أبحاث

عن الغاء منصب مفتي الجمهورية في سورية -مقالات مختارة-

————————————-

صعود الشيخ أحمد حسون وانحداره/ حسام جزماتي

في جامع آمنة بنت وهب، في حي سيف الدولة المتوسط بحلب، كان الزحام المسائي شديداً لحضور درس الشيخ أحمد حسون. كانت مساجلة حادة سابقة مع أحد تلامذته الكثيرين قد قادتني مخفوراً إلى هنا، لسماعه من جديد والحكم عليه من دون موقف «مسبق» افترضه صديقي.

لم يكن التشويق ينقص دروس حسون في الأصل. لكن جرعته كانت زائدة ذلك اليوم لاعتماد الشيخ على عرض كتاب سيلقى رواجاً كبيراً إثر ذلك، هو «فلا تنس الله» الذي دونت فيه ممثلة مغربية تجربتها مع مرض السرطان، وشفاءها بعد زيارة الأراضي المقدسة في مكة والمدينة المنورة واغتسالها بماء زمزم. وبعد غمرة الانفعالات التي يمكن أن تثيرها قصة واقعية كهذه، ومهارات الشيخ الدرامية في الروي والسكون وتصعيد المشهد وإبطائه، ختم بالرؤيا الخارقة التي زار فيها الرسول المرأة المُلحِفة في الدعاء ومسح على جسدها فشفيت، قائلاً لها، بحسب ما روى الشيخ، إن لها ميزتين عنده؛ أولاهما أنها استغاثت به، والثانية أن اسمها فاطمة «ع اسم بنتي».

انفضّ الدرس. وطفق الخارجون الدامعون يتسابقون إلى شراء نسخ الكتاب التي عرضتها بسطة أمام الجامع. ولم يشوّش المشهد أن اسم المؤلفة على الغلاف كان واضحاً: ليلى الحلو.

ليس هذا مثالاً على التأثر الكبير لحسون فقط، بل أيضاً على الانسحار الغريب الذي كان يبديه مريدوه المبهورون.

يجهل كثير من السوريين، من الذين لم يسمعوا بأحمد حسون قبل تعيينه مفتياً للجمهورية عام، 2004 ولم يشاهدوا سوى تملقه المفرط بعد الثورة، أنه كان شيخاً معتبراً في حلب، بل أحد أبرز «علمائها». على الرغم من عدم امتلاكه العلوم الشرعية الإسلامية المعروفة. إذ تروي سيرته الذاتية أنه خريج الأزهر ولكن في قسم الأدب العربي. وتدور أقاويل كثيرة عمّن كتب له الرسالتين اللتين نال بهما الماجستير والدكتوراه من الجامعة نفسها وفي عمر متأخر. فضلاً عن أن حيويته ودنيويته وعلاقاته العامة المتشعبة لا تترك له الوقت والمزاج الكافيين لمطالعة كتاب.

ولد أحمد بدر الدين لرجل دين معروف في حلب في زمنه، هو الشيخ أديب حسون، القادم من إحدى قرى ريفها. وقد اشتهر الفتى بالخطابة. وعلا نجمه حتى قبل أن يغادر البلاد إبان «أحداث الإخوان»، عقب شيوع اتهامات له بالعمل لصالح المخابرات، ثم يعود ليستأنف مسيرته الصاعدة بعد استتباب الأمور للسلطة. متغلغلاً في شريحتين من الحلبيين؛ شملت الأولى، القاعدية، جمهوراً شعبياً من الحرفيين ومتوسطي التعليم، في حين وصلت الثانية، النخبوية، إلى قلب الوسطين التجاري والصناعي اللذين أصبح أحمد حسون واعظاً مرموقاً فيهما، ومفتياً، ومحكّماً، وشريكاً، وجابياً. وقد امتدت هذه الشريحة المصطفاة من مريديه إلى «المثقفين»، من أطباء ومهندسين ومحامين، فصار يقيم لهم درساً أسبوعياً خاصاً في مضافته في حي الفرقان الغني، التي استعاض بها عن الجامع بعد أن حاصره مدير الأوقاف، خصمه صهيب الشامي.

في مرحلة ما بعد «الأحداث»، وخروج مشايخ الإخوان المسلمين ومقربيهم من المشهد الديني، هجرة أو قتلاً أو اعتقالاً؛ قدّم أحمد حسون لحلب إسلاماً مناسباً؛ فردياً في العمق إلا عند حضور الدروس العلنية، صوفياً دون طرقية ملتزمة وزاهدة، حياتياً يتكامل مع المحل في سوق «المْدينة» قلبها التجاري، والشقة الفارهة في أحيائها الراقية، والمعمل في ريفها، ومزرعة الترويح عن النفس في ضواحيها. يمكنك أن تستمتع بكل هذا دون ضير ما دمت تسلّم مشاعرك الدينية لحسون الذي يتقن العزف على أوتار تأنيب ضميرك، لكنه يستخرج من الزكاة والصدقات من جيبك ما يكفي لإراحتك.

لكن الشبكة المحلية من الثروة والنفوذ الاجتماعي لم تكفِ حسون الذي تطلعت نفسه إلى السلطة، عضواً في «مجلس الشعب» لدورتين، ثم مفتياً لحلب فالجمهورية. وعلى خلاف المدينة التي ترعرع فيها لم يحُز في العاصمة رواجاً يذكر. فأدواته هنا كانت مكشوفة، كما واجهه رفض بارد وصارم من المشيخة الدمشقية التي رأت في تعيينه تعدياً على حيّزها، فضلاً عن توجهه إلى توسيع علاقاته بين المسؤولين الحكوميين والأمنيين وحتى العسكريين، بعد أن عبر فوق الجماهيرية درجة إلى الأعلى.

وبالمقابل أخذت شعبيته في حلب تتآكل، ببطء في البداية حين كان يزورها باستمرار ويحرص على إلقاء خطبة الجمعة في جامع الروضة فيها. ثم بتسارع بعد الثورة وانحيازه، مسفوحَ الكرامة تماماً، إلى صف النظام. فإن كان عامّة جمهوره ممن لم يؤيدوا الاحتجاجات منذ بدايتها، حفاظاً على الاستقرار والمصالح ونأياً بالنفس عن التورط، فإن انخراطاً مقابلاً في جو التشبيح ينافي المشي إلى جوار الحائط أيضاً، ويناقض القاعدة الذهبية للخلد «الله يطفيّا بنوره».

وذلك فضلاً عن انهيار الوسط التجاري والصناعي والحرفي في المدينة، بانتقال الاشتباكات إلى أسواقها التقليدية القديمة حتى دمّرت، وانقطاع الطريق إلى المعامل، وتعثر الحرف لأسباب عديدة. ولم يكن هذا خراباً اقتصادياً فحسب، بل هو زوال عالم شكّل وجه حلب منذ خرجت مجرَّحة من صدامها الدامي مع السلطة في السبعينيات والثمانينيات.

وربما يحلو للمرء أن يجد في موت صباح فخري، بعد سنوات قضاها تائهاً عن الدنيا، تمثيلاً رمزياً لحال المدينة التي غنى لها وباسمها. صحيح أن المدن لا تموت كالبشر لكن أشكالاً لها تنتهي صلاحيتها. وهو ما لم يعِه أحمد حسون، الذي ذهب إلى عزاء المطرب بعدّته البالية نفسها، ضميراً مستتراً ولساناً طلقاً يشطح بما شاء. فكان ممّا قاله في التأبين أن خريطة سوريا مذكورة في سورة التين، وأن من يُولد فيها يُخلق في «أحسن تقويم»، فإن غادرها رُدّ إلى «أسفل سافلين». وهو ما اصطادته عليه وزارة الأوقاف، المتربّصة به من زمن، فأخذت الضوء الأخضر لتكلّف «المجلس العلمي الفقهي» فيها بمهاجمة حسون ببيان قاس

ربما يؤشر إلى وصوله إلى درك انحداره وقرب إقالته وانتهاء سيرته.

تلفزيون سوريا

————————————-

الأسد يلغي الإفتاء السنّي وحسون..صراع قوى داخلي يخدم إيران/ عقيل حسين

أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد مرسوماً يمهد لإلغاء منصب مفتى الجمهورية، ويعزز دور المجلس الفقهي العلمي بعد إدخال تعديلات على تركيبة المجلس. ونص المرسوم التشريعي رقم 28 الذي صدر الاثنين، على تأسيس “المجلس العلمي الفقهي” بحيث يتكون من وزير الأوقاف رئيساً، بالإضافة إلى 42 عضواً، اثنان منهم نائبان للوزير.

وبحسب المرسوم، فإن عضوية المجلس تشمل رئيس اتحاد علماء بلاد الشام، والقاضي الشرعي الأول في دمشق، مع ثلاثين من كبار العلماء في سوريا “ممثلين عن المذاهب كافة. كما نص على أن يكون في المجلس ممثل عن الأئمة الشباب، وخمس من عالمات القرآن، وممثل عن جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية، بالإضافة إلى عضوين عن كليات الشريعة في الجامعات الحكومية.

إلغاء منصب المفتي

وإلى جانب التأكيد على أن تشمل عضوية المجلس ممثلين عن كافة المذاهب (الطوائف) فقد كان لافتاً نقل مهمة الفتوى التي كانت مناطة بمفتى الجمهورية السنّي، إلى المجلس، بناءً على إلغاء الفصل التاسع من القانون “31” لعام 2018 المتعلق بمنصب مفتي الجمهورية، المحددة أحكامه في المادة 35. وتنص على أن “يسمى المفتي العام للجمھورية العربیة السورية وتحدد مھامه واختصاصاته بمرسوم بناء على اقتراح الوزير لمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد بمرسوم”.

وأضاف المرسوم الجديد إلى مهام المجلس العلمي الفقهي “تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية، والتماس الأهلّة وإثباتها وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية متصلة بالعبادات والشعائر الدينية الإسلامية (شهر رمضان والأعياد الاسلامية)”.

تشيُّع الإفتاء لصالح إيران

ويرى المحامي عبد الناصر حوشان أن خطورة إلغاء مقام “مفتي الجمهورية” تكمن في أنه لم يعد هناك مُفتٍ لأهل “السنة والجماعة” في سوريا. كما أن المرسوم الحالي يُلغى الفصل التاسع من الباب الثالث المُتضَمن في المادة (35) من القانون المذكور، ما جعل الفتوى من أعمال السلطة التنفيذية (وزارة الأوقاف)، وبالتالي خرجت عن استقلالية مقام الإفتاء واستقلال المفتي، وهما شرطان شرعيان أساسيان لسلامة الفتوى ومصداقيتها. ويقول حوشان في حديث لـ”المدن” أن “المجلس الفقهي بتركيبته الحالية سيضم ممثلين عن عشر مرجعيات شيعية تتبع إيران، يشكلون في الواقع ربع أعضاء المجلس”.

وكان وزير الأوقاف قد أصدر قراراً العام 2011  ينص على اعتماد المرجعيات الشيعية التالية بشكل رسمي في سوري وهي:  مرجعية الخامنئي، مرجعية سعيد الحكيم، مرجعية السيستاني، مرجعية  صادق الشيرازي، مرجعية محمد حسين فضل الله، مرجعية كاظم الحائري، مرجعية بشير النجفي ، مرجعية محمد تقي المدرسي، مرجعية الوحيد الخراساني.

ويقول حوشان: “بما أن التعديل النصي يقول بضرورة إصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، فإن هذا يعني ضمناً المذهب الشيعي الذي تديره المرجعيات الشيعية في إيران والمرجعيات الشيعية المرتبطة بها في سوريا”.

وعليه، يرى حوشان أن “الشيعة بمن فيهم المجنّسون حديثاً، أصبحوا شركاء وللمرة الأولى في إدارة أملاك الوقف والانتفاع بها واستثمارها، وهذا أيضاً تكريس لجريمة التغيير الديموغرافي التي يرتكبها ملالي إيران وعملاؤهم في سوريا”.

صراع وأدوار

المرسوم الرئيسي يأتي بعد أيام قليلة فقط على اللغط الذي أثاره مفتي النظام أحمد حسون، خلال جنازة المطرب الراحل صباح فخري. واعتبر حسون في كلمة خلال التشييع، أن خريطة سوريا وردت في القرآن الكريم ضمن سورة “التين”، وأن كل من غادرها فإنه سيُرد إلى “أسفل سافلين” حسب تأويله لنص السورة. وهو تفسير أثار غضب واستهجان الكثير، ودفع المجلس العلمي السوري التابع لوزارة الأوقاف إلى إصدار بيان يرفض هذا التفسير، ويهاجم بشدة المفتى حسون بسبب “تحريفه” للقرآن وتفسيره آياته على هواه.

ويعتقد كثيرون أن وزير الأوقاف في حكومة النظام عبد الستار السيد، انتهز هذه الفرصة ليسقط خصمه القوي حسون بعد سنوات من التنافس الشديد بينهما.

وسبق للوزير السيد أن حاول أكثر من مرة التأثير في مكانة حسون وإقصائه من المشهد، وكان آخرها مطلع العام 2021 حين روجت مصادر إعلامية مقربة من السيد عن علاقة اقتصادية وثيقة بين ابن المفتي ورامي مخلوف، رجل الأعمال الشهير وقريب بشار الأسد، الذي تمّت مصادرة أمواله وتصفية أعماله بشكل كامل مؤخراً.

ولذلك، فإن السياسي السوري المعارض، زكريا ملاحفجي، يرى أن الأمر يتعلق بصراعات القوى ومراكز النفوذ داخل النظام، أكثر مما يتعلق بالسعي لنشر التشيع في المجتمع السوري. ويقول لـ”المدن”: لو كان الأمر مرتبطاً بالعمل على تشييع السوريين، فإن أحمد حسون قد لا يوجد من ينافسه في لعب هذا الدور منذ ما قبل العام 2011، لذا فعلى الأغلب أن ما جرى يعبّر عن انتصار وزير الأوقاف والقوى التي تدعمه في النظام على منافسه المفتي والأجهزة التي وقفت إلى جانبه في هذا الصراع”.

ويشير ملاحفجي إلى أن “المرسوم الأخير يقول بشكل ضمني إن دور حسون قد انتهى، وإنه يجب أن يغادر المشهد بعدما استنفد كل ما يمكن أن يقدمه للنظام، بل وأصبح عبئاً عليه، خصوصاً بعد السقطة الكبيرة التي ارتكبها ولم يكن هناك أي مجال لترقيعها، بينما كان على الأغلب يعتقد أنه بما قاله خلال تشيع صباح فخري يقدم مزاودة لصالح النظام لا يمكن لأحد مجاراته فيها”.

انقسم السوريون المعارضون للنظام، حيال المرسوم الأخير، بين من يعتبر أنه يمثل خطوة خطيرة على طريق تشيُّع الدولة بهذا الشكل الصارخ، وبين من يرى أنه لا يستحق كل هذا اللغط، طالما أن منصب المفتي، في ظل حكم آل الأسد، لطالما كان مجرد أداة في يد النظام، مثله مثل أي مؤسسة أخرى فقدت استقلاليتها ومضمونها ودورها الحقيقي.

المدن

——————————

بعد مرسوم الأسد.. ماذا يعني إلغاء منصب المفتي في سوريا؟/ ضياء عودة

في نوفمبر عام 2005 أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، مرسوما حمل رقم 302، عين من خلاله أحمد بدر الدين حسون مفتيا عاما لسوريا.

والاثنين، أي بعد 16 عاما، أصدر مرسوما آخرا تحت رقم 28، ينص على إلغاء المادة رقم 35 من القانون الناظم لعمل وزارة الأوقاف، التي يُسمى بموجبها المفتي العام للجمهورية.

وبذلك لم يعد حسون مفتيا عاما للبلاد بعد الآن، مع عدم وضوح الوضع الذي سيكون عليه في الأيام الماضية، خاصة بعدما أوكلت جميع المهام المنوطة به إلى “المجلس العلمي الفقهي”، الذي تشكّل وفقا للمادة الخامسة من القانون رقم 31 للعام 2018 الخاص بالوزارة.

وعلى مدى الأعوام الطويلة الماضية لم تطرأ أي تغييرات جذرية على شخصية حسون، فهو “رجل الدين” الذي ناصر السلطة في دمشق وكأنه جزءا من العائلة الحاكمة. مدح الأسد مرارا وهاجم جميع منتقديه ومعارضيه واصفا إياهم بـ”العملاء”.

كما عُرف بتصريحاته وتفسيراته المثيرة للجدل أيضا لبعض الآيات القرآنية، آخرها عندما اعتبر أن خريطة سوريا مذكورة في “سورة التين” وأن من يُولد فيها يُخلق في “أحسن تقويم”، فإن غادرها رُدّ إلى “أسفل سافلين”.

وبينما يقول معارضون إنه “عالم سلطة يفتي بقتل السوريين”، اعتبر في إحدى تصريحاته أن “سوريا تتعرض لأكبر حرب كونية من عناصر تنظيمات إرهابية ومجموعات تكفيرية قدمت من 83 دولة، بهدف النيل من مبادئها واستقلالها ودورها الريادي في المنطقة”.

يعتمد منهج التكفيريين

وربما لم يتوقع جزء كبير من السوريين أن تنقلب التهم الموجهة ضدهم من قبل حسون عليه في توقيت ما، خاصة تلك المتعلقة بـ”التكفير”، وذلك نظرا للمكانة التي كان عليها ضمن الخارطة الدينية والسياسية أيضا.

وبعد الإشكالية التي فجرها قبل أيام، أثناء تفسير “سورة التين” خلال مراسم عزاء الفنان صباح فخري في مدينة حلب، اعتبر “المجلس العلمي الفقهي” في بيان له أن التفسير مغلوط وتحريف للتفسير الصحيح، ولجأ قائله (في إشارة مبطنة لحسون) إلى “خلط التفسير بحسب أهوائه ومصالحه البشرية”.

وجاء في البيان أن “منهج المتطرفين والتكفيريين يعتمد على تحريف تفسير آيات القرآن لأغراض شخصية، لتنسجم مع أهدافهم التكفيرية”.

وحتى الآن لم يعرف بالتحديد عما إذا كان هناك ربط بين مرسوم الأسد الأخير بإلغاء منصب المفتي العام للجمهورية مع التفسير الجدلي لأحمد حسون.

وطرح سوريون، منذ الاثنين، عدة تساؤلات عن الهدف من المرسوم، والمصير الذي سيكون عليه أحمد حسون، فيما لا توجد مؤشرات على “إقالته رسميا” أو إبعاده عن المشهد الديني للبلاد ككل.

وفي المقابل كان لافتا القراءات التي قدمها باحثون سوريون في الشؤون الدينية، حيث اعتبروا أن التزامن اللافت بين إشكالية “سورة التين” ومرسوم الأسد تذهب خلفياتها إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصة مع بروز “المجلس العلمي الفقهي” كجهة وحيدة ستتولى الإفتاء، ومهام القاضي الشرعي الأول أيضا.

وبموجب المرسوم رقم “28” عزز الأسد صلاحيات “المجلس العلمي الفقهي” في وزارة الأوقاف، الذي يترأسه الوزير عبد الستار السيد، وكان المفتي عضوا فيه.

وحصر المرسوم إصدار الفتاوى “المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة”، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، بعمل “المجلس الفقهي” أيضا.

ماذا يعني إلغاء منصب المفتي؟

تحدث موقع “الحرة” مع أربعة باحثين في الشؤون الدينية، قدموا عدة قراءات عن الهدف من إلغاء منصب المفتي في البلاد، وما الذي يمثله ذلك في الوقت الحالي.

وتقول الباحثة في الشؤون الدينية، ليلى الرفاعي إن إلغاء منصب المفتي في سوريا “يُعد خطوة جديدة في إعادة هيكلة المجال الديني في سوريا”.

وتعتبرها أيضا “خطوة يسعى وزير الأوقاف عبد الستار السيد إليها منذ توليه منصبه في عام 2008، ثم جاءت الثورة كفرصة لن تتكرر في سبيل هذا التغيير، خصوصا مع تفريغ المجال من طيف واسع من الفاعلين الدينيين بالتهجير أو الاعتقال”.

وتضيف الباحثة في تصريحات لموقع “الحرة” أن منصب المفتي عرفته سوريا تاريخيا بأنه “حكر على رجال دين سنة، وهذا فيه ما فيه من تمثيل ديني لأكثرية سورية”.

وفي المقابل فإن “المجلس العلمي الفقهي ابتُدع حديثا على يد السيّد نفسه عام 2008″، بحسب الرفاعي، مشيرة إلى أنه يضم رجال دين من كافة المذاهب الإسلامية، إضافة إلى ممثلين من طوائف مسيحية، وكان الغرض من إنشائه تلافي الانقسام المذهبي والطائفي التي في المجتمع.

وبناء على ما سبق ترى الباحثة السورية أن “رمزية المفتي السني قد أُلغيت بإلغاء منصبه، وأوكلت الفتوى للفيف من رجال دين ذوي مشارب ومذاهب وأديان مختلفة”.

واعتبرت أن “الفتاوى الصادرة عن المجلس لن تراعي السنة بوصفهم أكثرية، إنما ستتخذ، مستندة على فقه الواقع الذي يجد الحلول المناسبة لمشكلات الناس على الصعد المختلفة، وترسيخا لفقه المواطنة والحوار ونشره في المجتمع عبر الوسائل المتنوعة”.

وتتابع الرفاعي: “مما يعني بطبيعة الحال أن الهوية الدينية السنية الأكثرية تساوت مع هويات أخرى من حيث الرمزية والهيمنة الدينية”.

من جانبه، لا يعتبر الدكتور محمد حبش، مؤسس ومستشار مركز “الدراسات الإسلامية” أن القرارات الجديدة “توجه نحو الحرية”.

ويوضح في تصريحات لموقع “الحرة”: “إلغاء منصب المفتي لم يتم من أجل تعزيز الحريات، بل جاء على حساب مجلس فقهي وعلمي. هذا المجلس سيكون حكوميا بالكامل وقد يمارس سلطات تغوّل وسيطرة على الفكر الحر والاجتهاد”.

ويضيف حبش، الذي شغل منصب عضو مجلس الشعب سابقا: “ربما قد نسمع بقرارات حرم وإبعاد وقرارات تكفير في المرحلة المقبلة، لذلك أعتقد أن الخطوة في الحقيقة تأتي بإطار نزاعات شخصية، وضمن استمرار التطاحن الإداري الذي لا يوجد له حل”.

واعتبر حبش أن “الإجراء (مرسوم الأسد) لم يأت في إطار دراسة موضوعية وأبحاث محكمة وعملية حوكمة، بل اتخذ في ضوء نزاعات وصراعات وتنافس طاحن يعرفه الجميع. هو صراع مراكز قوى”.

المفتي يغيب كشخص

وحاول موقع “الحرة” التواصل مع المكتب الإعلامي للمفتي العام لسوريا، أحمد بدر الدين حسون، إلا أنه لم يتلق أي رد حتى اللحظة، وذلك للحصول على رد يتعلق بخلفيات المرسوم الرئاسي.

وقال عضو “المجلس العلمي الفقهي” الشيخ محمد شريف الصواف لإذاعة “شام إف إم”، التي تبث من العاصمة السورية دمشق، إن “المرسوم الجديد ينص على أن تصبح صلاحيات الإفتاء كاملة للمجلس العلمي الفقهي، وتوسيع صلاحياته مع إدخال أمور أخرى لم تكن سابقا ضمن اختصاصه مثل قضية الإشراف على المواقيت الدينية وغيرها”.

وأضاف الصواف الثلاثاء: “ستغيب صفة المفتي كشخص، وسيصبح المجلس العلمي الفقهي هو المفتي. لن يكون هناك أي فروع للمجلس، بل سيضم ممثلين من المذاهب الفقهية كافة ومن جميع المدن”.

من جهته يعتبر المتحدث باسم “المجلس الإسلامي السوري”، مطيع البطين أن المرسوم الذي أصدره بشار الأسد “تغيير للهوية السورية”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “هو استكمال لعمل قام به النظام السوري والإيرانيون، ويستكمل الآن بجانب آخر من خلال القوة الناعمة”.

ويرى البطين أن “إلغاء منصب المفتي يعني الشيء الكثير، أي إلغاء مسألة رمزية كانت تعبر عن التدين لأغلب السوريين، وتعبر عن مكانة الدين في المجتمع السوري”.

ورغم أن المفتي يعيّن من قبل الأسد، وأنه تحوّل إلى “أداة من أدوات النظام السوري، لكن المسألة أبعد من ذلك”، بحسب المتحدث باسم المجلس الذي يتخذ من مدينة إسطنبول مقرا له.

في المقابل، لا يرى الدكتور محمد حبش أن إلغاء المفتي من شأنه أن “يغيّب الهوية الدينية”، موضحا أن “رمزية المفتي خلال السنوات العشر لم تكن تقدم أي شيء إيجابي لصالح الهوية الدينية للسوريين، بل كانت أداة بيد السلطة ومارستها بشكل مخزٍ وأصبحت تحرج الموالين والمعارضين وكل من ينتمي إلى سوريا”.

ويضيف حبش: “لا يرتبط الأمر بهوية الوطن السوري. هذا الوطن له تاريخ والجميع يحترم قيم الإسلام، ولا يتوقف الأمر على منصب”.

لكن الباحث بالشؤون الدينية يبدي تخوفا من أن “يغيب المنصب الشرفي للعمل الديني لصالح مجلس كهنوتي يملك صلاحيات الحرم والإبعاد والتكفير وغير ذلك. نكون بذلك قد تراجعنا بالفعل لعقود كثيرة إلى الوراء”.

ويتابع: “بقاء وجود المفتي على جميع علّات ما كان عليه المنصب قد يكون أقل سوءا من وجود جهاز حكومي ديني كهنوتي يمارس سلطات قهرية ضد الحرية وفي خدمة الاستبداد”.

ما دلالات التوقيت؟

وهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها الأسد تعديلا في تنظيم عمل الأوقاف الإسلامية، إذ أنه أصدر في العام 2018 قانونا منح بموجبه صلاحيات واسعة لوزير الأوقاف.

وحدد في المرسوم ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، على أن تتم تسميته بموجب مرسوم بناء على اقتراح الوزير، فيما كان رئيس الجمهورية سابقا هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته.

وأثار القانون جدلا عند صدوره، ورأى البعض أنه بمنحه صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف فإنه يكرس سلطة المؤسسات الدينية، واعتبر البعض أنه يعزز قبضة السلطات على المؤسسة الدينية في سوريا بشكل كامل.

ويرى الكاتب المتخصص بقضايا التيارات والمدارس الإسلامية، محمد خير موسى، أن “عزل المفتي الذي يمثل المذهب السني يعني أنه لم يعد مرجعية شرعية للدولة السورية، وبالتالي السنّة لم يعودوا في نظر النظام أكثرية، بل تحولوا إلى طائفة من الطوائف للإفتاء”.

ويقول الباحث في تصريحات لموقع “الحرة”: “الإشكالات التي حصلت مؤخرا والمتعلقة بتفسيرات حسون لسورة التين هي مجرد استثمار لما يريده النظام”.

واعتبر أن المفتي السابق أحمد حسون كان قد همّش بالفعل منذ أكثر من 3 سنوات، ولم يعد له أي وجود على الخارطة الدينية، في العامين الماضيين.

ويضيف خير موسى: “نرى عملية تأليب مجتمعي وتسليط الضوء على هذه الإشكالية، من أجل أن يتقبل المجتمع المجلس الفقهي العلمي. الأمر مرتّب وبعيد عن الإشكالات الأخيرة”.

في حين يستبعد الناطق باسم “المجلس الإسلامي السوري”، مطيع البطين أن يكون إلغاء المفتي أمرا مؤقتا، ومرتبطا بالإشكاليات الأخيرة.

ويقول: “المجلس العلمي الفقهي تم تشكيله منذ سنوات وكان واضحا أنه مهيئ لهذا الأمر. تفسير حسون سبب مناسب لإبعاده، وتم استغلال الأمر لإلغاء منصب المفتي”.

“مؤشرات تؤسس”

وفي غضون ذلك تشير الباحثة في الشؤون الدينية، ليلى الرفاعي، إلى خلفيات كانت قد شهدتها السنوات الماضية، وتؤسس لما يحصل اليوم.

وتقول الرفاعي: “ثمة جذور للصراع بين حسون، ذي الشبكات الاجتماعية الحلبية، وعبد الستار السيد الذي تتولى عائلته بشكل تاريخي منصب الافتاء في طرطوس -والد السيد، والسيد، وابنه حاليا”.

وبدأ هذا الصراع قبل أكثر من عقد، أي منذ تولي السيد لمنصب وزارة الأوقاف، وسعي كل منهما إلى التقرب أكثر من النظام السوري.

وبحسب الباحثة السورية: “هذا الصراع مرتبط أيضا بتهميش رامي مخلوف (الذي يملك ابن حسون حصة في شركة مملوكة لبلال النعال المقرب منه)، وبالصراع الروسي الإيراني الذي يمثل السيد به جناح موسكو، مقابل قرب حسون من طهران”.

“لكن السيد كان متقدّما دائما على حسون، وقادرا على سحب صلاحياته تدريجيا، وكان ثمة مؤشرات على الوصول لهذه النقطة”، وفق الرفاعي.

ومن المؤشرات التي ظهرت على الساحة الإعلامية مؤخرا تسريب مكالمة الحسون في تفاوضه على فدية الإفراج عن ابنه نهاية عام 2018، ومن ثم اختفاءه شبه الكامل عن الإعلام (بما في ذلك وكالة الأنباء الرسمية سانا)، طيلة النصف الأول من عام 2020.

كما غاب عن عدة فعاليات رسمية كبرى، مثل زيارة العلماء لقبر حافظ الأسد في الذكرى العشرين لوفاته، بجانب تصدر “المجلس العلمي الفقهي” للمشهد الديني أثناء جائحة كورونا، مع غياب الحسون شبه الكامل.

ضياء عودة – إسطنبول

الحرة

—————————-

قراءةٌ مُتأنّية في خلفيّة ودلالات مرسوم الأسد بإلغاء منصب الإفتاء في سوريا/ محمد خير موسى

مع نشأة سوريا دولةً مستقلّة بعد انتهاء العهد العثمانيّ كان منصب الإفتاء حاضرًا منذ السّنوات الأولى، ففي عام 1918م عيّن الشّيخ محمّد عطا الكسم مفتيًا بقرار حكومة الملك فيصل ليتعاقب بعده المفتون على سوريا؛ الشّيخ محمد شكري الإسطواني ثم الشّيخ الطّبيب محمّد أبو اليسر عابدين وبعده الشّيخ عبد الرّزّاق الحمصي فالشّيخ أحمد كفتارو ليكون خاتمة المطاف عند الشّيخ أحمد بدر الدّين حسّون.

في عام 2002م عيّن أحمد حسّون مفتيًا لحلب، ليدخل معركةً شرسةً مع مدير أوقافها آنذاك محمّد صهيب الشّامي، وصلت أصداء المعركة بينهما إلى أرجاء سوريا وكان النظام سعيدًا برؤية هذا الاستقطاب والتعارك الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى التعارك بالأيدي بين التلاميذ نصرةً لمشايخهم وبحضورهم في أحيان عديدة.

    جذور العداء بين أحمد حسّون ومحمّد عبد الستّار السيّد وأثره في المرسوم

وبعد وفاة الشّيخ أحمد كفتارو في أيلول “سبتمبر” من عام 2004م شغر منصب الإفتاء وبقي أكثر من سنةٍ محلّ معارك خفيّة فيمن يحظى به ويناله، وهذه المعارك كانت لها أبعاد مناطقيّة من جهة وأبعاد مدرسيّة وانتمائيّة من جهةٍ ثانية، وكان من أشدّ المحاربين لحسّون للحيلولة دون بلوغه منصب الإفتاء الدّكتور محمّد عبد الستّار السيّد الذي كان آنذاك معاونًا لوزير الأوقاف، ولكنّه كان الشخصيّة الأقوى في الوزارة، وفي النّهاية نجح أحمد حسّون في أن يحظى بثقة بشّار الأسد ليغدو مفتيًا لسوريا في منتصف تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 2005م.

محمّد عبد الستّار السيّد الذي عيّن معاونًا لوزير الأوقاف عام 2002م ثمّ غدا وزيرًا للأوقاف عام 2007م تعود جذور العداء بينه وبين أحمد حسّون إلى عام 2002م حينَ عيّن حسّون مفتيًا لحلب، وكان محمّد عبد الستّار السيّد مناصرًا لمدير الأوقاف محمّد صهيب الشّامي وساعيًّا في إفشال مساعي حسّون، لكنّ نفوذ حسّون الأمني كان أقوى وارتباطاته كانت أكثر تأثيرًا.

وقد ظهرت هذه العداوة للعلن بشكل فجّ منذ عام 2007م وهي السّنة التي تولّى فيها “السيد” وزارة الأوقاف، وكانت عداوتهما ظاهرةً لا تخطئها عينُ متابع، وقد انحازت المشيخة في عمومها لصفّ وزير الأوقاف لاعتبارين؛ قوّته ونفوذه وكونه المسؤول الإداريّ المباشر عنهم بخلاف حسّون، ولما يتمتع به حسّون من بغض ونفور الوسط المشيخيّ منه.

إنّ التحليل القائم على أنّ المرسوم الذي صدر من بشّار الأسد بإلغاء منصب الإفتاء جاء نتيجة للعداء بين الوزير محمّد عبد الستار السيد وأحمد حسّون البعيد النّجعة؛ فالعداء والمعركة بينهما لم تتوقّف منذ أكثر من عشرين عامًا وكانت تجري على عين النّظام ومباركة أجهزته الأمنيّة، ثمّ إنّ النظام لا يتخذ هذا النوع من القرارات انتصارًا لأحد موظفيه على الآخر فجميعهم عنده في كفّةٍ واحدة وقيمةٍ واحدة؛ هذا إن وجدت القيمة من حيثُ الأصل.

وهنا لا بدّ من القول: إنّ النّظام يعلم بل يرعى الفساد الذي يغرق فيه القائمون على المؤسسة الدّينيّة في سوريا، فليس خافيًا على أحد فضلًا عن أن يكون خافيًا على النظام حجم الفساد المالي وغير المالي الذي يغرق فيه كل من أحمد حسون ومحمد عبد الستّار السيّد، وما لديهما من علاقات غير سويّة داخليّة أو خارج الحدود، لكنّه يمسك بخيوط ذلك كلّه ليستخدمه في الوقت المناسب.

فأحمد حسّون من الشّخصيّات التي لديها نهَم غير عادي للمال والثراء والنفوذ لدى الأثرياء والأغنياء، كما أنّه حاول مدّ بعض أذرعه إلى بعض المؤسسات الدّوليّة كالاتحاد الأوروبيّ وغضّ النظام طرفه في إشارة موافقة على ذلك، لكنّ هذا لا يعني أنه لن يكون موضع محاسبة ومساءلة إن أراد النظام ذلك.

لكنّ ما فشل فيه حسّون فشلًا ذريعًا هو تكوين حاضنةٍ شرعيّة خاصة به، فهو ليس شيخ جماعة، ومريدوه في جامع آمنة انفضوا عنه وانفضّ عنهم عقب تولّيه الإفتاء العام، فهو إذن مكشوف الظّهر في الوسط الدّيني ولا قوّة له إلّا بمقدار ار تباطاته المخابراتيّة.

    هل مرسوم بشّار الأسد يقصد منه عزل المفتي أحمد حسّون؟

ما إن صدر المرسوم المرسوم التشريعي رقم 28 بتاريخ 15 / 11 / 2021م حتى غطت موجةٌ من الشّماتة وسائل التواصل الاجتماعي، وتداول الكتّاب خبرًا عن مرسوم بإقالة أحمد حسّون من منصب الإفتاء، وفي الحقيقة هذا نوعٌ من الالتفات عن حقيقة المرسوم الذي صدر، فليسَ في المرسوم ما ينصّ على عزل أحمد حسّون من منصب الإفتاء، ثمّ إنّ عزل المفتي لا يكون بمرسوم تشريعي بل بقرار وزاري، وإنّ اختزال الهدف من المرسوم التشريعيّ في أنّه صدر لعزل أحمد حسّون من منصب الإفتاء هو اختزالٌ للمشهد وتفسيرٌ بعيدٌ عن إدراك حقيقة الصّورة.

إنّ أحمد حسّون الذي بدأت رحلة تهميشه منذ أكثر من ثلاث سنوات ليسَ بحاجةٍ إلى مرسوم بإلغاء منصب المفتي لعزله؛ فهو أقل من ذلك بكثير، فليسَ له ظهيرٌ شعبيّ ولا حضور ذو طبيعة مرجعيّة في الشّارع السّوريّ، كما أنّه ليس شيخ جماعة يمكن لها أن تُحدث أيّ نوع من الاضطراب في حال عزله.

عزل أحمد حسّون عن الإفتاء لم يأت بقرار إقالة ولم ينصّ المرسوم التشريعيّ عليه، بل هو لازمٌ من لوازم المرسوم، وهذا يستدعي منّا التوقّف مليًّا مع تفاصيل المرسوم بعيدًا عن التفسيرات العاطفيّة أو الاختزالات الضيّقة.

    مرجعيّة المذهب السنّي في مهبّ الرّيح

لا ينصّ المرسوم التشريعي على إلغاء منصب المفتي العام فحسب بل إلغاء منصب مفتي المحافظات والمدن، فسوريا بعد اليوم للمرّة الأولى في تاريخها منذ الاستقلال من دون منصب الإفتاء لسوريا ومحافظاتها ومدنها.

قد يبدو الأمرُ عاديًّا في ظلّ دولة الاستبداد الأسديّة، بل لا قيمة له، لكنّ هذا القرار صاحَبَه قرار آخر بتوسيع صلاحيات المجلس العلمي الفقهي الذي أُسِّس عام 2018م في تعبيرٍ واضح عن الهيمنة الإيرانيّة على المؤسّسة الدّينيّة وكسر التمثيل السنيّ لمرجعيّة الإفتاء.

والمجلس العلمي الفقهي يضمّ رجال دين من الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، ففيه أعضاء من السنّة، ومن مراجع الشّيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين النصيريّين، والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين.

المرسوم التّشريعي الأخير أضاف إلى المجلس الفقهي بعض التطعيم الدّيكوريّ من شخصيّات ذات صبغة شرعيّة مع تأكيده على وجود أعضاء من المذاهب جميعِها، وهنا هو لا يقصد المذاهب الفقهيّة بل للتّأكيد على وجود المرجعيّات الشيعيّة بوصفها مذهبًا ومرجعيّات الطوائف الأخرى بوصفها مذاهب.

وقد جاء في نصّ المرسوم التشريعي: “يشكل في الوزارة مجلس يسمّى “المجلس العلمي الفقهي” على النحو الآتي: الوزير رئيسًا، معاونا الوزير عضوان، رئيس اتحاد علماء بلاد الشام عضوًا، القاضي الشرعي الأول بدمشق عضوًا، ثلاثون عالمًا من كبار العلماء في سورية ممثلين عن المذاهب كافة أعضاء، ممثل عن الأئمة الشباب عضواً، خمس من عالمات القرآن الكريم أعضاءً، ممثل عن جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية عضوًا، مُمثِّلان اثنان عن كليَّات الشريعة في الجامعات الحكومية”

وتكمن مشكلة كبرى في أن ينصّ المرسوم التّشريعي على إسناد مهمّة الإفتاء لهذا المجلس، فقد جاء في المرسوم التشريعي: ” تضاف إلى مهام المجلس العلمي الفقهي … إصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها”

إنّ وجود المفتي العام في أيّة دولة ومفتي المحافظة والمدينة هو من يحدّد مرجعيّتها الشرعيّة عادة، وهذا من بديهيّات المسائل، فإلغاء هذا المنصب وتحويله إلى مؤسّسة متعددة المرجعيّات تكون المرجعيّة السنيّة أو المذهب السنيّ هو أحدها ومجرّد عضو فيها؛ فهذا يعني أنّ سنيّة الدولة كما هو منصوص عليه في القوانين المختلفة لا سيما قانون الأحوال الشخصيّة قد غدت في مهبّ الرّيح، وهذا المرسوم هو إلغاء تامّ لمرجعيّة المذهب السنيّ في الفتوى وقوانين الوقف وقوانين الأحوال الشخصيّة في سوريا.

إنّ هذا المرسوم يدلّ إضافةً إلى إلغاء مرجعيّة المذهب السنيّ في الفتوى والقوانين على تمدّد المرجعيّة الشيعيّة لتغدوَ مرجعيّة رسميّة تتحرّك في الواقع السوريّ بقوّة القانون وتحضر في كلّ المحافل الإفتائيّة والقانونيّة بوصفها مرجعيّة رسميّة منصوص عليها في القانون.

وتمدّدها هذا يعني التّغلغل في القوانين من جهة، وفي الواقع الاجتماعيّ من خلال الفتاوى التي سيصدرها ممثلو المرجعيّات الناشطون في مختلف المحافظات من جهةٍ أخرى، وهذا انعكاسٌ للتغوّل الإيرانيّ على المؤسسات الشرعيّة والقانونيّة التي تخضع لمرجعيّة المذهب السنّي مما ينبئ أنّنا أمام مرحلة بالغة الخطورة من المحو الهويّاتي بعد التغيير الديمغرافي الذي جرى على قدم وساق خلال السّنوات العشر الأخيرة.

إنّ إسناد مهمّة الإفتاء في سوريا للمذاهب والطوائف المتعدّدة بهذا الشكل لم يحدث منذ بداية دخول الإسلام إلى سوريا إلى اليوم، وهو إعلان رسميّ أنّ السنّة في سوريا لم يعودوا هم الأكثريّة بل هم مجرّد طائفة من الطوائف الأخرى سواءً بسواء.

    القضاء الشرعي في خطر

مما لم يلتفت له كثيرون في المرسوم التشريعي الأخير هو ضمّ القاضي الشرعي الأوّل إلى المجلس العلمي الفقهي بوصفه عضوًا فيه، وهي سابقةٌ في إخضاع القضاء لسلطة تنفيذيّة، وتنافي أبسط مبدأ يقتضي فصل السلطات.

بل إنّ الأمر بلغ أن يأخذ المجلس العلمي الفقهي أحد أهمّ أدوار القاضي الشرعي؛ إذ ينصّ المرسوم التشريعي في بيان مهامّ المجلس على: “تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلّة وإثباتها وإعلان ما يترتّب على ذلك من أحكام فقهيّة متصلة بالعبادات والشّعائر الدّينية الإسلاميّة”

ونعلم خطورة الأمر حين نعلم أنّ هناك خلافًا جذريًّا في منهجيّة إثبات الأهلّة لا سيما هلال رمضان وهلال شوّال بين المرجعيّة السنيّة والمرجعيّة الشّيعيّة، فهل ستصوم سوريا بعد اليوم وتفطر على منهج الوليّ الفقيه؟

ولكنّ الخطورة الأكبر هي في ترسيخ تبعيّة القضاء الشرعيّ للمجلس العلمي الفقهي، وإذا علمنا أنّ القضاء الشرعيّ يحتكم إلى مرجعيّة الفقه الإسلامي على المذهب السنّي في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا، فهذا يعني أنّ قانون الأحوال الشخصيّة الذي فشلت محاولات تغييره على مدى عقود مضت غدا اليوم سهلَ المنال للتغيير في مرجعيّته وأحكامه بشكلٍ جذريّ.

    ثمّ ماذا؟!

يمكننا القول: إنّ المرسوم المرسوم التشريعي رقم 28 تاريخ 15 / 11 / 2021م هو أخطر مرسومٍ يصدره بشّار الأسد فيما يتعلّق بهويّة الدولة ومرجعيّتها الشرعيّة والفقهيّة منذ بداية تولّيه السلطة حتّى اليوم.

وهذا يستدعي من مؤسسات العلماء السوريّة بالدّرجة الأولى التفكير الجادّ في إيجاد البدائل التي تحاول سدّ شيءٍ من الآثار السلبيّة التي ستترتّب على هذا المرسوم على مستوى هويّة القوانين والتشريعات وهويّة المجتمع السّوريّ.

وإنّ التعاطي بلا مبالاة مع هذا المرسوم يعني أنّنا أمام عمليّة محو هويّاتيّ وتغيير مرجعيّ قد يصعب تغييره في زمن يسيرٍ ولو زال النظام وزالت قبضته وسلطته.

تلفزيون سوريا

———————————-

الإفتاء” في ظلال الأسد.. إلغاء حسون وقتل حسن خالد/ محمد حجيري

أصدر بشار الأسد “مرسوماً”، ألغى بموجبه منصب مفتي الجمهورية السورية، وعزز في الوقت ذاته صلاحيات “مجلس فقهي ضمن وزارة الأوقاف”. وتسبب القرار بموجة جدل واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي، بين من يعتبر أنه أقاله ليتقرب من تركيا ومصر ودول الخليج، وبين من يعتبر القرار مزيداً من الانبطاح لإيران على حساب “أهل السنة”، إذ تحجج النظام بمسرحية فاشلة أو حماقة في تفسير آية قرآنية من قبل المفتي أحمد بدر الدين حسون، ليلغي المنصب بجرّة قلم… وبعيداً من التحليلات والتخمينات والتأويلات، ومن خِسّة المفتي حسون المعروفة وهي نتاج ثقافة “البعث” أولاً، يشكل إلغاء منصب المفتي في سوريا، نموذجاً جلياً للطريقة التي يدير فيها نظام بشار الأسد الحكم: يد مطلقة في الصغيرة والكبيرة، في الشاردة والواردة، بلا مقدمات يعيّن هذا، وبلا مقدمات يقيل ذاك، لا يحتاج الى مؤسسات، ولا قوانين، ولا مجلس وزراء، ولا مجلس نواب أو شعب، ولا قضاء… هو كل شيء، ويعرف بكل شيء، في الزراعة، في الثقافة، في الدين، في الرياضة، في الفقه،… هكذا نظام “الرئيس الدكتور” ومن قبله “الأب القائد”.

في السنوات السابقة، لم يكن الأسد يريد من حسون أن يكون أكثر من دمية، دورها التلقي والتصفيق “لنظام الأبد” والحضور بجانب الرئيس في “الصلوات” أو الأعياد في زمن الحرب على المعارضين (السنّة بشكل عام). وأدّى حسون، خريج الأزهر وحامل شهادة في الأدب العربي، دوره، على أكمل وجه. أهان موقعه الديني على أكمل وجه، تبجّح بتعابير هذيانية، وهدد الكون، وأوروبا، ولو تسنى له لقال إن بشار الأسد مذكور اسمه في القرآن… كان دمية، ولم ينتبه أن الدمى لها دورها ينتهي، أو يتوقف. ومَن جعَله يهين موقعه في مواقف ساذجة وخبيثة وقاتلة، يمكنه أن يلغيه ويلغي موقعه ويطيحه، حتى وإن كان يسمي نفسه “ابو الشهيد” (قُتل ابنه خلال الحرب السورية)… هكذا أُلغي منصب المفتي، بمثل ما عيّن الاعلامي علي يوسف حجازي أميناً لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، ليكون ميشال عفلق المستقبل…

ألغى الأسد منصب المفتي، ولن يجرؤ أحد في نظامه على الاعتراض على هذا الإجراء، باعتبار أنه صادر عن نظام الأبد. بل إن هذا النظام، حضّر مسرحية لتمجيد هذا القرار، فسريعاً، ما رفع “علماء دمشق” برقية شكر وولاء للسيد الرئيس لاصداره المرسوم التشريعي رقم /٢٨ / تاريخ 15/11/2021 الذي عزز دور المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف والمؤسسة الدينية.. لكن، مَن هم علماء دمشق؟ الله أعلم! الأرجح أنهم أعضاء في حزب “البعث”، وإن لم يكونوا كذلك، فعلى الأغلب عيّنهم الحزب. لطالما هيمَن حزب البعث الاسدي على المؤسسات الدينية والرسمية، وأوهم الناس أنه اختار مفتياً متمكناً، وفي الواقع هو اختار مفتياً كان تلفزيونياً، اختاره لأنه مؤيد للأسد ويدور في فلكه ولم يكن مستفزاً. وفي تجربة حسون كانت الطامة الكبرى، فهو كتلة من الاستفزاز، ووجهه ينمّ عن قدر هائل من السذاجة والتشبيح…

قبل حسون في سوريا، كانت تجربة نظام البعث الأسدي مع الإفتاء في لبنان… كان مسعى حافظ الأسد هو تفريغ أي دور للقيادات السنية غير المؤيدة له، كما الهيمنة على بيروت وطرابلس بالصواريخ والراجمات. كان نصيب المفتي حسن خالد، المعترض على النظام السوري في لبنان، سيارة مفخخة في أيار 1989، ونصيب الشيخ صبحي الصالح رصاصات من كاتم صوت في ساقية الجنزير… في ذلك الزمن كانت أحزاب لبنانية، دمى عند نظام حافظ الأسد، تتلقى الأوامر وتنفذ الاغتيالات، وفي وقت لاحق صار بعض هذه الأحزاب يعطينا دروساً في السيادة والوطنية، ويبرر أفعاله المشينة بالاغتيال بأنه تلقى أوامر.

ولم يتوقف أمر دار الافتاء في لبنان على اغتيال حسن خالد. ففي زمن السِّلم، كان تعيين المفتي محمد رشيد قباني، من قبل النظام السوري بمثل تعيين بدر الدين حسون، زيارة إلى دمشق، وتوقيع… وفي الواقع أيضاً لا يشبه حسون في سوريا (ومعه قباني في لبنان) الأن الا ما يسمى “تجمع العلماء المسلمين”، وهم رهط من المشايخ السنة وبعض الشيعة، يتحركون حين يطلب منهم ممولهم أو ولي نعمتهم اطلاق “المواقف” النافرة، وهي تقتصر على التأييد لسياسة حزب الله أو الممانعة.

عدا ذلك، بمثل ما تحوّل المفتي دمية في يد نظام الأسد، تحوّل هذا النظام دمية وسط بحر من اللاعبين على الأرض السورية. والراجح أن الشرق كله، هو شرق الدمى. فكل أزمات العالم تدلف عندنا، تمطر في عواصم العالم فنحمل الشمسية هنا.

المدن

—————————

ماذا يعني نسف “كرسي السنة” في سوريا؟/ إبراهيم الجبين

الأسد يعيد هندسة الحياة الدينية في سوريا

ألغى رئيس النظام السوري بشار الأسد منصب المفتي العام للجمهورية والذي كان يشغله حتى وقت قريب أحمد بدرالدين حسون، وأولى مهام الإفتاء إلى مجلس كان قد أسسه تحت مسمى “المجلس الفقهي العلمي” مشكّل من عدد من الطوائف والأقليات ويضم بين أعضائه ممثلين عن المسلمين السنة.

وهي خطوة قد تبدو للبعض أقرب إلى الإجراءات الأتاتوركية التي تقصّدت علمنة الدولة بالقوة، لولا العامل الإيراني الذي لا يخفي نفسه في المشهد السوري، والذي حرص على تطبيق برنامج للتشييع الممنهج تم تطبيقه في كافة الأراضي السورية التي وصلت إليها ميليشيات إيران، وكان للمفارقة المفتي حسون أحد أبرز داعمي هذا البرنامج الذي أفضى إلى الإطاحة به.

مفتي الجمهورية أو المفتي العام كما يسميه المؤرخون السوريون لم يكن مخصصاً للسنة وحدهم عبر جميع المراحل التي مرّت بها تلك القطعة المتبقية من بلاد الشام. بل كان يحمل دلالة رمزية على الإسلام وكان في عنقه ومن ضمن مهامه تنظيم شؤون بقية الطوائف بالاستناد إلى مرجعياتها الدينية دون تمييز. وكان هذا المنصب يخضع لعملية انتخاب تجري بين علماء سوريا، فيطرح اسم واحد منهم أو أكثر، ويستفتى عليه بقية العلماء لما يرون فيه من كفاءة.

ولم يكن للمفتي العام في زمن ما بعد وصول البعث إلى السلطة ومن ثم التحولات التي طرأت على طبيعة نظام الحكم، من صلاحيات تذكر، ولا بوسعه اتخاذ قرارات منفصلة عن الدولة والحكومة، إنما كان للكرسي الذي يشغله تأثير كبير على بنية المجتمع وتوازنه. وقد سبق حسون على هذا المنصب الشيخ أحمد كفتارو أول من حاول زج السياسة في عمل المفتي حين تدخل في انتخابات البرلمان السوري في الخمسينات من القرن الماضي بسبب خلافات مع زملائه من المشايخ، قبل أن ينضم إلى حافظ الأسد في مسيرة طويلة ستوصله إلى كرسي الإفتاء العام، وكانت نظريته التي عرف بها تقول بالحرف “حتى لو خرجت الدولة حسب عقيدتك عن شيء من الإسلام فلا يجوز أن تقوم بثورة ضدها”.

قبل كفتارو كان يشغل كرسي المفتي العام أبواليسر عابدين الطبيب الذي مارس الطب ثلاثين سنة قبل أن يتجه نحو العلوم الشرعية، ويدرّس أصول الفقه في كلية الحقوق بجامعة دمشق. وقد دفع ثمن مواقفه من الحكم الاستبدادي حين رفض منح فتوى تبيح لجمال عبدالناصر تأميم الأملاك الخاصة، فيما أصر عبدالناصر على الحصول على تلك الفتوى وقال لمساعديه “أريدها من ابن عابدين”، فردّ المفتي العام بالقول “ليس لك إلا هذه الفتوى”. وقد أعطى بموقفه ذاك وسيرة حياته مرتبة شرف خاصة لكرسي المفتي العام، فهو الذي شارك في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين في شبابه، وقاتل وتبرع بأمواله لصالح البسطاء من السوريين.

هذا الظل العالي للمفتي بقي مقدّراً مبجلاً من عموم السوريين، مانحاً للعمامة العلمية مكانتها وهيبتها، حتى في الظروف التي استجدت لاحقاً حين أخذ النظام يستخدم موقع الإفتاء للسيطرة السياسية، إلى أن أوصله إلى الحالة التي ظهر عليها حسون طيلة سبعة عشر عاماً.

يحاول الأسد تقديم معادلة جديدة للظهور بوجه جديد، حين يهدم حضور الرمزية التي يمثلها المفتي العام، ظناً منه أن القصة مركزية في ما يتعلق بوعي المسلمين في سوريا، وأنه بضرب تلك المركزية وتفتيت الإفتاء، إنما يخلي الساحة لقيادة المجتمع من جديد بعيداً عن تشويش العمامة. إلا أنه يدخل سوريا في فراغ أشدّ خطورة حين يترك الغالبية نهباً للتيارات التي لم تنته بعد. وصحيح أن حسون لم يكن يختلف في نظر الكثير من السوريين عن أي موظف مدني أو عسكري داخل النظام، غير أن هؤلاء جميعاً كانوا يميزون بين منصبه وسلوكه ومواقفه، وسرعان ما أدركوا حين تم تكليفه بمهمته الأخيرة والإجهاز على كرسي الإفتاء العام، أنهم سائرون إلى فراغ.

إعادة هندسة الحياة الدينية في سوريا مشروع تشتغل أطراف عديدة عليه، ليس بالضرورة أن تتقاطع رؤاها رغم تحالفها العسكري؛ الروس والإيرانيون والأسد، ولكل طرف من هؤلاء تصورات تخدم مصالحه، فالروس الذين يعبرون عن قلقهم من سوريا سنية، كما صرّح أكثر من مسؤول رفيع خلال الأعوام الماضية، مثل رئيس الوزراء الروسي السابق ديمتري ميدفيديف الذي قال في حوار أجرته معه صحيفة “هاندلز بلات” الألمانية إنه “يجب الحؤول دون وصول المسلمين السنة إلى السلطة في سوريا؛ لأنهم سيبدأون بقتل العلويين”. وكذلك وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أثارت تصريحاته غضب الدول العربية ودفعت مجلس التعاون لدول الخليج العربي إلى الخروج ببيان على لسان أمينه العام آنذاك عبداللطيف الزياني ينتقد قول لافروف إن “دولاً في المنطقة تمارس ضغوطاً من أجل إقامة نظام حكم سُني في سوريا. ونحن لن نسمح بذلك”، قبل أن تهاجم أغلب القوى العربية والإقليمية تصريحات لافروف بشأن المخاوف من ضغوط في المنطقة لإقامة نظام سني في حال سقط النظام السوري برئاسة الأسد.

الإيرانيون بدورهم، لا يمكن لمشروعهم في سوريا المضي قدماً من دون إزاحة الخيمة الإسلامية السنية عن طريقه. أما الأسد فيفضّل المجلس الفقهي الذي أسس له وهو بمثابة قيادة قطرية دينية جديدة، تسمع وتطيع. ويرى الخبراء أن فتاوى ذلك المجلس لن تكون كما يريد السنة السوريون فهم مجرد أعضاء في مجلس يضم لفيفاً من الطوائف، وبذلك تكون مسألة الأكثرية قد انتفت تماماً وأزيحت من هواجس الأسد، ليتم استبدالها بما يسميه البعض “فقه الواقع” الذي سيجد الحلول حسب توافقية المجتمعين في دائرة المجلس الضيقة، ووفقاً لمصالحهم لا حسب تواجدهم وكثافتهم في المجتمع السوري.

كل ذلك يقود إلى تغيير جذري في الهوية السورية يجري على قدم وساق، عروبتها وإسلاميتها، يترافق مع تيه عام تعيشه نخب المعارضة ونخب النظام معاً، ليصل الجميع إلى افتراق نهائي يطبق على ما تبقى من معنى سوريا كدولة ومجتمع وكيان، كما أطبق على العراق، وسط غياب عربي إسلامي أكثر فداحة مما يدور خلف أسوار دمشق.

كاتب سوري

العرب

————————-

قتل المفتي رمزياً في دمشق وتماهي الأسد مع السلطة الدينية/ رهف الدغلي

لعبت المؤسسة الدينية منذ استلام حافظ الأسد للسلطة دوراً مهماً في توطيد السلطة وبقاء الاستبداد في سوريا. بينما هناك دراسات تقوم بفهم علاقة الدولة المستبدة بالمجتمع بأنها قائمة على استخدام العنف، الخوف أو الأمن لضمان بقائها، فإن التعبئة الإيدولوجية وبما فيها الدينية هي أيضا من ضمن المجالات التي تسعى الدولة المستبدة للسيطرة عليها.

يمكن فهم العلاقة التي سادت بين المشيخة السنية والتي تم تفعيلها وإبرازها من قبل نظام البعث مع النظام البعثي قبل ٢٠١١ على أنها علاقة ذات حدود تفاوضية كان فيها مجال للتقويض، العداء والاستقطاب.

كانت الإستراتيجية الرئيسية للنظام على مدى العقود التي تلت استلامه هي تسهيل نسخة متجانسة وغير طائفية للإسلام في المدارس ووسائل الإعلام، وبالتالي إدارة علاقة الدولة مع الأغلبية السنية والمساعدة في الحفاظ على الدعم من قبل التيار السائد لبعض علماء السنة.

وقام نظام البعث في تحديد علماء سنة معينين كانوا مهتمين في المقام الأول بالتعليم الديني والأخلاق العامة بدلاً من السعي وراء السلطة السياسية. قدم النظام لهؤلاء القادة معونة لوجستية ومالية، وحافظ على علاقات إيجابية بشكل خاص مع قادة المجتمعات الصوفية، التي كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها “هادئة وغير سياسية”. فضل النظام الشيوخ المنتمين إلى الصوفية لكون الصوفية مرتكزة على الخضوع الشخصي لتوجيهات هؤلاء الشيوخ كجزء مهم من سعي الفرد إلى الله، مما يؤدي إلى رسم هيكل عمودي في علاقة الشيخ الصوفي مع الفرد.

وهكذا، من خلال الحفاظ على علاقات ودية مع غالبية قادة الصوفية السنة، كان البعثيون قادرين على إضعاف المعارضة الدينية الشعبية بين أتباعهم، وكذلك بين السنة بشكل عام.

وكان هذا واضحا في دعم حافظ الأسد للشيخ الصوفي أحمد كفتارو ورفعه إلى أعلى منصب ديني في البلاد، وهو منصب المفتي. كان كفتارو يتمتع بشعبية كبيرة ولديه دعم قوي بين الطبقة الوسطى في دمشق. بصفته مفتيًا، تعاون بشكل كامل مع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المخابرات. مكّن هذا النوع من التعاون والمحسوبية قادة الصوفية من نشر تعاليمهم مقابل دعمهم غير المشروط للبعثيين. وبينما استفاد النظام بلا شك من هذا التحالف، فإن غالبية قادة الصوفية كانوا أيضا نشيطين وفخورين بعلاقتهم الخاصة بالدولة. وقاموا باستخدام سردية “أخلاقية” واعتذارية بالوقت نفسه للجمهور العام تتلخص في أن دعمهم للرئيس كان له هدف إلهي، وهو ضمان بقاء ممارسات النظام “إسلامية”.

بعد وفاة حافظ الأسد في عام 2000، واجه نجله بشار وضعًا إقليميًا مزعزعًا بشكل سريع. إذ أدى غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003 واغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق (ومعارض الأسد) رفيق الحريري عام 2005 إلى توتر كبير في مكانة سوريا الدولية وهيمنة النظام المحلية. وبدأ بشار على نحو متزايد في الذهاب إلى أبعد من والده في الاعتماد على الخطاب الديني باعتباره أحد أعمدة مطالبة النظام بالشرعية، وتكثيف العلاقة تدريجياً بين الدولة والمشيخة السنية.

وأوضح توماس بيريت التحول نحو التقوى في خطاب الأسد بعد عام 2005، مشيرًا إلى أنه خلال هذا الوقت بدأت الدولة البعثية في السماح بالرموز الدينية العلنية في المسيرات الشعبية ومنحت سلطة موسعة للزعماء الدينيين السنة. بينما استخدم حافظ الأسد “الإسلام” أحيانًا بشكل متقطع كأداة لمشروعه القومي، تميزت السنوات العشر الأولى من حكم بشار بجهود لتوسيع هذه التحالفات وتعزيزها. وسعى بشار بشكل خاص إلى جلب ائتلاف أكبر من النخب السنية المحلية، التي كان لبعضها في السابق علاقات متناقضة أو حتى متضاربة مع النظام.

على الرغم من التوسع المستمر في التحالفات بين الدولة والمشيخة السنية، حافظ الشيوخ السنة في سوريا على درجة كبيرة من الحكم الذاتي في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة 2011.

وبعد انطلاق الثورة تحولت جهود بشار لاستمالة القادة السنة إلى موقف أقوى بكثير، وعمل على تطييف “الأزمة” من خلال تكريس سردية أن ما يحصل في سوريا هو ليس ذا مطلب سياسي بل هو عداء للدين. ومن هنا بدأ الأسد في مرحلة إنشاء وتعزيز جبهة قومية دينية مجهولة الهوية (أي من دون رمز ديني واضح). في هذه الصيغة الجديدة، لم تقم الدولة فقط بدعم أو تشجيع وجهات نظر دينية معينة بطريقة زبائنية، بل قامت بدلاً من ذلك بفرض تفسير “معين” للدين باعتباره أمرًا أساسيًا و لم تعد ديناميكية ما بعد عام 2011 قائمة على سيناريوهات التكيف أو الاستقطاب الذي يمكن أن يُفهم فيه العديد من القادة الدينيين على أنهم مع الأسد أو ضده.

وبدلاً من ذلك، قدمت مفردات جديدة تصف المعارضين بأنهم “منافقون” و”أصوليون”. لقد لاحظ علماء آخرون، مثل Pierret و Line Khatib، وكذلك في أعمالي السابقة، الانعطاف نحو نظرة دينية ترعاها الدولة في سوريا بعد عام 2011. لم يكن مجرد استمرار لاستراتيجيات الاستقطاب السابقة ولكنه تحرك نحو السيطرة الكاملة وتأميم السلطة الدينية، مما أدى إلى طمس الحدود الوظيفية بين الدين والدولة.

خطابات الأسد و فرض فردانيته على القطاع الديني

أكدت خطابات الأسد قبل عام 2011 بانتظام على الطبيعة غير الدينية للدولة البعثية، حتى عندما سعى للحصول على الدعم المتبادل والتحالفات مع القادة الدينيين. ظهر هذا التوجه بشكل خاص في خطابات الأسد للجماهير الغربية. في الواقع، لم يكن مختلفًا بشكل كبير عن المواقف العلمانية المختلفة جنبًا إلى جنب مع الإيماءات نحو الأشكال السائدة للدين التي كثيرًا ما نراها بين قادة الديمقراطيات الغربية.

وفي مقابلة مع الجريدة الأميركية تشارلي روز، أواخر مايو 2010، ذكر الأسد أن إبقاء المجتمع السوري علمانيًا كان أحد أكبر تحدياته وطموحاته. بعد اندلاع الانتفاضة في عام 2011، كانت هناك تغييرات ملحوظة في خطاب الأسد عن الدين. بدأ يطمس بقوة التمييز بين الدولة والدين والتخلي عن خطاب العلمانية لصالح “إسلام معتدل” ترعاه الدولة. كان هذا هو الحال حتى في الخطب والمقابلات التي استهدفت الجماهير الغربية، حيث كان التعريف الجديد للمواطنة مقترناً مع الإسلام المعتدل بمثابة محاولة لربط استمرار بقاء النظام بخطاب إزالة التطرف الذي ساد في “الحرب على الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة.

كما سعى بشار الأسد إلى إبراز وتعريف نفسه كمدافع عن ما سمّاه “الدين الصحيح” أو “الحقيقي”، إضافة إلى المدافع عن الدولة وأمنها. وعلى الصعيد الخطابي، يعتبر هذا الخروج عن العلمانية التي كان يتبجح بها بشار الأسد في معظم مقابلاته مع جهات خارجية تحولا صارخا لآلية ديناميكيات العلاقة بين المجال الديني والسياسي في سوريا.

ومن هنا ركزت خطابات الأسد الموجهة إلى القادة السنة داخل سوريا بين عام 2014 -2021، إلى ضرورة دمج فكر الأسد وفهمه للدين بشكل متزايد في الخطب الدينية لهؤلاء الشيوخ مثل الحسون وابنه. ولطالما كان الخطاب التصادمي والإقصائي المتمثل في “أن تكون معي أو ضدي” عنصرًا أساسيًا في الخطاب البعثي، لكن هذه الثنائية في خطابات الأسد بعد عام 2011 للعلماء بدأت في دمج التمييز بين المواطن المخلص الذي يحمل المعتقدات الدينية “الصحيحة” و”الكافر” الذي ينشر أفكارا كاذبة عن الدين. بعبارة أخرى، سعى الأسد إلى إضفاء الطابع الأمني على الدين من خلال ربط الفهم البعثي للدين بشكل مباشر بالهوية الوطنية وتصوير الخلاف الديني على أنه تهديد للأمة. لم يكن الهدف من هذا الخطاب مجرد تشكيل تحالفات تكيفية أو الحصول على الخضوع السياسي من العلماء، ولكن بدلاً من ذلك لفرض تعريف إيديولوجي علني مع تفسيرات النظام المفضلة للقرآن.

بينما في العقود التي سبقت اندلاع الثورة في عام 2011، كانت العلاقة بين النظام البعثي ودين الأغلبية في سوريا؛ الإسلام السني، تتأرجح بين العداء والاندماج. وأدت الحرب إلى قيام الأسد بالترويج لفكرة “إسلام معتدل” بديل يرتبط بقوة بالاستقرار الوطني.

اعتمدت خطابات الأسد بعد عام 2011 على تكريس ربط حماية أمن الدولة بالعقيدة الدينية عندما وصف الأسد الجيش بأنه “جيش عقائدي” دوره الأساسي ليس فقط حماية الدولة بل أيضا الحفاظ على الإسلام والأمة.

قُدّم هذا التقديس للجيش كمبرر لاستخدام العنف ضد المتظاهرين، وبمعنى أوسع، عزز مرة أخرى عدم الفصل بين البعثية كإيدولوجية والفهم “الصحيح” للإسلام. من هذا المنظور، كما أعلن الأسد في خطابه، “حماية الأمة واجب إسلامي”، وهو ما اقترح أنه يجب إقراره ونشره من قبل جميع الشيوخ السنة.

في خطاب 2014 الموجه لوزارة الأوقاف، رسم الأسد أيضًا روابط بين الفهم الإسلامي للأسرة والمتطلب الديني المفترض للولاء للدولة. واعتمادًا على النموذج الأبوي للأمة المفضلة من قبل الأنظمة الاستبدادية حول العالم، أوضح الأسد: “في الإسلام، الأمور واضحة جدًا حيث توجد العديد من الآيات والأحاديث القرآنية التي تصر على مفهوم الأسرة والعلاقة بين الأبناء وأولياء أمورهم وضرورة طاعتهم. والطاعة واجبة.. لماذا؟ لأن الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع، وإذا تم تدميرها فسيهلك كل شيء آخر (..) وبالمثل، عندما يتعلق الأمر بالدولة، ربما إذا كان مفهوم الدولة موجودًا في بدايات الإسلام، فستجد الكثير من الآيات والأحاديث القرآنية التي تصر على طاعة الدولة. الدولة بالنسبة لنا مثل الأب والأم. إذا سقطت، يسقط المجتمع بمفهومه الحديث”.

مع العلم أن طاعة الأب هي أمر منتشر في الثقافة الإسلامية، شجع الأسد هذا الخلط الممتد إلى حد ما بين الأسرة في الإسلام التقليدي والدولة الحديثة كطريقة للإيحاء بوجود مطلب ديني للولاء والخضوع للنظام. ودعا العلماء السنة لنشر هذا التعليم كمكوّن أساسي للفهم “الصحيح” للإسلام.

ولتعزيز تفسير الدولة للإسلام، اقترح الأسد بعد ذلك على العلماء توسيع وإصلاح المؤسسات الدينية السنية. على النقيض من الشراكات السابقة التي تضمنت تقديم الدعم لرموز سنية معينة في المجتمع الديني.

وهذه المبادرة ستحدد التعاليم المقبولة بشكل أكثر صرامة وسترسم حدودًا حادة بين من يعرفهم النظام “شيوخاً مخلصين” وغير الموالين، مع وصف هؤلاء بأنهم منافقون وأعداء. يدعو خطاب الأسد إلى إضفاء الطابع المؤسسي على القطاع الديني باستخدام الشورى لضمان الترويج للإسلام “الشامي” في جميع أنحاء البلاد. في السياق الإسلامي الأوسع، يهدف هذا الشكل من الاستشارة إلى الحد من الاصطلاحات والاختلافات في التعاليم الدينية.

ومع ذلك، في سياق هذا الخطاب، يبدو أن القصد منه هو استغلال الدين لخدمة مطالب الدولة وأهدافها: “علينا تطوير هذا الاجتهاد لتحديد الحدود بين ما هو صواب وما هو خطأ وما هو مهم جدًا هو أن هذا التعيين للحدود بين يديك. وهذا عمل والتزام وطني يعني أنك تحمي بلدك”.

كان هدف الأسد في هذا الخطاب هو تجنيد العلماء “المعتدلين” كعملاء لأمن الدولة، ودعوتهم إلى الترويج للتفسيرات الدينية التي يفضلها النظام، والتنديد بالتعاليم غير المرغوبة سياسيًا، والدفاع عن الدولة البعثية في التعاليم الدينية العامة.

خلال خطابه في 2017، روج بشار الأسد لرؤية قوية لمجتمع ديني متماسك وداعم، والذي ارتبط مرة أخرى بالولاء للنظام وتميز بشكل حاد عمن سماهم “أعداء الدولة والإسلام”. كانت كلمته التي اختارها لأي شخص غير موالٍ بأنه “إرهابي”، وهو مفهوم يمكن توسيعه إلى أجل غير مسمى تقريبًا ليشمل أي فرد لا يدعم الحكم البعثي: “نحن نواجه عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين. أنا لا أتحدث عن الإرهابيين الذين يأتون من الخارج. عندما نتحدث عن عشرات الآلاف من الإرهابيين، فهناك فرد من العائلة، أو قريب، أو جار، أو صديق، أو أشخاص آخرون تعرفهم. أعني، نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، حتى لو كان لدينا الملايين، نقول الملايين (..) يتحمل كل فرد في هذا المجتمع المسؤولية حسب موقعه (..) ولكن بما أن الساحة المختارة [لأعدائنا] دينية وطائفية، فإن القطاع الديني – ممثلاً برجال الدين والدولة ممثلة بالوزارة الدينية (أي وزارة الأوقاف) – يجب أن يتحمل مسؤولية خاصة عن الأزمة”.

كان هذا التصور لأي شكل من أشكال المعارضة على أنه إرهاب جزءًا من تطبيع استخدام العنف ضد المتظاهرين، لكنه أكد أيضًا على مطلب النقاء الإيديولوجي والتزام الشيوخ السنة بدعم النظام خشية أن يتم وسمهم بالإرهاب في حال رفضهم تقديم الولاء.

ذهب الأسد إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى وجود تداخل كامل بين الفهم الديني “الصحيح” والوطنيين الحقيقيين: “لا يوجد تعايش لأن هذا يعني أننا مختلفون. يجب أن يكون هناك تجانس وهذه هي الوطنية”.

من خلال دمج رؤيته للمجتمع الوطني مع تعريفه للدين “الصحيح”، سعى الأسد إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد مع شيوخ السنة. وهنا عرض احتمال توسيع ونشر نفوذهم، بما في ذلك الوصول إلى أموال الدولة لهذا الغرض.

في المقابل، طالب بالولاء المطلق والتعريف الواضح للدين بالدولة. عند وصف المجتمع القومي الديني الناتج، واستخدم الأسد مصطلحات دينية صريحة، معلناً أن الإجراءات المتخذة ضد الدولة يجب اعتبارها كفرًا وأن المتظاهرين الذين قاوموا الدولة ينتهكون الأوامر الدينية فقال: “المطلوب منك ليس فقط محاربة التطرف ولكن تعزيز المصطلحات الصحيحة (..) يتمثل دور العلماء في الشرح والتوضيح للناس من وجهة نظر شرعية أن الوقوف ضد الدولة ليس عملاً سياسيًا ولكنه عمل ديني (..) يجب على العلماء الاعتماد على الأحاديث والآيات القرآنية ليوضحوا للمحتجين على الدولة أن هذا عمل مخالف للشريعة”.

وهكذا كان خطاب الأسد بمثابة تهديد مباشر ضد أي شيخ أو مؤسسة دينية قد تفشل في الترويج بشكل كافٍ للشكل “الصحيح” للإسلام. وناشد الأسد العلماء “عدم استخدام برنامجهم الديني لتحقيق مكاسب شخصية “، والتي تعني في تصوره أي شيء قد يقوض سلطة الدولة أو يساعد المنشقين. وأكد أن المساجد ليست مملوكة لشخص معين. وحذر من أنه سيحمل العلماء السنة مسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار، مشيرا إلى أن أي خيانة إيديولوجية سيتم التعامل معها بأقسى الطرق. ومن هنا بدأت مرحلة خلق منظومة دينية متجانسة فاقدة لأي قيادة من قبل رمز سني معين.

مع استمرار الصراع في سوريا على مدى السنوات اللاحقة، كان النظام قادرًا على تحقيق وضع عسكري مستقر نسبيًا، مع القليل من التهديد المادي المباشر لسلطته. لكن خلال هذا الوقت، استمر الاعتماد على الدين في التوسع كجانب من جوانب نضال النظام من أجل الشرعية والاستقرار الاجتماعي. وكان الجديد في خطاب الأسد عام 2017 هو أنه تجاوز المناشدات والتهديدات الخطابية، مضيفًا إشارات إلى مجموعة متنوعة من المبادرات العملية التي كان النظام يطبقها لتحقيق أهدافه الأمنية تجاه الدين.

والأهم من ذلك، أعلن الأسد في هذا الخطاب عن إنشاء جماعة دينية شبابية جديدة بقيادة الدولة (الفريق الديني الشبابي). كان الهدف العلني لهذه المنظمة الوطنية هو تحديث التعليم الديني الدعوي بطريقة قللت من قوة المؤسسات السنية القائمة.

وأوضح الأسد أن إنشاء المجموعة سيساعد في تعزيز الروح الوطنية الدينية ودمج العلماء الأصغر سناً في جهاز الدولة. سيتم تكليف أعضاء جماعة الفريق الديني الشبابي قانونيًا بنشر الإسلام “الشامي” وإجراء تحقيقات أمنية تتعلق بالانشقاق الإيديولوجي.

في الواقع، أدى إنشاء هذا الجسم الوظيفي إلى جعل الخطاب المتعلق بالدين خطابا أمنيا من خلال ربط العقيدة الدينية مباشرة بجهاز إنفاذ أمن الدولة. من الجدير بالذكر أنه خلال حقبة ما قبل عام 2011، منعت الدولة البعثية إنشاء هيئة تمثيلية لعلماء الدين، وبدلاً من ذلك فضلت الترويج لقادة مختارين مثل كفتارو والبوطي.

هذا التحول في الاستغناء عن رمزية سنية قوية وإنشاء مجموعة مجهولة الهوية ومتجانسة من العلماء الشباب الذين حُشدوا لتأييد خطاب الأسد الرسمي يندرج تحت عدم اكتفاء النظام بتأليه صورة الأسد كممثل عن الدولة بل أيضا ممثل عن المجال الديني.

هذه الحاجة الأمنية لامتداد فردانية الأسد واستحواذه على القطاع الديني بدأت مع صعود نبرة إسلامية بين المعارضة. كان قد أوجع النظام أن شيوخاً معروفين ولهم شعبية في المجتمع السوري (مثل أسامة الرفاعي ومحمد راتب النابلسي) انقلبوا ضد النظام، وهنا أعلن الأسد عن حاجة الدولة إلى وجوه دينية جديدة تنقلب على الرموز السابقة. واعترف الأسد في هذا الخطاب بأن النظام لم يعد بإمكانه الوثوق بالمؤسسات السنية المستقلة نسبيًا التي كان يعتمد عليها سابقًا بطريقة زبائنية.

بدلاً من ذلك، ستحتاج الدولة إلى المشاركة بشكل مباشر أكثر من أجل إصدار تفسيرات موالية للإسلام “الشامي”.

تحديث وتأميم الإسلام السني

ربط خطاب عام 2017 إنشاء مجموعة الشباب الدينية ببلاغة “تحديث” المؤسسات السنية. وتمت مساواة هذا التحديث بتفكيك استقلالية وسلطة الأعضاء الأكثر تميزًا في التسلسل الهرمي الديني في سوريا وتوحيد وجه القيادة الدينية من خلال تعزيز كادر من العلماء الأصغر سنًا وغير المعروفين. لن تنبع قوة هؤلاء العلماء الدينيين الجدد من شعبيتهم الداخلية في الوسط السوري ولكن من الاعتراف بهم من قبل مؤسسات الدولة.

بالطبع، سيسمح هذا أيضًا للأسد بالضغط على العلماء الشباب للمشاركة في دعاية الدولة وإعطاء التأييد الديني لقرارات الحكومة. ووفرت وسيلة عملية لتطبيق الهوية القومية والدينية التي تصورها الأسد، والتي يكون فيها الاندماج مع النظام مرادفًا لكونك مؤمنًا حقيقيًا بالإسلام.

في هذا الخطاب، ألمح الأسد بإيجاز إلى الدور الذي لعبته الأجيال السابقة من العلماء في تعزيز المشاعر الوطنية في سوريا، لكنه أعلن أن هناك حاجة إلى ترتيب جديد للمؤسسات الدينية لمواصلة هذا المسار في مواجهة الأزمة المستمرة. عند مناقشة دور الزعماء الدينيين، قام مرارًا وتكرارًا بتبادل مصطلح “الوطنيون” مع “العلماء” ، مشيرًا بشكل بلاغي إلى أن جميع العلماء المخلصين وطنيون – وأن المعارضين لا يمكن أن يكونوا قادة دينيين شرعيين.

ولمزيد من التأكيد على الانفصال عن المؤسسات القديمة، قدم الأسد أيضًا مجموعة متنوعة من الإصلاحات التي ستنفذ في مجموعة الشباب الدينية، مثل إشراك النساء في فئة العلماء. ووصف النساء بأنهن وطنيات أكثر موثوقية، وأقل دافعًا للفردانية، ووصف النزعة التقليدية لإبعاد النساء إلى مرتبة ثانوية في القيادة الدينية كمبرر إضافي لمؤسسة دينية جديدة وحديثة. في جماعة الشباب الدينية، أعلن الأسد، أنه لن يتم فصل العلماء الذكور والإناث بعد الآن.

يبدو أن خطاب التحديث هذا صُمِمَ لتجنيد أي جمهور سني متاح قد يكون محبطًا من المؤسسات الدينية التقليدية. بالإضافة إلى الدعم الاسمي لمساواة المرأة. سلط الأسد الضوء أيضًا على الحاجة إلى استخدام تقنيات جديدة موجهة للشباب مثل وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائل الإسلام المعتدل والوحدة الوطنية. وأعلن أن “المستقبل يخص الشباب”. على الرغم من طابعها الديني، يبدو أن نموذج جماعة الفريق الديني الشبابي شبيهة بمنظومات بعثية وإيدولوجية مثل طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة. تؤكد هذه المنظومات البعثية على المثل العليا للوطنية ونكران الذات والتفاني العسكري للنظام. يمكن فهم اهتمام النظام في السيطرة على القطاع الديني من خلال جماعة الفريق الديني الشبابي على أنها ببساطة توسيع استثمار الدولة في تشكيل الشباب السوري إيديولوجيًا بحيث يمتد إلى عالم عقيدتهم الدينية كوجه جديد للتسخير الاجتماعي والسيطرة.

وهنا أعود إلى ما ركز عليه الأسد في خطابه عام 2017 على أن المؤسسات الدينية يجب أن تلعب دورًا مهمًا في التقليل من النزعة الفردية والأنانية من أجل تعزيز رؤية اجتماعية / وطنية أوسع. ودعا العلماء إلى التأكيد على الأسس الأيديولوجية المشتركة التي يشترك فيها جميع المسلمين في معارضة الفتاوى المستقلة المتضاربة غير المحددة والتي من وجهة نظره تروج للفتن الاجتماعية وتخنق المجتمعات الإسلامية. ووصف الأسد نظرته بـ “فقه الأزمة” ودعا جماعة الفريق الديني الشبابي إلى تنفيذها.

 في الواقع، نُشرت أجزاء من خطابات الأسد فيما يتعلق بالدين والوطنية منذ ذلك الحين على نطاق واسع من قبل هذه المجموعة، بما في ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي (غالبًا مع خلفية موسيقية عصرية).

وعند مناقشة “فقه الأزمة”، أوضح الأسد مرة أخرى مدى استثمار الدولة في فرض وتأميم تعريف محدد للإسلام. وطلب من “العلماء إعادة صياغة مفهوم استخدام مصطلحات معينة وكيفية تعريفها”. كما طلب الأسد مساعدة العلماء في إيجاد طريقة منهجية ومتطورة (منهج) لتوجيه رسالة الإسلام “الشامي” نحو الجمهور.

ألقت وجهات النظر المؤسسة في هذا الخطاب ضوءًا مهمًا على أنشطة النظام اللاحقة. وأوضح الأسد أن الغرض من اهتمام النظام بالإيمان هو “تحييد” المشهد الديني في سوريا وتعبئة الإسلام لمساعدة الحزب على البقاء. لقد فسرت في مقال سابق تحول النظام إلى الدين على أنه اعتراف للمتطرفين وخيانة للعلمانية،  ولكن هذا كان على الأقل تبسيطًا غير دقيق جزئيًا. وكان الدافع الفعلي الكامن وراء تحول النظام إلى الدين هو إضفاء الطابع الأمني على الإسلام ودمجه في خطاب الهوية الوطنية بطريقة ترسم خطوطًا صارمة بين العقيدة “الشرعية” والمعتدلة والتطلعية التي تقرها الدولة ووجهات النظر الدينية المعارضة الخطيرة، كما يطلق عليها النظام.

وعلى سبيل المثال؛ أصدر الأسد المرسوم رقم 16 لعام 2018، الذي منح نفوذًا وسلطات سياسية أوسع لوزارة الأوقاف، التي تشرف بالفعل على المدارس والمؤسسات الدينية. كما يحظر المرسوم على الأئمة والمؤذنين وغيرهم من المعلمين الدينيين “إثارة الفتنة الطائفية” ، و”استغلال البرامج الدينية لأغراض سياسية”، والانتماء إلى أحزاب سياسية محظورة أو غير مرخصة، والمشاركة في مؤتمرات دينية غير معتمدة، أو حتى مغادرة الأراضي السورية من دون موافقة الدولة. ومن بين المهام الجديدة التي أسندها المرسوم إلى الوزارة “التنسيق مع وزارتي الإعلام والثقافة للإشراف على برامج العمل الديني في جميع وسائل الإعلام، فضلاً عن المطبوعات الدينية”.

وفُسر هذا المرسوم على أنه إعطاء قوة للمشيخة السنية، ولكن بالأحرى يكرس هذا المرسوم رغبة النظام بإضفاء الطابع الأمني على وجهة نظر معينة للإسلام والمرتبطة بمصالح النظام.

إلغاء رمزية “المفتي”

ضمن مشهد المذهب السني السوري في المناطق التي يسيطر عليها النظام، كان يُنظر إلى العلماء البارزين مثل أحمد كفتارو ، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد راتب النابلسي على أنهم تجسيد للسلطة الدينية، بينما سعى الأسد بعد 2011 إلى تحويل هذه السلطة إلى شخصه. في وجهة نظري، يندرج تعديل المادة من المرسوم التشريعي القاضي بتعزيز دور المجلس الفقهي ومعه إلغاء دور المفتي إلى رغبة الأسد في تقويض المجال الديني وخلق هوية متجانسة معدومة الرمزية وفاقدة للحدود التفاوضية مع الدولة وبالتالي ترسيخ قدرة الدولة لأمننة القطاع الديني وفرض مفهومها الخاص عن “الدين والوطنية” في سوريا. التخلص من رمزية المفتي ممكن أن توجهنا إلى سؤال من هو قاتل محمد عدنان الأفيوني ومن هو قاتل محمد رمضان البوطي؟ ولماذا اليوم يقتل “المفتي” من خلال تعديل هذه المادة؟ مما أوردته سابقاً، لا بد من الإشارة إلى أن إلغاء منصب المفتي هو جزء من استراتيجيات طويلة وعميقة نفذها النظام خلال العقد السابق ومن أهمها إلغاء أي مرجعية فردية أو رمزية سنية قد تقود المجتمع السني السوري يوماً ما.

تلفزيون سوريا

———————————-

إقالة المفتي: الأسد يخاطب الخليج وتركيا ومصر/ وليد بركسية

إقالة المفتي: الأسد يخاطب الخليج وتركيا ومصر لم يكن حسون رقماً صعباً.. وإلغاء المنصب ليس ترجمة لصراع المفتي مع وزير الأوقاف

لا يعكس إلغاء منصب مفتي الجمهورية في سوريا، بأي شكل من الأشكال، خلافاً طال أمده بين وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد والمفتي السابق أحمد بدر الدين حسون، بل هو رسالة يوجهها رئيس النظام بشار الأسد متعددة الاتجاهات، تبدأ من الغرب وايران وروسيا، ولا تنتهي عند المرجعيات الدينية السنية الثلاثة في المنطقة، مهم الدول الخليجية ومصر وتركيا.

في الشكل، وحّد الأسد المرجعية الدينية في البلاد، ونزع صفة الإسلاموية عن الدولة، المتمثلة بشخصية المفتي نفسها. يحاكي بذلك دولاً عربية، وخصوصاً في المغرب العربي، لا وجود فيها لموقع المفتي، حيث تتولى وزارات الاوقاف تلك المهام. لكنه في المضمون، أعفى نفسه من إحراج مستقبلي عندما تنتفض المذاهب والطوائف مطالبة بحقوقها الدينية في نظام تشاركي يجري اعداده، ليصبح على شاكلة لبنان حيث تتشظى المرجعيات الدينية في مؤسسات خاصة بها، أثمرت خلال السنوات الماضية، عيدين للفطر وعيدين للأضحى…

ثم، عمد الأسد الى مأسسة المؤسسة الدينية. جمع أطيافها ضمن مؤسسة واحدة، تنطق بأسماء المذاهب الدينية في سوريا، وتتشاربك وتتصارع في داخل المجلس، ولا يصل منها الى السلطة التنفيذذية الا ما تم الاتفاق عليه في الداخل، ويتولى الوزير ايصاله، كونه، إدارياً، لن يكون أكثر من ضابط ايقاع، وبريد اداري بين المجلس والسلطة.

أبرز في ما في القرار، يطاول الطائفة السنية، وهي الاكثر عدداً، أما مشايخها فهم الاكثر تعدداً للولاءات الدينية للمرجعيات السنية في المنطقة. لن يكون الأسد بعد اليوم محرجاً في تعيين شيخ واحد كمُفتٍ للبلاد. سيجمع المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف، أوسع مروحة من رجال الدين السنّة، يُرضي بوجودهم المرجعية الإسلامية في تركيا، والمرجعية الإسلامية النقيضة في السعودية، والمرجعية الإسلامية في الأزهر… وهو بذلك، لن يكرر التشظي خارج المؤسسة الدينية المرعية من قبل الدولة، كما كان الحال في حالة الشيخ البوطي في زمن وجود المفتي كفتارو، أو تعدد الولاءات الدينية الاخرى التي شهدتها الساحة السورية خلال الحرب، حيث بات المفتي حسون ممثلاً لشريحة قليلة لا تتخطى تجار وأعيان المدن السورية، وبعض العشائر الموالية للنظام.

تتعدد النقاشات في مواقع التواصل، وتتضارب التحليلات حول خلفيات القرار. تسرع البعض في ربط القرار بكُلّيته، بخلاف بين شخصين داخل النظام انتصر أحدهما على الآخر بسبب نفوذه مستغلاً ثغرات وزلات الآخر الذي لم يكن تشبيحه المستمر كافياً لإنقاذه. لكن تطورات الأحداث منذ توبيخ وزارة الأوقاف للمفتي حسون، تعطي انطباعاً مختلفاً تماماً، خصوصاً أن المرسوم التشريعي رقم 31 الذي أصدره الأسد العام 2018 أعطى وزارة الأوقاف صلاحيات غير مسبوقة من بينها تعيين المفتي لثلاث سنوات فقط بمقترح من وزير الأوقاف شخصياً.

وبالتالي لم يكن النظام مضطراً لإجراء كل هذه الضجة العلنية التي لا يحبذها في عصر السوشال ميديا تحديداً، ولاكتفى بإصدار قرار يحيل حسون إلى التقاعد مع تعيين مفتٍ جديد في البلاد يكون مقرباً من الوزير السيد ويعمل تحت جناحه، لا أكثر.

على أن إلغاء منصب المفتي في البلاد يرتبط بنقاط أخرى على صلة بالتجاذبات الطائفية في البلاد من جهة وبتغير المشهد السياسي في الشرق الأوسط من جهة ثانية، ويلعب النظام كما هو المعتاد على وتر العلمانية والإسلاموية ببراعة لا تغير من واقع الأمر شيئاً بالنسبة للسوريين، مستهدفاً إضعاف كل الجهات النافذة في البلاد عبر وضعها في خانات تتصارع مع بعضها البعض ضمن المحددات الكبرى نفسها. وفي هذه الحالة يتلخص الموقف هكذا: سوريون من الطائفة السنية ضد سوريين من الطائفة السنية أيضاً، علماً أن النظام يعتمد المبدأ نفسه لخلق تناقضات بين شرائح السوريين المختلفة: مسلمون ضد المسيحيين، علمانيون ضد المتدينين، محافظون ضد المثليين، وهكذا.

ومع هذا الاعتماد الصريح، والتاريخي، لمبدأ فرِّق تسُد، فإن النظام يحرص على نسف أي قوة في البلاد قادرة على منازعته في شرعيته، في المدى الطويل، بل يجب أن تكون الأطراف كافة تحت إدارته. ويصبح الأمر أكثر حساسية هنا عندما يتعلق الأمر بمفاصل الطائفة السنية التي ترتبط مع النظام العلوي الأقلوي بعلاقات منفعة متبادلة.

ومثلما يعطي الأسد، فإن الأسد يأخذ، أي أن النظام يعمد إلى منح العطايا وحجبها عن مواليه حسبما تقتضي الضرورة، تطبيقاً للمبدأ السابق. ففي العام الماضي كان النظام السوري يروج لفكرة أن البلاد دولة هي التي تعرف “الإسلام الصحيح”، متخلياً عن علمانيته المزعومة، وظهر الأسد شخصياً وهو يلقي الخطابات من المساجد في دمشق، ويلتقي رجال الدين السنة وتيار القبيسيات النسائي. وكان من الواضح أن النظام يحاول إرضاء الطائفة السنية في البلاد واستمالتهم إلى جانبه أكثر من أي وقت مضى، هو الذي أعطاهم منذ الثورة السورية امتيازات عديدة، أثارت غضب الطوائف الأخرى في البلاد، ومن بينهم المسيحيون الذين انقلب بعضهم على النظام بشكل علني، مثل الإعلامية والمبشرة ماغي خزام على سبيل المثال لا الحصر.

وبعد أشهر من انطلاقة الثورة السورية، استقبل الأسد وفداً من “كبار العلماء”، ومنهم رجل الدين الراحل محمد سعيد رمضان البوطي، وتم حينها عقد صفقة بين الطرفين، يدعم بموجبها رجال الدين النظام بدلاً من الانحياز للثورة، في مقابل الحصول على امتيازات ومطالب، منها إغلاق كازينو دمشق الذي افتتح قبل الثورة بأشهر قليلة، بحجة أنه “نادٍ للقمار”، ثم افتتاح قناة فضائية دينية رسمية تحت اسم “نور الشام”. وبات لوزارة الأوقاف نفوذ واسع، حيث تم تعيين عدد من خريجي كلية الشريعة، خلال العام 2018، ضمن كادر وزارة الإعلام للقيام بأغراض رقابية، للمرة الأولى في تاريخ سوريا. كما باتت الوزارة تمتلك سلطات ونفوذاً على وزارتي التربية والتعليم العالي أيضاً!

وفيما يرضي التخلي عن منصب المفتي، الأقليات العلوية والمسيحية وحتى الشيعية والدرزية، المستاءة من النفوذ السني إلى حد اتهام “القيادة الحكيمة” برعاية “دواعش الداخل”، يجب القول أن منصب مفتي سوريا موجود منذ انهيار السلطنة العثمانية، وكان أول مُفتٍ في البلاد هو محمد عطا الكسم العام 1918، وتم استخدام المنصب من قبل نظام الأسد لتعويم فكرة الإسلام الشامي على أنه الإسلام الصحيح في وجه دول الخليج التي تتحدث عادة باسم المسلمين السنة. وكان الإبقاء على منصب الإفتاء ضرورياً من أجل فصل سوريا الأسد عن ذلك المحيط وفصل السوريين عن التأثير الديني الآتي من الدول الناطقة باسم الإسلام، حتى لو كانت الفتاوى السورية متوازية مع نظيرتها الخليجية أو متباينة عنها، بحسب السياسات المرحلية. وهو ما يبدو أن الأسد “يعدّله” الآن.

وبالطبع يمكن القول أن المفتي حسون لم يستطع حشد السنة من حوله كشخصية دينية مرموقة ما سهَّل إطاحته، لكن ذلك يبقى قاصراً. فحجب منصب المفتي هو قرار بقصد مأسسة المرجعية الدينية ضمن نظام يفترض أنه علماني، على غرار دول أخرى في المنطقة مثل المغرب على سبيل المثال، حيث لا منصب مفتٍ، ويجمع المجلس العلمي الأعلى في المغرب المفتين.

وعليه، تم ضم مهام المفتي إلى المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف السورية التي باتت تجمعاً لرجال الدين، ويعتمد على مرجعية فكر “علماء بلاد الشام” بدلاً من الدول الأخرى، ويضم شيوخاً من كافة المذاهب الإسلامية وممثلين من الطوائف المسيحية يسميهم البطاركة ويدعو إلى نبذ التعصب والطائفية. وتشكّل المجلس العلمي الفقهي بموجب المادة الخامسة من القانون 31 للعام 2018 ويرأسه وزير الأوقاف شخصياً. وتصبح أي فتوى صادرة عن المجلس لا تمثل الدولة السورية نفسها بقدر ما تمثل مذهباً او طائفة معينة يشملها المجلس الفقهي لا أكثر، ويعني ذلك تحييد الخطاب الديني كسلاح للمواجهة مع أي دولة تنفتح على دمشق.

المدن

—————————-

ماذا وراء إلغاء النظام السوري لمنصب «مفتي أهل السنة والجماعة»؟/ وائل عصام وهبة محمد

أثار مرسوم رئيس النظام السوري بشار الأسد التشريعي القاضي بإلغاء مقام مفتي الجمهورية السني، وإسناد أمر الفتوى إلى المجلس الفقهي الأعلى في وزارة الأوقاف وتعزيز دوره وتوسيع صلاحياته، انتقادات لاذعة من السوريين، لما يحمل من خطورة بسبب التعديلات التي أنهت مجلس الإفتاء الأعلى في البلاد، وألغت مقام الإفتاء عبر إزالة عضوية “مفتي الجمهورية” من المجلس، مع توكيل هذا المجلس الذي يضم سبعة أعضاء من المراجع الشيعية، بإدارة المهام التي كانت موكلة للمفتي سابقاً. وحذر “المجلس الإسلامي السوري” المعارض (مقره إسطنبول) من خطورة المرسوم التشريعي.

وفي تصريح خاص لـ”القدس العربي” قال المتحدث الرسمي باسم المجلس، الشيخ مطيع البطين “إن خطورة إلغاء منصب “مفتي الجمهورية” ليست متعلقة بإزاحة المفتي أحمد حسون التابع للنظام، بل بالاعتداء على منصب الإفتاء استكمالاً لمخطط تغيير هوية سوريا الديموغرافية والدينية”.

وأضاف “أنّ إلغاء منصب الإفتاء في سوريا ليس عدواناً على المسلمين وعلى السنّة في سوريا فحسب، إنّه تمهيد لرؤية عمائم الولي الفقيه تعتلي منبر عمر بن عبد العزيز في مسجد بني أميّة الكبير في دمشق عاصمة أكبر حضارات الإسلام وأوسعها امتداداً، ولذلك فإنّ هذا العدوان يستهدف المسلمين والعرب جميعاً بدينهم وثقافتهم وتاريخهم ومستقبلهم”.

وتابع البطين أن الأسد بإلغائه منصب المفتي، يمهد لدخول إيران على خط الإفتاء في سوريا، وكذلك يثبت وجودهم في المشهد الديني السوري، مضيفاً: “بمعنى آخر، أدخل النظام المؤسسة الدينية في دائرة المحاصصة الطائفية والتقسيم”.

وكان حسون قد أثار موجة من الجدل بسبب تقديمه تفسيراً جديداً لسورة “التين” خلال كلمته في تأبين الفنان صباح فخري، مدعياً أن “خريطة سوريا مذكورة في السورة، وأن الإنسان الذي يخلق في سوريا يكون في أحسن تقويم، فإن تركها رددناه أسفل سافلين”، ليرد “المجلس العلمي الفقهي” في وزارة الأوقاف التابعة للنظام، على تفسير حسون بأنه تفسير منحرف وغريب ويشق الصف، داعياً إلى “عدم الانجرار وراء التفسيرات الشخصية الغريبة”.

وبينما اعتقد البعض أن سبب إقالة الحسون هو ما قاله عن تفسير “التين والزيتون”، إلا أن الواضح أن المرسوم الجديد قد عزز من صلاحيات “المجلس العام الفقهي”، وكذلك حدّ من حضور الطائفة السنية على رأس المشهد الديني في سوريا.

وهاجم عبد الرحمن حسون، نجل أحمد حسون “المجلس الفقهي”، عبر صفحته الشخصية على “فيسبوك”، قائلاً: “الفتنة التي تصدرتم لها وأيدتكم في ذلك الصفحات الصفراء ومن يشتمون الوطن ويستبيحون القتل والهدم والتدمير لوطننا هي من يؤيدها التكفيريون، وكنتم يداً واحدة بالباطل، فهنيئاً لكم بعضكم البعض”. وتابع مخاطباً والده: “ما زلت المخلص لوطنٍ طالما أحببت رياضه وترابه وأنواره، ما زلت الوفي لقائد ثبت في أحلك الظروف والمحن وكان وسيبقى القائد والأخ والمحب والمحبوب”.

وفي السياق، تحدث عضو “هيئة القانونيين السوريين” المحامي عبد الناصر حوشان، عن نتائج مرسوم الأسد، قائلاً: “لم يعد هناك مفتي “السنة والجماعة ” في سوريا، ما يعني إلحاق مهمة الفتوى بالمجلس الفقهي في وزارة الأوقاف، وهو المجلس الذي يضم ممثلين عن مرجعيات شيعية تتبع إيران يشكلون ثلث أعضاء المجلس”.

وأضاف في تعليق رصدته “القدس العربي”، أن “المجلس يضم مرجعيات شيعية تدين بالإمامة كأصل من أصول العقيدة وتُكفر من لا يعترف بها”. وأردف أن “الشيعة صاروا شركاء أهل السنة في إدارة أملاك الوقف السنية والانتفاع بها واستثمارها وشرائها، وهذا أيضاً يعني تكريس جريمة التغيير الديموغرافي التي تديرها إيران وتتولى تنفيذها بالتشارك مع نظام الأسد”.

————————-

الأوقاف اتهمته بتحريف القرآن ،”خريطة سوريا” واللاجئون.. هذا ما أطاح مفتي الجمهورية

كان قرار رئيس النظام السوري إلغاء منصب مفتي الجمهورية العربية السورية مفاجئًا، خصوصًا أن المفتي أحمد بدر حسون موال شديد اللهجة للنظام ولرئيسه بشار الأسد.

تساءل كثيرون، ما كان ذنب حسون كي لا يكتفي الأسد بإقالته من منصب الإفتاء العام، بل أن يلغي المنصب من أصله.

يقول تقرير نشره موقع “إندبندنت عربية” إن الأوساط الدينية تتحفظ على الخوض في غمار المشكلة الحاصلة بين قطبي التشريع، مفتي الجمهورية ووزارة الأوقاف، “إلا أنهم يعولون إلى عودة أخرى لمفتي الجمهورية بحلة جديدة ولو بعد حين، على الرغم من انتصار المجلس الفقهي في المعركة المحتدمة آخر المطاف”.

وكان حسون قد ظهر في مقطع فيديو أثناء تقديمه واجب العزاء بعزاء الفنان صباح فخري وهو يقول: “أين خريطة سوريا في القرآن؟ موجودة في سورة منقراها كتير في صلواتنا”، مستشهدًا بآية “التين والزيتون”.

وقال لقد خلقنا الإنسان في هذه البلاد في أحسن تقويم، فإذا تركها رددناه إلى أسفل سافلين، في إشارة إلى اللاجئين، وهذا التفسير لم يسبق للفقهاء أن فسروه، ما أثار زوبعة بين اللاجئين، لا سيما أن دمشق تشهد انفتاحاً عربياً واسعاً، وتتحضر مع موسكو لافتتاح أكبر مؤتمر للاجئين في سوريا.

وينسب التقرير إلى الناشط السياسي والحقوقي رضوان العلي ردّه خسارة حسون إلى زلة “شاطر”، ولولا ذلك لكان قد مدد له لولاية إضافية مدتها ثلاث سنوات وأكثر، “لكن مع إعلان إلغاء منصب المفتي يكون قد أحيل إلى التقاعد، وأستبعد أي دور جديد له في الوقت الحالي، فقد أثارت خطاباته المبالغ فيها بحق اللاجئين كثيراً من الاستياء باللغة التي يخاطبهم بها”.

ونشرت وزارة الأوقاف السورية بيانا عبر صفحتها على موقع فيسبوك جاء فيه: لابد من البيان أن المفسرين قد أجمعوا فيما ذكروه من تفسير الآيات أن الله تعالى يقسم بكل عظيم، ومنه ما خلق للإنسان مما ينفعه ويصلح حياته، وما جعل في التين والزيتون من نفع عظيم، ثم أقسم بالبقاع المقدسة، ثم بيّن سبحانه أنه خلق الإنسان الذي هو المحور الأساسيُّ في الكون في أحسن تقويم، والمقصود به كل إنسان، وليس إنساناً مخصوصاً بعينه في زمان ما أو مكان ما”.

أضاف البيان: “فإن هذه عصبية مقيتة حذّر الإسلام منها ونهى عنها، ثم تحدَّث سبحانه عن أطوار الإنسان وردِّه إلى (أسفل سافلين) والذي عبّر عنه في آيات أخرى ب: (أرذل العمر )؛ للضعف الذي يصيبه بعد القوة والكمال، أو بمعنى أن الإنسان يحط من مرتبته القويمة إلى أسفل سافلين عندما يخالف أوامر الله ويعرض عنها، وهذا حال يصيب كل إنسان في كل مكان وفي كل زمان، ولا علاقة له ببلاد الشام أو غيرها من المسميات القطرية التي تتغير من زمان لآخر”.

وتابع البيان: “وإن تفسير إعجاز الخلق بهذا المفهوم الضيق بعدٌ عن المقصد الإنساني الذي أراده الله في هذه السورة وهو كلام لا ينطلق من دراية بقواعد تفسير القرآن الكريم، كما أنه إقحام للدِّين في إطار إقليمي ضيق”، وأردفت: ” وأما فضل بلاد الشام فمعروف تثبته الكثير من الآيات والأحاديث الواضحة الصريحة ولا حاجة في إثباته لمثل هذه التحريفات ولي أعناق الآيات”.

وختم بيان الأوقاف: “يذكِّرُ المجلس العلمي الفقهي بأن منهج التفسير بالأغراض الشخصية أدى إلى ظهور التطرف في تفسيره من جهة أخرى؛ لأن منهج المتطرفين والتكفيريين إنما يعتمد على تحريف تفسير آيات القرآن لتنسجم مع أهدافهم التكفيرية

—————————-

الأسد يعزز دور «المجلس الفقهي» بعد انتقادات لمفتي سوريا

أصدر الرئيس السوري بشار الأسد، أمس، مرسوماً بتعزيز دور المجلس العلمي الفقهي وتوسيع صلاحياته بعد انتقادات واسعة لمفتي الجمهورية أحمد الحسون؛ على خلفية تصريحات له في جنازة الفنان الراحل صباح فخري. وقالت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أمس، إن الأسد أصدر مرسوماً قضى بتعديل تشكيل «المجلس العلمي الفقهي» في وزارة الأوقاف/ بحيث يكون الوزير رئيساً مع معاونين، هما رئيس اتحاد علماء بلاد الشام والقاضي الشرعي الأول بدمشق، إضافة إلى ثلاثين عالماً من كبار العلماء في سوريا ممثلين عن المذاهب كافة. وأضاف المرسوم تحديد المهمات بـ«تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلّة وإثباتها، وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية متصلة بالعبادات والشعائر الدينية الإسلامية، وإصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها».

ونص المرسوم على إلغاء «المادة 35»، من قانون العام 2018 ونصت «يسمى المفتي العام للجمهورية العربية السورية وتُحدد مهامه واختصاصاته بمرسوم بناءً على اقتراح الوزير لمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد بمرسوم».

وانتهت ولاية الحسون في 11 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ نظراً لمضي مدة السنوات الثلاث على وجوده في المنصب منذ نفاذ القانون المذكور.

وإن عدم صدور أي مرسوم بالتجديد له يعني أنّ ولايته قد انتهت ولم يعد مفتياً عاماً بموجب القانون، يضاف إلى ذلك، أنه قد بلغ من العمر أكثر من سبعين عاماً، أي أنه قد تجاوز السن القانونية أيضاً.

وجرى جدل في الأيام الماضية بعد تصريحات الحسون في جنازة صباح فخري. وقال للاجئين «عودوا إلى بلادكم… في الخارج لن تجدوا من يصلي عليكم».

وانتقد المجلس العلمي حسون، قائلاً «أكّد علماء الأمة الأثبات عبر أجيالها على المنهج العلمي في التفسير الذي يعتمد أصولاً دقيقة».

ويشار إلى أن المجلس الفقهي العلمي تشكل عام 2018 وبدأ أول اجتماعاته عام 2019؛ بهدف «ترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية، والأخذ بيد أبناء الوطن على اختلافهم وتنوعهم لمواجهة فكر أعداء الأمة الصهاينة والمتطرفين التكفيريين وأتباع الإسلام السياسي» بحسب التصريحات الرسمية. ويعد رد المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف على مفتي الجمهورية هو الأول من نوعه.

——————————

كلمة المتحدث الرسمي للمجلس الإسلامي السوري حول جريمة إلغاء مقام الإفتاء في سورية

https://www.youtube.com/watch?v=82RoaUH_-bY

———————————-

د محمد حبش لـ ”نداء بوست“: إلغاء منصب مفتي الجمهورية صورة أخرى لفشل الدولة

”نداء بوست“ – أخبار سورية –  أبو ظبي – خاص:

قال المفكر الإسلامي السوري د محمد حبش إن مرسوم رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي نص على إلغاء منصب المفتي في سورية يعتبر امتداداً لنهج الاستبداد الذي تعاني منه سورية طيلة العقود الماضية والمستمر حتى هذه اللحظة.

وبيّن حبش في تصريحات خاصة ل”نداء بوست” أن “إنهاء تكليف المفتي حسون وإلغاء منصب الإفتاء هو صورة لفشل الدولة وفشل المؤسسات وانهيارها بسبب الاستبداد المستمر الذي يحول دون تقديم مراجعات حقيقية لأداء المؤسسات الرسمية وارتباط كل المسائل بشخص الديكتاتور الذي يقرر متى وأين وكيف يريد أن يغير كل شيء”.

وأضاف في حديثه “في الواقع لا أكتم موقفي من عدم قناعاتي بوجود حاجة لافتاء حكومي، مع أني مؤمن أن هناك دور لعلماء الدين ليبينوا مسائل الشريعة”، معتبراً أن “تخصيص منصب حكومي لشخص يدار من قبل الدولة ويصدر الفتاوي التي ترضيها يعتبر امراً سيئاً وقد طبق خلال كل فترة الحرب،حيث كانت الأخطاء تتكرر كل يوم خلال السنوات العشر ولكن لم يجد الاستبداد سبباً لاتخاذ أي إجراء”.

كما أشار المفكر السوري إلى أن هذا الإجراء “يتم الآن ولكن بحسابات مختلفة لا علاقة لها بالحوكمة المنطقية والموضوعية، ولا علاقة لها بمصلحة الدولة، وإنما تأتي في إطار نزاعات معروفة بين الوزير والمفتي حيث أن ما جرى مؤشر سيء على ركوب الفوضى وعدم الوصول إلى نتائج”.

وبخصوص المجلس الفقهي الذي أناط به الأسد مهمة الإفتاء بدلاً من مفتي الجمهورية قال حبش “من جانب أخر فإن توجه النظام لإلغاء منصب المفتي ليس توجهاً نحو الحرية ما سيتم الآن هو استبدال المفتي بمجلس الفقهاء وهو سلطة من نوع أخر هي سلطة تدار بشكل كامل من الحكومة ويخشى أن تتحول لأداة طمع وبطش وهي تمثل بشكل أو بآخر سلطة حكومية حقيقية لديها من الأدوات ما لا يتوفر لمنصب المفتي الذي كان في النهاية منصباً شرفياً”.

وأوضح أن “هناك خوف مزدوج من خلال الخوف من انهيار مؤسسات الدولة وخوف من التأسيس لمجلس قد يتحول لمجلس رقابة على المفكرين والأحرار وإصدار فتاوى الحرمان والإبعاد، وهذا ما كان منصب المفتي لا يكفي لإجراء الخيارات وهناك مخاوف حقيقية من تغول هذا المجلس الموعود على التفكير والاجتهاد وحرية الرأي في سورية”.

من جهته علّق المجلس الإسلامي السوري في تصريح خاص بـ “نداء بوست” على قرار رئيس النظام السوري، بشار الأسد بإلغاء منصب “مفتي الجمهورية“ وإنهاء صلاحيات المفتي الحالي أحمد بدر الدين حسون، جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم المجلس الإسلامي الشيخ مطيع البطين الذي قال إن المشكلة ليست في شخص وأداء حسون، والأخطاء الكبيرة والقاتلة التي كان يرتكبها، وأوضح الشيخ البطين أن ”المسألة الآن هي حول منصب الإفتاء، والذي له مكانة كبيرة في قلوب السوريين، وعن رمزية الإفتاء أيام الشيخ أبو اليسر عابدين والشيخ الأسطواني الذين كانوا ينتخبون انتخاباً من قبل العلماء الكبار الذين هم أهل لأن يختاروا من بينهم من يحتل هذه المكانة الرفيعة التي لها تأثير كبير على جميع مناحي الحياة“.

وتضمن مرسوم الأسد أيضاً، تعزيز دور “المجلس العلمي الفقهي” وتوسيع صلاحياته، لتشمل “تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلة وإثباتها وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية متصلة بالعبادات والشعائر الدينية الإسلامية”.

كذلك أوكل المرسوم للمجلس مهمة “إصدار الفتاوى المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها”.

——————-

ما موقف المجلس الإسلامي السوري من إلغاء منصب المفتي العام؟

تلفزيون سوريا ـ خاص

قال المجلس الإسلامي السوري إن إلغاء بشار الأسد لمنصب المفتي العام في سوريا هو عدوان على السوريين وهويتهم، من أجل إدخال عناصر أجنبية موالية لإيران، في إطار مشروع ولي الفقيه في المنطقة، داعياً السوريين إلى عدم الاهتمام بقضية شخص المفتي، إنما النية التخريبية لنظام الأسد من إنهاء منصب المفتي العام وما سيترتب عنه.

وأوضح المتحدث الرسمي باسم المجلس الإسلامي السوري الشيخ مطيع البطين في تصريحات خاصة لموقع “تلفزيون سوريا”: إن “إقالة أو إبعاد المفتي العام أحمد بدر الدين حسون الذي كان في خدمة سيده بشار الأسد وأساء لكل السوريين، وساهم من خلال تصريحاته وفتاواه في قتل وتهجير السوريين، تحمل خفايا خطيرة”.

وأردف أن “حسون أوراقه مكشوفة لكل السوريين، وهو مستعد أن يحرف القرآن وأن يزور القرآن من أجل أهدافه الشخصية وعلاقته مع السلطة”.

اعتداء على هوية السوريين

وأكّد البطين على أن “إلغاء منصب المفتي العام في سوريا هو اعتداء على حقوق السوريين وهويتهم الإسلامية، وهذا المنصب سابق لنظام الأسد، وكان ينتخب انتخاباً من قبل العلماء بناءً على الكفاءة والأهلية، مثل أيام الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين، والشيخ عبد المحسن الأسطواني وحسن حبنكة وغيرهم”.

وأضاف أن “المفتي كان له دور هام في الشأن العام، ويفتي وفقاً لما يرتضيه دينه وضميره لا وفق أهواء السلطان، وكانت له كلمة مسموعة لدى الشعب، ورمزية كبيرة لمكانته وطنياً”.

وشدد المتحدث باسم المجلس الإسلامي السوري على أن “الهدف الأساس من إلغاء المنصب هو من أجل إدخال عناصر أجنبية موالية لإيران تتبع مشروع الولي الفقيه، وهذه خطوة تسير بسوريا نحو الطائفية والتمزيق والانفصال عن الماضي”.

دعم للمشروع الطائفي

ولفت إلى أن المرسوم السابق القاضي بتشكيل المجلس الفقهي التابع لوزارة الأوقاف ينص على أن للوزير الحق في إدخال عناصر سورية أو من جنسيات أخرى للمجلس وهذا يسمح للإيرانيين بدخول المؤسسة، وهذا استهداف للمكون السني في سوريا، خاصة أن عدد الشيعة في سوريا نسبتهم قليلة جداً”.

وبيّن أن “إلغاء المنصب له بعد رمزي، ومرتبط بخطة سابقة عملت على تغيير التركيبة السكانية، وتهجير المسلمين على أساس طائفي، وبناء سوريا المتجانسة التي تحدث عنها بشار الأسد”.

كما تكمن الخطورة بحسب “البطين” في أن “المرسوم يشمل الحديث عن إدخال القاضي الشرعي إلى المجلس، وهذا له اتصال بقانون الأحوال الشخصية”.

ما هو المجس الإسلامي السوري؟

والمجلس الإسلامي السوري، تأسس عام 2014 بديلاً عن المؤسسة الدينية لنظام الأسد، والتي كان لها دور في دعم نظام الأسد بمواقف وفتاوى مستغلة الدين لصالحه.

ويتكون المجلس من 252 عالم دين وداعية إسلامياً يدعمون “الثورة السورية ويسعون لتوحيد الموقف الصادر عن العلماء في الفتاوى والقضايا ذات الشأن السوري العام وأمام الدول والمنظمات والهيئات الإقليمية والدولية”.

وللمجلس مؤسسات ومكاتب تتبع له في المناطق المحررة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، وكان له دور في تشكيل الهيئات والمحاكم في مناطق الشمال السوري.

انقلاب على المفتي

ويوم الإثنين، أصدر رئيس النظام بشار الأسد  مرسوماً تشريعياً (رقم 28 لعام 2021) يقضي بـ “تعزيز دور المجلس العلمي الفقهي وتوسيع صلاحياته”.

ونصّ المرسوم الجديد على إجراء تعديلات تتعلّق بفقرات ومواد المرسوم 31 لعام 2018 “الناظم لعمل وزارة الأوقاف”، والذي أُعلن فيه عن استحداث “المجلس العلمي الفقهي”، وحدّد القائمين عليه، ودوره وصلاحياته.

ومن أبرز التعديلات التي طرأت على المرسوم السابق، بحسب ما ورد في المادة الأولى من المرسوم الحالي، هو إزالة عضوية “مفتي الجمهورية” من المجلس، وتوكيل المجلس بإدارة المهام التي كانت موكلة للمفتي سابقاً.

كما تم إلغاء (الفصل التاسع) من المرسوم السابق، الذي نصَّ على: “تسمية مفتي الجمهورية وتحديد مهامه واختصاصاته بمرسوم بناء على اقتراح الوزير لمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد”.

ومن خلال التعديلات الواردة في المرسوم الجديد، لم يعد لـ “مفتي الجمهورية” أحمد حسون أي دور في المؤسسة الدينية التابعة للنظام في سوريا، بالإضافة إلى أن المرسوم لم يوضّح بصورة مباشرة إن كان منصب “المفتي” سيتم إلغاؤه بالكامل ونقْلُ صلاحياته لـ “المجلس العلمي الفقهي”.

ولم يكن هذا المرسوم الذي يجري فيه الأسد تعديلاً في تنظيم عمل وزارة الأوقاف، إذ إنه أصدر في العام 2018 قانوناً منح بموجبه صلاحيات واسعة لوزير الأوقاف، وحدد فيه ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، على أن تتم تسميته بموجب مرسوم بناء على اقتراح الوزير، فيما كان رئيس الجمهورية سابقاً هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته.

وأثار القانون جدلاً عند صدوره ورأى البعض أنه بمنحه صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف فإنه يرسخ سلطة المؤسسات الدينية، فيما يعتقد آخرون أنه يعزز قبضة نظام الأسد على المؤسسة الدينية في سوريا بشكل كامل كما كان منذ عقود.

من هو أحمد حسون؟

أحمد حسون، ثاني مفتي لسوريا في ظل نظام الأسد، حيث سبقه الشيخ أحمد كفتارو في المنصب من الستيينيات حتى وفاته عام 2004، وحسون من مواليد حلب عام 1949، يحمل إجازة في الأدب العربي، ودكتوراه في الفقه الشافعي من جامعة الأزهر.

عين مفتياً لحلب عام 2002، وهو عضو مجلس الافتاء الأعلى في سوريا، وعضو مجلس الشعب للدورتين التشريعيتين السابعة والثامنة، وخطيب في جامع الروضة بحلب.

والمفتي حسون من أبرز المدافعين عن نظام الأسد، ومهاجمي الثورة السورية، له تصريحات كثيرة مثيرة للجدل، منها تهديده أوروبا بإرسال آلاف الانتحاريين لتفجير أنفسهم في مدنها، إضافة إلى اتهامه بتحريف آيات القرآن الكريم وتفسيرها بهدف مدح نظام الأسد.

—————————-

مليارات”الوقف السُني”في سوريا..ما مصيرها؟/ إياد الجعفري

وسط سيل التحليلات التي تحذّر من خطر المرسوم الذي أصدره رأس النظام السوري، بشار الأسد، قبل أيام، والقاضي بتعزيز دور “المجلس العلمي الفقهي” وتوسيع صلاحياته، تم تداول تحليلٍ يتعلّق بأثر هذا المرسوم على إدارة أملاك الوقف “السُني” واستثمارها أو حتى بيعها، في سوريا. وذهب هذا التحليل بالبعد السياسي – الديني للمرسوم الأخير إلى بعدٍ آخر يتعلّق بتعزيز الهيمنة الإيرانية على الصعيد العقاري، حيث سيصبح الشيعة شركاء لأهل السُنة في إدارة الأوقاف التي عُرف عنها لقرون أنها “أوقاف سُنية”.

ويحمّل التحليل المشار إليه، مرسوم الأسد الأخير، ما لا يحتمل، ويذهب به إلى فضاء ليس فضاؤه، ويأتي ذلك جراء الخلط بين دور “المجلس العلمي الفقهي”، وبين دور “مجلس الأوقاف المركزي”، المعني بإدارة الأوقاف بسوريا، وفق القانون 31 لعام 2018.

هذا اللغط، قد يكون مناسبة للوقوف مجدداً عند قضية سبق أن أُثيرت بعيد صدور القانون 31، وتتعلق بالصلاحيات الواسعة التي مُنحت لوزارة الأوقاف في إدارة واستثمار العقارات الوقفية بسوريا. فهذه العقارات، التي لا توجد أرقام دقيقة تحدد قيمتها، تحتل أغلى المواقع العقارية بقلب المدن السورية الكبرى، وفي مقدمتها العاصمة دمشق، التي يُوصف الوقف فيها بأنه يحتل نصف مساحتها. ووفق تصريح قديم لمدير أوقافها، فإن العقارات الوقفية بدمشق تُقدّر قيمتها بمليارات الليرات. فيما يصل عدد العقارات الوقفية في مدينة حلب إلى 5000 عقار.

القانون 31 والذي نظّم عمل وزارة الأوقاف، عام 2018، ومهّد للمرسوم الأخير الصادر عن الأسد قبل أيام، لم يمنح رجال دين شيعة أو ممثلين لمذاهب غير سُنية، أية صلاحيات تتعلق بإدارة العقارات الوقفية التي تُوصف بأنها “سُنية”، بل خصّ هذه الإدارة بـ “مجلس الأوقاف المركزي”، كما سبق وذكرنا. وهذا المجلس، يُشكله الوزير، أي أن العقارات الوقفية التي تُقدّر بأسعار فلكية من ناحية القيمة السوقية، خاضعة فعلياً لصلاحيات وزير الأوقاف، والذي يملك سلطة كبيرة في التحكم بها، وفق نص القانون.

ينقلنا ما سبق إلى محطة أخرى تتعلق بالفساد في وزارة الأوقاف، التي تُوصف بأنها من أغنى الوزارات المنهوبة على الإطلاق في سوريا، جراء التلاعب في عمليات إدارة العقارات الوقفية تحديداً. ولا يوجد أي بعد طائفي في هذا الحيز. إلا ربما باستثناء ما مُنحته وزارة الأوقاف من عقارات لتكون تحت سيطرة مؤسسات أو مراجع شيعية، بضغط من نظام الأسد، وذلك خلال نصف قرن من حكم البلاد، وليس نتيجة للمرسوم الأخير أو حتى للقانون 31 الصادر عام 2018.

بل على العكس من ذلك، ربما كان القانون 31، وفق وصف رجل الدين الإسلامي المعارض، محمد حبش، شكلاً من أشكال المكافأة لنخبة محددة من رجال الدين “السُنة” الذين دعموا نظام الأسد في العشرية الفائتة، فعزّز النظام صلاحياتهم في التصرف بإيرادات الأوقاف السورية الغنية، وفق معادلته الشهيرة، الفساد مقابل الولاء.

إذا تم تمرير بنودٍ في القانون 31، فهي تتيح التحايل على مبدأ حظر بيع العقارات الوقفية، الذي يقرّه القانون نفسه. وهو ما سبق وأشار إليه محللون كُثر. من ذلك ما يتعلق بالمادة 52 التي سمحت للوزارة أن تستثمر الوقف العقاري في عمليات البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي، الأمر الذي يتيح ثغرة لتبرير خسارة العقار الوقفي وبيعه بالمزاد العلني أو نقل ملكيته لبنوك أو شركات تأمين. كذلك أتاحت المادة 52 استبدال العقارات الوقفية بعقارات أخرى، مما يفتح الباب للتحايل عبر استبدال عقار وقفي أعلى وفق القيمة السوقية، بعقار آخر أقل قيمة. كذلك المادة 64 التي سمحت باستبدال عقار وقفي مُتجاوز عليه بعقار آخر.

باختصار، أتاح القانون 31 لفاسدي وزارة الأوقاف الذهاب خطوة أبعد في فسادهم الذي كان منحصراً سابقاً في عقود تأجير العقارات الوقفية وتحديد أجور استثمارها، ليصبح من المتاح بيعها، بذريعة قانونية، بصورة تخالف الغاية الأساسية من العقار الوقفي، والتي هي الاستفادة من إيراداته لمساعدة الفقراء.

ورغم أنه، ومنذ صدور القانون 31 في خريف العام 2018، وحتى الآن، لم يتم الحديث عن عملية بيع أو استبدال لعقار وقفي، وفق ما هو معلن، إلا أن هذا الإجراء بات متاحاً أمام وزير الأوقاف، بموجب القانون ذاته. وهي خطوة محتملة بشدة، في الأيام المقبلة، وسط ما توحي به التحركات التي قامت بها الوزارة خلال السنوات الثلاث الماضية، بهدف تعزيز إيراداتها، من قبيل رفع إيجارات العقارات الوقفية حوالي 20 ضعفاً، في بعض الحالات. أو حتى طرح أجزاء من العقارات الوقفية للاستثمار التجاري، كما فعلت “أوقاف دمشق” حينما طرحت حمامات المسجد الأموي لهذه الغاية، الأمر الذي أثار استفزاز السوريين على نطاق واسع.

أما المُتربع على عرش هذه الثروة العقارية، والمتحكم التنفيذي -على الأقل- بأمرها، وفق القانون، فهو محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف، الخصم اللدود لمفتي سوريا الأخير، أحمد بدر الدين حسون. وكانت سنوات التهميش الثلاث لهذا الأخير، والتي بدأت مع صدور القانون 31، وانتهت قبل أيام، قد تزامنت مع تهشيم وزن رامي مخلوف، ابن خال الأسد، في عالم الأعمال السوري. فالشراكة الشهيرة بين الرجلين، حسون (عبر ابنه عبد الرحمن) ومخلوف، في قطاع الأعمال، كانت وصمة لم يستطع رجل الدين الشهير بتملقه للنظام، أن يتجاوزها. ليأتي زمن محمد عبد الستار السيد، بوصفه أداة الأسد الذي حظي بثقته ليدير ثروة العقارات الوقفية بسوريا، ويمنح عقود إيجارات النفيس منها، لرجال أعمال جدد، اصطفاهم النظام ليمثلوا مصالحه، من قبيل وسيم القطان، الذي حظي بعقد استثمار مجمع يلبغا الشهير بقلب دمشق، في العام 2019.

وهكذا لا خطر على الأوقاف العقارية “السُنية” في سوريا، من تمدد الشيعة المدعومين إيرانياً. فتلك الأوقاف تحظى بلصوص من “السُنة” أنفسهم، حريصون على ترتيب مصالح النظام في هذه الأوقاف، بالصورة التي ترضيه.

كاتب سوري

المدن

—————————-

==========================

تحديث 19 تشرين الثاني 2021

————————————

من المستهدف .. حسّون أم المرجعية السنّية؟/ حسين عبد العزيز

أن يُبعَد مفتي سورية أحمد بدر الدين حسّون من منصبه، فقد يكون هذا طبيعيا بعد الخطأ الكبير الذي ارتكبه في تفسير الآية “وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ”. أما أن يُلغى منصب المفتي بالكامل فهذا أبعد من مسألة حسّون. ولا يتعلق الأمر أيضا بما روّجه بعضهم من خلاف قديم بين حسّون ووزير الأوقاف عبد الستار السيد الذي تتولى عائلته بشكل تاريخي منصب الإفتاء في طرطوس، ومحاولته الهيمنة على المؤسسة الدينية.

تعود المسألة إلى عام 2018 الذي أكمل فيه النظام سيطرته العسكرية على محيط مدينة دمشق، وانتهاءه تقريبا من إعادة ترتيب التوزيع الديمغرافي في المناطق السنّية من محيط دمشق جنوبا وحتى حمص وحلب شمالا. خلال هذا العام، أصدر الأسد القانون رقم “31” الناظم لعمل وزارة الأوقاف، في خطوةٍ شكلت امتدادا لعملية تقويض القوة السنّية على مستوى الهوية، وعلى مستوى الهيمنة الدينية في الوعي الجمعي السني، فلأول مرة في سورية، يُشكل مجلسٌ سمي “المجلس العلمي الفقهي”، بهدف إعداد البحوث العلمية الفقهية، ومناقشة الاجتهادات التي تتعلق بالقضايا الدينية المعاصرة، وتسهم في تحقيق التكامل بين المذاهب الفقهية، بحسبان أن ما يتوصل إليه المجلس يعدّ مرجعا فقهيا جامعا، وتحديد المراجع والمؤلفات والتيارات والتوجهات التي تحمل الأفكار التكفيرية والمتطرّفة، وكذلك التي تتبنّى العنف وسيلةً لتحقيق أهدافها، ومتابعة ما يصدر من فتاوى وأحكام شرعية ومدى تأثيرها على حياة الناس، وترجيح بعض الأحكام الاجتهادية على بعضها الآخر، ضمن شروط الترجيح وضوابطه. غير أن هذه الأهداف تبدو عادية ومفهومة إذا ما قُرئت خارج سياق البنية التكوينية لـ”المجلس العلمي الفقهي”، فقد ضم المجلس، لأول مرة، إلى جانب علماء الدين السنة، 25 من كبار العلماء في سورية، ممثلين عن المذاهب كافة، يضاف إليهم ممثلون عن الطوائف المسيحية كافة… ماذا يعني ذلك؟

أولا، إذا نظرنا إلى عدد أعضاء المجلس، نجد مساواة تقريبية بين المذاهب والطوائف الدينية (نحو 15 عضوا يمثلون المذهب السنّي، 25 عضوا من كبار العلماء في سورية ممثلين عن المذاهب كافة بمن فيهم السنّة، نحو عشرين عضوا للطوائف المسيحية: السريان الأرثوذكس، الأرمن الأرثوذكس، الروم الملكيين الكاثوليك، سريان كاثوليك، المارونية، اللاتين، بروتستانت، كلدان كاثوليك، آشوريون). يشير ذلك، إلى أن التمثيل الديني في المجلس أصبح قائما على مبدأ المساواة، بغض النظر عن حجم الطوائف والمذاهب من الناحية السكانية، وبغض النظر عن تاريخ البلاد الديني. وهذا يعني فتح المجال للطائفة الشيعية تحديدا لمأسسة خطابها وسلوكها الديني، على اعتبار أن الطائفة الشيعية تتشابه مع المذهب السني في امتلاكها فقها وأحكاما ومرجعية عقائدية.

ثانيا، لجميع المذاهب الحق المتساوي في صياغة الخطاب الديني الرسمي، مع ما يعني ذلك من محاولاتٍ لتمييع المرجعية الدينية السنية وإضعافها بناء على مخاوف الأقليات الدينية، ليس من التطرّف السني المزعوم، وإنما الخوف من هيمنة الخطاب الديني السني.

جاء إلغاء منصب الإفتاء، المحصور تاريخيا بالسنة، استكمالا لاستراتيجية بناء الدولة المنشودة في العقل الأقلوي الحاكم، المثقل تاريخيا بأيديولوجياتٍ عقائديةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ تجاه السنة، وضمن سياق الفرصة التاريخية التي يجب استثمارها في تحييد السنة بوصفهم مرجعيةً دينية، بعدما تم إضعافها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبعدما وسّع النظام من القاعدة الشيعية الاجتماعية من خلال منح الجنسية السورية لعشرات آلاف منهم، بعدما تقلّص عدد الطائفة العلوية خلال السنوات العشر الماضية، وضعف نموها السكاني بسبب أعداد القتلى الشباب في صفوفها.

يعني إلغاء منصب الإفتاء، وإلحاق مهمة الفتوى بالمجلس الفقهي في وزارة الأوقاف، إنهاء استقلالية المرجعية السنية على المستوى المؤسساتي، وجعلها من أعمال السلطة التنفيذية، من حيث إن دار الإفتاء، على الرغم من انصياعها التام للنظام، كانت تشكل هيئة ذات استقلالية شخصية على المستوى النظري. كما أن هذه الخطوة تعيد بناء البعد المفاهيمي للقضاء الشرعي ومنظومة الأحوال الشخصية بما يتلاءم مع الواقع الجديد الذي فرضه النظام بالقوة.

إنها استراتيجية قائمة على إعادة بناء المجال الديني التداولي في الفضاء الرسمي، وفي الفضاءين، الاجتماعي والقانوني العام، وهي خطوةٌ بدت ملحّة وضرورية للنظام، من أجل تأسيس واقع ديني جديد في البلاد، يؤُخد بعين الاعتبار مستقبلا عند كتابة دستور جديد.

العربي الجديد

———————-

مليارات”الوقف السُني”في سوريا..ما مصيرها؟/ إياد الجعفري

وسط سيل التحليلات التي تحذّر من خطر المرسوم الذي أصدره رأس النظام السوري، بشار الأسد، قبل أيام، والقاضي بتعزيز دور “المجلس العلمي الفقهي” وتوسيع صلاحياته، تم تداول تحليلٍ يتعلّق بأثر هذا المرسوم على إدارة أملاك الوقف “السُني” واستثمارها أو حتى بيعها، في سوريا. وذهب هذا التحليل بالبعد السياسي – الديني للمرسوم الأخير إلى بعدٍ آخر يتعلّق بتعزيز الهيمنة الإيرانية على الصعيد العقاري، حيث سيصبح الشيعة شركاء لأهل السُنة في إدارة الأوقاف التي عُرف عنها لقرون أنها “أوقاف سُنية”.

ويحمّل التحليل المشار إليه، مرسوم الأسد الأخير، ما لا يحتمل، ويذهب به إلى فضاء ليس فضاؤه، ويأتي ذلك جراء الخلط بين دور “المجلس العلمي الفقهي”، وبين دور “مجلس الأوقاف المركزي”، المعني بإدارة الأوقاف بسوريا، وفق القانون 31 لعام 2018.

هذا اللغط، قد يكون مناسبة للوقوف مجدداً عند قضية سبق أن أُثيرت بعيد صدور القانون 31، وتتعلق بالصلاحيات الواسعة التي مُنحت لوزارة الأوقاف في إدارة واستثمار العقارات الوقفية بسوريا. فهذه العقارات، التي لا توجد أرقام دقيقة تحدد قيمتها، تحتل أغلى المواقع العقارية بقلب المدن السورية الكبرى، وفي مقدمتها العاصمة دمشق، التي يُوصف الوقف فيها بأنه يحتل نصف مساحتها. ووفق تصريح قديم لمدير أوقافها، فإن العقارات الوقفية بدمشق تُقدّر قيمتها بمليارات الليرات. فيما يصل عدد العقارات الوقفية في مدينة حلب إلى 5000 عقار.

القانون 31 والذي نظّم عمل وزارة الأوقاف، عام 2018، ومهّد للمرسوم الأخير الصادر عن الأسد قبل أيام، لم يمنح رجال دين شيعة أو ممثلين لمذاهب غير سُنية، أية صلاحيات تتعلق بإدارة العقارات الوقفية التي تُوصف بأنها “سُنية”، بل خصّ هذه الإدارة بـ “مجلس الأوقاف المركزي”، كما سبق وذكرنا. وهذا المجلس، يُشكله الوزير، أي أن العقارات الوقفية التي تُقدّر بأسعار فلكية من ناحية القيمة السوقية، خاضعة فعلياً لصلاحيات وزير الأوقاف، والذي يملك سلطة كبيرة في التحكم بها، وفق نص القانون.

ينقلنا ما سبق إلى محطة أخرى تتعلق بالفساد في وزارة الأوقاف، التي تُوصف بأنها من أغنى الوزارات المنهوبة على الإطلاق في سوريا، جراء التلاعب في عمليات إدارة العقارات الوقفية تحديداً. ولا يوجد أي بعد طائفي في هذا الحيز. إلا ربما باستثناء ما مُنحته وزارة الأوقاف من عقارات لتكون تحت سيطرة مؤسسات أو مراجع شيعية، بضغط من نظام الأسد، وذلك خلال نصف قرن من حكم البلاد، وليس نتيجة للمرسوم الأخير أو حتى للقانون 31 الصادر عام 2018.

بل على العكس من ذلك، ربما كان القانون 31، وفق وصف رجل الدين الإسلامي المعارض، محمد حبش، شكلاً من أشكال المكافأة لنخبة محددة من رجال الدين “السُنة” الذين دعموا نظام الأسد في العشرية الفائتة، فعزّز النظام صلاحياتهم في التصرف بإيرادات الأوقاف السورية الغنية، وفق معادلته الشهيرة، الفساد مقابل الولاء.

إذ تم تمرير بنودٍ في القانون 31، فهي تتيح التحايل على مبدأ حظر بيع العقارات الوقفية، الذي يقرّه القانون نفسه. وهو ما سبق وأشار إليه محللون كُثر. من ذلك ما يتعلق بالمادة 52 التي سمحت للوزارة أن تستثمر الوقف العقاري في عمليات البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي، الأمر الذي يتيح ثغرة لتبرير خسارة العقار الوقفي وبيعه بالمزاد العلني أو نقل ملكيته لبنوك أو شركات تأمين. كذلك أتاحت المادة 52 استبدال العقارات الوقفية بعقارات أخرى، مما يفتح الباب للتحايل عبر استبدال عقار وقفي أعلى وفق القيمة السوقية، بعقار آخر أقل قيمة. كذلك المادة 64 التي سمحت باستبدال عقار وقفي مُتجاوز عليه بعقار آخر.

باختصار، أتاح القانون 31 لفاسدي وزارة الأوقاف الذهاب خطوة أبعد في فسادهم الذي كان منحصراً سابقاً في عقود تأجير العقارات الوقفية وتحديد أجور استثمارها، ليصبح من المتاح بيعها، بذريعة قانونية، بصورة تخالف الغاية الأساسية من العقار الوقفي، والتي هي الاستفادة من إيراداته لمساعدة الفقراء.

ورغم أنه، ومنذ صدور القانون 31 في خريف العام 2018، وحتى الآن، لم يتم الحديث عن عملية بيع أو استبدال لعقار وقفي، وفق ما هو معلن، إلا أن هذا الإجراء بات متاحاً أمام وزير الأوقاف، بموجب القانون ذاته. وهي خطوة محتملة بشدة، في الأيام المقبلة، وسط ما توحي به التحركات التي قامت بها الوزارة خلال السنوات الثلاث الماضية، بهدف تعزيز إيراداتها، من قبيل رفع إيجارات العقارات الوقفية حوالي 20 ضعفاً، في بعض الحالات. أو حتى طرح أجزاء من العقارات الوقفية للاستثمار التجاري، كما فعلت “أوقاف دمشق” حينما طرحت حمامات المسجد الأموي لهذه الغاية، الأمر الذي أثار استفزاز السوريين على نطاق واسع.

أما المُتربع على عرش هذه الثروة العقارية، والمتحكم التنفيذي -على الأقل- بأمرها، وفق القانون، فهو محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف، الخصم اللدود لمفتي سوريا الأخير، أحمد بدر الدين حسون. وكانت سنوات التهميش الثلاث لهذا الأخير، والتي بدأت مع صدور القانون 31، وانتهت قبل أيام، قد تزامنت مع تهشيم وزن رامي مخلوف، ابن خال الأسد، في عالم الأعمال السوري. فالشراكة الشهيرة بين الرجلين، حسون (عبر ابنه عبد الرحمن) ومخلوف، في قطاع الأعمال، كانت وصمة لم يستطع رجل الدين الشهير بتملقه للنظام، أن يتجاوزها. ليأتي زمن محمد عبد الستار السيد، بوصفه أداة الأسد الذي حظي بثقته ليدير ثروة العقارات الوقفية بسوريا، ويمنح عقود إيجارات النفيس منها، لرجال أعمال جدد، اصطفاهم النظام ليمثلوا مصالحه، من قبيل وسيم القطان، الذي حظي بعقد استثمار مجمع يلبغا الشهير بقلب دمشق، في العام 2019.

وهكذا لا خطر على الأوقاف العقارية “السُنية” في سوريا، من تمدد الشيعة المدعومين إيرانياً. فتلك الأوقاف تحظى بلصوص من “السُنة” أنفسهم، حريصون على ترتيب مصالح النظام في هذه الأوقاف، بالصورة التي ترضيه.

المدن

————————-

الرمزية السياسية في الانقلاب على “حسون”/ رضوان زيادة

ربما كان إلغاء منصب المفتي في سوريا الذي يعود إلى عام 1918 وتشكيل ما سماه نظام الأسد “المجلس العلمي الفقهي” ربما كان نهاية تقنية لمنصب كتب نهايته بنفسه بسبب طبيعة الأشخاص الذين تقلدوا هذا المنصب من أحمد كفتارو إلى أحمد حسون، وربما كان الأخير الكارثة الحقيقية على هذا الموقع.

في البداية علينا التمييز هنا بين الموقع والشخص، بمعنى ربما يعطيك الموقع سلطة إدارية حقيقة لكن إذا افتقد الشخص الصفات المعنوية والثقافية والنزاهة فإنه يخسر تأثير هذا الموقع لا سيما إذا كان الموقع يعتمد في تأثيره بشكل كبير على التأثير المعنوي من مثل موقع المفتي. إذاً لا سلطة للمفتي على الناس وعلى السوريين بشكل خاص، سلطته الوحيدة هو تأثيره عليهم عبر احترام شخصه وموقعه وموقفه وآرائه، وهنا كان حسون ذليلاً وضيعاً بشكل لا يقاس بأي شخص في نظام الأسد فما بالك بموقع يحظى بمركزية دينية كبيرة مثل المفتي.

لقد سبق كفتارو حسون في الموقع الذي احتفظ به لعقود خلال حكم الأسد الأب وكان دائما مؤيدا داعما له منذ دعم الأسد له في معركة المفتي ضد حسن حبنكة الميداني، لكن كفتارو بنفس الوقت طور شخصية صوفية جعلته محبوبا من شريحة محدودة جداً من الدمشقيين وبقيت الشكوك دوما تثار على طريقته وشخصيته وتأثيره.

لكن عندما تسلم حسون الموقع انتقل به إلى مستوى الدرك الأسفل كما يقال عندما بدا شبيحا في دعمه لجرائم الأسد في القتل والتعذيب من الدرجة الأولى، لقد أصبح يزايد على قادة الأجهزة الأمنية في القتل والتعذيب وتبرير هذه الجرائم، تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي عباراته وكلماته التي كان يلبسها دوما عبارات دينية وكان السوريون يزدادون في مقته وكراهية شخصه لأنهم يرون الحقيقة بأم أعينهم، يرون أولادهم يُعذبون ويقتلون، ويرون الأمن يطلق النار على المتظاهرين السلميين، ويشهدون بأم أعينهم كيف يتعامل النظام معهم، ولا يريدون لأحد أو يسمحون لأحد -حتى ولو كان المفتي- أن يكذب ما عاشوه من تجارب شخصية وحقيقية، تصاعدت المأساة في اللجوء والهجرة والحصار والمعاناة اليومية مع الألم لكنه ازداد فجورا في عباراته في تشبيه جيش النظام بالصحابة، وفي تهديد اللاجئين السوريين وتكفيرهم، فازداد كره السوريين له ولموقعه ومنصبه وهو ما عنى بالحقيقة نهاية منصب المفتي كليا حتى ولو أنه بقي في موقعه حتى الأسبوع الماضي.

نطلق على ذلك في علم القيادة أن الموقع خسر تأثيره القيادي الذي يعتمد بالأصل على احترام الناس للشخص وتقبل تأثيرهم له، ولذلك كان نظام الأسد سعيدا بالدرك الذي وصل إليه حسون لأنه يسهل عليه عملية إنهاء المنصب كليا وإنهاء استقلال السلطة الدينية في سوريا عن نظام الأسد وإلحاقها بمنصب إداري هو وزير الأوقاف الذي هو في الحقيقة شخصية لا تختلف عن حسون في وضاعته وابتذاله، وهو جعل السوريين ينهون دور المفتي أو الوزير في حياتهم، ويجعل دور المؤسسة الدينية بحكم المنتهية كليا في الحياة العامة للسوريين بسبب الأشخاص الذين تقلدوا هذه المواقع وصفاتهم الشخصية.

سئل مرة أحد قضاة المحكمة الفيدرالية الأميركية لماذا يستمع الناس لكم ويطبقون قراراتكم رغم أنه لا شرطة لديكم؟ أجاب لأن الناس تحتاج إلى هذه المحكمة ودورها، ولأن الناس باتوا مقتنعين بأن نزاهة الأشخاص في هذه المحكمة هم فوق الشبهات، عكس هذا تماما حصل مع المؤسسة الدينية في سوريا، التي وقف كثير من شخصياتها مع الأسد في حربه ضد السوريين فلا عجب أن يشمت السوريون اليوم بحسون، ولو أنهم حزينون لأن الأسد نجح وبسهولة في تحطيم رمز ديني كان جزءا من حياتهم على مدى المئة عام الماضية.

تلفزيون سوريا

————————–

إقالة المفتي حسون… هل شرّع الأسد الباب أمام التحوّل الديني في سوريا؟

رصيف22

ما إن أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوماً تشريعياً عدل بموجبه القانون (31) لعام 2018 والذي تشكل بموجبه “المجلس العلمي الفقهي” في وزارة الأوقاف، حتى تتالت ردود الفعل حيال المرسوم، وإن كانت ردة الفعل الأولية قد اتسمت بالسخرية من مفتي الجمهورية السورية بدر الدين حسون، فإن العديد من التعليقات بما في ذلك لوسائل إعلامية عربية ودولية تناقلت الخبر بداية على أنه إعفاء للمفتي من مهامه، علماً أن القانون الصادر لم يتطرق لذكر المفتي بل قضى بتوسيع صلاحيات “المجلس العلمي الفقهي” في وزارة الأوقاف، وتعديل مهماته، ما أدى إلى إلغاء منصب مفتي الجمهورية الذي يشغله حسون.

وجاء قرار الأسد بعدما كان “المجلس العلمي الفقهي”، قد أصدر بياناً انتقد فيه تفسير حسون لسورة التين في جنازة الفنان الراحل صباح فخري، حيث اعتبر حسون أن المقصود بـ”الإنسان” في آية “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” الإنسان السوري فقط. كما قام بربط السورة باللاجئين واعتبر أن من ترك البلاد سيلقى عقاباً من الله.

كذلك عزا البعض القرار إلى الخلافات الدائمة بين وزارة الأوقاف وتحديداً الوزير محمد عبد الستار السيد وحسون، إلّا أن الخلاف بين الرجلين عمره ما يقارب العشرين عاماً ومن قبل أن يستلم الرجلين مناصبهما، بل كانت بعض الخلافات تحصل برعاية الأجهزة الأمنية كما جرت العادة في سوريا.

واعتبر آخرون أن السبب هو حجم الفساد المالي للمفتي حسون، ولكن فساد حسون معروف منذ كان مفتي مدينة حلب.

السابقة أنه وللمرة الأولى منذ ما قبل الاستقلال، صارت سوريا من دون منصب الإفتاء للجمهورية ومحافظاتها ومدنها، وهذا ما عاد واعتبره الكثيرون تغيراً في هوية سوريا وإلغاء تاماً لمرجعية المذهب السني في الفتوى وقوانين الوقف وقوانين الأحوال الشخصية، لصالح بقية المذاهب والطوائف، ولتصبح الأغلبية السنية واحدة من ضمن عدة طوائف، ولتسند مهمة الإفتاء إلى مذاهب وطوائف متعددة، حيث أن “المجلس العلمي الفقهي” الذي أسندت إليه مهم الإفتاء يضم رجال دين من السنّة والشّيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين”.

وأصدر المجلس الإسلامي السوري بياناً اتهم فيه “العصابة الطائفية الحاكمة لسوريا اليوم بفعل أخطر الجرائم بحق سوريا وشعبها وهُوِيَّتها وانتمائها، وإلغاء منصب المفتي هو خدمة للولي الفقيه، ولتحويل سوريا إلى دولة طائفية بعيدة عن الإسلام والعروبة”.

وذكر البيان “أن منصب الافتاء ومنذ بداية الفتح الإسلامي لسوريا في بداية الخلافة الراشدة مُصاناً رفيعاً ورمزاً يعبر عن هُوِيَّة أبنائها وانتمائهم”، مشيرا الى ان احدا “لم يجرؤ على إلغائه، وحتى الذين استعمروا سوريا لم يستطيعوا المساس بهذا المقام”، مؤكداً في الوقت نفسه أن “إدانة هذه الجريمة الكبرى لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بإقالة أحمد حسون مفتي البراميل والمُوغِل في دماء السوريين المُساهِم في تهجيرهم والمعتدِي على دِينهم”.

وكان المتحدث الرسمي باسم المجلس الإسلامي السوري الشيخ مطيع البطين اعتبر في تصريحات صحافية أن “الهدف الأساس من إلغاء المنصب هو من أجل إدخال عناصر أجنبية موالية لإيران تتبع مشروع الولي الفقيه، وهذه خطوة تسير بسوريا نحو الطائفية والتمزيق والانفصال عن ماضيها”. لافتاً إلى أن مرسوم تشكيل المجلس الفقهي “يعطي للوزير الحق بإدخال عناصر سورية أو من جنسيات أخرى للمجلس وهذا يسمح للإيرانيين بدخول المؤسسة”، وهو ما رأى فيه البطين “استهدافاً للمكون السني”.

وفي حديث لـرصيف22، اعتبر مدير مؤسسة الذاكرة السورية أستاذ العلوم الاجتماعية عبدالرحمن الحاج أن “ما حصل هو تجريد للمفتي من صلاحياته مع بقاء منصبه”، مضيفاً أنه “من المحتمل أن يصدر نصاً صريحاً في هذا الأمر في وقت لاحق، بعدما أصبح منصب المفتي صورياً ولا عمل له بعد هذا المرسوم”.

وبالنسبة للحاج فإن ذلك سيترتب عليه أمور عدة، منها، “أولاً، تغيير في الهوية الدينية الغالبة في البلاد، وتحويلها إلى مجرد طائفة بين الطوائف من خلال المجلس العلمي الذي يضم كل المذاهب، والذي سيكون وجه الدولة الديني. وثانياً، تكريس الوجود الشيعي في المجال الديني من خلال استحواذ مقاعد المذاهب ونفوذهم في المجلس الذي بطبيعة الحال هو امتداد لنفوذهم السياسي، مما يعني إحكام السيطرة على المجال الديني من خلال مؤسسات الدولة الدينية، وسيشكل هذا أخطر خطوة مقبلة، إذ سيتحكم المجلس العلمي – كما يظهر في مهامه – في دور الدين في المجتمع، الدين كما تريد له المؤسسة السياسية أن يظهر”.

ويقول الحاج: “الخطة الاستراتيجية للتدخل الإيراني في سوريا عام 2013 كما سردها الجنرال المقتول أحمد همذاني – تقضي بأن يكون العمل على التحول الديني (التشييع) في البلاد بنداً أساسياً، وتم تأجيل تنفيذه – كما قال هو – بطلب من أمين عام حزب الله لأن الوضع في ظل الحرب غير ملائم لتنفيذ ذلك، ويبدو أن الوقت حان”.

ويتابع الحاج: “ثالثاً، سيؤدي القرار أيضاً إلى تعزيز الطائفية إذ سيدفع قرار تهميش المفتي إلى إنشاء مرجعية سنية بديلة تمثل “السنة”، ربما يقوم المجلس الإسلامي السوري بهذه المهمة، وسيكون هذا خطير جدا أيضاً؛ إذ بقدر ما سوف يُشعر ذلك الأكثرية السنية أن هويّتها محمية رمزياً، فإنها يمكن أن تكون تعزيزاً لتحولها إلى طائفة منافسة في مجتمع منقسم. رابعاً، إلى فقدان الثقة بالمؤسسة الدينية والذي يمكن أن يُنشئ سوقاً سوداء للفتوى تعزز اغتراب المجتمع عن الدولة وتخلق أنماطاً دينية جديدة على الأرجح متطرفة، وخصوصاً إذا ما أخذنا بالحسبان فقدان الأمل والدمار الهائل في سوريا بدون وجود أفق”.

ولطالما كانت المؤسسة الدينية في سوريا داعمة لحكم عائلة الأسد منذ انقلاب الرئيس السوري الراحي حافظ الأسد في العام 1970، يومها قاد الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا الذي دعمه البعثيون في العام 1963 حملة لتبارك المؤسسة الدينية الانقلاب. وطيلة 30 عاماً فترة حكم الأسد الأب تعززت العلاقة بين المؤسسة الدينية والنظام، الذي استطاع استقطاب الشيخ محمد رمضان البوطي، الذي كانت له مكانة علمية عالية، في سوريا والعالم الإسلامي.

ولم يختلف الامر كثيراً مع وصول الرئيس الحالي بشار الأسد إلى الحكم، وكان أحمد بدر الدين حسون، مفتي سوريا وأعلى سُلطة دينية في البلاد، واحداً من أكثر الشخصيات الدينية إثارةً للجدل طوال فترة ولايته، وتحديداً مع بداية الثورة في 2011.

حسون ابن مدينة حلب، كان قد عُيّن في العام 2002، مفتياً لحلب. وفي العام 2005، وبعد وفاة مفتي سوريا أحمد كفتارو بشهور، عيّنه الأسد مفتياً عاماً للجمهورية خلفاً لكفتارو. ومنذ ما قبل تعيينه مفتياً للجمهورية وقبل وصول السيد إلى منصب وزير الأوقاف كانت الخلافات بين الرجلين علنية”.

وسبق وظهر حسون في مواقف لافتة دعماً للأسد، إذ قال: “إلى دول أوروبا وكل المتآمرين، في حال الاعتداء على سوريا ولبنان فإن كل أبنائنا سيكونون استشهاديين على أرض أميركا وفرنسا وبريطانيا. أقول لكل أوروبا، أننا سنعد استشهاديين لهم الآن، وفي أميركا إن قصفت أميركا سوريا، فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم”.

وكان لحسون تصريحاً إشكالياً آخر قال فيه: “أقسم لكم بالله أن الرئيس حافظ الأسد مات ولم يملك سوى بيتاً في القرداحة وأتحدى العالم أن يثبتوا لي أن عنده بيت آخر، وأن بشار الأسد لا يملك شيئاً، وأنا أحكي عن قرب”.

عندما قتل نجل أحمد حسون اتهمت المعارضة النظام باغتياله، بينما اتهم النظام “مجموعات إرهابية” بالعملية، وخلال التشيع قال حسون “إن الذين يرتكبون هذه الأفعال لا يستهدفون أشخاصاً وإنما يستهدفون الوطن ويريدون لسوريا أن تركع أمام الصهاينة وأميركا”، مؤكداً “أنهم لن يصلوا إلى غايتهم وأنه حتى ولو لم يبق في سوريا إلا رجل واحد فإنه لن يتنازل عن فلسطين ولن يركع أمام أعداء الأمة ولن يكون جبانًا ولن يقتل الأبرياء”.

رصيف 22

————————-

====================

تحديث 23 تشرين الثاني 2021

—————————-

المفتي العام الأول بشار الأسد/ عمر قدور

بديناميكية مفقودة لدى هيئات المعارضة عموماً، اجتمع المجلس الإسلامي السوري وانتخب مفتياً عاماً، فقط بعد أربعة أيام من إلغاء بشار الأسد هذا المنصب وإيكال مهامه إلى “المجلس العلمي الفقهي”. الأكيد أنه لا وجود لاستحقاقات عاجلة لدى سُنّة سوريا تستدعي هذه السرعة، وانتهاز المجلس فرصة إلغاء المنصب للاستحواذ عليه قد يبدو نوعاً من الشطارة للوهلة الأولى، إلا أنه بقليل جداً من التفكير يجوز تأويله بوصفه قبولاً فيما مضى بوجود أحمد حسون “مفتي الأسد” مفتياً لسوريا، وضمن ما هو معروف عن المفتي السابق فالقبول به كأنه قبول ببشار الأسد كمفتٍ عام أول.

في التعبير الأخير لا نغادر ما يعرفه السوريون لجهة الألقاب التي ورثها الأسد الابن من أبيه، على شاكلة المعلم الأول والفلاح الأول والمحامي الأول..إلخ، وغايتها احتكار تمثيل كافة فئات المجتمع، مع التنويه بأن بشار الأسد فاق أباه “جرأة” في التعامل مع الدين فراح يحاضر في رجاله عن الإسلام القويم والصحيح. وتجرؤ بشار على الوعظ لا جديد فيه إلا في الظاهر، إذ من المعلوم أن رجال الدين هؤلاء يأتمرون بأمره، ولن يصدر المفتي الذي في الواجهة أية فتوى ذات وزن من دون الرجوع إلى المفتي الأكبر والأول.

مع إلغاء بشار منصب المفتي صوّب معارضون سهامهم تجاه التأثير الإيراني، فرأوا في القرار أيادٍ إيرانية تهدف إلى القضاء على السُنّة وهويتهم. من هذه الجهة أيضاً هناك اعتراف ضمني بشرعية سيطرة الأسد على “السلطة” الدينية، الاعتراف الذي يبدو مشروطاً فقط بالحفاظ على الهوية المذهبية، وكأن المشكلة مع إيران وتبشيرها الشيعي وليست مع استبداد الأسد وتبعاته على كافة المستويات. الإشارة إلى عَلَوية الأسد في هذه المناسبة أتت ملحقة بالشق الإيراني، لأن التركيز عليها منفردة يُفقد المعترضين مصداقيتهم فيما يتعلق بسكوتهم عن سيطرتها على المؤسسة السُنية أيام الأب ثم الابن.

المشكلة، كما صوّرها معارضون إسلاميون، هي في اعتداء على هوية مذهبية انطلاقاً من ضغينة مذهبية. نظرياً، يمكن حل المشكلة بتراجع المعتدي، بأن يصدر بشار قراراً بإعادة منصب المفتي، وفق مهامه التي استقرت لعقود سابقة، وهكذا لا يبقى من ذريعة لوجود مفتٍ على الضفة المقابلة سوى التنازع السياسي على المنصب، وبما أن التنازع سببه إلغاء المنصب ينبغي الكفّ عنه لصالح إعادة الوضع إلى ما كان عليه.

على صعيد متصل، لو لم يكن بشار علَوياً أو مرتهناً لإيران، لن يكون ثمة اعتداء مذهبي، والفكرة المبسطة القارّة في العقول هي أن رئيساً سُنياً لن يلغي المنصب، لتبقى الفكرة في وجود المنصب، لا في آليات عمله وعلاقته بالسلطة. استطراداً، سيبقى الفهم ذاته الذي يرى العيب في التطبيق، ليبقى الأصل خارج المساْلة، فرجال الدين التابعون للأسد هم “خونة” في أسوأ نعت و”مساكين” مغلوبون على أمرهم لمن يود إيجاد أعذار مخففة لهم، وفي كل الأحوال من دون المسّ بعلاقة السلطة بالدين وبالمؤسسة الدينية.

لو أن قرار المجلس الإسلامي تعيين مفتٍ أتى في ظروف مغايرة للانقسام الحالي لربما كان فيه دلالة مغايرة، أي لربما أمكن فهمه كمحاولة لانتزاع المؤسسة الدينية من هيمنة السلطة. لكنه حالياً صدر عن مؤسسة تعتبر نفسها ضمن مشروع سياسي معارض، وهي بناء على ذلك تعِدّ نفسها لاستلام السلطة “نظرياً على الأقل”، وهكذا يكون المفتي الجديد الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للسلطة التي هي الآن مع وقف التنفيذ لظروف خارجة عن إرادة أصحابها. بهذا المعنى لا وجود لتغيير يمس علاقة مؤسسة الإفتاء بالسلطة، فهي ستبقى ضمن مؤسسات الأخيرة رغم تنويه المجلس الإسلامي بموضوع الانتخاب من قبل علماء، إذ يمكن مجادلة المجلس بأن علماءه الذين انتخبوا الرفاعي بالإجماع لا يمثّلون الكفاءات الفقهية السورية، مثلما لا يمثلها نظراؤهم تحت سيطرة الأسد على حد سواء.

لا يفوت بعض إسلاميي المعارضة “على الأقل” وجود تجارب مشابهة لسلطات عربية، يرأسها سُني ووضع المؤسسات الإسلامية ليس أفضل من شبيهتها السورية لجهة الارتهان للسلطة. هنا أيضاً يضع الإسلاميون الملامة على السلطة الراهنة، السلطة التي تصطنع فقهاء السلطان على مقاسه، أو تروّض ما كان موجوداً من قبل ليلائم المقاس الجديد. ما يفتقر إليه هذا التحليل يتلخص بالمراهنة على إمكانية إقامة سلطة تكون المؤسسة الإسلامية جزءاً أساسياً منها، من دون أن تخضع لمزاج ومتطلبات الحاكم الإسلامي وفق التصور نفسه. إنه تصور نظري، وسيبقى نظرياً، لأن أية سلطة حاكمة ستسعى إلى تكييف المؤسسة الدينية وفق متطلباتها أو وفق رؤيتها الخاصة للإسلام مادامت المؤسسة الفقهية تابعة مباشرة أو مواربة للسلطان.

الحل الذي لا يقبل الإسلاميون بمجرد مناقشته هو تخليص المؤسسة الدينية نهائياً من هيمنة السلطة، فاستقلالية المؤسسة الدينية تعني تلقائياً استقلالية المستوى السياسي عن الدين، أي حيادية المؤسسات العامة إزاء الدين، وهم يطمحون إلى إقامة حكم إسلامي تنقلب فيه الأدوار ليهيمن الديني. التجارب الإسلامية المعاصرة لا تدعم هذه اليوتوبيا الدينية، هناك إيران كمثال على هيمنة السياسي ومصالحه في ولاية الفقيه، وتجربة طالبان الأولى مثال على فشل الإسلام السني حاكماً، ولم تقدّم طالبان في نسختها الثانية مؤشراً جوهرياً على الاستفادة من الدرس. ببساطة، لن يستفيد أحد من الدرس ليأتي بتطبيق أفضل للنظرية، فالعلة ليست أصلاً في التطبيق.

كان الخليفة عبدالملك بن مروان أول من أعلن الأمر عندما أتته الخلافة والقرآن في حجره، فرفعه قائلاً: هذا فراق بيننا. ويُروى أن عبدالملك كان متفقهاً، بل راوياً للحديث، وتُحسب له من بين فضائله صراحته تلك في استحالة الجمع بين السياسي والديني. أما “إسلاميونا” اليوم فغير مستعدين لهذا الفصل وتكييفه مع المجتمع المعاصر، وكذلك هو حال الحكام، لأن الفصل ينتزع الدين من مستثمريه على الجانبين. ليست المشكلة في “سلطان” جائر أو “رافضي”، فالإسلامي لا يقبل بفصل الدين عن السلطة، أو بالأحرى تحريره منها، ولو كان الثمن أن يستحوذ بشار الأسد على منصب المفتي العام الأول.

المدن

———————————–

القرآن السوريّ: مفتي الجمهورية الوجه الآخر لنظام الأسد/ كارمن كريم

قد يبدو ما حصل مجرد خطأ عوقب عليه المفتي إلا أن ما خلف الكواليس في سوريا هو دوماً أكبر من مجرد تفسير خاطئ للقرآن.

يشيطن نظام بشار الأسد كلّ من هاجر أو ترك سوريا، وكأن تخطي الحدود تقابله بشكل حتميّ الخيانة والتنكر للبلاد التي علّمت أبناءها “مجاناً”، فالخائن بالنسبة إلى “الشبيحة” هو من لم يتحمل ظلم الديكتاتور، ومن خرج بحثاً عن حياة كريمة، أو أراد مستقبلاً أفضل لأطفاله. لنظام الأسد قاموسه الخاص حيث للوطن تعريف مختلف عن سائر العالم.

عنصرية المفتي السوري

من غير المستغرب اتباع أذرع النظام طريقته في شيطنة اللاجئين، لكن ما لم يحسب النظام حسابه هو “الذكاء المحدود” لداعميه، فحماسة مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون في التشبيح ستجعله يفسر إحدى سور القرآن على أنها تتحدث عن سوريا بالتحديد.

في عزاء الفنان الراحل صباح فخري، أكد المفتي السوري بدر الدين حسون ذكر سوريا في القرآن الكريم وقال إن خريطة سوريا موجودة في سورة “والتين والزيتون” قائلاً: “لقد خلقنا الإنسان في هذه البلاد في أحسن تقويم، فإذا تركها رددناه أسفل سافلين”. في تصريح المفتي هجوم واضح على اللاجئين والذين تركوا سوريا وهو ما أكده بالفعل إذ قال: “ثم يكمل الله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذا الأرض فلهم أجر غير ممنون، أي الذين بقوا في سوريا”. لينهي تصريحه الحماسي بدعوة اللاجئين إلى العودة بحجة أنهم لن يجدوا من يصلي عليهم في مماتهم. عنصرية حسون لم تقتصر على اللاجئين من السوريين وحسب بل امتدت إلى الأمم الأخرى، إذ اعتبر من أن ولد في سوريا أكثر حظاً من سواه من جهة خلق الله له.

استنكر المجلس العلمي الفقهي في دمشق ما أورده حسون وقال في بيانٍ أصدره لاحقاً إن التفسير مغلوط ويصب في مصلحة وأهواء شخصية دون ذكر اسم حسون وهو ما يشي بعودة نزاع قديم بين رئيس وزارة الأوقاف محمد عبد الستار السيد والمفتي حسون.

النظام السوري يقطع إحدى أذرعه

أصدر لاحقاً رئيس النظام السوري بشار الأسد مرسوماً انتقلت بموجبه مهمات المفتي حسون إلى المجلس الفقهي الأعلى وكانت مهمات حسون متمثلة في تحديد مواعيد الأشهر القمرية والتماس الأهلّة وإعلان الأحكام الفقهية وإصدار الفتاوى، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، لتنتهي 17 عاماً من تولي حسون منصب مفتي الجمهورية العربية السورية بطرفة عين.

قد يبدو ما حصل مجرد خطأ عوقب عليه المفتي إلا أن ما خلف الكواليس في سوريا هو دوماً أكبر من مجرد تفسير خاطئ للقرآن. بدايةً، محاولة التأثير سياسياً في السوريين من خلال الإسلام ليس بالأمر الجديد، حافظ النظام السوري على هذه العلاقة على مدار عقود، وكانت الذراع الدينية المتمثلة بوزارة الأوقاف ومفتي الجمهورية هي الظهر الذي يلجأ إليه كلما اقتضت الحاجة شأنه شأن كلّ أذرعه الأخرى. والذراع بالنسبة إلى النظام إضافة الى دعمها قراراته وأساليبه القمعية فهي “المطبّلة” لوجوده، وعلى رغم هذه العلاقة القوية بين النظام ومطبليه، إلّا أن الأول قادرٌ على التخلي عن أيّ منها متى اقتضت الحاجة أو إذا اكتفى من وجودها، فالتخلص من المؤيدين لا يتعلق بارتكابهم أخطاء وحسب، إنما قد يقرر النظام ضرورة التخلص من كلّ الأذرع القوية في مرحلة ما لما تشكله من تهديد له، أو قد يكتفي منها ببساطة، فالنظام يعرف اللعبة الديكتاتورية جيداً، فلا مجال للمخاطرة بترك أي فراغ قد يملأه الإسلام السياسي مثلاً. وهكذا تمكن النظام من اللعب لسنوات على الخط الفاصل بين السياسة والإسلام، لكن واقع اليوم يبدو مختلفاً، بخاصة مع التأثير الإيراني في المجلس العلمي الفقهي والذي قد يفتح المجال لدخول الإسلام السياسي بشكل جديّ.

الدور الديني الإيراني

يثير إلغاء منصب مفتي الجمهورية أسئلة حول الدور الإيراني في سوريا، بخاصة الديني، لن تكتفي إيران بطبيعة الحال بدورها السياسي، وتقوية وجودها الديني يتطلب تعزيز قواها على أرض الواقع عبر إلغاء منصب مفتي الجمهورية وتوسيع تمثيلها في المجلس الفقهي الأعلى والذي يضم جنسيات سورية وغير سورية.  المتحدث الرسمي باسم المجلس الإسلامي السوري مطيع البطين صرح بأن وزير الأوقاف في حكومة النظام السوري يسمي من يشاء للعضوية في المجلس وأن المجلس يضم بالفعل جنسيات سورية وأجنبية “في إشارة للدور الإيراني”.

التأثير الديني لإيران موجود بالفعل منذ سنوات، سواء باتخاذ القرارات السياسية أو التمدد الاجتماعي والثقافي داخل البلاد، على سبيل المثال كانت وزارة الأوقاف سابقاً تتبع دولة السعودية في التماس هلال شهر رمضان، لكن وبعد التبدلات السياسية خلال السنوات الماضية باتت تنتظر إعلان إيران التماس الهلال لتسارع إلى إعلانه وكأنها هي التي التمسته بنفسها وهو ما ينطبق على قرارات النظام السياسية الذي يبدو ظاهرياً أنه من يمسك بزمام القرارات في البلاد.

حادثة حسون ما زالت تشكل سبقاً صحافياً بخاصة بعد تصريح الممثل السوري دريد لحام الذي كرر ما قاله حسون في إحدى مقابلاته بأن السوريين مذكورون في آية “والتين والزيتون”، لكن السؤال هنا لماذا كرر لحام العبارة ذاتها؟ ألم يقرأ ردود الفعل أو يسمع بتصريح المجلس العلمي الفقهي؟ أم أن كلّ ما في الأمر هو محاولة النظام التأثير في السوريين المتعبين من خلال شخصيات مؤثرة، فعلى رغم الفقر والحرب، سوريا مذكورة في القرآن، لذلك على السوريين الجائعين أن يفرحوا!

درج

———————————

مفتي سوريا والمحاصصة الطائفية المُقنعة/ رستم محمود

حادثة إلغاء رأس النظام السوري لمنصب “المفتي العام للجمهورية”، وردة فعل الجهاز المركزي للمعارضة السورية “السُنية”، بالمسارعة لإعلان إعادة تشكيل ذلك المنصب من جديد، وتعيين شخصية دينية على رأسها، كشفت بعدا مُستترا لتقاسم طائفي ما للسُلطة والحُكم في سوريا، كان جاريا حسب توازنات ما، طوال نصف قرن كامل مضى، لكن كان هناك حرص شديد من جميع المُنخرطين فيه على حجبه عن الكلام العام، حتى أنه كان واحدا من أكثر الخطوط الحمراء في البلاد طوال تلك الفترة، وبالنسبة لجميع المندمجين في تلك المحاصصة الطائفية.

كيف كشفت تلك الحادثة ما كان معروفا ومُقنعا طوال نصف قرن كاملٍ؟

خلال عشر سنوات كاملة مضت على الانتفاضة السورية، كانت أجسام المعارضة تسعى على الدوام لأن تُشكل هياكل بديلة لما كان للنظام السوري، من حكومة وعلم وجيش وتمثيل دبلوماسي، وحتى الفرق الرياضية والأهازيج والشعارات والاصطلاحات السياسية. كانت تفعل ذلك في محاولة لانتزاع الشرعيتين الرمزية والمادية من النظام، والحلول مكانه.

لكن حادثة إلغاء منصب المفتي العام حملت خاصتين مميزتين في ذلك الاتجاه، فمن جهة سارع المجلس الإسلامي السوري لإعلان إعادة تشكيل المنصب وانتخاب شخص “قائد” له، بعجلة فائقة، وهو ما لم يجر خلال المناسبات الأخرى. كذلك لم يُشكك بشرعية المنصب الذي ألغاه النظام، مثلما كان يفعل مع المناصب الأخرى، بل اعتبر إلغاء منصب المفتي مسا بـ”الهوية الإسلامية للسوريين”، أي أنه منصب ومؤسسة شبه مُقدسة، بالرغم من تبعيتها للنظام.

كشف ذلك واحدة من قواعد “اللعبة” السياسية السلطوية في البلاد، بين النظام السوري وشركائه الفعليين، وإن كانوا خلال السنوات الماضية قد انقسموا إلى فريقين، واحد داخل البلاد بقي على عهد المحاصصة التقليدية، وأخر صار “معارضاً”، وصار يسعى لامتلاك كُل شيء. لكن حينما كسر النظام السوري واحدة من قواعد المحاصصة الطائفية تلك، وإن مع الشريك الداخلي، حتى انتفض نظيره الخارجي للدفاع عنه.

فالمجلس الإسلامي السوري، الذي هو بمثابة دار الإفتاء والمجمع الفقهي بالنسبة للائتلاف السوري المعارض، إنما هو مُعبر فعلي عن وعي وانتظام سياسي سوري “سُني” تقليدي، كان حاضرا وموجودا وشريكا للسلطة السياسية الحاكمة للحياة العامة السورية طوال نصف قرن كامل مضى، والأهم أنه كان متوافقا مع النظام على ذلك التغليف للتوافقية والمحاصصة المُحكمة فيما بينهما.

فواحدة من أهم خصائص الحياة السياسية السورية منذ أوائل السبعينات، والتي بفضلها استقر المجال العام السوري فيما بعد، بعد عقد كامل من القلاقل، كانت تتمثل بتواطؤ مُحكم بين طرفين: واحد يمثله رأس النظام، حافظ الأسد، ومن بعد نجله، بشار الأسد، وبما يمثلونه من جيش وأجهزة أمنية وحزب البعث، مع نوع من الوعي الطائفي “العلوي”، يمتلك حسب هذه المحاصصة المجالين العسكري والسياسي. وشريك آخر “سُني”، يُسمح له بامتلاك الدولة وجزء وفيرا من السوق الداخلية وخيراته.

فطوال هذه الفترة، ومثلما كان لقادة الجيش والأجهزة الأمنية وأصحاب الرأي في الشأن السياسي السوري لونا طائفياً “علويا”، فإن مؤسسات الدولة السورية، من القضاء إلى التربية وليس انتهاء بالأوقاف ودار الإفتاء والعلوم الإنسانية في الجامعات، مرورا بالرموز والشعارات والأعياد الرسمية في البلاد، كانت “سُنية” تماما، إلى جانب الحصة الكُبرى من الجهاز الحكومي والإداري والنقابي والحزبي والاقتصادي.

كان الطرفان يملكان حذاقة كافية لإخفاء ذلك تماما. فالنظام كان يملك ترسانة مهولة الشعارات والاصطلاحات القومية و”العلمانية” و”المدنية”، التي تدعي ترفعا زائفاً عن أية طائفية تحاصصية، بالرغم من جذريتها في وعيه وسلوكه العام. أما شُركاؤه الآخرون، فقد كان يكفيهم الادعاء والترويج والقول بأنه هم “الإسلام”، وتاليا “الدين”، الأمر الذي كان يعني فعليا إلغاء طيف كامل من الطوائف والحساسيات السورية، التي تُشكل على الأقل نصف الشعب السوري. كذلك كان هذا الادعاء يفتح المجال واسعا لإمكانية الشراكة المُحكمة مع الجيش، الذي كان حاكما فعليا لسوريا منذ استقلالها عن فرنسا، وكان أصحاب هذا الوعي الطائفي “السُني”، بالذات من طبقة رجال الدين، يلهثون على الدوام لشراكة ما مع طبقة ضباط الجيش، القادرين وحدهم على حفظ مصالهم، وحسب قواعد ثابتة منذ ذلك الاستقلال، لكن الأمر تكرس فقط منذ أوائل السبعينات.

على الدوام كان يُمكن سماع مرويات وأحداث لا حصر لها في الحياة العامة السورية، عن جلسات وعلاقات وصداقات وأشكال شراكة وتنسيق بين أعضاء من طبقة رجال الدين “السُنة” هؤلاء، ومن بينهم الشيخ، أسامة الرفاعي، الذي انتخب “مفتيا عاما للجمهورية” من قِبل المجلس الإسلامي السوري “المعارض”، وبين قادة الأجهزة الأمنية وذوي القرار في رأس النظام السوري. حيث كانت تدور خلال تلك الأحداث مناقشة ضبط الشأن العام في البلاد، وعلى قاعدة المحاصصة غير المُعلنة تلك.

لكن، خلال السنة الأولى من انتفاضة الشعب السوري، أحس النظام السوري بنوع من “غدر” شركائه، الذين ركبوا موجة الانتفاضة، ونكثوا بكل عهد وشراكة سابقة بينهما، لكنه لم يمس فعليا بالأغلبية الواضحة منهم، لذكاء مستبطن منه، لمعرفته من جهة بهوادة ما قد يفعلونه بتوجهات الانتفاضة نفسها، ولإدراكه بإمكانية خلق توافق مستقبلي آخر غير مُعلن معهم في لحظة ما. لكن مع ذلك، بقي النظام محافظاً على أسس الشراكة التحاصصية السابقة، مع من بقي من أعضاء هذه الطبقة الشريكة.

خلال سنة الانتفاضة السورية الأولى نفسها، أعتقد شركاء النظام من طبقة رجال الدين هؤلاء، بإمكانية ضم السُلطتين العسكرية والسياسية إلى حصتهم في الشراكة، المتمثلة في الدولة والفضاء العام والعالم الرمزي لسوريا. لأنهم اعتبروا ذلك بمثابة انتقام من الشريك، الذي حاول خلال السنوات الأخيرة السابقة للانتفاضة، الاستيلاء على السوق الاقتصادية الداخلية، عبر طبقة من رجال الأعمال المُقربين منه، هذه السوق الاقتصادية التي كانوا يعتبرونها حصتهم وحصة رجال الأعمال المقربين منهم.

أثناء انتقالهم لدفة المعارضة، اعترضت طبقة رجال الدين هذه على كل شيء عسكري وسياسي في البلاد، أي على حصة الطرف الآخر من تلك الشراكة، لكنهم رفضوا على الدوام أي مس بهوية وشكل ومؤسسات الدولة السورية ودور وامتيازات النُخبة الدينية “السُنية” في البلاد، حصتهم.

ردة الفعل الانفعالية الغاضبة على إلغاء منصب المُفتي العام للبلاد من قِبل المعارضة “السُنية”، إنما هي الانعكاس والكشف المباشر لتلك المحاصصة الطائفية، لأن المعارضين اعتبروها حسما وتغيرا حقيقيا من قِبل النظام على ما كان ثابتا ومستقراً، وحافظ عليه النظام حتى أثناء الخلاف الشديد بينه وبين جزء من تلك الطبقة. ولا يهم هؤلاء الشُركاء “السُنة” سواء كان يشغل موقع المفتي العام “السُني” شخص مثل الشيخ، بدر الدين حسون، أو غيره، لأن الموقع هو مصدر السُلطة والامتياز لأبناء هذه الطبقة وهيمنتهم على فضاء البلاد، وشاغلوه ملتزمون بجوهره على الدوام، أيا كانت خطابيتهم السياسية الممالقة للسُلطة السياسية.

الحرة

————————–

الرمزية السياسية في الانقلاب على “حسون”/ رضوان زيادة

ربما كان إلغاء منصب المفتي في سوريا الذي يعود إلى عام 1918 وتشكيل ما سماه نظام الأسد “المجلس العلمي الفقهي” ربما كان نهاية تقنية لمنصب كتب نهايته بنفسه بسبب طبيعة الأشخاص الذين تقلدوا هذا المنصب من أحمد كفتارو إلى أحمد حسون، وربما كان الأخير الكارثة الحقيقية على هذا الموقع.

في البداية علينا التمييز هنا بين الموقع والشخص، بمعنى ربما يعطيك الموقع سلطة إدارية حقيقة لكن إذا افتقد الشخص الصفات المعنوية والثقافية والنزاهة فإنه يخسر تأثير هذا الموقع لا سيما إذا كان الموقع يعتمد في تأثيره بشكل كبير على التأثير المعنوي من مثل موقع المفتي. إذاً لا سلطة للمفتي على الناس وعلى السوريين بشكل خاص، سلطته الوحيدة هو تأثيره عليهم عبر احترام شخصه وموقعه وموقفه وآرائه، وهنا كان حسون ذليلاً وضيعاً بشكل لا يقاس بأي شخص في نظام الأسد فما بالك بموقع يحظى بمركزية دينية كبيرة مثل المفتي.

لقد سبق كفتارو حسون في الموقع الذي احتفظ به لعقود خلال حكم الأسد الأب وكان دائما مؤيدا داعما له منذ دعم الأسد له في معركة المفتي ضد حسن حبنكة الميداني، لكن كفتارو بنفس الوقت طور شخصية صوفية جعلته محبوبا من شريحة محدودة جداً من الدمشقيين وبقيت الشكوك دوما تثار على طريقته وشخصيته وتأثيره.

لكن عندما تسلم حسون الموقع انتقل به إلى مستوى الدرك الأسفل كما يقال عندما بدا شبيحا في دعمه لجرائم الأسد في القتل والتعذيب من الدرجة الأولى، لقد أصبح يزايد على قادة الأجهزة الأمنية في القتل والتعذيب وتبرير هذه الجرائم، تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي عباراته وكلماته التي كان يلبسها دوما عبارات دينية وكان السوريون يزدادون في مقته وكراهية شخصه لأنهم يرون الحقيقة بأم أعينهم، يرون أولادهم يُعذبون ويقتلون، ويرون الأمن يطلق النار على المتظاهرين السلميين، ويشهدون بأم أعينهم كيف يتعامل النظام معهم، ولا يريدون لأحد أو يسمحون لأحد -حتى ولو كان المفتي- أن يكذب ما عاشوه من تجارب شخصية وحقيقية، تصاعدت المأساة في اللجوء والهجرة والحصار والمعاناة اليومية مع الألم لكنه ازداد فجورا في عباراته في تشبيه جيش النظام بالصحابة، وفي تهديد اللاجئين السوريين وتكفيرهم، فازداد كره السوريين له ولموقعه ومنصبه وهو ما عنى بالحقيقة نهاية منصب المفتي كليا حتى ولو أنه بقي في موقعه حتى الأسبوع الماضي.

نطلق على ذلك في علم القيادة أن الموقع خسر تأثيره القيادي الذي يعتمد بالأصل على احترام الناس للشخص وتقبل تأثيرهم له، ولذلك كان نظام الأسد سعيدا بالدرك الذي وصل إليه حسون لأنه يسهل عليه عملية إنهاء المنصب كليا وإنهاء استقلال السلطة الدينية في سوريا عن نظام الأسد وإلحاقها بمنصب إداري هو وزير الأوقاف الذي هو في الحقيقة شخصية لا تختلف عن حسون في وضاعته وابتذاله، وهو جعل السوريين ينهون دور المفتي أو الوزير في حياتهم، ويجعل دور المؤسسة الدينية بحكم المنتهية كليا في الحياة العامة للسوريين بسبب الأشخاص الذين تقلدوا هذه المواقع وصفاتهم الشخصية.

سئل مرة أحد قضاة المحكمة الفيدرالية الأميركية لماذا يستمع الناس لكم ويطبقون قراراتكم رغم أنه لا شرطة لديكم؟ أجاب لأن الناس تحتاج إلى هذه المحكمة ودورها، ولأن الناس باتوا مقتنعين بأن نزاهة الأشخاص في هذه المحكمة هم فوق الشبهات، عكس هذا تماما حصل مع المؤسسة الدينية في سوريا، التي وقف كثير من شخصياتها مع الأسد في حربه ضد السوريين فلا عجب أن يشمت السوريون اليوم بحسون، ولو أنهم حزينون لأن الأسد نجح وبسهولة في تحطيم رمز ديني كان جزءا من حياتهم على مدى المئة عام الماضية.

————————-

إلغاء منصب المفتي ليس خطوة في طريق التشيع/ حسام جزماتي

أثار المرسوم التشريعي رقم 18، الذي أصدره بشار الأسد قبل أسبوع، والقاضي بتوسيع صلاحيات «المجلس العلمي الفقهي» في وزارة الأوقاف، والموحي ضمناً بإلغاء وظيفة المفتي العام؛ ردات فعل غاضبة في أوساط المعارضة، ذهب معظمها إلى أن القضاء على مؤسسة الإفتاء يصب في خانة محو الهوية السنّية المفترضة للبلاد، لصالح فتحها أمام رياح التشيّع التي ستهب من باب المجلس المتعدد الطوائف.

والحق أن سنوات ثلاثاً مضت على إصدار القانون 31، الناظم لعمل وزارة الأوقاف في دمشق، والمتضمن إنشاء المجلس، هي مدة كافية للحكم عليه فعلياً من دون اللجوء إلى التوقعات.

عضويات ونسب طائفية

حددت المادة 5 من القانون 18 عضوية المجلس بأربعين شخصاً؛ عشرة بحكم وظائفهم الرسمية، وخمسة وعشرين من «كبار العلماء في سوريا ممثلين عن المذاهب كافة»، وخمسٍ من «عالمات القرآن الكريم».

بداية يجب أن نوضح أن المذاهب المقصودة في القانون هي الإسلامية فقط، لأن المادة السادسة تنص على إضافة ممثلين عن الطوائف المسيحية عند «مناقشة المسائل المشتركة بين الأديان…»، وهو ما لم يحدث. فتشكّل المجلس من أربعين عضواً من الطوائف الإسلامية المتعددة في البلاد حصراً.

ورغم أن وزارة الأوقاف لم تعلن أسماء أعضاء مجلسها فإن الاستقصاء من مطّلعين ومن المصادر المفتوحة قاد إلى معرفة معظمهم وتحديد نسبهم الطائفية. فقد شكّل السنّة أغلبيته من ثلاثة مصادر؛ حملة المناصب الحكومية، وحصة سنّية من «كبار العلماء»، وأخيراً «عالمات القرآن الكريم»، وهي الصفة التي تطلقها الوزارة عادة على «القبيسيات» بما أن هذه التسمية غير رسمية.

عُرف من الأعضاء بحكم عملهم وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد، ومعاوناه اللذين صادف أن أحدهما امرأة قبيسية أيضاً هي سلمى عياش، والمفتي أحمد حسون الذي لم يشارك في أعمال المجلس بسبب المناكفة، ومحمد توفيق البوطي بوصفه رئيس اتحاد علماء بلاد الشام، وحسام الدين الفرفور بوصفه ممثلاً عن جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية. بالإضافة إلى القاضي الشرعي الأول بدمشق، وممثلَين اثنين عن كليتي الشريعة الرسميتين في دمشق وحلب، وممثل عن الأئمة الشباب أو ما كان يعرف باسم «الفريق الديني الشبابي». وهؤلاء جميعاً من الطائفة السنّية بحكم الوضعية التاريخية لوزارة الأوقاف المبنية على أكثرية السكان.

أما من «كبار العلماء» فقد عُرف من السنّة مفتي دمشق بشير عيد الباري (توفي في 2021) وأحد مُفتِي ريفِها محمد عدنان الأفيوني (قتل في 2020) ومحمد شريف الصواف ممثلاً لجماعة كفتارو، وآخرون. وعُرف من «عالمات القرآن» فاطمة قصباشي، القبيسية الحموية.

في حين دخل شيوخ الطوائف الأخرى المجلس من حصة «كبار العلماء» فقط. وهنا نرصد وجود عشرة مشايخ علويين، من أبرزهم غزال غزال مفتي منطقة اللاذقية. وهو يجمع بين انتمائه إلى سلالة رجال دين علويين معروفة وبين إفتائه على المذهب الجعفري من دون تشيّع واضح. في حين يتدرج الآخرون بين الصيغة التقليدية للشيخ الريفي العلوي في الساحل وبين الاعتماد على مدارس سنّية أو جعفرية حين الإفتاء. كما يضم المجلس شيوخ طوائف أخرى بحسب نسبتها من السكان. فبين أعضائه ثلاثة من الدروز، وممثل عن الطائفة الإسماعيلية. أما عن الشيعة فلم تثبت سوى عضوية واحدة فقط لعبد الله نظام، رئيس «الهيئة العلمائية لأتباع أهل البيت» في سوريا. أمّا سبب تداول اسمَي نبيل الحلباوي ومحمد علي المسكي فإن ذلك يرجع إلى رمزيتهما لدى الشيعة السوريين، إذ لم يذكر موقعاهما الرسميان شيئاً عن هذه العضوية ضمن مناصبهما أو نشاطاتهما.

منتجات المجلس العلمي الفقهي

حاله كحال المؤسسات الرسمية السورية، ولا سيما في السنوات الأخيرة، المجلس كسول وقليل الجدوى. إذ عقد اجتماعه الأول في تشرين الثاني 2019، بعد نحو عام من نشر قانون إنشائه. وقرر أن يجتمع كل ثلاثة أشهر في الوزارة، عدا مرة واحدة عقد فيها اجتماعه في «جامع السيدة ناعسة من جوار ضريح القائد الخالد المؤسس حافظ الأسد»، بدعوة من عضوه غسان حمدان، إمام وخطيب هذا الجامع.

خلال عامين من «العمل» أصدر المجلس عشر فتاوى يقدر على البت فيها شيخ متوسط في أسابيع. كحرمة تأجير الرحم، وبعض المسائل الطبية في الصيام والإفطار، كأحكام المرض والحمل والشيخوخة، وبطلان زواج التجربة، والحض على إخراج الزكاة، وضوابط طباعة المصاحف ونشرها. والملاحظ في هذه الفتاوى هو اعتمادها على المصادر السنّية للحديث فقط، كالبخاري ومسلم والمسانيد المعروفة، من دون أي إحالة إلىمصدر اثني عشري أو غيره.

وسوى ذلك فقد أناط المجلس بنفسه إثبات الأهلة شهرياً. وأصدر عدة بيانات عامة كذلك الذي نشره بالاشتراك مع اتحاد علماء بلاد الشام، يحيّيان «النصر الإلهي المؤزر الذي سطره رجال جيشنا العربي السوري ببطولاتهم وتضحياتهم» إثر سيطرة النظام على مدينة حلب. وعدة أوامر بإغلاق المساجد والتوقف عن أداء صلوات الجماعة في أثناء جائحة كورونا.

وأخيراً أصدر المجلس ما يسميه «مجلة إلكترونية». وهي، في الحقيقة، نشرة غير دورية ظهرت منها أربعة أعداد متفاوتة الحجم. فجاء الأول في أربع صفحات بعنوان «فقه الواقع». وفيه يوضح المجلس ريادته في العالم الإسلامي بضمّه طوائف عديدة. ويذكر أن من مهامه مكافحة التطرف والإرهاب، وبيان «شرف خدمة العلم»، وتنمية ثقافة الانتماء الوطني وسيادة القانون، والتصدي «للأفكار الوهابية والإخونجية»، والتعامل الأمثل مع مفرزات الحرب وآثارها، ومسؤولية المجتمع تجاه «أسر الشهداء والجرحى»، ومعالجة خطاب الكراهية على الإنترنت.

أما العدد الثاني فهو بحث بعنوان «المواطنة»، أعدّته فاطمة قصباشي في قرابة سبعين صفحة. تناولت فيه مفهوم المواطنة وجذورها ومقوماتها. واستندت إلى «صحيفة المدينة» التي أمضاها الرسول وإسقاطاتها على الواقع المعاصر. وتحدثت عن تحقيق المواطنة لمقاصد الشريعة، وأدلتها من الكتاب والسنّة، ودور المؤسسات الدينية في ترسيخ المواطنة. وأخيراً ختمت بمبحث عن «المواطنة في فكر ومنهج السيد الرئيس بشار الأسد». وهو ما ستتابعه في العدد الثالث من «المجلة»، الذي صدر بعنوان مبهم هو «المسابقة الفكرية التثقيفية». ومن دون أن يوضح المجلس سياق هذه المسابقة فإنه يتيح لقصباشي تدوين الإجابات المثالية عن أسئلتها العشرين التي تحوي جميعاً عبارة «السيد الرئيس». كما في أسئلة: «كيف أضاء السيد الرئيس بشار الأسد على دور الانفتاح العقلي في فهم الدين؟»، أو «كيف حدد السيد الرئيس أسس فقه الواقع، وما هي؟»، وصولاً إلى «ما هي رؤية السيد الرئيس الذي قامت به المؤسسة الدينية في مواجهة التطرف والتكفير؟».

وجاء العدد الرابع بشكل ورقة محايدة طائفياً كتبها الشيخ العلوي راجي ناصر عن «مفهوم المال العام وحرمته»، متخذاً من الإمام علي والخليفة عمر «أنموذجاً وقدوة» على السواء.

لعل في الاستعراض السابق لتركيبة المجلس وعمله ما يشير بوضوح إلى أصابع بشار الأسد وهي تمزج بين الركاكة والارتجال والتحديث على طريقة «النظام المنضم» لشيوخ المذاهب. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى المجلس بوصفه مؤسسة بيروقراطية هرمة لن تضيف إلى الخراب الحاصل في البلد ضراً ولا نفعاً. وهكذا يبدو إلغاء منصب المفتي خطوة في طريق تغول النظام على الوسط الديني بدواعي المأسسة والعمل الجماعي، وبدوافع علمانية قشرية.

تلفزيون سورية

————————–

المفتي القادم/ محمد حبش

لا يوجد في تاريخ الفتوى أشأم من فتوى “التين والزيتون”، حيث قدّمَ المفتي الأخير قراءته للقرآن الكريم، في قَسَم الله تعالى بـ {التين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين}، بلغةٍ “الجبهة الوطنية التقدمية”، فقال: “إنّ الناس خُلقوا في سوريا في أحسن تقويم (في المقاومة والممانعة) أما أولئك الذين خرجوا من سوريا (لاجئين ونازحين) فقد رددناهم أسفل سافلين، ولن يجدوا من يصلّي عليهم، أليس الله بأحكم الحاكمين؟”!!

ستُكتب هذه الفتوى في التاريخ كواحدة من أسوا أشكال التزلّف والتقرّب من السلطة الغاشمة التي مارست تهجير نصف السكان من بيوتهم، تحت عناوين “المقاومة والممانعة ومواجهة المؤامرة الكونية”، وفي سبيل تبرير الفشل والجريمة، يتمّ تأويل القرآن الكريم بلغةِ الشماتة والتشفي والانتقام من الشعب الثائر، في خدمة الاستبداد ومشروعه المتوحش لتهجير الشعب السوري.

في لحظةٍ صاخبة طالب فيها الجميع بمحاسبة المفتي العاثر؛ قام النظام بإلغاء المنصب كله، وإنهاء خمسمئة عام من التقاليد الدينية في ولاية الشام (سورية حاليًا)، وتمّ تحويل صلاحياته إلى “المجلس الفقهي” الذي تأسس عام 2018، وتم تحديد أفراده وصلاحياته بنحو أربعين شخصًا، من المذاهب المختلفة، يتم تعيينهم بالكامل من قبل السلطة!!

كان يمكن القول إن هذا التحوّل يُعدّ تطورًا نحو العمل الجماعي، وتقليلًا من الفردية والأخطاء والشخصانية، فرأي الجماعة خيرٌ من رأي الفرد، والتحوّل نحو الديمقراطية يقتضي استبدال الأشخاص بالمجالس، ولكن هذه الأوهام الديمقراطية الموعودة تم تدميرها بالكامل، بالتصريح الحكومي الرسمي الذي نقلته صحيفة (الثورة) الحكومية الرسمية، في عددها الصادر 20/11/2019، وفيه أن هذا المجلس قادم ليسحق “فكر أعداء الأمّة، من الصهاينة والمتطرفين والتكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين والوهابية…. وكذلك الذين يعترضون على صلاحية الإسلام لكلّ زمان ومكان”!!

ولا نحتاج إلى أي تكلّف لندرك أن هذا المجلس مصممٌ ليستهدف كل معارض للنظام الحاكم، وأنه جاهز لمحاكمة نصف الشعب السوري، وأنه يحمل في نص تأسيسه مشروعًا قميئًا في تأييد السلطة الغاشمة وتبرير سلوكياتها المدمرة تجاه الناس.

فهل تحتاج سورية بالفعل إلى مجلس فقهي شرعي، مهمّته قتال الوهابية والسلفية والإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه إثبات صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟!

في الحقيقة، إن العمل الجماعي في البحث العلمي هو أوضح صورة من صور نجاح الحضارة الحديثة، ويمكننا أن نقيس تطور الأمم بمدى فعالية مراكز أبحاثها، ولكننا نكفر بعقولنا، إذا افترضنا أن مجالس كهذه تمثل مراكز أبحاث، حيث تقتصر مهمتها في توفير البطش الديني الحازم ضد كل أشكال المعارضة السياسية أو الدينية، وتكريس لغة الجيزوليت والهيجونوت المدمّرة التي طبعت العصور الوسطى بالدماء، نتيجة الصراع بين المفكرين الأحرار وبين السلطات الكنسية المتغولة على الناس.

المجلس الجديد لا يشبه منصب المفتي في شيء، فقد كان منصب المفتي شرفيًا رمزيًا، بلا مخالب ولا أظافر، ولكنه اليوم مجلس حقيقي يمتلك سلطات قانونية مرعبة، وإذا مضى في تحقيق أهدافه، كما صرّح بها، فنحن ذاهبون -بكل تأكيد- إلى محاكمات دينية لاهوتية على أساس الولاء والبراء، تستخدم سطور الدين وناره وسعيره في التخلص من المخالفين، وستقوم إلى جانب محكمة أمن الدولة ومحكمة الإرهاب محكمة أمن الدين!

قناعتي أن كل جهد تبذله الدولة في تقنين الفتوى وفرض شروطها وقيودها هو تغول على الحريات، وخروج بالدين من ساحته في السلام الداخلي وطمأنينة الروح إلى فضاء آخر، يكون فيه الدين سلطانًا مسلطًا على رقاب الناس يُحصي عليهم كلماتهم وهمساتهم ومشاعرهم وأفكارهم، ثم يزجهم في محاكمات مظلمة، ينتقم بها من خصومه تحت عنوان ضبط الفتوى ومنع الفوضى.

الفتوى جهد معرفي مناقض بالكامل لثقافة الجبر، وعلينا أن نفرق بين القضاء والفتوى، فالقضاء هو شأن حكومي خالص تقوم به الدولة لتنظيم مقاطع الحقوق بين الأفراد، في نصوص حاسمة وصارمة وواضحة لا تحتمل اللبس ولا التأويل، بينما تكون الفتوى جهدًا يقوم به الفقهاء لتفسير النص الديني الذي نزل حمّال أوجه متعدد التأويلات، حيث يقوم كلّ فقيهٍ بإبداء رأيه، ولا يفرض أحد على أحد رأيًا، ولا يلزم أحد أحدًا بما يعتقده ويراه، وهي حقيقة بيّنها القرآن الكريم بالنصّ المبين، في حقّ الرسول الكريم نفسه، حين قال: {فذكّرْ إنّما أنتَ مُذكّر، لستَ عليهم بمصيطر}، و{إنْ عليكَ إلا البلاغ}، و{ما أرسلناك عليهم وكيلًا}، و{ما أرسلناك عليهم حفيظًا}، و{ما أنت عليهم بجبّار}.. في نحو أربعين آية أخرى تؤكد كلها أن التفسير الديني متاح للجميع، وأن القانون الإلهي في التعامل مع الاجتهاد ليس البطش بقوة الدولة، ولا الجبر بسيف السلطان، وإنما تفاعل الفكر في الإقناع والبرهان، وفق القاعدة القرآنية: {فأمّا الزّبدُ فيذهبُ جفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض}.

الفتوى شأن الناس لا شأن الحكومات، شأن البرهان لا شأن السيف، شأن الفقيه لا شأن القاضي، ولعل أسوا بدعة في الإسلام هي المناصب الكهنوتية التراتبية التي لم يعرفها السلف الصالح، في كثير ولا قليل. ولكن هل المطلوب أن يغرق الناس في فوضى الفتاوى؟ وكيف يمكن أن يستقيم مجتمع بدون قواعد ثابتة؟ في الواقع، لا بدّ للناس من قانون دقيق يحكم أمورهم ويُنصف حقوقهم، ويتم إعداد القانون في كل دول العالم بما يحقق مصالح الناس، بعيدًا عن توجهاتهم الفكرية والاعتقادية والمعرفية.

الفتوى شأن الفقهاء، والقضاء شأن الدولة؛ والفتوى تتعدد، والقضاء لا يتعدد؛ والفتوى غير ملزمة، والقضاء ملزم؛ والفتوى تمثل صاحبها والقضاء يمثل الدولة؛ والفتوى تتحدث في العبادات والعقائد، والقضاء يتحدث عن الحقوق؛ والفتوى تتناول شؤون الآخرة أما القضاء فيتناول شؤون الدنيا، وليس من شأن القانون أن يحدد الإيمان والكفر والهرطقة والزندقة والصواب والخطأ والجنة والنار، هذه مسائل لاهوتية بُنيت على الجدل، و{لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا}، و{لو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناسَ أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}، وإنّ كلّ محاولة لتنظيم فكر الناس واجتهادهم، وإرغامهم على تأويل واحد وتصور واحد ووصفه بأنه أمر الله وقراره وحكمه، هي ممارسة قمع وقهر ضد الحرية وضد حقوق الإنسان.

———————–

زوبعة المفتي والوضعيّة السورية/ غسان المفلح

قرر بشار الأسد فجأة إلغاء منصب المفتي العام للجمهورية، ثم أسند وظيفته للمجلس العلمي الفقهي، الذي أسسه سابقاً بمرسوم أيضاً. اختلفت القراءات حول هذا القرار. ما أريد التعرّض له هنا هو أنّ الأسد والمجلس الإسلامي السوري الذي يحسب على المعارضة، والذي تأسس بعد الثورة السورية، اعتبرا أنّ السنة طائفة، الأول من خلال المجلس العلمي الفقهي، والثاني من خلال اعتبار منصب المفتي ممثلاً لهوية السورية الأكثرية الدينية. بالتالي من الطبيعي جداً عندما تتعامل على هذا النحو أن تتساوى الطوائف في تقرير مستقبل البلد. لا يهم سواء كانت أكثرية أم أقلية.

نحن أمام فهم طائفي عقيم. هذا التلاقي الذي ظهر بعد هذه الزوبعة الأسدية، لم يلتفت له أحد. كان جلّ الاهتمام على أنها خطوة لمصلحة إيران. خطوة لإنهاء مرجعية الأكثرية السنية في سوريا على مستوى الدولة، مما يشير بالنسبة لهم إلى تغيير هوية سوريا، باتجاه طائفي إيراني معاً.

في تاريخ سوريا الأسد الإفتائي مر مفتيان فقط، خلال 51 عاماً. الأول أحمد كفتارو، توفي عام 2004، وكان في منصبه منذ أن عينته سلطة الانقلاب البعثي كمفتٍ عام لسوريا عام 1964. بقي في هذا الموقع حتى وفاته، ثم أتى بعده المفتي المقال أحمد بدر حسون. كفتارو ساند الأسد التصحيحي الانقلابي 1970 حتى وفاته. الثاني كان أكثر شراهة للتماهي مع السلطة الأسدية، بل يمكننا أن نطلق عليه بجدارة لقب “أحمد حسون مفتي البراميل”، أو المفتي البراميلي. حيث كان يساند تلك البراميل المتفجرة التي كانت تلقيها طائرات الأسد على السوريين. تركت له سلطة الأسد الابن الحرية في التفنن الديني لدعمها في الشارع السني الموالي. بقي يتحرك في هذه المساحة خلال ستة عشر عاماً من توليه هذا الموقع.

سؤالي الآن لجماعة المجلس الإسلامي السوري، إذا كان موقع المفتي مرجعكم ومرجع ما ترونه أكثرية طائفية في سوريا، فعلام وجودكم حتى تقوموا بكل هذه الزوبعة غير المدروسة أو المدروسة بتوجيه الأنظار نحو إيران؟ هل تحتاج إيران لإلغاء موقع المفتي كي تتمدد داخل سوريا؟ أم أن القرار جزء من آلية عمل الأسدية في إنتاج وإعادة إنتاج سلطته الطائفية؟ من جهة أخرى، أليس المفتي هذا تعينه سلطة سياسية مخابراتية؟ إذاً هو أيضاً في حالتنا السورية منصب سياسي مثله كمثل وزير الأوقاف. هل هنالك منصب سياسي أو غير سياسي في سوريا، لا ينظر إليه النظام الأسدي إلا بوصفه خادماً له وليس للشعب السوري؟ ماذا استفادت “طائفتكم السنية” من هذا الموقع منذ إحداثه وحتى إلغائه الآن؟

إن إثارة هذه الزوبعة تعبر عن فهم طائفي للدولة والمجتمع، بوعي أم بدونه. المفتي في دولة مثل سوريا يجب ألا يكون في واجهة الحدث السياسي من جهة، ولا يعينه الأسد من جهة أخرى. إضافة إلى أن ذلك لا يعني إلغاء ظاهرة الفتوى. الأسد لا يعينه بوصفه رجل دين وبحر علوم، بل يعينه بوصفه خادماً لسلطته، كحال أي مسؤول في هذه الدولة. كان الأجدى بكم أن تبعدوا الدين عن السياسة كلياً في ردكم على خطوة الأسد هذه، لا أن تعتبروا حسون ممثلاً لهوية سوريا، من جهة أخرى، إذا كان قتل مليون وتشريد 12 مليون سوري جلّهم من السنة، لم يفتح عيونكم حول حقيقة ما يجري، ليس لأنهم سنة، بل لأنّهم جزء من ثورة السوريين لأجل الحرية والكرامة فاقتلعهم من ديارهم بعدما دمرها وبإشراف دولي. لو كانت الطائفية والأديان ليست في صميم عمل الأسدية، لما أثار هذا القرار هذه الزوبعة. إضافة إلى محاولة إيهام الناس أن الأسد لم يعد صاحب قرار، بل القرار لإيران، لأن إيران تحكمها شيعية سياسية تماماً، كالسنية السياسية التي تحاولون تمثيلها، على أساس أن الأسدية كانت مختلفة قبل دخول إيران لسوريا، أو حتى قبل مجيء الخمينية نفسها، التي ألمح المفكر السوري الراحل إلياس مرقص حين مجيئها عام 1979 إلى أن تاريخاً من الدم بدأ في المنطقة.

هكذا الطائفية والدينية هي جزء جوهري في عمل نظام الأسد منذ عام 1967. يجب إبعاد هذا الدين وكل الأديان عن السياسة حفاظاً عليها بالدرجة الأولى. السنة والجماعة يحتاجون دولة قانون ومؤسسات وحقوق إنسان تحميهم. عندما تحولونهم إلى طائفة، من الضروري أن تتساوى الطوائف في تقرير مصير البلد، سواء كانت أكثرية أم أقلية.

بعد كل ما مرت به البلد لم يتغير في تفكيركم ما يدعو لعمل سياسي حقوقي ما فوق ديني وما فوق طائفي.

من جهة أخرى، لماذا الإصرار على أنكم تحملون تمثيل السنة في سوريا؟ من المفترض، حتى لو كنتم مجلساً إسلامياً كونكم تحسبون أنفسكم على المعارضة، بالضرورة يجب أن تكونوا جزءاً من تمثيل كل السوريين بمعزل عن دينهم وطائفتهم وقوميتهم.

يجب أن تحسموا أموركم بإبعاد الإسلام كلياً عن السياسة، غير ذلك أنتم تخدمون الأسد. هل يوجد رجل دين من كل الأديان والطوائف لا يعينه الأسد؟ كلهم خدم لسلطته. والمفتي أي مفتٍ ليس استثناء.

————————-

ما الأصداء في الشمال السوري بعد انتخاب الرفاعي “مفتياً عاماً للجمهورية”؟

لاقت خطوة انتخاب الشيخ أسامة الرفاعي “مفتياً عاماً لسورية” أصداءً إيجابية في الشمال السوري.

وفي وقت اعتبرها أكاديميون تحدثوا لـ”السورية.نت” “قراراً صائباً” أيدهم بذلك نشطاء إعلاميين.

وقبل أيام كان “المجلس الإسلامي السوري” قد أعلن انتخاب الرفاعي “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”، وذلك بعد أيام من مرسوم أصدره رأس النظام السوري، بشار الأسد.

وكان مرسوم الأسد قد أعطى صلاحيات المفتي العام لسورية إلى “المجلس العلمي الفقهي”، والذي شكّله بموجب مرسوم في عام 2018.

وأثارت هذه الخطوة الكثير من التساؤلات عن الهدف الذي يريده نظام الأسد من إلغاء منصب المفتي، وعما إذا كان هناك أي تداعيات مستقبلية على الهوية الدينية للبلاد.

“مؤسسات المعارضة ترحّب”

في اليومين الماضيين رحبّت مؤسسات المعارضة السورية والفصائل العسكرية التابعة لها بالخطوة التي أقدم عليها “المجلس الإسلامي السوري”.

ومن بين المؤسسات “الحكومة السورية المؤقتة” و”الائتلاف الوطني السوري”، أما الفصائل فهي “غرفة القيادة الموحدة – عزم”، “الجبهة السورية للتحرير”، والتي يتركز نشاطها العسكري في مناطق ريف حلب الشمالي.

في المقابل لم يصدر أي تعليق أو موقف من جانب “هيئة تحرير الشام”، والتي تعتبر الطرف الأبرز الذي يسيطر على محافظة إدلب في شمال غربي البلاد.

واعتبرت “الحكومة المؤقتة” في بيان لها أن خطوة إلغاء منصب المفتي من قبل النظام “جزء من الاستهداف الممنهج للأكثرية السنية والتي تعبر عن هوية سورية الحضارية”.

وأضافت: “نثمن ونبارك الخطوة التي اتخذها المجلس الإسلامي السوري، ونؤكد على أهمية هذه الخطوة ودلالتها الرمزية”.

من جهته أبدى القيادي في “الجبهة السورية للتحرير”، مصطفى سيجري عبر “تويتر” ترحيباً بانتخاب الرفاعي، وإلى جانبه تفاعل قادة عسكريون آخرون ضمن ذات الموقف، معظمهم في مناطق ريف حلب الشمالي.

“جاءت متأخرة”

في غضون ذلك يقول الدكتور أحمد الطويل، عميد كليتي الإعلام والعلوم السياسية في “جامعة حلب في المناطق المحررة” إن رد المجلس الإسلامي بانتخاب الرفاعي “لم يتأخر”.

وأبدى الطويل في حديث لـ”السورية.نت” تأييده لهذه الخطوة، كون الشيخ الرفاعي “يتمتع بمؤهلات علمية وأخلاقية وثورية، بينما المجلس الإسلامي يعتبر المرجعية الممثلة للعلم والعلماء”.

من جانبه اعتبر الدكتور رياض وتّار، وهو نائب رئيس جامعة الشمال الخاصة في إدلب أن “إلغاء منصب المفتي العام، يدل على حالة تخبّط وفقدان التوازن لدى النظام داخلياً وخارجياً”.

ويقول وتار لـ”السورية.نت”: “قرار تعيين الشيخ الرفاعي مفتياً عاماً بديلاً عن مفتي النظام هو بلا شك قرار صائب ينطلق مما لهذا المنصب من أهمية ومكانة دينية عند المسلمين كافّة”.

وبينما يؤيد محمد فاتح علولو وهو مدير مدرسة في إدلب خطوة انتخاب الرفاعي في منصب المفتي العام، يشير الناشط الإعلامي، عبد الكريم العمر إلى أنها خطوة صحيحة لكنها جاءت متأخرة.

وأعرب العمر خلال حديثه لـ”السورية.نت”، أن “تحذو المعارضة السورية، على خطى المجلس الإسلامي السوري، بأن تشكل نوعاً من التوافق في تشكيل جبهة أو مجلس رئاسي أو كتلة وطنية تكون مرآة للسوريين وواجهتهم السياسية والتفاوضية والثورية أمام الناس وأمام العالم”.

———————-

بيانات لـ”الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” وهيئات 3 دول عربية عن “مفتي سورية

أصدر “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، بياناً أعرب فيه عن “أحر التهاني وأخلص التمنيات” بانتخاب “المجلس الإسلامي السوري” للشيخ أسامة الرفاعي، ليكون “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”.

وقبل ذلك أصدرت “هيئة علماء المسلمين” في لبنان، و”هيئة علماء فلسطين في الخارج” و”هيئة علماء اليمن” بياناتٍ مماثلة.

وقال بيان “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الذي يشغل الدكتور علي القره داغي منصب أمينه العام، إن انتخاب أسامة الرفاعي “الخطوة (التي) تعتبر الرد العملي على الإلغاء الرسمي لمنصب(مفتي سوريا)”، معتبراً أن وجود الشيخ الرفاعي في هذا المنصب “سيعزز بلا شك العلاقة المتميزة التي تربط الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالعلماء الأجلاء، والشعب العظيم في سوريا الحرة الأبية”.

وكانت “هيئة علماء المسلمين” في لبنان أصدرت بياناً، أمس الأحد، قالت فيه إن “هيئة علماء المسلمين في لبنان تبارك للشعب السوري عامة ولعلمائه خاصة بانتخاب فضيلة العلّامة الشيخ أسامة عبد الكريم الرفاعي مفتياً عاماً لسورية”.

واعتبرت الهيئة أن انتخاب الرفاعي “خطوة لتحرير موقع الإفتاء”.

كما رحبت “هيئة علماء فلسطين في الخارج” بانتخاب الرفاعي، واعتبرت أن “هذا الانتخاب يعيد مقام الإفتاء إلى مكانته الحقيقية بالانتخاب، بعيداً عن التعيين والتحكم السياسي، وهي خطوة مباركة نعلن في هيئة علماء فلسطين عن دعمها وتأييدها”.

وجاء في البيان “تبارك هيئة علماء فلسطين لفضيلة العلامة أسامة عبد الكريم الرفاعي ثقة إخوانه العلماء، وهي ثقة في محلّها ومكانها، وتعبر عن التفاف العلماء حول أهل الصدق والمواقف من العلماء”.

بدوره بارك الناطق الرسمي باسم “هيئة علماء اليمن”، محمد ناصر الحزمي الادريسي، الخطوة التي اتخذها “المجلس الإسلامي السوري”.

وقال الإدريسي، عبر حسابه في “تويتر”، أمس الأحد، “نهني الشعب السوري باختيار الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً لسورية، وهذه خطوة مهمة تعيد لدار الفتوى مكانتها التي كانت في الصدارة عبر التأريخ الإسلامي، ولما عرف عن الشيخ اسامة من علم وتقوى”.

    نهني الشعب السوري

    باختيار الشيخ اسامة الرفاعي

    مفتياً لسوريا ،وهذه خطوة مهمة تعيد لدار الفتوى مكانتها التي كانت في الصدارة عبر التأريخ الإسلامي ،ولما عرف عن الشيخ اسامة من علم وتقوى ،فنسأل الله أن يسدده ويوفقه في نفع شعب سوريا والأمة .

    — النائب محمد ناصر الحزمي الادريسي (@Mp_M_Alhazmi) November 21, 2021

وكان “المجلس الإسلامي السوري” و”مجلس الإفتاء” قررا انتخاب الشيخ الرفاعي “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”.

وجاء ذلك في بيان مصور نشره المجلس، مساء السبت الماضي، وقال فيه إن “الإفتاء له مكانة رمزية على تعاقب العصور والدول، ولم يجرؤ على المساس بها أحد، إلا أن تحكمت هذه العصابة الطائفية في سورية ففرغته من مضمونه وجعلته تعييناً بعد أن كان انتخاباً من كبار العلماء”.

وتطرق البيان إلى المرسوم الأخير الذي أصدره رأس النظام، بشار الأسد بإلغاء منصب المفتي في سورية، الذي كان يرأسه أحمد حسون منذ 2005.

ورحب الرئيس السابق لـ”لائتلاف الوطني” ورئيس “حركة سورية الأم”، أحمد معاذ الخطيب، بانتخاب الرفاعي مفتياً لسورية.

وأعرب في بيان صادر عن الحركة، أمس الأحد، عن أمله في “تعزيز هذا الانتخاب قدرة شعبنا على بناء مؤسساته وإنتاج مرجعياته، ومقاومة التغيير القسري الذي يمارسه النظام، مترافقاً مع تغيير سكاني واجتماعي عميق يحطم كل بنى الشعب السوري ومكامن قوته”.

كما قال “الائتلاف الوطني” في بيان له، إن “انتخاب المجلس الإسلامي السوري للشيخ العلامة أسامة عبد الكريم الرفاعي، مفتياً عاماً للجمهورية؛ يعيد لهذا المنصب شرعيته وثقله وأهميته وفاعليته، التي كانت قبل استيلاء النظام المجرم على الحكم في سورية”.

وولد الرفاعي في دمشق عام 1944، وتخرج في مدارس دمشق وثانوياتها.

بعد ذلك التحق بجامعة دمشق ودرس اللغة العربية وعلومها في كلية الآداب قسم اللغة العربية، وتخرج منها عام 1971.

وهو خطيب مسجد عبد الكريم الرفاعي (نسبة لأبيه) بمنطقة كفر سوسة بدمشق سابقاً، والذي كان المحطة الأخيرة له في البلاد قبل مغادرته إلى تركيا، متخذاً موقفاً معارضاً لنظام الأسد.

————————–

ثمانية مفتين لسورية خلال مئة عام..تعرف عليهم

بعد قرابة 100 عام من إنشاء منصب الإفتاء في سورية، أصدر رئيس النظام، بشار الأسد، الأسبوع الماضي، قراراً ألغى بموجبه منصب “مفتي الجمهورية العربية السورية”، ونقل صلاحياته إلى “المجلس العلمي الفقهي” الذي أُسس عام 2018.

وهذه المرة الأولى بتاريخ سورية، منذ انتهاء الحكم العثماني، التي يتم فيها إلغاء منصب “المفتي” رسمياً من قبل الدولة.

يعرض فريق “السورية.نت” جانباً من سيرة حياة ثمانية مفتين تعاقبوا على منصب الإفتاء خلال القرن الماضي وحتى يومنا.

محمد أبو الخير عابدين

ولد الشيخ محمد أبو الخير عابدين في دمشق عام 1853، وتعلم النحو والصرف والفقه على يد عدد من العلماء، أبرزهم محمد الطنطاوي، و محمود الحمزاوي مفتي دمشق في عهد العثمانيين.

وبقي عابدين في أمانة فتوى دمشق مدة 35 عاماً، ثم تولى القضاء في دوما وبعلبك ثم درعا، قبل أن يعين في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في 1903 مفتياً عاماً للشام.

وبعد دخول الملك فيصل إلى الشام وسقوط الحكم العثماني، أمر بإعفاء الشيخ عابدين من منصب الإفتاء، قبل أن يعين عضواً في محكمة التمييز للنقض والإبرام، وبقي كذلك حتى وفاته في 1925.

الشيخ محمد عطا الله الكسم

بعد إقالة الملك فيصل للشيخ عابدين من مصب المفتي، عُيّن الشيخ محمد عطا الله الكسم، مفتياً عاماً لـ”الشام”، وهو من مواليد دمشق 1844، وأصل عائلته يرجع إلى مدينة حمص، حسب “رابطة علماء الشام“.

وتعلم الشيخ عطا على يد كبار العلماء في عصره، أبرزهم محمد الطنطاوي، وأحمد الحلبي، وسليم العطار، وعلم مختلف العلوم في عدد من مساجد دمشق مثل الجامع الأموي وجامع يلبغا، وجامع نور الدين الشهيد، كما درس في عدة مدارس مثل المدرسة السميساطية ومكتب عنبر.

وبعد دخول الملك فيصل إلى سورية، عين محمد عطا مفتياً عاماً للشام في 1918، وبقي في المنصب حتى وفاته في 1938.

وخلال فترة تولي محمد عطا لمنصب المفتي، تعاقب على سورية مراحل مختلفة، تنقلت خلالها بين “المملكة السورية” و”دولة دمشق” وبعدها الدولة السورية قبل انتخاب محمد علي العابد رئيساً في 1932، وتسمية الجمهورية العربية السورية.

 محمد شكري الأسطواني

ولد الشيخ محمد شكري بن راغب الأسطواني في دمشق 1873، وكان من فقهاء المذهب الحنفي فيها، وتتلمذ على يد عدد من العلماء أبرزهم، بكري العطار ومحمد بن حسن البيطار.

وعين الأسطواني أستاذاً في المدرسة الجديدة بدمشق، قبل أن يلازم دار إفتاء الشام، ويعين أمين فتوى في دمشق في 1918.

وبعد وفاة محمد عطا الكسم في 1938، عين الأسطواني مفتياً بالوكالة، وبقي كذلك حتى عام 1941، عندما انتخب مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية بشكل رسمي حتى وفاته في 1954.

وأعلن الأسطواني الفتوى بالجهاد في فلسطين، كما شهدت فترة ولايته بالانقلابات السورية التي بدأت سنة 1949، وشهدت انقلابات حسني الزعيم وسامي الحناوي ثم أديب الشيشكلي.

محمد أبو اليسر عابدين

يعتبر أبو اليسر عابدين من أشهر المفتين في سورية، وهو نجل المفتي الأسبق محمد أبو الخير عابدين.

من مواليد حي ساروجة الدمشقي عام 1889، ويعتبر الشيخ بدر الدين الحسني من العلماء الذين تتلمذ على أيديهم عابدين، الذي بقي أستاذاً في جامعة دمشق لمادة الأحكام الشرعية، إضافة إلى تدريسه في قسم الأمراض الداخلية كونه كان طبيباً.

وساهم في تأسيس الكلية الشرعية وكان عميداً لها، كما كان متقناً للغات الفرنسية والتركية والفارسية، وتولى الإمامة والخطابة والتدريس في جامع الورد بسوق ساروجة.

وحسب “رابطة علماء الشام” فإن عابدين “شارك في الثورة السورية ضد الفرنسيين بماله ونفسه ورأيه ورجاله، وكان يحمل السلاح والدواء للمجاهدين، كما شارك بحمل السلاح عند نكبة 1948، وكان رئيس لجنة التسلح أيام العدوان الثلاثي عام 1956 وتبرع آنئذ من أجل الدفاع عن البلاد بمبلغ كبير”.

وبعد وفاة المفتي الأسطواني، بات أبو اليسر عابدين مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية في 1954، وانتخب بالإجماع من قبل هيئة المفتين والمجلس الإسلامي الأعلى.

عارض أبو اليسر عابدين قرارات التأميم التي أصدرها الرئيس جمال عبد الناصر، فتم عزله من المنصب في أغسطس/ آب 1961، قبل أن يعاد إلى المنصب مجدداً بعد انهيار الوحدة مع مصر في سبتمبر/ أيلول 1961، وبقي مفتياً حتى عزله من قبل لؤي الأتاسي رئيس “مجلس قيادة الثورة” حينها.

وعقب ذلك عاد إلى التّدريس والإمامة إلى أن “أدركته الشّيخوخة وهزل جسمه وضعف بصره” قبل وفاته في 2 مايو/ أيار 1981، حسب “رابطة علماء الشام”.

الشيخ عبد الرزاق الحمصي

من مواليد دمشق سنة 1900 وكان خطيباً في جامع الروضة ومديراً للثانوية الشرعية في التكية السليمانية.

عيُين الحمصي مفتياً عاماً للجمهورية بعد إقالة المفتي أبو اليسر عابدين، وذلك “لتسيير الفترة الانتقالية التمهيدية للانتخابات العامة”، حسب ما قال الباحث الفلسطيني -السوري، محمد خير موسى.

ولم تدم فترة تسلم الحمصي لمنصب الإفتاء سوى أشهر، قبل انتخاب أحمد كفتارو مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية، ورئيساً لمجلس الإفتاء الأعلى.

أحمد كفتارو

يعتبر أحمد كفتارو من أطول المفتين في سورية، إذ استمرت فترة ترأسه لمنصب مفتي الجمهوري مدة 40 عاماً، من 1964 حتى وفاته سنة 2004.

ولد كفتارو في دمشق عام 1912، وحاز على دكتوراه فخرية في علم الدعوة الإسلامية من جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا عام 1968، كما حاز على دكتوراه فخرية في علوم أصول الدين والشريعة من جامعة عمر الفاروق في الباكستان 1984، ودكتوراه فخرية في علوم الدعوة الإسلامية من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان 1994.

عُين كفتارو في 1948 مدرساً دينياً في دار الفتوى بالقنيطرة، وشارك في تأسيس رابطة العلماء في الجمهورية العربية السورية، كما أسس وافتتح معهد الأنصار الثانوي للذكور في عام 1949، وفي عام 1951 عين مفتياً لدمشق.

في عام 1971 أسس أحمد كفتارو مجمع “أبو النور” في ركن الدين بدمشق، وتحول اسمه إلى مجمع الشيخ أحمد كفتارو ويضم مسجداً ومعهداً شرعياً وجامعة إسلامية وعدداً من الجمعيات الخيرية.

ويقول الباحث محمد خير موسى في مقالة نشرها قبل أشهر، إن “الشّيخ كفتارو على درجةٍ عالية من القبول لدى المسؤولين الرّسميين في الدّولة السّوريّة وحكّامها الذين كانوا على اختلافهم وفي مختلف فترات تعاقبهم على الانقلابات المتسارعة يتبنّون الخطاب القوميّ البعيد عن الدّين عمومًا، والسّبب الرّئيس في قبولهم كفتارو يكمن في نوع الخطاب الذي يقدّمه تجاه غير المسلمين”.

وفي عام 1979م قُتل زاهر ابن الشيخ أحمد كفتارو بعد تعرضه لإطلاق النار في بلدة المليحة الواقعة ضمن غوطة دمشق الشرقية، إضافة إلى إصابة أخيه محمود.

ويقول الباحث محمد خير موسى إنه “دار لغط كثير حول الجهة التي قامت بقتل زاهر، وهناك من حاول أن يشير بأصابع الاتّهام إلى النّظام بقتله وهناك من حاول إلصاق ذلك بجماعة رفعت الأسد، وكلّ هذا لا يعدو كونه استثمارا للحادثة، وفي الحقيقة أنّ سبب القتل كان خلافا على قطعةِ أرض وملكيّتها بين زاهر وجاره في الأرض وهو من عائلة البويضاني الذي أودع سجن عدرا وحكم عليه بالسّجن بتهمة القتل إثر شجار واللّافت أن هذا الرّجل قُتل في سجن عدرا قبل موعد الإفراج المقرّر بيومين”.

وكان لافتاً في جنازة ابن كفتارو هو حضور رئيس النظام، حافظ الأسد، ومشاركته في تقديم التعزية.

أحمد بدر حسون

يعتبر بدر الدين حسون أول المفتين للجمهورية العربية السورية من خارج العاصمة دمشق، إذ ولد في مدينة حلب عام 1949، وهو حاصل على دكتوراه في الفقه الشافعي من جامعة الأزهر في مصر وبكالوريوس في الأدب العربي من الجامعة ذاتها.

شغل حسون عدة مناصب في مجلس الإفتاء الأعلى بين عامي 2002 و2005، كما كان عضواً في “مجلس الشعب” بين عامي 1990 و1998.

في عام 2002 أصبح حسون مفتياً لمدينة حلب، قبل أن يتسلم منصب مفتي الجمهورية بمرسوم من بشار الأسد، سنة 2005 بعد أن بقي منصب المفتي شاغراً في سورية لنحو سنة، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تسليم المنصب دون انتخابات كما كانت تجري سابقاً.

انحاز حسون بعد اندلاع الثورة السورية إلى جانب نظام الأسد، وكرر خطاب النظام في أن ما يجري في سورية هو حرب ضد ما يسمى “حلف المقاومة”.

وفي 2011 قُتل سارية حسون نجل المفتي بعد تعرضه لإطلاق نار على طريق حلب ـ دمشق، واتهم والده حينها جماعات “مسلحة” تلقت أموالاً من الخارج بقتل ابنه.

وبعد نحو 16 عاماً من تولي حسون منصب الإفتاء، أصدر رئيس النظام، بشار الأسد، مرسوماً ألغى بموجبه منصب “مفتي الجمهورية العربية السورية”

أسامة الرفاعي

بعد إلغاء الأسد لمنصب مفتي الجمهورية، قرر “المجلس الإسلامي السوري”، الذي يضم مجموعة علماء وهيئات شرعية، تمثل طيفاً واسعاً من التيارات الإسلامية السورية، انتخاب أسامة الرفاعي ليكون “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”.

جاء ذلك في بيان مصور نشره المجلس، مساء أمس السبت، قال فيه إن “الإفتاء له مكانة رمزية على تعاقب العصور والدول، ولم يجرؤ على المساس بها أحد، إلا أن تحكمت هذه العصابة الطائفية في سورية ففرغته من مضمونه وجعلته تعييناً بعد أن كان انتخاباً من كبار العلماء”.

ولد الرفاعي في دمشق عام 1944 ودرس اللغة العربية وعلومها في كلية الآداب قسم اللغة العربية، وتخرج منها عام 1971.

وكان الرفاعي خطيب جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي في دمشق، قبل اندلاع الثورة السورية ووقوفه إلى جانب المتظاهرين السلميين.

عبَر الرفاعي في خطبه من دمشق، عن رفضه لسياسية النظام الأمنية ضد المتظاهرين السلميين، قبل أن تهاجم قوات الأمن مسجد الرفاعي في أغسطس/آب سنة 2011 وتعتدي بالضرب عليه، أثناء محاولاتها فض اعتصام في “ليلة القدر”.

خرج الرفاعي من سورية عقب ذلك، واستقر في تركيا، حيث أسس إلى جانب عدد من العلماء “المجلس الإسلامي السوري”.

—————————–

================

تحديث 24 تشرين الثاني 2021

———————–

إتوماس بييريه: إقالةٌ في دمشق

مايكل يونغ

يشرح توماس بييريه، في مقابلة معه، الأسباب التي أدّت إلى إلغاء منصب مفتي الجمهورية في سورية.

توماس بييريه باحث باحث أول في معهد البحوث والدراسات حول العالمَين العربي والإسلامي، وهو مركز متعدّد المجالات يربط بين جامعة إيكس-مرسيليا والمركز الوطني للبحث العلمي في مدينة إيكس-أون-بروفانس، فرنسا. وهو مؤلّف كتاب “الدين والدولة في سورية. العلماء السنّة من الانقلاب إلى الثورة” (Religion and State in Syria. The Sunni Ulama from Coup to Revolution) (منشورات جامعة كامبريدج، 2013)، وفصل Religious Governance in Syria Amid Territorial Fragmentation (الحوكمة الدينية في سورية وسط تفكك الأراضي”) في كتاب من تحرير فريدريك ويري بعنوان Islamic Institutions in Arab States: Mapping the Dynamics of Control, Cooptation, and Contention (المؤسسات الإسلامية في الدول العربية: تحديد ديناميكيات السيطرة والاستمالة والنزاع) (مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 2021). أجرت “ديوان” مقابلة مع بييريه في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر للوقوف على رأيه من القرار الذي اتخذه الرئيس السوري بشار الأسد بسحب الصلاحيات من مفتي الجمهورية السورية، الشيخ أحمد حسون، وإعادة توزيعها على مجلس يرأسه وزير الأوقاف.

مايكل يونغ: لماذا عمد الرئيس بشار الأسد إلى سحب جميع الصلاحيات من مفتي الجمهورية السورية وإعادة توزيعها على المجلس العلمي الفقهي؟

توماس بييريه: صدر القرار بعد بضعة أيام من إدلاء المفتي الحالي، الشيخ أحمد حسون، خطبة مثيرة للجدل. فقد ادّعى حسون، خلال تشييع المطرب الشهير صباح فخري من مدينة حلب، أن خريطة سورية مذكورة في سورة التين في القرآن، وأن الله خلق البشرية في سورية، وأن مَن غادروا البلاد، أي اللاجئين، مصيرهم الهلاك. لطالما كان حسون محط كره من عدد كبير من زملائه، وموضع سخرية من العامة بسبب تأويلاته الغربية للنصوص الدينية.

في الواقع، كان منصب مفتي الجمهورية قد أُفرِغ من مضمونه في العام 2018، حين نص القانون 31 على خفض مدة الولاية إلى ثلاث سنوات بعدما كانت لمدى الحياة، ونقل صلاحيات المفتي الفقهية (الاسمية) إلى المجلس العلمي الفقهي الذي كان قد أنشئ حديثًا ويرأسه وزير الأوقاف. أما في ما يتعلق بالإلغاء الكامل لمنصب المفتي بموجب المرسوم الأخير، فهو ليس في رأيي قرارًا استراتيجيًا من النظام (إذا كان المقصود بالنظام الأسد وجماعته)، بل مردّه إلى أن أعداء حسون داخل البيروقراطية الدينية للدولة السورية استغلوا موقعه الضعيف نسبيًا.

يونغ: كيف تصف لنا حسون؟ وكيف كانت علاقته مع نظام الأسد؟

بييريه: هو نجل باحث ديني محترم من حلب، وذاع صيته في البداية كخطيب فصيح في صلوات الجمعة، ثم كنائب في البرلمان في التسعينيات. ونظرًا إلى ولائه الشديد للنظام، وإلى كونه شخصًا ضعيف الشأن في أوساط النخبة الدينية السنية، لم يكن النظام يرى فيه تهديدًا له، فتم تعيينه في منصب مفتي الجمهورية في العام 2005. وبعد تسلمه المنصب، عبّر عن آراء غير امتثالية واصفًا نفسه بأنه “علماني”، ومشددًا على القواسم المشتركة بين الإسلام والمسيحية، ومتبنّيًا خطابًا ودّيًا حيال الشيعة.

كانت هذه المواقف منسجمة مع توجهات النظام، ولكنها جعلت من حسون مصدر إحراج للأسد في علاقته مع العلماء الدينيين الذين يتألفون بأكثريتهم من المحافظين. وفي الأعوام الأخيرة، فقدَ المفتي حظوته ويعود ذلك إلى شراكته في مجال الأعمال مع رامي مخلوف، ابن خال الأسد الذي كان سابقًا الرجل الأول في سورية الأول في المشهد الرأسمالي السوري القائم على المحسوبيات، وقد جرت مصادرة أصوله في العام 2020؛ وإلى المكائد التي حاكها له خصومه في أوساط رجال الدين السنّة.

يونغ: يبدو أن إحدى المشاكل التي يعاني منها حسون، والتي أدّت إلى تهميشه، هي عداوته مع وزير الأوقاف الحالي، محمد عبد الستار السيد. هلّا تشرح لنا هذه الخصومة في سياقها الأوسع؟

بييريه: أصدر المجلس العلمي الفقهي برئاسة السيد بيانًا شديد اللهجة دحض فيه تأويل حسون لسورة التين. غالب الظن أن الوزير كان خلف قرار إلغاء منصب مفتي الجمهورية، وقبل ذلك، خلف إقرار القانون 31 للعام 2018. أبعد من التعصب الفئوي والمناطقي (حسون من حلب، في حين أن السيد من طرطوس ومرتبط بصورة خاصة بالعلماء في دمشق)، يتعلق الخلاف بمسائل العقيدة الدينية. لقد حشد السيد، فور تعيينه في العام 2007، الدعم من العلماء الموالين للنظام من خلال مناصرته الأصولية السنّية في مواجهة شخصيات غريبة الأطوار مثل حسون. وقاعدة الوزير المحافظة هي التي جعلت منه شريكًا أكثر مصداقية للنظام من مفتي الجمهورية الذي كان معزولًا نسبيًا داخل الميدان الديني.

يونغ: أشارت مصادر معارضة إلى أن السلطة الأوسع التي مُنِحت للمجلس العلمي الفقهي مرتبطة بالنفوذ الإيراني في سورية، نظرًا إلى أن إيران تملك مصلحة في إبقاء السنّة ضفعاء من خلال إضعاف المنصب الديني الأعلى للطائفة. ما حقيقة هذا الاعتقاد؟

بييريه: لا أوافق على هذا التحليل لأن حسون هو في الواقع شديد الولاء لإيران،وتربطه علاقة وثيقة مع الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإسلامي العاملة في سورية. وحين أصبح شخصًا غير مرغوب فيه من الإعلام الرسمي السوري قبل عامَين، استمر في الإطلالة بصورة واسعة عبر الوسائل الإعلامية المدعومة من إيران. لا أستثني تمامًا أن الدعم الإيراني قد يساعد حسون في الاحتفاظ ببعض التأثير، حتى بعد إقالته. أما السيد من جهته، فهو مقرّب من روسيا، ويمثّل نظرة سنّية أكثر تصلبًا إلى الإسلام، لا تتناسب جيدًا مع الأجندة الإيرانية في سورية.

إضافةً إلى ذلك، قد يسدّد إلغاء منصب مفتي الجمهورية ضربة رمزية للطائفة السنية، لكنه لا يجعلها أضعف مما هي عليه في الأصل. فحين ندّد العلماء المناهضون للنظام، مثل علماء المجلس الإسلامي السوري الذي يتخذ من اسطنبول مقرًا له، بهذا القرار، لم يكن السبب أنهم سيفتقدون لمنصب مفتي الجمهورية بصيغته التي كانت قائمة في ظل البعث، حيث كان يتولى المنصب أشخاصٌ خاضعون للنظام بالكاد يصدرون فتاوى، وتنصبّ معظم اهتماماتهم على البروتوكول والعلاقات العامة. بل هم يتأسّفون على المنصب كما كان قائمًا، على ما يُزعَم، قبل العام 1963، وكما كان يجب أن يبقى في نظرهم، أي أن يشغله علماء بارزون يمتلكون رصيدًا رمزيًا يتيح لهم الاحتفاظ بمستوى معيّن من الاستقلالية السياسية.

يونغ: ما هو المجلس العلمي الفقهي، وكيف يتناسب مع مخططات النظام؟

بييريه: إنه سلطة دينية جماعية تضم شخصيات مثل رئيس المحكمة الدينية في دمشق، وممثلي جامعات إسلامية، وغيرهم من العلماء المرموقين. وهو من بنات أفكار الأجندة الشخصية للوزير السيد، وليس من نتاج استراتيجية كبرى وضعها النظام. لقد عمل السيد، منذ تعيينه، على بناء المؤسسات في وزارته التي كانت عبارة عن قوقعة فارغة لأن النظام كان يفضّل مراقبة الأنشطة الدينية بطريقة غير نظامية، من خلال الأجهزة الأمنية، بدلًا من اللجوء إلى بيروقراطية دينية موسّعة كانت لتؤدّي إلى نمو مجموعة ضغط سنّية محافظة داخل أجهزة الدولة. وقد تمكّن السيد من إقناع الأسد بأن تغيير المسار هو السبيل الوحيد لكبح صعود التطرف.

صحيحٌ أن المجلس العلمي الفقهي يخدم طموحات الوزير الشخصية (إذ عُيِّن نجله عضوًا في المجلس)، لكنه يلبّي أيضًا تطلعات مناصري السيد في أوساط العلماء، والذين لطالما طالبوا بإنشاء مثل هذه الهيكلية الجماعية. يرى أعضاء المجلس أنه يحمل فوائد عدة. أولًا، أنشئ المجلس لممارسة الصلاحيات الفقهية التي كان مفتي الجمهورية قد تخلى عنها بحكم الأمر الواقع طوال نصف قرن من الزمن. ثانيًا، أتاحت المشاركة في المجلس للعلماء العودة إلى إحدى المؤسسات الأساسية للوزارة بعد عقود من الإقصاء. الصفقة هي على النحو التالي: يحصل أنصار السيد في أوساط العلماء، مقابل ولائهم المطلق للنظام في الشؤون السياسية، على سيطرة نظامية أكبر على شؤون العقيدة الدينية التي تشكّل هاجسهم الأساسي.

يونغ: ماذا تستخلص عمومًا من هذه الحادثة حيال المشهد الديني في سورية اليوم؟

بييريه: يدلّ اتخاذ النظام قرارًا سريعًا بإلغاء مؤسسة رمزية، وإن غير فعالة، كمنصب مفتي الجمهورية، على الضعف الشديد الذي تعاني منه الطائفة السنّية في سورية بعد الانتصار الذي حققه الأسد على المعارضة. ويَظهر هذا الضعف أيضًا من خلال الهدف المتوخّى من هذا القرار، وهو ليس القضاء على تهديد معيّن، بل ببساطة التحكيم في نزاع بين شخصيتَين، حسون والسيد، وكلاهما مواليان بالدرجة نفسها للنظام الحاكم.

لكن هذا لا يعني أن المؤسسة الدينية السنية لن تسبّب أبدًا بعد الآن متاعب للأسد. لا أقصد بهذا الكلام أن لدى السيد وأصدقائه طموحٌ بتحدّي النظام، بل ما أقصده هو أن هناك قواعد أخرى موالية للنظام، ولا سيما في أوساط العلويين، لا تثق على الإطلاق بالمحافظين السنّة، حتى لو كانوا يكنّون ولاءً كاملًا للأسد. وفي العام 2018، نجحت تلك القواعد في الدفع نحو إعادة صياغة مشروع القانون الذي أصبح لاحقًا القانون 31، بعدما اتهمت السيد بمحاولة توسيع التأثير الذي تمارسه وزارته على الدولة السورية بصورة عامة. قد تتكرر مثل هذه الحوادث في المستقبل، في حال استمر السيد في سياسته الهادفة إلى بناء مؤسسات داخل وزارته.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

————————–

منصب المفتي .. جدل الديني والسياسي في سورية/ عبد الرحمن حللي

الإفتاء هو الجواب الشرعي أو القانوني المتعلق بالقضايا الطارئة التي تتطلب جواباً جديداً نظراً لحدوثها، أو لتوصيف تعلّقها بحالة أو ظروف معينة، ولهذا سُمّيت مدوّنات الفتاوى لدى فقهاء المالكية في الغرب الإسلامي، كتب “النوازل”، جمع نازلة، وهي تعنى ما يسمّى في المشرق كتب “الفتاوى”. ويرجع أصل التسمية إلى القرآن الكريم ﴿‌يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾ [النساء: 176]، وقد درج التمييز بين القاضي الذي يفصل في الخصومات، ويكون حكمه ملزماً، والمفتي الذي يبدي الرأي اجتهاداً ولا يكون حكمه ملزماً، فيمكن السائل أن يسأل أكثر من مفتٍ، ويعمل بما يطمئن له قلبه، بل هذا ما هو مأمور به، وهو معنى ما رُوي في الأثر النبوي “استفتِ قلبكَ: البرُّ ما اطمأنتْ إليهِ النفسُ، واطمأنَ إليهِ القلبُ، والإثمُ ما حاكَ في النفسِ وتردّدَ في الصدرِ، وإن أفتاكَ الناسُ وأفتوكَ”. وقد درج الفقهاء تاريخياً على نسبة الفتوى إلى المدرسة التي يعتمدها المفتي، فيُنسب المُفتون عادةً إلى المذاهب التي ينتمون إليها، فيقال مفتي المالكية أو مفتي الحنفية وهكذا. وغالباً ما يترشّح من الفقهاء لهذه الألقاب من تميز من الجماعة العلمية في الإقليم، وتعارفت على مُكنته في معالجة ما يستجدّ على الناس من نوازل. وكان يجري هذا العرف بعيداً عن اختيارات الحكام والسلاطين، أو تدخلاتهم، ولو حصل وتدخل السلاطين في ذلك أو ساير المفتي الحاكم أو غيره من غير مستندٍ علميٍّ، عُدَّ ذلك علامة قادحة بالمفتي أو الفتوى، حتى جرى في مصنّفات الفقهاء الحديث عن المفتي الماجن، الذي عُرّف بأنه “الذي يعلّم الناس الحيل، وقيل: الذي يفتي عن جهل”. وصُنِّف ضمن من يجوز الحجر عليهم، لكونه ممن يُفسد على الناس دينهم، كالطبيب الجاهل. وقد اتخذ السلاطين تاريخياً من الفقهاء من يجد لهم المخارج في اختياراتهم، لكن ذلك لم يكن معبرًا عن اختيار الجماعة العلمية التي كانت تنأى بنفسها عمن يتقرّب من السلاطين. وكانت ثمة ألقابٌ كثيرة تعبّر عن مكانة النابغة من العلماء، أبرزها لقب “شيخ الإسلام” الذي يرجع استعماله إلى القرن الرابع الهجري كلقب شرفي اختصّ به قلائل من العلماء، ممن اقتدروا على حل مشكلات شائكة أو تميزوا عن أقرانهم. وظل هذا اللقب ونظائر له متداولاً على سبيل التعارف العلمي. وفي العموم، يرجع تنظيم طبقات العلماء إلى عهد العباسيين والفاطميين، قبل تقنينه في السلطنة العثمانية التي أحدثت مشيخة الإسلام، والتي يرجع تأسيسها، حسبما تؤكّد الدراسات، إلى قانون محمد الفاتح في القرن التاسع الهجري، الذي تضمّن منصب شيخ الإسلام، ووصف بأنه “رئيس العلماء”. وكان شيخ الإسلام الشخصية الثالثة في الدولة من حيث الأهمية، بعد الوزير الأول والسلطان، وترجع إليه الكلمة الأخيرة في القضايا الحقوقية والدينية للدولة. وكان ثمة تداخلٌ بين لقب شيخ الإسلام والمفتي الأكبر ومهام القضاء والتعليم الديني وما دونها، التي ترجع جميعاً إلى مشيخة الإسلام ضمن تنظيم هرمي مفصل. على أن تشكيل مشيخة العلماء لم يكن مفروضاً بقوة السلطان، إنما يرجع إلى تأثير التيار الصوفي في الدولة العثمانية الذي كان يعبّر عن ضمير الشعب، ولم تكن العلاقة بين شيخ الإسلام والسلطان على وفاق دائم، إذ تروي المصادر عن حالات إقالة أو استقالة لشيوخ الإسلام لأسباب دينية أو سياسية كانت موضوع خلافٍ بين السلطان وشيخ الإسلام.

مع سقوط السلطنة العثمانية، ونشوء الدولة الحديثة في العالم العربي، نشأ منصب مفتي الدولة في العهد الفيصلي، وكان في ما يبدو وريث منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، لكن مهامه كانت مقصورةً على الإفتاء العام، وتمثيل رأي العلماء أمام الدولة، وبينما كان شيخ الإسلام يعيّنه السلطان، وفق آلية وترشيح تُراعى فيهما مكانته بين العلماء، أصبح المفتي يُنتخب من هيئة العلماء في البلد، فكان أول مفتٍ لبلاد الشام محمد عطا الله الكسم منذ بداية العهد الفيصلي 1918 وحتى وفاته 1938. ولم يكن هذا الأمر خاصاً بدمشق، بل كان مفتو المحافظات يُنتخبون أيضاً من علماء المدينة، وكان الانتخاب جدّياً، ويعبّر عن تنافس حقيقي. ففي عام 1922 ترشّح لمنصب مفتي حلب ثلاثة علماء، وفاز بالمنصب أصغرهم سناً، بنسبة 41% من الأصوات التي أدلى بها 108 من المشايخ المقترعين. وظل منصب الإفتاء بالانتخاب، وكان آخر المفتين المنتخبين في سورية أحمد كفتارو المقرّب من حزب البعث، حين فاز عام 1964 بفارق صوت واحد (18 صوتاً) مقابل خصمه وخصم حزب البعث حسن حبنكة الميداني (17 صوتاً)، وظل كفتارو في المنصب أربعين سنة حتى تاريخ وفاته عام 2004، وظل المنصب بعده شاغراً أشهراً، قبل أن يشغله بالتعيين عام 2005 بمرسوم رئاسي انتهى مفعوله بقانونٍ تنظيم الأوقاف في سورية 2018 الذي حدّد مدة شغل منصب الإفتاء بثلاث سنوات قابلة للتجديد. ومع انتهاء المدة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لم يصدر تجديد، ولا تعيين لمفتٍ جديد، بل صدر تعديلٌ على قانون الأوقاف بمرسوم رئاسي، ألغيت بموجبه جميع المواد الخاصة بتعيين مفتٍ للجمهورية أو مفتين في المحافظات، وأناط المرسوم مهمة الفتوى بمجلس سمّي “المجلس العلمي الفقهي”، اليد العليا فيه لوزير الأوقاف رئاسة وتعيين أعضاء، نُصّ فيه على أن يكونوا من مختلف المذاهب (الطوائف) الإسلامية.

وقد أثير جدل كبير بين السوريين بشأن هذا التغيير، دينياً وسياسياً. وفي تحليل أبعاد هذا الإجراء وخلفياته، على الرغم من السخط الواسع على المفتي المستهدف به مباشرةً، الذي لم يفوّت خصمه وزير الأوقاف الفرصة، بإدانته علمياً باسم المجلس الذي سيحلّ مكانه، إثر تفسيره سورة التين تفسيراً سياسياً مفضوحاً يُدين فيه من اضطرّوا إلى ترك أوطانهم بحثاً عن الأمان وهرباً من القتل والتدمير. ولفهم مشروعية هذا الجدل حول ما جرى، يحسن التنبيه إلى أمرين مهمين: الأول: إنّ منصب مفتي الجمهورية رمزي بالدرجة الرئيسية، ويُعَدّ من المكونات الشكلية للدولة العربية الحديثة، التي ورثت السلطنة العثمانية، فكانت دولةً هجينة، فهي دولة إسلامية لها صلة بالدولة التاريخية، ويمثل رمزية إسلاميتها منصب المفتي شكلياً، بغضّ النظر عن مهامه ومن يشغله، مقابل المناصب الرسمية الأخرى التي تعبّر عن الدولة العلمانية الحديثة. وبالتالي، كان إلغاء المنصب جرحاً لمشاعر الشريحة الأوسع من السوريين الذين رأوا إلغاء منصبٍ له رمزيته إهانة لهم، حتى ولو كان فولكلوراً. وزاد الاحتقان أن من أنيطت به مهام هذا المنصب (السني)، هيئة علمية شكلاً سياسية فعلاً، وتضمّ بين أفرادها ممثلين عن مذاهب (طوائف) لم يُمَسّ بمرجعياتها الدينية ومناصبهم، فضلاً عن أن هذا الإجراء لم يسبقه حوار ديني أو مجتمعي، بل كان قراراً سياسياً، ويحمل في طياته معاني الانتقام المباشر من مفتٍ سابق، ومعاني الاستهتار بالمنصب التمثيلي الرسمي لأغلبية المجتمع السوري، في مرحلةٍ يشهد فيها المجتمع السوري تغييراً ديمغرافياً وطائفياً، عقب أوسع تهجير سكاني في العصر الحديث. الأمر الثاني: ما جرى ينبغي فهمه ضمن استراتيجية أوسع، بدأت في السنوات الأخيرة قبل الثورة، وترافقت مع تسلُّم وزير الأوقاف الحالي، حيث بُدئ بمركزة تأميم الشأن الديني بيد وزير الأوقاف، بعد أن كانت الجمعيات والمعاهد الدينية ذات استقلالية نسبية. ومن خلال الوزير المذكور، مُرِّرَت إجراءاتٍ، بالتنسيق مع وزارات أخرى، تمسّ الحريات الدينية، كمنع النقاب في الوظائف العامة، وتقييد سنوات التعليم الشرعي، وغير ذلك من إجراءاتٍ تندرج في سياق “علمنةٍ” شكليةٍ قسريةٍ، تتوسّل تبريراً دينياً رسمياً. وقد أورثت هذه الإجراءات قلقاً واحتجاجاً في الوسط الديني حينها، استجيب لها استجابة محدودة، قبل أن تتوقف مع اندلاع الثورة السورية التي كان من العوامل التي أجّجتها تلك الإجراءات المقيدة للنشاط الديني، مع إطلاق يد الحملات التبشيرية بالتشيع في غير مكان في سورية. وإضافة إلى ما سبق، لا يخفى العبث السياسي الفاضح بالشأن الديني في العقد الماضي في سورية، ولا يمكن فهم القوانين والمراسيم، أخيراً، إلا بوصفها تغطيةً قانونية لهذا العبث المستمر، الذي يبقى أمراً غير ذي بال، إذا ما قورن بالاستهتار بأرواح الناس وكرامتهم.

وتأكيداً لهذه الرمزية الدينية والسياسية لمنصب المفتي، بادر المجلس الإسلامي السوري إلى اقتناص الفرصة، وإعلان مفتٍ عام للجمهورية العربية السورية، مؤكّداً، في الآن نفسه، استعادة استقلالية المنصب كما بدأت في العهد الفيصلي، وهي خطوةٌ تحتاج خطواتٍ أهم تؤكّد شفافية هذا الاختيار، وتعيد تعريف التصورات الشرعية لمنصب المفتي في العصر الراهن، وأن تستعيد أيضاً مشروعية الظرف التاريخي التي أسّست حينها لمنصب المفتي المنتخب، الذي ترافق مع انتخاباتٍ أخرى سياسية، وإجراءاتٍ دستوريةٍ ضمنت هذه الاستقلالية للشأن الديني حينها، قبل قرن.

العربي الجديد

———————

مراحل هيمنة النظام على الحقل الديني وصولاً إلى إلغاء منصب المفتي/ عدنان علي

الجدل الذي أثاره قرار رئيس النظام بإلغاء منصب مفتي الجمهورية، تطرق لجوانب عدة بشأن دلالات ومؤشرات هذا القرار، وخاصة لجهة تهميش دور المرجعية الدينية، غير أن هذه التحليلات، ومعظمها قد يكون صحيحا، لم تركز على جانب مهم في هذه الخطوة، وهي أن إلغاء منصب المفتي كان مجرد حصيلة لسياسة ممنهجة مديدة استهدفت الهيمنة الكاملة على الحقل الديني على غرار مصادرة وتدجين المناصب والأدوار الأخرى في الحياة السياسية والمجتمعية خلال حكم الأسدين، الأب والابن.

والمفتي الذي يفترض أنه يقف على رأس المرجعية الدينية، ويحتفظ بقدر عال من الاستقلالية عن مؤسسات النظام الحاكم، كف منذ عقود عن تأدية هذا الدور، وتحول إلى مجرد صدى باهت لتوجهات النظام السياسية والدينية. والواقع أن هذا هو أيضا حال المؤسسات والهياكل والمراجع الأخرى، بما في ذلك حزب البعث الذي يفترض أنه حاكم، وهو في حقيقة الأمر مجرد واجهة حزبية لطغمة أمنية طائفية، كما هو المفتي مجرد واجهة دينية.

لقد عملت المنظومة الأمنية الأسدية على تفريغ جميع المؤسسات والمناصب من مضمونها، لتحل مكانها واجهات تحمل الاسم القديم فقط، ومضمونها الوحيد، أو الأبرز على الأقل، هو الطاعة العمياء للمنظومة الحاكمة. هذا حال نقابات العمال، والفلاحين، والشبيبة، والمرأة، والمحامين والمهندسين.. الخ وكذلك الأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، البرلمان وجهاز القضاء. وأيضا الجامعات ومراكز البحث العلمي ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.. الخ.

سوريا الأسد، بلد خال من المرجعيات المستقلة، فلا أحد يعمل لحسابه أو لحساب المجتمع، بل الكل يعملون لحساب النظام بالمعنى الضيق، وليس الدولة بمفهومها الأوسع.

وإذا كان النظام استطاع بسهولة نسبيا ترويض النقابات والأحزاب والبرلمان باعتباره ممولها وراعيها، لاغياً دورها قبل عام 1970، حيث كانت تتمتع بقدر من الاستقلالية عن النظام الحاكم، بل وكثيرا ما تقود الحراك الشعبي ضده، فإن تعامله مع المرجعيات الدينية ظل حذرا، حتى إنه لم يحاول تأطيرها في مؤسسة واحدة، على غرار مؤسسة الأزهر في مصر، أو مجلس كبار العلماء في السعودية، ما سمح بالتالي لهذه المرجعيات بالتمتع بقدر من الاستقلالية التنظيمية والمالية، دون الحاجة إلى معونة الدولة، على غرار الهياكل الأخرى النقابية والتشريعية والإعلامية. وهذا الحال، أسهم من جهة أخرى في تشظي المرجعيات الدينية وتنافسها بتشجيع من النظام الذي كان يحابي بعضها على حساب الأخرى، ويدفعها للتنافس على نيل رضاه، مقابل بعض الامتيازات والتسهيلات، مع الحرص على إبعادها كليا عن الحقل السياسي، وصرف اهتمامها إلى العمل الدعوي والخيري، وهو ما أفقدها قدرا كبيرا من احترام المجتمع، خاصة في دمشق.

ومع حاجة النظام إلى غطاء ديني بعد تصادمه مع حركة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي وقمعه العنيف لهذا الحراك، عمل على تعويم بعض الشخصيات الصوفية الزاهدة في السلطة والطامحة لتوسيع مجال نشاطها الدعوي والمجتمعي، فوجد في الشيخ أحمد كفتارو رئيس مجمع أبو النور التعليمي الإسلامي، ضالته الذي رقاه إلى منصب مفتي الجمهورية في مواجهة الشيخ حسن حبنكة الميداني، قبل أن يدفع إلى الواجهة بالشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ويعطيه مساحة أكبر للحركة بما في ذلك برنامج أسبوعي على التلفزيون الرسمي. ومع وفاة حافظ الأسد عام 2000، تولى البوطي تأدية شعائر الجنازة، لكن مكانته بدأت بالتراجع مع سعي بشار الأسد للبحث عن وجوه جديدة في الوسط الديني حيث تواصل مع بعض الشخصيات الدمشقية مثل الشيخ أسامة الرفاعي المفتي الذي عينته المعارضة أخيرا بديلا عن حسون. وكان الرفاعي اضطر لمغادرة سوريا في الثمانينيات خلال حملة القمع ضد الإخوان فاستقر لبعض الوقت في السعودية قبل أن يتوسط له البوطي للعودة إلى البلاد، ويصبح خطيب جامع الرفاعي في دوار كفرسوسة والذي كان بناه والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي.

لكن النظام واصل مساعيه للتلاعب بالمجال الديني لجهة تعويم بعض الأسماء والتضييق على أخرى بهدف إثارة التنافس بينها على طاعة النظام والخضوع لشروطه، خاصة بعد التفجير الذي حدث قرب مجمع أمني بدمشق عام 2008 والذي حمل النظام مسؤوليته لجماعة “فتح الإسلام” الناشطة آنذاك في شمال لبنان، مفبركا اعترافا بثه على التلفزيون الرسمي لشخص قال إنه دبر العملية وأنه تلقى تعليمه في مجمع الفتح التابع للمفتي كفتارو، ليكون ذلك إيذانا بحملة من جانب النظام للدفع بوجوه جديدة بدعوى تحديث الخطاب الديني، فعمد إلى الاستعاضة عن وزير الأوقاف زياد الأيوبي، المقرب من كفتارو، بمحمد عبد الستار السيد مفتي طرطوس الذي كان دعا بتوجيه من مكتب الأمن القومي، إلى عودة سلطة الدولة إلى المجال الديني وتوحيد المناهج الدينية.

كما اتخذ النظام سلسلة إجراءات للسيطرة على المجال الديني مثل وضع المؤسسات التي تعلم الشريعة الإسلامية تحت تصرف وزارة الأوقاف، وكذلك الموظفون في المؤسسات الدينية حيث أُنيط بالوزارة صلاحية تعيينهم وتسريحهم، وكذلك تدريب الدعاة وخطباء المساجد، ليتضاعف عدد موظفي الوزارة مرات عدة، وهو ما مكنها من مواصلة سياسة الاحتواء والسيطرة هذه عبر إجراءات متوالية مثل الاستحواذ على العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية المستقلة، وإغلاق مركز الدراسات الإسلامية الذي أسسه الشيخ وعضو مجلس الشعب محمد حبش، ومنع إقامة رابطة لخريجي كلية الشريعة، فيما دعم محمد السيد الوزير الجديد للأوقاف انقلاباً ناجحاً داخل مجمّع كفتارو لجعله أكثر خضوعا للنظام، فضلا عن إجراءات أخرى مثل الحد من شعائر التديّن كإغلاق صالات الصلاة في المراكز التجارية، ومنع الملصقات الدينية الشعبية، وحظر النقاب في المدارس، ونقل أكثر من 1000 معلمة منقّبة إلى وظائف إدارية.

ومع اندلاع الاحتجاجات ضد النظام عام 2011، تباينت تفاعلات القوى والشخصيات الدينية مع هذه التطورات بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وبرز تفاوت بين مواقف بعض المشايخ الحذرين في تأييد الاحتجاجات، وأنصارهم في الشارع الذين انخرط كثيرا منهم فيها، خاصة أن تلك الاحتجاجات اتخذت في بداياتها من المساجد منطلقا لها. وفيما وقفت شخصيات مثل البوطي والمفتي السابق حسون في صف النظام وخونوا المتظاهرين، لزم أنصار كفتارو الصمت، قبل أن يتحولوا إلى موالاة النظام تحت التهديد والابتزاز الذي تعرضوا له من جانب الأخير، بينما اندفع مشايخ الميدان وراء المتظاهرين، وكذلك أنصار الشيخ أسامة الرفاعي، خاصة بعد الاعتداء الجسدي على الرفاعي نفسه داخل مسجده من قبل عناصر الأمن في إحدى جمع الاحتجاجات. وكانت نتيجة ذلك التمكين لمعهد الفتح والاعتراف من جانب النظام بشهادته رسميا، بينما تم الاستيلاء على جامع الرفاعي وتغيير اسمه وتعيين أحد الدعاة من كلية الشريعة خطيبا له خلفا للشيخ الرفاعي.

وفي موازاة ذلك، عمل النظام على التمكين أكثر للمؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها، خاصة وزارة الأوقاف التي عمل على توسيع صلاحياتها، فأصدر سلسلة مراسيم وتعليمات بإخضاع كل الكيانات الإسلامية الخاصة لسيطرة الوزارة التي منحها حق تعريف ما سماه رأس النظام “الإسلام الصحيح”. وفي مايو/ أيار 2019، افتتح بشار الأسد مركزا إسلاميا حمل اسم “مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف” وأدلى بتصريحات حصر فيها التطرف والإرهاب، بالتيار “الوهابي”، وجماعة الإخوان المسلمين.

وفي الضفة الأخرى، نجحت الشخصيات المعارضة الهاربة من بطش النظام عام 2014 في تشكيل “المجلس الإسلامي السوري” في إسطنبول في تركيا، والذي ضم أسماء بارزة في الساحة الدينية السورية موزعة بين تركيا وبلدان الخليج والأردن ومناطق المعارضة في سوريا وأماكن أخرى، وهو ما شكل أول وأكبر تجمع مؤسسي إسلامي في سوريا، يضم 40 هيئة دينية داخل سوريا وخارجها، وهذه المرة بعيدا عن سلطة النظام.

تلفزيون سوريا

————————–

====================

تحديث 26 تشرين الثاني 2021

———————

ما القصة من وراء تخلي نظام الأسد عن مفتيه وتعيين آخر ؟/ وائل السواح

فوجئنا، نحن السوريين، بصدور بيان عن المجلس الإسلامي يعلن عن انتخاب المفتي الجديد، من دون أن ندري كيف أجريت الانتخابات، وكيف تمّت المداولات، وهل كان هنالك مرشحون آخرون للمنصب، وكم عدد الأصوات التي فاز الشيخ الرفاعي بها.

طرَدَ بشّار الأسد مفتي الجمهورية من منصبه، كما يرمي منديلاً مستهلكاً، ثمّ رأى أن ذلك حسن، فألغى المنصب برمّته. وبدلاً من مفتٍ، عيّن مجلساً بقضّه وقضيضه ليتولّى المهمّة، وأضاف إليه ممثّلِين عن كلّ المذاهب، ثمّ طعّمه بخمس نساء عالمات.

لست من عشّاق رجال الدين، والعلاقة بيننا في أحسن أحوالها باردة، فلا أنا أستسيغهم ولا هم يستسيغونني، على رغم أن بعضهم شرفني بصداقته، كالشيخ جودت سعيد والشيخ المغدور معشوق الغزنوي، كما شرفني بعضهم بالنصح والرأي السديد كالدكتور محمد حبش وزوجه السيدة أسماء كفتارو.

ومع ذلك، فإن من واجبي كعلماني أن أدافع عن منصب مفتي البلاد. العلمانية في جوهرها فكرة تُحوّل النقاش من مركزية الله إلى مركزية الإنسان، وتُسيِّد مبدأ حيادية الدولة تجاه كلّ الأديان وتفصل بين مؤسسات الدين ومؤسسات الدولة، فلا تجعل للأولى دالّة على الثانية، ولا تترك للثانية سلطة على الأولى إلا حين تصل الأمور لتمسّ مبدأ سيادة القانون. وبالتالي فإن على العلمانيين أن يبرزوا الآن لتوضيح هذه النقطة المهمة من خلال حق المؤمنين في أن يكون لهم قادة دينيون.

ومن واجبي أيضاً بصفتي ديموقراطياً، أن أدين خطوة رئيس النظام. ذلك أن خطوة بهذا الحجم لا يمكن أن تتمّ من طريق مرسوم رئاسي، بل يجب أن يسبقها نقاش مجتمعي واسع، وأن يقرّها برلمان البلاد المنتخب. يسهل القول بالطبع: “الله يجعلها أكبر المصائب”، أو السؤال بسخرية “وقفت ع المفتي؟”، غير أن حقيقة أن هذا النظام المتسلّط في دمشق نظام فاشي وفاسد قتل وهجر وعذّب واعتقل نصف السوريين، ودمّر البيوت والمستشفيات والمدارس، وباع سيادة البلاد وأجّرها لداعميه، وأوصل السوريين إلى حافة المجاعة، لا تعني أن نغلق أعيننا عن انتهاك صارخ آخر لحقّ السوريين في تقرير ما يريدون وفعل ما يرتأون. 

لا ريب في أن الرجل الذي اختار لنفسه طواعية أن يكون “كركوز” النظام وممسحته، أحمد حسّون، يستحقّ بجدارة المصيرَ الذي آل إليه، بل يستحقّ في عالم مثالي أن يرسَل إلى المحكمة لتتمّ مساءلته عن جرائمه. غير أن هذا لا يقلل من أن الفعل الذي أتى به بشار الأسد لا يمكن إلا أن يكون مداناً باعتباره جريمة أخرى تقع على السوريين.

ولا يخفّف من هذه الجريمة اختيار مجلس علمي فقهي متعدّد المذاهب وفيه نساء، وهو أمر كان سيبدو حسناً لو كنا في عام 2011 أو قبله، عندما كنا نصارع رجال الدين في دمشق لدرء مشروع مغرق في المحافظة لتعديل قانون الأحوال الشخصية، وحين كان الأسد يقتسم البلاد مع الإسلاميين فترك لهم الثقافة والمجتمع لقاء أن يدعوا له الاقتصاد والسياسة والأمن. ولكن ما كان سيبدو خطوة إصلاحية قبل عقد من الآن، بات الآن مثار شكّ وريبة واستغراب. يشبه ذلك تعيين امرأة رئيسة لمجلس الشعب أو تعيين مسيحي بعدها في المنصب عينه، كان ذلك سيعتبر تقدماً حقيقياً قبل الثورة، ولكنه ينحدر الآن ليغدو محاولة يائسة أخرى لتصوير النظام على أنه علماني يؤازر المرأة ويحمي الأقليات.

ويبقى السؤال قائماً: لماذا تخلّى الأسد عن الحسّون الذي كان يغرّد وفق نوتاته الموسيقية ويلتزم بتوجيهات الأجهزة الأمنية من دون نقاش ولا تذمّر. يعتقد بعض النقّاد أن في ما حصل تهميش جديد للسنة السوريين لمصلحة الشيعة والعلويين، وقال آخرون إن غضبة الأسد كانت بسبب تفسير المفتي الغريب والمثير للدهشة للسورة 95. لا أتفق مع الرأيين، بل يحلو لي أن أتخيل أن الأسد ما كان سيجد شخصاً يضعف السنةّ السوريين أكثر من السنّي الحسّون الذي تربطه بإيران و”حزب الله”، صلات قوية لا تخفى على أحد. ولو طابت لي المبالغة لقلت إن الإطاحة بالحسّون ربما جاءت بسبب مغالاته في الولاء لإيران والأجهزة الأمنية المرتبطة بها. أما تفسيره المريض للسورة 95 (التين) فلا أحسب أن الأسد قد استاء من محاولة أخرى لتمجيد سوريا “المفيدة” التي يحكمها وبالتالي تمجيده شخصياً.

الفرصة الضائعة

ما إن أصدر الأسد قراره بإزالة منصب مفتي البلاد، حتى سارع إسلاميو المعارضة إلى انتهاز الفرصة في ما اعتقدوا أنه خطوة ذكية، بانتخاب رجل دين معروف بتشدّده ومحافظته وعدائه للمرأة، هو الشيخ أسامة الرفاعي. ليس سيئاً أن ينتهز معارضو الأسد خطوة غبية ارتكبها الأخير، ولكن كان يؤمل أن يأتوا بحلّ أفضل من حلّ الأسد نفسه. ولئن كان الحسّون عامل تفرقة بين السوريين وبوقاً للنظام ومنفذاً لرغبات الأجهزة، فلعل ما كان يحتاجه السوريون سُلطة تجمع بين السوريين ولا تخيف جماعات منهم. على أن تلك كانت فرصة ضائعة، كما وصفها الدكتور محمد حبش.

لم تكد تمرّ أيامٌ أربعةٌ على إلغاء الأسد لمنصب المفتي، حتّى اجتمع المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول وأعلن انتخاب الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً “للجمهورية العربية السّورية”. وفوجئنا، نحن السوريين، بصدور بيان عن المجلس الإسلامي يعلن عن انتخاب المفتي الجديد، من دون أن ندري كيف أجريت الانتخابات، وكيف تمّت المداولات، وهل كان هنالك مرشحون آخرون للمنصب، وكم عدد الأصوات التي فاز الشيخ الرفاعي بها.

اجتمع المجلس سرّاً، وناقش سرّاً وانتخب سرّاً، وكأنه جمعية باطنية سرية. حتى محافل الماسونية في العالم صارت مفتوحة إلى حدّ ما، فلماذا السرية وعدم الشفافية؟ قبل الأسد الابن، كان مفتي الجمهورية يتمّ اختياره بالانتخاب من قبل هيئة ناخبة تضمّ مفتي المحافظات والقضاة الشرعيين وأعضاء مجلس الإفتاء الأعلى ونقيب الأشراف. وأجريت آخر عملية انتخاب للمفتي في 1963، إثر تقاعد الشيخ أبو اليسر عابدين. يومها تنافس مفتي دمشق أحمد كفتارو، شيخ الطريقة النّقشبنديّة آنذاك، والشيخ المحافظ حسن حبنّكة الميداني. وفاز كفتارو بفارق صوتٍ واحد فحصل على 18 صوتاً مقابل 17 صوتاً لحبنّكة. وعاش كفتارو طويلاً، حتى نسيَ السوريون الاقتراع والانتخاب والديموقراطية والحرية، وألغى نور الدين الأتاسي منصب نقيب الأشراف في نيسان/ أبريل 1970، قبل أشهر فقط من إلغاء رفيقه حافظ الأسد إياه شخصياً، ومات الأتاسي ومات حبنّكة ومات حافظ الأسد، وحين مات الرجل أخيراً، أقدم الأسد الابن على الخطوة الأولى من إلغاء منصب المفتي، بأن عينه بمرسوم، ثم خفّض ذلك لاحقاً فصار يعيّن بقرار من وزير الأوقاف.

رد فعل من نوع الفعل ذاته

جاء ردّ فعل المعارضة من نوع فعل النظام ذاته، فتمّ تعيين المفتي في الظلام، وبينما كان الحسون مفتي النظام، غدا الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً للمعارضة، فسيس المنصب. منصب المفتي ليس سياسياً، وبالتالي لا يمكن اختياره أو انتخابه من قبل رجال دين معارضين أو موالين، ولا يمكن انتخابه في دولة أجنبية، تحتل جزءاً من أراضي البلاد.

منصب المفتي يحتاج إلى أرض محررة ولها مرجعية واحدة ومعترف بها، وهذا غير متحقق، فليس في سوريا أرض محرّرة ذات سيادة، ولا من مرجعية سياسية وإدارية واحدة تحكم تلك الأرض. ولئن استطاع الرفاعي أن يخطب في عفرين فلم يكون قادراً على أن يخطب في منبج ولا في إدلب، ناهيك بدمشق.

ثّم جاء اللقب الرسمي ليزيد من تشوّش السوريين. يدرك من انتخب المفتي أن قسماً كبيراً من السوريين لا يريد إدراج كلمة “العربية” (الجمهورية العربية السورية) في اسم البلاد، وهو أمر تتمّ مناقشته بين أطراف المعارضة في المؤتمرات وفي هيئة التفاوض وفي اللجنة الدستورية، فلماذا المسارعة إلى اعتماد اسم لا توافق عليه بين السوريين؟

وآخر القول إن شخصية أسامة الرفاعي شخصية جدلية، وجزء كبير من السوريين لا يوافقون عليه بسبب آرائه الراديكالية وموقفه السلبي من المرأة، ولا يزال صوته حاضراً وهو يخطب في المؤمنين قبل أشهر، متّهماً منظمات المجتمع المدني، واصفاً النساء اللواتي يعملن فيها بأنهن “مجنَّدات من الأمم المتحدة والغرب”، وقال: «هناك نساء من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، بل هم من أبناء بلدنا ومدننا. يأتون مجنَّدات من قبل الأمم المتحدة وغيرها”.

جماع القول إن تعيين الرفاعي مفتياً على سوريا لن يكون ذا شأن حقيقي، سوى كونه سيقسّم السوريين المقسّمين أساساً، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التوافق وتقريب وجهات النظر. على أنك قد أسمعت لو ناديت حياً.

درج

————————-

القرآن السوريّ: مفتي الجمهورية الوجه الآخر لنظام الأسد/ كارمن كريم

قد يبدو ما حصل مجرد خطأ عوقب عليه المفتي إلا أن ما خلف الكواليس في سوريا هو دوماً أكبر من مجرد تفسير خاطئ للقرآن.

يشيطن نظام بشار الأسد كلّ من هاجر أو ترك سوريا، وكأن تخطي الحدود تقابله بشكل حتميّ الخيانة والتنكر للبلاد التي علّمت أبناءها “مجاناً”، فالخائن بالنسبة إلى “الشبيحة” هو من لم يتحمل ظلم الديكتاتور، ومن خرج بحثاً عن حياة كريمة، أو أراد مستقبلاً أفضل لأطفاله. لنظام الأسد قاموسه الخاص حيث للوطن تعريف مختلف عن سائر العالم.

عنصرية المفتي السوري

من غير المستغرب اتباع أذرع النظام طريقته في شيطنة اللاجئين، لكن ما لم يحسب النظام حسابه هو “الذكاء المحدود” لداعميه، فحماسة مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون في التشبيح ستجعله يفسر إحدى سور القرآن على أنها تتحدث عن سوريا بالتحديد.

في عزاء الفنان الراحل صباح فخري، أكد المفتي السوري بدر الدين حسون ذكر سوريا في القرآن الكريم وقال إن خريطة سوريا موجودة في سورة “والتين والزيتون” قائلاً: “لقد خلقنا الإنسان في هذه البلاد في أحسن تقويم، فإذا تركها رددناه أسفل سافلين”. في تصريح المفتي هجوم واضح على اللاجئين والذين تركوا سوريا وهو ما أكده بالفعل إذ قال: “ثم يكمل الله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذا الأرض فلهم أجر غير ممنون، أي الذين بقوا في سوريا”. لينهي تصريحه الحماسي بدعوة اللاجئين إلى العودة بحجة أنهم لن يجدوا من يصلي عليهم في مماتهم. عنصرية حسون لم تقتصر على اللاجئين من السوريين وحسب بل امتدت إلى الأمم الأخرى، إذ اعتبر من أن ولد في سوريا أكثر حظاً من سواه من جهة خلق الله له.

استنكر المجلس العلمي الفقهي في دمشق ما أورده حسون وقال في بيانٍ أصدره لاحقاً إن التفسير مغلوط ويصب في مصلحة وأهواء شخصية دون ذكر اسم حسون وهو ما يشي بعودة نزاع قديم بين رئيس وزارة الأوقاف محمد عبد الستار السيد والمفتي حسون.

النظام السوري يقطع إحدى أذرعه

أصدر لاحقاً رئيس النظام السوري بشار الأسد مرسوماً انتقلت بموجبه مهمات المفتي حسون إلى المجلس الفقهي الأعلى وكانت مهمات حسون متمثلة في تحديد مواعيد الأشهر القمرية والتماس الأهلّة وإعلان الأحكام الفقهية وإصدار الفتاوى، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، لتنتهي 17 عاماً من تولي حسون منصب مفتي الجمهورية العربية السورية بطرفة عين.

قد يبدو ما حصل مجرد خطأ عوقب عليه المفتي إلا أن ما خلف الكواليس في سوريا هو دوماً أكبر من مجرد تفسير خاطئ للقرآن. بدايةً، محاولة التأثير سياسياً في السوريين من خلال الإسلام ليس بالأمر الجديد، حافظ النظام السوري على هذه العلاقة على مدار عقود، وكانت الذراع الدينية المتمثلة بوزارة الأوقاف ومفتي الجمهورية هي الظهر الذي يلجأ إليه كلما اقتضت الحاجة شأنه شأن كلّ أذرعه الأخرى. والذراع بالنسبة إلى النظام إضافة الى دعمها قراراته وأساليبه القمعية فهي “المطبّلة” لوجوده، وعلى رغم هذه العلاقة القوية بين النظام ومطبليه، إلّا أن الأول قادرٌ على التخلي عن أيّ منها متى اقتضت الحاجة أو إذا اكتفى من وجودها، فالتخلص من المؤيدين لا يتعلق بارتكابهم أخطاء وحسب، إنما قد يقرر النظام ضرورة التخلص من كلّ الأذرع القوية في مرحلة ما لما تشكله من تهديد له، أو قد يكتفي منها ببساطة، فالنظام يعرف اللعبة الديكتاتورية جيداً، فلا مجال للمخاطرة بترك أي فراغ قد يملأه الإسلام السياسي مثلاً. وهكذا تمكن النظام من اللعب لسنوات على الخط الفاصل بين السياسة والإسلام، لكن واقع اليوم يبدو مختلفاً، بخاصة مع التأثير الإيراني في المجلس العلمي الفقهي والذي قد يفتح المجال لدخول الإسلام السياسي بشكل جديّ.

الدور الديني الإيراني

يثير إلغاء منصب مفتي الجمهورية أسئلة حول الدور الإيراني في سوريا، بخاصة الديني، لن تكتفي إيران بطبيعة الحال بدورها السياسي، وتقوية وجودها الديني يتطلب تعزيز قواها على أرض الواقع عبر إلغاء منصب مفتي الجمهورية وتوسيع تمثيلها في المجلس الفقهي الأعلى والذي يضم جنسيات سورية وغير سورية.  المتحدث الرسمي باسم المجلس الإسلامي السوري مطيع البطين صرح بأن وزير الأوقاف في حكومة النظام السوري يسمي من يشاء للعضوية في المجلس وأن المجلس يضم بالفعل جنسيات سورية وأجنبية “في إشارة للدور الإيراني”.

التأثير الديني لإيران موجود بالفعل منذ سنوات، سواء باتخاذ القرارات السياسية أو التمدد الاجتماعي والثقافي داخل البلاد، على سبيل المثال كانت وزارة الأوقاف سابقاً تتبع دولة السعودية في التماس هلال شهر رمضان، لكن وبعد التبدلات السياسية خلال السنوات الماضية باتت تنتظر إعلان إيران التماس الهلال لتسارع إلى إعلانه وكأنها هي التي التمسته بنفسها وهو ما ينطبق على قرارات النظام السياسية الذي يبدو ظاهرياً أنه من يمسك بزمام القرارات في البلاد.

حادثة حسون ما زالت تشكل سبقاً صحافياً بخاصة بعد تصريح الممثل السوري دريد لحام الذي كرر ما قاله حسون في إحدى مقابلاته بأن السوريين مذكورون في آية “والتين والزيتون”، لكن السؤال هنا لماذا كرر لحام العبارة ذاتها؟ ألم يقرأ ردود الفعل أو يسمع بتصريح المجلس العلمي الفقهي؟ أم أن كلّ ما في الأمر هو محاولة النظام التأثير في السوريين المتعبين من خلال شخصيات مؤثرة، فعلى رغم الفقر والحرب، سوريا مذكورة في القرآن، لذلك على السوريين الجائعين أن يفرحوا!

درج

————————

إقالةٌ في دمشق

مايكل يونغ

يشرح توماس بييريه، في مقابلة معه، الأسباب التي أدّت إلى إلغاء منصب مفتي الجمهورية في سورية.

توماس بييريه باحث باحث أول في معهد البحوث والدراسات حول العالمَين العربي والإسلامي، وهو مركز متعدّد المجالات يربط بين جامعة إيكس-مرسيليا والمركز الوطني للبحث العلمي في مدينة إيكس-أون-بروفانس، فرنسا. وهو مؤلّف كتاب “الدين والدولة في سورية. العلماء السنّة من الانقلاب إلى الثورة” (Religion and State in Syria. The Sunni Ulama from Coup to Revolution) (منشورات جامعة كامبريدج، 2013)، وفصل Religious Governance in Syria Amid Territorial Fragmentation (الحوكمة الدينية في سورية وسط تفكك الأراضي”) في كتاب من تحرير فريدريك ويري بعنوان Islamic Institutions in Arab States: Mapping the Dynamics of Control, Cooptation, and Contention (المؤسسات الإسلامية في الدول العربية: تحديد ديناميكيات السيطرة والاستمالة والنزاع) (مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 2021). أجرت “ديوان” مقابلة مع بييريه في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر للوقوف على رأيه من القرار الذي اتخذه الرئيس السوري بشار الأسد بسحب الصلاحيات من مفتي الجمهورية السورية، الشيخ أحمد حسون، وإعادة توزيعها على مجلس يرأسه وزير الأوقاف.

مايكل يونغ: لماذا عمد الرئيس بشار الأسد إلى سحب جميع الصلاحيات من مفتي الجمهورية السورية وإعادة توزيعها على المجلس العلمي الفقهي؟

توماس بييريه: صدر القرار بعد بضعة أيام من إدلاء المفتي الحالي، الشيخ أحمد حسون، خطبة مثيرة للجدل. فقد ادّعى حسون، خلال تشييع المطرب الشهير صباح فخري من مدينة حلب، أن خريطة سورية مذكورة في سورة التين في القرآن، وأن الله خلق البشرية في سورية، وأن مَن غادروا البلاد، أي اللاجئين، مصيرهم الهلاك. لطالما كان حسون محط كره من عدد كبير من زملائه، وموضع سخرية من العامة بسبب تأويلاته الغربية للنصوص الدينية.

في الواقع، كان منصب مفتي الجمهورية قد أُفرِغ من مضمونه في العام 2018، حين نص القانون 31 على خفض مدة الولاية إلى ثلاث سنوات بعدما كانت لمدى الحياة، ونقل صلاحيات المفتي الفقهية (الاسمية) إلى المجلس العلمي الفقهي الذي كان قد أنشئ حديثًا ويرأسه وزير الأوقاف. أما في ما يتعلق بالإلغاء الكامل لمنصب المفتي بموجب المرسوم الأخير، فهو ليس في رأيي قرارًا استراتيجيًا من النظام (إذا كان المقصود بالنظام الأسد وجماعته)، بل مردّه إلى أن أعداء حسون داخل البيروقراطية الدينية للدولة السورية استغلوا موقعه الضعيف نسبيًا.

يونغ: كيف تصف لنا حسون؟ وكيف كانت علاقته مع نظام الأسد؟

بييريه: هو نجل باحث ديني محترم من حلب، وذاع صيته في البداية كخطيب فصيح في صلوات الجمعة، ثم كنائب في البرلمان في التسعينيات. ونظرًا إلى ولائه الشديد للنظام، وإلى كونه شخصًا ضعيف الشأن في أوساط النخبة الدينية السنية، لم يكن النظام يرى فيه تهديدًا له، فتم تعيينه في منصب مفتي الجمهورية في العام 2005. وبعد تسلمه المنصب، عبّر عن آراء غير امتثالية واصفًا نفسه بأنه “علماني”، ومشددًا على القواسم المشتركة بين الإسلام والمسيحية، ومتبنّيًا خطابًا ودّيًا حيال الشيعة.

كانت هذه المواقف منسجمة مع توجهات النظام، ولكنها جعلت من حسون مصدر إحراج للأسد في علاقته مع العلماء الدينيين الذين يتألفون بأكثريتهم من المحافظين. وفي الأعوام الأخيرة، فقدَ المفتي حظوته ويعود ذلك إلى شراكته في مجال الأعمال مع رامي مخلوف، ابن خال الأسد الذي كان سابقًا الرجل الأول في سورية الأول في المشهد الرأسمالي السوري القائم على المحسوبيات، وقد جرت مصادرة أصوله في العام 2020؛ وإلى المكائد التي حاكها له خصومه في أوساط رجال الدين السنّة.

يونغ: يبدو أن إحدى المشاكل التي يعاني منها حسون، والتي أدّت إلى تهميشه، هي عداوته مع وزير الأوقاف الحالي، محمد عبد الستار السيد. هلّا تشرح لنا هذه الخصومة في سياقها الأوسع؟

بييريه: أصدر المجلس العلمي الفقهي برئاسة السيد بيانًا شديد اللهجة دحض فيه تأويل حسون لسورة التين. غالب الظن أن الوزير كان خلف قرار إلغاء منصب مفتي الجمهورية، وقبل ذلك، خلف إقرار القانون 31 للعام 2018. أبعد من التعصب الفئوي والمناطقي (حسون من حلب، في حين أن السيد من طرطوس ومرتبط بصورة خاصة بالعلماء في دمشق)، يتعلق الخلاف بمسائل العقيدة الدينية. لقد حشد السيد، فور تعيينه في العام 2007، الدعم من العلماء الموالين للنظام من خلال مناصرته الأصولية السنّية في مواجهة شخصيات غريبة الأطوار مثل حسون. وقاعدة الوزير المحافظة هي التي جعلت منه شريكًا أكثر مصداقية للنظام من مفتي الجمهورية الذي كان معزولًا نسبيًا داخل الميدان الديني.

يونغ: أشارت مصادر معارضة إلى أن السلطة الأوسع التي مُنِحت للمجلس العلمي الفقهي مرتبطة بالنفوذ الإيراني في سورية، نظرًا إلى أن إيران تملك مصلحة في إبقاء السنّة ضفعاء من خلال إضعاف المنصب الديني الأعلى للطائفة. ما حقيقة هذا الاعتقاد؟

بييريه: لا أوافق على هذا التحليل لأن حسون هو في الواقع شديد الولاء لإيران،وتربطه علاقة وثيقة مع الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإسلامي العاملة في سورية. وحين أصبح شخصًا غير مرغوب فيه من الإعلام الرسمي السوري قبل عامَين، استمر في الإطلالة بصورة واسعة عبر الوسائل الإعلامية المدعومة من إيران. لا أستثني تمامًا أن الدعم الإيراني قد يساعد حسون في الاحتفاظ ببعض التأثير، حتى بعد إقالته. أما السيد من جهته، فهو مقرّب من روسيا، ويمثّل نظرة سنّية أكثر تصلبًا إلى الإسلام، لا تتناسب جيدًا مع الأجندة الإيرانية في سورية.

إضافةً إلى ذلك، قد يسدّد إلغاء منصب مفتي الجمهورية ضربة رمزية للطائفة السنية، لكنه لا يجعلها أضعف مما هي عليه في الأصل. فحين ندّد العلماء المناهضون للنظام، مثل علماء المجلس الإسلامي السوري الذي يتخذ من اسطنبول مقرًا له، بهذا القرار، لم يكن السبب أنهم سيفتقدون لمنصب مفتي الجمهورية بصيغته التي كانت قائمة في ظل البعث، حيث كان يتولى المنصب أشخاصٌ خاضعون للنظام بالكاد يصدرون فتاوى، وتنصبّ معظم اهتماماتهم على البروتوكول والعلاقات العامة. بل هم يتأسّفون على المنصب كما كان قائمًا، على ما يُزعَم، قبل العام 1963، وكما كان يجب أن يبقى في نظرهم، أي أن يشغله علماء بارزون يمتلكون رصيدًا رمزيًا يتيح لهم الاحتفاظ بمستوى معيّن من الاستقلالية السياسية.

يونغ: ما هو المجلس العلمي الفقهي، وكيف يتناسب مع مخططات النظام؟

بييريه: إنه سلطة دينية جماعية تضم شخصيات مثل رئيس المحكمة الدينية في دمشق، وممثلي جامعات إسلامية، وغيرهم من العلماء المرموقين. وهو من بنات أفكار الأجندة الشخصية للوزير السيد، وليس من نتاج استراتيجية كبرى وضعها النظام. لقد عمل السيد، منذ تعيينه، على بناء المؤسسات في وزارته التي كانت عبارة عن قوقعة فارغة لأن النظام كان يفضّل مراقبة الأنشطة الدينية بطريقة غير نظامية، من خلال الأجهزة الأمنية، بدلًا من اللجوء إلى بيروقراطية دينية موسّعة كانت لتؤدّي إلى نمو مجموعة ضغط سنّية محافظة داخل أجهزة الدولة. وقد تمكّن السيد من إقناع الأسد بأن تغيير المسار هو السبيل الوحيد لكبح صعود التطرف.

صحيحٌ أن المجلس العلمي الفقهي يخدم طموحات الوزير الشخصية (إذ عُيِّن نجله عضوًا في المجلس)، لكنه يلبّي أيضًا تطلعات مناصري السيد في أوساط العلماء، والذين لطالما طالبوا بإنشاء مثل هذه الهيكلية الجماعية. يرى أعضاء المجلس أنه يحمل فوائد عدة. أولًا، أنشئ المجلس لممارسة الصلاحيات الفقهية التي كان مفتي الجمهورية قد تخلى عنها بحكم الأمر الواقع طوال نصف قرن من الزمن. ثانيًا، أتاحت المشاركة في المجلس للعلماء العودة إلى إحدى المؤسسات الأساسية للوزارة بعد عقود من الإقصاء. الصفقة هي على النحو التالي: يحصل أنصار السيد في أوساط العلماء، مقابل ولائهم المطلق للنظام في الشؤون السياسية، على سيطرة نظامية أكبر على شؤون العقيدة الدينية التي تشكّل هاجسهم الأساسي.

يونغ: ماذا تستخلص عمومًا من هذه الحادثة حيال المشهد الديني في سورية اليوم؟

بييريه: يدلّ اتخاذ النظام قرارًا سريعًا بإلغاء مؤسسة رمزية، وإن غير فعالة، كمنصب مفتي الجمهورية، على الضعف الشديد الذي تعاني منه الطائفة السنّية في سورية بعد الانتصار الذي حققه الأسد على المعارضة. ويَظهر هذا الضعف أيضًا من خلال الهدف المتوخّى من هذا القرار، وهو ليس القضاء على تهديد معيّن، بل ببساطة التحكيم في نزاع بين شخصيتَين، حسون والسيد، وكلاهما مواليان بالدرجة نفسها للنظام الحاكم.

لكن هذا لا يعني أن المؤسسة الدينية السنية لن تسبّب أبدًا بعد الآن متاعب للأسد. لا أقصد بهذا الكلام أن لدى السيد وأصدقائه طموحٌ بتحدّي النظام، بل ما أقصده هو أن هناك قواعد أخرى موالية للنظام، ولا سيما في أوساط العلويين، لا تثق على الإطلاق بالمحافظين السنّة، حتى لو كانوا يكنّون ولاءً كاملًا للأسد. وفي العام 2018، نجحت تلك القواعد في الدفع نحو إعادة صياغة مشروع القانون الذي أصبح لاحقًا القانون 31، بعدما اتهمت السيد بمحاولة توسيع التأثير الذي تمارسه وزارته على الدولة السورية بصورة عامة. قد تتكرر مثل هذه الحوادث في المستقبل، في حال استمر السيد في سياسته الهادفة إلى بناء مؤسسات داخل وزارته.

—————————

إلغاء منصب الإفتاء يُقابله افتتاح كلية لاهوت… هل يُغيّر الأسد المشهد الديني في سوريا؟

افتتح النظام السوري، في دمشق، كلية اللاهوت الخاصة التي تُعدّ الأولى من نوعها في سوريا، ومخصصة لدراسة اللاهوت المسيحي، وذلك بعد أيامٍ من إلغاء منصب مفتي الجمهورية، وهو ما طرح تساؤلات حول مستقبل “المشهد الديني” في سوريا.

أرسل النظام وفداً حكومياً مكوّناً من وزير شؤون الرئاسة، منصور عزام، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، بسام إبراهيم، لحضور مراسم الافتتاح التي شارك فيها بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، يوسف العبسي.

وقال البطريرك العبسي، خلال الافتتاح، إن “الكلية تأسست بموجب المرسوم رقم 6 لسنة 2019، الصادر عن الرئيس بشار الأسد”، وشدد على “تقديره لحرص سيدة سوريا الأولى أسماء الأسد، على افتتاح هذه المؤسسة، لتكون مركزاً صغيراً للأفكار اللاهوتية الشرقية المعاصرة”.

من جانبه، أكد وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أن الكلية “هي الأولى من نوعها أكاديمياً على مستوى سوريا، من حيث تدريس اللاهوت، وتأهيل الكوادر المتخصصة والمتميزة من ذوي القدرات العلمية والبحثية”، وقال: “سوريا التي رفضت كل أشكال الخضوع، تثبت اليوم أنها بلد التسامح، ومهد المسيحية، وحاضنة الإسلام، ومئذنة الاعتدال في عمقها الثقافي، ونبذ التطرف، والعنف، والكراهية، والتمييز بين الناس”.

وقال رئيس منظمة سوريون مسيحيون من أجل السلام، أيمن عبد النور، لرصيف22، إن “كلية اللاهوت تتبع للروم الكاثوليك، وليس كل مسيحيي سوريا، بمعنى آخر هي “هدية” للبابا في الفاتيكان، وهدية أيضاً قدّمها الأسد للسريان الكاثوليك التابعين أيضاً للبابا، وكانت مكافأةً على زيارة وفد رفيع المستوى من الفاتيكان إلى سوريا، في 2019″.

وأشار إلى أن “النظام يجيد استخدام الورقة الدينية في الحصول على الدعم، خصوصاً في الخارج. في المقابل، فشلت المعارضة السورية في أن ترقى إلى مستوى حسن التعامل مع الطوائف والأديان داخل البلاد، وخارجها”.

وظهرت طوال سنوات الحرب، في العديد من المدن السورية، صور للأسد، مرتدياً نظارات سوداء، وزياً عسكرياً، إلى جانب صورة مريم العذراء، وجندي شهيد، في رسالة تقدّم الرئيس السوري، على قدم المساواة مع والدة المسيح، على أنه الملاك الحارس لمسيحيي سوريا.

وقال عبد النور إن “الأسد لم يروّج لهذه الدعاية داخل البلاد فحسب، بل عمل على تقوية العلاقات مع الغرب من خلال الفاتيكان، وأيضاً مع البروتستانت في أمريكا، من خلال منحهم حق إقامة خمس كنائس جديدة، كذلك سمح للهندوس بإقامة ندوات وتجمعات، وفعل مع الأحمديين أشياء مماثلة”.

لم يسحب الفاتيكان اعترافه بالنظام السوري، أو حتى سفيره في دمشق، على غرار الحكومات الغربية، منذ اشتعال الثورة في عام 2011، بل استمر تبادل الزيارات الرفيعة المستوى والرسائل الدبلوماسية التي تجنّب فيها تحميله مسؤولية العديد من الجرائم التي شهدتها البلاد على مدار أكثر من عقد.

ضغط الفاتيكان في عام 2013، بشكلٍ ناعمٍ، على الولايات المتحدة، لمنع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما من التدخل عسكرياً ضد النظام السوري، بعد استخدام الأسلحة الكيميائية، وظل مدافعاً قوياً عما أسماه “الحل الدبلوماسي” في سوريا.

في ذلك العام، جمع الفاتيكان قرابة 70 من سفرائه، لإطلاعهم على موقفه من الصراع السوري، على أمل أن ينقلوا هذه الرسالة إلى حكومات البلدان المضيفة لكل منهم. وفي مساء يوم 7 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، اجتمع أكثر من مئة كاثوليكي في ساحة القديس بطرس، استجابةً لدعوة البابا، للمشاركة في يومٍ للصوم والصلاة من أجل السلام داخل سوريا.

وقرر البابا فرانسيس إصدار المرسوم للكنيسة الكاثوليكية، وكذلك لجميع أتباع الديانات الأخرى التي تدعو للسلام، بعد تزايد احتمال توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد نظام الأسد. وكانت هذه الأعمال رمزيةً بحتة، وليس لدى الفاتيكان أي وسيلة لفرض آرائه، على عكس الدول الأخرى، لكن كان واضحاً للغاية أن لديه تأثيراً ناعماً على دول العالم، من خلال الدبلوماسية الدينية.

وقال عبد النور، إن “النظام تعاون بشكل جيد للغاية مع القيادات الدينية كلها، وفي دول العالم كلها، وتالياً أصبحوا هم سفراء ومدافعين عنه، ولا يعرفون ما هو الإجرام الذي يرتكبه بحق الناس، وهذه هي المشكلة الأساسية”.

جاء الإعلان عن إنشاء كلية اللاهوت الخاصة، بعد أيام قليلة من قرار الرئيس السوري إلغاء منصب المفتي، الذي كان يشغله أحد رجال الدين السنّة في البلاد، وهي خطوة عدّها عبد النور ضمن جهود النظام لتغيير المشهد الديني في سوريا.

يقول عبد النور إن “النظام يعتقد أن السنّة العرب تحديداً، هم الذين كانوا الحامل الأساسي للثورة ضده، وتالياً المطلوب تجييش الطوائف الأخرى كلها ضد العرب السنّة، وأيضاً إضعاف مرجعياتهم، بحيث لا يكون لديهم مرجعيات دينية محترمة، يستطيعون التجمع خلفها. لذلك تم إلغاء منصب المفتي، وإلحاقه بشخصٍ ذي سمعة سيئة اقتصادياً ومالياً مع أولاده، كوزير الأوقاف محمد السيد”.

وأضاف عبد النور: “تم تشتيت الإفتاء بين مختلف الطوائف والمذاهب، من أجل تحويل المذهب السنّي إلى أحد المذاهب المعترف بها في سوريا، وليس المذهب الرئيسي الذي تستمدّ منه كثير من القضايا الفقهية، في صياغة القوانين، وخاصةً قوانين الوقف، والأحوال الشخصية”.

من المعروف أن دستور سوريا علماني، لكنه ينص في الوقت ذاته على وجوب أن يكون الرئيس مسلماً. وكان حافظ الأسد الأب، أول علوي يتولى رئاسة الدولة. ويعدّ المسلمون السنّة، الذين يشكلون حوالي 75% من سكان سوريا، العلويين فرعاً من الإسلام الشيعي. وكان العلويون قبل الحرب الحالية، يمثّلون حوالي 10% من السكان.

ومع ذلك، يصعب حالياً تقييم الأرقام، ودقّتها، لكن يُعتقَد أن نسبة العلويين قد ارتفعت الآن إلى ما يقرب من 15% من إجمالي عدد السكّان، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن هناك الملايين من المسلمين السنّة قد غادروا سوريا كلاجئين. ويشكّل المسيحيون نحو 10% من السكان، بينما يمثّل الدروز والإسماعيليون معاً، نحو 5%.

في عام 2012، فُرضت صفقات “التجويع أو الاستسلام/ المصالحة”، على السكان الذين يُنظر إليهم على أنهم غير موالين للنظام. كانت أول صفقة من هذا القبيل في حمص، حيث تم نقل معارضي نظام الأسد في “الحافلات الخضراء” الشهيرة، إلى محافظة إدلب، التي تضخّم عدد سكانها الآن، مع المزيد والمزيد من النازحين، ومعظمهم من المسلمين السنّة.

بحلول أواخر عام 2016، وبعد نزوح نصف السكان السوريين، ومنح الجنسية السورية لعشرات الآلاف من المرتزقة الإيرانيين الذين قاتلوا لإبقائه في السلطة، ذكر الأسد في مقابلة أمريكية، أن “النسيج الاجتماعي أفضل بكثير من ذي قبل”.

رصيف 22

——————————

علماء سوريا انتخبوا الشيخ الرفاعي؟/ خطيب بدلة

قبل أيام؛ بتاريخ 22 من تشرين الثاني تحديداً، نشرت صفحة الائتلاف الفيسبوكية خبراً يبدأ بالجملة التالية: (أجرى رئيس الائتلاف الوطني السوري، سالم المسلط، زيارة إلى سماحة الشيخ العلامة أسامة الرفاعي، وبارك له على انتخابه مفتياً عاماً للبلاد، وحصوله على ثقة علماء سوريا والشعب السوري).

لا أريد مناقشة فكرة انتخاب (أو تعيين) الشيخ أسامة لمنصب مفتٍ عام لسوريا، فقد انقسم المعارضون السوريون حول هذا الإجراء، منذ لحظة إعلانه، بين مؤيد ومعارض، وبين فريق يبالغ في أهميته، وثان يقلل من شأنه، وثالث يعامله باللامبالاة.. ما أريد مناقشته، هنا، هو الجملة الأخيرة من الخبر، ونَصّها: “حصوله على ثقة علماء سوريا، والشعب السوري”. 

إذا كان رئيس الائتلاف، الأستاذ سالم المسلط، قد قال هذه العبارة بالفعل، فالحري به أن يصدر بياناً يوضح فيه أنه لم يقصدها بحرفيتها، وإنما هي نوع من العبارات الشائعة التي تُقال في أثناء إبداء المحبة لشخص ما، ومجاملته، لا أكثر.. وأما إذا كان الخطأ من اللجنة الإعلامية التي صاغت الخبر، فلا شك أنه خطأ مهني جسيم، يقع على أعضائها واجب تصحيحه..

يوحي استخدام مصطلح “علماء سوريا”، في هذا السياق، بأن الذين وثقوا بالشيخ أسامة الرفاعي هم (كل العلماء) السوريين، المختصين بالعلوم الإنسانية، من فيزياء، وكيمياء، ورياضيات، واجتماع، وفلسفة.. بالإضافة إلى علماء الدين.. وجملة “علماء الدين”، هي الأخرى ملتبسة، فالمفروض أن يوضح الأستاذ سالم، (والخبر المنشور على صفحة الائتلاف)، أن المقصودين هم علماء الدين الإسلامي السني، ليس في سوريا كلها بالطبع، بل في المناطق الشمالية التي يطلقون عليها اسم “المحرر”.. وبالنسبة لهذه الفئة، أقصد علماء الدين الإسلامي في المحرر، لا يستطيع أحد أن يجزم بأن جميعهم انتخبوا الشيخ أسامة، بدليل أن مداخلات كثيرة، نُشرت، بعد إعلان انتخابه، توضح أن الانتخاب (أو التعيين) اقتصر على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى، الذي يرأسه الشيخ أسامة نفسه، وهناك من تساءل: لماذا لم يَنتخب المجلس، أو يعينْ رجلاً آخر، من ضمن المجلس الإسلامي أو من خارجه، لهذا المنصب، درءاً لفكرة تعدد المناصب للشخص الواحد؟

نأتي الآن إلى الفكرة الأكثر التباساً وخطورة، وهي أن الشيخ أسامة، بحسب رئيس الائتلاف، حاز ثقة (الشعب السوري)..

إذا أحب القراء الأكارم أن أشاركهم بهواجسي وتفكيري حول هذه النقطة، فإنني أقول: في ثورة 2011، كانت أعيننا تدمع من شدة الانفعال في أثناء ما كنا نهتف “الشعب السوري واحد”، ثم لم يطل بنا الأمر حتى رأينا، على أرض الواقع رأيَ العين، ولمسنا لمسَ اليد، أن الشعب السوري ليس واحداً، ولا ما يحزنون، فقد راح كل مكون ديني، أو مذهبي، يتقوقع في منطقته، وهذه المكونات لم تتجه لتحقيق الشعار الذي هتفنا به، بل نحو التناحر، ولن أسهب في هذا الأمر، لأنه معروف، وأنا تناولته بالتفصيل الممل في كتابي “تجربتي في الثورة السورية كفرية والفوعة وريف إدلب” الذي صدر عن المركز العربي سنة 2017، ولكن الأمر المهم الذي فاتني ذكرُه في ذلك الكتاب، وهو الأخطر على الإطلاق، أن الانقسام التناحري لم يقتصر على المكونات الدينية والمذهبية، بل ذهب أبعد من ذلك بكثير.. فعلى سبيل المثال؛ ثوارُنا في مناطق إدلب، وهم من أهل السنة طبعاً، أعلنوا العداء لأهل حلب، وهم من أهل السنة أيضاً، لسبب بسيط هو أن أهل حلب لم يثوروا مثلنا، أو بتوقيتنا، ومن الأمور المضحكة، المؤلمة، أن حاجزاً للثوار أقيم على طريق حلب دمشق، كان ثوار الحاجز يوقفون الباصات الذاهبة من حلب إلى دمشق، أو العائدة من دمشق إلى حلب، ويصعدون إلى الباص، ويوبخون الركاب، ويتهمونهم بالنذالة والتشبيح للنظام.. ومما حصل معي، شخصياً، أن مجموعة من الثوار، في مظاهرة ضخمة تجمعت عند جامع سعد بمدينة إدلب، في تشرين الثاني 2011 على ما أذكر، بدؤوا يهتفون ضد أهل حلب، هكذا، وبكل بساطة، ودون تمييز، وحينما تقدمت من المنصة وحملت الميكروفون وقلت إن هذا الهتاف غير لائق بحق أهلنا في حلب، صار البعض يستهزئون بي، وقال لي أحدهم ما معناه: رقة قلبك هذه لا تفيد الثورة يا أستاذ.

فكرةُ الشعب (كله) الذي يحب شخصاً ما، ناصرية بامتياز، فجمال عبد الناصر، بحسب المديح الذي كان يُكَال له، خطابةً أو غناءً، هو حبيب الملايين، وقائد الأمة العربية (من المحيطِ الهادرِ- إلى الخليجِ الثائرِ- لبيكَ عبدَ الناصرِ)، ومع أن عبد الناصر كانت له جماهيرية محلية وعربية حقيقية، ولكن كان له خصوم وكارهون وشاتمون، فبأي حق يزعم مؤيدوه أنه حبيب الكل؟ وأنتم، سادتي، تعرفون أن الطغاة الذين ظهروا في بعض الدول العربية، تزامناً مع رحيل عبد الناصر 1970 تقريباً، كلهم، بلا استثناء، يزعم إعلامهم أنهم يقودون الأمة العربية من الماء إلى الماء، ولن أكثر هنا من الأمثلة، فصدام حسين حقق في آخر استفتاء عليه، في العراق، نسبة 100%، بالإضافة لكونه قائد الأمة العربية، والسوريون الذين كانوا يجبرون على الخروج في مسيرات تأييد لحافظ الأسد كانوا يهتفون على نحو منغم: حافظ- أسد- رمز الثورة العربية، ناهيك عن الأغاني التي كانت تصر على أنه ليس قائد الشعب السوري، وأبرزها: معك الشعب، كل الشعب، الله معك يا حبيب الشعب.

ما جئت به من أمثلة على الانقسامات المجتمعية الأفقية والشاقولية التي تعمقت خلال العقد الأخير من عمر سوريا لم تقتصر على الحكي، والرأي، والموقف، بل تعدتها، بعد التسلح، إلى التناحر، وتجاوزت، مع الأسف، الصراع بين الأديان والقوميات والمذاهب، باتجاه الاقتتال ضمن أهل المنطقة الواحدة، والقومية الواحدة، والدين الواحد، والمذهب الواحد.. ولو كانت هناك إحصائية دقيقة للشبان من أهل السنة الذين قتلوا على يد شبان من أهل السنة، لربما أصبنا جميعاً بالذهول.

قبل (أخيراً): لم يقتصر الصراع الذي كبر واتضح في الفترة الأخيرة على التيارات والمكونات السياسية والدينية والمذهبية، بل تُوجت بتنامي العداء للمرأة.. والشيخ أسامة الرفاعي، نفسه، كانت له مساهمة فعالة في هذا المجال، عبر عنها خلال خطبته الأخيرة للشمال “المحرر” قبل مدة قصيرة..

أخيراً: يبدو أنني رسمت، خلال هذه المناقشة صورة غير ناصعة لأوضاعنا نحن السوريين، ولكن الإشارة إلى المصائب والكوارث، برأيي، أفضل من النوم عليها، واستخدام عبارات غير واقعية في وصفها، كتلك التي استخدمها الأستاذ سالم خلال تهنئته الشيخ الرفاعي. 

تلفزيون سوريا

——————-

من انتخب الشيخ أسامة الرفاعي؟/ يامن المغربي

خلال ثلاثة شهور، أثار المجلس الإسلامي السوري الجدل مرتين؛ في المرة الأولى خلال شهر آب/ أغسطس الماضي، عندما هاجم الشيخ أسامة الرفاعي منظمات مجتمع مدني تعمل في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، محذراً من نساء يعملن في هذه المنظمات، مكلفات “بنشر الفساد بين النساء المسلمات، بتوجيهٍ من منظماتهن الكافرة”، حسب نص الخطبة التي ألقاها الرفاعي في مدينة إعزاز، في ريف محافظة حلب، والمرة الثانية عندما أعلن المجلس عن “انتخاب” أسامة الرفاعي “مفتياً” لسوريا، بعدما أصدر بشار الأسد مرسوماً بعزل أحمد حسون، المفتي السابق، ونقل صلاحياته إلى المجلس الفقهي التابع لوزارة الأوقاف.

علينا أن نتوقف عند العديد من النقاط في”انتخاب” الرفاعي؛ أولاً، من انتخبه؟ المجلس انتخبه! حسناً من أعطى الصلاحيات للمجلس للانتخاب أصلاً، وهو ليس جهةً رسمية؟ ومن انتخب المجلس لينتخب الرفاعي؟ لا أحد!

“علماء دين” اجتمعوا في مدينة إسطنبول التركية، في العام 2014، وأعلنوا عن ولادة المجلس، في حالة تتشابه حد التطابق مع حالات المؤسسات السياسية للمعارضة السورية، والتي تدّعي بدورها أنها تمثّل السوريين “بشكل شرعي”، ويتبادل أعضاؤها السلطة في ما بينهم، وهم ينتظرون أوامر الداعمين.

النقطة التالية التي يجب التوقف عندها، هي أن منصب المفتي يمثّل السوريين المسلمين، السنّة منهم فحسب، إذ إن الاختلافات الجوهرية بين السنّة، والشيعة، والعلويين، والإسماعيليين، وغيرهم من الطوائف الدينية المنتمية إلى الدين الإسلامي، لا تعطي لأي مفتٍ القدرة على منح فتوى عامة، إلا في أمور عامة تتعلق بالدين الإسلامي، موجودة في الطوائف كلها، وعلى هذا الأساس يجب أن يكون المفتي مفتياً للسوريين “المسلمين” كلهم، حصراً، وهذا ما لا يمكن أصلاً، لأن السوريين أنفسهم يملكون من أسباب الانقسام، وأدواته، الكثير، حتى أن السنّة أنفسهم منقسمون بفعل السياسة.

النقطة الثالثة: جاءت خطوة “المجلس الإسلامي” بسبب التخوفات من تحركات الأسد، والمجلس الفقهي التابع لوزارة الأوقاف في حكومة النظام السوري، لأن المجلس الفقهي يضم مختلف الطوائف الدينية الإسلامية، وتالياً فهناك اتهامات بتدخلات إيرانية واسعة فيه، ليتحول، حسب الاتهامات، إلى مجلس إيراني، يتبع لإيران ولو كان بطريقة غير مباشرة. إذاً، في المضمون هي خطوة ضد إيران والأسد. لكن هل يملك المجلس الإسلامي استقلاليته أصلاً؟ وكيف يمكن للسوريين ألا يصدّقوا أنه، كما الائتلاف وغيره من المؤسسات، ينتظر أوامره، ويتحرك وفق الدول الداعمة له؟ ما الفرق إذاً؟ الخوف من تشييع سوريا؟ هل تعلم يا عزيزي عدد السنّة المؤيدين للأسد ممن لم يحرّكوا ساكناً، والبراميل تنهال على رؤوس المدنيين؟

المجلس غير المنتخب، الذي لا يملك أصلاً أي صلاحية قانونية، قادر على مهاجمة النسويات السوريات، والمجتمع المدني، لكنه غير قادر على اتخاذ موقف واضح من عمليات ترحيل اللاجئين السوريين في تركيا، إذ أثنى في بيانٍ، على التسهيلات التي تقدّمها تركيا، متناسياً مئات المشكلات التي يواجهها السوريون، ومتى؟ في أثناء حملات حكومية ضد السوريين (ولست هنا في صدد الحديث عن عمليات الترحيل، وأسبابها، وقانونيتها). اللافت في الأمر، أن بيان المجلس في تلك الفترة، جاء مشابهاً لبيان الائتلاف السوري. التشابه هنا ليس صدفةً، بل هو نتيجة أن الأوامر تأتي من طرف واحد!

فكيف نستطيع التصديق أن الرفاعي ومجلسه، الذي أصدر فتاوى عن تحريم التداول بالعملات الرقمية، والوساطة الإلكترونية، وهاجم النسويات، ولم يتحدث عن معاناة السوريين إلا في حال كانت معاناتهم تتصل بإيران (كما تهجير أهل درعا)، يمكن أن يكون مفتياً للسوريين كلهم؟ وكيف نستطيع أن نصدق الرفاعي، وفتاواه، وهو لم يهاجم جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام، كما عُرفت لاحقاً، على الرغم من أن المجلس يقول عبر موقعه الإلكتروني، إنه “جهة وسطية”، وهو ما لا يتفق نهائياً مع “منهج تحرير الشام”، ولا مع “داعش”، وغيرها من التنظيمات؟ أما كان من الأجدى بدلاً من مهاجمة النسويات، أن يهاجم النصرة، وهي لا تبعد عن مكان إلقاء خطبته سوى بضعة كيلومترات؟

المجلس، والرفاعي الذي أضحى مفتياً عاماً لسوريا، “يريدان الحفاظ على هوية المجتمع السوري، ومسار ثورته”، وفق الموقع الرسمي. لكن، من حدد هوية المجتمع السوري الذي يضمّ عشرات الطوائف، والإثنيات، والأعراق، والتوجهات الليبرالية، واليسارية، إلى جانب شريحة من المجتمع المحافظ، كما أن هناك ملحدين، ولا دينيين، وتوجهات كثيرة أخرى أيضاً؟

خطوة الرفاعي لا تنفصل عن خطوات المعارضة السورية وتوجهاتها كلها، والأساليب والأهداف نفسها. لا أصدّق، وكثيرون غيري، أن مجلساً يضم السلفيين، والإخوان المسلمين، وغيرهم، يمكن أن يكون للسوريين كلهم. هذا الأمر منافٍ للمنطق، والهدف كما في كل مرة، صبغ سوريا بهوية واحدة، كما صبغها البعث من قبلهم على مدار خمسين عاماً. الفارق أن البعث ادّعى القومية، وهؤلاء ادّعوا أن سوريا إسلامية، وكذلك ثورتها، وهو أمر لم يكن يوماً صحيحاً، ولن يكون بطبيعة الحال.

أما إذا كان السؤال: من أين سيأتي السوري بالفتاوى اللازمة لمعرفة دينه؟ فهناك عشرات الجهات الرسمية التي يمكن اللجوء إليها، وإن كنت شخصياً لا أنصح بالأزهر الذي رفض تكفير داعش، ولديه من إثارة الجدل الكثير. هنا حالة أخرى يجد فيها المجلس من يشبهه، وربما المؤسسات الدينية تتشابه هكذا دائماً، والنتيجة هي نفسها. لذا، ربما على المجلس أن ينضم إلى الأزهر في مصر، أو أن يعلن نفسه “إخوانياً” بشكل كامل. فليفعل ما يشاء، لكن لا يمكن أن يكون رئيسه مفتياً عاماً للسوريين، سنّة كانوا، أم غير ذلك، لأنه ليس مستقلاً أصلاً، على الأقل من وجهة نظري الشخصية التي تمثلني أنا فحسب! وليس مطلوباً منها أن تمثل السوريين أساساً!

نقطة أخيرة أنهي فيها مقالي بطلبٍ واحد: ألقوا نظرة على الموقع الرسمي للمجلس، واقرأوا فتاواه، وبياناته، التي تعكس طريقة تفكير أعضائه، وتوجهاتهم، والتي لا تدلّ إلا على الحلم بسوريا إسلامية لا تشبه سواهم، ثم فكّروا هل هذه هي سوريا التي نريد؟ وهل هذا المجلس يمثّل السوريين، ويمكن له أن “ينتخب مفتياً عاماً”؟

رصيف 22

———————————-

مراحل هيمنة النظام على الحقل الديني وصولاً إلى إلغاء منصب المفتي/ عدنان علي

الجدل الذي أثاره قرار رئيس النظام بإلغاء منصب مفتي الجمهورية، تطرق لجوانب عدة بشأن دلالات ومؤشرات هذا القرار، وخاصة لجهة تهميش دور المرجعية الدينية، غير أن هذه التحليلات، ومعظمها قد يكون صحيحا، لم تركز على جانب مهم في هذه الخطوة، وهي أن إلغاء منصب المفتي كان مجرد حصيلة لسياسة ممنهجة مديدة استهدفت الهيمنة الكاملة على الحقل الديني على غرار مصادرة وتدجين المناصب والأدوار الأخرى في الحياة السياسية والمجتمعية خلال حكم الأسدين، الأب والابن.

والمفتي الذي يفترض أنه يقف على رأس المرجعية الدينية، ويحتفظ بقدر عال من الاستقلالية عن مؤسسات النظام الحاكم، كف منذ عقود عن تأدية هذا الدور، وتحول إلى مجرد صدى باهت لتوجهات النظام السياسية والدينية. والواقع أن هذا هو أيضا حال المؤسسات والهياكل والمراجع الأخرى، بما في ذلك حزب البعث الذي يفترض أنه حاكم، وهو في حقيقة الأمر مجرد واجهة حزبية لطغمة أمنية طائفية، كما هو المفتي مجرد واجهة دينية.

لقد عملت المنظومة الأمنية الأسدية على تفريغ جميع المؤسسات والمناصب من مضمونها، لتحل مكانها واجهات تحمل الاسم القديم فقط، ومضمونها الوحيد، أو الأبرز على الأقل، هو الطاعة العمياء للمنظومة الحاكمة. هذا حال نقابات العمال، والفلاحين، والشبيبة، والمرأة، والمحامين والمهندسين.. الخ وكذلك الأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، البرلمان وجهاز القضاء. وأيضا الجامعات ومراكز البحث العلمي ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.. الخ.

سوريا الأسد، بلد خال من المرجعيات المستقلة، فلا أحد يعمل لحسابه أو لحساب المجتمع، بل الكل يعملون لحساب النظام بالمعنى الضيق، وليس الدولة بمفهومها الأوسع.

وإذا كان النظام استطاع بسهولة نسبيا ترويض النقابات والأحزاب والبرلمان باعتباره ممولها وراعيها، لاغياً دورها قبل عام 1970، حيث كانت تتمتع بقدر من الاستقلالية عن النظام الحاكم، بل وكثيرا ما تقود الحراك الشعبي ضده، فإن تعامله مع المرجعيات الدينية ظل حذرا، حتى إنه لم يحاول تأطيرها في مؤسسة واحدة، على غرار مؤسسة الأزهر في مصر، أو مجلس كبار العلماء في السعودية، ما سمح بالتالي لهذه المرجعيات بالتمتع بقدر من الاستقلالية التنظيمية والمالية، دون الحاجة إلى معونة الدولة، على غرار الهياكل الأخرى النقابية والتشريعية والإعلامية. وهذا الحال، أسهم من جهة أخرى في تشظي المرجعيات الدينية وتنافسها بتشجيع من النظام الذي كان يحابي بعضها على حساب الأخرى، ويدفعها للتنافس على نيل رضاه، مقابل بعض الامتيازات والتسهيلات، مع الحرص على إبعادها كليا عن الحقل السياسي، وصرف اهتمامها إلى العمل الدعوي والخيري، وهو ما أفقدها قدرا كبيرا من احترام المجتمع، خاصة في دمشق.

ومع حاجة النظام إلى غطاء ديني بعد تصادمه مع حركة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي وقمعه العنيف لهذا الحراك، عمل على تعويم بعض الشخصيات الصوفية الزاهدة في السلطة والطامحة لتوسيع مجال نشاطها الدعوي والمجتمعي، فوجد في الشيخ أحمد كفتارو رئيس مجمع أبو النور التعليمي الإسلامي، ضالته الذي رقاه إلى منصب مفتي الجمهورية في مواجهة الشيخ حسن حبنكة الميداني، قبل أن يدفع إلى الواجهة بالشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ويعطيه مساحة أكبر للحركة بما في ذلك برنامج أسبوعي على التلفزيون الرسمي. ومع وفاة حافظ الأسد عام 2000، تولى البوطي تأدية شعائر الجنازة، لكن مكانته بدأت بالتراجع مع سعي بشار الأسد للبحث عن وجوه جديدة في الوسط الديني حيث تواصل مع بعض الشخصيات الدمشقية مثل الشيخ أسامة الرفاعي المفتي الذي عينته المعارضة أخيرا بديلا عن حسون. وكان الرفاعي اضطر لمغادرة سوريا في الثمانينيات خلال حملة القمع ضد الإخوان فاستقر لبعض الوقت في السعودية قبل أن يتوسط له البوطي للعودة إلى البلاد، ويصبح خطيب جامع الرفاعي في دوار كفرسوسة والذي كان بناه والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي.

لكن النظام واصل مساعيه للتلاعب بالمجال الديني لجهة تعويم بعض الأسماء والتضييق على أخرى بهدف إثارة التنافس بينها على طاعة النظام والخضوع لشروطه، خاصة بعد التفجير الذي حدث قرب مجمع أمني بدمشق عام 2008 والذي حمل النظام مسؤوليته لجماعة “فتح الإسلام” الناشطة آنذاك في شمال لبنان، مفبركا اعترافا بثه على التلفزيون الرسمي لشخص قال إنه دبر العملية وأنه تلقى تعليمه في مجمع الفتح التابع للمفتي كفتارو، ليكون ذلك إيذانا بحملة من جانب النظام للدفع بوجوه جديدة بدعوى تحديث الخطاب الديني، فعمد إلى الاستعاضة عن وزير الأوقاف زياد الأيوبي، المقرب من كفتارو، بمحمد عبد الستار السيد مفتي طرطوس الذي كان دعا بتوجيه من مكتب الأمن القومي، إلى عودة سلطة الدولة إلى المجال الديني وتوحيد المناهج الدينية.

كما اتخذ النظام سلسلة إجراءات للسيطرة على المجال الديني مثل وضع المؤسسات التي تعلم الشريعة الإسلامية تحت تصرف وزارة الأوقاف، وكذلك الموظفون في المؤسسات الدينية حيث أُنيط بالوزارة صلاحية تعيينهم وتسريحهم، وكذلك تدريب الدعاة وخطباء المساجد، ليتضاعف عدد موظفي الوزارة مرات عدة، وهو ما مكنها من مواصلة سياسة الاحتواء والسيطرة هذه عبر إجراءات متوالية مثل الاستحواذ على العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية المستقلة، وإغلاق مركز الدراسات الإسلامية الذي أسسه الشيخ وعضو مجلس الشعب محمد حبش، ومنع إقامة رابطة لخريجي كلية الشريعة، فيما دعم محمد السيد الوزير الجديد للأوقاف انقلاباً ناجحاً داخل مجمّع كفتارو لجعله أكثر خضوعا للنظام، فضلا عن إجراءات أخرى مثل الحد من شعائر التديّن كإغلاق صالات الصلاة في المراكز التجارية، ومنع الملصقات الدينية الشعبية، وحظر النقاب في المدارس، ونقل أكثر من 1000 معلمة منقّبة إلى وظائف إدارية.

ومع اندلاع الاحتجاجات ضد النظام عام 2011، تباينت تفاعلات القوى والشخصيات الدينية مع هذه التطورات بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وبرز تفاوت بين مواقف بعض المشايخ الحذرين في تأييد الاحتجاجات، وأنصارهم في الشارع الذين انخرط كثيرا منهم فيها، خاصة أن تلك الاحتجاجات اتخذت في بداياتها من المساجد منطلقا لها. وفيما وقفت شخصيات مثل البوطي والمفتي السابق حسون في صف النظام وخونوا المتظاهرين، لزم أنصار كفتارو الصمت، قبل أن يتحولوا إلى موالاة النظام تحت التهديد والابتزاز الذي تعرضوا له من جانب الأخير، بينما اندفع مشايخ الميدان وراء المتظاهرين، وكذلك أنصار الشيخ أسامة الرفاعي، خاصة بعد الاعتداء الجسدي على الرفاعي نفسه داخل مسجده من قبل عناصر الأمن في إحدى جمع الاحتجاجات. وكانت نتيجة ذلك التمكين لمعهد الفتح والاعتراف من جانب النظام بشهادته رسميا، بينما تم الاستيلاء على جامع الرفاعي وتغيير اسمه وتعيين أحد الدعاة من كلية الشريعة خطيبا له خلفا للشيخ الرفاعي.

وفي موازاة ذلك، عمل النظام على التمكين أكثر للمؤسسات الرسمية التي يسيطر عليها، خاصة وزارة الأوقاف التي عمل على توسيع صلاحياتها، فأصدر سلسلة مراسيم وتعليمات بإخضاع كل الكيانات الإسلامية الخاصة لسيطرة الوزارة التي منحها حق تعريف ما سماه رأس النظام “الإسلام الصحيح”. وفي مايو/ أيار 2019، افتتح بشار الأسد مركزا إسلاميا حمل اسم “مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف” وأدلى بتصريحات حصر فيها التطرف والإرهاب، بالتيار “الوهابي”، وجماعة الإخوان المسلمين.

وفي الضفة الأخرى، نجحت الشخصيات المعارضة الهاربة من بطش النظام عام 2014 في تشكيل “المجلس الإسلامي السوري” في إسطنبول في تركيا، والذي ضم أسماء بارزة في الساحة الدينية السورية موزعة بين تركيا وبلدان الخليج والأردن ومناطق المعارضة في سوريا وأماكن أخرى، وهو ما شكل أول وأكبر تجمع مؤسسي إسلامي في سوريا، يضم 40 هيئة دينية داخل سوريا وخارجها، وهذه المرة بعيدا عن سلطة النظام.

تلفزيون سوريا

————————-

أول كلمة بعد منصبه الجديد..الرفاعي يوضح سبب انتخابه مفتياً

طالب كافة القوى بالعمل معاً وتحمل مسؤولية إغاثة المنكوبين

رئيس المجلس الإسلامي السوري والمفتي العام للجمهورية العربية السورية، أسامة الرفاعي (فيس بوك) رئيس المجلس الإسلامي السوري والمفتي العام للجمهورية العربية السورية، أسامة الرفاعي (فيس بوك)

أوضح رئيس “المجلس الإسلامي السوري” و”المفتي العام للجمهورية العربية السورية”، أسامة الرفاعي، سبب انتخابه مفتياً، داعياً كافة القوى لنبذ الخلافات وتوحيد الكلمة والصفوف.

جاء ذلك خلال كلمة ألقاها الرفاعي،  خلال زيارته إلى ريف حلب شمال سورية، اليوم الخميس.

وقال إنه بعد إلغاء منصب “مفتي الجمهورية” من قبل نظام الأسد بشكل مفاجئ، اتفق “كبار العلماء” في “المجلس الإسلامي السوري ومجلس الإفتاء”، وتم انتخابي مفتياً

وأضاف “لم أكن أرغب في منصب المفتي(…) لأني اعتقد في المجلسين ثلة من العلماء الذين هم أعلم مني وأجدر مني وأولى بمقام الإفتاء الرفيع”.

وأشار الرفاعي إلى أن نظام الأسد كان يعين علماء في مناصب شرعية لتسيير أوامره ومصالحه بصورة دينية.

واعتبر  أن “مهمة الإفتاء لا تقتصر على مسائل الزواج والطلاق، وإنما هي صورة شكلها نظام الأسد عن منصب الإفتاء، وإنما المفتي المنتخب من قبل العلماء فإنه يبذل كل جهده لحفظ البلد من العبث في الدين والأحكام الشرعية ومن امتطاء هذه الأحكام الشرعية من قبل الحكام”.

ودعا الرفاعي جميع السوريين إلى تحمل مسؤوليتاهم والقيام بواجباتهم تجاه المعتقلين والمهجرين والنازحين داخل المخيمات، مؤكداً أنه “لا يجب التحسر على وضعهم فقط” وإنما “العمل لمساعدتهم وهذا واجب وليس تبرعاً”.

كما اعتبر الرفاعي أن “المرأة السورية عانت خلال عشرة أعوام من أهوال الحرب المريرة”.

وخاطب “الثوار الذين يحملون البنادق في سبيل تحرير البلد وتثبيت الحرية والكرامة، أقول لهم ما لم نوحد صفوفنا وصفنا واحد وكلمتنا واحدة فلا نحلم بالنصر”.

وفي نهاية كلمته قال إنه يمد يده “إلى جميع مكونات الشعب السوري لأن منصب المفتي ليس هو لفئة دون فئة وهو  للسوريين جميعاً”.

 كلمة الرفاعي هذه، الأولى بعد انتخابه من قبل “المجلس الإسلامي السوري” و”مجلس الإفتاء” مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية، الأسبوع الماضي.

وجاء ذلك في بيان مصور نشره المجلس أن “الإفتاء له مكانة رمزية على تعاقب العصور والدول، ولم يجرؤ على المساس بها أحد، إلا أن تحكمت هذه العصابة الطائفية في سورية ففرغته من مضمونه وجعلته تعييناً بعد أن كان انتخاباً من كبار العلماء”.

ولاقى تعيين الرفاعي مفتياً ترحيباً من قبل هيئات ومكونات سياسية وعسكرية سورية، إضافة إلى ترحيب من “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” وهيئات علماء فلسطين ولبنان واليمن.

وولد الرفاعي في دمشق عام 1944، وتخرج في مدارس دمشق وثانوياتها.

بعد ذلك التحق بجامعة دمشق ودرس اللغة العربية وعلومها في كلية الآداب قسم اللغة العربية، وتخرج منها عام 1971.

وهو خطيب مسجد عبد الكريم الرفاعي (نسبة لأبيه) بمنطقة كفر سوسة بدمشق سابقاً، والذي كان المحطة الأخيرة له في البلاد قبل مغادرته إلى تركيا، متخذاً موقفاً معارضاً لنظام الأسد.

——————————

تعليقات سريعة على الكلمة الأولى لسماحة المفتي العام للجمهوريّة العربيّة السوريّة فضيلة الشّيخ أسامة الرّفاعي

د. محمّد خير موسى

استمعت باهتمامٍ وتمعّن إلى الكلمة الأولى لفضيلة الشيخ أسامة الرّفاعي بوصفه مفتيًا عامًا للجمهوريّة العربيّة السوريّة، وقد كانت الكلمة موفّقةً وجميلة وشاملة، فسأضع بعض التعليقات والمقترحات على النّحو الآتي:

• من اللفتات الرمزيّة العميقة للغاية أن يعلن الشّيخ أسامة الرّفاعي في بداية كلمته أنّه يلقيها من على الأرض السوريّة، وهي خطوة بالغة التوفيق في أن تكون الكلمة الأولى من داخل سوريا وفي هذا رمزيّة ودلالة مهمّة على انتماء الإفتاء لسوريا شعبًا وجغرافيا وأنّ التهجير القسري للمفتي العام لن يؤثّر على هذا الانتماء.

• التّأصيل الفكريّ والشرعيّ والتاريخي للتفريق بين الإفتاء المنتخب والافتاء المعيّن من الأنظمة المستبدّة كان نقطة انطلاق مهمّة في الكلمة، إذ عمل الشّيخ على التفريق بين الإفتاء في ظلّ الأسد والإفتاء خارج سلطته، وبضدّها تتمايز الأشياء

• بيان مهمّة المفتي في السلطة الرقابيّة الشرعيّة على الأجسام التنفيذيّة والسياسيّة من خلال الحديث عن موقف الشيخ الطبيب المفتي أبو اليسر عابدين مع وزير السياحة رسالة إلى الأجسام التنفيذيّة والسياسيّة السوريّة في المعارضة والنظام مفادها أنّ المفتي الجديد لسوريا سيكون متابعًا ومعلّقًا على أفعال وسلوكيّات هذه الأجهزة، وهذا تحريرٌ ضروريّ لمهمّة المفتي وعلاقته بالسلطات التنفيذيّة والسياسيّة.

• أن تكون القضيّة الأولى التي يطرحها الشيخ أسامة الرفاعي هي قضيّة المعتقلين له دلالة واضحة في ترسيخ انتماء مقام الإفتاء الجديد وانحيازه للفئة المظلومة في سوريا

• أن تكون الرّسالة الأولى التي يوجّهها الشيخ أسامة الرّفاعي إلى المرأة السوريّة متحدثا عن معاناتها وعن الظلم الذي يلحق بها أيضًا له دلالته ومعناه المهمّ إضافة إلى إنهاء الجدل الذي ثار مؤخرًا حول قضيّة المرأة، وهذه خطوة ذكيّة في ترسيخ الاهتمام بالمرأة وإغلاق الجبهات المشتعلة.

• التركيز على مخاطبة السوريين وتكرار ذلك له دلالته المهمة في الانتماء الوطني لمقام الإفتاء وترسيخ الخطاب الشرعي الوطني.

• طرح الشّيخ أسامة الرّفاعي قضيّة علاقة مقام الإفتاء الجديد مع جميع مكونات الشعب السوري من مسلمين وغير مسلمين من خلال قصّة الشيخ بهجة البيطار مع وزير الحكومة السوري فارس بك الخوري، ليصرّح بعدها أنّ الإفتاء هو للسوريين جميعا على اختلاف أعراقهم وطوائفهم.

• التأكيد على أنّ هناك إطلالات دوريّة عبر الإعلام رسالة موفّقة وضروريّة.

• كانت الكلمة كلمة إسلاميّة وطنيّة جامعة شاملة هادئة توفيقيّة تصلح مرتكزًا للانطلاق في حشد جميع أطياف الشعب السوري على اختلاف توجهاته السياسيّة حول الإفتاء العام.

• أقترح أن يكون للإفتاء العام مؤسسته المستقلّة عن المجلس الإسلامي السوري وعن مجلس الإفتاء فيه، بحيث يكون مقام الإفتاء العام مؤسّسة لها صفتها وشخصيّتها الاعتباريّة المستقلّة عن أيّ مجلس أو مؤسّسة.

• أقترح أن يتمّ تشكيل لجنةٍ لوضع قانونٍ انتخابيّ خاص بمقام الإفتاء، ويتم جمع قاعدة بيانات لجميع العلماء والدّعاة من المنتمين إلى مؤسسات العلماء وغيرها.

• أقترح تشكيل مجلس إفتاء أعلى يكون أعضاؤه منتخبين، ويتمّ انتخابهم وفق آليّات انتخابيّة واضحة، ويدعى لها المتخصصون الشرعيون جميعا بمن فيهم من هم في مناطق النظام وتحت سيطرته.

• هذه المقترحات تهدف إلى ترسيخ مرجعيّة مقام الإفتاء العام في سوريا وتحتاج إلى إنضاج هادئ بعد الخطوة الموفقة في التقاط الفرصة السريع والإعلان عن انتخاب المفتي العام للجمهوريّة العربيّة السوريّة

—————————

=======================

تحديث 29 تشرين الثاني 2021

——————-

سوريا لمن؟ من خصخصة الدولة إلى خصخصة الثورة/ ياسين الحاج صالح

 في شباط من هذا العام أصدر المجلس الإسلامي السوري في اسطنبول ما أسماها وثيقة الهوية السورية، دون أن يرفقها ببيان دواعي الإصدار، خلا إشارة مجملة إلى عشر سنوات من ثورة الشعب السوري على «النظام الطائفي المستبد»، مع استمرار هذا الأخير في محاولاته «طمس» هذه الهوية، معززة بـ«محاولات البعض التشويش والتدليس والتلبيس على معالم الهوية السورية». لا يوضح المجلس المكون من «علماء»، أي فقهاء / مفتين/ خطباء، وذكور، شيئاً عن هوية هذا البعض، لكن مقالة لمحمد أيمن الجمال تتناول الوثيقة بعين الرضا تشير إلى «العالم الغربي» مرة وإلى «الآخر» المحلي مرة، وإلى من «أعطوا جنسية البلد من الفرس الرافضة والأفغان» مرة ثالثة، ممن يحتمل أن يشكلوا معاً البعض «المُشوِّش المُدلِّس المُلبِّس» للهوية السورية.

هذه المناقشة تتخذ من وثيقة المجلس ومن مقالة الجمال موضوعاً لها، لكنهما كذلك مناسبة للنظر في تكون الوعي-الضمير الإسلامي السني المعاصر في سوريا. ليس خوض معركة فكرية في هذا الشأن ترفاً ولا تنطعاً، إنه انشغال بمستقبل سورية والقضية السورية.

هوية سوريا

تقرر وثيقة المجلس الإسلامي السوري التي تبدأ بالبسملة ثم بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه البنود الخمس التالية تعريفاً للهوية السورية:

    الإسلام هو دين غالبية الشعب السوري، وهو ثقافةٌ وحضارةٌ لجميع أبناء سورية.

    سورية جزء لا يتجزأ من العالمين العربي والإسلامي.

    اللغة العربية هي اللغة السائدة والرسمية في سورية.

    الثقافة والقيم الحضارية المعهودة في التاريخ السوري الممتد لقرون معرّفات أساسية من معرّفات الهوية السورية، وكذلك الطابع العمراني والاجتماعي.

    المكوّنات التاريخية العديدة الموجودة في سورية والمتنوّعة في ثقافاتها ولغاتها وأديانها وانتماءاتها هي مكوّنات أصيلة، وحقوقها مصونة مضمونة، وحريّات الجميع مكفولة متناغمة مع الهوية السورية الأصيلة، ولا تعود عليها بالنقض.

كما هو متوقع، الإسلام واحد بحسب واضعي الوثيقة، وهو الإسلام السني، على ما تدل اللغة المستخدمة، وعلى ما ينص صراحة محمد أمين الجمال في مقالته الشارحة التي سيجري تناولها أدناه. هذا يُخرِج من الإسلام الشيعة المنازعين للسنة على الشرعية الإسلامية، كما يُخرِج الجماعات التي تفرعت عن الجذع الإسلامي دون أن تكون مُنازِعة على الشرعية الإسلامية، مثل العلويين والدروز والإسماعيليين. كان يمكن لذلك أن يكون مفهوماً بعض الشيء من قبل جماعة مشيخية تتكلم على شؤونها أو الشؤون العقدية لجماعتها، لكننا هنا حيال وثيقة تُعرّف سوريا ككل، وتقرر أن الإسلام السني هو الإسلام. هذه من البداية وصفة تفجير، وليس استقرار وسلم.

من الناحية الديمغرافية الوصفية، ليس تقرير سنية أكثرية السوريين خطأ، لكن لسنا هنا حيال تقرير موضوعي مجرد لأكثرية عددية للسنيين السوريين. هذا بالأحرى تقرير معياري في وثيقة تصبو إلى أن تكون مرجعية، أو فوق دستورية، تصدرها هيئة يتواتر وصفها في الآونة الأخيرة بأنها «مرجعية»، ويبدو أنها تفكر بنفسها كذلك. تريد الوثيقة أن تكون مرجعية للسنيين السوريين الذي يحجب تعريفهم بالإسلام تعددهم المتعدد المستويات: الإثني (عرب، كرد، تركمان، شركس…) والاجتماعي (طبقات وشرائح، مدن وأرياف وبادية…) والجهوي والسياسي والفكري (علمانيون، يساريون، ليبراليون، متصوفة، إخوان، سلفيون، سلفيون جهاديون…). الأكثرية هنا تتحول من كونها علاقة سياسية متغيرة، تقوى وتضعف، في إطار اجتماعي سياسي متغير بدوره، لتصير جوهراً ثابتاً، لصيقاً بالمسلمين السنيين في كل حال. يجري هنا في وقت واحد نفي التعدد والاختلاف ضمن السنيين، ثم إضفاء وحدة سديمية على السوريين تحت عنوان عائم: الإسلام.

وليس إلا متوقعاً أن تنخفض عتبة تماهي السنيين بتصور سني للهوية السورية، فيما ترتفع عتبة غيرهم إلى حد أن تصير حاجزاً ومبعث غربة وإحباط. هل ثمة جدال في أن نحو ثلث السوريين من غير السنيين لن يتعرّفوا على أنفسهم بهذه الهوية، وهذا مثلما لا يتعرف على أنفسهم غير العرب في التعريف البعثي لهوية عربية ثابتة للسوريين؟ ثم إن جميع السنيين سوسيولوجياً، لكن العلمانيين أو غير المؤمنين، يجري إعدامهم رمزياً بهذا التعريف الديني للهوية السورية، وهو ما يمهد للإعدام الفعلي إن أخذنا بالاعتبار سيرة المجموعات السلفية في سورية بعد الثورة.

المجلس لم يسأل أحداً من السوريين غير السنيين عمّا إذا كان الإسلام «ثقافة وحضارة» له. الواقع أن الإسلام ينزع إلى أن يكون ثقافة وحضارة لغير المسلمين في مجتمعاتنا حين يكون ثقافة وحضارة للمسلمين، أي حين يكون ثقافة وحضارة وليس سياسة أو مشروعاً سياسياً، ولا من باب أولى إيديولوجيا حرب. أعني بقدر يتناسب عكساً مع تسييسه، وأكثر مع تسييده. فإن جرى ذلك، وهو ما يجري منذ أربعين عاماً وأكثر، وجرى بشدة في العشرية المنقضية، فإنه يكفّ عن أن يكون أرضية إجماع للسنيين، دع عنك غير السنيين وغير المسلمين، وبالتالي لن يكون ثقافة وحضارة لأحد. وهذا لأنه لا يمكن أن يُزَجّ الدين في المنازعات السياسية والعسكرية، ثم يُتوقَّع أن يبقى عامل إجماع أو تقارب. 

بعد الاحتواء السني لسورية تقرر الوثيقة أن سوريا جزء لا يتجزأ من العالمين العربي والإسلامي. لا جدال في ذلك وصفياً، لكن هنا أيضاً لسنا حيال تقرير وصفي محايد، وإلا لأمكن أن نضيف إليه مثلاً: والعالم. المشايخ يدركون كما ندرك سياسة الكلمات. يعلمون أن القول إن سوريا جزء لا يتجزأ من العالم يقتضي أننا مسؤولون عن العالم كما هو العالم مسؤول عنا، يعني العمل من أجل مبدأ للمسؤولية العالمية بوصف العالم فضاء لاختلاط أمم وثقافات وأجناس وأديان مكسباً للجميع، يعني كذلك أن نكون إيجابيين حيال العالم، وطن البشر والحياة، ونعمل على إصلاحه مع شركاء لنا في مختلف البلدان والثقافات. العالم «ثقافة وحضارة» لجميع البشر اليوم، بمن فيهم السوريون. 

على أنه لا يبدو أن نسبة سوريا إلى العالمين العربي والإسلامي موجهة نحو استبعاد العالم حصراً، وإنما هي كذلك بمثابة توفير الإطار الأنسب لتعريف سوريا تعريفاً إسلامياً، أي هي بمثابة سور حماية لتعريف سوريا بالإسلام. «العالمان العربي والإسلامي» في واقعهما، أو في سياسة دولهما، أو في أفعال وأقوال مشايخهما، لا يُسائِلان ما يمتحن أقوال المشايخ السوريين أو يُظهر تعسُّفيّتها.

ومثل ذلك يصح على تقرير أن اللغة العربية هي السائدة والرسمية في سوريا. هنا سور إضافي، وفي داخله حظيرة تمر فيها بيسر أقوال وتقريرات المجلس الإسلامي السوري.

ليس واضحاً معنى قول الوثيقة إن «الثقافة والقيم الحضارية المعهودة في التاريخ السوري الممتد لقرون معرّفات أساسية من معرّفات الهوية السورية، وكذلك الطابع العمراني والاجتماعي». أخمن أن الأمر يتعلق بأعراف وعوائد اجتماعية موروثة أو «ممتدة لقرون». والحال أن هذه متغيرة في كل مكان من العالم. الثقافة ليست الطبيعة، والعوائد ليست طبائع، والأعراف ليست أوابد. وفوق كونها متغيرة تاريخياً، فهي متعددة في كل وقت، اليوم وفي الأمس وغداً. في ثقافتنا في ريف الرقة الشمالي، والسكان مسلمون سنيون في أكثرية ساحقة (كان هناك أسر أرمنية في تل أبيض)، لم يُعرَف الحجاب الذي يغطي رؤوس النساء كلياً إلا حديثاً، فهل يجب حظر الحجاب لأنه طارئ، وليس من معهودنا الممتد لقرون؟ وفي منطقتنا نفسها كانت المساكن تبنى من الطين، وهي بيئية جداً وصحية، لكنها مستوجبة لصيانة سنوية. فهل هي من المعهود في التاريخ السوري، أم أن المعهود يشمل فقط ما يشبه أحياء الشام القديمة وحلب القديمة؟ أشير إلى زي النساء والمشهد العمراني في منطقة بعينها لأنه يبدو أن الإسلام الذي يزكيه المشايخ عموماً هو إسلام مديني، ذكوري، محافظ اجتماعياً، ومرتاح مادياً. إنه الإسلام الذي أنتجته وتثابر على إنتاجه سلطات دينية في كنف سلطات سياسية كانت استبدادية، وإلا فطغيانية، بدون استثناءات تذكر.

القصد أن «المعهود في التاريخ السوري» هو تقليد لا يكف مشايخ ذكور عن ابتداعه وتعميمه، وأن فكرة هوية سورية تقوم على الإسلام السني هي اختراع حديث جداً، ظهر في شروط تاريخية معلومة، أولها بطبيعة الحال هو ظهور شيء اسمه سوريا في التاريخ وفي العالم. وهو ما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى كدولة وطنية حديثة يفترض أن تقوم على المواطنة (دون أن يطابق واقعها ذلك حقاً). لظهور سوريا كدولة حديثة بوادر سابقة عليها، تعود إلى حقبة التنظيمات العثمانية منذ 1839، وقد جاءت إصلاحاتها استجابة لانحدار السلطنة ومسعىً للتحديث. لذلك لا يستقيم كلام المشايخ إلا بافتراض استمرارية تاريخية متجانسة، هي استمرارية هوية متجانسة بدورها ولا تتغير، وهذا ليس واقع الحال. تاريخ سوريا خلال قرن ونيف هو انقطاع عما سبق، وهو شهد خلال قرن ونيف انقطاعين كبيرين لما يُحَط بأقدمهما كفاية، ومن باب أولى بثانيهما: الأول هو تحول سوريا إلى دولة سلطانية محدثة بعد ثلاثين سنة من حكم الطاغية حافظ الأسد، والثاني هو وقوع البلد تحت احتلالات متعددة يحتمل أن تستمر عقوداً (ظلت ألمانيا منقسمة لنحو 45 عاماً بفعل احتلالها إثر الحرب العالمية الثانية)، وقد تزول سوريا على نحو ما عرفناها بأثر حداثة وجودها في التاريخ وغزارة التدخلات الخارجية التي صارت احتلالات، و«التخرجات» الداخلية التي صارت تبعيات وطلبات لحُماة مختلفين. أعني بالتخرجات الداخلية طلب قطاعات من الداخل السوري الارتباط بقوى خارجية بغرض تعزيز الوزن أو الحماية أو نيل أرجحية في التنافس مع مجموعات داخلية أخرى. لكن «التخرج» هذا يلغي الداخل على نحو يشكل مصيرُ سوريا اليوم مثالَه الناطق. الحكم الأسدي طليعي في التخرج والتبعية وطلب الحماية من الإيرانيين وأتباعهم، ثم من الروس. لكن الإسلامية السورية بمجملها اليوم تابعة لتركيا، والمناطق التي يسيطر عليها تنظيم الاتحاد الديمقراطي الكردي محمية أميركية. وليس في وثيقة المشايخ إلا ما يندرج في ديناميكيات الاستقطاب والتقسيم و«التخرجات».

يمكن التفكير في البنود الثاني والثالث والرابع من الوثيقة كأسوار حامية. القلب المحمي هو إسلامية سوريا التي نص عليها البند الأول، ثم البند الخامس حول المكونات: «المكوّنات التاريخية العديدة الموجودة في سورية والمتنوّعة في ثقافاتها ولغاتها وأديانها وانتماءاتها هي مكوّنات أصيلة، وحقوقها مصونة مضمونة، وحريّات الجميع مكفولة متناغمة مع الهوية السورية الأصيلة، ولا تعود عليها بالنقض».

بعد أن قرر المشايخ سنية سوريا، يعرضون في البند الخامس من وثيقتهم كرماً حيال غير السنيين، لكن على طريقة طبطبة السيد على كتف التابع. يصون المشايخ حرية «المكونات»، والأرجح أن المقصود أنهم لن يُجبَروا على دخول الإسلام (السني)، وتُترَك لهم شؤونهم الدينية الخاصة وفق نظام أهل الذمة المعروف الذي ألغته التنظيمات العثمانية قبل ما يقترب من قرنين. لكن الوضع الذي قامت ضده الثورة السورية يؤمن «حريات المكونات» هذه وأكثر، بما فيها بالمناسبة حرية «المكون السني». المشايخ لا يَعِدون المكوّنات بغير حريات لا يتجاوز سقفها ما هو متاح لها، المكونات، من حريات في ظل النظام، وربما أقل. الحرية التي حُرم منها السوريون في الحقبة الأسدية والبعثية ليست حرية المكونات بحال، بل حريات الأفراد حيال الدولة (وضمنياً حيال المكونات). ولا يستقيم مفهوم الحرية كسيادة للأفراد على أنفسهم دون حرية الاعتقاد الديني، بما في ذلك حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، وحرية اللامبالاة بشؤون الاعتقاد، فضلاً عن الحريات العامة والسياسية. وفي أي سياقات إسلامية، لا بد أن يشمل تصور الحرية الحريات الاجتماعية الخاصة بالزي والأكل والشرب والاختلاط بين الجنسين، وهي حريات يخشى المرء عليها من الإسلاميين وليس من الأسديين وما شابه. وليس بين هذه القضايا ما يتنطع كاتب السطور بالكلام عليها، بل هي قضايا طرحها مسار السنوات العشرة المنقضية بصور بالغة القسوة، وصلت حد الخطف والتغييب، بل حد الصلب والرجم، والغافل وحده هو من يستطيع الاستمرار في التفكير في شأن سياسة الإسلاميين ومعتقداتهم دون إثارتها.

بالمناسبة، لماذا النظام استبدادي طائفي، إن كان المشايخ يفكرون في السوريين كـ«مكونات»، وينكرون حرياتهم كأفراد؟ الطائفية هي حصر الأفراد في منابت دينية ومذهبية موروثة سواءً بقوة القانون (أو «الشرع») أو عبر التمييز السياسي النشط بينهم، والاستبداد هو إنكار حرية الرأي والتعبير والاعتقاد والتجمع والتنظيم على الأفراد المختلفين. ما يَعِدُ به المشايخ، بالتالي، ليس أكثر من نظام استبدادي طائفي بسيادة سنية، يحل محل نظام استبدادي طائفي بسيادة علوية. 

وليس واضحاً بعدُ من هي «المكونات» التي يعتبرها المشايخ أصيلة. هل العلويون مشمولون بها؟ والدروز؟ والاسماعيليون؟ والإيزيديون؟ أم هي مقتصرة على «أهل الكتاب»، أي عملياً على المسيحيين؟ هنا أيضاً مسألة طرحها الواقع، ولا يفتعلها الكاتب. جيش الإسلام وجبهة النصرة وداعش استهدفوا علويين بوصفهم علويين، واعتقلوا وقتلوا نساءاً ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً. وداعش قتلت رجال الإيزيديين في سنجار وسَبَت نساءهم واستعبدتهن جنسياً وشرّعت ذلك دينياً (لم يُسمَع صوت للمشايخ ضد ذلك بحدود ما أعلم). السياق المعلوم لحدوث هذه الجرائم، أعني اندلاع المَنازِع الإبادية لدولة الأسديين بعد الثورة، لا ينزع عنها صفة الجرائم. 

ثم ليس واضحاً كذلك المقصود بكفالة حريات «المكونات التاريخية»، «متناغمة مع الهوية السورية الأصلية»؟ هذا يشبه اشتراطاً من هذه الهوية الأصيلة المزعومة، أي السنية، على «المكونات التاريخية»، يوجب عليها أن تنضوي ضمن تلك الهوية، وألا تعود عليها بالنقض. هذه الصيغة الملتبسة باب لتدخلات سلطوية من كل نوع باسم الهوية الأصلية التي لا يجوز نقضها. هل بناء كنيسة جديدة يعود بالنقض وعدم التناغم على «الهوية الأصيلة»؟ أو امتلاك خمارة؟ أو ارتداء زي يقرر جهاز حسبة مشايخي أنه غير محتشم؟

في المحصلة، تَصوُّر الهوية الصادر عن مشايخ المجلس الإسلامي السوري ساكن وغير ديناميكي، يجعل من معطيات متشكلة تاريخياً ومتغيرة تاريخياً الأساس الثابت لهوية البلد، يغفل كلياً ما يتصل بعناصر الهوية الأحدث، رغم أن إطار الهوية المحال عليه، سوريا، حديث كلياً ولم يكن له وجود قبل نهاية الحرب العالمية الأولى.

عن السياق

نفهم الوثيقة التي لا تصرّح بشرطها السياسي إن فكرنا فيها كتعبير عن قلق وجودي يعرضه المشايخ السنيون بفعل تحطم بيئات سنية سورية واسعة، سواء بالمجازر أو التهجير، وبالتالي تطلع نافذين ضمن هذه البيئات إلى ضرب من الحماية. لا القلق الوجودي، ولا الحاجة إلى الحماية، اختراع مشايخي. النظام الطائفي الذي ميّز بين السوريين وأقام سياسته مثل الاستعمار الفرنسي على حماية الأقليات ولّدَ مطلب حماية الأكثرية الذي يصدر عنه المشايخ، دون أن يحظى أحد بالحماية في واقع الأمر غير الطغمة المالكة الحاكمة. وتأخذ حماية الأكثرية شكلاً محسوساً يمتزج فيه التهجير مع التشييع مع الإحلال، مما هي ركائز لمشروع توسعي إيراني في سوريا، إلى جانب العراق ولبنان، عمليات فاقمت بمجملها ما كانت دِبرا آموس سمّته في كتاب لها سبق الثورات العربية «الأفول السني» (تُرجم إلى العربية بعنوان: أفول أهل السنة). وهذا اتجاه توطّدَ بعد مشاركة إيران مباشرة وعبر ميليشياتها اللبنانية والعراقية وغيرها في سحق الثورة السورية، وفي حماية النظام الطائفي (أُشارك المشايخ التشخيص، وإن بدلالة مغايرة، فصّلتُها في كتابي: السلطان الحديث، 2020). وثيقة المشايخ يبطنها قلق الأفول، لكنها لا تسمّي هواجسها بأسمائها، ولا تستطيع صوغ خطاب عدالة وإنصاف حولها، يخاطب عموم السوريين وعموم الناس. خيالها السياسي المسكون بأشباح إمبراطورية من الماضي الغابر يقودها نحو إعلان مُناقِض كلياً للواقع: سوريا سنية (وهذا بينما المتن السوري يقع في كنف دولتين قوميتين، لا تشكو مَنازِعهما الإمبراطورية من الخفوت: إيران وروسيا). الجماعة لا يتكلمون بمنطق صاحب القضية العادلة الذي يخاطب العادلين في كل مكان مستنصراً وطالباً التضامن والشراكة، ولا بمنطق الضعيف الذي قد يطلب أماناً مساوياً لنفسه مع غيره، ما قد يدفع إلى ميثاق أمان عام سوري، بل يتكلمون بعتو وتعالٍ مألوف. هذا العتو أو الصلف السني يبدو أثراً لميراث إمبراطوري قديم، للاعتقاد بحق السيادة واللامساواة مع الغير في «الشرف» والسلطان، ولاستثناء دائم للنفس من قواعد تعمها مع غيرها. وما يثير السخرية هو أن هذا التكوين النفسي الأخلاقي يتعارض اليوم كلياً مع وضع المسلمين السنيين في سوريا وفي كل مكان. هناك حالة ضعف وفشل عامة، تقود إليها الدول في مجالنا، كما يقود إليها الدين بشهادة كل التجارب التي قامت باسمه في الأربعين سنة الماضية. وقد يجازف المرء بالتفكير في حاجة المسلمين السنيين إلى سياسة تتوافق مع شروطهم الواقعية، أي التصالح مع شرط الضعفاء الذي يعملون إلى جانب أشباههم من الضعفاء على تغيير الواقع، ومن أجل المساواة والحرية والاحترام. أعني أشباههم من المسلمين وغير المسلمين، من الغارمين في عالم اليوم، وممن يتطلعون إلى عالم أعدل يعيشون فيه بكرامة. كان من شأن ذلك في تصوري أن يجعل الإسلام دين احتجاج الضعفاء على الإمبريالية في نطاقات عالمية أوسع. لكن ليس هذا هو الإيثوس أو النَّفَس السائد في بيئات الإسلاميين السنيين. السائد هو عنجهية ديانة المنتصرين، رغم هزيمتهم الواقعية وضآلة شأنهم الواقعي. ويتظاهر هذا السائد في طلب السيادة، أي عملياً الحق الحصري في القتل والتعذيب والاستتابة (وليس السياسة حيث يكونون قوة بين قوى أو طرفاً بين أطراف)، وانتحال سلطة تعريف الكل، وعدم احترام أيٍّ كان أو الاعتراف بأيٍّ كان كندّ ومساوٍ. الإسلاميون «إمبرياليون مقهورون»، مع كونهم في الوقت نفسه من ضحايا الإمبرياليات القاهرة، الغربية والروسية والصينية، ولذلك يفتقر احتجاجهم على الإمبرياليات إلى محتوى تحرري. ماذا يُحتمَل أن تكون سياسة الضعيف الذي يحلم أحلاماً إمبراطورية بدل أن يحلم بالمساواة والأخوة؟ الإرهاب، الغدر بالأقوياء. الإرهاب ينبثق من هذه الفجوة الفاغرة بين ضعف لا يطاق وبين تطلع إمبراطوري لم يُصفَّ الحساب معه. أو هو الحل العنيف للتناقض بين واقع المهزومين وديانة المنتصرين، الحل الذي لا يحل مشكلة الضعف والهزيمة، بل يبعث على الانحلال والأفول. الأقوياء سيردُّونَ بـ«الحرب ضد الإرهاب»، وهذه تعذيب جماعي وليست حرباً بحال، ومن هذه الدورة تتولد العدمية والكراهية والاحتقار الشامل، ومجتمعاتنا وليس مجتمعات الأقوياء هي التي تُدمر وتتدهور.

يتكلم المشايخ باسم مسلمين سنيين سوريين تعرضوا لتشتيت رهيب وتمزق مجتمعاتهم تمزقاً قد لا يُرأب، وخرجت من صفوفهم تشكيلات إجرامية شريرة فاقمت تمزقهم ودمار بيئاتهم، ومع ذلك ترى المشايخ، وهم أنفسهم لاجئون في تركيا، يتشرطون على غيرهم ويتكلمون كأنهم فاتحون.

لا يَغفل كاتب هذه السطور، وهو نفسه لاجئٌ مثل المشايخ، عن طائفية النظام، ولا عما تعرضت له بيئات سنية من تمييز طوال الحقبة الأسدية، ومن تدمير تمييزي بعد الثورة، استهدفها وحدها بالمجازر الكيماوية والبراميل المتفجرة والقصف بالطائرات، واغتصاب نساء ورجال في مقرات أجهزة الأمن الأسدية، الطائفية بشدة. كل ذلك باعث على الغضب، لكن مقاربة المشايخ للهوية السورية تضفي صفة نسبية على جرائم النظام، ما دامت لا تقترح غير هوية سنية لسوريا، وبالتالي حكما سنياً، وليس وطنية سورية استيعابية تقوم على المواطنة.

لا يقف مبدأ حماية الأكثرية، الذي هو المحتوى الفعلي لوثيقة المشايخ، في مواجهة حماية الأقليات، التي جعل منها النظام حجر الزاوية في حملة علاقات عامة يديرها في الغرب والعالم. بالعكس، هو يزجنا في منطق حرب أهلية دائمة، ويحكم على مستقبلنا بأن يكون استمراراً سنياً للأسدية.

تطييف وتبعية

وثيقة الهوية السورية تعكس تقدم تطييف السنيين السوريين، وشمول طلب الحماية الجميع، الكثيرين وغير الكثيرين. الكل في قلق وجودي، خوف من الفناء. ومع قلقهم هذا، لا يُحتمَل للسنيين السوريين، بصفتهم هذه، أن يحظوا بحماية أي كان. سوريا تبدو أهم لإسرائيل ولروسيا ولأميركا من أن تُترك لحكم سني. سبق لوزير الخارجي الروسي سيرغي لافروف أن قال ذلك علانية. وليس في ما تعرضه سياسة الإسلاميين، ومنهم مشايخ المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول، من قلة احترام لأي كان في العالم، وقبل ذلك للسوريين غير السنيين وللسنيين غير النمطيين، ما يدفع أياً كان إلى مراجعة هذا التفكير. صحيح أن عالم اليوم ليس مرجعية عادلة يُستنَد إليها، لكن من سيساعد الضعيف المتعجرف الذي لا يساعد نفسه، ويظن أنه يحتكر الصواب في العالم؟ يمكن لتركيا أن تحمي المشايخ والإخوان والسلفيين التائبين، مثلما تحمي إيران وروسيا بشار ورهطه. لكن هذا يجعل المحميين عملاء والحماة سادة. أوهام المشايخ وتصوراتهم الذاتية لا وزن لها أمام وقائع القوة الفعلية.     

ويرجِّح هذا السياق ألا تحظى مساعي بناء مرجعية سنية سورية بالحياة لأنها ولدت مصابة بتشوه ولادي: التبعية! وإنما لذلك ليس المجلس الإسلامي السوري مكاناً مناسباً للكلام على «القرار الوطني السوري المستقل»، مثلما تراءى للسيد جورج صبرا في كلمة له أمام المشايخ في صيف 2017. بعد حين تتغير المعادلات السياسية التي نشأ فيها هذا المجلس، ويجد القوم أنفسهم «على الحديدة»، مثلما يبدو أنه يحصل للإخوان المسلمين المصريين بأثر التقارب بين الحكومتين التركية والمصرية. ما يمكن أن ينقض ذلك ويحمي من الأفول هو عكس ما يقوم به المشايخ بالتمام: التواضع والتعلم وتغيير الذات والاحترام والشراكة مع الغير.

الإسلامية المطلقة

تصدر وثيقة مشايخ المجلس الإسلامي السوري عن تصور للذات يمكن تسميته الإسلامية المطلقة على غرار العروبة المطلقة، البعيثة. العروبة المطلقة تقرر أن السوريين كلهم عرب، وعروبتهم ماهوية، مثل إسلامية السوريين بحسب المجلس الإسلامي السوري؛ وأنهم جزء من «الوطن العربي الكبير» الذي ينفصل عن غيره بحدود طبيعية: صحاري وبحار، بينما لا تفصل بين أقطاره المختلفة غير حواجز مصطنعة من صنع الاستعمار. أي أننا كلنا مثل بعضنا، كلنا عرب، وكلنا على اختلاف تام مع غيرنا من غير العرب. من قد يمثلون شوائب أو خروجاً على هذا المنطلق، «يُجْلَون من الوطن العربي» على ما قرر دستور حزب البعث عام 1947. وبطبيعة الحال سيكون الحكم حقاً شرعياً ودائماً لرافعي راية العروبة. الهوية ثابتة لا تتغير، طبيعة. لكن هذا وهم، وليس هناك ما هو ثابت إلا الموت. الهوية الثابتة هي نتاج تثبيت يقوم به منتفعون، يجنون منها مكاسب رمزية وسياسية ومادية، ويعود عليهم تثبيتها بإشغال وضع مرجعي، يجنون منه الوجاهة والطيبات.

الإسلامية المطلقة تقرر أنه كلنا مسلمون، إن لم يكن اعتقاداً، فثقافة وحضارة بحسب المشايخ. ثم أنه كلنا مختلفون عن غيرنا من غرب وغيره اختلافاً تاماً. ومثلما أن العروبة المطلقة لا تعني بحال أن العرب كأفراد ومجموعات حظوا بامتيازات رفعتهم فوق غيرهم، فإن الإسلامية المطلقة لا تعني بحال أن عموم المسلمين، أو المسلمين السنيين، سيكونون بخير في ظل حكم إسلامي. داعش والنصرة وجيش الإسلام، وهم إسلاميون مطلقون، أسسوا إمارات طغيان وتعسف، عانى منها «عوام المسلمين» أكثر من غيرهم، وجعلوا الجريمة منهج حكم مثل الأسديين.

وثيقة المجلس الإسلامي السوري تنتمي إلى عالم الإسلامية المطلقة والفوق-دستورية، لا إلى إسلامية دستورية يمكن أن تقول إن المسلمين يعيشون في مجتمعات عينية مختلطين بغيرهم ومتمايزين داخلياً إلى جماعات فرعية مختلفة وأحياناً متنازعة، وأنهم جزء من بشرية تعاني من مشكلات كبيرة وعليهم أن يساهموا في حلها، وأن يكونوا سنداً لغيرهم في قضايا العدالة والتمييز مثلما يجدر بغيرهم أن يكونوا سنداً لهم، وأن الحكم السياسي يتوجه بهذه الاعتبارات التي تولي كرامة السكان المختلفين وإضعاف منابع التوتر المحتملة أعلى أولوياتها، وأن المسلمين يستلهمون ما في دينهم وتاريخهم من مبادئ تُعين على السير في هذا الاتجاه. الإسلامية الدستورية هي وحدها «ثقافة وحضارة»، إن حاكينا لغة المشايخ، وهي من يمكن أن تكون ثقافة وحضارة لغير المسلمين في بلدان يشكل سوادها من مسلمين. الإسلامية المطلقة لا يمكن أن تكون ثقافة وحضارة لأحد، ولا للمسلمين السنيين. ومعلوم أن تشكيلاتها أخذت الإسلام لنفسها، وهي (وليس أي علمانيين) من فصلته عن المجتمع الذي حسب نفسه مسلماً على الدوام، وصارت تعيد أسلمة المحكومين بالدورات الشرعية وشرطة الحسبة، إلى درجة أن صار لسان الحال يقول: «يا أخي هدول الجماعة عندن دين نحن ما بنعرفو» (تُنظَر مقالة أوس مبارك عن جهاز الحسبة في جيش الإسلام). الإسلامية المطلقة نظام حزب واحد ديني، بالغ المحافظة، عنيف، ونَزّاع نحو الفاشية. هو بعثية إسلامية. الإسلامية المطلقة هي إسلامية التطبيق، سواء تطبيق الشريعة أم تطبيق العقيدة أو الحاكمية الإلهية. مفهوم التطبيق فاشي في كل حال، سواء تعلق الأمر بالتطبيق الاشتراكي أو تطبيق الشريعة، يعامل الحياة البشرية والاجتماع البشري كأشياء مِطواعة يمارس عليها المطبِّقون السياسيون والدينيون معتقداتهم المعصومة، فيحذفون بعنف لا يحد ما لا يتوافق مع ما يمليه اعتقادهم. ولقد رأينا النماذج سلفاً. قول ذلك هنا أيضاً ليس مسألة استدلال منطقي.

والسؤال الذي طرحته علينا نماذج الإسلامية المطلقة أو السلطات الدينية المطلقة هو كيف يمكن ضبط هذه السلطات؟ كيف يمكن منعها من الطغيان؟ من قيام نظام حِسْبوي تجسسي، يتلصص على سماع الموسيقا أو اختلاط نساء ورجال، أو لون طرف ثوب امرأة تحت نقابها الأسود، أو مقالات يتشمم منها مخبرون دينيون نفساً غير تبجيلي للعقيدة المفروضة؟ كيف يمكن دسترة هذه السلطة؟ كيف يمكن حماية المجتمع منها؟ أياً يكن الأمر، فإن الدستور الضابط لسلطةٍ ما لا يمكن أن ينبع من هذه السلطة على نحو ما تريد الإسلامية المطلقة. ما يحمي المجتمع من سلطة الإسلاميين ليس شرع الإسلاميين، بل دستور مدني، وضعي، تصدره «جمعية تأسيسية» السوريين.

خصخصة الثورة سنياً

ليس غرض هذا التدخل بطبيعة الحال هو إقناع المشايخ بخلل تفكيرهم. الجماعة يعيشون في عالم يخصهم عالي الأسوار. الغرض هو مخاطبة غير المشايخ من السوريين ممن يعيشون خارج الأسوار لإظهار خطورة هذا الطرح الذي يستفيد تمام الاستفادة مما تورثه سلطة إبادية كالحكم الأسدي من انفعال وغضب كي يضعف المَنازِعَ النقدية حياله. كلام الرجال المتدينين المدينيين الملتحين المقيمين في إسطنبول طائفي وتمييزي، وليس لحكم طائفي، قاتل وعميل، أن يحجب حقيقته. هذا يظهر بوضوح أكبر في مقالة الدكتور محمد أمين الجمال الذي يدنو من الأرض و«أبناء هذه الأرض» كما سنراه يقول، ولا يحوم في سماوات العمومية التي حوّم فيها المشايخ.

في مقالته التي تعلق على وثيقة المجلس الإسلامي السوري وتشرحها وتدافع عنها، والتي نشرت مثلما تقدم في مجلة المجلس، مقاربات، يقرر الجمال بداية أن «شعوبنا التي خرجت من المساجد بشعارات عفويّة في أوّل الثورة تهتف للحريّة لهي أحقُّ بإعلاء قيمة الهويّة، وأولى أن تكون الهويّة متمثّلة في منطلقاتها في الحياة ومنطلقاتها في الثورة». ويضيف مؤكداً: «لم يخرج الثائرون ليعبّروا عن هويّة شيوعيّة ولا عروبيّة قوميّة، ولا كرديّة ولا شركسيّة، ولا ليعلنوا انتماءهم إلى الديمقراطيّة الغربيّة أو الليبراليّة الأوروبيّة، بل خرجوا تعبيراً عن هويّة دينيّة». هنا عدد كبير من المصادرات لا مفر من التوقف أمامها. خرج الثائرون بدءاً من درعا ضد نظام بهيمي، يعذب الأطفال ويهين الآباء، ويعامل عموم محكوميه بعنجهية واحتقار. هذا واقع معروف، ومن يقول بعكسه عليه أن يثبت ما يقول. والجمال لا يثبت، يقرر فحسب. ولم يُسمَع في احتجاجات الثورة السلمية الباكرة تأكيد خاص على هوية إسلامية سنية، وإن كان مرجحاً أن أكثر الثائرين ينحدرون من بيئات سنية. وحين هتف الثائرون «سوريا لينا وما هي لبيت الأسد» لم يكن المقصود أن سوريا للسنيين فقط، بل إنها للسوريين. وكان هذا الهتاف موجهاً ضد خصخصة الدولة. وخصخصة الثورة مثلما يفعل المشايخ وشارحهم ليست الردَّ على الدولة المخصخصة، بل هي استمرارٌ لها. معلوم أنه حيثما سيطرت المجموعات الإسلامية التي سبقت المشايخ والشارح في خصخصة الثورة أنتجت أسدية إسلامية. 

خرج السوريون احتجاجاً على ذل وطغيان، وبغرض تغيير النظام السياسي القائم منذ أربعين عاماً وقتها. والسياق معلوم، هو «الربيع العربي»، وهو تمرد اجتماعي انتشر في ستة بلدان خلال أسابيع طلباً للتغير السياسي، تحفزه قيم الكرامة والحرية والعدالة، ولم يكن تعبيراً عن «هوية دينية»، وإن لم يكن مُنازٍعاً لها بحال. خرجت بعض مظاهرات السوريين من مساجد ولم تخرج بعضها من مساجد. من تجمعوا في ساحة الساعة في حمص قبل المجزرة ليلة 18 نيسان جاءوا من بيوتهم، وربما جاء بعضهم من المسجد. ومن حاولوا احتلال ساحة العباسيين في دمشق في مطالع نيسان 2011 جاءوا من البلدات والضواحي القريبة. وخرج طلاب جامعة حلب من الجامعة، وليس من الجامع. ولكان طلاب جامعة دمشق فعلوا الشيء نفسه لو لم تكن جامعتهم واقعة تحت احتلال أشد قسوة. وهو ما لا يطعن في أن كثير من المظاهرات خرجت من مساجد هي أماكن التجمع الوحيدة في سوريا. ليس هناك مقرات أحزاب معارضة أو منتديات شبابية واجتماعية مستقلة، أو نقابات مستقلة، أو قوى ديمقراطية متمرسة بتنظيم النشاط الاحتجاجي في المجتمع. الواقع أن الشبكات الدينية انتفعت دون غيرها من الطغيان الدولتي لأن الدين يجنح لأن يكون سياسة مجتمعات بلا سياسة، مجتمعات مفقرة سياسياً، ممنوعة من الاجتماع ومن الكلام والاحتجاج. في ألمانيا الشرقية وفي بولونيا قامت الكنيسة بدور مماثل ضد نظام الحزب الواحد، الشيوعي، الذي حطم المنظمات الاجتماعية المستقلة وألغى الحياة السياسية. لا يفعل الناس ذلك اليوم في أي من البلدين حين يخرجون محتجين.

وبالمناسبة، فإن الخروج من المساجد الذي يقرره الجمال هو بالذات ما يأخذه على الثورة السورية معادون لها مثل الشاعر أدونيس. ومثل الجمال يصر الشاعر الذي تفرغ للطعن في الثورة السورية (وللثناء على نفسه) على أن المظاهرات خرجت من المساجد، ويرفض أن يرى لماذا خرج ما خرج منها من المساجد، كما واقع أن مظاهرات كثيرة لم تخرج من مساجد. في الحالين لدينا مصادرة ماهوية لحدث تاريخي كبير ومركّب ومتعدد المحركات وواسع القاعدة. واحد يقرر إسلامية الثورات ليستأثر بما تعود به من شرعية، وواحد يقرر إسلاميتها كي ينكر عليها الشرعية. الاثنان طائفيان على حد سواء.

لا يلبث الدكتور أن يقرر إسلامية الهوية وصمودها في وجه العابثين طوال أربعة عقود، «فلم يستطيعوا تغيير الهوية لتصبح هويّة قوميّة أو اشتراكيّة أو بعثيّة أو شيوعيّة!» بلى، كانت الهوية قومية عربية بين استقلال سوريا وحتى سبعينات القرن العشرين، وكان التماهي العربي أقوى من التماهي الإسلامي الذي صعد بارتباط وثيق مع الحجر السياسي على المجتمع السوري، وحدوث ما يشبه ذلك في معظم المجتمعات العربية. ثم إن للموجة الإسلامية الحالية بدء، وما له بدء له انتهاء. وضمن الموجة موجات فرعية منها السلفية الجهادية وتتويجها بداعش. والدعاة الداعشيون يعتبرون الإخوان علمانيين، على ما ورد بالفعل في كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي.

ولمن قد يتساءل عن «طبيعة المجلس الإسلاميّ» الذي يشرح الجمال وثيقته، و«من الذين يمثّلهم المجلس ويتحدّث باسمهم، ويعدّ مرجعيّة لهم»، يأتيه جواب الدكتور الجمال كالتالي: «أكثريّة سكّان سوريا التي عبّرت الوثيقة عن هويّتها، فنحنُ المسلمون السنّة الذين يقطنون هذه البلاد منذ مئات السنين، ولغةُ عامّتنا هي اللغة العربيّة». ليس معلوماً متى أُعطي المجلس الإسلامي صفة تمثيلية ومرجعية، ومن أعطاه إياها، وبأي حق. لكن ما لم تصرح به وثيقة المشايخ من أن ما تعنيه بالإسلام هو الإسلام السني صرَّحَ به الدكتور في مجلة المجلس وتعليقاً حماسياً على وثيقة المجلس. وما يغفل عنه المجلس يغفل عنه الدكتور، وهو أن الأكثرية الأهلية التي يُحيلون إليها ليست موحّدة سياسياً ولا اجتماعياً ولا فكرياً ولا نفسياً، وأن ما انتسب إليها من تعبيرات سياسية كانت متقاتلة فيما بينها، وأن قطاعات منها موالية للنظام إلى اليوم، وقطاعات منها لا تُعرِّف نفسها كإسلامية ولا كسنية، بل ترتضي تعريفاً وطنياً سورياً أو قومياً عربياً، وهذا دون أن تكون بالضرورة على عداء للإسلاميين، ومن باب أولى للإسلام. على أن منها ما هو معاد بالفعل، وهذا العداء يظهر بقوة أكبر كلما أخذت الإسلامية شكل الإسلامية المطلقة، ويتراجع حين تقترب من أن تكون إسلامية دستورية أو مقيدة.

 وبعد أن حدد النحن على الصورة المتقدمة، يميز الدكتور الجمال بين ثلاثة أشكال لـ«الآخر»، تعزز ما تقدَّمَ استنتاجه من أن ما تنفتح عليه وثيقة المشايخ الذين انتخبوا أنفسهم مرجعية إسلامية سورية هو نظام أهل ذمة محدث. «الآخر» عموماً هو «المنتمي إلى غير هذه الهوية، من أبناء هذه الأرض الذين يشاركون الأكثرية في العيش المشترك عليها منذ مئات السنين». هل لهذه العبارة الأخيرة الدلالة ذاتها للقول: الذين تشاركهم الأكثرية العيش منذ مئات السنين؟ ذلك أن بعض «أبناء هذه الأرض» أقدم من «الأكثرية» كما يعلم الدكتور. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا هوية سوريا هي الإسلام السني، بينما «أبناء هذه الأرض» متنوعون؟ فإذا كانت سوريا وطن السوريين وجب بناء تصور استيعابي للهوية، وليس تصوراً استبعادياً يقوم على عقيدة بعض السوريين. والتصور الاستيعابي لا يمكن أن يكون دينياً. فدين البعض، وإن كانوا أكثرية، لا يمكن أن يكون هوية الجميع، ولا من باب أولى دولة الجميع.   

ويُفرِّع الكاتب «الآخر» إلى ثلاثة أصناف. الآخر الأول هو «الواقف في وجه الظالمين المناوئ للبطش والديكتاتوريّة والاستئثار بالسلطة والحكم والموارد من حَمَلَة المبادئ غير المنتمية إلى هويّة هذه البلاد؛ إمّا لكونهم من أتباع ديانات أخرى كالنصيريّة والدرزيّة والنصرانيّة والصابئة، أو لكونهم من أتباع أيديولوجيات مستوردة من الشرق أو الغرب؛ الذين يرونَ تمسّك عموم الشعب بعاداته وتقاليده جزءاً من التخلّف والعودة إلى العصور الحجريّةِ، وانتماءً إلى الجزيرة العربيّة!». الرجل يتكلم على «واقفين في وجه الظالمين»، لكن فكره يسوقه سوقاً إلى الحط من شأن من ليسوا مثله منهم. إذ بعد أن سجل الدكتور والمشايخ سوريا باسم المسلمين السنيين يصير من ليس منهم غريباً، غير منتمٍ إلى هوية هذه البلاد! وضمن صنف الآخر هذا هناك صنف فرعي أول مشكَّل من علويين (نصيريين بلغة الدكتور الذي لا يبالي باسم علويين الذي ارتضوه لأنفسهم) أو دروز أو مسيحيين (يسمي الدكتور دينهم بالنصرانية) أو إيزيديين (صابئة)، ثم صنف فرعي آخر مكون من «أتباع أيديولوجيات مستوردةٍ من الشرق أو الغرب»، والأرجح أن الأمر يتعلق بمسلمين سنيين سوسيولوجياً لكنهم يساريون أو ليبراليون أو علمانيون. بما أن «الأصيل» هو الدكتور ومن يشبهه، فإن من لا يشبهه مستورد. ولا يتخيل الرجل من لا يشبهونه إلا مزدرين للشعب المتدين وناسبين له إلى عصور حجرية أو إلى الجزيرة العربية. هناك أصوات من هذا النوع بالفعل، لكنها في صف النظام وليس من طرف الثورة عليه، ولهم التكوين المتعصب، وفي الغالب الطائفي، الذي هو تكوين الدكتور.

يستخلص الجمال أن هذا الصنف الأول من الآخر «لا يمكن أن يكون منتمياً إلى الهويّة انتماءً مباشراً، وإن كان منتمياً إلى وصفَي العربيّة الإسلاميّة أو أحدهما بمعناه العام الذي يشكّل العمود الفقريّ في هذه الهوية، وإن كان هؤلاء منتمين إلى الثورة أيضاً». لا يكفي أن يكون المرء عربياً مسلماً، ولا يكفي أن يكون منتمياً إلى الثورة السورية، ينبغي أن يتبع ملّة الدكتور حتى ينال الرضا.

الآخر الثاني هو «الذي لم يعترض على الظالم اعتراضاً مباشراً، ولم يمنعه من ظلمه، ويُظهِرُ نفسَه معتدلاً غير مشاركٍ في الإثم والعدوان على الأكثريّة، وهم كثير من أبناء المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام من السنّة وغيرهم من المنتمين إلى الهويّة من حيث الأصل، المبتعدين عنها من حيث الممارسة والسلوك». تُرى لم لا يقال لنا بوضوح إن الإسلاميين السنيين ذوي التكوين الإخواني أو السلفي أو السلفي الجهادي هم الهوية، وليس حتى عموم المسلمين السنيين؟

الآخر الثالث هو «الموافق للظالمين، الذي شارك في قتل الأكثريّة ومحاولة تغيير هويّتها ديمغرافيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً». بعض هذا الآخر، على ما لا يخفى على الدكتور، من «الهوية السورية الأصيلة»، مسلمون سنيون، وهو ما من شأن التبصر فيه أن يحيل إلى توزيع سياسي للآخرية إن جاز التعبير، توزيع أكثر عدالة وإنسانية، دون أن يكون متعامياً بالضرورة عن الطائفية والتمييز الطائفي.

ويقرر الجمال أن «الواجب الشرعي» يقضي «بقبول الصنف الأول والثاني من الآخر في إطار الوطن، والتعامل معهم في نطاق الحقوق والواجبات كما نتعامل تماماً مع من ينتمي إلى الهويّة نفسها انتماءً حقيقيّاً كاملاً… فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، من البرّ إلى محسنهم ومنع مسيئهم من الإساءة إلى الدين أو الهوية أو المجتمع، والأخذ على يد المعتدي». الكاتب يضع نفسه وهويته في موقع السيد، واضع القوانين والديّان على الناس. وهو، الإسلامي السني، يقرر من يقبل ومن لا يقبل. وبطبيعة الحال هو من يُعرِّف من هو المحسن ومن المسيء، ما يضع عموم غير الإسلاميين السنيين في ذمة أمثال الدكتور، لا يعرف الواحد منا متى يجد أشباهُ السيد في أقوالنا وأفعالنا ما يسيء، فنعتصم بالصمت أو نهجر البلاد مثلما فعل سوريون كثيرون في ظل الحكم الأسدي. ما سنحصل عليه من سيادة هوية المشايخ والدكتور هو أسدية إسلامية سنية، لا أكثر ولا أقل.

يستأنف الجمال كلامه عن معاملة «الآخر» بالقول: «وليس من المقبول أن نتنازل عن ثوابتنا أو نطمس هويتنا تحت شعار رعاية الآخر والقبول به، ولا من المطلوب منا شرعاً أن نغيّر أحكام ديننا من أجل أن يقبل بنا الآخر! الذي لا يمثّل هوية المجتمع». يتكلم الأخ كأنه صاحب البيت في سوريا، و«الآخر» أو الآخرون غرباء حلوا عليه ضيوفاً ثقلاء. ترى ما يكون الحال معه لو لم يكن لاجئاً في تركيا، وكان حاكماً في سوريا؟

أما الآخر الثالث فيريد الجمال محاكمته محاكمة عادلة، والعدالة هي فرض قانونه هو أو شريعته هو على غيره. إذ بالطبع لا يجوز أن يتنازل عن ثوابته.

فإن لم يتضح ما يريده شارح وثيقة مشايخ المجلس الإسلامي السوري عن هوية السوريين إلى الآن، يزيدك الشارح بياناً: «قبول الآخر لا يعني أن يأخذ حقوق الأكثرية، ولا يعني أن نقتنع بفكره ونغيّر هويتنا تماشياً مع رأيه ووجهات نظره، ولا يعني عدم بيان ما في فكره من مفاسد من وجهة نظر الأكثريّة الذين يشكّلون هذه الهويّة». ولكن من قال لك أن تغير شيئاً من نفسك أو ما بنفسك يا سيد! المشكلة معك ليس في أنك لا تريد أن تتغير، فهذا شأنك، بل في أنه لا يهنأ لك عيش دون أن تفرض معاييرك وأفكارك على غيرك باسم ما تزعم من هوية أصيلة؛ المشكلة أنك تريد من غيرك أن يقبلوا سلطانك وسيادتك، فلا يظهروا أفكارهم وعقائدهم أو يعبروا عنها، ولا ينتقدوك، ولا يقولوا إنك مستبد أرعن أو طائفي متعصب أو متسلط فاسد، وهذا مثل حالنا تماماً في ظل حكم الأسديين! المشكلة أنك تريد لـ«الآخر» أن يكون مواطن درجة ثانية أو أقل، ذمي، يحق لأشباهك بيان ما في فكره من مفاسد بحسب فكرتك عن المصالح والمفاسد! وبطبيعة الحال لا يمكن التفكير في أن للآخر المنكود الحق في بيان ما في فكرك من مفاسد وتمييز وتعسف. الأرجح أنه سيفقد رأسه أن جالت فيه فكرة كهذه. الجمال يعرف مثلما يعرف المشايخ كل ما هو حق، وله ولهم الحكم على جميع الناس لأن السيادة لهم، ولهم الحق دون غيرهم في ألا يكون مساوين لغيرهم.

وبلا مناسبة، يختم شارح وثيقة المجلس الإسلامي السوري مقالته بالقول: «إنّ الدعوات إلى النسوية وإلى الجندر وإلى قانون الزواج المدني المخالف للشريعة الإسلامية هي دعوات لإنكار الهوية والبعد عن الذات، وفي مؤدّاها دعوات إلى الانحلال الأخلاقيّ الذي لا يمكن أن يتوافق مع الهوية السوريّة الوطنيّة». يصعب التعليق. قبل كل شيء يتساءل المرء إن كانت هذه اللغة الغوغائية المُسفّة لغة «أستاذ الدراسات العليا في جامعة إسطنبول» على ما جرى تعريف الرجل في المجلة (دون توضيح لحقل دراساته… العليا)، فما تكون لغة المتعلمين على يديه؟ وهل يعسر عليه أن يفهم أنه في مجتمعاتنا المعاصرة، مثل كل المجتمعات، أخلاقيات متعددة، وأن الصراع الفكري والقيمي الحقيقي عندنا وعند غيرنا هو بين أخلاق وأخلاق، وليس بين أخلاق ولاأخلاق مثلما أوهمته ميلودراماه الدينية؟ وأن «النسوية والجندر والزواج المدني» تندرج ضمن أخلاقية أساسها الحرية وسيادة الناس، نساءً ورجالاً، على أنفسهم، ويعرض معتنقوها شجاعة وحساً بالعدالة يفوق ما يعرضه الدكتور، فضلاً عن أفق معرفي أوسع؟ وأن الشريعة الإسلامية هي أخلاقية بين أخلاقيات ممكنة، وأن محتواها الأخلاقي ينحدر بشدة كلما فُرضت بالقوة؟ وإذا كان بيان المحاسن والمفاسد حقاً متاحاً للجميع، ولا شيء يكون حقاً إن لم يكن قابلاً للتعميم، فسيجد كثيرون وبحق أن في الزواج المتعدد للرجل تمييزاً غير عادل بين الرجال والنساء (تشهد به كل امرأة مسلمة حين تكره زواج رجلها بأخرى)، ويحق للنساء والعادلين من الرجال الاعتراض عليه. النسوية متكونة حول مطالب من هذا النوع موجهة ضد امتيازات الرجال والسلطة الذكورية. إنها دعوة للعدالة وليس للانحلال الأخلاقي على ما يضلل الدكتور غيره ونفسه. والزواج المدني مبني على مبدأ أن الزواج علاقة بين فردين، وليس بين دينين أو طائفتين، وأن الفردين هما من يقررانه. هذا أكثر توافقاً مع الحرية والعدالة، وإن لم يكن ما تفضله سلطات دينية. وهو بلا شك غير منحل أخلاقياً خلافاً لما يفتري الجمال.

والطريف والدال أنه عند التدقيق في آخرَي الجمال الثلاث نلاحظ أن الآخر الأول، المشارك في الثورة، و«المناوئ للبطش والديكتاتوريّة والاستئثار بالسلطة والحكم والموارد»، هو من يربك وجوده الدكتور أكثر من الآخرين الثاني والثالث، «الصامت» و«الموافق للظالمين». وهو يستخرج من قبو قومي إسلامي متعفن عبارة الإيديولوجيا المستوردة، وينسب الثائرين غير السنيين إلى مذاهب ونصيرية ونصرانية وصابئة، فضلاً عن سوء ظنه بهم واعتقاده بأنهم يرمون المتدينين بالتخلف أو بالانتماء للعصر الحجري… الدكتور يغص بالثائرين من غير الإسلاميين ومن غير السنيين لأن لهم قولاً متماسكاً غير قوله، وحضوراً مؤثراً لا يستأذن حضوره، وشرعية ذاتية لا تنتظر إقراره. ولأنه يمثلون بوجودهم سوريا منفتحة ومتعددة وحيوية وحرة، ممتنعة على التعليب الديني. كان يتمنى لو أن جميع غير السنيين كانوا إلى جانب النظام، إذاً لاستقر عالمه وطابت هويته، وأخذ كامل راحته في تعظيم الذات واغتياب الغير.   

الروحية العامة لمقالة الجمال الشارح تتسم بالشح والتزمت. ليس هناك ترحاب أو مودة أو استضافة للغير في النفس. هناك بالعكس تجهم وتشرُّط وتضييق. هذا الخلو من السماحة والكرم ملمح يتجاوز مقالة الجمال إلى أوسع أطياف الإسلاميين، وقد تقدمت الإشارة إلى سمة أخرى لخطابات الإسلاميين تتمثل في مديح النفس والثناء على النفس وتعظيم النفس. ومقابل ذلك لن يجد المرء عند الإسلاميين كلمة طيبة بحق دين آخر أو فكرة أخرى أو مذهب اجتماعي آخر، ولا تضامن مع قوم دهمتهم كارثة طبيعية أو سياسية، وهذا مع رخصة مستمرة للنفس بتقييم جميع الناس والحكم عليهم.

لدينا طرف سوري خاص، وهو مهزوم وتابع اليوم، يعلن لعموم السوريين، للمهزومين مثله، كذلك للمنتصرين عليه، أنه لا يريد المساواة مع أي منهم، وأنه يعتزم تحكيم نفسه فيما يشجر بينهم وبين غيره منهم، وأنه في الحقيقة خير منهم ومن الجميع، وأنه هو (هذا الطرف الخاص) هو «الهوية» العامة، وهو الأكثرية، وهذا في نفس واحد بعد أن كان حطَّ من شأن ما لا يقل عن ثلثي السوريين في آخريه الثلاثة! أليس هذا بالفعل أصلح تعريف للتطرف؟ إذ ما التطرف إن لم يكن احتلال طرف بعينه محل الكل، وإشغال موقع جميع الأطراف؟

تكوين الإسلامية الفكري والأخلاقي

يبدو شاغل «الهوية» عند المشايخ والشارح تعويضاً عن الأرض، عن ارتباط بمجتمع مستقر وبيئات حية. الإسلامية السورية اليوم إسلامية شتات، معرضة بقوة أكبر لما ميز الإسلام المعولم من تجريد وتطرف بفعل انفصاله عن المحلي، وإقامته الاضطرارية في الماضي. ويبدو هذا من وجه آخر أحد أوجه النكوص العام الذي أصاب المجتمع السوري في الحقبة الأسدية: التحول السلطاني، والأبد، وفقدان الوجهة، والمستقبل.

تثير وثيقة مشايخ المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول وشرح شارحهم تساؤلات محيرة عن حس الواقع عند الإسلاميين. تكررت الإشارة فوق إلى تعارض شاسع بين الوضع المتداعي لبيئات الإسلام السني السورية وبين الخطاب العاتي والمغرور للناطقين المفترضين باسمها، بين «الأفول السني» والاكتفاء الذاتي الذي يعرضه المتكلمون السنيون، وهو ما لا يغذي غير مزيد من الأفول. كأنما هناك «غريزة موت» تعتمل في تكوين الجماعة، كأنما هناك نازع لتدمير الذات بفعل عدم القدرة على التكيف الفاعل مع البيئات الحديثة أو مجرد استيعاب الواقع الفعلي. وكأن الجماعة فوق ذلك صفحوا عالمهم بدروع صفيقة تحول دون الحس بتعدد الواقع وتعقده، وإجراء الانعطاف الضروري لتجنب الكارثة المتكررة. تكوين الإسلامية السنية في سورية انتحاري، والأرجح أن منبع المنزع الانتحاري هو صورة عن الذات متناقضة كلياً مع الواقع، والقصور الذي تعرضه نخب الإسلاميين في مراجعة الماضي والراهن باتجاه قدر من التواضع والاستعداد للتعلم. «الأكثرية السنية» محتاجة إلى حماية من النزعات الانتحارية لنخبها أكثر من أي شيء آخر.

التكوين الفكري للإسلامية السورية بأجنحتها المشايخية والإخوانية والسلفية والسلفية-الجهادية، هو تكوين إسلامي تقليدي بصورة حصرية. علاقتهم بالفلسفة والعلوم الاجتماعية تتراوح بين العداء والعدم. بالعلوم الطبيعية إنتاجاً وتجريباً ومساهمة معدومة. بالأدب والفن غير الإسلامي – وربما العربي القديم – مثل ذلك وأكثر. ثم إنه في تأهيلهم الإسلامي بالذات، يغلب الفقهي، رغم أننا اليوم في وضعية كلامية تستدعي إعادة التفكير في الله والخير والشر والقضاء والقدر وحرية الإنسان. علم الإسلاميين في عالم اليوم محدود وقابل للختم، و«العلماء» هم خاتمو هذا العلم. والعالَم المتكون حول هذا العلم القابل لأن يُختم ضيقٌ مثله. ورغم هذا التكوين الخاص، الضيق والانعزالي، ينسب الإسلاميون إلى أنفسهم صفة عامة، صفة الهوية العامة وصفة الجدارة بالحكم والدولة العامة. هنا ثمة تناقض كبير بين التكوين الخاص الضيق والمتزايد الضيق وبين إرادة العام الذي يفيض عليهم من كل جهة، بفعل تشكله عبر انخراطنا الواجب والمحتوم في العالم الحديث والمعاصر. هذا التناقض بين خصوصية متصلبة لتكوين الإسلاميين وبين تطلعهم للعام الأعلى سياسياً وفكرياً لا يمكن حله بغير مصادرات لفظية على طبيعة إسلامية ثابتة لمجتمعاتنا، أو بعنف لا يُحَد يتخلص أولاً بأول من كل من قد تخامره فكرة أخرى. عنف داعش ليس حتماً ممارسة شخصيات سادية مريضة، بل هو وليد علم وعالم ضيقين، لم تتجاسر الإسلامية المعاصرة على القول إنهما انعزال وانتحار. وليس سمير كعكة، وهو «شرعي» جيش الإسلام أي مفتي الجريمة فيه، شخصاً منحرفاً موتوراً أسود القلب حتماً، لكنه ضحل ومبتذل، يشعر أنه «مرجع» حين يختم «علماً» محدوداً جاف الروح، يقول له إنه صح وغيره خطأ، ولأنه صح يحق له أن يكره، بل أن يؤذي من ليسوا مثله (ماذا تقول عقيدة الولاء والبراء غير ذلك؟). الجريمة تصير طاعة، والشر يصير خيراً، على هذا النحو الذي نحاه ما لا يحصى من إسلاميين في العقود الأخيرة. كعكة مجرم بفعل تمام علمه، وليس لنقصه، وهو متشكل بعلمه/عالمه الضيق المفعم بالكراهية الذي لا يوجد فيه إلا أمثاله، فلا حوار ولعلنا نستدل من ذلك على أن أكبر الشر يأتي من طرف من يُحكِّمون عقائدهم الخاصة المعزولة عن النقاش العام في الحياة العامة، أو من لا يستأذنون غير «الواجب الشرعي» في معاملة من هم من خارج عصبتهم على طريقة أستاذ الدراسات العليا المذكور فوق. إذا كانت التجارب الإسلامية تقتضي العنف ضد المجتمع وتبتدئ به فلأنها خاصة وضيقة، ولا يسعفها تكوينها المغلق هذا لمعالجة مشكلات حديثة مركبة في مجتمع مفتوح وعالم مفتوح.

وما أريد الخلوص إليه هو أن الإسلامية اليوم لا تشبه بحال سلطان الإسلام في أزمنة ما قبل التنظيمات العثمانية، لكن محرومة من السلطة. كانت سلطنات المسلمين العثمانية وما قبلها بنت زمنها بقدر كبير، وحدث أحياناً أن كانت طليعية هنا أو هناك. كان علمها علم وقتها وكذلك ممارساتها وقيمها ومؤسساتها وتقنياتها. لم يعد الأمر كذلك اليوم، علم الإسلامية محدود، ونظرتها للعالم ضيقة، وممارساتها انعزالية، وقيمها غير متجددة، وكل من يتطلع إلى معرفة أغنى وحياة أكرم وحرية أوسع وكفاءة أكبر لا يجدها في كنفها، بل في العالم الحديث على علّاته الكثيرة بالفعل. عالمنا الإسلامي معتلّ أكثر وعقيم أكثر ومغلق أكثر وعنيف أكثر. إذا صارت الأكثرية التي يتكلم عليها المشايخ والإسلاميون أقلية، فليس فقط بفعل وحشية نظام استبدادي طائفي، ولا بفعل حماته الطائفيين مثله، وإنما كذلك بفعل التكوين الخاص والضيق لقيادات الإسلام السني «العلمية» والسياسية. أي بفعل قصور ذاتي كبير عند نخب الإسلام السني، معزز باكتفاء هذه النخب بقليلها الموروث الذي تتفاقم قلته بفعل اتساع يومي للمحسوس والمعقول في العالم الحديث والمعاصر. ومن يقلل نفسه بنفسه على هذا النحو يصير أقلية اجتماعياً وسياسياً، يتطيف.

وغير التقليل الذاتي الناشئ عن التخاذل والافتقار إلى الشجاعة، تمعن عقائد الإسلاميين في الغرابة والاعتباطية في عالم اليوم. القصة التي يرويها القوم لأنفسهم ولنا هي أنهم أهدى من الجميع، وأعدل من الجميع، وأعلم من الجميع، وخيرٌ من الجميع، وأحق من الجميع بالسيادة والسؤدد في مجتمعاتنا والعالم، وأن لهم فرض عقائدهم وشرائعهم على الجميع بالقوة، وهذا لأن الله، الأقوى من كل قوي، قال لهم أن يفعلوا ذلك! ولا يبدو واقع المسلمين البائس، وقلة إنتاج الإسلاميين من الحق والسلم والسكينة والمعرفة والروح والضمير والمعنى يوفر لهم شواهد على بطلان القصة واعتباطيتها.

في غيبة علم كلام جديد ودون فلسفة ودون إنسانيات، ودون تدرب أخلاقي على وضع النفس في موقع الغير والنظر إلى النفس بعين الغير، تمعن عقائد الإسلاميين في الغرابة والشذوذ، بقدر ما هم يمعنون في التحول إلى طائفة خاصة، قليلة معنوياً وفكرياً وأخلاقياً، وإن كثيرة العدد. ورغم افتراض صفة إسلامية جوهرية لمجتمعاتنا فإن مجموعات الإسلاميين لم تسيطر حيثما سيطرت إلا بالاعتقال والاغتيال والتغييب والتعذيب. وهذا بالضبط بسبب غرابة العقيدة وطائفية الجماعة.   

وفضلاً عن ديناميكية تقليل طائفي وعن عقيدة غريبة تطلب لنفسها حق الإكراه (والكره للجميع كذلك)، لا تعرض الإسلامية المعاصرة حسّاً أخلاقية يبعث على الثقة. رأينا أعلاه أستاذ الدراسات العليا يحيل إلى «الانحلال الأخلاقي» ما لا يوافق اعتقاده الذاتي الذي يرفع فوق غيره درجات. لكن أليس الأستاذ بالأحرى مدافعاً عن امتيازات دينية وذكورية غير عادلة، وهو يجرم من يناضلن ويناضلون من أجل العدالة للنساء ولغير المسلمين من أجل مصلحته الطائفية؟ وهل عن غير  تكوين أخلاقي مثل تكوين الأستاذ، يشرع للنفس حق اغتياب جميع الناس، تصدر الأحكام السفيهة لشبيه للأستاذ، هيثم المالح، عن لباس «غير محتشم»، لمغيَّبة على يد إسلاميين، وربما شهيدة، مثل رزان زيتونة؟ هل كان يمكن أن يقول ذلك لولا إدمان الغيبة والنيل من الأعراض مما يثابر الإسلاميون على ممارسته؟

فإذا عرفنا مجال الأخلاق بحب الخير مبدئياً، والالتزام بذلك في التفاعلات مع الغريب والقريب من البشر، وتوخي العدالة  في معاملة من آذاك، فإن ما يؤخذ بحق على الإسلاميين هو طائفية أخلاقيتهم، تحصر فعل الخير في الجماعة وتبيح الشر حيال الغريب. فهم قلما يحسنون لغيرهم، ولا يرجون الخير لغريب لم يؤذهم، وبعض جماعاتهم توجب كره غير المسلم لمجرد أنه غير مسلم، وفي صيغ أخرى توجب إيذاءه. هذه عصبية طائفية، تحتفي بأخلاقية متدنية ولا-إنسانية، ولا تؤسس لاجتماع بشري معافى. التكوين الفقهي للإسلامية المعاصرة وآلية الفتوى المعتمدة في أوساطها تتوافق مع أسلمة الشر، أي إضفاء شرعية إسلامية على أفعال وانفعالات الملأ الإسلامي، وهي تتراوح بين غير ودودة حيال وبين العداء الشديد لكل غير المسلمين وكل غير الأشباه من المسلمين. فعل الخير يقتضي تكويناً نفسياً فكرياً محباً للبشر وإيجابياً حيال العالم، وليس في الإسلامية المعاصرة شيء من هذين. وبطبيعة الحال أسلمة الشر لا تغير الشر بل تغير الإسلام، تجعل منه عقيدة معدومة الشخصية تبرر مسالك مستخدميها الأشرار أياً تكن.  ظاهرة المجالس الشرعية و«الشرعيين» الذين انتشروا كالوباء بعد الثورة السورية، تعكس بالضبط أسلمة الشر، تشريع فعل قتلة كانوا يسمون الأمنيين. 

وبعد، لا تقتضي هذه المناقشة إنكار فروق سياسية ضمن طيف الإسلاميين تحيل إلى المنشأ المختلف، وبقدر ما إلى إطار العمل (محلي، دولي، معولم)، لكن يبدو أنه يمتنع للاعتدال الذاتي المحتمل لأي إسلاميين أن يترجم إلى اعتدال سياسي علني دون الخروج من نموذج إسلامية التطبيق المطلقة إلى إسلامية دستورية غير تطبيقية، تستلهم القيم الإسلامية العامة من عدل وتوحيد وتقوى وأخوة وحسن معاملة… ولعل هذا يقتضي النظر بإمعان في تكوين الضمير الإسلامي السني المعاصر، وهو قائم على المظلومية واحتكار المعاناة من جهة، ثم على التفوقية السنية القائمة على الميراث الإمبراطوري واحتكار الله، وهما يؤسسان معاً لما يمكن تسميته الظالمية الحلال أو الشرعية، ثم نزعة الاكتفاء الإسلامية التي تمضي من القول إن كل ما لدينا حق إلى القول إن كل ما هو حق لدينا، أي بالضبط الظلامية. هذه العناصر الثلاث تجمع بنسب تتفاوت بين الإسلاميين المختلفين، وتشكل ركائز نفسية وخيالية لإسلامية التطبيق التي لا يقوم عليها غير حكم استبدادي مطلق. ويستبعد بعد ذلك أن نكون حيال استبداد تقليدي يستأثر بالسلطة ويفرض صبغة دينية على الحياة العامة، ولكنه سطحي في اختراقه للمجتمع. بالعكس، يرجح لاستبداد ديني اليوم أن يؤسس لحكم تفتيشي، تشرف عليه أجهزة حسبة فاشية من صنف رأيناه عند داعش وجيش الإسلام وجبهة النصرة، ويعمل على إذلال نخبوي منظم لعموم السكان.

إسلام بلا شكل

لا يبدو أن الجمال ولا المشايخ من قبله أخذوا علماً بظهور داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام، وهي منظمات سنية جمعت بين الدين والسياسة والجريمة، تماماً مثل شبيحة الحكم الأسدي. يبدو أنه يمكن للمشايخ وشارحهم قول الأشياء نفسها قبل هذه الظهورات الوحشية وبعدها، وأنه ليس لها أدنى تأثير على طريق الكلام على «الهوية» وعلى «الإسلام». لا يبدو التاريخ مُحَكِّماً ولا التجربة مُحَكِّمة عند الإسلاميين، المُحَكِّم هو شهادة اعتقادهم الذاتي لنفسه. تظهر هذه الشهادة المحابية للذات بطبيعة الحال في القول المتكرر: المشكلة ليس في الإسلام، بل في المسلمين! وهذا حين يواجه إسلاميون أو مسلمون متدينون بجرائم الإسلاميين. ليس غرض الكاتب قول العكس، الغرض بالأحرى هو إظهار لا معنى هذا القول. حين يقول مسلمون إنهم هم المشكلة وليس دينهم، فإما أن يكون قولهم عن أنفسهم صحيحاً، وفي هذه الحالة كيف يؤخذ بكلامهم عن دينهم أو عن أي شيء آخر؟ وإما ألا يكون صحيحاً، ويتعين في هذه الحال الاضطلاع الجدي والشجاع بالتوترات والمشكلات المتولدة عن وضع الإسلام في العالم المعاصر، والتي تدفع مسلمين إلى قول غريب كهذا. الإسلام اليوم فاقد للشكل إلى درجة أنه يمكن نفي كل شيء عنه (الإسلام من ذلك براء!) وتبرير كل شيء به (استطاع قتلة ولصوص وكذابون من كل نوع فعل ذلك) في الوقت نفسه. فقدان الشكل هذا تعريف صالح للمشكلة، ولن يكون للإسلام شكل، فيكفَّ عن كونه مشكلة، بدون جهد إعادة تشكيل واسع، يقوم به الحريصون على دينهم. جهد كلامي وفلسفي وأخلاقي، وليس فقهياً إفتائياً لا مؤدى له غير أسلمة الشر، وغير نظرة مفتتة وتجزيئية للعالم لا تحيط بعمليات تكونه وتحوله. 

وما لا يبدو أن مجمل التفكير الإسلامي المعاصر يتبيّنه هو أنه إذا كان لا تمايز بين الديني والسياسي في الإسلام، فإن الجرائم السياسية التي يرتكبها إسلاميون، مثل ثالوث الشر المذكور فوق (داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام) هي جرائم دينية كذلك، يُساءَل عنها دينهم، وأن المعنيين بكرامة الإسلام مخيرون بين أن يرفضوا تطابق الديني والسياسي، أي أن يرفضوا الإسلامية المطلقة ويعتنقوا إسلامية دستورية، وبين أن يقبلوا أن جرائم القتل والخطف والتعذيب هي جرائم دينية فوق كونها سياسية، وعندئذ من حق المرء أن يتساءل: إذا كانت الجرائم مقبولة ديناً على هذا النحو، فلماذا يا ترى الكفر هو السيء؟

هناك تخاذل إسلامي عن مواجهة المشكلات التي تنشأ حتماً من الوجود في عالم متغير، وتؤدي إلى فقدان الشكل، وتقتضي بالتالي فكراً مبدعاً حراً متجدداً واسع القاعدة من أجل تطوير شكل حي. وتجري التغطية على الافتقار إلى الشجاعة بالقول إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. هذا باطل. لا شيء يصلح لأزمنة متغيرة وأماكن متغايرة إلا ما يتغير. وما لا يتغير لا يصلح لأي وقت ولا لأي مكان. تواتر نماذج الإسلاميين الإجرامية، وغياب نموذج ناجح يمكن البناء عليه، يشير إلى الحاجة الملحة إلى إعادة تشكيل واسعة للمجمل الإسلامي تتيح له أن يحيا ويتجدد. ماذا يحول دون إعادة التشكيل أو الهيكلة؟ اعتياش كثيرين على القديم الجامد الذي لا شكل له، يدر عليهم سلطة ونفوذاً ووجاهة. المشكلة هي في هذا الملأ الإسلامي. والمشايخ وشارحهم نماذج ناطقة.

موقع الجمهورية

————————–

تحولات فكرية تدور في سوريا/ إبراهيم الجبين

أظهرت قضية المفتي العام للجمهورية العربية السورية والذي تم انتخابه من قبل المجلس الإسلامي السوري رداً على إلغاء مقام الإفتاء من قبل رئيس النظام السوري مؤخراً مؤشراً لافتاً يحدث للمرة الأولى خلال العقد السوري الماضي من الزمان. فالأمر لم يكن بإرادة رجال الدين والشارع السني وحسب، إنما تضافرت فيه جهود عديدة أبرز ما فيها هو الدفع الكبير باتجاه انتخاب المفتي العلامة أسامة الرفاعي والذي تم في بُعد من أبعاده، من قبل نخب سورية “غير متدينة”، تجسّد في تواصل تلك النخب والعديد من المثقفين والتيارات الفكرية مع المجلس الإسلامي لتشجيعه على اتخاذ هذه الخطوة التي بدت لهم ضرورية.

والهدف وفقاً لهؤلاء، ليس تنصيب رجل دين يهيمن على الحياة العامة، بل استرداد الرمزية التي يمثلها مقام المفتي العام، الأمر الذي من شأنه أن يستحضر معه العديد من الرمزيات مثل هوية الدولة وعروبتها واتجاهها ورسالة من عموم الشعب، الذي يمثّل المسلمون السنة الغالبية فيه، بأنهم متمسكون بكل تلك القيم الهامة في أي معادلة وطنية مستقبلية.

الذين يعيشون في زمن الحرب الباردة، من متدينين وغير متدينين، ما زالوا بعيدين كل البعد عن التحولات التي طرأت على العالم منذ ذلك العهد وحتى اليوم، لاسيما الفكري منها. تحولات قادت إلى تشاركية تفرضها الحياة الجديدة في المجتمعات بعد ثورة الاتصالات الأخيرة وشيوع المعلومة وتفتت معنى الرقابة والحدود الفاصلة، إذ أن الفاعل في التغيير لم يعد من الضروري أن يكون مرتدياً للقميص المشابه لمن يعمل على التأثير فيهم، فكل دفقة وعي جديدة ستصبّ في صالح الجميع، بينما سيعمل الصراخ الغوغائي الذي ساد في الزمن الماضي على تشويش رسالة أصحابه وعزلهم بالتدريج عن مجتمعاتهم ونطاقات تأثيرهم، حتى تتقلص تلك النطاقات وتصبح بحدود زبائنية مقتصرة على المنفعة المتبادلة بين صناع الفكر، منتجيه ومروجيه، وبين دوائر ضيقة تستهكله وتستثمر فيه.

الإسلام السياسي لم يدرك هذه المعادلة، ومثله لم يفعل اليسار، فكلما ازدادت حدّة الاستقطاب كلما ابتعد الهدف من العمل السياسي الوطني المشترك، هذا ما دمّر غير مجتمع في العالم العربي، وما فتح الباب واسعاً أمام التكفير السياسي، والتكفير القومي ومزّق الهوية.

وليست كل الحروب تخاض في وقت واحد، ففي ظل الخطر الداهم بزوال الهوية والكيان، توضع الخلافات الفكرية جانباً، ويجري العمل وفق التوافقات الممكنة، لا الإصرار على طرح الاختلافات الجذرية، ما عدا ذلك يصبح الأمر مراهقة سياسية مرّت وتمرّ بها بلدان المشرق العربي في دوامة تتكرّر باستمرار.

وقد يسأل سائل؛ ما علاقة الكتاب والفنانين والروائيين والموسيقيين بمقام الإفتاء؟ وهل يعني هذا اصطفافاً مذهبياً من نوع ما؟ القصة في إدراك حاجات المجتمع والتقاط لحظته المواتية التي لا يحق لنخبته التي تشعر بالانتماء إليه تركه حائراً فيها.

وكثيراً ما تقدّمت الأنظمة التي تدور في فلك إيران اليوم خطوات على شعوبها في فهم وتطبيق آليات معقدة، معتمدة على سيكولوجيا الصراع والحاجة النهمة إليه لدى مكونات المجتمعات العربية، غير أن تلك الخطوات تبقى رهناً باستجابة الناس وكيفية تفاعلهم معها، وتبدو تلك الحكومات مرتاحة لاستنادها إلى مقدّرات دولة، فيما يعتمد المجتمع على حفنة من الباحثين والمفكرين الذين لا يجدون من يدعمهم وإن وجدوا ذلك فسيحصدون منه الفتات، ولذلك يبدو إنتاجهم خليطاً من نزعات شخصية متوترة بسبب ظروفهم الذاتية والموضوعية.

قدر سقف العالم العربي ممثلاً بسوريا والعراق أن تبدأ منه التحولات، وكما بدأت فيهما الدولة العربية الأولى ذات يوم، وبعد ثلاثة عشر قرناً انطلق من إحداهما مشروع التحرر العربي مجددا ممثلاً بميثاق دمشق الذي طالب باستقلال الدول العربية ونيل الشعوب لحرياتها، تعاد الكرة من جديد، ويبدأ طور مختلف من إعادة صياغة علاقة المجتمع مع الدين، علاقة لا تقوم على صبغ الدولة المستقبلية بطلاء ديني ولا على خلع الرموز الدينية من الحياة العامة، بل على بث الطمأنينة بين أطياف المجتمع في مواجهة التجريف الفكري وتذويب الهوية. وما يحدث في هاتين البقعتين من العالم العربي أشد تأثيراً مما يجري في غيرهما، بحكم كونهما وريثتي الإشعاع الحضاري، وتمتلكان القدرة على الإقناع والتحول إلى أمثولة، ما سينعكس على بقية القطع من الصورة المفككة في لحظتها الراهنة.

وكما لا يمكن تغيير النظرة إلى التيارات الدينية واتصالها مع السياسة من أفغانستان، بل من مرتكز حضاري صلب، وكما لا يمكن الحفاظ على الدولة العربية من التفكك بالنظر إلى تفكك السودان إلى سودانين، بل من بلد مثل العراق تم العمل وعلى مدى عقود على تفتيته ليلاً ونهاراً وما يزال متماسكاً في الوجدان الجماعي، وكما لا يمكن لأي تطبيع مع الإسرائيليين أن يكون فاعلاً حقاً إلا بحضور دمشق وبغداد، فإن أي تغيير قادم نحو سلم عام وتنمية نهضوية في المنطقة لا بد وأن تشخص الأنظار فيه أولاً نحو المشرق العربي، فهناك تدور القصة كلها.

التفكير خارج الصندوق يبدو ضرورة في هذه المرحلة، ولم يعد لقطة في مشهد، بل حاجة ماسة تدعو إليها الظروف التي ارتطمت بجدران ليس فقط من العصي على السوريين تجاوزها، بل على دول مستقرة ذات ثقل في العالم، وتكفي حادثة تهريب رفعت الأسد التي ما زالت الصحافة الفرنسية تتهم فيها الحكومة والمخابرات الفرنسية بقبض الثمن من مجرم مدان والسماح له بالعودة إلى أحضان ابن شقيقه في دمشق. ادعاء العجز عن معاقبة من ارتكب جرائم السلاح الكيمياوي واعتقل وقتل مئات الآلاف من المدنيين الذين تسببت صورهم بسن قانون “قيصر”، قانون لا يعمل المسؤولون الأميركيون على تفعيله، بل تركوه بيد السياسيين “البراغماتيين”، فيما هو واجب التنفيذ والامتناع عن تنفيذه جريمة بحد ذاتها، ولا نهاية للنماذج التي تبرهن على أن الحالة السورية ليست حصة حساب بسيطة في مدرسة ابتدائية، بل غاية في التعقيد والتشابك مع قضايا المنطقة والعالم التي تبرز فوق السطح والتي تعشش تحت الطاولات.

كاتب سوري

العرب

—————————

الدين.. سوق سوداء يديرها الأسد في سوريا/ جنى العيسى، حسام المحمود و صالح ملص

طوّع النظام السوري في عهد الأسدين، الأب والابن، المؤسسة الدينية، إلى جانب مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة الأخرى، مستغلًا الخطاب الديني والحضور الاجتماعي لبعض الأئمة والخطباء لدى الشارع السوري، لتغليف أفكار السلطة بالمنطق الديني.

وللوصول إلى هذا الغرض، حقّق النظام منذ تولي حافظ الأسد للسلطة، مطلع سبعينيات القرن الماضي، تقاربًا مع الواجهة الدينية من علماء وفقهاء، فألغى عملية انتخاب المفتي، ومدد للمفتي أحمد كفتارو، الذي استمر في منصبه منذ عام 1964 حتى وفاته عام 2004.

وتعدى دور بعض الأئمة خطب الجمعة والمناسبات الدينية التي مُزجت خلالها الرواية الدينية برؤية النظام، فاستخدم الأئمة لتوجيه رسائل، أو لخلق حالة احتقان، أو تخفيفها، وفي كل ما سبق يتجلى بوضوح صوت السلطة على المنابر والتأكيد على “محاربة التكفيريين”، والتغني بإنجاز “ولي البلاد” والدعاء له.

تسلّط عنب بلدي الضوء في هذا الملف مع رجال دين وخبراء في الحركات الدينية، على استثمار النظام للمؤسسة الدينية في سوريا، وآلية تطور عملها، والمهام المنوطة بها، ومستقبل هذا الاستثمار، وأثره على المجتمع.

كما تناقش أسباب الصدام الأخير في المؤسسة، الذي أطاح بمنصب المفتي في سوريا، لمصلحة مجلس إفتاء بمرسوم رئاسي أثار الجدل حول أسبابه وتوقيته.

فريقان.. الوزارة للداخل والمفتي للخارج

انقسمت المؤسسة الدينية في سوريا من حيث الدور المنوط بها إلى فريقين، يعمل كل منهما على سياق وصعيد، بما ينسجم مع رغبة السلطة في توجيه الرسائل الداخلية والخارجية، مستخدمة لتمرير تلك الرسائل كلًا من وزارة الأوقاف، ومنصب المفتي.

فاستثمرت السلطة وزارة الأوقاف في القضايا المحلية، والهواجس المعيشية للمواطنين، بينما يتيح للمفتي دورًا أكبر في إيصال رسائل إلى الخارج.

ومع بدء الثورة السورية عام 2011، عملت وزارة الأوقاف على تقديم جرعة أيديولوجية أساسها ديني، للسوريين الذين يواجهون ظروفًا صعبة تبدأ بارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية والأزمات الاقتصادية، ولا تنتهي بغياب الأمن والحريات.

فطالب وزير الأوقاف، محمد عبد الستار السيد، في مرات عديدة، بتكريس خطب الجمعة لحث الناس على الزكاة وإطعام الفقراء، واعدًا بـ”النصر”، كما “انتصر جيشنا بالإيمان والتضحية”، وفق تعبيره.

وخلال ندوة أقامتها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، في 9 من آذار الماضي، بعنوان “أيام الأسرة السورية”، اعتبر وزير الأوقاف دور التجار وأصحاب الأموال في تخفيف ما أسماه “آثار الحصار المفروض على سوريا”، التزامًا “دينيًا يفرضه الإسلام”، وليس التزامًا اجتماعيًا فقط.

كما أشاد السيد في الكلمة نفسها بدور الحكومة في توفير احتياجات الناس، داعيًا إلى عدم اتهامها بالتقصير، ومحملًا في الوقت نفسه مسؤولية “تجويع الشعب السوري” لما اعتبرها “دول العدوان على سوريا”، في وقت تنخفض به القدرة الشرائية للمواطنين، جراء زيادة نسبة التضخم وارتفاع الأسعار.

كما دعا وزير الأوقاف، في حديثه مع خطباء المساجد بمحافظة اللاذقية، في 31 من آذار الماضي، إلى توعية المواطن والتاجر، والتعاون لتجاوز “الأزمة”، بالتزامن مع قرب حلول شهر رمضان، مطالبًا التجار بالإسهام في دفع أموال الزكاة للمحتاجين.

وتعقيبًا على حالة التذمر “الافتراضي” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حثّ السيد على ما اعتبره ضرورة توعية الناس لعدم الانسياق وراء صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي “تُدار من جهات خارجية”، في إشارة إلى انتقاد المواطنين الأوضاع المعيشية عبر حساباتهم الشخصية، كونها تهدف لـ”جعل الحكومة السورية السبب لما يجري”، وفق رأيه.

وفي كانون الأول 2019، أعلنت وزارة الأوقاف إطلاق حملتها “الدين أخلاق.. زكاتك خفض أسعارك”، في سبيل مواجهة غلاء الأسعار، وفق تصريح صحفي للوزير السيد نقلته حينها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).

وأوضح السيد أن مبادرة الوزارة جاءت بدعوة من رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لمحاربة الأسعار من خلال “نشر القيم والأخلاق” بحسب تعبيره.

رئيس النظام السوري بشار الأسد يشارك في الاحتفال الديني بذكرى المولد النبوي الشريف في مسجد الإمام الشافعي في حي المزة بدمشق- 18 من تشرين الأول 2021 (منصة رئاسة الجمهورية عبر “فيس بوك”)

“رسائل خارجية” عبر المفتي

برز دور المفتي العام كقناة لتمرير رسائل النظام، وخطبه الخارجية بمعظمها، منذ بداية الثورة السورية عام 2011.

وعلى مستوى الخطاب الخارجي، وهو الأكثر شمولًا، كان آخر خطابات أحمد حسون قبل إلغاء الأسد منصبه، كمفتٍ، ما ألقاه خلال مراسم تشييع الفنان السوري صباح فخري، مطلع تشرين الثاني الحالي، بحضور عدد من وزراء النظام السوري.

واعتبر حسون أن بقاء فخري في سوريا، رسالة لكل من يحمل رسالة العلم والفن والتجارة، وإلى الذين تركوا سوريا، بأن “ما حدث فيها من قتل ودمار ليس من أبنائها إنما من أعدائها، مطالبًا إياهم بالعودة وحماية سوريا بدمائهم”.

وبعد أشهر فقط من اندلاع الثورة، ألقى المفتي حسون كلمة أمام “قافلة مريم”، نقلتها قناة “الإخبارية السورية“، هدد خلالها أوروبا بـ”استشهاديين موجودين لديها”، في حال تعرض سوريا أو لبنان للقصف.

وقال حسون حينها، “أقولها لكل أوروبا، أقولها لأمريكا، سنعدّ استشهاديين هم الآن عندكم، إن قصفتم سوريا أو قصفتم لبنان، فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم”.

لكن التصريحات التي حملت طابع التهديد للدول الأوروبية، تنصل منها حسون بعد خمس سنوات، خلال كلمة ألقاها أمام لجنة الدفاع والشؤون الخارجية في البرلمان الأيرلندي، عام 2016، معتبرًا ما جرى “كذبًا في الترجمة“.

وأضاف المفتي السابق، “قلت لا تقصفوا سوريا ولا لبنان، فإن اشتعلت النار في سوريا ولبنان، هنالك خلايا نائمة في العالم ستتفجر، كنت أخاف على أوروبا أن يصل إليها الإرهاب”.

كما ألقى حسون خطبة الجمعة في مسجد “الروضة” بحلب، في تموز 2017، لأول مرة بعد سيطرة النظام السوري على الأحياء الشرقية منها، أواخر 2016، طالب فيها من يريدون تغيير النظام بالدعاء لله والطلب منه، كما دعا ساخرًا، في لقاء بثه الإعلامي الموالي شادي حلوة، الراغبين بتغيير النظام إلى التحاور مع الأسد، وتقديم حجج وإثباتات بأنهم سيخدمون سوريا أكثر منه، وفق رأيه.

وكان حسون دعا في العلن، خلال اتصال له مع “التلفزيون السوري” في نيسان 2015، إلى تدمير المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في حلب، بذريعة خروج قذائف منها تسقط في أحياء تحت سيطرة النظام.

توجيه السلطة يخلق “سوقًا سوداء” لفهم الدين

يسهم الخطاب الديني الموجه من قبل السلطة للمجتمع في تشكيل جانب من هوية الناس، وذلك لارتباطه المباشر بمشكلات الواقع وتحدياته.

وكونه يتميز عن غيره من الخطابات الأخرى بطابع القدسية، أخذ شكلًا من أشكال أدوات السلطة في سوريا، تهدف من خلالها إلى إيصال أفكار معيّنة، ومحاولة إقناع المجتمع بها من خلال توجيهها للفئة المستهدفة بذلك الخطاب، مع تضييق عمل الجهات التي تُستخدم لذلك بتوجيه حكومي.

ويعتبر التوظيف السياسي للدين إحدى الوسائل الرئيسة التي استخدمتها السلطة لترسيخ حكمها وتأييده، ضمن الحيّز الكبير الذي تأخذه القضايا الدينية من وعي أفراد المجتمع، وتجاربهم، وسلوكياتهم، وقراراتهم، نتجت عن ذلك التوظيف إشكاليات عدة يعاني منها المجتمع السوري.

وفي عام 1958، صدر قانون الجمعيات رقم “93” في سوريا خلال الوحدة القصيرة الأجل مع مصر، المكوّن من 75 مادة، تبعته بعد ذلك تعديلات تشريعية عقب تسلّم حزب “البعث” السلطة عام 1969، بمرسوم تشريعي رقم “224”، تحت تأثير أفكار أن “على الدولة التحكم في المجتمع وتوجيهه”، وفق تقرير منظمة “هيومن رايتش ووتش” المنشور عام 2017، والذي حمل عنوان “لا مجال للتنفس“.

وأعطت التعديلات اللاحقة صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية ليس فقط في عملية تأسيس الجمعيات الإسلامية، بل في دمجها وحلّها دون اللجوء إلى القضاء، إذ تعاملت السلطة مع هذه الجمعيات بوصفها مؤسسات للقطاع العام في الدولة.

وتحتفظ وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا بمعلومات حول الجمعيات المدنية المسجلة، والإسلامية من ضمنها، وهي معلومات رغم محدوديتها فإنها سرية، أي أن العمل المدني في سوريا يعتبر من أسرار الدولة التي لا يجوز الكشف عنها، وهو ما ينعكس بالضرورة على أداء الجمعيات الإسلامية وموارد تمويلها، وفق ورقة إرشادية لمركز أبحاث وتدريب المنظمات غير الحكومية الدولية “INTRAC” بعنوان “قطاع المنظمات غير الحكومية في سوريا- لمحة عامة“.

ويُنظر إلى الوزراء الذين يتسلّمون وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على أن لديهم “ارتباطات مع دوائر الأمن”، وبعض الوزراء قد اتخذوا توجهًا “أكثر صلابة” مع الجمعيات المدنية، إذ يجب على الوزارة أن تؤدي مهام أمنية ضد كل ما يتعلق بمخاوف السلطة مما يسمى “الصهيونية، والإسلامية، والتدخل الأمريكي، والإمبريالي أو الاستعماري” في سوريا، وفق الورقة الإرشادية المنشورة عام 2012.

كما ينبغي على أي جمعية مدنية أن ترسل إلى الوزارة محاضر الاجتماعات والبيانات المحاسبية والتقارير، مع إمكانية أن يحضر اجتماعات الجمعية مسؤولون من الوزارة والجهات الأمنية.

ومن أبرز الانعكاسات على إنشاء الجمعيات الإسلامية ونشاطها صدور القانون رقم “49” لعام 1980، ضمن مادته الأولى التي تنص على أنه “يعتبر مجرمًا ويعاقَب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة (الإخوان المسلمين)”.

رئيس النظام السوري يصلي صلاة العيد الفطر في أحد جوامع العاصمة دمشق- 6 من تموز 2019 (وكالة الأنباء السورية الرسمية)

المؤسسة الدينية تفقد مسؤوليتها

من خلال هذا النوع من الاستخدام السياسي للدين من قبل نظام حكومي لا يستخدم سلطته لفرض القانون، بل لفرض قبول نمط قمعي من أجل منع أي نشاط يعارض مصالحه، فـ”من دون شك، استطاع التأثير على المجتمع، واستطاع ضبط النشاط الديني، ووتيرته، وأنشطته، ومحتواه، لأن سيطرته مطلقة على المؤسسات الدينية”، وفق ما يراه الباحث السوري المتخصص في الحركات الدينية عبد الرحمن الحاج في حديث إلى عنب بلدي.

    في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر منصاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، حول طبيعة خطاب رجال الدين في سوريا اليوم، قال 93% من المشاركين إن خطابهم خطاب سياسي بحت، بينما اعتبر 7% منهم أن خطاب رجال الدين يتمحور حول قضايا دينية.

    وفشلت المؤسسات الدينية السورية في تأكيد أحقيتها بنشر الوعي الفكري في المجتمع، والإسهام في تطويره، بسبب تناقض أسباب إنشائها والمهام الفعلية الموكلة إليها في ظل سلطة مفروضة بالإكراه والقوة، ما “فرّغ المناصب الدينية من مسؤولياتها لتكون مجرد أداة أمنية”، بحسب ما قاله الباحث عبد الرحمن الحاج، و”خلّف استتباع المؤسسات الدينية وتفريغها من العلماء المستقلين في مواقع المسؤولية، فراغًا كبيرًا في المرجعيات الدينية”، كنتيجة طبيعية لهذه السياسة.

شاركنا رأيك.. هل تعتقد أن خطاب رجال الدين في سوريا؟

    يتمحور حول قضايا دينية

    خطاب سياسي بغطاء ديني

ويعتقد الباحث أن “جميع المؤسسات الدينية وعلماء الدين المرتبطين بالنظام فقدوا مصداقيتهم، ما خلق ما يشبه السوق السوداء لفهم الدين من مصادر خارج رقابة السلطة الحكومية”، وسط تفسيرات لنصوص قرآنية تكون موضع خلاف في التفسير بين رجال الدين، حتى ضمن المذهب الواحد، بالإضافة إلى الحالات التي تكون فيها السياسة ومصالح السلطة في الحكم سبب اختلاف التفاسير وتباين الأحكام الفقهية وتناقض الفتاوى.

أثّر ذلك على اعتقادات الأفراد وقناعاتهم، وفرّغ الإيمان الديني من أي بُعد روحي ويقيني باتباع خطاب المؤسسات الدينية الحكومية، أو المقرّب منها والمؤيّد لها، ما سمح بملء الفراغ، في بعض الأوقات، من قبل “متطرفين أو ذوي معرفة منخفضة”، وفق ما يراه الباحث الحاج، ما أدى إلى “التطرف وفقدان الإحساس بالأمان، وحتى الخوف على الهوية”.

عبر توظيف الدين لمصالح السلطة، يخضع الجمهور للتزوير أو التضليل، لأن “الدولة القمعية لا تضمن استمرارها في مجتمع متماسك (…) ومن ثم فإن التمزق الاجتماعي أو التفريق الديني أو الطائفي أو العرقي، وإحياء الانتماءات التي من هذا النوع، مما نراه في المجتمعات المقموعة، هو نتاج هذه الأنظمة بمقدار ما هو سلاحها”، بحسب ما جاء في كتاب “حيونة الإنسان” للكاتب السوري ممدوح عدوان في الصفحة 169.

ويظهر، ضمن هذا التوظيف السياسي للدين، كل ما يرتبط بالسلطة بمظهر القدسية بالذات أمام الناس، “حتى إن المساس بسلطة الدولة يميل إلى أن يعد كفرًا”، وفق الكتاب، باعتماد السلطة القمعية على الدين الذي يعد “قوة تنظيمية للمجتمع، أي أنها (السلطة) تستخدم الدين لتستفيد من قوته ومن سطوة ممثليه لدى العامة، وما مراعاة الطقوس الدينية إلا وسيلة للضحك على الناس”، ضمن الاحتفالات الدينية التي تظهر فيها شخصيات بارزة من النظام الحاكم تحاوط الرئيس، كتجليات للسلطة السياسية على مسرح الأحداث الدينية.

تلك المعطيات وما نتج عنها أسهمت في تهيئة الأجواء لتشكيل مخاوف مجتمعية تأخذ أبعادًا طائفية، ما جعل الناس يبحثون عن مرجعيات ومصادر للمعرفة الدينية يثقون بها، بعيدًا عن أي تطويع ديني لمصلحة السلطة، وعبر تكنولوجيا الاتصالات، يلجأ معظم الأفراد إلى الإنترنت بحثًا عنها، وهذا يؤدي إلى “خلق معرفة غير مستقرة ولا متماسكة”، وفق تعبير الباحث عبد الرحمن الحاج، إنما معرفة تلبي “الاحتياج الآني”، ما يعزز الإحساس بـ“الضياع أكثر مما يمكن أن يساعد على خلق المعنى والاطمئنان والهدوء الذي يبحثون عنه”.

ويتطلب الأمر ردعًا كاملًا لأي تأثير قد يلعبه التوظيف السياسي للدين في سوريا، فلا يحتاج الناس إلى توعيتهم بتلاعب السلطة بالدين نفسه، فلدى الإنسان العادي قدرة على فهم دينه بمعزل عن كل ما يرتبط بخطاب المؤسسات الحكومية، إلا أن من الضروري معرفة آلية مواجهة ذلك، وكيفية إيجاد بدائل عن هذا الاحتكار، وفق ما أوصى به الباحث.

رغم موالاتهم.. نهايات غير مبشّرة للأئمة

لاقى العديد من رجال الدين والأئمة المقربين من النظام السوري خلال السنوات الأخيرة مصاير ونهايات غير مبشرة، رغم التفافهم حول الخطاب الرسمي للنظام، وتصديره للشارع السوري تحت عباءة دينية، لغايات متعددة، منها امتصاص احتقان الشارع تجاه قضية ما، أو توجيه الرأي العام بما يتناسب ورؤية السلطات.

إطاحة بحسون بعد “التين والزيتون”

بموجب المادة “35” من قانون صدر عام 2018، الذي حدد مدة عمل المفتي بثلاث سنوات، أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 15 من تشرين الثاني الحالي، مرسومًا تشريعيًا ألغى بموجبه منصب المفتي العام لسوريا، مطيحًا بأحمد حسون من صدارة المشهد الديني في سوريا، بعد 16 عامًا على توليه المنصب عام 2005، خلفًا لأحمد كفتارو.

وكان حسون، وخلال مشاركته في تشييع الفنان السوري صباح فخري، في 2 من تشرين الثاني الحالي، قال إن “خريطة ‎سوريا مذكورة في القرآن” في سورة “التين”.

وأضاف في حديثه، أن ذكر شجرتي “التين والزيتون” ضمن الآية، دلالة على “خلق الإنسان في سوريا في أحسن تقويم”، معتبرًا أن من ترك البلاد سيلقى عقابًا من الله، واستشهد على توصيفه بالآية “ثم رددناه أسفل سافلين”.

إقالة رحمة بعد الحج إلى قاسيون

في نيسان من عام 2019، أقالت وزارة الأوقاف في حكومة النظام، خطيب الجامع “الأموي” حينها مأمون رحمة، رغم كثير من الخطب والمواقف المتناغمة مع حاجة النظام إلى إيصال رسائل محددة ومبطنة للسوريين ضمن مناطق سيطرة النظام.

وفي خطبة الجمعة التي سبقت الإقالة، ألقى رحمة خطبة في الجامع “الأموي”، اعتبر خلالها انتظار السوريين لساعات طويلة على محطات المحروقات، بمثابة “رحلة ترفيهية”، في إشارة إلى جوانب اعتبرها إيجابية في الانتظار الطويل أمام المحطات لحصول السيارات على مخصصات المحروقات المرهونة بـ”البطاقة الذكية”.

وكان رحمة دعا، في آب 2017، كل سوري مسلم فاته الحج إلى صعود جبل قاسيون، باعتباره “جبل الانتصار والعزة والكبرياء”، بحسب تعبيره، كما روّج في إحدى خطب الشهر نفسه لمعرض “دمشق الدولي” بدورته الـ59، تماشيًا مع حملة إعلانية ضخمة أجراها النظام حينها للغرض نفسه.

مقتل البوطي الذي تناغم مع الأسد

في 21 من آذار 2013، قُتل رئيس “اتحاد علماء الشام”، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، خلال “تفجير ” استهدف جامع “الإيمان” في حي المزرعة، بالعاصمة السورية دمشق، بالتزامن مع درس البوطي الأسبوعي بين صلاتي المغرب والعشاء، ما أسفر عن مقتل وإصابة نحو 50 شخصًا، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) حينها.

وأظهر تسجيل مصوّر حينها لحظات “تصفية” البوطي بعد وقوع الانفجار، من قبل أشخاص لم تلتقط الكاميرا وجوههم.

واتخذ البوطي موقفًا متناغمًا مع الرواية الرسمية للأحداث في سوريا، إذ اعتبر أن المتظاهرين المناهضين للأسد لا تعرف جباههم السجود.

النظام بدوره أدان التفجير على لسان بشار الأسد، الذي أعلن الحداد الوطني على “روح الشهيد العلامة البوطي، وأرواح شهداء سوريا”، وتعهد في برقية عزاء نقلتها “سانا” بـ”تطهير بلاده من المتطرفين والإرهابيين” الذين اتهمهم بتنفيذ العملية.

كما أدان رئيس “الائتلاف الوطني لقوى المعارضة” آنذاك، أحمد معاذ الخطيب، مقتل البوطي، ووصف التفجير بأنه “جريمة بكل المقاييس”.

ونفى “الجيش الحر”، حينها، علاقته بعملية اغتيال البوطي، كما أدان مجلس الأمن الدولي في بيان له التفجير الذي أودى بحياة الشيخ وآخرين في أحد مساجد دمشق، دون توجيه أصابع الاتهام لأي جهة، لكن “اتحاد علماء المسلمين” حمّل مسؤولية مقتل البوطي للنظام السوري، وشجب في بيان له قتل العلماء والاعتداء على المساجد.

وفي معرض استنكاره لإعدام السلطات السعودية رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر، عام 2016، اتهم مفتي سوريا السابق، أحمد حسون، السعودية بالتخطيط والتدبير لقتل البوطي، وقال حينها في حديث إلى قناة “العالم” الإيرانية، “من أعدم الشيخ النمر هو نفسه من خطط ونفذ الهجوم الذي أودى بحياة الشيخ رمضان البوطي”.

صدام داخلي يطيح بالمفتي

لا يشترط استثمار النظام السوري للمؤسسة الدينية في سوريا لتطويع رجال الدين فيها وفق أهوائه، اتفاق جميع رجال الدين التابعين له بين بعضهم، إذ برزت العديد من المعلومات خلال السنوات القليلة الماضية التي قد تشير إلى وجود خلاف وعداوة بين مختلف رجال الدين “المتفقين فقط على ولائهم للنظام”.

ولعل من أبرز ما أكد وجود تلك الخلافات، مهاجمة “المجلس العلمي الفقهي” التابع لوزارة الأوقاف بحكومة النظام، مفتي النظام السابق، أحمد بدر الدين حسون، بعد سنوات طويلة له قضاها في تبني وتصدير رواية النظام المتعلقة بـ”الحرب على الإرهاب” إلى خارج سوريا وداخلها.

إذ رد “المجلس” على تفسير تبناه حسون لسورة من القرآن (سورة التين)، في أثناء حضوره عزاء الفنان السوري صباح فخري، ادّعى فيه أن “خارطة سوريا مذكورة في هذه السورة”، وتهجّم خلال حديثه على من غادروا سوريا.

“المجلس” أوضح أن التفسير مغلوط وتحريف للتفسير الصحيح، لجأ قائله، دون أن يسمّيه، إلى “خلط التفسير بحسب أهوائه ومصالحه البشرية”.

وأشار المجلس في بيانه إلى أن منهج “المتطرفين والتكفيريين يعتمد على تحريف تفسير آيات القرآن لأغراض شخصية، لتنسجم مع أهدافهم التكفيرية”.

خلاف “عقائدي” و”مناطقي” دعم إبعاد حسون

بيان “المجلس” الذي انتقد حسون معتبرًا إياه دون تسمية مباشرة له بأنه يتبع منهج “المتطرفين والتكفيرين”، سلّط الضوء على حجم العداوة والخلاف “اللاجديد” بين حسون ووزير الأوقاف، محمد عبد الستار السيد، بحسب ما يراه المتحدث الرسمي باسم “المجلس الإسلامي السوري”، مطيع البطين.

وأضاف البطين، في حديث إلى عنب بلدي، أن التغير الذي طرأ على موقف وزارة الأوقاف والذي أطاح بالمفتي حسون، نتج عن صراع حقيقي قديم بين السيد وحسون، موضحًا أن كل واحد منهما كان يعمل على إسقاط الآخر والإيقاع به، و”ما إن سنحت الفرصة للسيد حتى اغتنمها وحقق ما يريده”.

من جهته، اعتبر الدكتور محمد حبش، مؤسس ومستشار مركز “الدراسات الإسلامية”، ومؤسس رابطة “كتّاب التنوير”، أن إلغاء منصب المفتي في سوريا، والعهدة إلى مجلس فقهي حكومي، تطور لا يعكس وجود دراسات معمقة وحوكمة حقيقية قامت بها حكومة النظام لتنتج قرارات متطورة وحديثة.

وأكد حبش، في حديث إلى عنب بلدي، أن ما جرى هو نتيجة لصراع وتطاحن قديم وتنازع على المناصب، بعيدًا عن أي أداء للمناصب “بالطريقة الدستورية التي يمكن أن تنتج ما هو جديد ومفيد”.

كما يعتقد الباحث في معهد “البحوث والدراسات حول العالمَين العربي والإسلامي” توماس بييريه، أن وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد كان وراء قرار إبعاد أحمد حسون وإلغاء منصب المفتي، بعد أن نجح أيضًا في إقرار القانون الناظم لعمل وزارة الأوقاف عام 2018، والذي حدد مدة تسلّم منصب المفتي بثلاث سنوات بعد أن كانت مدى الحياة.

وأضاف بييريه في لقاء له مع مركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط”، منتصف تشرين الثاني الحالي، أن الخلاف بين السيد وحسون يتعلق بمسائل العقيدة الدينية من جهة، وبالتعصب “الفئوي المناطقي” من جهة أخرى (إذ ترجع أصول حسون إلى مدينة حلب، بينما ينحدر محمد عبد الستار السيد من مدينة طرطوس، ولكنه مرتبط بصورة خاصة بالعلماء ورجال الدين في دمشق”.

وحول مسألة العقيدة الدينية، أوضح بييريه أن الوزير السيد لجأ منذ تعيينه عام 2007 إلى حشد الدعم من العلماء الموالين للنظام، من خلال “مناصرته الأصولية السنّية في مواجهة شخصيات غريبة الأطوار تشبه حسون”.

“قاعدة الوزير المُحافظة” جعلت منه شريكًا أكثر مصداقية للنظام من أحمد حسون الذي كان “معزولًا نسبيًا” داخل الميدان الديني، وفقًا لتحليل الباحث توماس بييريه.

“مجلس حكومي” على رأس أهدافه “الانتقام من معارضي النظام”

أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بعد أربعة أيام من بيان “المجلس العلمي الفقهي” الذي هاجم فيه أحمد حسون، مرسومًا تشريعيًا ألغى بموجبه المادة “35” من قانون صدر عام 2018، والتي تنص على “تسمية مفتي الجمهورية العربية السورية، وتحديد مهامه واختصاصه بمرسوم بعد اقتراح من وزير الأوقاف”.

ووفقًا لنص المرسوم الجديد، يلغى منصب مفتي سوريا في “المجلس الفقهي” بعد أن كان عضوًا فيه وفق القانون الناظم لعمل وزارة الأوقاف الصادر عام 2018.

وحصر المرسوم إصدار الفتاوى “المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة”، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، بعمل “المجلس الفقهي” أيضًا.

أثار إلغاء منصب المفتي في سوريا استياء في الأوساط السورية، منها المعارضة التي اعتبرت أنه “عدوان على السوريين وهويتهم”، ما دفع “المجلس الإسلامي السوري” لانتخاب الشيخ أسامة الرفاعي “مفتيًا لسوريا”.

وانتقد العديد إسناد مهام المفتي إلى “المجلس الفقهي العلمي”، معتبرين أن النظام بهذه الخطوة “يتيح إدخال عناصر أجانب موالين لإيران” في السلطة الدينية في سوريا.

    في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر منصاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، حول أثر غياب منصب المفتي في تهديد الهوية الدينية في سوريا، لا يرى 60% من المشاركين أي تهديد، بينما يعتقد 40% منهم أن لغياب منصب المفتي أثرًا في تهديد الهوية الدينية.

برأيك.. هل يهدد غياب المفتي الهوية الدينية في سوريا؟

    نعم

    لا

خطوة نحو “تغوّل الحكم الاستبدادي”

الدكتور محمد حبش، وهو دكتور الفقه الإسلامي في جامعة “أبو ظبي”، أوضح أن منصب المفتي في سوريا منذ وجوده يعد منصبًا “شرفيًا رمزيًا”، لا يمتلك أدوات من شأنها أن تؤذي الناس.

واعتبر حبش، في حديثه إلى عنب بلدي، أن التغيير الذي سمح بالتحول من المفتي الفرد إلى مجلس إفتاء “أمر جيد، ولون من التحول نحو الديمقراطيات”.

إلا أن “المجلس الفقهي” الحالي، وفقًا لحديث الدكتور حبش، يملك سلطات “تشريعية”، و”أنيابًا ومخالب” تشعر بالقلق، مشيرًا إلى أن قدرته على الإطاحة بمنصب المفتي “الشرفي”، يؤكد وجود توجه واضح للمجلس نحو “تغوّل الحكم الاستبدادي” وفرض سلطة دينية جديدة تضاف إلى السلطات المخابراتية والعسكرية التي تمارس أدوارها “بامتياز” في قمع الحريات المختلفة.

وأضاف حبش أن المجالس الحكومية التي تُدار من النظم الاستبدادية، تملك عادة “صلاحيات مرعبة ومخيفة” من الممكن أن يعاني منها أصحاب الرأي الحر وأصحاب الاجتهاد الذين قد ينظر إليهم مجلس كهذا على أنهم “هراطقة” عبر أدواته الممنوحة له من قبل النظام.

وتتضح أهداف “المجلس الفقهي العلمي” على لسان رئيسه وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد، عندما خرج في عام 2019 ليشرح أهداف وواجبات “المجلس” التي أُنشئ من أجلها.

وبحسب حديث السيد، حينها، تتمثل أهداف المجلس بـ”ترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية، والأخذ بيد أبناء الوطن على اختلافهم وتنوعهم لمواجهة فكر أعداء الأمة الصهاينة، والمتطرفين التكفيريين، وأتباع الإسلام السياسي، وإخوان الشياطين، الذين ما لبثوا يبثون الفتن لتمزيق الأمة وتشتيت قوتها بعيدًا عن أهدافها”.

وبموجب حديث السيد هذا، يرى الدكتور محمد حبش أن المجلس سياسي بحت، وليس مجلس فقه أو علم أو دين، يوضح للجميع بأنه قادم لممارسة سلطات “قمعية دكتاتورية”، وليس لتعزيز ثقافة الإفتاء.

وأكد حبش أن أبرز أهداف “المجلس” يتمثل بالانتقام من معارضي النظام، وهو أبعد ما يكون عن مهام المفتي، الذي يفترض أنه “رسول للمحبة والسلام والإخاء والأخلاقيات والروحانيات”.

رئيس النظام السوري يصلي صلاة العيد الفطر في أحد جوامع العاصمة دمشق- 6 من تموز 2019 (وكالة الأنباء السورية الرسمية)

هل يسعى النظام إلى توسيع نفوذ إيران الديني في سوريا؟

تداول العديد من الناشطين السوريين، والمهتمين بشؤون السلطة الدينية في سوريا، آراء تفيد بأن توجه النظام إلى توسيع صلاحيات “المجلس العلمي الفقهي” في إصدار الفتاوى، يشير إلى إفساح المجال “أكثر” لسيطرة “الرؤية الإيرانية” على الفتاوى التي ستصدر عن “المجلس”.

ويأتي قرار إلغاء منصب المفتي وفقًا لرؤية بعض منهم، بأن لإيران مصلحة في إبقاء “الطائفة السنية” ضعيغة، من خلال إضعاف المنصب الديني “الأعلى للطائفة السنّية”.

بينما يرى الباحث في معهد “البحوث والدراسات حول العالمَين العربي والإسلامي” توماس بييريه، أن هذا التحليل “غير دقيق”، مبررًا ذلك بأن المفتي السابق حسون، هو رجل “شديد الولاء” لإيران، وتربطه علاقة وثيقة مع الميليشيات الإيرانية التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” الموجود في سوريا.

بينما يعتبر وزير الأوقاف، محمد عبد الستار السيد، مقربًا من روسيا، ويمثل “نظرة سنّية أكثر تصلبًا إلى الإسلام”، لا تتناسب جيدًا مع الأجندة الإيرانية في سوريا.

وبدأ “المجلس الفقهي” عقد أول اجتماعاته التحضيرية في 20 من تشرين الثاني 2019، بحضور رجال دين وعلماء من مختلف المذاهب الدينية، بعد أن شُكّل وفقًا للمادة الخامسة من القانون رقم “31” للعام 2018 الخاص بوزارة الأوقاف.

وخلال عامين من بدء عمله، أصدر عدة فتاوى “معروفة” تتعلق ببعض الحالات الطبية في الصيام والإفطار، كأحكام المرض والحمل والشيخوخة، وتحريم تأجير الرحم وبطلان زواج التجربة، وضوابط طباعة المصاحف ونشرها.

وتمحورت بعض قراراته حول إغلاق المساجد أو فتحها وإلغاء صلاة الجماعة في أيام الجمعة والأعياد خلال السنة الماضية، تزامنًا مع انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).

كما أصدر، في شباط 2020، بيانًا مشتركًا مع “اتحاد علماء بلاد الشام”، حيّا فيه “انتصار الجيش العربي السوري لتحريره ريف حلب من رجس الإرهاب التكفيري”.

وتضمّن البيان مباركة “للجيش صانع النصر، وللسيد الرئيس بشار الأسد الذي حقق النصر بثباته وصدقه وإيمانه”.

مستقبل استثمار المؤسسة الدينية

بدأ النظام السوري تجهيزاته “المدروسة” لاستثمار رجال الدين في سوريا لمصالحه الشخصية المرتبطة بضمان بقائه في السلطة منذ تسلّم حزب “البعث” الحكم في سوريا، ووفقًا لخطابه خلال سنوات حكمه، سعى إلى تقويض وتطويع المشيخة لمصادرة الحريات واعتماد “رسالة دينية” تجسّد أفكاره.

ولا وجود لمؤشرات تدل على تراجع تلك السياسات التي يتبعها النظام في عمله مع المؤسسة الدينية، بحسب ما يعتقده الباحث السوري المتخصص في الحركات الدينية عبد الرحمن الحاج.

وأضاف الحاج، في حديثه إلى عنب بلدي، أن تكريس مآلات الحرب واسترضاء الإيرانيين الذي يقوم به النظام سيعزز السياسة التي يعمل بها “أكثر”، وربما قد يوصلها إلى مستويات غير مسبوقة، “كإعادة تفسير الدين وفقًا لأفكار وقناعات بشار الأسد ولمصالح النظام”، وهو الأمر الذي بدأت به وزارة الأوقاف فعلًا قبل ثلاثة أعوام.

وكان وزير الأوقاف، محمد عبد الستار السيد، ألقى، في عام 2018، أمام حشد من العلماء محاضرة بعنوان “ضوابط وقواعد تفسير القرآن الكريم تفسيرًا معاصرًا (التفسير الجامع نموذجًا) وفق المرتكزات الفكرية للسيد الرئيس بشار الأسد في الإصلاح الديني”، وذلك ضمن فعاليات الدورة “26” لجائزة “الشيخ أحمد كفتارو” لحفظ القرآن وتفسيره.

كما أكد دكتور الفقه الإسلامي في جامعة “أبو ظبي” محمد حبش، أن مشكلة المؤسسة الدينية في سوريا في قبولها أن تكون تحت حكم السلطة، فتتحكم بمفاصلها من إلغاء وتعيين.

وأوضح حبش أن أقل ما يجب أن يطالب به رجال الدين اليوم استقلالهم، وهو واقع يشمل النقابات الموجودة أساسًا في سوريا، متمثلة بنقابات كالفنانين والمهندسين والمحامين وغيرها.

وأشار حبش إلى أن وجود نقابة تجمع رجال الهيئة الدينية قد يسهم في انتخاب النقابة نفسها لرئيسها كالنقابات المذكورة سابقًا التي تنتخب رئيسها، لا أن يتم تعيينه إجباريًا من قبل السلطة التي تحوّل الإجراءات المنصوص عليها في القوانين إلى إجراءات “شكلية” تخضع لحكمها أيضًا.

وأكد حبش أيضًا، أنه طالما بقي النظام يفكر بذات العقلية، ويعمل على مصادرة الحريات ومنع المحاسبات، فإن الدولة ستستمر بالسير عبر التعليمات لا القوانين.

وتوقع حبش المزيد من الضغط والقيود على جميع المؤسسات الدينية الموجودة اليوم في سوريا، بما فيها “المجلس العلمي الفقهي” الذي لن ينجح أبدًا في دوره بإصدار الفتاوى التي قد تساعد الناس ولا تستهدف بالإساءة مجموعات أخرى من الإسلاميين.

عنب بلدي

——————————

الهوية الدينية للوطن.. مشكلة أم حل؟/ أحمد الرمح

في بيان إعلان انتخاب المفتي العام للجمهورية العربية السورية، واختيار المجلس الإسلامي السوري في المنفى الشيخ “أسامة الرفاعي” لهذا المنصب، وردت جملة على لسان الناطق باسم المجلس الإسلامي، وصف فيها مقام الإفتاء بأنه “أحد أهمّ أعمدة الهوية السورية”! وتابع: “كان لا بد للعلماء من وقفة في هذه الهجمة على الهوية السورية”! وبغض النظر عما جاء في البيان، من كلام حسن وآخر لا نتفق معه، حول الرؤية الدينية للمجلس، وتمثيل السوريين دينيًا، كان تعبير بيان المجلس عن الهوية السورية يمثل حالة خلاف مع كثير من السوريين، وأنّ عملية طرح هوية للسوريين، من خلال تجمع ديني يمثل لونًا دينيًا واحدًا، غير مقبولة داخل الإسلام السني نفسه، وأن ادعاء هوية دينية محددة للوطن يغدو مشكلة كبيرة في ظل حالة التشظي التي يعيشها السوريون في كل مكان ([1]).

وهنا نتساءل: هل الهوية الدينية للوطن، مشكلة أم حل؟

أمام حرب الهويات المتفاقمة في شرقنا البائس، وقد ازدادت رقعتها في الربيع العربي، تقفز هوية الدولة كسؤال عندما يطرح الإسلامويون أنفسهم لقيادتها: ما هوية الدولة؟ وطنية أم دينية أم عرقية؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال، نقول: الهُوية في دولةٍ ما تتجلى فيها سماتٌ تميزها عن سواها، وينتمي أبناء الوطن كلهم إليها، ويعتزون بها، ولها عناصر تحددها، كالموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والعملة المشتركة، والعَلَم، والحقوق ذاتها، والواجبات عينها، مما يجعل الجميع خاضعين لقانونها العام، ومدافعين عن أرضها، ولو تشتت هذه السمات فستنهار الوحدة الوطنية، ونغدو شعوبًا لا شعبًا واحدًا.

نعم، إنّ الدراسات السوسيولوجية تؤكد أن لكل جماعة هوية توضحها خصائص تاريخية واجتماعية ودينية تعبّر عنهم، ولكن عندما نجعل للدولة المؤلف شعبها من مكونات متعددة، هويةً ترمز إلى مكون واحد من مجموع المكونات، لتميزه دستوريًا على الآخرين، هنا تصبح هوية الدولة حالة استعلائية لهذا المكون على الآخرين، وبذلك تتهافت كل مقولات المواطنة، ويضعف الانتماء الوطني، وهذه عقبة تعرقل تحقيق المشروع الوطني، واستقرار الدولة.

الهوية الدينية للوطن، مشكلة أم حل؟

الحقيقة أنّ الهوية الدينية مشكلة لا حل، لأن التفسير السياسي للإسلام يحتاج إلى تفسير الانتماء العقدي فيه، ونحن في تاريخ الإسلام قرأنا عن صراعات وسفك دماء من أجل الانتماء العقدي، حدث ذلك في محنة خلق القرآن، ومرسوم الاعتقاد القادري، ومعارك الأيوبيين مع الفاطميين، والصراع المستمر بين أهل الحديث والأشعرية.

ولقد شهد تاريخنا صراعات حول الهوية الدينية إسلاميًا، كانت مخجلة بكل معنى الكلمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في سنة 447 ه حدث صراع بين الأشاعرة وأهل الحديث ببغداد، حتى منع أهلُ الحديث من الحنابلة الأشاعرةَ أن يحضروا صلاة الجمعة وصلاة الجماعة! وراح فيه ضحايا من الطرفين ([2]). وحدث خلاف بين الأشاعرة والماتريدية، مع أنهما مذهبان قريبان من بعض! ووصل الأمر بمفتي الشافعية “أبو منصور محمد البروي” في القرن السادس الهجري إلى أنه أراد أثناء زيارته لبغداد أن يفرض الجزية على الحنابلة! بحسب رواية سبط الجوزي، في كتابه (مرآة الزمان)، وهناك صراعات مذهبية وطائفية في تاريخنا، يخجل المرء من ذكرها.

فالهوية الدينية، داخل الدائرة ذاتها ومع الآخر المختلف عنها، لغم للصراع وعدم استقرار الدولة، فللدين احترامه ومكانته، والثقافة الإسلامية شيء والهوية الإسلامية للوطن شيء آخر، ونحن نعتز بإسلامنا، ولكن أن نجعله الهوية للسوريين كلهم، باختلاف مكوناتهم الاعتقادية والعرقية، هنا تكمن المشكلة. ولكوننا نعيش في وطن واحد، أبناؤه لهم انتماءات دينية وطائفية متعددة، يحتاج قولنا إن “هوية الوطن إسلامية”، إلى تحديد سمات هذه الهوية، وهنا سنعود لنجتر الصراعات على الإسلام بين الهويات الإسلامية، من مختلف الطوائف والملل الموجودة، وعندئذ ستغدو الهوية المفروضة مصدر خلاف لا اتفاق، وتفريق لا تجميع، وفُرقة لا وحدة.

لكنّ بعضهم استغل التداخل الكبير في تاريخنا بين الدين والدولة، كي يطالبوا بهوية دينية محددة للدولة، تتقدم على باقي الهويات! ولكن هذه الهوية الدينية المحددة، وإنْ كانت تلبّي رغبة بعضهم، تخلق مشكلة في مع المكونات غير المسلمة بالوطن من جهة، ومشكلة مع القوميات السورية الأخرى، التي يرى منظروها أن الدين ليس شرطًا وحيدًا، ليجعلنا منصهرين في بلد واحد أو خلافة واحدة.

هويات دينية أم هوية وطنية جامعة؟

إذا كان من حقّ المسلم أن يحتفظ بهويته، فهذا يعني أن من حق الآخرين من المكونات الأخرى أن يحتفظوا بهوياتهم، في وطن متعدد الانتماءات الهوياتية، ولكن هذه الهويات يجب ألا تعلو على الهوية الوطنية الجامعة، ولا تميز جماعة عن أخرى. وإن “فوبيا” الهويات لا حلّ لها إلا بإقرار مبدأ المواطنة، وبها تنتفي هيمنة هوية على باقي الهويات، وتحتفظ كل هوية بسماتها، لكن المشكلة في رؤية أنصار الهوية الدينية المحددة أنهم يطرحون هويتهم متمايزة وذات استعلاء على باقي الهويات، وتلك عقبة كبرى في طريق تحقيق المشروع الوطني، وولادة دولة المواطنة بمعناها العميق.

في بحث مرشح لجائزة “شبكة الألوكة الإسلامية”، بعنوان (الهوية الإسلامية والتحديات التي تواجهها)، تقدم الباحثة “أمل بنت سليم بن سالم العتيبي” رؤيتها للهوية بقولها: “والهوية الإسلامية المتميزة بمرجعيتها الربانية هي ما يعطي للمجتمع الإسلامي قيمته ويحفظ عليه تماسكه ولا عزة له بدونها”. وتتابع قولها:” في المجتمعات الإسلامية، يُعدّ الدين الإسلامي الهوية الأساسية والرسمية لها، فهو الانتهاء الحقيقي والرمز ومحور حياة المجتمع، من خلالها يتفاعل أفراد المجتمع، وحينما يضعف التمسك بالدين والالتزام به في نفوس الأفراد يظلّ هو الهوية المفقودة التي نبحث عنها، وذلك بحكم أننا مسلمون أولًا وأخيرًا، ولأنه ليس من الممكن أن نختار غير الإسلام هوية ونظل مع ذلك مسلمين، فنحن حينما ابتغينا الإسلام دينًا، فقد ارتضيناه هوية” ([3]).

وعندما تؤكد الباحثة أن الهوية الإسلامية تتميز بمرجعيتها الربانية، نكون أمام هوية من نوع كهنوتي، مَنْ يخالفها أو يعارضها سيتهم باتهامات خطيرة! وهذا يعني أننا أمام حرب هويات مع الآخرين، وضياع للهوية الوطنية الجامعة. والمشكلة الحقيقة التي تعوق نهضتنا ليست الهويات المكوناتية على أهميتها، إنما الحقوق، حقوق المواطنة المتساوية، وحقوق الإنسان، والعطاء على الكفاءة لا على الولاء، فالتنوع الهوياتي ممكن أن يكون حالة ثراء حضارية، لأنه سنّة من سنن الله في خلقه، ومن الممكن أيضًا، إنْ لم نجد التعامل معه بروح المواطنة، أن يغدو شرارة تُشعل حربًا أهلية بين المكونات كلها.

صحيح أن العقود السالفة قد وقعت فيها مظلومية على المكوّن السنّي الحامل للإسلام السياسي، ولكن هذا لا يعني أن المكونات الأخرى لم تتعرض لمظلوميات، فالاستبداد ظلم الجميع، والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي مطلب كل الهويات، والتمايز الهوياتي يقتل هذا المطالب، ويفرغها من مضمونها ([4]).

إنّ مجتمعنا السوري مجتمع متعدد الهويات الفرعية (دينية، إثنية، طائفية، مذهبية)، وهذه الهويات إن لم تكن هناك هوية وطنية جامعة تحتضنها كلها بالعدل، ستتباغض وربما تتحارب، والمطلوب تفاهم هذه الهويات على عقد اجتماعي لا تناقضها، من خلال ميثاق وطني محدد يلتزم به الجميع، يكون مقدمة الدستور القادم للبلاد.

تجارب الهوية الدينية في التاريخ المعاصر، كمقدمات للانفصال!!

الهوية الدينية تجعل الولاء والبراء الديني مقدّمًا على الولاء الوطني! وهذه ربما تكون مقدّمة للانفصال عن الوطن وتفكك الدولة! فالتجارب القريبة تخبرنا أن الهوية الدينية كانت سببًا للانفصال! فقد أدت إلى انفصال الباكستان وبنغلادش عن الهند عام 1947، وتسببت في نزوح ما يقارب 10 إلى 12 مليون شخص لأسباب دينية، وكانت أكبر عملية تهجير ونزوح في حينها.

وفي العام 1948، بعد قيام دولة باكستان ببضعة أشهر، وقعت حرب أهلية تخللتها جرائم ضد الإنسانية، حينما أعلن الرئيس “محمد علي جناح” أنّ اللغة “الأوردية” اللغة الوطنية للدولة الجديدة، على الرغم من أن 4% فقط من سكان الباكستان كانوا يتحدثون بها آنذاك، واتُهِمَ مؤيدو استخدام اللغة البنغالية بالشيوعيين والخونة وأعداء الدولة، وكان للجماعات الإسلامية المتشددة مثل “الرابطة الإسلامية” وحزب “نظام الإسلام”، و”الجماعة الإسلامية” و”جمعية علماء الباكستان”، والميليشيات الدينية المتطرفة كـ”البدر” و”الشمس”، دورٌ في تلك الجرائم، بالتعاون مع الجيش الباكستاني.

ثم انفصلت بنغلادش عن الباكستان عام 1971 لأسباب هوياتية! بعد حرب أهلية أيضًا أدت إلى إبادة جماعية في بنغلاديش، قام بها الجيش الوطني الباكستاني خلال الحرب الثالثة “حرب تحرير بنغلاديش”، في 1971، نتج عنها مقتل ما يقارب 3 ملايين شخصًا! وأسهمت في تهجير ما يقارب 10 ملايين إلى الأقاليم الغربية البنغالية والهند. والإبادة الجماعية التي ارتكبتها باكستان الغربية ضد باكستان الشرقية كانت بسبب مطالبتها بحق تقرير المصير لأسباب تتعلق بالهوية، وكان جزء رئيسي منها ضد الهندوس، وأدى ذلك إلى نزوح عدد كبير منهم، وشكل الهندوس نحو 60% من اللاجئين البنغال إلى الهند، حينذاك. وأجبر العديد من الهندوس على اعتناق الإسلام. وشملت تلك الإبادة حملة منهجية من الاغتصاب الجماعي، اتُهِمت بها القوات المسلحة الباكستانية وميليشيات مساندة إسلاموية تنتمي إلى تنظيم “جماعة إسلامي” ([5]).

ولو بحثنا في أسباب انفصال جنوب السودان عام 2011 عن الوطن الأم، في أثناء الحكم الإسلامي للسودان، وجدنا أن هناك شبه إجماع على أن الهوية الدينية كانت وراء ذلك، وذلك بسبب الاضطهاد الديني الذي مارسه أهل الشمال على الجنوب، إذ جعلوهم مواطنين درجة ثانية، إضافة إلى فرض الثقافة العربية الإسلامية على الأفارقة من مسيحيين ووثنيين، وإهمال مشروعات التنمية بالجنوب. والأمر ذاته حصل في الصومال، وأدى إلى الانفصال، فعدم الإيمان والاتفاق على مبادئ المواطنة، وهوية وطنية جامعة، قسّمَ الصومال إلى صومالات، وأدخله حربًا أهلية لم تتوقف رحاها حتى يومنا.

الصراع على الهوية الدينية أو العرقية، وعدم الاتفاق على هوية وطنية جامعة من خلال عقد اجتماعي متفق عليه، يؤدي إلى عدم استقرار الدولة، فعندما انتصر المسلمون الأفغان على الاتحاد السوفيتي عام 1989، وأراد الأفغان إقامة دولة، تقاتلوا، وسفكوا دماءهم، لأنهم فشلوا في إقامة دولة وطنية جامعة تحتوي الجميع، فكلهم مسلمون، لكن طغيان الهويات المذهبية والطائفية والإثنية، وقصور الوعي بكيفية إنشاء الدولة، أدّيا إلى حرب أهلية نتج عنها تفوق جماعة محددة تمثلت بحركة “طالبان”، فرضت بالقهر شروطها على باقي الهويات الإثنية والطائفية، وتكرر الصراع ذاته بعد خروج الأمريكان من أفغانستان منذ أشهر قليلة.

فلنتعلم من التاريخ والآخرين

هذا لا يعني أن حال الغرب في الصراع على الهوية الدينية كانت أفضل، ولكنهم من بعد حروب دموية طويلة توصلوا إلى أن الدولة الحديثة والهوية الوطنية الجامعة هي الحل لصراع الطوائف الدينية، فالغرب لم ينهض إلا لسببين: الأول التنوير الديني، والثاني الانتهاء من حرب الهويات الدينية.

إن التاريخ معلّم الشعوب، فأطول معركة في التاريخ كانت المعارك الطائفية في أوروبا، فحرب الثمانين عامًا، بين إسبانيا ودولة المقاطعات السبع المنخفضة المتحدة (هولندا اليوم)، كانت حربًا على الهوية الدينية. حتى جاءت اتفاقية “ويستڤاليا”، وهي أول اتفاقيّة دبلوماسيّة في العصر الحديث، لترسي نظامًا جديدًا في أوروبا، بُني على مبدأ السيادة الوطنية، كما انتهت معها حرب الثلاثين عامًا بين ألمانيا وفرنسا وشمال إيطاليا وهولندا وكتالونيا، بعد مفاوضات في كلٍّ من مدينتي (Osnabrück) التي باتت تلقب أوروبيًا بمدينة السلام، ومدينة (Münster)، ووقع عليهما عام 1648 مندوب الإمبراطور الروماني فرديناند الثالث ومندوبو فرنسا والسويد وهولندا وإسبانيا وباقي الإمارات الكاثوليكية والبروتستانتية التابعة للإمبراطورية الرومانية.

خلاصة القول:

الهوية الدينية المحددة الواحدة والمفروضة على باقي الهويات الأخرى كانت سببًا لكل تلك الحروب، وكان الوعي بضرورة إقامة دولة حديثة، تجمع أبناء الوطن كلهم على هوية جامعة، هو الذي أنهى تلك الحروب الهوياتية، وبدأت مسيرة النهضة الأوروبية، حيث كان التنوير قائدًا لتلك المسيرة، حتى أصبحت تلك الدول قِبلة للمهاجرين واللاجئين المضطهدين، دينيًا أو اثنيًا أو أيديولوجيًا، من شرقنا البائس. فهل نحن متعظون؟

[1] ـ فيما يلي البيان كفيديو: https://bit.ly/3FM7dvO

[2] ـ ابن كثيرة. البداية والنهاية. الناشر: بيت الأفكار الدولية. لبنان. 2004. أحداث: 447 للهجرة.

[3] ـ https://bit.ly/3HPJAo0

[4] ـ راجع حول المظلومية للكاتب نفسه؛ دراسة بعنوان (المظلومية في سورية، ما الحل؟) https://bit.ly/3p1sNpg

[5] ـ سارميلا بوس: الحساب الميت: ذكريات حرب بنغلاديش عام 1971.Bose, S. (2011). Dead Reckoning: Memories of the 1971 Bangladesh War. London: Hurst and Co. الصفحات 73 ــ 122. بتصرف.

مركز حرمون

———————————-

—————————-

عالقون عند دين الرئيس/ عدنان نعوف

“جنّي يا قرداحة جنّي.. بشار أسد صاير سنّي”… قبل نحو عشرين عاماً تداول بعض السوريين شائعة انطلاق هذا الهتاف في مظاهرة احتج خلالها علويون على زواج رمز هيبتهم “سيادة الرئيس” بأسماء الأخرس ابنة الطائفة السنية.

كانت مفارقة أن تظهر فكرة هواجس التنافس الطائفي بهذا الشكل! مظاهرة مزعومة تنتشر قصتها على متن أهزوجة انفعالية في قالب موسيقي بدائي. وللمصادفة، فقد ضمت عوامل إقناع ملفتة، فكلمة “أسد” جاءت بدون “الـ” التعريف، لتؤكد أن الهتاف صادر عن أصحاب “مَونة” وأبناء ملّة واحدة. ومع إطالة الكلمة لتصبح “آسااااااد” وصوت التصفيق الإيقاعي المرافق المتخيل، علقت الشائعة في أذهان سامعيها، من دون أن يعكرها تساؤل حول إمكانية التظاهر ضد “الرئيس الأمل” آنذاك.

هذه الشائعة لم تكن مختلفة عن القصص الأخرى التي تطلقها أو تستفيد منها المخابرات السورية بهدف قياس الرأي العام على نطاق واسع أو ضيق. غير أن رصد موقف الناس تجاه “دين الرئيس” كان موضوعاً حساساً في بلاد يحكمها نظام يستخدم لعبة التوازنات الطائفية بذكاء.

منذ ذلك الحين، اختفت قصة “المظاهرة العلوية” في زحمة تحولات فاقت قدرة سوريا على الانتقال إلى الخطوة التالية. وعقب ضياع فرصة التغيير خلال الحراك الشعبي العام 2011، تسارع دخول الجميع في طور التوحش، وبدت مرحلة “ما بعد حاجز الخوف” وكأنها عملية ضغط عشوائي هستيري على كل الأزرار الموجودة في لوحة التحكم بهذا البلد. مجازر دموية، تهجير، تعذيب، وسلسلة من المآسي التي حلت بالسوريين وكان لأبناء الأرياف والضواحي السنية النصيب الأسوأ فيها.

حقيقة يستحيل تجاوزها بلا شك. لكن ما علاقة ذلك بمظاهر ثورية تطورت من هزلها المفرط إلى جديتها الفاقعة، حتى ثبتت الصورة التي ساقها الأسد بحق الثورة:”حراك طائفي”؟

“بشار أسد إيراني شيعي، بهرزي كاكائي، بشار صلى العيد خطأً”.. ولائحة تطول لانتقادات ترفع كثيرون عن مناقشتها بجدية! هكذا، إلى أن قام النظام بإلغاء منصب المفتي، وتشكيل مجلس فقهي يضم “علماء” يمثلون المذاهب كافة، فحدث الزلزال في البيت السني السوري المعارض! بيانات وإدانات لـ “أخطر الجرائم بحق سوريا وشعبها وهويتها العروبية والإسلامية”.

في الشكل، لا خلاف على أن تقليداً عريقاً ذا أبعاد اجتماعية وسياسية تغير واستبدل. لكن هل يفسر العجز وانسداد أفق التغيير ما عاشته الهيئات الثورية السنية من غليان؟

في مواقع التواصل الاجتماعي توجد تعبيرات مبعثرة، يمكن أن توصف بـ “الشعبية” تعكس جرح “الأكثرية”. ورغم ذلك، فإنها لم تظهر المجلس الإسلامي السوري كصوت للمسلمين السنة من سكان المخيمات وبلدان اللجوء ومناطق النظام. ففي الواقع كانت تنديدات المجلس بإلغاء منصب المفتي في مكان آخر، وشكلت محاولةً لتسخين الرؤوس الباردة بطريقة أقرب لأسلوب أي “يوتيوبر” يتوسل التجييش عبر تعطيل عقل المشاهد، وتحويله إلى بحر من الأدرينالين!

بالتعمق أكثر، يتضح أن التنديدات بعثت أيضاً برسالة إلى العواصم الإقليمية زايدت على نظام الأسد في مسألة الهوية السورية، خصوصاً مع التوقعات بحراك ديبلوماسي أكبر نحو سوريا العام المقبل. إنها الثقة في الحضور وفي تمثيل غالبية السوريين تلك التي تجعل هيئة ذات صفة دينية تنشط وتطلق مواقف متتالية في كل الاتجاهات، بينما تنام المعارضة السياسية.

وبوجود هذه الثقة، ستستمر مخاطبة المشاعر الطائفية بالتأكيد. ورغم ذلك، يجب ألا تفوت المخاطبين حقيقة أن العالم كله تغير، وأن قيم الأديان والثقافات أصبحت سلعاً في سوق تتبادل فيه الشركات وأجهزة الاستخبارات الخدمات. وعليه، فإن المفاتيح القديمة لتحريك الجموع ستنتهي صلاحيتها بعد حين. ومثلما لم يعد مجدياً تجييش أتباع المذهب الشيعي (من خارج دائرة التجنيد المالي الإيديولوجي) بمزيج من مفاهيم “المقاومة والعرض ومأساة آل البيت”، فإن الأمر ذاته ينطبق على قسم من أهل السنة والجماعة العرب الذين بدأوا محاولات تجديدية نقدية وفقهية. لذلك فإن الرهان على اختزال المُسلم السوري في دور الضحية المؤبدة، وحبسه في دور “الفاتح المجبول من عصبيات وغرائز” هي أساليب سيتراجع مفعولها مع الوقت.

الأمر أبعد ما يكون عن التنجيم والتخمين والتحليل. إذ تكفي نظرة سريعة إلى المنطقة العربية، في الفترة الماضية، لرؤية محاولات الانعتاق من وصاية رجال الدين المتسلحين بحكايات “المسلم المستضعف في أقاصي الأرض”.

تنافرات وتيارات تتصادم في البيت السني الواحد، فكيف هو حال أبناء التيارات الفكرية والإثنية والطائفية من معارضين شعروا بالغدر بعد اكتشافهم أن وجودهم في الثورة كان ديكور للكيانات الإسلاموية؟ بماذا فكر الدرزي والإسماعيلي والمسيحي والشيوعي والقومي السوري حين عرف أن أعظم شرف قد يناله في “سوريا الثورة” هو صفة “متعاطف ساعد السنة على تحصيل حقهم التاريخي”؟!

عشر سنوات خرج بها الجميع بالعبر والدروس، وفيها مضت الجماعات والتيارات السورية نحو وجهات جديدة بحثاً عن انتماءاتها. ومن لم يكفر بهويته السورية بعد، قرر العودة إلى الجذور السريانية، أو الذهاب أبعد في الانغلاق والشوفينية، أو الانخراط في تيار سياسي في المغتربات. المهم عدم الانشغال بهواجس علوية أو سنية أو غيرها إزاء دين الرئيس، وعدم انتظار الفتاوى الوطنية الصحيحة من شيخ أو كاهن.

هو ليس مجرد رد فعل على “المقلب” الإسلاموي، وإنما قناعة أيضاً لدى كل صاحب رؤية علمانية بأن القليل أو الكثير الذي لديه من قيم المواطنة والتعددية يغنيه عما سيمنحونه إياه أصحاب مشاريع الخلافة من حقوق وحريات يملكها أصلاً في بيته.

حقائق يبدو طرحها متأخراً، ويمكن تداولها ببساطة لولا وجود واجهات مدنية يحيط بها الإسلاميون السوريون أنفسهم، تتولى تلطيف منطقهم الفئوي بأسلوب حضاري وبتنظيرات “احترام الخصوصية”. لكن التعويل على هذا الستار الدخاني لا يفيد في المدى الطويل، بما أن الناشطين يتقلبون بين حدين: “مباركة الدروشة والطيبة الجماهيرية الصانعة للمعجزات، ثم شتم سذاجة المتدينين منتقدي السلوكيات المتحررة”.

وكلما زاد نشاز هؤلاء أثناء عزفهم سيمفونية “التآخي والتضامن”، عاد المشروع الإسلاموي إلى حجمه، بحيث لا يبقى له سوى السعي العلني للتحكم بقاعدته الشعبية المتآكلة، واللعب على مخاوفها. في تلك الحالة سيسهل توقع خيارات الجمهور عند الوصول للحل السياسي: “تريدون دولة ديموقراطية علمانية يتساوى فيها الجميع؟ أم نظاماً ديكتاتورياً تفرض فيه طائفة رؤيتها وتحدد دين الرئيس؟”.

المدن

——————————-

 الأوقاف التركية وإخوان سوريا: الإساءة إلى النبي مجرد “خطأ”/ عبدالله سليمان علي

تبحث السلطات التركية وأذرعها السورية في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون اللتين تسيطر عليهما قواتها عن كبش فداء تتم التضحية به على مذبح فضيحة الرسومات المسيئة للنبي محمد التي وجدت في بعض الكتب التعليمية في هاتين المنطقتين. ويبدو أن الدكتور عماد الدين الرشيد هو المرشح الأوفر حظاً لتحمل هذه التضحية بعدما غدا قبلة للانتقادات التي تحمله مسؤولية تأليف الكتب ونشرها، وتطالب بمحاكمته “محاكمة ثورية” على حد تعبير بعض المنتقدين في وسائل التواصل الاجتماعي.

وأثار كتاب “السيرة النبوية” المعدّ للتدريس في المدارس الابتدائية في منطقتي غصن الزيتون ودرع الفرات، انتقادات واسعة بسبب تضمنه رسومات اعتبرت مسيئة للنبي محمد. وفي احد دروسه المعنون “زواج النبي بخديجة” تضمن الكتاب صوراً عدة تظهر عريساً يمثل شخصية النبي محمد وهو يضم عروسه التي يفترض أنها زوجة النبي الأولى خديجة إلى جانب عدد آخر من الصور التعليمية التي وجد مراقبون أنها تنطوي على إساءة كبيرة للنبي محمد.

وتحت وطأة الضغوط والانتقادات المتصاعدة اضطرت مؤسسة “مركز الاستشراف للدراسات والأبحاث” المسؤولة عن تأليف الكتاب إلى إصدار بيان اعتذار عما اسمته “الخطأ غير المقصود”. وقال البيان إن المركز “يقدم اعتذاره إلى الشعب السوري في المناطق المحررة (التي تسيطر عليها تركيا) نتيجة الخطأ غير المقصود الحاصل في احد كتب مناهج السيرة النبوية”، والتي أكد البيان أن تأليفها كان بناء على “تكليف من وزارة التربية التركية”. وحاول البيان رفع المسؤولية عن الوزارة من خلال تأكيده أن الأخيرة وضعت ملاحظات وتصحيحات على مسودة الكتاب وعلى بعض الصور وخصوصاً أنه بعد تصحيحها تم رفع الكتاب بصيغته القديمة خطأ إلى الوزارة من غير تصحيح، وبالتالي فإن “وزارة التربية التركية ليس لها علاقة بهذا الخطأ” بحسب البيان.

في خضمّ هذه الفضيحة وتفاعلاتها كان من اللافت للانتباه أن “المجلس الإسلامي السوري” الذي يهيمن عليه “الإخوان المسلمون” في سوريا إلى جانب “جماعة زيد” أصدر بياناً خفيف اللهجة إزاء الرسومات المسيئة للنبي محمد التي تضمنها كتاب السيرة النبوية، وذلك على عكس مواقفه المتشددة من الرسومات التي يجري نشرها في بعض الدول الغربية ومنها فرنسا والتي أدت في نهاية العام الماضي إلى نشوء أزمة دبلوماسية كبيرة بين أنقرة وباريس على خلفية حرب التصريحات بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والفرنسي إيمانويل ماكرون.

واكتفى المجلس الذي عيّن أخيراً رئيسه الشيخ أسامة الرفاعي بمنصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية ليحل محل المفتي أحمد بدر الدين حسون الذي ألغت دمشق منصبه، بوصف الرسومات التي تضمنها كتاب السيرة النبوية بأنه “خطأ جسيم يتحمل مسؤوليته كل من شارك فيه”، مضيفاً ان “المجلس يعبر عن رفضه الشديد واستيائه من هذا الخطأ الفادح”. وقد خلا بيان المجلس الإسلامي من عبارات التنديد بالعداء للإسلام والحرب التي تشن ضده والحض على الدفاع عن مقام النبوة بكل الوسائل الممكنة، والتي كانت تحفل بها بياناته ضد الرسومات الغربية.

وكان الرئيس التركي استغل تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص الرسومات المسيئة للنبي، والتي أدت إلى مقتل استاذ فرنسي العام الماضي، لتحقيق مكاسب شعبية وسياسية. وقال أردوغان في أحد تصريحاته إن “الإساءة للنبي محمد هي إهانة لجميع المسلمين”. وأضاف في كلمة ألقاها في شهر تشرين الاول (أكتوبر) من العام الماضي أمام اجتماعات حزب العدالة والتنمية أن “تصاعد العداء ضد الإسلام في بعض البلدان، وفي مقدمتها فرنسا، دليل على استمرار العقلية المنحرفة التي أودت بأوروبا إلى الكوارث مرات عديدة”. وأشار إلى أن “من المؤسف أن تنحرف القيم الأوروبية صوب الدعوة إلى إهانة رموز المعتقدات والمجتمعات الأخرى”.

وذكرت مصادر إعلامية سورية معارضة مقربة من بعض الجماعات الأصولية في سوريا وتركيا أن الذي حدث بدقة “هو أن الأوقاف التركية كلفت قبل أربعة أعوام د. عماد الدين الرشيد وضع منهاج للتربية الدينية باللغة العربية ليتم تدريسه لاحقاً في مدارس الوقف التركي، ثم كلفته وضع منهاج للتربية الدينية في كل المناطق المحررة لكل الصفوف”. ورأى مراقبون أن “وزارة الأوقاف ووزارة التربية التركيتين تتحملان المسؤولية المعنوية والسياسية عن نشر هذه الرسومات وتضمينها في كتب معدة للتدريس في مدراس درع الفرات”. ويرى هؤلاء أن ما يجري توصيفه بأنه “خطأ” هو في الحقيقة “كارثة” ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها الجهات التركية المشرفة على ملف التربية في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.

ولم تنج “الحكومة الموقتة” التابعة للائتلاف السوري المعارض من سهام الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي.

النهار العربي

—————–

المفتي والإسلام السياسي وسؤال التنوير الغائب/ د. جمال الشوفي

إضاءات من خارج الصندوق

قبل ثلاثة أعوام من اليوم، تم استحداث مرسوم تشريعي، عُرف بالمرسوم رقم 16 لعام 2018، والخاص بمشروع قانون ينظم عمل وزارة الأوقاف السورية؛ والذي بادر السوريون وقتها، بكافة أطيافهم المعارضة والموالية بنشر الهاشتاغ والوسوم واللوغو الخاص برفضهم له. والملفت للنظر وجود لوغو بذات الكلمات والشعار مع تباين حاد بين فئات رافضيه: العلمانيون غير السياسيون ومعهم الأقليات رفعوا شعار الدين لله والوطن للجميع، والموالون بطيفهم المتنوع دينياً والموحد سياسياً، وصنوف المعارضة السورية السياسية، جميعهم اتفقوا وقالوا لا للإسلام السياسي، لا للمرسوم التشريعي رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف. وكأن السوريين بكافة اختلافاتهم الحادة قد اتفقوا حينها!

اليوم يأتي المرسوم رقم 28 للعام 2021 القاضي بإعفاء منصب المفتي من وزارة الأوقاف وتعزيز دور مجلس علمي فقهي يرأسه وزير الأوقاف والمفتي الحالي هو عضو فيه، ليثير جدلاً من نوع آخر، فهو يقضي بزيادة دور المؤسسة الدينية وتكريس عملها في الحياة السورية، أو هكذا يراه قطاع واسع من الحلقة الأولى الرافضة للمرسوم 16، والمعارضة السياسية تؤكد على أنها تكريس وتعزيز لدور التشيّع في البلاد وزيادة النفوذ العقائدي الإيراني في سوريا على حساب دور الطائفة السنيّة الأكثرية في البلاد، بينما الموالون يتلقون التعليمات سواء أضرت بطيف منهم كالطائفة السنية أو أفادت غيرهم غير الآبهيين سوى بالنتائج السياسية المترتبة على أي مرسوم ومدى الفائدة منهم.

وفي الحالتين، سؤال التنوير هو الغائب! وليس فقط بل معنى التنوير بجذره هو المغيب قسرياً، والمتضح أكثر من ذلك أنه في كلا الحالتين المسألة تتم بقرار مركزي ومرسوم تشريعي سياسي بذاته، وليس نتاج حراك مجتمعي وتفاعلي يفضي إلى النور والتحرر وتعبير عن ألفة السوريين في موقف موحد خارج تباينهم السياسي الحاد!

سؤال التنوير الغائب

في التاريخ، وفي غمار ربيع الثورات الأوربية، خاصة صعود موجات التحرر والحوار حولها، طرحت جريدة بريلبنتش موناتشريفت في عام 1783 على قرائها سؤالًا مفاده: ما هو التنوير؟ لتاتي الإجابات متنوعة، شارك فيها كتاب مشهورين كما الناس العاديين، كان أشهرها مقالة إيمانويل كانط الفيلسوف البروسي الشهير بمقالة عنوانها سؤال التنوير أو ما هو التنوير؟ ناقش فيها كانط العديد من النقاط التي تحدد كيفية الوصول للتنوير والأسباب المعيقة له. بدءها كانط بتشجيع وتحفيز البشرية على أن تتجرأ على استخدام أسبابها ومعطيات وجودها من أجل الوصول لحالة الفهم العام معززة بالإقدام والشجاعة على استخدام العقل دون توجيه من الآخر، ومواجهة الصعوبات والمعيقات السياسية والمجتمعية والمفروضة على الذات الفردية والمجتمعية، فالتنوير إنارة داخلية تقاوم التقاعس والكسل واستسهال ردود الفعل دون المبادرة بالفعل العام، متخذاً شعاراً “تشجع على استخدام عقلك وهذا هو التنوير أولاً”. ويضيف كانط بأن الثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي أو السلطة وتغير في طبيعة المصالح المادية، لكن لا يمكن أن تؤدي إلى إصلاح ضمني وحقيقي في الثقافة والحركة المجتمعية وطباع التفكير، ما لم يرافقها التنوير، مترافق مع استسهال تنصيب الآخرين اوصياء عليهم، والتي تؤدي إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة مختلفة عن السابقة ولكنها من ذات الجذر الذي أدى إلى الظلام السابق. فالتنوير يأتي ببطيء ولكن بطور تفاعلي وتنامٍ مجتمعي مع الزمن ضمن حراكه وتفاعله البنيوي الداخلي.

من المفيد مقاربة الزمن الذي أتى به سؤال التنوير ذلك وكيفية الإجابة التي أتت عليه، في زمن التحولات الكبرى الأوروبية وقبيل تدشين ثوراتها المتلاحقة خاصة الفرنسية منها. فسؤال التنوير تم طرحه سؤالاً عاماً للناس لتجيب عليه أولاً، ولم يأت تغير صفة الدين أو هيمنته الدستورية والقانونية في الحياة الأوروبية من مركزية السلطة، بل على العكس من هذا أوصى الحاكم البروسي فريدريك العظيم أكاديمية العلوم في برلين عام 1780 بمنح جائزة لأفضل مقال يجيب عن سؤال فريد من نوعه، كان السؤال هو التالي: هل من الملائم أن تخدع الناس؟ والمقصود هنا بالحاكم أياً كانت صفته الدينية أو الزمنية؟

التنوير هذا ابتدأ بخطوات عريضة تمس سؤال الوجود البشري العام، هو:

– سؤال الحرية والجذوة والتفاعل العام وليس سؤال المنفعة الموجه من مركزية السلطية.

– التنوير هو طبيعة حراك داخلي للمجتمع في تأسيس هياكله ومؤسساته وطرائق تفكيره المحفزة بالحرية الذاتية، لا مجرد ردود فعل على إملاءات السلطة المركزية تبدو في ظاهرها هامة لكنها في سياقها ضئيلة الفعالية، حيث بإمكان السلطة تغير الدفة وقتما تشاء وكيفما تشاء.

– التنوير حالة متدرجة زمنياً وليس نتيجة مباشرة لقرار سياسي إيجابي أو سلبي في معناه أو مضمونه، بل يحفز على المبادرة والفعل، على عدم الاستكانة لقهرية الظرف السياسي، والنظر للعالم والوجود برؤية متسعة لا قصرها على قدر المنفعة أو الوقوف ضدها سياسياً وفقط، في زئبقية نفعية تشي فقط برغبة سياسية محضة دون الولوج للعمق، فمرة نرفض مرسوم التشريع ومرة نوافق عليه، والعكس، وكل حسب مصلحته.– التنوير هو ليس الحصول على الحرية وحسب بل في كيفية الحفاظ عليها بوعي، إذ لا تتوقف معركة الحياة وكسب ميزانها المجتمعي بثورة للحرية وحسب، بل كيفية الحفاظ على مكتسبات هذه الحرية وعدم التفريط بها أمام المكاسب السلطوية، وهذه بالذات سؤال في التنوير للإسلام السياسي ومنابره المتباينة من العمليات السياسية للسلطة المركزية

.السلطة والإسلام السياسي وتغييب المؤسسات مرسوم وزارة الأوقاف وما تلاه من مرسوم إعفاء منصب المفتي يعيد السؤال مرة أخرى لدور السلطة والاسلام السياسي، إذ ليس من المستغرب أبداً أن يتم رفض الإسلام السياسي من قبل كلا الفريقين الموالي والمعارض، كون الفريق الأول، أي الموالي آمن وصدق وجزم أمره على محاربة الإرهاب وحماية “الديمقراطية والعلمانية” في سورية! بل حيّا روسيا وإيران، الدول الشقيقة، بقيادة صدرها الأعظم بوتين في تحقيق هذه المعادلة وكل ظنه أنه انتصر لـ “لعلمانيته” و”ديمقراطيته” ولوجوده السياسي في دولة القانون والمؤسسات برعاية حزب البعث والجبهة والوطنية ومن خلفها حزب روسيا البيضاء وهكذا… ليفاجأ كل يوم بمشروع يضرب كل طموحه ويعيده لنقطة البداية. فإذا كان لا بد من رفض تام للأحزاب السياسية الدينية ولابد من رفض الإسلام السياسي أصل البلاء والداء، فلابد من حركة فعل مجتمعية تنويرية تؤسس للمؤسسات الفكرية والثقافية وترفض الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي بآن، لا أن يقبل بهذه أو خلافها حسب المصلحة الراهنة سياسياً عند كلا الفريقين بالتباين، وإلا ستبقى كل الأسئلة عاجزة أمام من أفسح المجال لنموها، ومن غذّاها، ومن حول المسألة الوطنية السورية لموضوع تقاسم نفوذ دولي أولاً، وموضوع حرب بين أبنائها ثانياً، وبالضرورة لنقمة وكارثة عامة وتكريس للظلام!بينما يذهب الفريق الثاني، المعارض، لرفض الإسلام السياسي، أصل البلاء والداء العضال، فهو السبب في “أسلمة” الثورة وتحويلها عن مسارها الوطني، وهو السبب والمحرك للعمل العسكري الوبال على الثورة والوطن. وهذا الإسلام السياسي ذاته من كان ولازال صاحب نهج في البراغماتية النفعية في اقتناص الفرص السياسية للوصول إلى سدة الحكم والسلطة كما فعلها في مصر بعد ثورة 25/يناير كانون الثاني ووصول الإخوان المسلمين للسلطة وقتها، وليس هذا وفقط، بل شكل شبح المراسيم السورية اليوم صدمة لعشرات المنصات ومئات المنابر والأحزاب الديموقراطية، تلك التي راهنت على حل سياسي بعد القضاء على الإرهاب المزعوم أن جذره ديني وحسب، والتي ما انفكت تكرر وتطالب بسورية دولة “علمانية مدنية عصرية”…. بينما سؤال السلطة ومؤسسات الدولة سؤال مغيب عن حوار عريض يدور بين أروقة الكثير من الفئات المعارضة السورية!

فإن كان الإسلام السياسي بكل صنوفه وبالا عاما، فالسؤال الذي يجب ألا يغيب عن الحوارات الراهنة، هو ليس سؤال السلطة وحسب، فهو سؤال يغري بالوصول لمنزلقات المناصب المشبوهة، بل سؤال التنوير ذاته. والسؤال الأهم منه هل يعني التنوير اجتثاث الدين من حياة البشر؟

يمثل الدين ثقافة عريضة من حياة السوريين وتاريخهم، والعلمانية بذاتها لم تعمل على اجتثاثه من حياة الأوروبيين، بل فصله عن معترك الحياة السياسية، وفتح الأفاق أم المؤسسات العلمية والثقافية لأن تأخذ دورها في الحياة والمجتمع والدولة، بينما لازال الكثيرون لليوم لم يرقبوا تلك اللحظة المفصلية في تاريخ سورية الحديث هي فصل السلطة الأمنية والعسكرية عن الحياة السياسية التي وصفها خلدون حسن النقيب بالدولة التسلطية في المشرق العربي، والتي عملت على توظيف الدين لمصلحة تكريس سلطتها وضد التنوير والعلمانية، وعملت على توظيف الشعارات القومية والاشتراكية ضد الدين بصفته الإيمانية كموروث شعبي تعايش معه السوريين بتنوعهم دون تفرقة أو هيمنة. والأهم من هذا كله، تقديم بوابة المصالح النفعية الوظيفية، وكل ينظر إليها من زاويته، في سباق محموم يقوض الوصول لتعاقد مجتمعي عام على سبل التنوير ورفض خداع الشعب وتحقيق التصالح المجتمعي والتسامح الديني.

النتائج المترتبة على هذه المراسيم

لليوم يبدو أن الخروج عن سياق التوازي المحكم في إدارة شؤون سوريا سياسيا صعب ومعقد ومصاب بعطالة مركزية وتغييب قسري لكل مؤسسات الدولة المفترضة وربط مجاميعها بمرسوم يعقد ويحل من جهة، وتغيب تام لدور التنوير والحركة المجتمعية والاكتفاء بردود الفعل المتباينة حولها دون فعل مؤسساتي وإن كان بصيغته الجنينية حوارياً من جهة أخرى.

لتاتي نتائج مرسوم إعفاء منصب المفتي اليوم وقبله مرسوم وزارة الأوقاف وضوحاً متجلية في:

– تعزيز دور السياسة المركزية للسلطة في تقرير ثقافة المجتمع وتاريخه وأعرافه وتقاليده، وهذه التي تحتاج للحرية في التعبير لا القمع والهيمنة.

– تغير دفة السير بتغير توجيه زعنفة العملية السياسية، والاستثمار المركّز في الدين بجانبه السلبي، مع وضد حسب المرحلة ومتطلباتها.

– تعزيز ثقافة الكراهية، كون هذه المراسيم تحمل بين طياتها قبولا مطلقا أو رفضا مطلقا لجهة خلاف غيرها من السوريين.

– إضفاء صفة زائفة عن تنامي سوريا نحو الديموقراطية وتعزيز دور المجالس بديلا عن الفردية (كما مثلها المرسوم الأخير) لكنها في ذات الوقت كاشفة لمدى مركزية السلطة وقراراتها المفردة كأوليجارشية مفرطة بالمركزية والنفعية المحضة.

– وكخلاصة مركزة، يمكن الاستنتاج بسهولة، أن دور أي منصب في سوريا، سياسي أو ديني، هو دور وظيفي فقط، يعقد ويحل بقرار سياسي.

التنوير Enlightenment إضاءة داخلية وليست أبداً قرارات خارجية كما قطع نور الكهرباء او تشغيله. اذ لا يكتفي التنوير بحدود الوضع السياسي الراهن. التنوير يدرك خطورة الانزلاق لثقافة الكراهية، ونفعية المكاسب السلطوية. التنوير يضيء على الإيمان كموروث عام، ويضيء درب المؤسسات الفكرية والثقافية خارجه، لا بل وخارج السلطة وأهوائها، وهذه تحتاج لزمن لا يكفيه عمر ثورة واحدة، فتاريخ أوروبا الحديث لم تنتجه الثورة الفرنسية بمفردها، بل تفاعل حركة التنوير بعدها فيما بينها وقدرتها على التعامل مع السلطة البونبراتية حينها دون منزلقات نفعية ….

—————————

======================

تحديث 2 كانون الأول 2021

————————

سوريا: المثقف المحافظ إذ ينتقم لغيابه/ إيلي عبدو

كشفت خطوة انتخاب مفتٍ لسوريا من قبل مجلس إسلامي معارض للنظام، عن مثقفين، دعموا الخطوة، ووجدوا فيها، فرصة لإفتاء متوازن بعيداً عن السلطة وإكراهاتها. وهؤلاء ومعظمهم، يعمل في الكتابة والإعلام، عبّروا عن مزاج ثقافي جديد، كان بحكم المقموع قبل الثورة.. مزاج ثقافي محافظ قيميا، يهتم بالقراءة والكتابة والنشر ويساجل فكرياً، وأحيانا فقهياً، ويدافع عن توجهات اجتماعية وسياسية وقانونية، انطلاقا من قناعاته المحافظة.

هذا المزاج، كان مغيباً، في سوريا قبل الثورة، لأسباب لها علاقة بطبيعة النظام، لاسيما في الثمانينيات وما نتج عنها، وأخرى لها علاقة بمفهوم نمطي للثقافة، يعرّف العاملين فيها، كـ”علمانيين” و”تقدميين” و”يساريين”، ويحيل كل ما هو محافظ ومتدين إلى “الرجعية” و”التخلف”، وبالتالي، إلى خارج الثقافة.

هذا التسييس للثقافة، باعتبارها التصاقا بالعقائد والأفكار السياسية “التغيرية”، لم يترك هامشا للمثقف المتدين والمحافظ، ليعبر عن نفسه، ويحتك بالأفكار مع العلمانيين ويساجلهم ويتقاطع، ويختلف معهم. المناخ السياسي السلطوي، لعب دوراً حاسما في تسميم العلاقات بين المثقفين العلمانيين والمثقفين المتدينين، لكن سموما أخرى، كانت لها مساهمتها أيضاً، فنتيجة انهيار أيديولوجيات المثقف العلماني، والحرب الأهلية المصغرة في الثمانينيات، حصل التباس، عند تحديد المثقف “العلماني”، وتداخلت الانتماءات والهواجس الطائفية، لدى بعض أتباع الأقليات من المثقفين، مع قناعاتهم الأيديولوجية، التي أصبحت مجرد غطاء للتعبير عن ما يناقضها، أي الطائفة والمذهب. وتضخم الكلام عن “العلمانية” و”اليسار” و”التقدم”، كخطاب ثقافي مهيمن، أحسنت السلطة لاحقا استخدامه في الدعاية لنفسها، فيما الخطاب المحافظ، انحسر إلى الديني المحض. بمعنى آخر، لم يتبلور خطاب سياسي محافظ للسجال والاختلاف معه، في حين، وُظفت العلمانية أحيانا، للتعبير عن هواجس بعض الأقلويين، ولتنتهي بشكل نهائي، في خدمة السلطة. ولم ينجُ من هذه الثنائية، سوى مثقفين أكراد وأشوريين، فهؤلاء، رغم التفاوت بالنظر لطبيعة كل قضية، بلوروا أفكارا وقناعات تتعلق بقضاياهم، من دون أي التباسات وتستر بعقائد سياسية وطروحات كبرى. الأيديولوجيات على تنوعها، وظفت من أجل قضاياهم، لا من أجل إخفائها والتحايل عليها. عدم الوضوح عند الأقليات الأخرى، يتعلق، على الأرجح، بعدم صياغة قضية، لا توجد قضية علوية أو مسيحية أو درزية في سوريا، هواجس هذه الجماعات، غالبا ما تم تمريرها، عبر عقائد سياسية. بالطبع، ليس، حل هذه الإشكالية، في أن تكون لكل طائفة قضية، ولكل قضية مثقفون، لكن في الوقت عينه، لا يبدو، استنادا على تجربتنا في سوريا، أن استخدام الأيديولوجيات لتمرير هواجس الطوائف، أمر إيجابي، إذ إن الأنصار الحقيقيين للعلمانية، يدفعون الثمن، لأن هناك من الطائفيين من يسرقها منها، ويستخدمها كدعوة لهدف سياسي. كذلك، فإن الطائفيين يخسرون لأنهم يفوتون إمكانية بلورة أفكار تتعلق بهواجس انتماءاتهم، وطرح مقاربات لمعالجة هذه الهواجس.

    استبعاد المثقف المحافظ، ساهم في تصليب قناعاته، التي باتت تتغذى على المظلومية، فهو يشك ويرتاب من أي طرح “علماني”

والمثقف المحافظ، ليس بعيداً عن هذا المأزق، إذ إن استبعاده، ساهم في تصليب قناعاته، التي باتت تتغذى على المظلومية، فهو يشك ويرتاب من أي طرح “علماني”، مشتبهاً بأقلوية ما في مثل هذا الطرح، عدا عن أن إخراجه من السياسة وترك المجال الديني له، جعله، أقل اهتماما بتلوين قناعاته ببعض الأفكار المدنية، ما يفسر دفاع كثيرين عن المفتي الجديد، على الرغم من آرائه السلبية التي كشف عنها سابقا بخصوص المنظمات النسوية التي تعمل في الشمال السوري.

بالنتيجة، سيزداد المثقف المحافظ، محافظة، معوضا هزائمه المتتالية في السياسة، بتأييد مفتٍ جديد، فيما المثقف العلماني، الجاري البحث عنه، عليه أن يواجه، تحديات، بينها تخليص العلمانية من الطائفيين، ومن السلطة، أي تطوير علمانيته، ضمن أرضية، للتفاعل من المثقف المحافظ، رغم انشغال الأخير، بالانتقام المجاني في هذه المرحلة على الأقل.

 *كاتب سوري

 القدس العربي

————————

المعارضة والنظام واللعب على وتر الدين/ عمار ديوب

 استخدم النظام السوري الطائفية و التطييف الواسع كأداة سياسية أثناء الثورة والحرب لاحقاً. هو نظام استبدادي يقوم على حكم العائلة، وبعض الشخصيات المختارة بدقة من قبل الحاكم، ويمكن أن تكون من كل الطوائف. واستخدام الطائفية ليس جديداً، ولكن بعد 2011 أصبح أكثر تبلورا وكثافة . ضمن ذلك، ومن أجل تعزيز تلك الطائفية في المجتمع والدولة، عمل على أن تكون أغلبية قيادات الجيش والأمن من طائفة الحاكم، بينما في المجالات الأخرى يمكن أن يكونوا من طوائف أخرى.

قاس النظام الثورة في 2011 على مقاس أحداث والحرب ذات الصبغة الطائفية 1980، ووجد أن الخلاص منها يكمن بتطييفها، وبمزيدٍ من التطييف في أوساط الجيش والأجهزة الأمنية، وعسكرتها بالتأكيد. بالضفة المقابلة تناسلت تدرجياً القوى الإسلامية الطائفية، وأكملت دور النظام في تشويه الثورة والحراك الشعبي، ودُفعت الأوضاع نحو حرب بصبغة طائفية، وجُلب الخارج ليعبث بمستقبل سورية؛ بدأ النظام ذلك، وأكملته المعارضة المكرسة والمسيطرة.

عدا كل ما ذكرنا، نعم هناك إشكالٌ طائفيٌّ كبير في سورية، ويتعلق بشعور الأغلبية الدينية، أي السنة، بأن الحكم يجب أن يكون لها، وقام النظام المستبد ومنذ السبعينيات بتهميش مراكز القوة “السنيّة” واستبدلها بشخصيات ممالئة له ومتوافقة مع مشروعه، ولن نسهب في أن سياسة التأميم والإصلاح الزراعي، والتي استفادت منها قطاعات شعبية كبيرة، “طفشت” البرجوازية “السنية”. في حرب الثمانينيات التصقت تلك الشخصيات به، وكافأها بطرق شتى، وتعمق الإشكال الطائفي، والنظام لم يتصالح مع الشعب بعد ذلك العقد، والتي وإن لم تكن حرب سنّةٍ ضد علويين، بل حرباً بين قوى طائفية مناهضة للنظام وبين نظام يستخدم الطائفية لتعزيز سلطته العائلية بالدرجة الأولى، وضمن ذلك تتشكل مافيات الفساد والنهب والأموال وتتشوه “تتسمّم” الحياة بكل أشكالها.

إذاً الحياة السورية وليس السياسية فقط ملوثة بالطائفية، ووعي الأفراد ينطلق بصورته العامة من المنظار الديني أو الطائفي! وهناك أشكال أخرى في الوعي ولكنها غير مهيمنة، كالوعي الوطني والقومي والمناطقي والعلماني واليساري والقومي، وسواه. هذا التلوث المفروض، المفروض بقوة الاستبداد والافقار، هدفه تهميش حقوق الشعب ومصالحه وإضعاف الاندماج المجتمعي، وبالتالي وبعد أن أدارت الدولة ظهرها للشعب، ذهب الأخير نحو التديّن والتطييف للشعور بالقوة والهوية والملجأ والأمان. ذلك الذهاب، ليس نهاية المطاف، وليس من وعيٍّ ثابت وخالد، بل هو متعدد، وقابل للتغيير، سلباً أم ايجاباً أو خليطاً من الأمرين معاً. جاءت الثورة بسياقٍ ثورات شعوب المنطقة وربيعها، وضمن أفكار وأهداف تتعلق بالحقوق العامة، وبالانتقال الديموقراطي والعدالة الاجتماعية والحريات العامة ومنها الدينية بالطبع، ولم تكن إسلامية أو بقصد بناء نظام إسلامي. هذا الأمر راقبه السوريون بالبداية، وكانت السمة الغالبة للثورة “وطنية”، أي لم تقم بها طائفة وضد طوائف أخرى، بل وحَدّدت في مرحلتها الأولى أنها ضد شخصيات بعينها، القصد أنها كانت تفصل بين طائفة الأفراد ، وبين دورهم الكارثي في الافقار والقمع والنهب وغياب الحقوق، وكذلك طيٍّ أثار الثمانينات “الطائفية”.

التديّن لم يكن طائفيّاً أصيلاً في سورية ولا هو يساوي الطائفية، ولم يكن عائقاً أمام تبني الأهداف السابقة الذكر. كل ذلك رفضته قطاعات من المعارضة وتنويعات الجهاديين والسلفيين لاحقاً، وكذلك رفضه النظام وعمل من أجل جعلها ثورة إسلامية، ولكتلة محدّدة من هذه الطائفة، حيث أغلبية سورية منها، وانقسمت بين كتلة ضد النظام وكتلة معه “سَمِها، صامتة، رمادية، مغلوب على أمرها، مؤيدة له وسواها” الأخيرة لم يثق بها النظام، ولا يستطيع تبني أفكارها ورؤيتها من أصله، فهو استبداديٌّ، ومشكوك بصفته الدينية وطائفيته لا علاقة لها بالإسلام والسنة وحتى لا علاقة لها بالطائفة العلوية، وهناك التدخل الإيراني الكبير، والمؤثر على بنية السلطة بعد 2011، حيث أصبح هو الفاعل الأول في توجهاتها السياسية والعسكرية وسواه.

النظام الذي توسل الطائفية والتطييف لحرف الثورة، لم يقبل عدم الانخراط الواسع من “سنُته” في حربه، وكان نفاق مشايخه السُنّة أكثر من بادٍ له، وبالتالي اندفع نحو إحكام السيطرة على المجال الديني العام، وتحديداً السني. رؤية النظام تنطلق من زاوية ضيقة، فمن لا يصطف معه، ليس وطنياً وليس مسلماً وليس مؤمناً؛ إن غياب شخصيات سنية قوية وفاعلة، وقادرة على مواجهة النظام، وهناك الموقف الإيراني الكامل إلى جانبه، دفعه إلى خطوته الأخيرة، بإلغاء منصب الإفتاء وجعله من نصيب “المجلس الفقهي العلمي”.

الآن هناك نقاشات واسعة عن خطورة ذلك الإلغاء على الهوية السورية وتحكم الإيرانيون بأوقاف أهل السنة في سورية، وهذا النقاش وإن كانت تشوبه الكثير من الرؤى الدينية أو الطائفية، فإن الموضوعية يجب أن تكون منتهاه، وهذا أمر معقد للغاية مع تعقيدات الوضع السياسي والديني.

الأكيد أن الهوية الدينية لا تتغير بسهولة، وليس منصب المفتي من يثبتها أو يلغيها بإلغائه، وانتخاب الشيخ أسامة الرفاعي لمنصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية لن يثبت الهوية تلك، الإسلامية. إن الهوية ليست أمراً ثابتاً، وهناك تغييرات كبرى متعلقة بالهوية، لننظر إلى خمسة عقود خلت مثلاً، ولننظر الى سورية الآن، المقصد هنا إن إلحاق النظام للمنصب بالمجلس الفقهي، ربما يستهدف إرضاء كل من إيران وروسيا، حيث ترفض الدولتان أن تظل الأكثرية سنية في سورية أو أن تظل للمؤسسات الدينية السنية فاعلية كبرى في سورية، وبالوقت ذاته إشراك غير السنة بذلك المجلس يعد تهميشاً للسنة، ورفعاً من قيمة تلك الطوائف ومنها الشيعة. إن منظور النظام هذا، أحدث تطييفاً واسعاً لدى السوريين، ولهذا سارع المجلس الإسلامي السوري ومجموعة مشايخ معارضين للنظام إلى انتخاب أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية.

خطوة الانتخاب هذه، يرى البعض إنها إيجابية، وضربة لمساعي النظام إلى تغيير الهوية. إن الهوية السورية تتعرض لمشكلات كبرى، وانتخاب الشيخ أسامة لن يوقف ذلك، وهو زاد الطين بلّة، حيث كان النظام يبحث عن تحريف لأزمته الاقتصادية والاجتماعية العنيفة، ووجد أحد مداخل تشويهها الآن بذلك الإلغاء، وبالتالي الدخول في معركته تلك، ليس عملاً صائباً، سيما انه سيعني، والشيخ أسامة يقدم نفسه من الثورة، سيعني أن الثورة كانت سنيّة منذ البداية! من سيستفيد من ذلك الآن؟ ما هي فائدة ذلك من أصله، ألم يكن حريّاً البحث عن شيخٍ وازنٍ كأسامة، ولكنه بعيد عن السياسة. لو فعلت مشايخ سورية ذلك لما استطاع النظام استغلال ذلك، وسيستغله، بعد خطوة أسامة، بالتأكيد لحشد جمهوره طائفياً، وأيضاً، وما دام المنصب سياسياً، واعتبارياً، وهو الآن بلا فائدة تذكر، ألم يكن الأفضل عدم المسارعة بالقيام به.

إن “انتخاب” الشيخ الرفاعي سيعطي مؤشراً سلبيّاً للسوريين من غير السنة، ولن تكون له فائدة تذكر للسنة من ناحية أخرى، ولن يزيدهم تماسكاً؛ لنلاحظ أوضاع السنّة في مناطق التدخل التركي أو تحت سيطرة هيئة تحرير الشام. الأوضاع التي تتحدث عن انقسامات وصراعات ومعارك وظلم كبير للناس هناك “السنة”؛ الأوضاع الأخيرة هي ما يجب التفكير فيها مليّاً ولا سيما وأنّه صار للمعارضة مفتيّاً.

—————————-

الشيخ أسامة الرفاعي وحديث الإفتاء (1)/ معتز الخطيب

أوضحت في مقال الأسبوع الماضي -“الصراع على منصب المفتي بين النظام السوري والمعارضة”- أن تحرك المجلس الإسلامي السوري المعارض لتعيين مفت جديد هو خطوة ذكية من الناحية السياسية والرمزية، ولكنها مشكلة من الناحية الدينية والعملية، لأمرين: الأول: تمثيليته سواء لجهة انتخابه أم لجهة ممارسته لمهامه بوصفه معبّرا عن “الجمهورية العربية السورية”، والثاني: في حدود دوره بوصفه مفتيًا وكيفية ممارسته له وعلاقته بالإرث الفقهي والتقليد العلمي الفقهي. وسأخصص هذا المقال للأمر الأول، على أن أفرد مقالًا آخر للأمر الثاني.

تناول الشيخ أسامة الرفاعي -في ما سماه “حديث الإفتاء”- 5 محاور شملت:

    حيثيات تعيينه مفتيًا جديدًا من قبل المجلس الإسلامي السوري.

    وأهمية وجود مفت على ما سماه “الأرض السورية”، وتأثير طريقة تَسَلّم المفتي لمنصبه في أدائه.

    ووظيفة المفتي وبعض القصص المتعلقة بأداء بعض مفتي “الأرض السورية” (ذكر قصتي المفتي الأسبق أبو اليسر عابدين والإمام النووي).

    وبعض التوجيهات والنصائح المتعلقة باللاجئين السوريين، وأن من شروط الدعاء التجرد عن المعاصي في سياق الدعوة إلى إعانتهم.

    وذِكرًا مُجملًا للمعتقلين والنساء، وأنه يمدّ يده إلى جميع مكونات الشعب السوري (ذكر قصة للسياسي السوري المسيحي فارس الخوري).

    على مستوى الممارسة، كيف سيثبت الرفاعي -عمليًّا- أنه ممثل لعموم أهل “الجمهورية” من السوريين؟ خصوصًا أن أحد تحدّيات المنصب الجديد هو ألا يتحول الرفاعي إلى مفت لجماعته ولأهل الشمال السوري وفصائله وتشكيلاته الممثلة في المجلس السوري الذي انتخبه. ولكن المدقق في حديث الإفتاء لا يخرج منه بشيء عن هذا، كما أننا لا نعرف من تجربته في رئاسة المجلس السوري ما يوضح هذا أيضًا.

يأتي هذا الخطاب الأول من الرفاعي بعد تسميته “مفتي الجمهورية العربية السورية”، وكان يتحدث من أراضي المعارضة الخارجة عن سلطة النظام، وقد حاول أن يؤسس شرعيته على أمرين:

الأول: “أن النظام قد ألغى منصب المفتي”، ولذلك تداعى المجلس الإسلامي السوري إلى هذه الخطوة.

الثاني: شرعية تاريخية، و”أن تاريخ بلادنا وبلاد المسلمين جميعًا دائمًا فيه مفت”، وأن انتخابه “أعاد الأمور إلى نصابها” كما كانت تاريخيًّا في سوريا، وذكر بعض القصص في هذا. ومن اللافت أنه لم يأت صراحة على ذكر مسائل هوية الدولة والأبعاد الطائفية لإلغاء المنصب، وهي مسائل سبق للمجلس السوري وغيره أن صرّح بها.

أما الأمر الأول هنا فيعني أن تحرك المجلس السوري هو “رد فعل” على مرسوم الأسد المقتضي إلغاءَ المنصب، وهذا يفترض مسألتين:

الأولى: أن شرعية المفتي الجديد قائمة على أساس إلغاء النظام لمنصب المفتي، وليست وفق رؤية تأسيسية للمعارضة في ظل صراعها مع النظام على تمثيل الإسلام والدفاع عنه، خصوصًا أن منصب “مفتي الجمهورية” منصب سياسي وجزء من جهاز دولة ما بعد الاستعمار، ومن ثم كان المفتي موظفًا حكوميًّا منذ نشأة المنصب حتى الآن.

الثانية: الإقرار -ضمنًا- بشرعية مفتي النظام السابق، وهذا معنى أن تعيين مفت جديد هو رد فعل على إلغاء النظام للمفتي السابق والمنصب معًا، وهو ما يؤكد أن تحرك المعارضة لتعيين مفت هو خطوة سياسية أساسًا.

وتسمية “مفتي الجمهورية العربية السورية” تقتضي أن المسمى يمثل “الجمهورية” في محاولة لانتزاع الصفة الرمزية من نظام الأسد من جهة، ولكنها في الوقت نفسه انعكاس لتفكير ديني مهجوس بفكرة الدولة ويحاول أن يستلهم سلطاتها لتنظيم شؤون السوريين، ومنها الشأن الديني من جهة أخرى. ولكننا لسنا -في الواقع- أمام مجرد مسائل رمزية؛ فالتسمية لها مقتضيات قانونية وعملية ستتوقف شرعية المنصب عليها، سواء على مستوى الرؤية أم الممارسة.

فعلى مستوى الرؤية، يفرض “حديث الإفتاء” -بوصفه منصبًا جمهوريًّا- توضيح الكيفية التي سيواجه بها المفتي الجديد التحديات الرئيسة بعد أن انتقل هذا المنصب من النظام إلى المعارضة، وإذا كانت شرعيته مؤسسة على إلغاء النظام للمنصب، وأن ثمة إرادة سياسية لتغيير هوية الدولة السورية بوصفها دولة “سنّية”، فما خطة المفتي الجديد للحفاظ على هذه الهوية المهددة؟ وهل بمجرد تعيينه مفتيًا صِينت الهوية؟

وعلى مستوى الممارسة، كيف سيثبت الرفاعي -عمليًّا- أنه ممثل لعموم أهل “الجمهورية” من السوريين؟ خصوصًا أن أحد تحديات المنصب الجديد هو ألا يتحول الرفاعي إلى مفت لجماعته ولأهل الشمال السوري وفصائله وتشكيلاته الممثلة في المجلس السوري الذي انتخبه. ولكن المدقق في حديث الإفتاء لا يخرج منه بشيء عن هذا، كما أننا لا نعرف من تجربته في رئاسة المجلس السوري ما يوضح هذا أيضًا.

وأما الأمر الثاني المؤسس لشرعية المفتي الجديد فقد تمثل في نقطتين: الأولى مَوْضعة نفسه في سياق تاريخ الفتوى في سوريا، والثانية أن استقلال المفتي إنما يتحقق بانتخابه من قبل أهل الاختصاص من جهة أخرى.

ففي ما يخص النقطة الأولى، فإن النبذة التي عرضها الرفاعي لتاريخ الفتوى في سوريا بدت قاصرة وشديدة العمومية، فلا هي تأريخ دقيق لنشأة منصب الإفتاء الذي نشأ أول ما نشأ زمن الإمبراطورية العثمانية، ولا هي حديث علمي عن “وظيفة الفتوى” كما هو مقرر في الأدبيات المتخصصة من التراث الفقهي، ولا هو عرض أمين لتاريخ المنصب في ظل دول ما بعد الاستعمار، خصوصًا أن لدينا نماذج متنوعة هنا؛ فدولة مثل قطر ليس فيها مفت عام للدولة، ولا حتى مجلس إفتاء رسمي، ودول مثل ماليزيا وإندونيسيا والإمارات يتولى فيها وظيفة “المفتي العام” مجلسٌ جماعي للإفتاء، أي لا وجود لمفت عام، وثمة دول عديدة يُعيَّن المفتي فيها من قبل رئيس الجمهورية كما في مصر وتونس وغيرهما، فضلًا عن أن تاريخ منصب المفتي في سوريا نفسها خضع لتطورات، فمفتي الجمهورية الأسبق الشيخ أحمد كفتارو جاء عن طريق الانتخاب سنة 1964 وبقي في منصبه مدة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد حتى وفاة كفتارو نفسه (2004م).

وفي ما يخص النقطة الثانية، ذكر أنه منتَخَب من المجلس الإسلامي السوري ومجلس الإفتاء السوري، وأن “في هذين المجلسين كبار علماء الأمة وفقهائها الذين يُعتدّ بهم من الناحية الدينية”. وبعيدًا عن أن مجلس الإفتاء السوري هو فرع عن المجلس السوري وتابع له، فقد جرى التغافل عن أن المجلس الإسلامي السوري هو -في الواقع- تعبير عن تكتلات تتوزع بين الإخوان المسلمين (ممثلين برابطة العلماء السوريين)، والسلفيين (ممثلين بهيئة الشام)، وجماعة زيد (يرأسها الرفاعي) التي تمثل التوجه التقليدي الصوفي، ومجموعة من الأفراد. ومن ثم فقرارات المجلس وما يتفرع عنه هي نتاج هذه المحاصصة التي فرضت نفسها على مجلس الإفتاء السوري المتفرع عنه، والتي تم فيها تمثيل الكتل السابقة، وقادت -على سبيل المثال- إلى أن يكون تاجر ومهندس عضوين في مجلس الإفتاء إلى جانب أعضاء آخرين من غير المعروفين بالفقه والإنتاج العلمي، وأهل العلم فيه قلة، وسيكون لهذا تبعاته في أي عملية انتخاب.

معنى ذلك أن كلام الرفاعي السابق عن “كبار علماء الأمة وفقهائها…” كلام مرسل ولا يمثل الواقع الفعلي، خصوصًا أن معايير “الذين يُعتدّ بهم من الناحية الدينية” هي عملية لا علمية، أي تتصل بالتحزّبات وموازين القوى الفاعلة في الشمال السوري أو السابقة في الثورة أو ذات الشوكة، وإلا فإن عددًا من أعضاء مجلس الإفتاء من غير المشهورين لا علميًّا ولا شعبيًّا. يقودنا هذا إلى أن بعض هيئات المعارضة نفسها تفتقر إلى آليات انتخاب حقيقية وشفافة، كما أنها ليست قائمة على معايير العلم أو الأعلمية والاختصاص الذي يتحدث عنه الرفاعي (فالوعّاظ والقصّاص ليسوا من أهل العلم المعتبر)، وهذا من شأنه أن يؤثر في طبيعة الفتاوى الصادرة عن هذه المجالس، التي ستؤثر على المفتي الجديد في ما بعد أيضًا، لأنها ستكون توفيقية بين هذه المكونات جميعًا (السلفي والإخواني والتقليدي الصوفي والفردي).

وتجنّبًا لاختزال مسألة استقلال المفتي في وسيلة تسلّمه منصبه (انتخاب أو تعيين)، لا بد من أن نميز بين نوعين من الشرعية التي يتطلبها منصب المفتي -من حيث المبدأ- في ظل دولة ما بعد الاستعمار:

    شرعية قانونية تتصل بكونه جزءًا من جهاز الدولة، وفي بعض الأحيان هو تابع لوزارة الحقانية (العدل) كما في مصر، أو لوزارة الأوقاف كما في سوريا بعد مرسوم 2018، وثمة نماذج أخرى، خصوصًا لو رجعنا إلى زمن مبكر في عهد العثمانيين الذين تطور منصب المفتي (شيخ الإسلام) في زمنهم.

    شرعية علمية تتمثل في كفاءته وقبوله داخل الجماعة العلمية (محليًّا ودوليًّا) بوصفه فقيهًا؛ وهذه إنما يحظى بها الشخص بشرطي التخصص الدقيق (في الفقه)، والإنتاج العلمي (scholarship)، إلى جانب القبول الشعبي الذي إنما يحصّله بممارسة الفتوى والإسهام في حل المشكلات وتقديم الاجتهادات في النوازل (فرض الشيخ يوسف القرضاوي مثلًا نفسه على شرائح واسعة من الناس في العقود الأخيرة رغم أنه لم يملك أي منصب رسمي).

لا تتوفر هذه الاعتبارات للمجلس الإسلامي السوري؛ خصوصًا إذا ما نظرنا إلى الفتاوى التي قدمها مجلس الإفتاء التابع له منذ إنشائه في 2017 حتى الآن، التي أثار بعضها الجدل الواسع مثل فتوى القتل بدافع الشرف التي أوضحتُ في مقالات سابقة أن المجلس خالف فيها التقليد الفقهي المذهبي نفسه، وفتوى الزواج بالكتابية في أوروبا. نعم يحظى المجلس السوري بنفوذ على نطاق جغرافي محدود (خاصة في الشمال السوري حيث القوى الفاعلة فيه على الأرض ممثَّلة في المجلس).

يواجه المفتي الجديد -في الواقع- تحديات عديدة، لعل أبرزها مسألتان:

الأولى: التوليفة السابقة التي حملته إلى منصب الإفتاء، فالتباين بين توجهات أعضاء المجلس السوري سيعقّد مهمة المفتي كما حدث في مجلس الإفتاء التابع للمجلس السوري وبعض فتاويه المثيرة للجدل. وحتى يصحّح الثغرات التي اعترت عملية انتخابه لا بد من ترتيب قانون شفاف للانتخاب بحيث تكون هناك هيئة علمائية (لا مجموعة مشايخ ووعاظ)، وفق المعايير المعتبرة في التقليد العلمي بعيدًا عن الشللية والجماعات الحزبية، ومن دون ذلك ستبقى ثمة أزمة شرعية وستبقى تسمية “مفتي الجمهورية” مفتقرة إلى الإطارين القانوني والشرعي.

الثانية: طبيعته الشخصية المحافظة، والسمة التوافقية الغالبة عليه التي تحول دون اتخاذ مواقف حاسمة ومبدئية أحيانًا، وهو ما يترك تأثيرات سلبية في الساحة العامة خصوصًا بعد تسميته “مفتي الجمهورية” وهو أمر يختلف عن وضعه السابق، وسيفرض عليه أن يعيد النظر في كيفية إدارته للعلاقة مع جماعته والمجلس السوري ورابطة علماء الشام والهيئات السياسية السورية المعارضة، وهو قد بات يرأس عددًا من هذه الكيانات وهذا أمرٌ محل إشكال ويقوم على تضارب المصالح.

يمكن للسمة التوافقية لدى الشيخ أن تفسر لماذا كان محل إجماع بين أصحاب التوجهات السلفية والإخوانية والتقليدية والأفراد المستقلين في المجلس الذي انتخبه، وهذا إن فُهم على أنه شيء إيجابي، فإنه يليق بالسياسيين لا بالمفتين، كما أن هذا التوافق له استحقاقات ستضطره إلى مداراتها حتى لا يخسر التوافق. وبفضل هذه السمة يندر أن تجد للرفاعي موقفًا واضحًا من السلفية الجهادية مثلًا أو أي مكون من المكونات السياسية القائمة، كما أنه لزم الصمت تجاه قضية المختطفين من التنظيمات المدنية غير الإسلامية في الغوطة مثلًا، وتجاه قضية محاولة إبعاد بعض السوريين من تركيا، بل إن المجلس السوري برئاسته وبعد تسميته مفتيًا جارى الحملة الشعبوية على معدّي مقرر تعليمي للأطفال، لمجرد أنه يحتوي على “رسوم توضيحية” عُدّت “جريمة” و”خطأ جسيمًا”؛ رغم أن أصحابها سحبوا المقرر واعتذروا عن الخطأ الذي يحتمل التأويل، علمًا بأن المشرف على المقرر كان عضوًا في المجلس السوري وفُصل لاعتبارات قيل إنها مما يتصل بالمحاصصة.

لا يسع المفتي أن يصمت أمام مثل هذا الجدل الذي أثارته الرسوم التي قادت بعضهم إلى التكفير وقادت آخرين إلى رفع دعوى قضائية ضد معدّي المقرر في مناطق نفوذ المجلس والمفتي، وبتهم تشبه تهم نظام الأسد مثل ازدراء الأديان وإهانة المقدسات، وهذا من شأنه أن يثير التساؤل عن كيفية إدارة العلاقة بين المجلس السوري ومجلس الإفتاء ومنصب المفتي، فضلًا عن أنه يتعين على المفتي أن يتنحّى عن رئاسة المجلس الذي انتخبه، حفاظًا على استقلاليته من جهة، ومنعًا لتضارب المصالح من جهة أخرى، ومنعًا لتجميع النفوذ في يد شخص واحد من جهة ثالثة مع كثرة المناصب التي يتولاها!

بل إن الرفاعي التوافقي شنّ هجومًا -عبر سلسلة خطب في دمشق قبل الثورة- على الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني ورموز الإصلاحية الإسلامية واتهمهم بالماسونية، كما انتقد التوجهات الأممية الخاصة بالمرأة والجندر، ويبدو أن مشكلة الشيخ هي مع الانفتاح، سواء كان في صيغة إصلاحية إسلامية أم في صيغة تشريعات أممية، فالرفاعي يمثل التيار التقليدي المحافظ (اجتماعيًّا وفكريًّا)، وهذه المحافظة لا تعكس الفقه الإسلامي، لأن الفقه في أحيان كثيرة أشد رحابة من تصورات الرفاعي الضيقة الأقرب إلى الوعظ والتصورات الشعبية، ومن ثم لا يبدو أن لديه مشكلة مع الأشد محافظة منه على خلاف التوجهات الانفتاحية.

معتز الخطيب

استاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة

 ————————————–

النظام السوري يفتح منابره لمهاجمة الإسلام/ وليد بركسية

فتح النظام السوري منابره لمهاجمة الإسلام، محاولاً ربما إبعاد صفة الإسلاموية عن الدولة أمام جمهوره من الطوائف والأديان الأخرى، بما في ذلك تيار العلمانيين، عبر لقاء مع المفكر في تاريخ الأديان فراس السواح الذي يبدو، في الشكل وكأنه يقدم للمرة الأولى، على الشاشة الرسمية، تفكيكاً للإسلام بوصفه جزءاً من التاريخ، وليس ديناً يتحلى بالقدسية ويشكل أزمة عالمية معاصرة، حسب تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عطفاً على الانغلاق الذي تعيشه المجتمعات المسلمة ويحوّل النصوص المقدسة إلى منبع للتطرف والكراهية والإرهاب.

السواح (80 عاماً) الذي احتجب إلى حد كبير عن اللقاءات الإعلامية والتصريحات طوال عشر سنوات تقريباً، بعد موقفه الضبابي من الثورة السورية ووصمها بالإسلاموية منذ أيامها السلمية الأولى، وإغلاقه صفحته الشخصية في “فايسبوك” حينها، ظهر في لقاء مع قناة “الإخبارية السورية”، مجّد فيها النظام السوري و”انتصاره على الإرهاب” وهاجم الدول الغربية، كما هو متوقع، وتحدث عن ضرورة التحالف مع الصين التي أقام فيها سابقاً لسنوات، وغيرها من التصريحات السياسية. لكن تصريحاته عن النبي محمد، وحوادث مشكوك في صحتها كالإسراء والمعراج، وقدسية القرآن مقابل عدم قدسية الأحاديث النبوية وغيرها، كانت لافتة للانتباه. فرغم أنها ليس مواقف جديدة أو كافية للقول أنها تشكل خرقاً في دراسة النصوص الإسلامية بطريقة منهجية علمية، فإنها تبقى جديدة بالنسبة للإعلام السوري.

ولا يمكن فهم اللقاء بعيداً من المشهد الأوسع في البلاد، وتحديداً بعد إقالة مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون، وإلغاء منصبه وإعطاء صلاحياته للمجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، قبل أسابيع، والغضب الشعبي الذي واجهه النظام من موالين رأوا أن وزارة الأوقاف برئاسة الوزير محمد عبد الستار السيد تحظى بنفوذ هائل في البلاد التي باتت شديدة الأسلمة مقارنة مع الوهم السابق بأن سوريا الأسد دولة علمانية، والذي تهاوى تدريجياً في السنوات الأخيرة مع القرارات التي أصدرها رئيس النظام بشار الأسد، وسمح فيها للوزارة بتشكيل فرق دينية شبابية بشكل مخالف للدستور والحق في الرقابة على وزارات الإعلام والتربية والتعليم العالي، فضلاً عن نيل تيار “القبيسيات” الديني الرضا الرسمي أخيراً، في وقت بات فيه الأسد شخصياً يلتقي دورياً مع رجال الدين ويلقي خطابات وطنية داخل المساجد.

وفيما لم تكن سوريا دولة دينية بالكامل، على غرار السعودية وإيران، فإنها أيضاً لم تكن دولة علمانية بالكامل مثلما تكرر البروباغندا الرسمية. فالدستور السوري يحدد الفقه الإسلامي مرجعاً رئيسياً للتشريع، ويحدد دين الرئيس بالإسلام، بالإضافة إلى وجود الطائفية الدينية ضمن قانون الأحوال الشخصية المخجل. وكانت هوية الدولة بالتالي، طريقة النظام في مخاطبة الجمهور المحلي أولاً، والدول الغربية ثانياً، عبر تصدير نفسه كحامٍ للأقليات في شرق المتوسط أو كحارس للبوابة عبر حماية الغرب من التطرف الإسلامي.

ولكي يكتمل الانفصام الرسمي المعتاد، بثت قناة “الفضائية السورية” لقاء مع وزير الأوقاف، بالتوازي مع لقاء السواح عبر “الإخبارية”، تحدث فيه عن إسلامية الدولة السورية من جهة وكيف كان إلغاء منصب المفتي تصحيحاً لخطأ تاريخي اقترفه “الاحتلال العثماني التركي” لسوريا قبل قرون من الزمن. وبالطبع فإن ذلك اللقاء كان مخاطبة لجمهور المحافظين داخل البلاد، الذين لن يتقبلوا تصريحات كتلك التي يدلي بها السواح، أو الذين سيشعرون بالخوف والغضب من فكرة انتقاد الإسلام عبر الشاشة الرسمية.

لكن المشترك بين اللقائين، على اختلافهما، هو الاتفاق على أن النسخة السورية من الإسلام هي التي تمثل الإسلام الصحيح. فرغم الصدمة الأولى التي قد يشعر بها المتدينون عند سماع ما يقوله السواح من انتقادات للتاريخ الإسلامي، والتي عبّروا عنها في مواقع التواصل، فإن تلك الانتقادات تبقى بعيدة من العمق اللازم للتفاعل مع الكلام عن سياق تاريخي لتحليل الإسلام ضمن منهجية أكاديمية. ويمكن الدلالة على ذلك في حديث السواح عن أن قبيلة قريش لم تكن قبيلة عربية، بل كانت قبيلة سورية هاجرت إلى مكة، وأن الإسلام بالتالي كان ديناً سورياً.

مشكلة حديث السواح من ناحية دينية وبحثية، أنه لا ينزع القدسية عن كامل النصوص الإسلامية، ولا يدعو لمراجعتها بالكامل باعتبارها منبعاً للتطرف، فهو يعطي القدسية للقرآن على حساب الأحاديث النبوية لا أكثر. ويتقاطع ذلك مع دعوات الوزير السيد نفسه، لمراجعة الخطاب الديني التقليدي، بوصفه وهابياً على سبيل المثال. وبالتالي فإن ما يصدر عن السواح يبقى ضمن المسموح به، ولا يصل إلى حد ازدراء الأديان أو الإلحاد، على سبيل المثال، وهي جرائم يعاقب عليها القانون السوري “العلماني”.

وهكذا، يتم تصدير أسماء كالسواح، على أنها ناقدة وعلمانية وجريئة، لكن ما تقدمه يصب في مصلحة خطاب السلطة وإعادة تدويره. ولا يختلف المشهد بين تونس أو السعودية أو مصر، لكنه يبقى أوضح بكثير في سوريا الأسد، عطفاً على الطبيعة الديكتاتورية الفاقعة للنظام طوال خمسة عقود. كما أن ما يقدمه الأفراد أنفسهم في مواقع التواصل، وما توفره التكنولوجيا لهم من إمكانية وصول إلى المعلومات، يجعل ما يقدمه أولئك المثقفون هزيلاً وضحلاً ومضحكاً في آن معاً.

لعل الأبحاث والدراسات العربية العلمية/اللادينية عن تاريخ الإسلام، ليست متوافرة بالقدر والكمّ الذي يستدعيه هذا الموضوع الحيوي والجذري في المجتمعات العربية. والرصين المحكم منها، ليس “شعبياً”، يتطلب نبشاً وسعياً للحصول عليه من قبل المهتمين، وغالباً ما يكون ممنوعاً أو خاضعاً للرقابة ناهيك عن اضطهاد الضالعين فيه. أما الدراسات الغربية، فتُهاجَم من زاوية “عداء الغرب للإسلام والعرب”، أو تغيّبها السلطات في الدول الإسلامية، ومن بينها سوريا، ما يمهد لمشكلة تصريحات السواح من الناحية السياسية، حيث السلطة مشكلة في حد ذاتها لأنها ترعى التطرف الإسلامي وتدّعي محاربته في الوقت نفسه. ويصبح تمثيلها للإسلام وحمايتها للقيم المحافظة، المدخل الوحيد لنيل الشرعية أمام الشعوب المحافظة.

المدن

———————

وزير الأوقاف السوري: إلغاء منصب المفتي تصحيح لـ”خطأ تاريخي

في أول تصريح له حول قضية إلغاء منصب المفتي في سوريا، قال وزير الأوقاف السوري محمد عبد الستار السيد، أن المنصب المفتي أحدث سياسياً من قبل “الاحتلال العثماني التركي” وأنه تصحيح لـ”خطأ تاريخي”.

وفي مقابلة مع التلفزيون الرسمي اعتبر السيد أن منصب المفتي، الذي شغله أحمد بدر الدين حسون لسنوات، منافٍ لمقاس التشريع وحقيقته، كما أشاد بتوسيع صلاحيات “المجلس العلمي الفقهي”، معتبراً تحويل الفتوى من حالة فردية إلى جماعية أكبر عملية إصلاح تتم في الجانب الديني.

وبحسب السيد، فإن منصب المفتي أحدثه السلطان العثماني سليم الأول، عندما دخل إلى البلاد، وأنه لم يكن موجوداً في كل تاريخ وعهود الإسلام، لأنه مناف لمقاس التشريع وحقيقته، وأن إلغاءه تصحيح لـ”خطأ تاريخي” استمر 600 عام أو أكثر من قبل العثمانيين. وحمَّل الوزير صاحب النفوذ الهائل في البلاد خلال السنوات العشر الماضية، مسؤولية مقتل ضباط وجنود وعلماء دين سوريين كسعيد رمضان البوطي وعدنان أفيوني لفتوى فردية من يوسف القرضاوي، مضيفاً أن الفتاوى “الشاذة والتكفيرية والوهابية والإخوانية” هي دائماً فتاوى فردية.

وبالطبع فإن محاولة امتلاك النسخة الصحيحة من الإسلام واحتكار الصوت الإسلامي بما في ذلك ضمن مجال الإفتاء، هو مجال تتنافس فيه دول الشرق الأوسط، من أجل إعطاء نفسها الشرعية أمام الشعوب التي تحكمها أولاً ومن أجل الحصول على نفوذ داخل الدول الإقليمية أيضاً، ولا يختلف الأمر بين سوريا أو مصر أو دول الخليج وحتى تركيا في هذا المجال، مع الإشارة إلى أن النظام السوري يقدم نفسه في هذا المجال على أنه “دولة علمانية”، رغم أن النظام نفسه يبقى شديد الطائفية، ويحدد دين الرئيس في الدستور بالإسلام حصراً فضلاً عن تصريحات متتابعة لرئيس النظام بشار الأسد في السنوات الأخيرة أمام رجال الدين المحليين، بأن سوريا هي “دولة إسلامية” حصراً.

وبدأت أزمة المفتي حسون الشهر الماضي في جنازة المغني صباح فخري، عندما قدم تفسيراً جديداً لسورة التين في القرآن، اعتبر فيها أن سوريا مذكورة في القرأن ضمن هجومه على اللاجئين الذين هربوا من بطش النظام إلى الخارج. وكان ذلك فرصة اغتنمتها “القيادة الحكيمة” من أجل مأسسة المؤسسة الدينية وإبعادها عن شخص المفتي نفسه، وحصر ذلك بالمجلس العلمي الفقهي الذي يمثل كافة الطوائف في البلاد ضمن وزارة الأوقاف.

ويعتبر المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف تجمعاً لرجال الدين، ويعتمد على مرجعية فكر “علماء بلاد الشام” بدلاً من الدول الأخرى، ويضم شيوخاً من كافة المذاهب الإسلامية وممثلين من الطوائف المسيحية يسميهم البطاركة ويدعو إلى نبذ التعصب والطائفية. وتشكّل المجلس العلمي الفقهي بموجب المادة الخامسة من القانون 31 للعام 2018 ويرأسه وزير الأوقاف شخصياً.

وينص القانون 31 الذي أصدره الأسد بدلاً عن قانون سابق يعود للعام 1961، على تحديد فترة ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، بناءً على مقترح وزير الأوقاف. وفي السابق كان الرئيس هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته، علماً أن حسون يشغل منصب مفتي سوريا منذ العام 2004. وكان طوال سنوات الثورة السورية واحداً من أبرز الأصوات التي تضخ البروباغندا لصالح النظام وبدا في مناسبات كثيرة أقرب إلى ناطق باسم النظام مقابل كونه رجل دين على غرار الوزير السيد.

————————————–

==========================

تحديث 06 كانون ألول 2021

————————–

مفتي سورية أم مفتي المسلمين السوريين؟/ محمد ديبو

إقالة النظام في دمشق المفتي أحمد بدر الدين حسون من موقعه، والسجال الذي جرى حولها بين السوريين، وتعيين المجلس الإسلامي السوري الشيخ سارية الرفاعي مفتيا لسورية، في رد فعل على إلغاء النظام منصب المفتي، تثير التفكير في عدد من النقاط التي تنوي هذه المقالة نقاشها.

أولا: نظرا إلى سلوك المفتي حسّون وتصريحاته، خلال الثورة وقبلها، من المفترض أن تكون إقالة الرجل وإزاحته عن المشهد مصدر راحة لمسلمين سوريين كثيرين مثّلهم حسون عبر مصادرته هذا المنصب، من دون أن يأخذ برأيهم أحد وبدعم من السلطة المستبدّة، فأقوال الرجل وتصريحاته منذ بدأ يُقدّم إلى المشهد السوري العام لم تكن تسيء لنظام الأسد بقدر ما تسيء لموقع المفتي، عبر تجيير الإسلام ومؤسساته، لجعله، لا في خدمة السلطة المستبدّة فحسب، بل أيضا للتغطية وشرعنة المجازر والاعتقال والتهجير، وهو أمر من المجحف نسبه لأي دين. ومن هذا الباب، تصبّ إقالة حسون أولا في خدمة من يمثلهم منصب المفتي الذي أساء له هذا الرجل إساءات كثيرة ومتتالية سنوات.

ثانيا: كان احتجاج بعضهم، ليس على إقالة حسّون الذي لم يحزن على رحيله كثيرون، بل على إلغاء منصب المفتي من أساسه، بما يحتل من رمزية دينية وتاريخية للمسلمين السوريين السنة. وهذا احتجاجٌ محقّ. ولكن يجب الانتباه إلى عدة نقاط مهمة تتعلق بهذه المسألة، منها أن مركز المفتي طالما كان منصبا تتداخل فيه السياسة بالدين، حيث سعت السلطات السياسية، على اختلاف أنواعها، إلى أن يكون منصب المفتي قريبا منها بهذا القدر أو ذاك. وليس في سورية، بل في العالم العربي بأسره، وربما الإسلامي أيضا، مؤسسة دينية قادرة على إدارة شؤونها الدينية بمعزل عن التدخل السياسي أو الرضى السياسي عنها. تهدف السلطة المستبدّة من ذلك إلى منع تحوّل الدين إلى سلاح ضدها، وإلى تحويله إلى سلاح بيدها ضد الشعب الذي تحكمه. وهنا يلعب رجال دين أدوارهم ككومبارس للسلطة، سواء عبر تجميل صورتها القبيحة أو عبر الصمت على جرائمها، فإن مجرّد وجود هؤلاء إلى جانب الدكتاتور في الاحتفالات الدينية أو غيرها يمنح الاستبداد شرعيته، ما يعني، في نهاية المطاف، أن المؤسسات الدينية في ظل غياب الدولة الديمقراطية وحياد الدين عن الدولة هي مجرّد أدوات في يد السلطة، بل إن السلطة تتحكّم بها، وتنظر إليها واحدا من الحقول الذي يعمل رجال الأمن على هندسته وإدارته. هو بالنسبة لها حقل مثل حقول الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والرياضية أو غيرها من الحقول المؤثرة، تعمل على إدارته وفق مصالحها وسياساتها. تدعم هذا فترة ثم تنقلب عليه، تؤلّب هذا على ذاك، تدعم مؤسّسة الأوقاف على حساب منصب المفتي لتحقيق مصلحة ما، وحين تتحقق تعمل العكس لمصلحة جديدة، ولا تتورّع عن استحداث مؤسسات دينية جديدة، تقدّم لها الدعم على حساب المؤسسات التقليدية حين تقتضي مصلحتها ذلك. وهذا ما يحصل في سورية اليوم، إذ يدرك نظام الاستبداد أنه، خلال السنوات العشر الماضية، خسر دعم كثير من شرائح المسلمين السنة، ولذا يعمل اليوم على إعادة بناء شرعيته بينهم، وهو يدرك جيدا أن وجوها، مثل حسّون وغيره ممن احترقوا شعبيا وتحديدا عند السنة السوريين، لا يمكن أن يخدموا سياسته الجديدة، ولذا يعمل اليوم على إعادة هندسة الحقل الديني السني وفق ما تقتضي مصالحه. ويفعل الأمر نفسه مع الأديان والطوائف الأخرى، وأيضا مع الحقول الأخرى، أي أنه يعمل (بالتوازي مع العمل الحثيث الجاري في الإقليم اليوم لإعادة التطبيع مع النظام السوري وتعويم الأسد) على إبراز صورةٍ جديدةٍ له تجمّل القبيح الذي ارتكبه أو تغطّي عليه. وبالتالي، فإن غياب مؤسسة الإفتاء، من هذه الناحية، لن يؤخر أو يقدم بشيء، لأن المؤسسات الدينية الجديدة التي صنعها النظام ستقوم بالمهمة نفسها التي كانت تقوم بها تلك المؤسسة، عبر تجيير الدين وجعله في خدمة السلطة. وبالتالي ليس لأحد أن يحزن في هذا السياق، لأن الدور الذي كانت تقوم به مؤسسة الإفتاء عمليا في ظل نظام الاستبداد ستستأنفه المؤسسات الجديدة التي تم إنشاؤها لهذا الغرض.

ومن جهة أخرى، وكون مؤسسة الإفتاء دينية في نهاية المطاف، فهي (مثل أي مؤسسة) تنتج، مع الزمن، مصالحها الخاصة بها، وصراعاتها البينية مع المؤسسات الدينية الأخرى وداخل المجتمع الدي تعمل عليه. وبالتالي، تبقى هذه المؤسسة، وأية مؤسسة أخرى، عرضة لتجاذب المصالح، بما يسيء، في نهاية المطاف، لموقع الدين نفسه، باعتباره دينا ينأى بنفسه عن المصالح والصراعات الدنيوية لصالح العامل الروحي الذي يجعل علاقة الإنسان مع الله أكثر غنىً وسموا وفردية وتحرّرا.

ثالثا: كما تتطوّر كل الحقول الاجتماعية الثقافية، تتغيّر من زمن إلى آخر طبيعة علاقة الفرد مع المؤسسة الدينية وطريقة علاقة الفرد مع الله وشكل التدين، فإيمان المسلم أو المسيحي أو اليهودي (أو أي دين آخر) وعلاقته مع الله من جهة ومع المؤسسات الدينية القائمة من جهة أخرى في هذا العصر هي غيرها في عصر سابق، وستكون غيرها في عصر لاحق، فمعنى الدين، في أذهان البشر وتمثلاته في سلوكهم اليومي تختلف من عصر إلى عصر. وعليه يكون السؤال اليوم: هل يحتاج المسلمون السوريون اليوم إلى مؤسسة إفتاء حقا؟ ما دور مؤسسة الإفتاء في القرن الواحد والعشرين؟ ما علاقة هذه المؤسسة مع الدولة والسلطة من جهة وعموم المسلمين من جهة أخرى؟ أي مسلمين تمثلهم هذه المؤسسة؟ هل تمثل كل المسلمين السوريين أم بعضهم؟ كيف يُنتخب أعضاء هذه المؤسسة؟ أي دور تؤدّيه في الدولة الديمقراطية لاحقا؟

هذه أسئلة كثيرة، ينبغي طرحها عبر مساءلة المسلّمات التي قامت عليها المؤسسات الدينية كافة (وهذا جزء من الأسئلة التي طرحتها الثورات في الجوهر، وهي الأسئلة المطروحة اليوم على كل الحقول الأخرى، السياسية والدينية والاجتماعية والجنسية والبيئية والاقتصادية والنسوية ..). والأهم تحديد المعنيين بهذه المؤسسة بعيدا عن التعميمات الشمولية، فالمفتي السوري أولا هو مفتي المسلمين السوريين، وليس مفتي سورية، لأن سورية ليست كلها إسلامية، بل هي ذات أديان وطوائف متعدّدة. وبالتالي القول إن المفتي هو مفتي سورية هو كلام مُسقَط من فوق، ليجعل من جميع السوريين بحاجة إلى سلطة الإفتاء تلك، في حين أن المفتي هو مفتي المسلمين السوريين السنة، وفقط الذين يقبلون بسلطة الإفتاء تلك، لأن ليس جميع المسلمين السنة في سورية قابلين بتلك السلطة أيضا، فداخل الطيف السني السوري إسلامات متعدّدة، منها ما قد يقبل بسلطة الإفتاء، ومنها ما قد لا يقبل بها، ومن يعتبر أنه ليس في حاجة لها، لأنه يستطيع أن يقيم علاقة مباشرة مع السماء من دون الحاجة لها، أو ربما له مؤسسة أخرى أو سلطة أخرى، وهذا ينطبق على جميع الأديان والطوائف الأخرى بطبيعة الحال. من دون أن يعني هذا الكلام إلغاء مؤسسة الإفتاء، بل طالما هناك من يرى أن هذه المؤسسة أو غيرها تمثله، وأنه بحاجة لها روحيا ودينيا، فهذا حقّ له يجب أن يصان ويحترم، كما يجب أن تُحترم حقوق الآخرين وتوجهاتهم الدينية، وبشرط ألا يفرض أحد وصايته الدينية على أحد، أو يقول إنه يمثل الكل أو يعبّر عن الكل، فكل جهة تعبّر عن نفسها، وعن مجموع الأفراد المؤمنين بها وبدورها فقط لا غير. وليس لأي جهةٍ أن تحدّد وحدها هوية سورية، ومن دون أن يعني هذا مصادرة حقها في قول قولها عن رؤيتها إلى هوية سورية، وهي الرؤية التي يتفق الآخرون معها أو يرفضونها.

رابعا: لم تكن سنوات الربيع العربي سنوات تعرية لقبح الاستبداد العربي وعهره فحسب، بل كانت تعرية للحقول كافة، الديني والثقافي والاجتماعي ..، إذ بات واضحا في كلٍّ حقل من وقف مع الاستبداد ومن وقف مع مطالب الشعوب العربية العادلة. ولم يكن الحقل الديني استثناء في هذه المسألة، حيث تبيّن مدى اختراق الاستبداد المؤسسات الدينية في العالم العربي، إذ تكاد تكون لكل نظام عربي مؤسساته وأبواقه الدينية التي تشرعن سياسته وتجمّل استبداده، الأمر الذي يطرح مسألة العلاقة بين الدين والسلطة على نطاق البحث، ليس في الراهن الحالي، الآن وحسب، بل أيضا على امتداد التاريخ الإسلامي، وهذا أمر ينبغي أن يقوم به المسلمون وأنصار الأديان أنفسهم قبل أي أحد آخر، عبر رفع الغطاء الديني عن هؤلاء، لأن هؤلاء مجرّد أدوات وبيادق في يد الاستبداد، مثلما هي الجيوش والجنرالات ورجال الأمن والمخبرون، فهؤلاء يشوّهون الدين ويجيّرونه لخدمة المستبد، وفضحهم هو أولوية دينية قبل أن تكون ثقافية أو ثورية. والإشكال الذي تقودنا إليه هذه المسألة أن بيادق السلطات هؤلاء قد أقدموا، على امتداد التاريخ، على سنّ الفتاوى التي كتبت أساسا بهدف خدمة السلطان، ولكن هذه الفتاوى تحوّلت، مع الزمن، إلى جزء من المدوّنة الفقهية التي لا يطاولها النقد، وأصبح مسلمون كثيرون يتعاملون معها كمقدّس، الأمر الذي يتطلب إعادة قراءة معرفية نقدية لكامل هذه المدونات الفقهية، ولتاريخ العلاقة بين المؤسسات الدينية والسلطة. وعلى ضوء ذلك، يتم مراجعة ونقد الكم الهائل من الفتاوى والنصوص الذي دخلت المدونة التراثية الإسلامية من هذا الباب، وتحوّلت، مع الزمن، إلى نصوص مقدّسة لا يطاولها الشك أو النقد.

النقطة الثانية التي ينبغي الانتباه لها، في هذا الصدد، أن كثيرين من رجال الدين (وهذا ينطبق على حقول السياسة والثقافة) الذين كانت لهم مواقف مشرّفة ضد الاستبداد احتفظوا، في الوقت ذاته، برؤيتهم المعرفية النكوصية تجاه الثورة، من دون أن يكون وعيهم في العمق متماهيا مع الثورة ومفردات الزمن الجديد في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ونقد المقدسات بأشكالها كافة (والدينية منها)، إذ يريد كثيرون منهم إطاحة النظام سياسيا، والإبقاء على المنظومة المعرفية الدينية التي حملته كما هي، غير مدركين أن النظم لا تستمر من دون أن تكون لها حوامل ثقافية ومعرفية ودينية. وهنا لا يصب جهدهم هذا إلا باستبدال مستبدٍّ بمستبدٍّ آخر، بعيدا عن العمل أو القبول بدمقرطة العلاقات التحتية للمجتمع، عبر الاعتراف بالتعدّدية الدينية والثقافية والإثنية والحريات الفردية والزواج المدني، بعيدا عن أي وصايات دينية أو قومية أو سياسية. ومن هنا، قد يكون سعي المجلس الإسلامي السوري إلى تعيين مفت جديد من هذا الباب، حيث يتصارع الطرفان على احتكار تمثيل الإسلام أو المسلمين السنة، كل منهم يقول “أنا الإسلام”، والخاسر الوحيد من هذا الصراع هو الإسلام نفسه، من دون أن يسمح أي منهما للنقد أن يصل إلى جذوره المعرفية المؤسّسة للمنظومة الفكرية التي يحكم ويفكر من خلالها هؤلاء.

العربي الجديد

———————————

لماذا يحرص المستبدّ على إهانة العمائم الموالية له؛ إلغاء منصب الإفتاء نموذجًا؟/ محمد خير موسى

إنّ البلاد المحكومة بالطغيان لا تحتمل في ربوعها كلَّ واسعِ القلبِ، بعيدِ الأفق، ممتدّ التَّأثير، صلبِ المراسِ، ومن يدخل قلوب النّاس دونما استئذان، ويمتلكُ جرأة الاعتذار، وشجاعة المراجعة، والقدرة على قول لا، وثقافة التآخي الحقيقي.

إنَّ هؤلاء لا يروقون للطّاغية لا في منهجهم ولا في سلوكهم وتوجّهاتهم ولا حتى في صمتهم.

    العمائم الوظيفيّة وتأليه المستبدّ

إنَّ الوجه الحقيقيّ للطغيان يقتضي قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك “وكلّه بما يُرضي الله طبعًا”.

لذلك يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورًا وبهتانًا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة.

 وهذا من مقتضيات تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به إخضاع العبيد لخالقهم، ووسيلته إلى تحصيل ذلك، العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد إذ يقول:

“إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفةً قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضًا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ”.

وقد حرصَ المستبدُّ في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، وقامت العمائم الموالية له باعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرهًا تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك جعلت التشريع خادمًا للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفًا لتخدم المستبدّ في إجرامه وطغيانه!

 فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين.

والعمائم التي أفتت للسّيسي أن “يضرب في المليان” ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام، وكذلك العمائم التي تعلو أصواتُها تطبيلًا لجرائم بشّار الأسد؛ كلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.

ولقد كان أحمد حسّون أعلى هذه العمائم صوتًا في سوريا في تجميل جرائم النّظام السّوري وتسويغها وإلباسها ثوب الشريعة زورًا وبهتانًا خلال العقدين الأخيرين، ولكنّ كلّ هذا لم يشفع له لإخراجه من المشهد الديني بصورةٍ فيها ولو اليسير من الاحترام أو التقدير أو حتّى مكافأة نهاية الخدمة على استماتته في تجميل قبح النّظام باسم الله والإسلام.

لقد كان مرسوم إلغاء مقام الإفتاء إهانة لكلّ عمائم النّظام، فمن يعلم كيف يفكّر أبناء المدرسة الدّينيّة يعلم هذا جيدًا، فعندما كنت في سوريا كنت أسمع من كثير من هؤلاء المطبّلين اليوم لقرار بشّار الأسد تباكيهم بالأمس على أنّ الإفتاء أصبح بالتّعيين وأنّ الأصل فيه أن يرجع إلى الانتخاب كما كان من قبل.

هؤلاء يشعرون بالمهانة من إلغاء منصب الإفتاء من وجهين؛ الأوّل: أنّ النّظام لم يكترث لهم ولوجودهم في القرار الذي اتّخذه، والثّاني: أنّه لم يرَ في أيّ منهم من هو أهل ليكون في موقع التصدّر للفتيا، ومع ذلك فهم سادرون في التّسبيح بحمد النّظام الذي لا يترك فرصةً سانحةً إلّا ويوجّه لهم إهانةً بالغة.

    المستبدّ وردود الفعل

 إن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قدمًا في جريمته وتعطيه قوّةً دافعةً لمزيدٍ من التّصرفات التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ إلى فعلها.

فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عمومًا ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى.

 وخير وسيلةٍ لتعزير رعيّته عمومًا هيَ إهانة رموزهم وعلمائهم ومفكريهم، حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّرَ أحدُ من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:

“المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درًّا وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقًا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافًا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.

نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمةً لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه”.

غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلًا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك الذين قال الله تعالى فيهم: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”

بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها وتطلب منه مزيداً من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا العمائم التي جاءت وفودًا متتابعة إلى مكتب وزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد مهنّئةً بقرار بشّار الأسد إلغاء منصب الإفتاء إذ يقول:

“العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريمًا، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيمًا، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ”.

فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!

————————————-

==============================

تحديث 08 كانون الأول 2021

————————

ليس بالفتوى وحدها يحيا الإنسان/ علي العبدالله

منح قرار النظام السوري إلغاء منصب مفتي عام للدولة السورية المجلس الإسلامي السوري المعارض فرصة اختيار مفتٍ منه ممثّلا بشخص رئيسه، الشيخ أسامة الرفاعي، علما أن اختيار مفتٍ من المعارضة لا يشكل حلا لإلغاء منصب المفتي، حيث سينظر إلى العملية في ضوء الصراع على السلطة واغتنام الفرصة لتسجيل نقاط في هذا السياق. لا يشكّل ملء الفراغ بانتخاب مفت فرقا جوهريا بالنسبة للشعب السوري وصراعه مع الفساد والاستبداد، طالما بقي العقل الفقهي السائد في عالم المشيخة السورية والمؤسس على حفظ النصوص الدينية، قرآنا وحديثا، والمرويات التاريخية وتكرارها في مواجهة مشكلات العصر وقضاياه بتعقيدها الكبير، بتحوّلاتها وتطوراتها المتسارعة والعاصفة، قائما من دون مساءلة وتطوير وتغيير، فالحفظ والنقل ليسا أداتين مناسبتين لمواجهة قضايا العصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والقيمية، عدا عن أنهما يتعارضان مع توجيه القرآن الكريم بإعمال العقل والنظر في الكون والمجتمعات والتفكّر فيها واكتشاف بناها وأنساقها والسنن والنواميس التي تحكمها من أجل تعاملٍ مجدٍ معها وتوظيفها في إعمار الكون، الذي هو غاية وجود الإنسان، بالنمو والازدهار ونشر العدل والمساواة بين البشر، وفي حل المشكلات التي تواجهه. الجوهري في اللحظة الراهنة ليس الشكل، بل المضمون ومناهج البحث والعمل، وهو ما تفتقر إليه المشيخة السورية. ولنا في سلوك المفتي الجديد وأقواله مثالٌ صارخ على ما نقول؛ فقد تجاهل وضع اللاجئين، وغاب عن برنامج زيارته “الميمونة” إلى ريف محافظة حلب، وقد صوّرها مريدوه فتحا كبيرا، زيارتهم في مخيماتهم والتعاطف مع مأساتهم ومعاناتهم والتخفيف عنهم بمشاركتهم بالبقاء بينهم ولو ليوم واحد.

وهذا خير برهانٍ على السلوك النخبوي والطابع الوعظي الذي يعتمده مشايخ المجلس الموقر، فهم خير من يبحر في أحاديث مطوّلة مليئة بروايات عن مواقف السلف الصالح وأخلاقه من دون التفاتٍ إلى الزمن وما جرى خلال القرون الماضية من مآسٍ وكوارث والأوضاع البائسة التي ورثناها، والتي نعيش تحت وطأتها. وقد كشف فحوى كلمته خلال الزيارة عن مدى تهافته، فقد ضخّم من قيمة عملية الانتخاب، وجعلها قرينة للفاعلية والإنجاز. قال: “المفتي حينما يكون منتخباً من العلماء يبذل كل جهده لحفظ البلد من العبث في الدين والأحكام الشرعية ومن امتطاء هذه الأحكام من الحكّام”. وعن الاهتمام بقضية المعتقلين والمفقودين والمهجّرين، قال: “لا يكفي أن نتحسّر على وضع حال المعتقلين والمفقودين والمهجّرين، إنما لا بد من عمل ما يمكن لإنقاذهم، فهم ليسوا غرباء، وهو واجبٌ وليس تبرّعاً، وعلى القوي أن يأخذ بيد الضعيف، والغني يأخذ بيد الفقير”. وعن أهمية توحّد فصائل المعارضة، قال: “ما لم تتحّد صفوف الفصائل فلا نحلم بالنصر”. فالعلاقة بين عمل المفتي وطريقة اختياره بالانتخاب ليست سببية ولا آلية، فالعمدة في عمل المفتي شخص المفتي نفسه، وقدراته النظرية والعملية وبوصلته وبرنامجه وتأثيره على الرأي العام واستقطابه له وحالة المجتمع لجهة الحساسية القيمية والأخلاقية والاهتمام بالشأن العام، علما أن الانتخاب ليس تقليدا في اختيار المفتين منذ استحدثت هذه الوظيفة، وقد مرّ على البلاد الإسلامية مفتون مجتهدون وأحرار خدموا الدين والوطن، وقد عينهم السلاطين والحكام في المنصب، كما أن قدرته على منع الحكّام من امتطاء الأحكام ليست مرتبطةً بطريقة اختياره، بل بالحالة العامة في البلد: المجتمع أهو قوي ناهض أم ضعيف مستسلم، والرأي العام أهو نشط وواع ومستعد للتحرّك، دفاعا عن القيم والمصالح ولعب دور في التصدّي للحكام الجائرين والمنحرفين، أم مستقيلٌ ويبحث عن السلامة بالسلبية واللامبالاة.

يمكن القول إن وجود آلية لمحاسبة المفتي وعزله من مجلس رقابي من العلماء أكثر تأثيرا على عمله والتزامه بطبيعة مهمته من طريقة اختياره، كما يمكن أن تشكل دافعا له يدفعه إلى القيام بدور بناء في خدمة الدين والوطن. وهذا غير معهودٍ في عمل مشايخ الوعظ والإرشاد، ولم يتم التفكير به وبأهميته القصوى في اللحظة الراهنة وحساسياتها. أما تبريره للعمل من أجل إنقاذ المعتقلين والكشف عن المفقودين ومساعدة المهجّرين “لأنهم ليسوا غرباء”، فيكشف عن عقل عشائري يربط الموقف بالقرابة، وقوله “على القوي أن يأخذ بيد الضعيف والغني يأخذ بيد الفقير” فلازمة الرطانة المشيخية التي لم تشكل فرقا في سلوك المسلمين، على الرغم من القول بها منذ مئات السنين، لأن المسلمين يرون من مشايخهم، في حالاتٍ كثيرة عكس ما يقولون، باكتنازهم المال والعيش الرغيد والباذخ. وربطه بين وحدة الفصائل وتحقيق النصر ينمّ عن قصر نظر سياسي، حيث جاءت دعوته إلى وحدة الفصائل متأخرة جدا، فقد تكرّست الانقسامات في ضوء نشوء مصالح شخصية لقادة الفصائل، وارتباطهم بعلاقات تبعية مع قوى خارجية لتأمين الدعم لبقائهم قادة ومسيطرين على فصائلهم، ما جعل الوحدة مستحيلة؛ وإن حصل تحت الضغط فلن يستمر طويلا، ناهيك عن غضّه النظر عما تقوم به الفصائل من ممارسات: فساد وتنمّر واعتداء على المواطنين في مناطق سيطرتهم بإذلالهم ونهب أرزاقهم. وأما التلميح إلى حلم النصر، فينمّ عن جهل بقراءة توازنات القوى وتقدير الموقف واستشفاف التوجهات وتوظيفها في إدارة الصراع، لأن الموقف الراهن على الساحة لا يُسمح به بعد خروج القضية السورية من أيدي أصحابها، ووقوعها بأيدي القوى الإقليمية والدولية، حتى بات المأمول الآن ليس أكثر من خفض الكلفة والخسائر.

تتحمّل مشيخة الحفظ والنقل الجزء الأكبر من المسؤولية عن تخلف المجتمعات العربية والمسلمة ومعاناتها على كل الأصعدة، فانفصال هذه المشيخة عن العصر ومناهجه وآليات عمله، وبقاؤها تدور في فضاء أقوال واجتهادات قيلت منذ مئات السنين، وميلها إلى الاستحواذ، وقد تجلى ذلك بوضوح عند انتخاب أعضاء المجلس الإسلامي السوري مفتيا، واختيارهم رئيس المجلس للمنصب، وهذا على الضد من مستدعيات (وشروط) اختيار مفت عام، والتي تقضي بأن يكون المفتي للجميع، وعلى مسافة واحدة من الجميع؛ بحيث يعتبره الجميع مفتيهم، وأن يُكتفي بمنصبه في الإفتاء ويتفرّغ له. وهذا لم يتم في حالة الشيخ أسامة الرفاعي الذي بقي رئيسا لرابطة علماء الشام وللمجلس الإسلامي، وصاحب موقف سياسي منحاز لطرفٍ في الصراع، ما يجعله غير مقبول من الموالين للنظام وفتاواه غير معترف بها، فعقلية الحفظ والنقل رتّبت المراوحة في المكان والتخلف عن مسيرة العالم.

كان الأجدى بالمجلس العتيد ومشايخه النظر في المرآة، واكتشاف فواتهم وحاجتهم إلى إعادة تأهيل نظري وعملي، وتعميق ثقافتهم بعلوم العصر وتقنياته، وتغيير مناهج عملهم، المؤسّسة على الوعظ وإصدار الفتاوى، ومعارفهم وخبراتهم عن المجتمعات وسبل سياستها خارج ثنائية الشيخ والمريد، وتعاطيهم مع المشكلات باعتماد خططٍ مدروسة، والانخراط العملي المباشر مع الناس، لمساعدتهم على حل مشكلاتهم، وتسيير حياتهم وجعل تصرّفهم في مواجهتها أسهل وأنجع.

العربي الجديد

—————————-

عن علمانية نظام الأسد المزعومة/ مفيد نجم

قليلة هي الدراسة المقارِنة التي تناولت بالبحث والمقارَنة واقع التَّنوِير في المجتمع السوري بين المَراحِل التاريخية التي سبقت انقلابَ البعث عام 1963 وبين مرحلة ما بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970 التي شكَّلت تحولاً خطيراً في واقع هذا المجتمع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، سواء على صعيد هيمنة الدولة على الفضاء العامّ وهيمنة سلطة الأسد على الدولة والمجتمع والحزب.

 تكمن أهمية هذه الدراسات في أنها تفضح الطابع العلماني الذي حاولت دولة الأسد أن تدَّعيه بل وتكشف عن حالة النكوص التي بدأ يشهدها المجتمع على مستوى التنوير والحريات السياسية والاجتماعية والإعلامية، ما يشكل إدانة حقيقية لنظام كان همُّه -وما زال- تكريسَ سلطته من خلال القوة والتحالُفات التي يُنشئها مع الفئات الدينية والاقتصادية النافذة في المجتمع.

 ومن أجل إنجاح هذه السياسة عمل النظام على تحجيم دور الطبقة المتوسطة في سورية والتي قادت مشروع التنوير والتحديث في المجتمع سابقاً وصولاً إلى تغييبها وتغيب أي دور فاعل لها في المجتمع والحياة السورية، في الوقت الذي كان يعمل فيه على خلق صيغة جديدة من التحالفات المصلحية التي تقوم على ثنائيات ضدية كتحالف بعض رموز البُرجوازية السورية والسلطة السورية ذات الأصول الريفية المُعدمة أو تحالُف الدولة التي يقودها حزب يتبنى الأفكار العلمانية مع طبقة رجال الدين.

لذلك كان طبيعياً أن يؤدي هذا الواقع الجديد إلى تآكُل الطبقة الوسطى وتَغْيِيب دورها وأن ينعكس ذلك سلباً على واقع التنوير والتحديث في المجتمع السوري. من هنا فإن أي مقارنة بين مرحلة ما قبل انقلاب الأسد ومرحلة ما بعده سوف تفضح كل شعارات التقدم والحداثة والتطوير التي كان يرفعها لأن ما يحدث على أرض الواقع وفي مناحي الحياة السورية المختلفة يفضح هذا الزيف الذي أدمن النظامُ ممارستَهُ.

إن خطورة الدور الذي لعبته الأسدية على مستوى المجتمع والسلطة أنها حوَّلت الحزب والمنظمات الشعبية إلى أدوات لاحتواء المجتمع والسيطرة عليه كما فعلت ذلك تماماً مع طبقة رجال الدين والطبقة التجارية المُتحالِفة معها، لكنها جعلت جهة من هذه الجهات تمارس دَوْراً خاصاً بها لتحقيق هذا الهدف. وهكذا استطاع النظام من خلال هذه التعددية السيطرةَ على المجتمع والتحكُّمَ بكل مَفاصِله مُعتمِداً في ذلك على بِنْيته الأمنية التي كانت كُلفت بإدارة هذه اللعبة وضبط أدوارها والتحكم بآليات عملها، ما جعل هذه الأجهزة تمثل إلى جانب دورها القمعي رأس قمة الفساد في الدولة والمجتمع.

 لقد عمل النظام على إعادة ترتيب أوضاع المجتمع بالشكل الذي يحقق له السيطرة التامة عليه، ففي حين كان يسعى للقضاء على الطبقة الوسطى لجأ إلى عسكرة الجامعات من خلال فرض التدريب الجامعي على طلبتها نظراً للدور الخطير الذي يمكن لهم أن يلعبوه في الحياة السياسية التي عمل على احتوائها أولاً من خلال ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية أو عَبْر القمع والاعتقال المتواصليْنِ. لقد أدرك النظام أن هؤلاء الطلبة هم أكثر فئات المجتمع السوري حيويةً ووَعْياً وجُرأةً وهم الفئة التي خرجت في اليوم الأول لانقلابه بمظاهرة مُندِّدة به. حقيقةً لقد استفاد الأسد كثيراً من خبرة الأحزاب الشيوعية في عملية تَأْطِير المجتمع والسيطرة عليه سواء من خلال تنظيم طلائع البعث والشبيبة والطلبة والنقابات والاتحادات التي استخدم بعضها في الدفاع عن سلطته كما حدث في معركته مع تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.

وكما عمل النظام على بناء تحالُفات سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية تعزز سلطته لجأ إلى إقامة تحالُفات خارجية على الرغم من التناقُضات القائمة بينها سياسياً فقد ارتبط بعلاقات قوية مع الروس في الوقت الذي أعلن موافقته على القرار الدولي 224 وفاوض الإسرائيليين بصورة مباشرة عام 1974 وبصورة غير مباشرة عَبْر وزير الخارجية الأمريكية كيسنجر لفصل القوات، وكذلك الأمر قبل التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1975 وفي السنوات التي تلت ذلك أيضاً.

 ولم يكن تحالُفه مع نظام الخميني عام 1980 ضد العراق في الوقت الذي كان يقيم فيه علاقات قوية مع دول الخليج بعيداً عن ذلك.

إن قدرة النظام على الجمع بين هذه التناقضات والأدوار المختلفة هي التي أعطته المرونة الكافية للتعامل مع كل الظروف المستجدة التي كانت تحدث لا سيما أن القرار السياسي كان بيد الأسد فهو اللاعب الوحيد الذي كان يحتكر إدارة هذه اللعبة السياسية، ولم يكن الغرب يعنيه أكثر من وجود شخص يمكن التفاهم معه ويملك القدرة على تنفيذ هذه الاتفاقات كما في قضية فصل القوات على الجبهة السورية عام 1974.

إن مزاعم علمانية الدولة ومنجزات التحديث والتطوير التي حققها النظام يمكن فضحها ببساطة من خلال أي مقارنة بسيطة بين المرحلة التي سبقت حكمه وما تلاها وصولاً إلى مرحلة الوريث الابن سواء على المستوى الصناعي أو التعليمي أو الزراعي أو قضية الحريات الاجتماعية أو التنوير أو القوانين المدنية.

 حيث شهدت سورية نكوصاً واضحاً في هذه المجالات كافة، بعد أن أصبحت شخصية مثل الشيخ أحمد كفتارو والشيخ محمد رمضان البوطي توازي -إن لم تكن تتقدم على- شخصية الأمين المساعد للحزب وباتت شخصية مثل منيرة القبيسي تتفوق من حيث الأهمية على الاتحاد العامّ النسائي الذي جرى إلغاؤه، أو بالنسبة إلى رموز التنوير من كُتّاب ومفكرين في الوقت الذي كان تجري فيه تصفية الحركة السياسية والثقافية السورية وتحويل ما سُمي بالجبهة الوطنية إلى مجموعة من الدُّمَى التي لا يُهمها سوى الحفاظ على منافعها الشخصية والعائلية.

 ————————–

==================

تحديث 20 كانون الأول 2021

———————

الموقف من العلماء والدعاة الذين بقوا في مناطق سيطرة النظام/ محمد خير موسى

بعدَ أكثر من عشر سنواتٍ من المأساة السوريّة التي ذاق الشّعب السّوريّ فيها ما لم يذقه غيره من شعوب الأرض قتلًا وتشريدًا وتهجيرا وتدميرا واعتقالا ما يزال التّعاطي في المواقف من عموم الشرائح المجتمعيّة التي بقيت في المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام يشوبه كثير من الانفعال والضّبابيّة، ومن ذلك الموقف من شريحة العلماء الدّعاة الذين بقوا في تلكم المناطق.

نلحظُ أنّ شخصيّات العلماء والدّعاة السوريين عقب انطلاق الثّورة السّوريّة انقسموا إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أعلن معارضته للنّظام من الأيّام الأولى للثّورة وتحمّل مسؤوليّة ذلك فذاق التّهجير وغادر سوريا ليقيم في المنافي المجاورة في تركيا أو لبنان أو الأردن، أو ليستقرّ في مناطق سيطرة المعارضة فانتقل في الباصات الخضراء ليقيم في إدلب وريفها أو في مناطق السيطرة التركيّة في درع الفرات وغصن الزّيتون.

القسم الثّاني: تمّ اغتياله في محل إقامته أو قتله تحت التعذيب أو تغييبه في المعتقلات والسّجون مع مئات الآلاف من المُغيّبين ومجهولي المصير في معتقلات الأسد.

القسمُ الثّالث: بقي في مناطق سيطرة النّظام يمارس عمله الدّعوي والاجتماعيّ والمسجديّ.

وهذا القسم من العلماء والدّعاة الذين بقوا في مناطق سيطرة النّظام هم على فريقين اثنين:

الفريق الأوّل: فريقٌ باع نفسَه للنّظام جهارا نهارا فأعلن بلا مواربةٍ مساندته للنّظام في حربه على الشّعب المظلوم وأيّد جرائمه ومارس له التّشبيح القوليّ على المنابر وهاجم المتظاهرين أو الثّائرين في وجه النّظام وردد في نعتهم أوصاف النّظام لهم بأنّهم إرهابيّون أو مخربون أو عملاء ومجرمون أو غير ذلك من صفات الشتم والهجاء والتحقير؛ فهؤلاء علماء سلاطين يجب تحذير النّاس من فجورهم وفضح ضلالهم وتعرية باطلهم وإسقاط مكانتهم من أعين النّاس.

الفريق الثّاني: وهم العلماء والدّعاة الذين بقوا في مناطق النّظام غير أنّهم لم يعلنوا موقفا مؤيّدا للنّظام وإنّما لاذوا بالصّمت وحرصوا على عدم الظّهور جهد استطاعتهم في المناسبات التي يدعو فيها النّظام من وزارة الأوقاف وغيرها المشايخ والدّعاة والعلماء وهم يمارسون عملهم الدّعوي والاجتماعيّ والمسجديّ من خلال الخطابة أو التّدريس المسجدي أو الدّعوة في المناسبات والمحافل الاجتماعيّة المختلفة.

ومن نافلة القول إنّه ليس هناك فريق من العلماء والدّعاة المعارضين للنّظام في مناطق سيطرته ولا يمكن لأحدٍ من هؤلاء العلماء والدّعاة أن يعلن معارضته للنّظام في تلك المناطق دون أن يكون جزاؤه الاعتقال والتّغييب أو القتل والاغتيال.

ولعلّي هنا أقدّمُ رأياً في الموقف من العلماء والدّعاة الذين لم يغادروا بلادهم ومكثوا في ظلّ نظام الأسد ونشطوا في العمل الدّعويّ والشرعيّ؛ ولا سيما في ظلّ حالة الهجوم “الثّوريّ” على كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ بقي في مناطق النّظام بوصفه مواليا أو مؤيّدا أو شبّيحا؛ فإنّ حالة الهجوم من شريحة من الشّباب “الثّوريّ” على الجميع هي حالة غير صحيّة ‏وغير سويّة وغير سليمة وغير موضوعيّة.‏

إنّ مجرّد البقاء تحت سيطرة النّظام لا يعني تأييده أو النّفاق له، فالتّأييد أو النّفاق ‏هو سلوك عمليّ يطهرُ في الأقوال والأفعال، وإنَّ وجود ثلّة من العلماء والدّعاة في مناطق سيطرة الأنظمة القمعيّة والاستبداديّة ‏يكونون قادرين على الموازنات الدّقيقة في المواقف بحيث يحافظون على مساحة ‏وهامش من العمل الدّعوي والشّرعي المجتمعيّ دون الانخراط في تأييد الظّلم والإجرام هو ‏من أعظم صور الجهاد وأكثرها مشقّة، ويجب التعامل معه على أنّه رباطٌ عظيم على ثغرٍ لا يجوز تركه للمنافقين والمداهنين والمبطلين الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ويبيعون دين الله تعالى لإرضاء الطاغية المستبد.

‏ كما أنَّ بقاء شريحةٍ من العلماء والدّعاة المخلصين في الميدان وعلى الأرض يعملون ‏على الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة التي يعمل الاستبداد على محوها، ويعملون ‏جاهدين على تعميق الإيمان والتربيّة السلوكيّة والأخلاقيّة ولو دون التّطرق إلى ‏أيّ أوضاع سياسيّة هو من الضّرورة بمكان.

‏ وليس مطلوباً من هؤلاء العلماء والدّعاة الذين بقوا في ميادين العمل العام ‏والدّعوة المسجديّة والمجتمعيّة أن يعلنوا مواقف سياسيّة معارضة للأنظمة التي ‏تُحكم سيطرتها على أماكن وجودهم، لكن المطلوب منهم أن لا يقعوا في حبائل ‏النّفاق والمداهنة وتأييد الإجرام، وإنّ اضطرارهم للحضور صامتين في بعض الأنشطة التي لا يمكنهم الاعتذار عنها أبدًا والتي يفرضها عليهم الطاغية المستبدّ لا ينبغي أن يغيّر من حقيقة الموقف منهم أو يسوغ الهجوم التهديميّ الذي يستهدفهم.

ولهذا فإنَّ بقاء هؤلاء العلماء والدّعاة في العمل الدّعوي والتّعليم الشرعي مع عدم ‏تأييد أفعال المجرمين والمستبدّين هو عملٌ مبرور يستحقّ الدّعم والإشادة، وهؤلاء العلماء والدّعاة الذين ظلّوا في أماكنهم دون إعلان أيّ موقف حكمهم وحالهم مختلفةٌ تماما عن الذين يعلنون مواقف رافضة للأنظمة ‏ويغادرون البلاد ثمّ يرجعون تحت ذريعة أنَّ المجتمع بحاجتهم؛ فعودتهم فيها ‏دلالات كثيرة مختلفة تماما عن الحالة التي نتحدّث عنها، وعودتُهم تحملُ معاني الاعتذار الضّمنيّ عن مواقفهم الثّوريّة المعارضة لهذه الأنظمة والإقرار بشرعيّة هذا المستبدّ، فلا بدّ من التّفريق بين الحالتين والصّورتين في الحكم والموقف، ولا بدّ من التعامل الهادئ الرّزين مع المشهد ففي ذلك خير المجتمع المتروك لسياسات المستبدّ الذي لا يفتأ يمحو الهويّة ويسلخ النّاس عن قيمهم ودينهم.

تلفزيون سوريا

————————

إيران تحت الشعاع… لماذا أطاح نظام الأسد بمنصب المفتي العام؟/ ضياء قدور

كان عزل أحمد بدر الدين حسون، وإلغاء رئيس النظام بشار الأسد منصب المفتي العام، أحدَ الأحداث المهمة التي سُلّط الضوء عليها أخيرًا على ضفاف مناطق تقاسم السيطرة في سورية، ومنها مناطق سيطرة المعارضة وسيطرة النظام، لما كان لهذا الحدث من تعدٍّ واضح على أحد أهمّ الرموز الدينية والتاريخية لأهل السنّة والجماعة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى للشعب السوري.

وتعددت الآراء والتحليلات التي تحدثت عن أسباب وتداعيات قيام رأس النظام بهذا التحرك المفاجئ ضد أحد أشد الشخصيات ولاءً له، في هذا التوقيت، وذهبت بعض التحليلات إلى وصف الخطوة، عن طيب نيّة أو دون أي اطلاع على خليفات هذا الحدث، بأنها تحرك إيراني لزيادة التغلغل الثقافي داخل سورية، من خلال تقديم المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، والذي تشتمل مكوناته على تشكيلة من مختلف الأطياف الدينية السورية، إلى الواجهة.

ودعم أصحاب هذه النظرية رأيَهم بالإشارة إلى أن قرار سحب الإفتاء من يد شخصية سنّية واحدة، ووضعها في يد مجلس مكوّن من مختلف الطوائف الإسلامية السورية، سيُضعف صوت غالبية السوريين السنيين في إقرار التشريعات الدينية والمسائل الفقهية التي سيُقرّها هذا المجلس بالتشاور أو بنسب معينة للتصويت.

وخلافًا لما يراه البعض، بالرغم من أن التسليط الإعلامي لإلغاء منصب الإفتاء السوري يكاد يكون معدومًا على صفحات وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، هناك بعض الدلائل القيِّمة التي تقودنا إلى استنتاج مهم، مفاده أن إيران لن تكون سعيدة أو راضية بهذا الإجراء في أفضل الأحوال، أو قد تراه تعديًا على أحد أهم أدوات توسيع هيمنتها الدينية والثقافية، في أحد أهم مناطق عمقها الاستراتيجي، في أسوأ الأحوال.

لماذا كان بدر الدين حسون مهمًّا للمشروع الإيراني في سورية؟

يمكن تلخيص علاقة بدر الدين حسون بإيران بالعلاقة المصلحية والمادية البحتة، التي يبادر فيها حسون بإظهار كمّ هائل من النفاق المدروس والممزوج بصبغة دينية سنّية مؤيدة لمحور المقاومة، وتغدق عليه إيران في المقابل المالَ الجزيل.

وعلى الرغم من أن حسّون كان يدّعي، في كثير من تصريحاته المتلفزة، أنه كان مقرّبًا من قادة “فيلق القدس”، وبخاصة قاسم سليماني الذي قال (في تسجيلات سابقة) إنه التقاه مرات؛ لم يكن حسون سوى متملق يجيد النفاق بهدف التقرّب ونيل الحظوة لدى أسياده في طهران. ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى أنه لا يمكن لأي مقرب من سليماني ألا يعرف من أي مدينة ينحدر منها الأخير، وهذا ما ظهر في تسجيلات سابقة لحسون يمتدح فيها سليماني، واصفًا إياه بابن محافظة الأحواز.

وفي المقابل، لا يهمّ إذا ما أخطأت إحدى أكبر القنوات الرسمية الإيرانية، كوكالة أنباء تسنيم، بذكرها لاسم حسون في أحد أخبارها على أنه (حصون)، إنما المهم هو أن يستمر الطرفان (حسّون وإيران) في إنجاز الدور الموكل إليهم في هذه اللعبة، على هذا النحو وبنفس الوتيرة، حتى لو شابها بعض الأخطاء الجسيمة، لتحقيق مآرب كلا الطرفين.

وفي الحقيقة، إذا ما ألقينا نظرة فاحصة أخرى، يحتاج المشروع الإيراني في بلدٍ كسورية، يغلب عليه الطابع الإسلامي السنّي المعتدل، خاصة على مستويات التغلغل الثقافي والمُجتمعي، إلى مُروِّج سنّي يمجّد انتصاراته الوهمية بشكل عام، ويتماهى بخداع ومكر مع أكبر طوائف سورية، لجذبها نحو صفوف ما يُسمّى بـ “محور المقاومة” ضمن إطار شامل يسمّى “التشيع السياسي”.

وعلى صعيد الاستغلال الإيراني للقضية الفلسطينية، كان حسّون يمجّد بشكل دائم انتصارات “فيلق القدس” وقائده المقتول، ويصوّرهم على أنهم “المخلصون وأبطال تحرير القدس والأقصى”، وهو ما كان يشكل داعمة إعلامية أساسية لترويج المشروع الإيراني على مستوى العالم العربي.

وإضافة إلى ذلك، لم يكن عمل المفتي السابق حسّون منحصرًا على دور المروٍّج السنّي الداعي لانضمام كبرى طوائف سورية إلى حشد التأييد الذي تقوده حركة التشيع السياسي الإيراني، بل سعت إيران لاستخدام حسون واستغلال تعدياته السافرة على أكثر رموز أهل السنّة والجماعة قدسيّة، كالصحابة الكرام، لتمكين الشعور الديني والمذهبي لحوضنها الداخلية.

باختصار، كان حسّون ينافق بإتقان منقطع النظير، ويُعدّ أحد أهم أدوات مدّ الهيمنة الدينية والثقافية الإيرانية في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، والإطاحة به هو إجراء لا يُسعد إيران، بالتأكيد، لكنه في الوقت نفسه لا يُبغضها إلى درجة إبداء وجهة نظر رسمية حوله، بالرغم مما قدمه من خدمات جليلة لمشروعها.

وفي الحقيقة، لا تهتمّ إيران كثيرًا بموقع الإفتاء كمنصب رسمي، بعد أن قزّم حكم آل الأسد -على مدى عقود- صلاحيات هذا المنصب، بقدر ما تهتم بكسب ولاء القائمين عليه لاستغلال رمزيته الدينية والتاريخية خدمة للمشروع الإيراني. حتى إن من يتحدث عن إضعاف صوت الطائفة السنّية، في إقرار التشريعات الدينية القادمة، يعلم أنه لا صلاحيات كبرى معطاة لهذه الأجسام التشريعية الميتة التي اكتفت خلال العقود الماضية بالتركيز على كسب التأييد الديني والشعبي للحاكم، وإقرار مراسيم تشريعية ومسائل فقهية عامة لا يختلف فيها كثيرٌ من الطوائف الإسلامية المختلفة، دون الإغراق في التفاصيل والاختلافات التي تفرق هذه المذاهب.

لذلك، وجود شخصية سنّية عميلة في منصب المفتي العام كان سيخدم المشروع الإيراني في سورية قدمًا، أكثر مما قد يقدمه المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف، برئاسة محمد عبد الستار المعروف بقربه من روسيا، ونظرته الدينية التي لا تتماشى بشكل كبير مع الأجندة الإيرانية في سورية. ولو أننا فرضنا جدلًا أن وجهة النظر السابقة صحيحة، فإن الدلائل والمؤشرات التي نراها في سمات التدخل الإيراني في العراق لا تدعمها، وتنقضها أيضًا لتؤكد صحة تأويلاتنا.

وتقدّم لنا الحالة العراقية -عمومًا- حالة متقدمة لما يمكن أن تؤول إليه الحالة السورية، في ما يتعلق بمسيرة المشروع الإيراني وأدواته وتحركاته المستقبلية؛ إذ تخبرنا الحالة العراقية الغارقة في التأثير والنفوذ الإيراني الواسع والعميق بأن إيران لم تُقدِم على إزالة المنصب، بل على العكس من ذلك تمامًا، هي من عمدت لاستحداثه بأمرٍ من رئيس الوزراء العراقي الأسبق الموالي لها، نوري المالكي، الذي قدّم الكثير من الدعم لمفتي الجمهورية العراقي، مهدي الصميدعي، بهدف مزاحمة واستهداف عددٍ من رجال الدين السنّة، وكسب التأييد في محافظة الأنبار، أكبر حواضن السنّة في العراق. ولم يكتف الصميدعي، مفتي الجمهورية العراقي، بلعب دور المروِّج السنّي وأحد الأدوات الناعمة للمشروع الإيراني في العراق، بل ترأس في وقت سابق ميليشيا مسلحّة باسم “حركة المقاومة الإسلامية / أحرار العراق”، تأخذ دعمها من ميليشيات “الحشد الشعبي” بحجة محاربة (داعش).

لماذا أطاح بشار أسد بمنصب المفتي العام؟

تُرجع أغلب التحليلات المنبثقة من صلب هذا الموضوع الإطاحةَ بمنصب المفتي العام إلى انتصار أعداء حسون داخل البيروقراطية الدينية السورية، الذين استغلوا موقعه الضعيف نسبيًا، خاصة بعدما أصبح حسون محطّ كره عددٍ كبير من زملائه، وموضع سخرية العامة، بسبب تأويلاته الغريبة للنصوص الدينية، وبات مصدر إحراج كبير للنظام.

وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن السبب الوحيد لإقدام نظام الأسد على حلّ منصب المفتي العام في سورية ينبع من اقتناعه بالنظريات الشخصية لوزير الأوقاف السوري، الذي أصبح يشكل قاعدة سنّية محافظة أكثر مصداقية للنظام من المفتي السابق، فحسب، بل يأتي هذا التحرك متوافقًا مع استراتيجية كبرى عنوانها العودة للسلوكيات السابقة في التعامل مع الحلفاء الإيرانيين، خاصة بعد التدخل الروسي في سورية عام 2015.

وفي الحقيقة، تختلف النظرة الإيرانية ونظرة نظام الأسد إلى “سورية المنتصرة على مؤامرات الأعداء”، بعد أكثر من عشرات سنوات من الحرب، فإيران ترى أن انتصارها يجب أن يمهد الأرضية لتمددها الأوسع داخل سورية، من خلال الإبقاء على حربتي الميليشيات الطائفية والمؤسسات الدينية التي تعمل خارج نطاق مؤسسات النظام، والاستمرار في دعمها؛ وهو ما لا يتوافق مع النظرة الدكتاتورية لنظام الأسد.

باختصار: يعلم نظام الأسد جيدًا أن التطرف السني لا يختلف كثيرًا عن التطرف الشيعي الذي يمكن أن تشكل أدواته الناعمة، كبدر الدين حسون وغيرها، خطرًا وتهديدًا حقيقيًا لاستقرار النظام الحاكم.

هذا الأمر لا يعني أن النظام سيخرج من تحت العباءة الإيرانية بشكل كامل، بل أن يسعى للعودة لسلوكاته السابقة في التعامل مع الإيرانيين، كندّ وحليف موثوق، قبل أن تتحول هذه العلاقة إلى هيمنة كاملة وتبعية مفرطة.

هذه التوجهات بدأت من حلّ نظام الأسد لبعض الميليشيات الإيرانية، وضمّ بعضها الآخر ضمن صفوف جيشه في السنوات السابقة، ولن تنتهي اليوم بحلّ منصب المفتي العام وطرد حسون، قبل أن يتحول إلى ظاهرة مماثلة للحالة العراقية المتقدمة لا تكتفي برفع شعارات التأييد الأعمى للأجندات الإيرانية، بل تحمل السلاح وتجند الميليشيات لتحقيق ذلك. في خضم ذلك، من غير الواضح إلى أي مدى يمكن أن ينجح النظام في مسعاه في ظلّ افتقاده لأغلب أدوات القوة الصلبة الحاسمة لوقف طموحات إيران وتقييد هياكلها العميقة داخل مؤسساته وخارجه، وحاجته الملحة إلى المساعدة الإيرانية في الوقت الراهن.

صحيح أن الفضل الأكبر يعود إلى روسيا في حماية النظام من السقوط الحتمي، لكن الجهود الإيرانية إلى الآن هي من تبقي على نبض النظام مستقرًا في غرف الإنعاش، خاصة الاقتصادية منها. ولذلك، قد تكون إطاحة النظام بمنصب المفتي العام محاولةَ المشلول العاجز الذي سئم من الهيمنة الإيرانية، ويحاول جاهدًا العودة للمسير مرة أخرى، ويتوق لسلوكاته السابقة.

مركز حرمون

————————–

هيئات إفتاء” وخطوات وتحديات..ماذا بعد انتخاب الرفاعي “مفتياً للجمهورية”؟

كثيرةٌ هي التحليلات والقراءات التي خرجت عقب انتخاب الشيخ أسامة الرفاعي “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”، وما بين تلك التي ركّزت على رمزية المنصب وانعكاسات خطوة “المجلس الإسلامي السوري” على المشهد الديني للبلاد، لم تجب أخرى عن سؤال “ماذا بعد؟”.

تنقسم الإجابة عن هذا السؤال، حسب ما تحدث مصدر مقرب من “المجلس الإسلامي السوري” الذي يرأسه الرفاعي وباحث في شؤون “الجماعات الإسلامية” إلى شقين؛ الأول حول ماهية الآليات التي سيتم من خلالها تفعيل مهام “المفتي” في عموم المناطق السورية، أما الثاني فيبحث في التحديات المرتبطة بعدة اعتبارات مرتبطة بالحالة الخاصة التي تعيشها سورية سياسياً وعسكرياً من جهة، واجتماعياً ودينياً من جهة أخرى.

“زيارة وخطاب”

بعد أربعة أيام من انتخاب الرفاعي، أُعلن عن زيارته إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في ريف حلب الشمالي، حيثُ وَجهً ما يُمكن اعتباره أول خطاب له عقب منصب “المفتي”، وتحدث خلاله عن عدة نقاط.

حيث قال إن المنصب الذي تولاه جاء بعد إلغاء منصب المفتي من قبل نظام الأسد بشكل مفاجئ، وأن “كبار العلماء” في “المجلس الإسلامي السوري” و”مجلس الإفتاء” اتفقوا على انتخابه.

وأشار الرفاعي إلى أن نظام الأسد كان يعين علماء في مناصب شرعية لتسيير أوامره ومصالحه بصورة دينية، معتبراً أن “مهمة الإفتاء لا تقتصر على مسائل الزواج والطلاق، كما شكّلها نظام الأسد، وإنما المفتي المنتخب من قبل العلماء يبذل كل جهده لحفظ البلد من العبث في الدين والأحكام الشرعية ومن امتطاء هذه الأحكام الشرعية من قبل الحكام”.

وفي نهاية كلمته قال إنه يمد يده “إلى جميع مكونات الشعب السوري لأن منصب المفتي ليس هو لفئة دون فئة وهو للسوريين جميعاً”.

وحسب ما يقول مصدر مقرب من “المجلس الإسلامي السوري”، فإن الرفاعي ركّز خلال زيارته الأخيرة إلى ريف حلب الشمالي، على فكرة توحيد الفصائل العسكرية، والمنضوية بصورة عامة في تشكيل “الجيش الوطني”، رغم أن “مشروع التوحد الذي دعا إليه الرفاعي قد يكون من الصعب تطبيقه في الوقت الحالي، وهو ما بدا من ردود أفعال غير معلنة من بعض الفصائل العسكرية هناك”.

وفيما يتعلق بالآليات التي سيسير عليها المفتي في المرحلة المقبلة لترجمة مهامه على أرض الواقع، أشار المصدر إلى إجراءات يتم العمل عليها من أجل تشكيل هيئات إفتاء في الشمال السوري، لـ”تسهيل العمل، كون الشيخ الرفاعي يقيم في تركيا، ومقر المجلس الذي يرأسه كذلك”.

وتحدث المصدر أن ما سبق لم يحسم بشكل كامل، بينما لم يصدر أي بيان من جانب “المجلس الإسلامي السوري” يوضح تفاصيل الخطوات التي سيتخذها في المرحلة المقبلة.

“شق رمزي”

لم تكن زيارة الشيخ الرفاعي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الأولى من نوعها إلى ريف حلب الشمالي، فقد سبقتها زيارة خلال شهر أغسطس/آب العام الحالي.

وقبل أربعة أشهر شملت زيارة الرفاعي، مجالس ومساجد وفعاليات متعددة، وتخللها وضع حجر الأساس لمبنى المجلس” الذي يرأسه في الداخل السوري، في خطوة قرأها مراقبون على أنها تعزز حضوره أكثر بين أوساط المجتمع السوري هناك.

وبعد تعيينه مفتياً عاماً لسورية يرى الكاتب المتخصص بقضايا التيارات والمدارس الإسلامية، محمد خير موسى أن هذا المنصب له شقين.

الشق الأول رمزي، حيث يمثل “مرجعية الدولة”، ويقول خير موسى لـ”السورية.نت”، إن “الإفتاء في أي دولة يمثل المرجعية الدينية لها. عندما يكون المفتي سنياً نستطيع القول إن مذهب هذه الدولة المذهب السني. إذا كان المفتي الرسمي شيعياً نستطيع أن نقول إن المذهب الرسمي في هذه الدولة شيعي”.

وعندما ألغى نظام الأسد منصب المفتي لصالح “المجلس العلمي الفقهي” يضيف الباحث الإسلامي أنه “أراد بهذه الخطوة أن يضرب هذه الرمزية والهوية الدينية للبلاد”.

“حالة مرجعية”

في سياق ما سبق وبالانتقال إلى الشق الثاني المتعلق بمنصب “المفتي”، يوضح خير موسى أنه يمثل “حالة مرجعية للشعب السوري بمختلف توجهاته، لاسيما المسلمين منهم وحتى غير المسلمين”.

وهذه الحالة تتعلق بـ”إعطاء الموقف الشرعي من المسائل المختلفة، لاسيما المسائل الطارئة والنوازل التي تحيط بالبلد عموماً. هذا هو الأصل في الإفتاء”.

وبحسب ذات الباحث “عندما خضع الإفتاء للاستبداد السياسي فقد فرغه من مضمونه وجعله ضمن حيز قصير من الفتاوى”.

وعلى مدى 16 عاماً، كان أحمد بدر الدين حسون قد أعطى مثالاً واضحاً للهيمنة التي فرضها نظام الأسد على المؤسسة الدينية في سورية، ساعياً بذلك إلى تطويعها كجهة من ضمن صلاحياته الأخرى، سواء العسكرية أو السياسية.

وصبت معظم الفتاوى التي خرجت من لسان حسون في صالح نظام الأسد، خاصة منذ مطلع الثورة السورية، وما تبع ذلك من الحرب التي شنتها قوات الأسد ضد كل من نادى بإسقاط النظام وطالب بالتغيير.

ورغم مرور أربعة أسابيع على المرسوم 28(2021) لنظام الأسد، الذي عزز فيه مهام ما يسمى “المجلس الفقهي العلمي”، وألغى في مادته 35 منصب “المفتي”، لم يقدّم النظام أسباباً واضحةً للخطوة المفاجئة.

وذهب وزير الأوقاف في حكومة الأسد، محمد عبد الستار السيد، إلى ما هو أبعد من ذلك، معتبراً أن منصب المفتي “أُحدِثَ سياسياً” من قبل ما سماه “الاحتلال العثماني”.

ماذا بعد؟

أمام ما سبق من إلغاء للمنصب فجأة وإشغاله على عجل من قبل “المجلس الإسلامي السوري”، تبقى خطوات الشيخ الرفاعي رهن التكهنات. كيف يمكن أن يترجم مهامه؟ وهل سيتمكن من استهداف الجميع على اختلاف مناطق النفوذ التي يعيشون فيها؟

وبوجهة نظر الباحث محمد خير موسى، فإن المتوقع من منصب المفتي بعد خروجه من سيطرة النظام هو ترجمته إلى أمرين اثنين: الأول من خلال تحقيق المرجعية الشرعية للشعب وجماهير السوريين، من خلال التفافهم حول شخصية الشيخ الرفاعي، الذي لا يخضع للسلطة السياسية.

بينما يذهب الأمر الآخر إلى محاولة إيجاد مؤسسات بديلة لمؤسسات النظام الدينية، وهذا نوع من أنواع سحب الشرعية من النظام.

لكن الباحث خير موسى تحدث عن تحديات ستواجه الرفاعي، مشيراً إلى أن الأمر “طبيعي جداً”.

وللتحديات عدة أنواع، منها متعلقة بالمكان، حيث تعتبر خطوة “المجلس الإسلامي السوري” فريدة من نوعها في العالم الإسلامي.

ويوضح خير موسى: “هذه المرة الأولى التي يتم فيها تعيين مفتي خارج الحدود أو خارج دائرة البلاد. هذا تحدٍ كبير جداً في عملية إثبات الذات والتفاف الجماهير”.

أما التحدي الثاني فهو “تحقيق مدى الشرعية لدى مؤسسات الإفتاء في العالم الإسلامي والقبول بذلك”.

وكان “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” قد أصدر بياناً أعرب فيه عن “أحر التهاني وأخلص التمنيات” بانتخاب “المجلس الإسلامي السوري” للشيخ أسامة الرفاعي “مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية”.

وقبل ذلك أصدرت “هيئة علماء المسلمين” في لبنان، و”هيئة علماء فلسطين في الخارج” و”هيئة علماء اليمن” بياناتٍ مماثلة.

وجاء في بيان “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الذي يشغل الدكتور علي القره داغي منصب أمينه العام، أن انتخاب أسامة الرفاعي “يعتبر الرد العملي على الإلغاء الرسمي لمنصب مفتي سورية”.

واعتبر أن “وجود الرفاعي في هذا المنصب سيعزز بلا شك العلاقة المتميزة التي تربط الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالعلماء الأجلاء، والشعب العظيم في سورية الحرة الأبية”.

“قبول داخلي وخارجي”

إلى الحالة السورية على الخصوص وبينما يبدو الواقع السياسي العام معقداً بعد عشر سنوات لا يختلف الحال الاجتماعي كثيراً، فهناك ثلاثة مناطق نفوذ. لكل منها بالمنظور العام رؤى وأفكار وتوجهات تختلف عن الأخرى.

وفي سياق حديثه عن التحديات، يشير الباحث خير موسى إلى أن القبول السياسي من الدول المختلفة للتعامل مع المفتي الجديد على أنه مفتياً عاماً لسورية يعتبر من أبرزها.

وبخصوص مناطق النفوذ يضيف الباحث: “يتوقف الأمر على طريقة تعاطي المفتي الجديد مع هذه المسألة. يمكن ذلك من خلال تقديم خطاب إسلامي وطني جامع، يشمل من كان في مناطق النظام أو المعارضة. المفتي للجميع على اختلاف أماكنهم ووجودهم”.

و”يجب أن يلمس المفتي احتياجات وهموم الشارع السوري الشرعية، ويكون مواكباً لتطلعاتهم ويقدم مواقف واضحة تجعلهم يلتفون حوله”.

إضافة إلى ذلك يجب أن تكون هناك “حالة من البعد عن أي نوع من الخطاب الطائفي أو الاستقطابي او المعارك الشرعية الموجودة”، وأن يتم التوجه أيضاً إلى تشكيل مجلس إفتاء، يشمل جميع المتخصصين الشرعيين، ويكون بالانتخاب.

ويعتبر كل ما سبق “آليات يستطيع الإفتاء القيام بها”، وبحسب الباحث السوري “لا بد أن تتوائم وتتضمن بخطاب إعلامي قوي واستشارات سياسية تحيط بالمفتي الجديد في آلية خطاب الشارع السوري وخطاب الشارع الإسلامي والدولي بشكل عام”.

—————————-

حسماً للفوضى و تصويباً للمسار..مجلسٌ فكريّ تخصصيّ برعايةِ المفتي العام/ ملهم الشريف

أثارت -خلال الأيام القليلة الماضية- قضيتان حركتا الشـارعَ الثـوريَّ بمختـلف شرائحِه و مستوياتِه حتى أخذتَا أبعاداً كبيـرةً في أوساطِ مجتمعِنا الثـوريّ ، و كثُـرتْ حولَهما التجاذبـاتُ في المحافلِ الاجتماعيـة الفيزيائية منهـا و عبـر منصّـات التـواصـلِ الاجتمـاعيّ حتى جعلتـا الشـارعَ الثـوريّ يتحـركُ جِـدّيّـاً في صـورةٍ صحيّـةٍ تثبـتُ أنّ ثـورتنـا السـوريـةَ حيـةٌ و أهلُـهـا الحقيقيـون يتابعـون بوعـيّ و يوجِّهـون و يعبِّـرون عن موقفهـم بكـل جرأة … هـاتـان القضيتـان همـا:

• القضيـة الأولـى : الرسـومُ التشخيصيـةُ المسيئةُ لمقـام النبيّ القـدوة -صلّى الله عليه و آله و صحبه و سلـم- الواردة في كتـاب منهـاج السيرة النبـويـة الذي تـمّ توزيعُـه في الشمـال بعـد إعـداده و إقـراره من قبل وزارة التربيـة التركيـة بالتنسيـق مع مركـز الاستشراف للدراسـات .

• القضيـة الثانيـة : الملتقى الذي تـم عقـده في “عفـريـن” تحـت عنوان ( بنـاة السـلام ) برعـايةِ مجلس الكنـائس العالمـيّ الذي قـدمَ طروحـات تسـيء لِـقِيمنـا الدينيـة و الأخـلاقيـة و الثـوريـة الراميـة في المحصلـة وفق منظور استراتيجـي إلى تدميـر الأسـرة المسلمـة و ثوابتِ ديننـا و قيـم ثورتنـا من خـلال التركيـز على المـرأةِ التي هي عمـادُ التربيـةِ الأسـريّة ، و الأبنـاءِ الذين هـم جيـلُ الثورة المنشـود نحـو التغييـر و النهـوض ؛ سيمـا و قـد تضمّـنَ تصميمُ الدعـوة “بروشور الدعوة” خلطـاً للمفاهيـم و إسـاءةً لأعرافِ مجتمعنـا الملتـزم و المرأةِ عمـومـاً من خـلال تسويقٍ لفكـرةٍ تَـظهـرُ جليةً بقـراءةٍ يسيـرةٍ في التصميـم بأنّ حجـابَ المـرأة هـو تقييـدٌ و فـوضـى و ارتبـاك ؛ بينمـا السـفـور و الاختـلاط حريـة و تنظيـم و اتـزان !!!

• و بعـد هـذا التصـديـر نجـدُ أنفسنـا أمـامَ السـؤال المنـطقـيّ الآتـي :

مـا هـو الحـلُّ الحكيـم في ظـلّ تعـدد الروايـات و الرؤى و وجهـات النـظر و التحليلات …و هـل ستقـفُ الأمور عنـد حـدود هاتيـن القضيتَيـنِ في المستقبـل أم أنّنـا على موعـد مع قضـايـا أُخـرى في حجمهـا أو ربمـا أعقـدَ و أشـدّ وقعـاً – و هـو المـرجّـحُ غالبـاً مـع غيـابِ المشـروع الثوريّ المؤسسـاتي النـاضـج -؟!!

 ضـابـط الطـرح :

تأسيـساً على ما سبـق و قبـلَ متابعـة المقـال لعرضِ طرحنـا برؤيتِـه و محـاوره نقفُ معكـم لنحدد “نقطـةَ نظــام” تضبـطُ طـرحَنـا و تضعـه في حـدوده الواقعيـة ، و هـي :

• إنّ شخصنـة أيِّ قضيـةٍ وصـولاً للتشهيـر أوِ الإسقـاط لأشخـاص بعينهـم لن يقـدمَ حـلَّاً حكيمـاً طالمـا و واقـع ثورتنـا يشوبُـه غيـابُ المشـروعِ المؤسساتيّ الناضـج فكـريّـاً و إداريّـاً و رقـابيّـاً – كما أسلفنـا – و بالتالي ستبقـى الأحكـامُ في ظـل هـذه الفوضـى مغلّفـةً بالانفعـال و التسـرُّع ؛ في حيـن أنّ الأمـرَ يحتـاجُ دراسـةً و تحقيـقاً و قدراً كبيـراً مـن التثبُّـتِ من جهـة ثوريّـة رسميـةٍ متخصصـةٍ في هذه القضـايـا الأيديولوجيـة و الفكـريـة و القيميـة الدينيـة و المجتمعيـة ؛ و هـذا ممـا غابَ وجودُه في مؤسسـات ثورتنـا الزاحفـة نحـو المـأسسـة ببـطء شديـد …

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

• لذلك فنحـنُ لسنـا في واردِ إطـلاقِ الأحكـامِ و السيـرِ مـع التوجهـاتِ الداعية للشخصنـة بتنـاول أسماء بعينهـا بصورة انفعـاليـةٍ من غيـر صدورهـا عن جهـةٍ ثـوريـة معتـرفٍ بهـا رسميـاً لهـا نظامُهـا الداخـلـي و آليـاتُ عملهـا و حدود صلاحيتهـا … و لِتجـاوزِ هـذا الواقـع المبعثـر من حـال ثـورتنـا كان هـذا الطـرح الذي سنقـدمـه مفصّـلاً في هذه المبـادرة مخاطبيـن فيهـا سمـاحـةَ المفتي العـام للجمهـوريـة العربيـة السورية الشيـخ العـالم “أسـامـة عبد الكـريـم الرفـاعـيّ – حفظه الله و أيّدَه بالتوفيـق – ” بعـد أنْ أُعيدتَ الأمورُ إلى نصابهـا في خطـوةٍ جريئةٍ واعيـةٍ بإحيـاءِ دور المفتـي العـام لسـوريـة ليكـونَ مرجعيـةً لثـورتنـا السـوريـةِ تجمـعُ أهـلَ الثـورة المصـابرين و تـوجِّـهُ و تصوّبُ و تطلـقُ المشـاريـعَ الفكريةَ و العلميـةَ و التعليميـةَ التربـويـة ، و تتابعُ حال ثورتنـا السورية في كافة مفاصلهـا و تقـدمُ موقفَـهـا الرسـمـيّ في إطـارٍ من الحكمـة و الجرأة و العلـم ..

جـوهـرُ المبـادرة :

تقـوم مبادرتنـا على التوصيـف الآتي :

تشكيـل فـريق تخصُّـصيّ لتوجيـه الفكـر و تصويب المنـاهـج المنحـرفـة عن قيـم ديننـا و ثوابـت الثورة السوريـة و التي لا تصـبُّ في جوهـرِ قضيتنـا السورية الراميـة إلى النهـوض و التغييـر و بنـاء جيـل الثـورة المأمـول المتفـاعـلِ مع الثورة السورية بوصفِـهـا “قضيـةً” تسـتـلزمُ العمـلَ و اكتسـابَ مقومـاتِ التغييـر القائمـة على عمـادَي العلـم و الأخـلاق المنتجَـينِ للقـوة ؛ القـوة بأبعـادهـا الفكـريـة و القيميـة و الإبـداعيـة و المـاديّـة … تكـونُ لهـذا الفريق صفـةٌ اعتبـاريّـةٌ ؛ و له صلاحيـاتٌ مستمـدّةٌ من مقـام المفتـي العـام بحيـثُ يكـون هذا الفريـق أشبـهَ بمجلـسٍ دائمِ الانعـقـاد للعمـل و المتابعـة و إصـدارِ التقاريـر و رفعهـا لمكـتب سمـاحة المفتي أسـوةً بالمجلس الإسلامي السـوريّ ؛ و ليكـنْ اسـم المجلس مثـلاً ( مجلـسُ التوجيـه الفكـريّ و إدارة المطبـوعـات ) و تكـونُ لـه هيكلية إدارية و نظام داخلـيّ و معاييـر دقيقـة لاختيـار أعضـائـه ، و يُعتبـرُ مسـؤولاً عن كافـة المناهـج و المطبـوعات التي تنشَـر و كذلك النـدوات و الملتقيات التي تُعقـد و الأفكار التي تُعـرَضُ و المـواد التي تقـدَّم … و بذلك تكون المرجعيـةُ السوريـة مرتبطـةً بشكـل مباشـر مع مقـام المفتي العـام الذي يستطيـعُ جمـعَ السـورييـن تحـتَ مرجعيـةٍ منبثقـة من نسيـج المجتمـع السـوريّ .

– و بالتالي تكون هـذه المرجعيـةُ رأسَ المؤسسـة التي يتفـرعُ عنهــا -مع مبادرتنـا- مجلسان همـا ( المجلس الإسـلامي السوري وَ مجلس التوجيـه الفكـريّ و إدارة المطبوعـات )

ميـزَةُ المبـادرة :

تكمـنُ الحاجـةُ لهـذه المبـادرة بوصفهـا ضـرورةً للأسبـاب التـاليـة :

• اولاً : إنهـاءُ حـالة الفوضى الفكريـة و الإيديولوجيـة – على تنوع توجهاتهـا و منابعهـا و خلفياتهـا – في مؤسساتنـا الثوريّـة المترهلـة بعد سنوات من عمـر ثورتنـا تداخـلتْ في شِعـابِـهـا الرؤى و الأفكـار حتى تشوشـتْ عقـولُ العـامـة ، و ظهرتْ تياراتٌ جديدة في زحمـة فوضى الواقـع تدعـو بكـل سفاهـةٍ لأفكار تخالفُ قيمنـا و ثوابتنـا وصلَت بعضُ تلك الطروحـات في الداخـل المحـرر إلى الإلحـاد !!

• ثانيـاً : الخـروجُ من مـأزق المواقـف المحـرجـةِ مـع الحكومـة التركيـة التي تحتضـنُ المجلـس الإسلاميّ السوريّ و المؤسسات الثوريّـة ، و ذلك عندمـا يتم إعلان تشكـيل هذا الفريق التخصُّصي – المجلس – و تـصبح لـه صفة اعتبـاريـة بنظام داخلي و معاييـر يتم التواصـل مع الحكومـة التركيـة -و غيرهـا عند الحاجـة- لِـيصبحَ التنسـيق في كافة المجـالات الفكريـة و التعليمية التربوية و المناهـج عبـرَه فقـط ، و بالتالي يتم قطـعُ الطريق على المراكـز و الهيئـات التي تعمـلُ من ذاتهـا وفقَ رؤى تخـالفُ أهداف ثـورتنـا .

• ثـالثـاً : متـابعـة الواقـع الفكـريّ و التعليمي في مناطق مليشيـات أسـد و ما يثار من أفكار و محاولات حثيثة لتطبيـق المشروع الإيراني الفارسيّ الأيديولوجيّ و ذلك بإعداد دراسات علميـة مبنية على بيانـات و حقائق و مخاطبـة النـاس في منـاطـق أسـد و توجيـهِ رسائـلَ فكـريـة و اجتمـاعيـة مخصّصـة لهـم ليكـونَ مقـامُ المفتـي العـام مفعّـلاً كمـا أُريـدَ لـه حقيقـةً .

محـاورُ عمـلِ المجلـس:

• المحـور الأول : الإشـرافُ التـام على كافـة الكتـب و المطبوعـات و المناهـج بحـيثُ لا يصـدرُ أي كتـاب أو منهـاج أو مادة مرئيـةٍ تعليميـةٍ إلا بعـد دراستـه من فريـق المجلس و تصـويـبِ ما يلزم – إن اقتضتِ الحاجـة – ، و عنـدَ إقراره بصورتـه النهـائيـة يتمُّ رفعُ التقرير لسمـاحـة المفتي ليُصـار إلى تذييـلِ المـادة أو المنهـج أو … بختـم الموافقـةِ الصـادرة عن المجلس و سمـاحـة المفتـي للسمـاح بنشرِ الكتاب أو المواد الفكـريـة المطبوعـة و المرئيـة منهـا .

• المحـور الثـانـي : إعـداد دراسـات علميـة أكاديميـة عن المنظمـات و خلفيـاتهـا الفكـريـة و خطهـا الإعـلامـيّ …. التي غزت المحـرر بعمـومـه بأفكارهـا و أيديولوجياتهـا المتنـوعـة و اتخـاذ موقـف محـدد جريء من الهـدامـة منهـا الغريبـةِ عن قيـم و أعـراف مجتمعنـا .

• المحـور الثـالـث : متـابعـةُ المجتمـع السـوريّ و توجيهُه فكـريـاً و قيميـاً و فتـحُ قنـوات للتواصـل المباشـر مـع المجتمـع الثـوريّ و تعـزيز قيـم الثـورة بأبعـادهـا الإستراتيجيـة و إعـادة الزخـم الثوريّ وصـولاً لتحقيـق أهـداف الثـورة و رؤاهـا كمـا أرادهـا شارعنـا الثـوريّ نقيـةً منذ أولِ يـوم ، مـع إحيـاءِ رمـوزِ ثورتنـا الذيـن عملـوا و صـدقوا و استلهـام العزيمـة و الثبات من مواقفهـم و أعمالهـم .

• المحـور الرابـع : إعـداد دراسـات و أبحـاث لقضايـا حادثـة طارئـة تستدعـي البيـان و الإيضـاح ، و نشـرَهـا و عقـد الندوات و الملتقيات في سبيلهـا .

• المحـور الخـامـس : إعـداد المناهـج التعليميـة و التربويـة كهـدف إسـتراتيـجـي يـتمُّ العملُ عليـه و التخطيـطُ لـه برسـمِ معالمِـه و تحـديدِ آليـاتِ تنفيـذه ، و ذلك لأهميـةِ هذه المحـور و ضرورتِـه في بناء الجيـلِ قيميّـاً و وجـدانيّـاً و معـرفيّـاً و رســاليّـاً ، و أثـرِه العمـيق في الاستقرار النفسـيّ المتوازن لشخصيـة أبنـائنـا .

• المحـور السـادس : التشـجيـع و الدعـوة لافتتـاح دور نشـر و ترخيصهـا رسميـاً ؛ و ذلـك تمهيـداً لتأسيس اتحـاد النـاشـريـن في المحـرّر و الذي سيتبـعُ إداريـاً و تنظيميـاً و فكـريـاً للمجلـس كونـه سينبـثـقُ عـن الأخيـر .

معـاييـر اختيـارِ أعضـاء المجلـس :

لاختيار أعضـاءِ المجلـس “مجلـس التوجيـه الفـكـريّ و إدارة المطبـوعـات” أهميـةٌ بالغـةٌ إذ بمقـدارِ سلامـةِ الاختيـارِ تسـلمُ النتائـج و يتحـققُ الهـدف من تشكيل المجلـس و نبدأ بنثـرِ نواة المأسسـة العلميـة الحقيقية في مفاصـلِ ثورتنـا … و العكس صحيح ..

لذلك فإنّ أعضـاء المجلـس يجـبُ أنْ يحـزوا المعايير الآتيـة :

• أولاً : الأصـالـة الثـوريـة ؛ أي أنْ يكون ممن ساهـم بفعاليـة منذُ بدايـة الثـورة و قدّم و ضحـى و ثبَـتَ و مـا بدَّلَ ؛ و ليس ممـن التحـقَ بالثورة في مراحـل متأخرة في إطـارِ تحوُّلٍ براغمـاتيّ نفعـيّ شخصيّ قاصـرٍ عن بلوغِ مقامِ النفـع العـام و الدفاعِ عن ثوابتنـا و قيمنـا .

• ثـانيـاً : الأصـالـة الدينيـة الأخـلاقيـة و الاجتمـاعيـة .

• ثـالثـاً : الأكاديميـة بمفهومهـا الواسـع الفكـريّ التوعـوي و المعرفـيّ التخصُّصـيّ المدعـومـة بالمطالعـات و المتابعـات المستمـرة لكل ما يستجـد في الواقـع و العالـم ، ممـن خبـروا مراحـل الثورة و تقلباتهـا و أحسنوا قراءتَهـا و تحـليلَ مواقفِهـا و رجالهـا …

• رابعـاً : التفـرّغُ التـام و إيـلاء المشـروع النصيبَ الأكبـر من الجهـد و الوقت ، و بالتالي لا يكون ملتزمـاً مع جهـة أو مجلس آخر ممـا يحولُ دون سلامة الأداء و وضوح الموقف و الرأي لأنّ العمـل و مسـؤولياته و أعبـاؤه ستكـونُ كبيـرةً .

• هذا مختصرُ مبادرتنـا و دوافعهـا عساهـا تجـدُ عنـد سمـاحـة المفتى الشيـخ “أسـامة الرفـاعـيّ” و فريقـه قَبـولاً … و قد نتبعُـهـا بمقالاتٍ أكثـرَ تفصيـلاً – إذا دعـتِ الحاجـة-.

————————

في إقرار بفشل مؤسسة القضاء المعارضة في سوريا: «الجبهة الشامية» تحيل ملف «أبو عمشة» إلى المفتي/ منهل باريش

يستمر التوتر في الشمال السوري داخل الجيش الوطني السوري بين غرفة عمليات «عزم» التي تقودها «الجبهة الشامية» وفرقة «السلطان سليمان شاه» المعروفة باسم قائدها «أبو عمشة» محمد الجاسم، المتمركزة في منطقة الشيخ حديد منذ الهجوم التركي على منطقة عفرين وطرد وحدات «حماية الشعب» الكردية في آذار (مارس) 2018.

واتهمت فرقة «سليمان شاه» بالاستيلاء على منازل وأراضي المدنيين السوريين الأكراد والاستيلاء على أشجار الزيتون التي تشتهر بها منطقة عفرين، كما نقلت الفرقة عائلات مقاتلين يتبعون للفصيل إلى الشيخ حديد وتسليمهم المنازل المسيطرة عليها، حالهم حال كل الفصائل التي شاركت في الهجوم على عفرين بدون استثناء.

في الخلفية، توقفت المعارك بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام في ريف حلب الشمالي والشرقي بشكل نهائي منذ العام 2017 واقتصر مشروع الجيش الوطني على قتال «الوحدات» الكردية إلى جانب الجيش التركي في عمليتي «غصن الزيتون» في عفرين 2018 و«نبع السلام» في تل ابيض وراس العين بريفي الرقة والحسكة 2019. وفشلت مأسسة «الجيش الوطني» واستقال وزير الدفاع وقائد الجيش اللواء الدكتور سليم إدريس، بسبب إعاقة قادة الفصائل مشروع الدمج واستمرار الفصائلية والتناحر، ويعتبر تشكيل غرفة عمليات «عزم» داخل الجيش الوطني وتحت لوائه آخر الضربات التي دفعت إدريس إلى الإصرار على الاستقالة. ودفع تشكيل الغرفة إلى تشكيل تكتل مقابلها يضم الفصائل المستهدفة أساسا بالتشكيل وهي فرقة «الحمزة» وفرقة «المعتصم» وفرقة «السلطان سليمان شاه» تحت اسم «الجبهة السورية للتحرير». ورغم أن الظاهر يشير إلى أن «عزم» تحالف إسلامي وشبه إسلامي إلا أنه تغطى بوجود فرقة «السلطان مراد» التركمانية والمقربة من تركيا والتي يقودها فهيم عيسى أكثر قادة الفصائل قربة من أنقرة. وولدت غرفة علميات «عزم» أساسا بسبب خلافات غير ظاهرة بين الأخير وقائد فرقة «الحمزة» سيف أبو بكر الذي يعتبره فهيم الأكثر منافسة له في العلاقة مع تركيا.

وفي محاولة تقليص دور الفصائل المنضوية في الجبهة «السورية للتحرير» وجدت «الجبهة الشامية» أن الطريق إلى تفتيت وإضعاف الفصائل يبدأ بفرقة «أبو عمشة» كون سجل الرجل مليء بالانتهاكات الموثقة والخلافات الظاهرة إلى العلن، فتمكنت «الشامية» من جمع الشهود وحمايتهم وتقديم إفادات لدى الشرطة العسكرية ضد الدائرة الضيقة من أبو عمشة ومنهم إخوته وأصهاره، ومنها قضايا اغتصاب وقتل، كانت ظهرت إلى العلن قبل عامين وبثت تسجيلات مصورة لزوجة أحد العناصر تعترف بها بقيام أحد القادة باغتصابها، ثم عادت وتنكرت للأمر، وتكرر أمر الشرائط المصورة مع مقاتلين جرحى في الفصيل، ادعوا أن قائدهم «أبو عمشة» سرق تعويضاتهم المالية كجرحى بعد إصابتهم في معارك ليبيا ضد الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر.

وآخر الفضائح كانت لأحد أصهاره الذي سجنه في ليبيا بسبب سرقته مليون و200 ألف دولار.

وفي محاولة لكسر شوكة أبو عمشة، قامت «الجبهة الشامية» بقطع الطرق المؤدية إلى معقله في الشيخ حديد غربي عفرين وتقديم قائمة مطلوبين من أجل تسليمهم إلى الشرطة العسكرية، وتضم القائمة أكثر من ثلاثين اسما بينهم كامل القادة الأمنيين وقادة الصف الأول وبينهم أخوه سيف الجاسم المعروف باسم «سيف العمشة».

من جهته، تنبه قائد فرقة «السلطان مراد» فهيم عيسى إلى خطورة ما يحدث، الأمر الذي جعله يتدخل لدى قائد «الجبهة الشامية» أبو احمد نور لسحب الأرتال وإزالة الحواجز التي قطعت الطرق إلى الشيخ حديد، وضمان تسليم المطلوبين إلى القضاء. بعد أيام على التوتر وبسبب شعور «الشامية» بأن الظروف غير ناضجة لحسم ملف أبو عمشة بالقوة، حاولت تحويل القضية إلى قضية رأي عام من خلال إحالة ملف فرقة «السلطان سليمان شاه» إلى المفتي الشيخ أسامة الرفاعي. إلا أن هذه الإحالة خطيرة من حيث النتيجة، وهي تقزيم لدور المفتي أساسا وتحويله إلى قاض شرعي ورجل صلح. كما أنه إقرار بفشل دور القضاء العسكري وعدم وجود سطلة قضاء في منطقة تسيطر عليها الفصائلية. وفي نهاية الأمر لن يتمكن الشيخ الرفاعي من حسم قضية أبو عمشة. كذلك فإن أغلب قادة الفصائل لا يتمنون ضمنيا إنهاء ملف أبو عمشة، ففي حال القضاء عليه بذرائع الفساد والسلب والجرائم سيأتي دورهم لاحقا وسيصبحون هدفا للجبهة الشامية التي تسعى للسيطرة على منطقة شمال سوريا بشكل كامل. وفي السياق، نجح «أبو عمشة» في تحشيد المقاتلين النازحين من منطقة ريف حماة الشمالي وتصوير الهجوم المحتمل عليه انه موجه ضد النازحين جميعا والتف حوله أبناء العشائر السورية بوصفه أحد أبناء قبيلة النعيم.

ويذكر مشروع «الجبهة الشامية» بمشروع «جبهة النصرة» عندما استخدمت نفس الحجج للقضاء على الفصائل، رغم الاختلاف الكبير بين فصائل الجيش الحر التي قضت عليها «جبهة النصرة» وبين أبو عمشة الغارق حتى أذنيه بالانتهاكات. فحجج الفساد والانتهاكات جاهزة وكل الفصائل تملك من الأدلة ضد بعضها الكثير. إلا أن القول الفصل بينهم هو حجم القوة على الأرض، إضافة إلى إحساس الجبهة الشامية بانها صاحبة الأرض والمشروعية الثورية مقابل فصائل هجرت من قبل النظام من مناطق «خفض التصعيد» أو بسبب طردها من قبل «جبهة النصرة» عامي 2014 و2015 وأعادت تشكيل نفسها مرة أخرى برعاية تركية بهدف قتال تنظيم «الدولة الإسلامية» في معركة «درع الفرات» أو في معركة «غصن الزيتون» في عفرين.

بالمقابل، من الواضح أن أنقرة لم تتدخل حتى اليوم لوقف ما يحدث بين الفصائل على الأرض وتحديدا ضد أبو عمشة الذي شحن المقاتلين لحرب بالوكالة في ليبيا وأذربيجان. وفي الغالب لا تتدخل مباشرة لوقف القتال الفصائلي رغم أنها فعلت ذلك سابقا عندما شنت حليفة اليوم «الجبهة الشامية» هجوما واسعا على فرقة «السلطان مراد» أدى إلى أسر مئات من مقاتليه والسيطرة على أغلب مقراته باستثناء مقر القيادة في منطقة حور كليس. وفعلت ذات الشيء في هجوم للشامية على فرقة «الحمزة» يوما. المتغير اليوم، أن هدوء الجبهات وعدم وجود معركة تركية ضد وحدات «حماية الشعب» الكردية سيدفع أنقرة لعدم التدخل في الاقتتال الحاصل بسبب وجود فائض قوة يجب تصريفه ولا مجال لذلك إلى الاقتتال الداخلي، وفي النهاية سيبقى المنتصر تحت إمرة أنقرة أيا كان، سواء كانت «الجبهة الشامية» أم غيرها. على العكس من ذلك، فإن التعامل مع طرف قوي واحد أفضل من التعامل مع عدد لا ينتهي من القادة الوهميين والضعفاء بالنسبة للدول وهذا ما اختبره المسؤولون الأتراك في إدلب عدة مرات من أجل تطبيق الاتفاقات الأمنية والعسكرية بين موسكو وأنقرة.

القدس العربي

————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى