى مطلب الفيدرالية، ويمكنه التكيف معه. على هذا، يضمر تقديم المطلب الفيدرالي على الديموقراطي، كما نشهد اليوم، فتح نافذة نجاة للطغمة الأسدية.

العربي الجديد

——————————–

نقاش سوري متجدد حول الفيدرالية/ بكر صدقي

نشر الصديق راتب شعبو، في صحيفة «العربي الجديد»، مقالة بعنوان «الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية» يمكن اعتبارها حلقة جديدة في سلسلة نقاشات سابقة تناولت هذا الموضوع.

لا تخوض المقالة في مبدأ الفيدرالية كشكل من أشكال الدولة الحديثة، بل تستبعده بوضوح لمصلحة تحليل سياسي لطرح الفيدرالية والعلاقة بين الفيدرالية والديمقراطية في الحالة السورية، فيحكم على من يدافعون عن فيدرالية الدولة بأنهم ينطلقون من إرادة تكريس سلطات الأمر الواقع المحلية القائمة الآن، بما في ذلك التعايش مع النظام الأسدي. في حين يحدد الكاتب موقعه في الصراع بالدفاع عن دولة ديمقراطية تكون بديلاً لنظام الأسد، في استعادة مخلصة لمبادئ ثورة الشعب السوري التي انطلقت في ربيع العام 2011.

والحال أن الوضع السياسي في عموم سوريا اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عما كان عليه قبل عشر سنوات، وما دام الحديث يدور في السياسة، لا في المبادئ الدستورية المجردة، فلا بد من إرساء النقاش على أسس واقعية، الأمر الذي لا يجهله الكاتب ولا ينكره، لكن الخلاصات التي وصل إليها لا تتفق مع هذه المقدمات. وسبب ذلك، في رأيي، هو المسافة الفاصلة بين معطيات الواقع ومتطلبات الإيديولوجيا. وأعني هنا «إيديولوجيا الوطنية السورية» التي تفتقد لأي مقومات في الواقع السوري، ما لم نحسب كثرة إعلانات التمسك بها دليلاً على وجود المقومات.

فنحن نعرف أن جميع الأحزاب والتيارات والأطر التحالفية المعارضة في سوريا، تقريباً، تعلن في برامجها وبياناتها وخطابها العام عن تمسكها بتلك الوطنية مع المتممات المألوفة كالديمقراطية ودولة المؤسسات وسيادة القانون والنظام الجمهوري ومبدأ تداول السلطة… إلى آخر ما هنالك من مقومات الدولة الحديثة بنماذجها القائمة في قسم من دول العالم. بالمقابل هناك تياران رئيسيان في المشهد السياسي السوري، لا يتفقان مع هذه الرؤية، وهما التيار الإسلامي والتيار الكردي إذا جاز التعبير. لدينا أخيراً النظام الأسدي المتمسك بكل أسس ومبادئ الدولة الدكتاتورية المركزية المتمحورة حول رأس النظام والقائمة على أبديته وعدم قابليته لأي إصلاح أو تعديل.

وفي حين تتمتع التيارات الثلاثة الأخيرة بوجود واقعي وحيثيات اجتماعية متفاوتة القوة، يفتقر تيار «الوطنية السورية» إلى ذلك، إضافة إلى تشتت دعاته بين أفراد ومجموعات صغيرة لا تأثير يذكر لهم على مجريات الصراع. ليست هذه الحقائق بغائبة عن الكاتب ولا عن المقالة، ولا هو يحمل أوهاماً بشأن المستقبل، لكن النتيجة التي انتهى إليها التحليل ولخصها عنوان المقالة في أن «الفيدرالية تشكل مخرجاً للنظام الأسدي»، فيها إفقار شديد لممكنات الواقع. فلا الفيدرالية قابلة للتحقيق بمجرد الدعوة إليها، ولا النظام آيل للسقوط في فترة قريبة على رغم كل هزاله إزاء القوى الأخرى الحليفة أو الخصم، ولا القوى الدولية الفاعلة في الصراع تبدو قريبة من التوافق على حل سياسي يتضمن شكلا مركزيا أو فيدراليا أو تقسيماً أو غيره. والأهم من كل ذلك أن السوريين أنفسهم منقسمون تيارات شتى لا توحدهم رؤية جامعة لمستقبل البلد.

ربما من مهمة القوى السياسية أن تصنع الأمل وتلم شمل السوريين المنقسمين، ولكن بشرط عدم بيعهم أوهاماً أو التنكر لمعطيات الواقع وبضمنها التطلعات المختلفة لمختلف الجماعات السورية. فيكون السؤال الواجب طرحه هو: كيف يمكن اكتشاف مصالح مشتركة لغالبية كبيرة من السوريين الموزعين بين مختلف «الدويلات» السورية القائمة والمنافي القريبة والبعيدة، وإعلان ذلك بلغة وممارسة يمكنهما الوصول إلى مختلف الجماعات والأفراد وإقناعهم. أما شيطنة مفهوم الفيدرالية، على سبيل المثال، فهو لا يساعد على ذلك، تماماً كمحاولة فرض النظام الفيدرالي على الضد من إرادة أكثرية واضحة ومعلن عنها. كذا لا يمكن إقناع البيئة الموالية بمزايا النظام الديمقراطي أو أهمية الحريات الفردية أو تداول السلطة، بكلام مجرد وإيديولوجي لا يحسب حساباً للمصالح أو موازين القوى الاجتماعية، أو بتعداد جرائم النظام الأسدي، أو بمناشدة وطنيتهم السورية التي يختلفون في مضمونها مع الجماعات الأخرى.

من زاوية نظر قوى الأمر الواقع قد تكون دوافعها من المطالبة بالفيدرالية كما ذكر المقال، أي لتكريس سلطاتها في مناطق سيطرتها، وهي سلطات دكتاتورية بتنويعات مختلفة بطبيعة الحال، ما دامت قائمة أساساً على امتلاك السلاح. وصحيح أنها قابلة للتعايش مع بقاء النظام الأسدي إلى جوارها جغرافياً، وفي حالة «الإدارة الذاتية» في الشرق هناك تعايش حتى داخل المدينة الواحدة.

ولكن من زاوية نظر الجماعات السورية التي تحكمها سلطات الأمر الواقع، فالدافع يختلف إذا تعلق الأمر بدعوى الفيدرالية. ومن أجل الاختصار يمكن القول إن قسماً غالباً من الرأي العام الكردي ينظر بإيجابية إلى النظام الفيدرالي، من غير أن يعني ذلك تمسكاً بسلطات الأمر الواقع (حزب الاتحاد الديمقراطي أو تفريعاته) بل في تعارض معه عند كثيرين. بالمقابل ينظر القسم الأكبر من الرأي العام العربي بتوجس شديد، وغالباً بعدائية معلنة، إلى فكرة الفيدرالية، بوصفها مدخلاً إلى تقسيم سوريا كما يعتقد.

بعيداً عما يفهمه كل من سلطات الأمر الواقع وجمهوره المفترض من الفيدرالية، ونواياهما المبيتة، وبعيداً عن العداء الشديد المقابل لفكرة الفيدرالية، ليست هناك مؤشرات قوية لاقتراب حل سياسي للمشكلة السورية بتوافق الدول الفاعلة، وهو مدخل لا مفر منه سواء لإقامة نظام فيدرالي أو مركزي. لذلك من السابق لأوانه الحديث عن «إنقاذ» النظام الأسدي بواسطة طرح فيدرالية الدولة. فهناك احتمالات أخرى لإنقاذه من خلال التمسك بدولة مركزية أيضاً على رغم غياب مقوماتها حالياً. وما دام الأمر في إطار التحليل السياسي المجرد فلم لا يمكن الحديث أيضاً عن تفكيك نظام الأسد بواسطة نظام فيدرالي مفروض كقوة أمر واقع. فإذا فشلت الثورة السورية في تفكيكه مركزياً، فلا شيء يمنع من تفكيكه بالتقسيط، أي بصورة موضعية بدءاً من «شرق الفرات» كما يقال. وهذه هي الدعاوة الإيديولوجية لحزب الاتحاد الديمقراطي على أي حال: فرض نظام الإدارة الذاتية في مناطق سيطرته ليصبح ذلك نموذجاً قابلاً للتعميم على مستوى سوريا. عليّ القول هنا بأنني لا أتبنى هذه الدعاوى، فسجل الحزب المذكور من الانتهاكات كاف وحده لتدمير «جاذبية» النموذج. على ألا ننسى أن نموذج الدولة المركزية كما عرفناها «أقل جاذبية» بعد، ليس فقط لدى الكرد بل لدى سكان مختلف المناطق السورية أيضاً. بعيداً عن كل ذلك ثمة واقعة لا يمكن إنكارها هي أن أي قضم من نطاق تحكم النظام الأسدي، جغرافياً أو بنيوياً، هو نوع من تفكيكه وإن لم يكن كما أرادت غالبية كبيرة من السوريين الذين ثاروا ضده في العام 2011.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————

الوطنية السورية والفيدرالية …. د/ راتب شعبو

في مقاله في “القدس العربي” بتاريخ 29 نيسان/أبريل 2021 بعنوان (نقاش سوري متجدد حول الفيدرالية)، يتناول الصديق بكر صدقي بالنقد مقالي الذي يحمل عنوان (الفيدرالية مخرجا للطغمة الأسدية) المنشور في “العربي الجديد” في 23 من الشهر نفسه.

يعرض بكر فكرة المقال بأمانة وفهم، حين يقول إن حديثي عن الفيدرالية هو حديث “في السياسية لا في المبادئ الدستورية المجردة“. مقالي الذي يتناوله بكر لا يحدد موقفاً مبدئياً من الفيدرالية، بل ينطلق من ملاحظة تراجع المطلب الديموقراطي وتقدم المطلب الفيدرالي في سورية، ويقدم تفسيراً يقول إن هذا التحول يعكس تحولاً في طبيعة الصراع من كونه بين طغمة استبداد وشعب يريد التحرر، إلى كونه صراعاً بين “مركز” مستبد و“أطراف” عسكرية مستبدة، استطاعت في سياق الصراع المديد وتعقيداته وتحولاته أن تسيطر على مناطق من سورية وتحكمها على الطريقة الأسدية. والحقيقة إنه من الوهم أن ننتظر من قوى عسكرية طارئة وواقعة تحت تهديد دائم، أن تكون ديموقراطية مع المحكومين في مناطق سيطرتها، ومن الوهم أن نتوقع منها أن تكون نموذجاً جاذباً للسوريين.

أولويات سلطات الأمر الواقع في سوريا اليوم، مغايرة، بل مناقضة، لأولويات الثورة التي خرج لها السوريون. وكأي سلطة، فإن أولوية السلطات الطرفية المستجدة، مثلها في ذلك مثل السلطة المركزية، هو أن تحافظ على ذاتها وتستمر على حساب كل المبادئ. هذه الأولوية تشكل دينمو المطلب الفيدرالي الذي يتردد اليوم في سوريا، وهو نفسه دينمو تهميش المطلب الديموقراطي. مرة أخرى نؤكد أن هذا تفسير سياسي لتقدم المطلب الفيدرالي مع استمرار نظام الأسد. أي لا يحمل المقال موقفاً من فكرة الفيدرالية نفسها، ومناسبتها أو عدم مناسبتها لسوريا. على هذا، ليس في الأمر “شيطنة للفيدرالية“، إنه مجرد بحث عن النسغ المغذي لهذا الميل الفيدرالي الذي لم يكن له حضور في مطالب الثورة.

وعلى خلاف ما يقول بكر، فإن غالبية النخبة السياسية السورية العربية، حسب معرفتي، تتكلم اليوم باللامركزية التي تنوس بين اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية (الفيدرالية). ولا بد أن بكر يعلم أن “مبادرة سورية الاتحادية” التي أطلقت في خريف 2019، كانت مبادرة عربية أكثر منها كردية، وكان مركزها إدلب وليس القامشلي. حيثما توجد سلطات أمر واقع طرفية، سنجد مطلباً فيدرالياً. لا ينبغي أن يُجرّ نقد المطلب الفدرالي قسراً إلى ساحة مواجهة مع التطلع الكردي. صاحب هذه السطور يؤيد الحق الكردي، وحقوق كل الجماعات القومية والإثنية في سورية بكل تدرجاتها.

يرى بكر إن النتيجة التي خرجت بها في مقالي، والتي يلخصها عنوان المقال (الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية)، “فيها إفقار شديد لممكنات الواقع“، لكني لا أقصر ممكنات الواقع على نتيجتي تلك. كل ما أراد المقال قوله هو إن هذا الطرح، إذا توفرت له الحظوظ والدعم الدولي، سيكون على حساب المطلب الديموقراطي، ويمكن أن يفتح باباً لنظام الأسد ليدخل منه إلى مستقبل سورية. هذا كي نخفف من كثافة الكلام الذي يرمي كل من يتحفظ اليوم على طرح الفيدرالية، بمعاداة الديموقراطية. ينبغي أن ندرك إنه لا يوجد رابط ضروري بين الفيدرالية والديموقراطية. أما الفيدرالية المفروضة (فيدرالية الأمر الواقع) فهي غير ديموقراطية بطبيعة الحال.

سأختلف مع بكر أيضاً في فكرتين:

الأولى هي فكرته عن “تفكيك نظام الأسد“، يقول بكر إن اقتطاع أي جزء، جغرافي أو بنيوي (لم أفهم ما المقصود ببنيوي هنا)، من نطاق تحكم النظام، هو نوع من تفكيكه. الواقع أن نظام الأسد لم يتفكك مع أنه خسر في سياق الصراع الذي تلا الثورة، معظم الجغرافيا السورية، ولم يتفكك اليوم وهو فاقد السيطرة، منذ سنوات طويلة، على أجزاء واسعة منها. على العكس، يمكن للقوى التي تسيطر على المناطق التي خسرها النظام، أن تشكل مستنداً “فيدرالياً” له، إذا ما سدت في وجهه السبل الأخرى.

هذا عدا عن أن غرض المتحمسين للفيدرالية اليوم، قبل تحقيق تغيير سياسي فعلي يتضمن فك احتكار الطغمة الأسدية للدولة السورية، ليس “تفكيك النظام“، بل إنشاء “أنظمة” مشابهة تتكامل مع “النظام“.

الثانية تتعلق بكلام بكر عن “أيديولوجيا الوطنية السورية“. يمكن أن يكون الكلام عن الوطنية السورية أيديولوجيا، بمعنى كلام وطني يستر غايات غير وطنية، ولكن حاجة السوريين إلى الوطنية السورية ليست أيديولوجيا، بل طريق خلاص بالأحرى. الحقيقة إنه لا يوجد أمام السوريين من سبيل لخلاصهم سوى الوطنية السورية، وعلى هذا لا تبدو “إعلانات التمسك بالوطنية السورية” شيئاً عديم القيمة. ليس أمام سورية، بلا وطنية سورية، سوى التفكك، وليس في هذه الحال مصلحة لأحد، على عكس تصور ضمني له انتشار غير قليل.

يبدولي تأكيد بكر على إن الوطنية السورية تفتقد لأي مقومات في الواقع السوري، متسرع أو “عصبي“، صحيح إن خطوط الانقسام داخل المجتمع السوري ملتهبة إلى حدود قصوى، وهذا ليس عجيباً في بلد شكلت خطوط انقسامه “الطبيعية” جبهات حرب. غير أن هذا ليس جديداً في تاريخ الشعوب، وليس بعيداً عن عقل المتأمل أن مصلحة السوريين تكمن في بناء وطن، وليس في الكفر به لأنه ارتبط لعقود باسم عائلة “لاحمة” (على حد تعبير الصديق الفنان عبد الحكيم قطيفان). من باب المصلحة، وليس من باب الشعر، لا خلاص للسوريين سوى بوطنية سورية ديموقراطية. ومن باب التاريخ والمنطق السياسي لا يوجد ما يعيق السوريين من بناء وطن يحققون فيه ذاتهم كأفراد وكجماعات.

كما أن ضعف الوطنية السورية اليوم هو أدعى إلى التأمل أكثر في فكرة الفيدرالية التي من شأنها أن تزيد في إضعاف الوطنية السورية وفي تفكيك البلاد في المحصلة.

لا يوجد شعب بدون خطوط انقسام، تلتهب وتهدأ، ولا يوجد شعب بدون صراعات داخلية تكون مدمرة أحياناً، والحل الوحيد هو إيجاد آلية متوافق عليها لحل الخلافات، وتشكل الدولة الوطنية الديموقراطية ومؤسساتها المحل الذي تنتهي إليه الصراعات وتجد فيه حلولها.

——————————

الوطنية السورية بين الواقع والمتخيل/ بكر صدقي

بالنظر إلى مجمل المشهد السياسي في سوريا، اليوم، لا يمكننا الحديث عن «أكثرية سياسية» لا بد منها لأي نظام يشمل الأراضي السورية، بصرف النظر عن هويته. فنظام الأسد الكيماوي الذي لم تنزع عنه الشرعية الأممية، على رغم نزعها الرمزي من قبل عدد كبير من الدول، لا يمثل أكثرية سياسية بالنظر إلى رفض ملايين السوريين لبقائه، وخروج مناطق شاسعة بمجتمعاتها المحلية عن سيطرته. بل يمكن الزعم أنه لا يتمتع بقوة تمثيلية حتى في مناطق سيطرته نفسها تبلغ مستوى الأكثرية السياسية فيها. وحدها الشرعية الأممية تجعل النظام محافظاً على تمثيله للدولة مهما كانت هذه فاقدة لعموميتها ومقوماتها ومن اقترابها من نموذج الدولة الفاشلة، وهي ما تجعل الموالين له يعتبرون ولاءهم له ولاءً للدولة. في هذا الوضع يتمتع نظام الأسد بتفوق نسبي على نظرائه من قوى الأمر الواقع المسيطرة على مناطق خارج سيطرته، فهذه القوى لا تزعم، هي نفسها، أنها ممثلة للدولة السورية، ناهيكم عن اعتراف دول أو منظمات دولية بها بهذه الصفة.

تقتضي الموضوعية، والحال هذا، أن يوصف نظام الأسد بما يستحقه: أي كونه قوة بين قوى الأمر الواقع المفروضة على السوريين بقوة السلاح ودعم مختلف الدول المنخرطة في المعمعة السورية، أي بالغَلَبَة. وهنا تبرز الفائدة النسبية لنزع الشرعية عنه من قبل حكومات عدد من الدول القوية، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى. على أن هذا الموقف لا يمكن التعويل عليه بصورة مستدامة، فهو قابل للتغير بتغير الحكومات أو الأوضاع وموازين القوى السيالة. هذه الفائدة النسبية تتجلى اليوم في منع اندفاع بعض القوى الإقليمية لتطبيع علاقاتها مع النظام، وهو ما يعني إعادة الشرعية له وتعويمه من جديد.

من جهة أخرى، استمرار الوضع الحالي للنظام منبوذاً في الإطارين الإقليمي والدولي، يعني استمرار حالة التفكك القائمة في الكيان السوري، في ظل غياب التوافقات الدولية على حل مستدام للصراع السوري. أي بقاء «الدويلات» السورية الموجودة والمتجاورة كأمر واقع إلى أجل غير مسمى. ومع «انتخاب» بشار الأسد لولاية جديدة من سبع سنوات، في أواخر هذا الشهر، ورفض عدد كبير من الدول الفاعلة لنتائج تلك الانتخابات كما هو معلن من الآن، يمكن توقع استمرار الدويلات المجاورة لدويلة الأسد للفترة نفسها مبدئياً.

في ظل هذا المشهد المروّع يبدو الحديث عن وطنية سورية كنكتة لا تثير الضحك. ولا يقتصر الأمر على قوى أمر واقع، بما في ذلك وأولاً نظام الأسد، بل يتعداه إلى انقسامات أهلية حادة ليست بنت اليوم، بل لها تاريخ يكاد يتطابق مع تاريخ الكيان السوري نفسه، مع وجوب الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بانقسامات «جوهرية» خارج التاريخ وتحولاته، بل هي جزء من ذلك التاريخ، تتحول بالتضافر مع العوامل التاريخية الأخرى.

فالكيان السوري الذي نعرفه كان حاصل تجميع أربع دول في ظل الانتداب الفرنسي، دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة الدروز. المقاومة الوطنية للاحتلال الفرنسي التي انطلقت كحركات محلية، انتهى بها المطاف إلى الاتفاق على وحدة الدولة السورية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انسحاب القوات الفرنسية واستقلال الدولة السورية بنظام جمهوري يقوم على تداول السلطة بواسطة الانتخابات. لكن الانقلابات العسكرية المتتالية التي طبعت تاريخ سوريا الحديث، ثم الوحدة السورية ـ المصرية التي حولت سوريا إلى «إقليم شمالي» تابع لمصر، انتهاءً بانقلاب حافظ الأسد في العام 1970، الذي سيحول سوريا إلى نظام سلالي، هي المحطات الرئيسية التي شكلت سوريا كما نعرفها، ولم تكن «الحقبة الليبرالية الذهبية» المزعومة في النصف الأول من الخمسينيات إلا استثناءً خارج السياق التاريخي والمناخات الأيديولوجية السائدة آنذاك، إضافة إلى أنها فشلت في تشكيل هوية وطنية سورية بسبب تهميشها لمتون اجتماعية غير مرئية كحال الكرد والأقليات الدينية والمذهبية.

تعامل النظام الأسدي مع «المكونات» السورية كأدوات لترسيخ سيطرته المطلقة، فعمق الشروخ الأهلية بدلاً من ردمها، في حين طمس الاجتماع السوري بكامله لمصلحة أدوار خارجية، ولعب دور مخرّب اللعبة في الإقليم لتحقيق مكاسب لإدامة حكمه. وإذ انفجر الوضع في وجه وريثه في العام 2011، وبسبب العنف المهول الذي واجه به الأخير الانتفاضة الشعبية السلمية، انفجر معه الاجتماع السوري القسري الذي كان سائداً في العقود السابقة.

عموماً يمكن تشبيه الكيان السوري منذ لحظة تشكله بكيس خيش مملوء بثمار البطيخ ومغلق بإحكام. أمام المؤمنين بهوية وطنية سورية اليوم، مهمة تشكيلها من الصفر تقريباً. لا ينفع الكلام المجرد الحالم عن هوية سورية ليست إلا شيئاً متخيلاً، الشرط الأول لتحقيقها هو التوافق بين البطيخات التي كانت في الكيس وتناثرت شتى بعد تشققه، بصرف النظر عن تفاوت أحجام البطيخات.

تشبه اللحظة السورية الراهنة لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية وتفككها. يحلم الإسلاميون بسوريا تحت سلطتهم، تهمش الأقليات الدينية والقومية، وفي أحسن الأحوال «تتسامح» معها، أما المعارضون غير الإسلاميين، وهم تيارات وأفراد متنوعون، فهم يتحدثون عن دولة قائمة على المواطنة، في مجتمع غريب عن مفهوم الفرد الحديث غير المؤدلج فوق ذلك. أي الفرد الافتراضي المعني بالبرامج السياسية للأحزاب، لا بالانتماءات الأهلية للقائمين عليها. بحيث تتشكل الدولة من مجموع الأفراد المواطنين الذين يتشكل منهم السكان، وتقوم علاقة خطية بين كل منهم وبينها. فيمنح صوته الانتخابي للحزب الذي يعده بتحقيق مصالحه، بعيداً عن الإيديولوجيات المعلنة وعن الانتماءات الأهلية. هذا التصور لـ«دولة المواطنة» غير المتحقق في أي مكان في العالم، ينطلق منه أنصار الوطنية السورية كما لو كان بديهة لا تحتاج إلى نقاش. في حين أن صعود التيارات الشعبوية في عدد من الديمقراطيات العريقة يشير إلى أن الأمر ليس بهذه البداهة.

فإذا أدى تفكك الإمبراطورية العثمانية، في سوريا، إلى حشر بطيخات متنوعة في كيس خيش، وفشلت النخب الحاكمة، طوال عقود ما بعد الاستقلال، في تشكيل اندماج وطني، فيجب استثمار لحظة تفكك الكيان السوري لإطلاق بداية جديدة لا تقوم على استعادة كيس الخيش العتيق نفسه تحت يافطات جديدة. مع العلم أن ثورة 2011 قدمت فرصة طيبة لصياغة وطنية سورية جديدة، سرعان ما ضاعت تحت وقع القنابل والحروب الدموية.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى