مقالات سينمائية

المخرج إيرول موريس: كيف يصبح الثوري جاسوسًا؟/ سمير رمان

يعرض مهرجان موسكو لأفلام دراما السيرة الذاتية (Beat Film Festival)، هذه الدورة، فيلم” قصة حبي الجنونية/My Psychedelic Love Story “، من إخراج واحد من أهمّ صانعي الأفلام الوثائقية في وقتنا المعاصر، إيرول موريس/Errol Morris.

في الفيلم، تتحدّث جوانا هاركوت ـ سميث Joanna Harcourt-Smith(1) عن فصلٍ من حياتها مع تيموثي ليري Timothy Leary(2)، رأس حربة الثقافة المضادّة، و”العدو العام رقم واحد”، حسب تصنيف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون.

للوهلة الأولى، يُخيّل للمشاهد أنّ الفيلم ليس سوى مقابلةٍ صحافية مرتبة تتناسب وجمالية نهاية ستينيات القرن الماضي. أجريت المقابلة مع جوانا سميث، صديقة تيموثي ليري، البروفيسور اللامع في جامعة هارفارد، والمؤسس لاتجاهات عدّة في علم النفس، ومرشد الثقافة المضادة.

بعد تطوير عقاقير مخدرة، ومنها عقار الهلوسة، الذي يؤثر على أفكار ومشاعر ووعي المتعاطي بمحيطه، ويسبب للمستخدمين له هلوسة بصرية وسمعية، بدأ ليري يدعو إلى توسيع جذري لدائرة الوعي، بهدف إحداث تغييرٍ جذريّ في النظام العالمي الذي وصفه بأنه غير عادل.

يمكن القول إنّ قصّة مصير ليري تشكّل مصدرًا ثريًّا جاهزًا لكتابة سيناريو عشرات أفلام الإثارة، إذ تتضمن هذه القصّة الاعتقال بتهمٍ تتعلّق بالمخدرات، توّج آخرها بحكمٍ بالسجن لمدة 38 عامًا. وفيها، أيضًا، التملّص من نظام السجن القاسي، بعد تلاعب ليري بعقول سجانيه الساذجة، وتمكّنه من الحصول على نظام سجنٍ رحيم، ليهرب بعدها من السجن بمساعدة مقاتلين من مجموعة يسارية متطرفة تدعى Weathermen(3). وتتضمن القصّة الهروب إلى الجزائر، حيث استقبله قادة “الفهود السود” المتوارين هناك، ليقوم بعملية هروبٍ أُخرى، وهذه المرة من قبضة “الفهود” أنفسهم، الذين أخذوا ليري مع زوجته الرابعة كرهائن. هامَ ليري في أرجاء العالم برفقة صديقته هاركورت سميث، لينتهي هروبه باختطافه عام 1973 على يد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية في كابول، التي وصلها العاشقان لأسباب مجهولة. زُجّت ليري من جديد في السجن لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة.

إيرول موريس، الذي اشتهر بفيلمه “خط أزرق رفيع/ The Thin Blue Line” (عام 1988)، كان يعمل في الوقت نفسه محققًا خاصًا في جريمة قتلٍ حُكِم فيها ظلمًا على بطل الفيلم بالإعدام. في البداية، يبدو موريس محققًا لطيفًا، يستمع بصبرٍ واهتمامٍ إلى اعترافات جوانا هاركورت سميث. ويظهر من خلال حديثها حبُّها اللامحدود للرجل الأكثر جاذبيةٍ وحكمة في العالم. لكن المحقق يبدو لاحقًا وكأنّه قد تبخر، ليبقى صوته وحده يطرح على جوانا أسئلةً إيحائية بريئة.

لم تكن هنالك حاجة لطرح الأسئلة على جوانا. فهي نفسها تحاول جاهدةً تبرير نفسها، لأنّه سبق للجمهور التقدميّ، بزعامة مرشد ثورة الوعي آلان غينسبرغ/ Allen Ginsberg(4)، الذي لا يقلّ شهرةً عن ليري، أن وجّه لجوانا في السبعينيات اتهاماتٍ مماثلة غير بريئة، بدعوى أنّها كانت جاسوسة تجيد بيع الجنس، زرعتها الاستخبارات المركزية الأميركية لإغواء القديس تيموثي، ومن ثمّ استدراجه ليقع في الفخّ. الأمر هنا واضح بدرجةٍ ما، فقد أصبحت جوانا، بعد اعتقال ليري، وفقط في سبيل مصلحة حبيبها! عميلة لدى الأجهزة السريّة، وتمكّنت من زج محامي دفاع ليري في السجن. تقول جوانا إنّ ليري نفسه، وخوفًا من إرساله إلى السجون النفسية، حيث تتفسّخ الأجساد والأرواح في زنازينها المخيفة، قبل التعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي. عند هذا الحدّ من القصة، وعلى الرغم من استخدامها العقاقير المخدرة يوميًا، بدت ذاكرة الحسناء جوانا المذهلة متردّدةً عند الحديث عن خيانة ليري: ربما قد يكون اكتُشف أمره، وربما لم يكشف المخبأ السرّي لتنظيم Weathermen.

هذا الفيلم ليس مجرّد قصّة مشوشة عن الخيانة: فكل القصص المماثلة متشابهة. يصاب المشاهد بالدهشة وهو يكتشف كيف يميط المخرج موريس اللثام ببراعةٍ عن جميع الأساطير السامية التي مجّدتها الثقافة المضادة/ COUNTERCULTURE(5)، ويجلي حقيقة شعارات “الحبّ والسلام”، وجوهر حملة “أطفال الزهور” الحفاة إلى البنتاغون، وإلى وول ستريت، بحضور جون لينون/ John Lennon(6)، وميشيل جاغر/ Michael Jagger(7). يكشف الفيلم كيف تستنسخ الثقافة المضادّة التركيبة الطبقية ذاتها لمجتمعٍ كرهته هي. غير أنّ ليري المستنير، الذي ضحّى بحياته الأكاديمية، يطوف العالم مع صديقته المخلصة بلا مأوى وبلا نقود، تلاحقهما أعتى الأجهزة السريّة الخاصّة: فيا لها من قصّة رومانسية! الغريب في الأمر أنّ الحبيبين لا يتواريان عن الأنظار بين حشود المتسولين، أو بين مجموعات الهيبيين الطيبين المرحين، ولا يختبئان في منازل آمنة سريّة. إنّهما يقيمان في فيللات (مايك جاغر، وكيث ريتشارد)، ويشعران بالطمأنينة التامّة لأنّ أصدقاءهم النافذين مستعدون لتزويدهم بمئات ألوف الدولارات، وتسوية أيّ مشاكل محتملة مع السلطات السويسرية. من هؤلاء على سبيل المثال، المحبّ الكبير لجوانا، الفتى المستهتر وتاجر الأسلحة، ميشيل أوشار، المعروف بـ”الإصبع الذهبي/ Gold finger”، الذي يتمتّع بعلاقاتٍ متينة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وينطبق الأمر نفسه على دينيس مارتين، رئيس جماعة “إخوان الحبّ الأبدي”، وهي جماعةٌ تهرِّب أطنانًا من الحشيش الأفغاني إلى الولايات المتحدة الأميركية.

وماذا يمكن أن يقال عندما يدخل صديق جوانا المقرب مقصورة الدرجة الأولى التي جلست فيها جوانا، وليري، في طريقهما إلى الولايات المتحدة الأميركية، برفقة عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي؟! وما الذي يمكن قوله عندما تلتقي جوانا هناك، أيضًا، فتى (البلاي بوي) غونتر زاكس، الذي عقد للتوّ قرانه على الممثلة الفاتنة بريجيت باردو؟! وعد زاكس ليري تيموثي أنّه وزوجته بريجيت سيهتمان بجوانا. كلّ شيءٍ واضح مع جوانا، فهي تستطيع أن تسخر كما تشاء من المستمعين، وهي تتحدّث بخصوص الصدمة التي يعاني منها منذ الولادة اليهودي في المنفى، وهي الصدمة ذاتها حملتها والدتها في روحها، والتي تحملها جوانا، أيضًا، في روحها. ولكنّ هذه المعذَّبة نشأت في شقةٍ فاخرة تقع في الجادّة الباريسية Foch، والمملوكة لأرباد بليش، (زوج جدّة جوانا أولًا، وبعد وفاة الجدّة أصبح زوج أمّها التالي)، واحد من أغنى الناس في العالم. إنّه يهوديٌّ جمع ثروته من تسليم اليهود الألمان للغستابو، وساعد الضباط الألمان في تحويل الأموال إلى البنوك السويسرية، تلك الأموال تمكّن المخبر من الاستيلاء عليها في ما بعد، بعد هزيمة ألمانيا الهتلرية. وهنا يأتي سؤالٌ حتميّ: “من أنت يا دكتور ليري؟ وكيف انسجمت مع هذه المجموعة؟”. الجواب بسيطٌ. كان ليري يلعب في سبعينيات القرن العشرين في ملاعب نجوم الاستعراض، وفي عالم تجارة المخدرات، وسوق تجارة الأسلحة، الدور نفسه، الذي لعبه في بلاط ملوك أوروبا القرن الثامن عشر مختلف السحرة والمشعوذين، أمثال الإيطالي Cagliostro، وكونتات سانت جيرمان. كان أولئك متعلمون ومثقفون، وفي الوقت نفسه كانوا عديمي الضمائر بقدر ليري، حيث تاجر، خلال القرن الثامن عشر، مشعوذون متعددو اللغات بخرافات إكسير الخلود، أو بأكذوبة امتلاكهم تقنيات تحويل الرصاص إلى ذهب. كان ليري يتاجر مثلهم، ولكن في مجال بيع مفاتيح “بوابات الإدراك”، وهنا يكمن الاختلاف الرئيسي. فلم يكن ليري ورعاته يهتمون إطلاقًا بجيل المراهقين الذين تشربوا مختلف أنواع الخدع القذرة، ويلاقون حتفهم وهم يحاولون تقليد تحليق الطيور (جراء استخدامهم عقاقير الهلوسة تلك).

بعد مشاهدة الفيلم، يبدأ تدريجيًا الإحساس بالذهول. ليس لأنّ الجانب المعتم من الثقافة المضادة قد كشف نفسه بشكلٍ واضح، بل لأنك تنسى المخرج نهائيًا خلف تحولات التاريخ، خاصّةً وأنّ المخرج الفذّ ليس محققًا ومحاورًا لامعًا فقط، ولكنّه أيضًا كلاسيكيّ حيّ. فأين هو الآن؟ الجواب شبيهٌ بمفارقات ليري الميتافيزيقية: موريس ليس في مكان، وفي كلّ مكان. إنّ التظاهر بالغرق بتلك المهارة في قصةٍ يلعبها هو، وتجعل الناس ينسون إرادتهم الموجِّهة، هو أعلى مراحل الإخراج المبدع رفيع المستوى، إنّها تذكيرٌ، أيضًا، بأنّ صناعة الفيلم الوثائقي هي مهارة عدسة الكاميرا في عدم التقاط نوبات الواقعية، وفي التلاشي بشكلٍ طبيعي في حياة وموت، نذالة وحبّ شخصٍ ما.

هوامش:

(1) Joanna Harcourt-Smith (1946 ـ 2020): كاتبة، شاعرة، وناشطة في مجال عقاقير الهلوسة. عاشت قصصًا غرامية مع غونتير زاكس، وسلفادور دالي، والآغا خان، قبل أن تقع في غرام تيموثي ليري، وتحمل منه أحد أبنائها. تجيد لغاتٍ خمس استطاعت بفضلها إقامة علاقات مهمة.

(2) تيموثي ليري/ Timothy Leary (1920 ـ 1996) عالم نفس أميركي وكاتب، عُرف بدفاعه عن مخدرات الهلوسة. تفاوت تقييمه من الجرأة المفرطة إلى كلب الدعاية. أطلق عليه بعضهم لقب “بطل الإدراك الأميركي، أو رائد التجديد الشجاع”.

(3) Weathermen: منظمة سرية نشطت في الأعوام 1969 ـ 1977، وتشكلت من الجناح المتطرف من حركة “طلاب من أجل مجتمعٍ ديمقراطي”، ووقفت ضدّ الحرب في فييتنام.

(4) ألان غينسبرغ/ Allen Ginsberg (1926 ـ 1997) صحافي وكاتب وشاعر أميركي شكّل مع آخرين من زملائه الأدباء نواة جيل الإيقاع the Beat Generation، التي أعطت زخمًا لتطور حركة counter culture.

(5) الثقافة المضادة/ counterculture: ثقافة فرعية تعارض الثقافة السائدة في المجتمع ظهرت في بلدان عدة في القرن العشرين، كردٍّ على عجز الثقافة الحاكمة عن مواكبة وقائع وحقائق العصر الجديد، ولذلك كان معظم أتباعها من الشباب.

(6) جون لينون/ John Lennon (1940 ـ 1980): كاتب أغان ومغن بريطاني من مؤسسي فرقة البيتلز. بدأ مشواره بأغنيته “All you need is love”، وأصبحت أغانيه تردد في مسيرات الحركات المناهضة للحرب، وعلى نطاقٍ واسع في أنشطة الثقافة المضادة counterculture. نالت ألبوماته كثيرًا من الجوائز الرفيعة. قُتل إثر تعرضه لإطلاق النار عام 1988 في مانهاتن/ نيويورك. شارك في العديد من الاحتجاجات السلمية.

(7) ميشيل جاغر/ Michael Jagger (1943ـ …..): مغن ومؤلف أغان بريطاني، ممثل، ومخرج أفلام. أحد مؤسسي موسيقى الروك آند رول/ Rock& Roll. حاز على عديد الجوائز العالمية. انتقد علنًا سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيئية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى