مقالات سينمائية

فيلم “جرأة”: الفن الكويري بين الشعرية والسينمائية والالتزام/ علاء رشيدي

لا يتوقف الفن الكويري عند الجنسانية، بل يتقاطع في كثير من موضوعاته مع الفن الوجودي، فالمجموعات الكويرية تعتبر من الفئات المهمشة، وبهذا هي تتقارب مع أسئلة اللامنتمي الوجودي.

يمكن اعتبار الفيلم- القصيدة “جرأة” Courage، من نوع الفن الكويري الذي يجمع إضافة إلى قضايا الجنسانية، موضوعات التهميش الاجتماعي، وقضايا الحريات والمساواة، والأسئلة الوجودية التي ترتبط بتجربة الكويري في مجتمع يعمل على عزله. وتكمن أهمية الفيلم في أنه نتاج مجموعة من الفنانين/ات الكويريين في لبنان، نشر تحت اسم جمعية Haven for artist. إضافة إلى أهمية التأليف الجماعي والتنفيذ الجماعي، فإن الفيلم يمكننا من سماع صوت الكويري العربي وبالتحديد اللبناني وهو يخاطب الكويري العالمي الأوروبي أو الأميركي.

العيش تحت أحكام الرقيب

يقترح علينا الفيلم رحلة بصرية ترافقنا ونحن نستمع إلى عدد من القصائد المكتوبة التي يلقيها شعراء وشاعرات صمموا قصائدهم/ن بالإنكليزية والعربية لتشكل بمجملها ديواناً شعرياً متكاملاً. الفيلم- الديوان الشعري يبدأ بقصيدة يخاطب فيها الكويري اللبناني المقموع الكويري العالمي المتمتع بكامل الحقوق، ومن طريق الأسئلة الموجهة إلى الكويري العالمي مباشرةً يشرح حاله، ومشاعره شعرياً:

“هل اعتدت أن تتجه بحذر نحو المثل لتسكن رغبات،

هل تعلمت التحكم بعيونك كي لا تفضح عن قلبك؟

هل أُجبرت على التنفس تحت الماء، واعتبار الحب كخيانة للإيمان، وبقيت تحضن إيمانك فوق كل شيء.

هل تعلمت كيف تبحر في المتاهة، دون أن تتوقع إلا الظلام.

هل تعلمت أن تحب أن تصارع أن تحتضنها قريباً منك. وأن تحتضنها عن بعد أيضاً.

هل تعلمت أن تكون خائفاً، ومع ذلك أن تكون شجاعاً بكل الأحوال.

هل تعلمت قيمة الصمت، الأمان الذي تحمله الأسرار.

هل جربت سابقاً الغوص في الظلال؟

هل أحببت دون أن تشعر أبداً بدقات قلبك، هل بقيت على قيد الحياة من قلة الموت؟”.

الحق الكويري في الإخفاء والصمت

عبر هذه الأسئلة الموجهة للآخر نكتشف الكويري العربي، هو ذلك الحذر بالتوجه نحو مبادئه، هو المجبر على الإخفاء، يبحر من ظلام إلى آخر، بمشاعر مقموعة، هو خائف وشجاع في الآن عينه. فالقصيدة مثيرة للاهتمام في موقفها في الدفاع عن حق الكويري في الإخفاء والصمت. لقد اتفقت المجموعة الكويرية القائمة على تقديم هذا الفيلم، كوسيلة للدفاع عن حق الكويري العربي واللبناني بالصمت:

“سوف تؤمن عاجلاً أم آجلاً أن أكثر من علمني وأحبني كان الصمت. الصمت الذي يرتقي بي الآن كما فعل سابقاً. الصمت أمسك يدي عندما كانت وعود والدي تسد مساماتي تشرذماً وعدم رضا. عبر السنين، تعلمت حرمة الصمت. سامحني على أن أبقيها آمنة، مخبأة بين الأسرار والظلال. سأسلح نفسي بالقناعة، ولا نهائية الأمل”. في الشريط البصري للفيلم نرى لقطات لأجساد تتقارب بحميمية لكنها تبقى مخفية ما أمكن عن عين المشاهد.

الفن الكويري وقضايا الحرية والهوية

لطالما نادى فن الالتزام برفع الصوت، بالتعبير عن الرأي والتغيير السياسي والاجتماعي، تنبع خصوصية فيلم “جرأة” من كونه مصنوعاً من نقاشات بين مجموعة من الفنانين والفنانات لكتابة عمل مسرحي يقدم على المسارح الأميركية، يتعلق بالموضوعة بدأته الكاتبة دينا آش. ومن هنا تأتي صيغة الخطاب الموجه في النص- الفيلم، من أسلوب المونودراما في المسرح حيث الملقي يخاطب الجمهور. ويرتقي الفصل الثالث بالفلسفة إلى جانب المشاعر النفسية في التعبير عن التجربة الكويرية في ظل القيود المفروضة. فتتداخل تجربة الألم ورغبة الاستمرار:

“مطلوب مني دوماً أن أغذي نفسي الأحادية طبيعية الهوية، بالآخر.

ورغم أن الكلمات لا تستطيع أن تحميني، إلا أنه لا يمكن للعالم أن يلغي وجودي، هويتي تحول عشقي إلى قضية ناشطية.

هوياتي التي زعمتها دائماً، ليست إلا زائلة، والآن الواقع يعيد تشكيل نفسه لي، يتلاءم مع استيعابنا لها.

السماء تمتد لتسع أجنحتنا، بينما قضبان الحديد والزنزانات عاجزة عن احتواء صراخنا.

الحرية لم تكن أبداً، لأي منهم لكي يعرفوها، فالحرية لكل منا أن يصممها بنفسه

الصراع يحوم في كل طبقة، لا يوجد مكان للهروب منه.

تمسك جيداً بنفسك، تمسك جيداً بالشظايا التي تشكل روحك”.

الفن الكويري والأدب الوجودي

لا يتوقف الفن الكويري عند الجنسانية، بل يتقاطع في كثير من موضوعاته مع الفن الوجودي، فالمجموعات الكويرية تعتبر من الفئات المهمشة، وبهذا هي تتقارب مع أسئلة اللامنتمي الوجودي، التي كتب عنها ألبير كامو، كولن ويلسون، وفيودور دوستويفسكي. تحضر في الفيلم- القصيدة مفاهيم من الفكر الوجودي مثل “القلق”، “العزلة”، “العلاقة بين الأنا والجماعة”، و”الهوية”، كلها مفاهيم أساسية في الأدب الوجودي. الفصل الرابع من الفيلم منفذ بتقنية الأنيميشن، تمتد على الشاشة السينمائية مدينة كرتونية سوداء وغامضة، ناطحات سحاب تعلو شوارع مظلمة، بينما يردد الشاعر:

“نداعب القلق كما لو كان أخاً، هذه القسوة المفروضة علينا.

علينا أن ننسى التقارب، وعلينا أن نتراجع عن حقنا بالدفء.

لا يمكننا أن نجفل.

تعلمنا عن الحقيقة من خلال حجاب شديد الرقة.

بمعزل عن الجذور، عن جلدي، عن حبي، عن جسدي، عن جنسانيتي.

أنا متعددة ومتنوعة بما فيه الكفاية، كي تكرهوني”.

الفن الكويري والعشق المحرم

في قصيدة الشاعر هشام هشام تعابير في العشق، والعاطفة المتقدة: “تصرين أن تريني عارياً، فأخلع عني كل ما يزينني، أخلع عقلي، أخلع لا وعيي، ويدي الاثنتين الباردتين اللتين لم تتعودا عادة الاختباء في الجيبين. هاتان اليدان تمسكان العالم من وجهه لتقبلاه، كما هي دمشق بعد القذائف وبيروت بعد الزلازل”. نجد في هذا النص/ القصيدة كيف يتصادم العشق والمنع، الألم والرغبة بالحميمية: “تصرين أن تريني عارياً، فأخلع كل أسباب الهرب وأحتضنك. احتضنك كما احتضن روحي السابعة. لكنك تصرين أن تريني عارياً، فأخلع عني كل ما يجعلني، حتى لا يبقى شيءٌ مني سوى صوت قبلاتك على أكثر الأماكن ألماً”.

الفن الكويري والنضال

تقدم القائمون على الفيلم بنص تعريفي، يمكن اعتباره بياناً فنياً، مانيفستو: “جرأة هو فيلم يعالج موضوعات الهوية، الحرية، والكويرية من منظور فناني/ات الكوير في المنطقة. يستلهم موضوعات الاضطهاد، والتكيف المفروض، والعنف الذي ساد إزاء المختلفين جنسياً في العام الماضي. هذا العمل الفني صمم بدايةً ليكون مسرحية، ومن ثم تحول إلى فيلم بسبب الحجر العام مع جائحة “كوفيد- 19”.

في الشرق الأوسط، الاختباء في الخزانة، البوح، والطيف الذي يصل بين هاذين النقطتين، يشكلان معنى واحداً للجرأة بالتساوي. مع المنهجيات والبنى التي تضطهد مجتمع الميم (المثلية)، والعين (العابرين) جنسياً. أغلب الذين شاركوا في البوح لم يجدوا تقبلاً من العائلة والمجتمع، بل أيضاً كان ذلك مصحوباً بكم من الخوف، وعدم القدرة على التكيف والعنف”. ويعالج البيان فكرة حق الكويري بالتزام الصمت واعتباره أيضاً فعلاً شجاعاً: “الخطاب السائد هو خطاب يروج أن البوح أو الخروج من الخزانة هو الهدف الأساسي لمجتمع الميم والعين وأفراده. البوح للأصدقاء، للعائلة، للأخ أو الأخت مستحيل في بيروت، أن تقول للجميع وألا تقول لأحد، كل هذه المستويات تتأثر بالمكان والزمان”.

البصريات والسمعيات الكويرية

العدسة السينمائية أيضاً في الفيلم تحاول التعبير عن حياة الكويري، (إخراج: ملاك مروة)، على كامل الشاشة نرى مجموعة من الأجساد السابحة في الماء، الكاميرا تلتقط سطح الماء ومن خلفه الشمس. هل هم جسد واحد يطوف لولبياً؟ هل هم مجموعة أشخاص توحدهم قضية الجسد؟ هل هم متخيلون، موجودون حقيقةً أم موجات من الماء تشكل حضورهم البشري؟ بين الغياب والحضور، بين الغرق ولذة الطفو، بين الوجود والعدم، تشبه عدسة الكاميرا نوعية الحياة المفروضة على الكويري، أو على المختلف حسياً وجنسياً. تقدم الكاميرا عوالم حميمية حسية، مهما احتدت مضامين القصيدة الملقاة. وكذلك تنجح مهندسة الصوت (نور صخن) في ابتكار المعادل الصوتي- السمعي الملائم للتنويعات الكثيرة في عوالم الفيلم السينمائي، والموضوعات وإيقاعات الإلقاء الشعري للقصائد.

عن خصوصية التصميم الصوتي لهذه التجربة الفيلمية، تقول  صخن: “انطلقت من كلمات مفتاحية في القصائد لتصميم الصوت. أراد فريق العمل أيضاً أن يركز على أصوات المدينة، من الصمت، إلى صوت المولدات الكهربائية. استعملت أصوات الأمكنة، ورغبت أن أعبر عن تجربة المرأة الكويرية في المدينة. النقطة الإضافية المهمة في التصميم الصوتي للفيلم أنه يقارب المسرح، فهو يمتد على كامل دقائق الفيلم من البداية إلى النهاية، أشبه بالتجربة السماعية المستمرة على امتداد العمل الفني”.

التضامن الكويري

تحمل القصائد الملقاة في الفيلم نبرة غاضبة، من تجربة الألم أصبحت جارحة لمن يستمع إليها، لكن المهمش ضحية اختلافه، والمواجهة القاسية مع المحيط الاجتماعي تزعزع المفاهيم:

“خرجت من الخزانة من بيت أهلي بسرعة لم تسمح لي حتى بحزم أمتعتي.

لقد أجبروني على مواجهة عواقب اللاعودة، أجبروني على تحديهم،

يقال يجب علينا التضحية، أن نتنازل، يجب علينا، يجب علينا، يجب علينا،

من أجل أن نحب بحرية مطلقة يجب علينا، من أجل الحوز على شيء من خيالنا.

لن نتردد حين نواجه خنجر الجهل والكراهية الحاد، سننقض كجماعة متأججة.

كل منا يحمل صليبه، كل منا يرفع هلاله، وكل منا يستجمع قواه بقلب ثقيل.

في داخلنا جروح تفتح، وتبصق علينا.

يُطرد البعض عندما يعبرون عن جنسانيتهم، وكثيرون آخرون، معظمنا، يبقون محبوسين في الداخل”.

الفخار الكويري والنضال

يحمل العمل الفني دعوة إلى الفخار، إلى مثابرة النضال:

“نحن فخورون، نحن مثابرون، ومعركتنا لا تنتهي عندما تغلق بعد الأبواب من ورائنا.

نحن لا نبوح مرة واحدة أو مرتين، نحن نبوح لكل عين مسترقة، لكل جار متزمت.

الخزانة تصوع.

إنه خيارنا إلى من سيفتح بابنا، في هذا العالم أو التالي، إلى صديق واحد أو إلى العائلة بأكملها”.

لنصل إلى المقطع الأخير الذي يتشكل من سلسلة عبارات تبدأ ب “نحن”، التي تعرف، التي توحد، التي توجد. وتنتهي القصيدة بالكلمة التي هي عنوان الفيلم:

“نحن التدفق الذي لا يمكن احتواؤه،

نحن عشاق من نار وكبريت،

لن نكون راضخين للخصم أو قابلين للاستبدال،

لن نتلاشى في الفضاء ولن يتم تخديرنا.

نحن جبلٌ لا يتزحزح، ورياح دؤوبة.

نحن نظرة امرأةٍ، وقوة وعزيمة ملايين.

نحن الجمال،

نحن الجرأة”.

في فيلم “جرأة” يظهر الفن الكويري فناً في العشق، في النضال، في الوجود، في الجنسانية، ويقدم عوالم فنية وجمالية كويرية محملة أيضاً بالقضايا الاجتماعية، والسياسية، والثقافية.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى