أبحاث

السوريون بين الأنا والبطولة/ محمد علاء الدين عبد المولى

استئناسًا بأطروحة (الأنا) التي قادها د. أحمد برقاوي إلى مستوى جعلها نظرية فلسفية ذات ضرورات واحتمالات عربية؛ نرى أن ما فعله السوريون منذ آذار 2011 هو شكلٌ تاريخي ونادر من أشكال التعبير عن (الذات) التي سحقها حكم البطش والقهر عبر عقود. وبسبب هذا البطش العالي الوتيرة، لم تتح للسوريين إمكانية اكتشاف هذه الأنا ووعيها وتطويرها، لتكون مواكبةً لتغيرات الزمن ومفاجآته. بل ثمة مسوغ للقول إن هذه الأنا تمّ تشويهها عمدًا وتحويلها إلى حاملةٍ لانكسارات نفسية وأخلاقية أطاحت بسلامتها إلى الدرك الأسفل. وما نريده بـ (الأنا) هنا تلك الذات وقد وعت نفسها واشتراطاتها التاريخية، وليس ذلك الشعور بالأنانية الفردية المنخلعة من فعل التواصل والتأثر بالآخرين.

(الأنا – الذات) السورية لحظةٌ مقهورة، مرعوبة، مصابة بالهلع بمعناه الكامل حتى نفسيًا. وهذا ما عايناه وعشناه مباشرة وعلى مدار الوقت داخل سورية. لهذا حين خرجت هذه الذات في آذار 2011 ضد كل عوامل بطشها وقهرها واستعبادها، فقد كانت تصنع لحظة لا يمكن وصفها إلا بالأسطورية الواقعية! حتى الحاكم المستبد المستسلم ليقينه، فوجئ بأن عقودًا من حكم المخابرات وقهرها للسوريين لم تُفلح في إماتة هذه الذات وطردها خارج مدى الفعل والصحوة. وعلى الرغم من كل ما تحمله هذه الذات من أثقال باهظة ومخاوف استثنائية، مزقت عنها حجرة القبر ودحرجته ونهضت صارخة، كما يحقّ لأي مقموع مسحوق في التاريخ أن يفعل. وكأي ذات مقموعة في التاريخ أيضًا أرادت تغيير شروطها، وسعت بكل ما تملكه -وهو قليل محكوم بما لا قدرة له عليه- إلى البدء بتجربة وعي ذات جديدة تأخذ المبادرة وتكتشف طريقها الصعب.

خضوع السوريين لأنا السلطة المريضة بنفسها كان سببًا فاعلًا في تمزّق أنواتهم – ذواتهم، حتى باتوا يعتقدون أن ما يملى عليهم من منصّات النظام، في أي مكان ووسيلة، هو الحقيقة التاريخية، وهو ما يمكنهم الحركة في مجاله. لكن هذه الأنا – الذات تحتاج بصورة طبيعية إلى (مجالٍ حيوي) لا حدود له، حتى تنمو وتتصارع مع نفسها وتصحح أخطاءها وتتلمس صوابها الممكن. ماذا يفعل السوريون وقد وُلدوا وفي أفواههم حجرة قاسية؟

تدرك (أنا السلطة) الأسدية أنّ قوتها لا تكمن في شرعية لا قانونية ولا دستورية، وإلا لكانت دخلت في علاقة تبادلية مع السوريين، علاقة قوامها بناء الدولة للجميع، قوامها تحرير (السلطة) من وهمها المتفصل عن الواقع. ولكن حين تفعل السلطة ذلك تكفّ عن كونها سلطة شمولية قاهرة! فكيف يمكن للنظام الأسديّ أن يفعل ذلك؟ 

إذا كانت هذه هي حال (الأنا – الذات السورية) فقد كان طبيعيًا أن ترتبك في خطوات انتفاضتها الأولى، وأن ترتطم بأسئلة مفاجئة لم تتعود على التفكير بها، وتجابه وقائع بكرًا لم تكن قد تعرّفت إليها وإلى طبيعتها ونقاط ضعفها، للتغلب عليها. فبدلًا من أن نسمع داخل هذه الأنا السورية الممزقة، صوت العقل والنقد والتصويب، صرنا نسمع أصواتًا خلفيتها مشوشة وناتجة عن مرض هذه الأنا، وعدم امتلاكها مفاتيح الحوار في اللحظات الحرجة والنادرة التي تعرضت لها وهي تحاول التخلّق من جديد. لقد كانت عملية التخلّق صعبة وشبه مستحيلة، فلا مقومات لها لتفعل ذلك على نحوٍ معقولٍ أو شبه معقول. لقد اكتشفت الأنا السورية السرّ، لكنها لم تكتشف كلمة السرّ! فظلّ سرّا مغلقًا على إمكانية تفعيله وتحويله إلى نقطة بدء حقيقية في تاريخ سورية.

تلك هي حال الأنا السورية: مجموعة من الأشخاص يجتمعون في شخص واحد، أشخاص متناقضون متناحرون منسجمون متفقون، هامشيون حاضرون، أميون مثقفون، كلهم يشكلون ما تقوله هذه الأنا الشاملة في ساعات الدم والمذابح.

في الأنا السورية، صرنا نسمع الأصوات التالية: صوتٌ يطالب بالانتقام طائفيًا، يرد عليه صوتٌ آخر: ولكنك بهذا تحقق حلم النظام بالحرب المذهبية، يرد آخر: ومن قال لك إنها ليست حربًا مذهبية؟ صوت نقيض يرى أنها حربٌ من السلطة الطاغية المستبدة باسم الطائفة، ولكنها ليست حربًا طائفية، يقول صوت آخر: لماذا لا تتم المذابح إذًا إلا في ما اصطلح على تسميته البيئة الحاضنة للتظاهرات الشعبية؟ يقول له رأيٌ مفنّدٌ: أنسيت أن في قلب هذه العصابة الحاكمة أشخاصًا متنفذين فاعلين ينحدرون من المناطق تلك نفسها؟ لماذا لا ينفضّون من حوله؟ يقول له آخر: النظام يتعمّد وضع بعضهم في مسؤوليات معينة ليوهم الآخرين بعدم طائفيته، ولكنه سوف ينقضّ عليهم في أي لحظة يشعر بأنهم يشكلون خطورةً. يصرخ صوتٌ: لقد انشرخ المجتمع السوري من داخله ولن تلتئم جروحه العميقة. يهدأ آخر: ولكننا إذا بقينا متمسكين بالعقل… يقاطعه الآخر (وربما كثيرون): أي عقل جبار هذا قادرٌ على استيعاب كل هذه المذابح وتحمّلها؟ في ساعات الانتقام لن يكون هناك من يصغي إليك يا عقلانيّ… يرد عليه العقلانيّ: حتى لو لم يردّ عليّ أحد، ينبغي أن أبقى على اتّزاني ومبدئيتي التي ترى في الجميع مواطنين، منهم مجرمون ومنهم ضحايا ولكنهم سوريّون في الأصل… يسخر منه ذاك: سوريّون قلتَ لي؟ من أي نطفة تشكل هذا الذي يحزّ رقاب العباد بالسكين؟ من أي نطفة طبيعية تخلّق صانعو البراميل المتفجرة وقاذفوها في حشود عشوائية؟ هؤلاء يحملون جينات الجريمة في مورّثاتهم… يعترض العقلانيّ: من قال لك إن الجريمة تورّث؟ يصرخ في وجهه آخر: كما ورّثوا الحكم من الأسد الأب إلى الأسد الابن. يمسكه العقلانيّ من كلامه: أنت قلت ورّثوه، من أشرف على التوريث؟ أليست حاشيته العسكرية الاقتصادية التي لم تكن كلها من المنبع العقائدي المذهبي نفسه؟ يقهقه الآخر: حاشية؟ ألم تسمع ما قاله لك ذاك: أنهم مراقبون ومقبوض عليهم من العائلة الحاكمة وتفرّعاتها الأمنية والاقتصادية الطائفية؟

في الأنا السورية الممزقة، حرب مواقف وصراعٌ فوضويّ لا ينتهي. يستهوي البعض أن يجلد ذاته ويحمّل نفسه مسؤولية هذه المذابح، فنحن صمتنا ولم نعترض على النظام ولم نقف في وجه ممارساته. يقول شخص من داخل الأنا السورية: من قال لكم إننا لم نعترض ولم نقف في وجهه؟ لماذا عندنا إذًا عشرات آلاف الشهداء في مرحلتنا الأسدية القديمة؟ لماذا كانت المعتقلات والتعذيب والقهر هي عقوبة كل من يعترض؟ كانت المخابرات تعتقل شخصًا عثروا في جيبه على منشور سياسي معارض وتزجه في تدمر سنوات طويلة، لمجرد وجود منشور معه. فلماذا تجلدون أنفسكم بطريقة مازوشية مرضيّة؟ من قال إننا مسؤولون عن المذابح؟ ما هذا الكلام الذي لا يُرضي إلا العصابة الحاكمة وأتباعها؟ لماذا يشعر الآخرون الذين في الخارج أنهم شركاء في الجريمة؟ من كان شريكًا في الجريمة سوف نحاسبه ونسأله عن اعترافه بأنه مشارك فيها… وإلا فكفّوا عن هذه التّرّهات ووجِّهوا شغلكم إلى المجرم الحقيقي… يقول آخر مؤيدًا: فعلًا هذا تشتيت خطيرٌ وتضييع لهوية القتلة. القاتل معروف والمحرض معروف والراعي والمنفذ ووو… كل شيء معروف.

في الأنا السورية التي تتصارع داخل كل سوريّ ربما، شخصٌ يحارب شخصًا، رأيٌ يصارع رأيًا، ويتناسى كثيرون أنه ليست هذه هي المعركة الحقيقية، المعركة ساحتها أطراف واضحو المعالم: طغاة من حثالة التاريخ وقمامة البشر، يتحكمون في دولة عظيمة، ثار شعبها عليهم… للوصول في النهاية إلى حريةٍ وكرامةٍ. وما عدا ذلك هو غضبٌ مشروع، وصيحاتٌ مفهومة الأسباب، لأن الأنا السورية هي خليط بشريّ، لا إلهيّ… حتى هؤلاء الأبطال الذين يقاومون الطاغية، الذين نسميهم أبطالًا أسطوريين فعلًا، في النهاية هم في النهاية بشرٌ، من الظلم أن ننزع عنهم انتماءهم البشريّ، ففي الاعتراف ببشريتهم تمجيدٌ أكثر لشجاعتهم النادرة، تمجيدٌ لقدراتهم الخلاقة في الصراع.

ولأن الدمَ كان طاغيًا، والمذبحة هي صاحبة الكلمة العليا، فقد أنهك ذلك الأنا، وجعلها أكثر تشرذمًا وفوضى. وهي في الأصل كانت مضطربة ومكتومة الصوت، لا هوية لها، فقد وُضعت تحت ضرباتٍ فوق الاحتمال، ضربات ليست في حسبانها، بالرغم من كل توقعاتها بذلك. لكنها كانت أنا تحلم، تتخيل، ترسم باضطرابٍ مسارًا لها ينقلها إلى غدٍ تعيش فيه أفضل، ولم تكن أمام مهرب من استصراخ العالم لتقويتها و(تعزيتها)، لكن هذا العالم عمل بشكل خبيث ولئيم على (تعريتها)، وتركها كورقة خريف مرتعشة تائهة.

لم تكن الأنا السورية حالمة بأكثر من الوصول إلى إمكانيات وعيها واستقلالها، ولم تكن تريد أن تدخل في معمعة تصنيع الأبطال. لكنها وجدت نفسها أمام العدم حقيقةً لا مجازًا، فتحوّلت -رغمًا عنها- إلى أنا بطولية اكتسبت عناصر ربّما ليست من طبيعتها، صارت وكأنها نموذج إغريقي لبطولة مهدورة. وبدلًا من أن تكون أنا تتحقق في شرطٍ تاريخيّ عادل منطقيّ؛ كان عليها أن تثبت أنها أنا خارقة! أجبرتها عوامل الصراع الغاشم على أن تكون أنا لا تاريخية.

ثورةُ الأنا السورية، على واقعها وحاكمها ومستغليها ولصوصها، كانت لحظةً بطولية تاريخية. ليس بمعنى أنها فعل خرافيّ أو ماورائيّ، بل بمعنى أن ما صنع تلك اللحظة الثائرة إنما كان شروطًا تاريخية واقعية بالغة التأثير. أما ما جرى فيما بعد، فقد فقدت هذه الأنا تلك اللحظة الأولى، وصارت تلهو وتتشظى خارج منطق المسار التاريخي.

ربما كان على هذه الأنا أن تتخفف من استغراقها في داخلها، أن تتلمّس طاقاتٍ كامنة لم تُسهم مرحلة الطغيان السياسي والثقافي في تنميتها وبلورتها. ولو أنها فعلت ذلك لربما كانت خسارات هذه الأنا أقلّ وطأةً وقبولًا.

في الأنا السورية، تتموّج سورية كلّها وتتلاطم، أملًا بأن تصل في النهاية إلى شاطئ الحرية الحقيقية.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى