أبحاث

مقالات تناولت الطائفية في سورية

—————–

ماذا تعرف عن المحفل العلَوي؟/ عمر قدور

رجح بقاؤها كذلك إلى أمد طويل. وخلال أيام من عملية تهريبه من القضاء الفرنسي لم يُكتب السيناريو التالي: بعد صدور قرار إدانته لوحظ نشاط غير اعتيادي بين الماسونيين الموظفين هناك في قصر العدل، ورصدت أجهزة المخابرات الدولية حجماً غير معتاد من الاتصالات بين المحفل الماسوني الفرنسي ومكتب رئيس فرسان مالطا ورئاسة المجلس الملّي العلوي في القرداحة. تُوّج ذلك كله بحركة مريبة في اتجاه مطار روما، توجهت بعدها وفود ثلاثة تمثل تلك الأطراف إلى الفاتيكان حيث “في أجواء ودية حميمة” استلم وفد المجلس الملّي رفعت الأسد القادم رفقة الوفد الماسوني الفرنسي.

لم يستغرق تلفيق السيناريو السابق سوى دقائق قليلة من كاتب هذه السطور، وهو كما نرى يسدّ عوزاً في المعلومات المتوفرة حول الموضوع، ويقدّم مادة مرغوبة لمن يريد تفسيراً كيفما اتفق، ويقدّم مادة مشتهاة للمولعين بوجود عالم سري يتولى تحريك “الدمى” التي نراها في مواقع المسؤولية من عالمنا الظاهر المسكين. ثم إن الخلط بين ما هو واقعي ومتخيَّل يضعهما في مرتبة واحدة من التأكد، فيصبح المحفل العلوي السري واقعاً لوجود المحفل الماسوني، ويكون تعاون هذه المحافل حصيلة منطقية.

في الحديث عن الجماعات السورية، الذي بدأناه بالحديث عن العلويين هناك آلية مشابهة لصناعة المتخيَّل عن الجماعة، وأيضاً لصناعة متخيَّل الجماعة عن ذاتها. يتضافر في ذلك عاملان؛ نقص المعرفة عن أزمنة صنعت بشكل مباشر العقود الأخيرة، يزيد عليه عدم الاقتناع بفقر تلك الأزمنة مقارنة بالتقدم المعرفي النسبي الذي حققته مجتمعاتنا، مع الأسئلة المحايثة لتقدم المعرفة والتي قد لا تستجر بالضرورة معرفة مضافة.

في المثال العلَوي، يسهل إلقاء الفرضيات عن تدبير بدأ بصلاح جديد وتُوِّج مع حافظ الأسد من أجل استلام “الطائفة” السلطة. يسهل لدى البعض الآخر العودة إلى ما قبل الاستقلال، إلى جيش المشرق الذي أسسته فرنسا ومكّنت من خلاله العلويين “بموجب هذه الرواية”، ليكون الاستقلال خدعةً مفخخة بالجيش السوري الذي ورث جيش المشرق، والذي سينقض على تجربة الديموقراطية الوليدة. لا مكان للمصادفة، ولا لوقائع جديدة منقطعة عما قبلها وتؤسس لما بعدها، بل ثمة دائماً ما هو مدبَّر، وفرضية التدبير الشامل في مرتبة البديهي من دون إثباتات، هي مكتفية بذاتها.

بعد عقود من الصمت الرسمي، أو الظاهري، خرج حديث الجماعات السورية إلى العلن بعدة معرفية متواضعة. بفضل الاهتمام الخارجي بالثورة والحدث السوري عموماً، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وجد الكثير مما ينمّ عن جهل طريقه إلى الانتشار والرواج، بما أن الغاية هي حلّ طلاسم “اللغز العلوي”. من أجل هذه الغاية “الجليلة” لا بأس بالحديث عن تلك “المغارة السحرية” التي ينعقد فيها محفل أو مجلس ملّي علوي، تربطه علاقات تآمر دولية تمتد من باريس إلى واشنطن وموسكو، وهناك في المغارة السحرية ذاتها “أو في مغارة مشابهة” تحدث موسمياً طقوس جنس جماعي وفق ما يقتضيه الدين العلَوي. هذه مثلاً روايات جرى تداولها، من دون سؤال أصحابها عن أي سند لمعلوماتهم.

في المقابل، أتت محاولات بعض الناشطين في الثورة من أصول علوية للإضاءة على واقع العلويين، وخاصة على علاقتهم بالسلطة، أتت بمعظمها سطحية وتفتقر إلى كفاءة معرفية. مع التنويه بأنه ليس مطلوباً من أي فرد منحدر من أية جماعة أن يكون ناطقاً باسمها، أو عالماً بأحوالها أو لديه أدنى شعور بالانتماء لها، فإن من يضع نفسه في موقع العارف تترتب عليه مسؤولية تقديم معرفة مقنعة ومتماسكة. القول مثلاً بوجود فقراء علويين، بمعنى أنهم غير مستفيدين من السلطة، يصلح لإقناع من هو بعقل طفل في نقاش يختصر “العقد الضمني” مع السلطة أو وهم امتلاكها بمكسب مباشر متعيَّن. كذلك هو حال الإشارة السطحية إلى معارضين “علويين”، بمعنى أن الجميع ليسوا في مركب الأسد، ووضعنا “علويين” بين قوسين لأنهم بغالبيتهم لا يرون أنفسهم هكذا.

مع تلك التصورات السطحية لهؤلاء النشطاء، أظهروا تصورات عن أحوال الجماعات الأخرى “معلنة أو مضمرة” لا تقل سطحية، منها رؤية السُنّة بصفتهم أهل المدينة وأهل الرأسمال، وعدم رؤية الأرياف “السنية” الفقيرة والمهمشة من السلطة وضمن الحساسية بين الريف والمدينة التي ليس لها طابع طائفي في أكبر مدينتين وريفهما على سبيل المثال، أي حلب ودمشق. الطريف أن هذه الصورة المغلوطة راقت أيضاً لكثرٍ في المقلب الآخر، لأولئك الذين يريدون التخفف من وصمة أبناء الريف.

على العموم، يصعب على كثر رؤية الوقائع كما حدثت حقاً في سياقها التاريخي، وأن علاقة العلويين بالسلطة بدأت مع الاستثمار الأسدي فيها. نجاح الاستثمار هو ما صنع صورة “الطائفة” الصاعدة، لا “الطائفة” الصاعدة هي التي صنعت الأسدية بعد تدرج في السيطرة على الحكم. لقد كان العلويون، لا بوصفهم هكذا بالضرورة، يندمجون منذ انتهاء الحقبة العثمانية في المجتمع، شأنهم شأن غيرهم من أبناء الأرياف التي كانت مهمشة للغاية، فضلاً عن الإقصاء الذي مارسته السلطنة طوال عقود للمختلفين عن دينها الرسمي.

كان العلويون حتى الستينات من ضمن زحف ريفي بطيء، لا يقتصر عليهم، في اتجاه المدن، وفي اتجاه الوظائف العامة التي غالباً يأنف منها أبناء المدن. مع انقلاب البعث سيصبح ذلك الزحف كاسحاً، فالحزب الحاكم هو حزب الفلاحين في المقام الأول. بعد انقلاب شباط1966، سيُشار إلى سيطرة الأقليات ضمن الحزب بـ”عدس”، والكلمة مختصر لعلويين ودروز وسمعوليين، إلا أن المشاركة الدرزية البارزة ممثلة بسليم حاطوم ستنتهي في خريف العام نفسه وكان قبله حمود الشوفي قد أُقصي، وفي جو الصراعات الداخلية ذاته سيُعلن عن انتحار عبدالكريم الجندي “الوجه الإسماعيلي الأقوى والأبرز” في آذار1969. كان وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد يتسلل من بين خطوط الصراع، وهو الأقل مبدئية من رفاقه، وضمن مناخ لم يشارك فيه من التحول يساراً إلى تخوم التأثر بالماوية.

لا يلزم أن يكون في ما حدث مؤامرة، أو تدبير سري إقليمي ودولي. كان هناك وزير دفاع يسيطر على الجيش، ليس مبدئياً كرفاقه وهذه “مرونة” تُحسب له خارجياً وداخلياً أيضاً. خارجياً، كان قد أظهر “مرونته” بقرار الانسحاب من القنيطرة في حزيران1967 قبل وصول القوات الإسرائيلية، ولم يكن متحمساً إطلاقاً بخلاف رفاقه للتدخل لصالح منظمة التحرير الفلسطينية في صراعها مع ملك الأردن. داخلياً، بالكاد ابتلع السوريون قيادة البعث عام1963، وكان آخر ما يودون رؤيته تحولاً يسارياً راديكالياً من أولئك الرفاق. لم تكن علويته في المقام الأولى مقارنة بـ”مزاياه” الأخرى.

في حوار قديم على قناة الجزيرة، سأل المذيع معمر القذافي عن كيفية قيامه بالثورة؟ يجيب العقيد بأنه كان ماشياً في الليل وهو يفكر، فمرّ من أمام بيت أحد رفاقه، وطرق الباب منادياً إياه: قم.. قم.. يكفي جلوساً مع امرأتك. وهكذا قاموا بالثورة. في ما عدا الطرافة في الإجابة السابقة، من المفيد “خارج نظرية المؤامرة” تذكر شخصية القذافي وكيف حكم بلداً نفطياً لمدة عقود، والحقبة ذاتها شهدت العديد من الانقلابات في المنطقة، في وقت كانت أوروبا ممثلة بإنكلترا وفرنسا انسحبت منها، ولم يكن الوجود الأمريكي قد تعزز كما سيحدث بدءاً من السبعينات. بعبارة أخرى، لم يكن انقلاب حافظ الأسد ليحتاج مؤامرة من أي نوع، وسهولته تأتي من الظروف التي استغلها ببراغماتية غير استثنائية إلا في محيط من الرفاق الذين لا يتمتعون بها.

في التحليل الاقتصادي الكلاسيكي تكون الثروة مصدراً للسلطة، في رأسمالية الدولة تكون السلطة مصدراً للثروة ومحتكرة لها. سلطة الأسد تأسست على هذا الاحتكار الذي سيبدأ استثماره طائفياً منذ النصف الثاني للسبعينات، وساعد تدفق المساعدات الخليجية بعد حرب تشرين على وجود وفرة في الخزينة وقدرة أكبر على التوظيف والاستثمار. السهولة والنجاح الكبير في الاستثمار الطائفي يدلان على أن العلويين لم يكونوا طائفة في الأصل، ولو كانوا كذلك “كما هو المتخيَّل عن محفل ملّي أو علوية سياسية” لكان هناك ناظم يجمع العلويين حوله، حتى إذا طغت عليه الأسدية، لا أن تكون الأخيرة هي الناظم الأوحد الذي إذا تم نزعه لم يبق لكلمة “طائفة” من مدلول متعين فعلاً.

وفق المنطق الاقتصادي نفسه، مع سير الأسدية في طريق الخصخصة لصالحها ولحسابها “ثم لحساب روسيا وإيران” لم تعد قدرتها على الاستثمار الأفقي كما كانت من قبل، ولن تشتري أولئك “الفقراء” بوظائف قطاع عام لا تحتاج الكفاءات المطلوبة خارجه. سيبقى المجال المتاح أكثر من غيره للاستثمار هو الجيش والمخابرات، أي القوة المعدّة لمواجهة الداخل السوري. هذا الاستثمار هو المؤثر، واستمراره هو الذي سيولد المخاوف “كما حدث سابقاً” من تغيير ترافقه عمليات ثأر.

ثمة طائفيون علويون لا خيار لهم سوى الأسدية، لأن سقوطها يعني تحلل كل ما يُحكى اليوم عن “طائفة” علوية. حينها، بدل المتخيَّل عن مجلس ملّي لدهاة القوم، سينكشف الواقع عن رجال دين بسطاء، دورهم في مجتمعاتهم الصغيرة هو إحياء الأعياد وتقديم النذور لنسبة تتراجع من العلويين المؤمنين. وبعد انكفاء جراء صدمة التغيير ستعود سيرة الاندماج في الفضاء العام بالمعنى الشامل والحقيقي لا ذاك المنصرف إلى السلطة أو المستقوي بها. المستقبل المنظور لن يكون لصالح التغيير، بل لمراكمة صوة الطائفة المتخيّلة لدى الآخرين، وصورة أبنائها عن أنفسهم الملتبسة بصورة السلطة التي لم تعرف سواها الأجيال الجديدة.

المدن

———————————-

نظام الطائفة أم طائفة النظام؟/ درويش خليفة

النضال السياسي الذي ساهم في استقلال سوريا لم ينقلها إلى حالة الدولة؛ بسبب صراع طبقات المجتمع وتبني القوى الفاعلة آنذاك السياسة والاقتصاد كحالة تعبوية، من أجل الوصول للحكم وهذا حقٌّ لها، لكن على أن تضع في أولوياتها بناء مؤسسات الدولة، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي عانى منها السوريون على مدار سبعة عقود، منذ أول انقلاب عسكري قام به حسني الزعيم في مارس/ آذار 1949.

المستغرب في الحالة السورية تاريخياً، هو تكيُّف المجتمع مع القيادة العسكرية، والرضوخ لطموحها في إدارة الحياة السياسية والمجتمعية، والنزول عند رغبة العسكر في شرعنة تغولهم على الدولة وهم لا يحسِنونَ صُنعاً، مع الإبقاء على البرلمان كحالة تفاعلية تجمع بين المجتمع والقادة السياسيين حتى مارس/ آذار عام 1963، لحظة استيلاء حزب البعث على السلطة بشقيها العسكري والسياسي وبسط سيطرته على المجتمع والدولة؛ الأمر الذي أدى بالديكتاتور الراحل حافظ الأسد لتطييف الجيش وبعثنة المجتمع، عبر تركيبة معقدة يصعُب فهمها وتفكيك خيوطها المتشابكة.

الأكثر وضوحاً، أنّ الأسد الأب كان معجباً بهذه الوصفة المحلية، مما جعله يرسخها في سياساته الخارجية عبر بناء شبكة من العلاقات الدولية، بحيث اقتصرت النشرات الإخبارية في القناة الحكومية الرسمية على ” تهنئة الرئيس باستقلال دولة ما… واستقبال ممثلين عن الحزب … على الجانب الآخر من الكوكب”، دون التطرق لحياة السوريين والعمل على نمو البلاد وازدهارها. وعندما يتم افتتاح مخبز أو مدرسة أو حتى تعبيد لشارعٍ فرعي، تستنفر السلطات المحلية وتراها فجأة بين الجموع المحتشدة تصفق وتهتف لحياة القائد، وكأنه يمنُّ عليهم من ماله الخاص بمكرمةٍ لا مثيل لها!

التوحُّش الذي أديرت من خلاله سوريا في عهد الأسدين حافظ وبشار، لا يمكن وصفه بمقال أو دراسة أو حتى كتاب، فالأمر تعدّى حدود الوصف، حتى إنّ أشد الأوتوقراطيين يشق عليه فهمه.

عقب موت حافظ الأسد وتوريث الحكم لابنه بشار، تكيّف السوريون أيضاً مع الحالة الجديدة، ولكن هذه المرة على مضضٍ شديد، كما أنّ البعض منهم أعزو الأمر إلى أنه شاب متحرر، على أمل الانتقال إلى حياة أفضل تحمل في طياتها هوامش من الحريات والممارسة السياسية والعمل المجتمعي التطوعي بعيداً عن وصاية السلطة، وكما في كلِّ مرة استمر النظام بتصدير خيبات الأمل لمواطنيه، بعد اعتقاله لنشطاء لجان أحياء المجتمع المدني وربيع دمشق، وإغلاقه منتدى جمال الأتاسي، واستبداله بالكروش القديمة التي كانت في عهد أبيه، كروشاً جديدة لملئها مرَّة أخرى، وبذلك تكون حصناً حصين له ولأفراد حكمه.

رغم صبر السوريين اللامتناهي على النظام، إلا أنّ الأسرة الحاكمة كانت تعيش حالة من الصراع حول كيفية نقل الملكيَّة الاقتصادية من عائلة والدة الرئيس (آل مخلوف العلوية) إلى عائلة زوجته (آل الأخرس السنية).

وبطبيعة الحال الضحايا هم السوريون دائماً بكلِّ انتماءاتهم العرقية والطائفية والسياسية، إلى أن وصل قطار الربيع العربي إلى سوريا ومعه أهلت البشائر لمناهضي حكم الأسد؛ على أمل التغيير الحتمي وإعادة الثقة في وطنيتهم التي سلبها النظام وخصصها لمؤيديه فقط.

اللافت في الشهور الأولى من الثورة السورية، هو حالة التضامن والتكافل بين روادها بغض النظر عن العرق والدين والاتجاهات الفكرية والسياسية، قبل أن تتسلق عليها القوى السياسية الأيديولوجية وتخصِّصها لمصالحها، في تكرار لتجربة النظام من حيث الاحتكار والتسلطية واتباع سياسة الدوائر المقربة (الأعضاء العاملون)!

وبعد أن انتقل الصراع بين النظام والشعب إلى مرحلة التسليح والعسكرة، وفتح الأسد الحدود أمام قوافل الحجاج الطائفين لمساندته في قتل المتظاهرين واعتقال الكثيرين منهم، أصبحت المواجهة مشروعة ولم يبقَ بالإمكان إنتاج مزيد من أدوات القوة الناعمة وفضح جرائمه على شاشات التلفزة وأمام المنظمات والهيئات الحقوقية والأممية.

وفي غضون ذلك، اعتمد الأسد على تصدير خطاب يداعب مشاعر الغرب، بحمايته للأقليات العرقية والمذهبية، بما في ذلك طائفته، وبأنّ رحيله عن السلطة سيؤدي بالراديكاليين من الثوار لسحق هذه الفئات المجتمعية، الأمر الذي أدّى لتسليح العلويين في حالة تماهٍ مع خطاب الأسد، رغم معرفتهم المسبقة بخداعه وعدم الإيفاء بوعوده لهم، ولكنَّ بعضهم اعتبرها “معركة وجود”، لا تحتمل طرفي نقيض.

سنوات الثورة وما تلاها من صراعات بينية سورية، سواء بين معارضي النظام أو بين مواليه، لم تتوقف، حتى سئم النشطاء والمدنيون من الجانبين.

وفي الحقيقة اعتدنا من جمهور الثورة أن يسارعوا لرفض أي ممارسات تعيب ثورتهم، لكن أن يصل الأمر بمن هم تحت سلطة الأسد، فهو مستحيل أو شبه انتحار لمجرد التفكير بكتابة منشور على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهذا ما جعل البث المباشر على الفيس بوك للناشطة والشاعرة العلوية “سوزي محمد علي” ينتشر على نطاق واسع، حيث هاجمت من خلاله عائلة الأسد وأقاربه، بمن فيهم رامي مخلوف ابن خال الرئيس الوريث، ذلك بعد نشر مقطع فيديو لـ علي مخلوف نجل رامي وهو يقود سيارة فاخرة من نوع “فراري 488 سبايدر” في شوارع لوس أنجلوس الأمريكية، برفقة عارضة الأزياء والممثلة الإسرائيلية ميشيل عيدان. في الوقت الذي صار فيه العديد من السوريين، ومن بينهم أبناء طائفة الأسد، يأكلون من حاويات القمامة؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تسبب فيها نظام الأسد للسوريين كافة.

الطريق

—————————–

نظام الطائفة أم طائفة النظام؟/ درويش خليفة

النضال السياسي الذي ساهم في استقلال سوريا لم ينقلها إلى حالة الدولة؛ بسبب صراع طبقات المجتمع وتبني القوى الفاعلة آنذاك السياسة والاقتصاد كحالة تعبوية، من أجل الوصول للحكم وهذا حقٌّ لها، لكن على أن تضع في أولوياتها بناء مؤسسات الدولة، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي عانى منها السوريون على مدار سبعة عقود، منذ أول انقلاب عسكري قام به حسني الزعيم في مارس/ آذار 1949.

المستغرب في الحالة السورية تاريخياً، هو تكيُّف المجتمع مع القيادة العسكرية، والرضوخ لطموحها في إدارة الحياة السياسية والمجتمعية، والنزول عند رغبة العسكر في شرعنة تغولهم على الدولة وهم لا يحسِنونَ صُنعاً، مع الإبقاء على البرلمان كحالة تفاعلية تجمع بين المجتمع والقادة السياسيين حتى مارس/ آذار عام 1963، لحظة استيلاء حزب البعث على السلطة بشقيها العسكري والسياسي وبسط سيطرته على المجتمع والدولة؛ الأمر الذي أدى بالديكتاتور الراحل حافظ الأسد لتطييف الجيش وبعثنة المجتمع، عبر تركيبة معقدة يصعُب فهمها وتفكيك خيوطها المتشابكة.

الأكثر وضوحاً، أنّ الأسد الأب كان معجباً بهذه الوصفة المحلية، مما جعله يرسخها في سياساته الخارجية عبر بناء شبكة من العلاقات الدولية، بحيث اقتصرت النشرات الإخبارية في القناة الحكومية الرسمية على ” تهنئة الرئيس باستقلال دولة ما… واستقبال ممثلين عن الحزب … على الجانب الآخر من الكوكب”، دون التطرق لحياة السوريين والعمل على نمو البلاد وازدهارها. وعندما يتم افتتاح مخبز أو مدرسة أو حتى تعبيد لشارعٍ فرعي، تستنفر السلطات المحلية وتراها فجأة بين الجموع المحتشدة تصفق وتهتف لحياة القائد، وكأنه يمنُّ عليهم من ماله الخاص بمكرمةٍ لا مثيل لها!

التوحُّش الذي أديرت من خلاله سوريا في عهد الأسدين حافظ وبشار، لا يمكن وصفه بمقال أو دراسة أو حتى كتاب، فالأمر تعدّى حدود الوصف، حتى إنّ أشد الأوتوقراطيين يشق عليه فهمه.

عقب موت حافظ الأسد وتوريث الحكم لابنه بشار، تكيّف السوريون أيضاً مع الحالة الجديدة، ولكن هذه المرة على مضضٍ شديد، كما أنّ البعض منهم أعزو الأمر إلى أنه شاب متحرر، على أمل الانتقال إلى حياة أفضل تحمل في طياتها هوامش من الحريات والممارسة السياسية والعمل المجتمعي التطوعي بعيداً عن وصاية السلطة، وكما في كلِّ مرة استمر النظام بتصدير خيبات الأمل لمواطنيه، بعد اعتقاله لنشطاء لجان أحياء المجتمع المدني وربيع دمشق، وإغلاقه منتدى جمال الأتاسي، واستبداله بالكروش القديمة التي كانت في عهد أبيه، كروشاً جديدة لملئها مرَّة أخرى، وبذلك تكون حصناً حصين له ولأفراد حكمه.

رغم صبر السوريين اللامتناهي على النظام، إلا أنّ الأسرة الحاكمة كانت تعيش حالة من الصراع حول كيفية نقل الملكيَّة الاقتصادية من عائلة والدة الرئيس (آل مخلوف العلوية) إلى عائلة زوجته (آل الأخرس السنية).

وبطبيعة الحال الضحايا هم السوريون دائماً بكلِّ انتماءاتهم العرقية والطائفية والسياسية، إلى أن وصل قطار الربيع العربي إلى سوريا ومعه أهلت البشائر لمناهضي حكم الأسد؛ على أمل التغيير الحتمي وإعادة الثقة في وطنيتهم التي سلبها النظام وخصصها لمؤيديه فقط.

اللافت في الشهور الأولى من الثورة السورية، هو حالة التضامن والتكافل بين روادها بغض النظر عن العرق والدين والاتجاهات الفكرية والسياسية، قبل أن تتسلق عليها القوى السياسية الأيديولوجية وتخصِّصها لمصالحها، في تكرار لتجربة النظام من حيث الاحتكار والتسلطية واتباع سياسة الدوائر المقربة (الأعضاء العاملون)!

وبعد أن انتقل الصراع بين النظام والشعب إلى مرحلة التسليح والعسكرة، وفتح الأسد الحدود أمام قوافل الحجاج الطائفين لمساندته في قتل المتظاهرين واعتقال الكثيرين منهم، أصبحت المواجهة مشروعة ولم يبقَ بالإمكان إنتاج مزيد من أدوات القوة الناعمة وفضح جرائمه على شاشات التلفزة وأمام المنظمات والهيئات الحقوقية والأممية.

وفي غضون ذلك، اعتمد الأسد على تصدير خطاب يداعب مشاعر الغرب، بحمايته للأقليات العرقية والمذهبية، بما في ذلك طائفته، وبأنّ رحيله عن السلطة سيؤدي بالراديكاليين من الثوار لسحق هذه الفئات المجتمعية، الأمر الذي أدّى لتسليح العلويين في حالة تماهٍ مع خطاب الأسد، رغم معرفتهم المسبقة بخداعه وعدم الإيفاء بوعوده لهم، ولكنَّ بعضهم اعتبرها “معركة وجود”، لا تحتمل طرفي نقيض.

سنوات الثورة وما تلاها من صراعات بينية سورية، سواء بين معارضي النظام أو بين مواليه، لم تتوقف، حتى سئم النشطاء والمدنيون من الجانبين.

وفي الحقيقة اعتدنا من جمهور الثورة أن يسارعوا لرفض أي ممارسات تعيب ثورتهم، لكن أن يصل الأمر بمن هم تحت سلطة الأسد، فهو مستحيل أو شبه انتحار لمجرد التفكير بكتابة منشور على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهذا ما جعل البث المباشر على الفيس بوك للناشطة والشاعرة العلوية “سوزي محمد علي” ينتشر على نطاق واسع، حيث هاجمت من خلاله عائلة الأسد وأقاربه، بمن فيهم رامي مخلوف ابن خال الرئيس الوريث، ذلك بعد نشر مقطع فيديو لـ علي مخلوف نجل رامي وهو يقود سيارة فاخرة من نوع “فراري 488 سبايدر” في شوارع لوس أنجلوس الأمريكية، برفقة عارضة الأزياء والممثلة الإسرائيلية ميشيل عيدان. في الوقت الذي صار فيه العديد من السوريين، ومن بينهم أبناء طائفة الأسد، يأكلون من حاويات القمامة؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تسبب فيها نظام الأسد للسوريين كافة.

الطريق

—————————-

بين «الآخر المذهبي» والآخر الديني»/ محمد جميح

كان لسيطرة فكرتي «الحق الإلهي» و«الاصطفاء الإلهي» على تيارات «التشيع السياسي» القديم أثر بالغ في توجه تلك التيارات نحو تطبيق «فريضة الخروج لأخذ الحق» ضد السلطات الحاكمة التي نفذت ـ بالمقابل ـ على تلك التيارات ملاحقات مدمرة بهدف القضاء عليها، وهو ما تسبب في كثير من المجازر التي تعرض لها أولئك الخارجون بالسلاح على السلطة السياسية حينها.

ولضراوة ما لقيت تيارات «الخروج» من ويلات، بسبب اعتقادها بأفضليتها وأحقيتها، مالت إلى الموادعة الظاهرية، وطورت مبدأ «التقية الدينية والسياسية» للاحتفاظ بفكرتي «الحق والاصطفاء» عند مستواهما النظري الذي لا يجلب بطش السلطة الحاكمة.

ومع الزمن عزفت تلك التيارات ـ ولو مؤقتاً ـ عن أية محاولة لـ«الخروج» المسلح، وتطورت ـ في المقابل ـ فكرة إرجاء «الدولة الشيعية العادلة» إلى حين خروج «الإمام المهدي المنتظر» على اعتبار أن أية دولة لا يكون «المنتظر» على رأسها هي في الأصل «دولة ناصبية ظالمة» وقد استُهدِفت بهذا التوصيف سلطات الأمويين والعباسيين وغيرهم ممن هم خارج اللون المذهبي لأصحاب فكرة «الحق الإلهي» الذين تنبهوا لاحقاً إلى «الورطة» الفقهية والسياسية التي وقعوا فيها، بمنع قيام دولتهم قبل ظهور المهدي، لما في ذلك المنع من تعارض مع النزوع البشري الفطري للسلطة والثروة.

ولما طال الأمد، ولم يخرج المهدي، أرادت بعض قوى «التشيع السياسي» ألا تفوّت فرصة الوصول إلى السلطة بأي شكل، ومن هنا بدأت فكرة «نائب الإمام» للشؤون السياسية العامة في الظهور في الفقه السياسي الشيعي، في مقابل فكرة «نائب الإمام» للقضايا الفقهية الخاصة، وهي وظيفة «المرجعيات» المختلفة.

ولما جاء الصفويون (وهم شيعة إماميون) طوروا فكرة «نائب الإمام» لإضفاء المشروعية الدينية على «شاهاتهم» باعتبارهم «نواب الإمام» في مواجهة المشروعية الدينية لـ«خلفاء النبي» من السلاطين العثمانيين. ومع قيام الدولة الصفوية على مشروعية دينية شيعية إمامية، عادت فكرة «الحق الإلهي» و«الجهاد» مرة أخرى للواجهة، ولكن ضد «الآخر المذهبي» العثماني الذي حاول الصفويون التوسع على حساب سلطته، كما فعل الفاطميون (وهم شيعة إسماعيليون) من قبل عندما كرسوا «جهادهم» ضد «الآخر المذهبي» العباسي، وفي الحالين لم يتوسع الصفويون ولا الفاطميون باتجاه أراضي «الآخر الديني» غير المسلم، وهو ما يعكس طبيعة فهم سلطات «التشيع السياسي» لهذا الآخر العدو.

ثم جاء الخميني بعد قرون، ومضى في التأصيل لفكرة «نائب الإمام» التي بموجبها يحق لـ«الولي الفقيه» أن يشغل منصب نيابة الإمام المهدي، موفِّقاً بتلك الفكرة بين الحنين الشيعي الدائم لقيام دولة، وبين المقولات الشيعية التقليدية التي ترى أن أية دولة لا يكون على رأسها «الإمام المهدي» هي بالضرورة دولة «ظالمة» ومن هنا أمكن خروج الفقه السياسي الشيعي من ورطته المذكورة.

ومع خروج هذا الفقه من مأزقه التاريخي بتطوير فكرة «نائب الإمام» تعمقت بشكل أكبر المقولات القديمة حول «الحق الإلهي» و«مشروعية الخروج» وتلقفتها تيارات «التشيع الجهادي» المعاصر، التي طورت بدورها فكرة «الآخر المذهبي» في مقابل فكرة «الآخر الديني» التي تطورت في سياقات مختلفة لدى تنظيمات ما بات يعرف باسم «الإسلام الجهادي» السنية.

ومع سيطرة فكرة «الآخر المذهبي» على سلوكيات ميليشيات «التشيع الجهادي» تم استحضار صور تاريخية مختلفة لهذا الآخر مثل «الآخر الأموي/العباسي/العثماني» وهو «الآخر الناصبي» الذي تم أخيراً إعادة إنتاج صورته ليصبح على هيئة «الآخر الوهابي/الداعشي/الإرهابي» الذي يمثل في الواقع «الآخر السني» رغم أن تلك الميليشيات ـ على مستوى الخطاب ـ ترفع شعار «الآخر الديني» المتمثل فيما أطلق عليه: «قوى الاستكبار العالمي وأمريكا وإسرائيل واليهود».

أما بالنسبة لتنظيمات «الإسلام الجهادي» فقد ركزت ـ على مستوى الخطاب والممارسة وبشكل أكبر ـ قبل غزو العراق في 2003 على «الآخر الديني» المتمثل في ما أطلقت عليه تلك التنظيمات «التحالف الصليبي اليهودي» ولم يكن «الآخر المذهبي» ـ حاضراً بشكل بارز ـ في خطاب أو ممارسات تلك التنظيمات، إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق والتدخل الإيراني اللاحق اللذين تضافرا في تفجير حرب أهلية مأساوية بين السنة والشيعة، لا تزال أصداؤها تتجاوب ـ ليس في العراق وحده ـ بل في المنطقة برمتها، حيث طورت جماعات مثل القاعدة و«تنظيم الدولة» خطاباً وممارسة برز فيهما «الآخر المذهبي» إلى جانب «الآخر الديني» الذي يمثل العدو المحوري لهذه التنظيمات.

ولكن، ومع استمرار الملاحقة الدولية لتنظيمات «الإسلام الجهادي» ومع التغاضي عن ميليشيات «التشيع الجهادي» خفتت ـ إلى حد ما ـ فكرة «الآخر الديني» التي طورتها تنظيمات «الإسلام الجهادي» لتتقدم عليها فكرة «الآخر المذهبي» لدى تلك التنظيمات، وتتصادم مع فكرة «الآخر المذهبي» لدى ميليشيات «التشيع الجهادي» ولتتسق مع ما يمكن رصده من رضى دولي خفي لتكريس هذه الفكرة لدى المسلمين ـ سنة وشيعة ـ لاستمرار النزيف الطائفي في المنطقة التي أنهكتها الحروب الأهلية المستمرة.

وفي هذا الشأن، يمكن القول إن ميليشيات «التشيع الجهادي» قد استفادت في استهدافها لـ«الآخر المذهبي» السني من وجود انتقائية دولية في تصنيف التنظيمات الإرهابية، وهو التصنيف الذي يبدو أنه يأخذ في عين الاعتبار دين أو مذهب أو عرق «الفئات المستهدَفة» الأمر الذي أدى إلى التغاضي الدولي عن جرائم ميليشيات «التشيع الجهادي» إلا فيما ندر، وبشكل لا يؤثر على التوجه العام في الحفاظ على الدور الوظيفي لهذه الميليشيات وداعميها في إنهاك الجسد العربي والإسلامي، بدوافع طائفية، لا يصل أثرها إلى «الآخر الديني» بل ينحصر على «الآخر المذهبي» الذي يعد العدو الحقيقي في أدبيات «التشيع الجهادي» باعتبار هذا الآخر امتداداً لقتلة الإمام الحسين الذين تتم ملاحقتهم اليوم في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، في ظل صمت دولي لا يهتم ـ غالباً ـ إلا باستهداف التنظيمات المتطرفة المنسوبة للسُّنة، مثل القاعدة وداعش وغيرهما.

إن فهم طبيعة هذه الانتقائية الدولية لا يمكن أن يكون بعيداً عن تاريخ الصراع المرير بين الشرق والغرب، والذي كان صراعاً بين الغرب المسيحي من جهة والمكون الإسلامي الأغلب من جهة أخرى، بدأً من معارك الفتوح الإسلامية، ومروراً بالحملات الصليبية المسيحية، وليس انتهاء بمعارك التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي الحديث، وهو ما يسلط الضوء على المنحى الدولي لإلقاء مسؤولية الممارسات الإرهابية على تنظيمات «الإسلام الجهادي» السنية ـ إجمالاً ـ ليتسنى منعها من استهداف المصالح الدولية من ناحية، ولإعادة توجيه الصراع باتجاه الداخل العربي والإسلامي، بعيداً عن استهداف المصالح الدولية.

وإجمالاً، يمكن القول إن فكرة «الآخر» لدى تنظيمات «الإسلام الجهادي» تنصب ـ غالباً ـ على «الآخر الديني» غير المسلم، بينما تتركز فكرة الآخر لدى ميليشيات «التشيع الجهادي» ـ في الأغلب ـ على «الآخر المذهبي» غير الشيعي، وهو الأمر الذي كان له أثره في مسارات الصراع في المنطقة من جهة، وعلى نظرة المجتمع الدولي لهذا الصراع من جهة أخرى.

كاتب يمني

القدس العربي

—————————

الدين سلاحاً شعبوياً/ حسان الأسود

توفي يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول الحالي رسام الكاريكاتير السويدي، لارش أندل روجر فيلكس، في حادث سير مروري. وكان قد أثار جدلاً كبيراً في بلاده عندما رسم صوراً مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اضطرّ وقتها رئيس الوزراء السويدي، فريدريك راينفيلديت، للقاء سفراء 22 دولة أغلبية سكانها من المسلمين، لتهدئة الأجواء العاصفة والتظاهرات المندّدة بتلك الرسوم.

يُذكر أنّ الرسام لارش، الحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الفنية من جامعة لوند، قد أمضى ردحاً من حياته، منذ 15 سبتمبر/ أيلول 2007 وحتى وفاته، في حراسة الشرطة السويدية، فقد كان يتنقّل بسيارة للشرطة وبحراستها منذ ذلك التاريخ، وقد توفي معه يوم الحادث ضابطان من الشرطة. جاءت هذه الإجراءات نتيجة رسالة التهديد الصوتية التي أطلقها أبو عمر البغدادي، أمير ما كان يُطلق عليها آنذاك تسمية “دولة العراق الإسلامية”، وعرض فيها مكافأة مالية مقدارها مائة ألف دولار لمن يقتله، وتصبح 150 ألفاً إن كان القتل بطريقة الذبح كالنعاج!

يستوقف موضوع الرسوم المسيئة من جهة، وموضوع ردود الأفعال الغاضبة عليها من جهة ثانية، المرء بجديّة، ويثير عدداً معقولاً من الأسئلة التي لا إجابات جازمة حولها. ولا يخلو الأمر بطبيعة الحال من تفسيراتٍ مباشرة، كانت تنظر إلى إصرار فنانين أو صحافيين على رسم مثل هذه الصور أو نشرها، بغرض الوصول إلى الشهرة أو تحقيق نوعٍ من الحضور على الساحة. ويبدو أنّ هذا السبب، على بساطته، معقول وراجح، فمن كان سيسمع باسم لارش خارج حدود مملكة السويد، لو لم يرسم هذه الصور، أو على الأكثر في محيطٍ أوسع قليلاً في الدائرة الاسكندنافية، وحتى لو كان يحمل عشر شهادات دكتوراه في الفن؟

هناك بكل تأكيد عوامل ذاتية عند هؤلاء، متأتيةٌ من طبيعة فهمهم للحقوق والحريات، وممارستهم لها يومياً واقعاً معيشاً وأسلوب حياة من جهة. وهناك ظروف البلاد التي يعيشون فيها من جهة ثانية، تاريخها وموقفها من الأديان عموماً، وما مرّت به من صراع بين الكنيسة والسلطات السياسية، وما تحمله ثقافتها، بشكل أو بآخر، من إرث طويل من آثار الصراع مع الدول الإسلامية المتعاقبة على مناطق النفوذ، وكذلك الحروب التي اتّخذت لبوس صراع ديني مسيحي إسلامي، خلال فترة العصور الوسطى وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية مع نهايات الحرب العالمية الأولى.

لا يستوعب الأوروبيون عموماً مسألة الحبّ الشديد التي يكنّها المسلمون لنبيّهم محمد (ص)، فهم لا يدركون الدور المحوري الهائل الذي لعبته شخصية الرسول في محيطها العربي. كان العرب قبل محمّدٍ (ص) معزولين عن العالم في صحراء قاحلة، يعانون القلّة والعَوزَ وضنك المعيشة، كما كانوا يعانون من ثقل تقاليد الغزوات والمعارك التي أجبرتهم عليها ظروفهم للبقاء على قيد الحياة. إضافة إلى ذلك، كان اليهود في جوارهم ينظرون إليهم نظرة استعلاء واستخفاف، فهم، أي اليهود، شعب الله المختار الذين أرسل عليهم عشرات الرسل، بمن فيهم يسوع المسيح عيسى ابن مريم. بينما العرب جهلةٌ لا دين لهم ولا رسول، أو كما يفسّر المفكر الراحل، هشام جعيط، وضعهم بأنهم أميون، أي أنهم من غير أصحاب الديانات السماوية، ومن غير المحظوظين برسل الله إليهم، فهذه الأخيرة محصورة باليهود دون غيرهم.

كذلك كانت تحوطهم إمبراطوريات هائلة، لها ديانات متجذّرة، فمن الشرق الحبشة ومن الغرب فارس ومن الشمال بيزنطه، وهم قبائل حفاة عُراة لا يجمعهم مُلكٌ ولا قائد. وكلّ هذا تغيّر في لحظة تاريخية فارقة مع قدوم النبيّ محمد (ص)، فأصبح هؤلاء من سادة العالم في زمانهم ولمئات السنين المتعاقبة. وقد ارتبط هذا كلّه بالإسلام الذي أتى به إليهم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي. كانت مركزية الرسول في الإسلام، بشخصه ونسبه وفعله وقوله، محلّ تعظيمٍ لدي العرب، وامتدّ هذا الاحترام إلى كلّ الشعوب الإسلامية من باقي القوميات. لذلك لم يكن من السهل على أتباعه تقبّل هذه الإهانات المقصودة لرمزهم وقدوتهم عبر آلاف السنين.

على العكس من ذلك، قطع الأوروبيون شوطاً بعيداً في تحليل طبيعة الدين وعلاقته بالمجتمع، وليس المقصود هنا اتجاههم نحو الإلحاد، بل النظر إلى الدين مجموعة من الطقوس والمعتقدات الخاضعة لقوانين الإيمان، لا لقوانين العلم والتجريب، وهي لم تعد تحكم العالم، بعد أن تمّ نزع السحر عنه، وإدخاله أكثر وأكثر تحت حكم قوانينه الذاتية. لذلك كان لديهم عبر خمسمائة عام من التاريخ الذي بدأ مع الإصلاح البروتستانتي، كي ينفصلوا أكثر عن التقديس الذي كانت تفرضه الكنيسة، ليس على المسيح فقط، بل على رجال الدين، من أصغرهم حتى رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا في روما.

لكن ما يلفت النظر أكثر من غيره عند الشعوب الإسلامية أنها مستعدّة للخروج في الشوارع بالملايين من أجل الاحتجاج على صور تمسّ رسولهم الكريم، وأنّ أفراداً كثيرين قاموا بعمليات اعتُبرت إرهابية، حسب قوانين البلدان التي وقعت بها من أجل ذلك، بينما لم تهتزّ لهم شعرة لمصير مليون مسلم من الإيغور يقبعون في معسكرات الاعتقال الصينية، ولا بمصير مئات آلاف السوريين الذين قتلهم جنود الأسد. ولم يشعروا بأدنى غيرة على مئات، بل آلاف المساجد التي سوّتها براميله وصواريخه بالأرض. أليس غريباً ألا نشهد مسيرة واحدة في أي بلد إسلامي تعاطفاً مع إخوانهم المسلمين في ميانمار مثلاً؟

الحقيقة أنّ الدين سلاحٌ هائل في يد السلطة السياسية في عصرنا الراهن، تستخدمه الحكومات الديكتاتورية لتثبيت عروشها، وما أكثرها في عالمنا العربي والإسلامي، كما أنه سلاحٌ لدى المجموعات المتطرّفة والإرهابية والطائفية تتذرع به في ارتكاب القتل. وفي المقابل أيضاً، تستثمره الحكومات الديمقراطية خارج حدود بلادها، فما كانت تحرّمه السلطات المتعاقبة، بدءًا من الثورة عام 1789 في فرنسا ذات اللائكية المتشدّدة من مظاهر دينية، دأبت، في الوقت نفسه، تشجّعه وتستثمره في مستعمراتها، فكانت حملات التبشير قائمةً على قدم وساق في أفريقيا وآسيا. هكذا يذهب الناس في الدفاع عن معتقداتهم إلى ما يناقض جوهرها، وهكذا يُستثمر إيمانهم وتُجيّر حماستهم وغضبهم نحو صدور أعداء مُفترضين، لإبعادها عن أعداء الحرية الحقيقيين. وفي المقابل، يجني كثيرون، من أمثال سلمان رشدي ولارش فيلكس، الملايين لاستثمارهم في ردود أفعال بسطاء الناس، ويكون الضحية هو الدين ذاته وقبله الإنسان.

العربي الجديد

——————-

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى