أبحاث

آليات إعادة الاستقرار إلى سورية ومعوقاتها

قسم الدراسات

ملخص تنفيذي

تسبّب الصراع العنيف الذي بدأ في سورية قبل أكثر من عقد من الزمان، وتدخّل فيه عدد من القوى الإقليمية والدولية، وخلّف مآسي كبيرة، قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، في شيوع حالة خطرة من عدم الاستقرار على كلّ المستويات، أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وعلى الرغم من ذلك، يبقى عدم الاستقرار الأمني هو الأكثر خطورة، وهو يشكّل مدخلًا لتحقيق بقية أشكال عدم الاستقرار، فمن دون استقرار أمني راسخ، يكون أي حديث عن الاستقرار حديثًا بعيدًا عن الواقع؛ ذلك أن الفوضى وحالة الفلتان الأمني هي ضالة قوى الأمر الواقع وأمراء الحرب، التي تنتعش بمقدار ما تضعف الدولة وتفقد قرارها والقدرة على بسط سيطرتها على كامل أراضيها.

ويمكننا في هذا السياق أن نشير إلى بعض الأمور التي تضيء مدخل البحث:

1-إن تدويل الصراع الذي سعى إليه النظام وما رافقه من تدفق جيوش وميليشيات أجنبية ودخولها على خط الصراع، وكذلك تَسلُّح الثورة الذي دفع إليه عنف النظام، شكل عوامل رفعت من وتيرة الصراع وشدته، وحوَّل الأراضي السورية إلى ساحة مواجهات عسكرية مفتوحة، أصبح ضبطها على درجة عالية من الصعوبة والتعقيد.

2- إن الإحاطة الميدانية بالواقع العسكري، سواء لجهة القوات النظامية التي تتبع النظام وحلفاءه (الإيرانية والروسية) أو الدول الأخرى وكذلك الميليشيات التي تنتشر على الأراضي السورية، بخاصة التي تتبع إيران، يمكن أن تقدم تفسيرًا للاستراتيجية الإيرانية في سورية وحرصها على عدم المغادرة، حيث عملت وتدخلت لتكون سورية منطقة نفوذ مهمة، وورقة تفاوضية ثمينة في سياق تموضعها الاستراتيجي في المنطقة، وهنا مكمن الخطورة في التدخل الإيراني أكثر من سواه.

3- من طبيعة الصراعات الحادة أن تخلف وراءها ذيولًا حتى بعد توقفها، ولذلك يمكن توقع أن تحاول القوى ذات المصلحة باستمرار الصراع عرقلةَ الحلول وإشاعة مزيد من عدم الاستقرار والفلتان الأمني، ونظرًا إلى أهمية الاستقرار الأمني وضرورته، لا بدّ من العمل على مجموعة من الإجراءات، بمساعدة الأمم المتحدة والدول الراعية للحل السياسي ودول الجوار، من أجل تطويق قوى الأمر الواقع وأمراء الحرب، والحد من تدخل الدول وإخراج جيوشها، وتوفير الإمكانات المادية والقانونية لجمع السلاح وحصره بيد الدولة، والتسريع بخلق الظروف التي تسمح بعودة آمنة وطوعية للاجئين والنازحين إلى مناطق سكناهم السابقة، حيث إن لهذه الخطوة أهمية في إشاعة جو من الثقة، والمساعدة في محاصرة القوى الخارجة عن القانون، والانطلاق بمسار العدالة الانتقالية.

4- يؤسس العنف لأسوأ أشكال عدم الاستقرار السياسي، وعليه زاد الصراع الدائر في سورية وحجم العنف (غير المسبوق وغير المبرر، قياسًا بمثل هذا النوع من الصراعات الداخلية) من حدة حالة عدم الاستقرار السياسي المزمنة في سورية، بحكم تعقيداته وكثرة المتدخلين والتداعيات التي نجمت عنه حتى الآن، لذلك فإن التصدي لهذه الحالة المتفاقمة سوف يواجه كثيرًا من المعوقات، لا تقتصر على وجود أربعة جيوش لدول أجنبية تسيطر على الأرض السورية، وتأخر الحل السياسي المرهون بتوافق تلك القوى أو بعضها، بل تتعداها إلى عوامل داخلية أفرزها الصراع ومنها عسكرة الحياة السياسية، وغياب إطار قانوني حديث ومتوافق عليه يضمن انتعاش حياة سياسية سليمة محمية بالقانون في إطار دولة مواطنة وقانون، ومما لا شك فيه أن عملية إعادة الاستقرار إلى الحياة السياسية في سورية المستقبلية، تستدعي بداية العمل الدولي على الدخول بالحل السياسي، وإذا كانت التوقعات بعمومها تشير إلى الترجيح بأن الحل السياسي المنتظر مرهون بتوافق أميركي – روسي، ولدى أنصار هذا الترجيح ما يدعم ترجيحهم بحكم الوقائع على الأرض التي خلقها التدخل العسكري الروسي، وكذلك غموض التوجهات الأميركية، فإن السير مع هذا الخيار، من دون عدّه خيارًا نهائيًا وحتميًا، يقرّ واقعيًا بأن توافق الدولتين يوفر القوة والإرادة لإنهاء الصراع.

5-ضرورة العمل على نظام سياسي يرتكز على دستور عصري وديمقراطي مبني على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، ويحدد العلاقة بين كافة الأطراف في النظام الاجتماعي السياسي المعني، من خلال تحديده شكل نظام الحكم الجديد وتداوليته وطبيعته (مركزي-لامركزي)، وضمان الحريات وحقوق المواطن وواجباته، وفصل السلطات، وحرية تشكيل الأحزاب، وقانون انتخاب حديث يتناغم مع مفردات الحالة الجديدة، وبما أن النظام الرئاسي لم يعد يحظى بشعبية تذكر، لأنه شكل في التجربة الماضية ممرًا سهلًا للاستبداد والتفرد بالسلطة، ففي هذه الدراسة تفضيل لاعتماد نظام برلماني، على ما يكتنفه من صعوبات وربّما تشوهات في العملية السياسية، في بدايات تطبيقه، فهو يرى ضمانة نمو حياة ديمقراطية سليمة ومناخ سياسي تنافسي مستقر، ذلك أن النظام نصف الرئاسي يعاني ضعفًا في توزيع الصلاحيات، يعوق العمل الحكومي، عندما تأتي نتائج الانتخابات برئيس وزراء ليس على توافق سياسي مع رئيس الجمهورية.

6- تكتسب فكرة تنمية المشاركة السياسية أهميتها في إعادة الاستقرار السياسي، من الدور الذي تلعبه في حياة المجتمعات الخارجة من صراعات حادة ومديدة، ومن ذلك المساعدة في الخروج من حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، وتنشيط الحالة السياسية والعمل السياسي الفاعل والإيجابي، وتحقيق التنمية السياسية في بيئة قانونية مستقرة، ذات أهمية تولى لمنظمات المجتمع المدني ودورها الفاعل في تنظيم الجهد الاجتماعي وتوجيهه، بما يخدم المصلحة العامة، من خلال عمل واعٍ وتطوعي يستقطب جيل الشباب ويطور مهاراتهم، كما تنمي عندهم روح المواطنة والانتماء إلى وطن، وتشركهم في تسيير أمور المجتمع، وكذلك تتحمل قسطًا من الأعباء الاجتماعية التي لم تعد الدول قادرة على الوفاء بها حتى الغنية منها، ومن هنا تنبع أهمية دورها بوصفها وسيطًا بين الدولة والمجتمع، وكذلك أهمية الحفاظ على هذا الدور.

7- على صعيد البحث حول إعادة الاستقرار الاقتصادي إلى سورية الجديدة، تبرز مشكلة تدمير البنى التحية للاقتصاد السوري وتقطيع طرق المواصلات نتيجة الإفراط في مستوى القوة المستخدمة من جانب النظام وحلفائه، وهذا بدوره أدى إلى هرب المستثمرين ورؤوس الأموال إلى الخارج، وساد اقتصاد الحرب، واستهلكت عمليات تمويل الجهد العسكري للنظام وخروج المناطق ذات الثروات وأغلب المعابر الحدودية عن سيطرة النظام، ما أفقد الخزينة المركزية مدخراتها وكذلك القسط الأكبر من الواردات، وساد اقتصاد الحرب، وزاد الفساد والتهريب، وتدهورت قيمة العملة، الأمر الذي انعكس سلبيًا على حياة الناس في مناطق سيطرة النظام.

8- إن جملة هذه المعطيات وغيرها جعلت النظام عاجزًا عن تلبية أبسط مقومات عيش المواطنين، وعن الوفاء بالتزاماته المالية تجاه العقود التي أبرمها مع حلفائه الإيرانيين والروس أو الفاعليات الاقتصادية المحلية المتعاونة معه، واضطر إلى تقديم تنازلات لحلفائه على شكل استثمارات غير عادلة، إذ نزعت منه النفط والفوسفات والموانئ، لا تخدم وضع الاقتصاد السوري المنهك. وكلّ الإجراءات والتعليمات والقوانين التي يحاول النظام من خلالها الالتفاف على أزمته، بقيت من دون استجابة، نظرًا إلى استمرار الصراع وتعطيل الحل السياسي، وكان له دور كبير في هذا التعطيل، وفي غياب الثقة بالنظام وبالمناخ السائد الطارد للاستثمار.

9-من الخطوات التي يمكن أن تساهم في تعافي الاقتصاد السوري، يأتي الاستقرار الأمني ووقف الصراع، وانطلاقة الحل السياسي في مقدمتها.

10-كذلك اعتماد نهج اقتصادي واضح (وهنا تفضيل لاقتصاد السوق) ومؤسس بالدستور ومحمي بقوانين فاعلة، هي عوامل لازمة من أجل خلق بيئة استثمارية جاذبة للاستثمار الداخلي والأجنبي، لأن هذه الاستثمارات سيكون لها الدور الأكبر في إعادة الإعمار التي تفوق بما لا يقاس قدرة النظام وحلفائه، لكن من المهم توفير البيانات الدقيقة حول العملية من تكاليف تقديرية منطقية وخطط ووضع أولويات.

11- وضع قوانين صارمة لمحاربة الفساد، والسهر على تطبيقها من خلال جهاز رقابي فاعل، وتنمية حس المسؤولية تجاه الملكية العامة، وضرورة صياغة جديدة للنظام المالي والضريبي والنظام المصرفي، بما يوافق التوجهات الاقتصادية الجديدة.

12- أهمية التركيز على تنمية الكوادر المؤهلة، والتوسع في إحداث معاهد التدريب والتأهيل لتعويض الخسائر البشرية على هذا الصعيد بفعل الصراع.

13- على صعيد الاستقرار الاجتماعي المنشود، فقد تسبب الصراع والتدخلات الخارجية في قتل مئات ألوف وتهجير الملايين من السوريين، ما أدى إلى تفتيت في مستوى البنى الاجتماعية، وفي مقدمتها الأسرة التي تشتت مكوناتها جغرافيًا داخلًا وخارجًا، وأدى ذلك إلى تفاقم حالة الفقر والعوز، إلى درجة صار معها تأمين أبسط مقومات الحياة، كالخبز والوقود، أمرًا في غاية الصعوبة، ما يجعل من العمل على إعادة رأس المال الاجتماعي، عملًا معوقًا بجملة من التحديات ليس من السهل تذليلها.

14-لقد تضرر التماسك الاجتماعي في عهد الاستبداد المديد، بسبب فرض هيمنة أيديولوجيا وحيدة على المجتمع وعدم التأسيس لنظام المواطنة ودولة القانون التي تقوي الروابط الوطنية المشتركة التي تجمع السوريين، بوصفها انتماء يتجاوز انتماءاتهم ما قبل الوطنية.

15-لقد عمل النظام على تعميق الشروخ المجتمعية، بهدف تشتيت القوى الاجتماعية وإعادة هيكلة فاعليتها في خدمته على قاعدة تقديم الامتيازات كمكافأة على الولاء.

16- من أجل تجاوز هذه التحديات، فإن إعادة بناء العلاقات الاجتماعية وتكوين رأس مال اجتماعي كثروة وطنية جديدة، تتضمن مشاركة المجتمع المدني في اتخاذ القرارات وتفعيل دور المرأة، وتوفر الضمانات القانونية لحرية الرأي والتعبير، وأيضًا فإن السياسة الاجتماعية الناجحة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بوصفها هدفًا بعيد الأجل، وذلك عبر العمل على أهداف فرعية تتمثل في تأمين سبل العيش اللائقة والمستدامة، وتعزيز الاندماج الاجتماعي والحق في المشاركة في المسائل العامة عملية التغيير وتجاوز الإقصاء والتهميش.

17- ضرورة إيجاد حلول ديمقراطية للمسألتين القومية والطائفية اللتين تقبعان في قاع المجتمع السوري، على شكل مظلوميات حقيقية أو متخيلة، راكمها التاريخ، وهيجها الاستبداد، وهذه تنتعش كلما صادفت ظروفًا مواتية، وأي تجاهل أو قفز فوقها سيبقيها قنابل موقوتة تعوق الاندماج الاجتماعي.

وأخيرًا، إن إعادة الاستقرار إلى البنية الاجتماعية بعد انطلاق عجلة الحل السياسي، توجب العمل على إعداد برامج تنموية عادلة، تتمحور حول مصلحة الفرد-المواطن، وتنفيذها، وذلك بعد إجراء مراجعة ومصالحة اجتماعية مسبوقة بإنجاز قدر معقول ومقنع من العدالة الانتقالية.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا من الراتبط التالي

آليات إعادة الاستقرار إلى سورية ومعوقاتها

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى