صفحات الحوار

نجاة عبد الصمد: 2011 هو عام وعي غياب الحرية والكرامة والعدالة

تحل الكاتبة والطبيبة السوريّة نجاة عبد الصمد، ضيفة على مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية الأسبوعية.

ضيفتنا، من مواليد السويداء 1967، مقيمة في ألمانيا، تحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق.

صدر لها روايات ومرويات عدة عن دور نشر سوريّة ولبنانية وإماراتية منذ 1994.

ونشرت لها أبحاث ومقالات ومشاركات بحثية في الصحف العربية وفي مواقع إلكترونية ومراكز دراسات عربية. حائزة على جائزة “كتارا للرواية العربية” عن فئة (الروايات المنشورة) 2018، عن روايتها «لا ماء يرويها».

صدر لها حتى الآن: «بلاد المنافي»، رواية، دار رياض الريس (الكوكب) بيروت 2010؛ «غورنيكات سوريّة»،مرويات، دار مدارك، الإمارات العربية 2013؛ «في حنان الحرب»، مرويات، دار مدارك، الإمارات العربية 2015؛ «لا ماء يرويها»، رواية، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، بيروت 2017؛ «منازل الأوطان»، (شهادات سوريّة)، بيت المواطن السوري، بيروت 2018.

ولها في الترجمة عن الروسية: «مذكرات طبيب شاب»، تأليف ميخائيل بولغاكوف (عمل مشترك)؛ «الجمال جسد وروح»، تأليف فاندا لاشنيفا 2015.

أكدت عبد الصمد في حوارنا معها أنّ الدكتاتور اجتهد لخلق الأعلام السوداء كحليفٍ مخلص، ونجح، وقابلتهم قيادات معارضة قاصرة وهزيلة وشخصية المصالح، وتوافق الكلّ مع أجندة المصالح العالمية على بقاء المأساة السوريّة قائمة.

هنا نص الحوار

لو سألنا بداية عن أهم المحطات المؤثّرة في حياتك منذ النشأة إنسانةً وكاتبةً ومبدعةً، ماذا تقولين لقرّاء مركز حرمون للدراسات المعاصرة؟

هل المحطة حدثٌ أم منجزٌ أم خسارةٌ بليغةٌ أدّتْ إلى تحولٍ ما؟ لم أفكر من قبل بالمحطات المؤثرة في حياتي، كنت أتعايش معها على أنها قد حصلت وحسب.

أعادني هذا السؤال إلى اليوم الذي انتقل فيه أبي بنا من قرية الدويرة الصغيرة، مسقط رأسي، إلى مدينة السويداء التي استمرّت فيها حياتي قبل خروجي الأخير. كان ذاك في 1973، وكان عمري ست سنين. كنا أسرةً مكونة من أبٍ وأمّ وخمس بنات وجدّي لأبي، العجوز الأعمى الذي نحبه كلّنا ونعتني به كأنه طفلنا الكبير الوحيد وثروتنا الوحيدة، لشدة ما رأينا أمي تعتني به وهو والد زوجها لا والدها. أتذكر الأغراض القليلة لتلك الأسرة الكبيرة محمولةً في عربة جرارٍ زراعي، ملقاةً كتلّةٍ صغيرةٍ مثلّمة السطوح على سطح العربة، خردةً شحيحةً وغير متجانسة تستحي إذ انكشفت فانكشف بؤسُ حالها وطفا ألمُها لفراق مكانٍ بائس، لكنها كانت تنستر فيه. لكنّ فكرة الانتقال إلى المدينة هي الثروة.

لو بقيتْ أسرتي في الدويرة ربما ما كنت أكملت تعليمي بعد الابتدائية، ولربما تزوّجتُ بفي مر 14 أو على الأكثر 16 سنة وكنتُ الآن جدةً؛ وخفيفةً أيضًا من مخاوف الطموح..

كلُّ سنةٍ تاليةٍ في مدينة السويداء، كانت كفاح الطفلة من أجل تعليمها، حتى نوال الثانوية بفرعها العلمي، ثم قتالٌ جديدٌ للدخول إلى الجامعة في دمشق، ثم قرار السفر لإكمال دراسة الطب في الاتحاد السوفييتي وسط معارضة أهلي وغضبهم. كان معجزةً تحقّقت أخيرًا بثمنٍ فادح، قد تسبّبتُ لأبي ولنفسي بألمٍ لا يطاق. اليوم أشكر ارتدادات ذلك الزلزال الذي صاغ مع الزمن كثيرًا مما أصبحت أسرتنا عليه الآن، وقد صرنا تسع بنات وصبيين، كلّهم يشتغلون، كلّهم يحترمون العمل، ولا يكفّون عن إبداع المشروعات الصغيرة بمالٍ قليلٍ وجهدٍ كثير، وهم مؤثّرون في أوساطهم.

بعدها اختياري لزوجٍ، إنسانٍ شريك، محبّ وحضاريّ، وطبيبٍ يتفهّم ظروف عملي التالي كطبيبة..

ثم بدء عملي طبيبةٍ وجرّاحةٍ نسائية، قليلاتٌ من نساء بلدي أقدمن على الجراحات النسائية الكبرى. كان هذا انتصارًا للمرأة العاملة والخلّاقة.

ثم روايتي الأولى «بلاد المنافي»، شفتني من دويّ الرأس على الرغم من انشغاله الكلّيّ بعمل الطب، وتوالتْ من بعدها كتبي.

ثم قدومي إلى ألمانيا، التحدّي الأكبر في منتصف العمر، واضطراري إلى البدء من تحت الصفر بعد أن كنتُ أنجزتُ في نصفه الأول كثيرًا من أحلام الطموحين..

محطةٌ.. محطات.. ليست إلا ارتدادات البركان الحي الذي تآلفتُ مع حياتي وهي تسير عليه أبدًا..

أهجس بالإنسان وأكتب عنه

حدثينا عن بداياتك الأولى في عوالم الكتابة الروائية. متى وأين وكيف بدأت الطبيبة نجاة عبد الصمد؟ ومن بعد ما علاقة الطب بالكتابة الأدبية؟ وإلى أي مدى أثر اختصاصك العلمي في أسلوبك السردي؟

لا أملك جوابًا أكيدًا عن بداياتي.. ربما بدأت الروائية تتخلّق في جولات النهار وسط صخور وكهوف اللجاة وأنا ابنة سنواتٍ أربع، وليلًا مع حكايات أمي لي ولإخواتي على ضوء قنديل الكاز.. استمرت الحكايات بصوت جدتي لأمي حين أُرهِقتْ أمي سنة بعد سنة بالحمول والولادات بينما كانت جدتي تعود إلى الحياة وتبدو سعيدةً بصحبتنا نحن أحفادها أكثر من صحبتها لأمي.. ما تزال حكاياتهما مرسومةً في ذهني بالصوت والصورة، بالفكرة والحدث، بالمعنى والعبرة، ومنها تسرّبتْ أصداء كثيرةٌ إلى سطوري المكتوبة في ما بعد..

في الصف السادس كتبت قصصي القصيرة الأولى ومسرحيةً مُثِّلَت في مدرستنا الابتدائية، ومنذ أول الإعدادية كتبتُ يومياتي؛ وحين عدتُ إلى قراءتها لاحقًا لم تبدُ لي يومياتٍ بقدر ما هي تأمّلٌ في الحب والحياة والموت والعلاقة بالأهل والصداقة ورفقة الحيوانات الأليفة، وخططٌ لمشروعات حياتيةٍ صغيرةٍ أو كبيرة.. أستذكر مثلًا فكرةً عثرتُ عليها في دفترٍ يعود إلى صفي التاسع الإعداديّ: (وُلدتُ في ظروفٍ غير طبيعية، وسوف أصنع في حياتي شيئًا غير طبيعيّ؛ طبعًا في الاتجاه الإيجابيّ).

عقدين من الزمن لم أكتب فيهما سوى اليوميات، كما بعض القصص القصيرة التي لم يُنشَر أيٌّ منها. أوّل عملٍ مكتملٍ فكّرتُ في كتابته كان روايتي الأولى «بلاد المنافي» وكنتُ وصلتُ الأربعين. لماذا بدأتُ بالرواية، لا أعرف بالتحديد، كانت النداء الوحيد الذي أغواني واستسلمتُ له.

يقال إنّ القادمين من حقول الدراسة العلمية يبدعون أكثر في حقول البحث الفكريّ والفلسفيّ والأدبيّ إذا ما اشتغلوا فيها، كونهم اكتسبوا منطق التفكير العلميّ في مطلع حيواتهم، وقد تكون هذه المقولة محقّة، إنما لم تحضر مفعولات العقل العلميّ في روايتي الأولى.. غالبًا ما يظهر الكاتب في عمله الأول عجولًا ومثقلًا بالكثير الذي يريد قوله دفعةً واحدة، الأمر الذي لم أنجُ منه كما كثيرون غيري. ومع الغوص في مهنة الطب نتوصّل إلى حقيقةٍ قاسية، مفادها أنّ الحياة في جوهرها ألم، والطب يعيننا على تفهّم هذا الألم بالعقل لا بالعاطفة، يمنحنا ما يمكن أن نسمّيه (الحكمة)، والحكيم عادةً هادئٌ، منظّم الأفكار، ومتأنٍّ في إجاباته. بهذا المعنى ساعدني الطب، على مهلٍ، في أن أتخفّف من حرارة العاطفة التي طالما أتعبتني. أعتقد أنّ كتابتي بدأت تنضج مع عملي الثاني «غورنيكات سوريّة» بتأثير المهنة وتركيبة العقل العلمي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى بتراكم القراءات الكثيفة، وما أزال أنضج.. في الحياة كما في الكتابة نتابع النضج كلّ يوم.

ما جديدك على صعيد الكتابة الإبداعية؛ حدثينا عن آخر عمل كتبته ودفعتِ به إلى دار النشر ليصدر قريبًا؟

روايتي الجديدة في طريقها إلى النشر، سأحتفظ بعنوانها إلى أن تصدر. إكمالُها كان التحدّي الأصعب بعد أصداء رواية «لا ماء يرويها»، وبعد الرضّ العميق بخروجي من سورية وحاجتي إلى توضيب نفسي في مقامي الجديد وفي كنف اللغة الجديدة. هذه الرواية لا تشبه ما كتبته قبلها، ولا تحضر فيها ألمانيا ولا سحر مدينة برلين التي أسكن فيها، كذلك لا تروي عن مدينتي السويداء التي كانت قرينة كتبي.

في روايتي هذه رغبتُ أن أردّ بعض دَيني لمهنة الطبّ، أن أمنح الطبيب صوتًا ليحكي عن نفسه، عن حياته كإنسانٍ وسط أسرته وفي عيادته والمستشفى. قليلًا ما عثرتُ في قراءاتي على رواياتٍ تمنح الطبيب هذه المساحة، بينما يُدلي الجميع بآرائهم حول الطبيب والطب في كلّ مكان، بطلها طبيبٌ رجل، وعيادته هي المفتاح لحضور باقي شخوصها رجالًا ونساءً، من ريفٍ أو من مدينةً، مهمّشين أو مغمورين أو محظوظين بحياةٍ كريمة.

رسمتُها في ذهني روايةً عن الإنسان في أيّ جغرافيا، عن فكرة الإنجاب نفسها كخلق حياة، وعن تربية الأطفال كمسؤوليةٍ لا ينتبه كثيرون إلى تكلفتها. عن عذابات المرأة في حضور الأطفال، وانشطار روحها في غيابهم، وعن شجاعتها حين تكوي قلبها وتقرّر بعقلها ألا تنجب إلى الحياة مجرّد طفل، رقمٍ خاسر.

في شقاء الرحلة، كالعادة في كتابة أي رواية، لاحظت هذه المرّة كم تغيّرتْ فيّ أشياء! ربما هو الاغتراب في المكان والاقتراب أكثر من الذات، أو هو النضج الذي تحدثنا عنه أو هي التغيّرات التي تعصف بعالمنا في الفترة الحاضرة. وما فعلته بالضبط كان الاستسلام لهذا التغيّر وعدم التفكير حتى بمقاومته، مع احترام عقل قارئي وتوقعاته. في مراجعاتي الأخيرة حذفتُ جميع الجمل باللهجة العاميّة واستبدلتها بالفصحى الليّنة، بهذا أيضًا أردّ بعض دَيني إلى اللغة العربية التي أعشق..

بالعودة إلى روايتك «لا ماء يرويها»، من أين استوحيتِ فكرتها؟ وهل هناك حدث معين حفزك على كتابتها؟

في «لا ماء يرويها»، تتبّعتُ فكرة العطش، نقصان الماء الذي يستتبعه نقصان عاطفة الحب، وترسم الحكاية هذا النقصان عبر حيوات أشخاصٍ ينتهون إلى الجفاف.

هي حالة، فكرةٌ ظلّت تومض وتؤرق وجداني لزمنٍ طويلٍ قبل أن تبدأ بالتجسّد والهيكلة والكساء والرتوش، إلى أن ولدت مكتملة كحكايةٍ عليها أن تمتع، وكقصديةٍ لديها ما تقول.

كان قلقي عميقًا من أن يمنعني حبي الشديد للمكان أن أقدمه بالحياد الذي أستطيع، فأنا مسكونةٌ بهذا الحب إلى الحد الذي يجعل الحياد شبه مستحيل، كان لعلوم الطب دورٌ كبير، عقل الطبيب المنطقي والمنظّم أسعفني في التروّي حينًا، وفي استخدام مشرط الجرّاح أحيانًا.

ليس المقصود بالمكان مدينة السويداء وريفها على وجه التحديد، (وهي المدينة الجبلية الحزينة المشلوحة عند حدود سورية الجنوبية)، بقدر ما يمكن أن يكون أي جغرافيا أخرى، لكن السويداء هي مكاني الذي أعرفه أكثر من سواه، هو أرضي التي أرتحل فيها بهداية القلب.. وفي رحلتي أضعتُ الحدود بين الرواية والواقع، وسرتُ فيه أُهذّب خليطه..

كنتِ موفقة في اختيار عنوان الرواية «لا ماء يرويها»، حيث جاء العنوان مشيرًا إلى استمرار الظمأ حتى مع وجود الماء، مختصرًا ببساطة مضمون الرواية. سؤالنا: كيف تختارين عناوين رواياتك، وهل يكون العنوان هو المدخل إلى النص عندك؟

العكس تمامًا. النص هو الحاضر، وعلى مدار تشكّله يظلّ هاجس اختيار العنوان رفيقًا يسير معي، يتقلّب في ذهني احتمالًا بعد احتمال، حتى اقتراب النهاية، لأعثر على عبارةٍ وحيدة تقول اختاريني أنا ولا سواي. كلّ العناوين التي اخترتها لكتبي حضرت بعد اكتمال النص.

بالطبع هناك ما يمكن أن يسمّى بضوابط اختيار العنوان، منها كيف تقع العين عليه وكيف يقع في النفس، أن يكون جرسُه مؤثّرًا، وقوامه مضافٌ ومضاف إليه، (وهو ما تذهب إليه معظم العناوين)، أو شخصٌ أو فعلٌ ما يتبعه أحد حروف الجر ثم مكانٌ أو حالة، وهناك جملٌ فعلية قصيرة وكثيفة و.. إلخ.. كذلك من ضوابطه أن يكون العنوان على صلةٍ بمضمون النص ولو مواربةً، وعلى العنوان، أيًا كان من بين هؤلاء أن يكون شديد الذكاء، وأن يمتلك ناصية الغواية، أن يكون الباب والعتبة والأفق الغامض من خلفهما، أي متن النص، أن يثير الناظر إليه ويغلبه على أمره، ويستجرّه ليبدأ القراءة..

أحب العناوين المخاتلة، السهلة الممتنعة، الصيّادة الفاتكة بكلمتين أو ثلاث، التي تومئ إلى النص وتغري به وتتمنّع عن فتح مغاليقه كاملةً. «غورنيكات سوريّة»، «في حنان الحرب»، «لا ماء يرويها» أرتاح إليها كعناوين أكثر من عنواني «بلاد المنافي»، كذلك «منازل الأوطان».

أين تقع هذه الرواية من مشروعك الكتابي الإبداعي بشكلٍ عامّ؟ وما أهمية أن يكون لديك مشروع إبداعي تعملين لتحقيقه؟

«لا ماء يرويها» كانت نقلةً بحقّ. لكنها، وبعد أن خرجت من يدي، أعادتني كما كلّ ما سبقها إلى نقطة البداية أمام العمل التالي: سوف أكتبه كما لو كان الأوّل، كما لو كنتُ سأضع فيه خلاصة ما أريد قوله، كما لو كان الأخير..

أهجس بالإنسان، وأكتب عنه، ولا أكتب إلا ما أرغب في كتابته، أتبع هاجسي وأزوّد نفسي بأدوات تحقيقه عن طريق البحث والقراءة، هذه مهمتي التي أشتغل عليها كجزءٍ أساسيٍّ من أنشطة يومي إلى جانب عملي المهني. لن أمضي في وهم أنّ ما أكتبه قد يغيّر حيوات الآخرين، أطمح إلى أن يكون مؤثّرًا فيهم. لكنّ أهميته بالنسبة إليّ متضمنةٌ في الإيمان به كهاجسٍ وغايةٍ في الوقت ذاته، تمنح حياتي معناها، هل من رجاءٍ في عملٍ ما أعلى من هذا الرجاء؟

الأدب مهندس الشراكات الإنسانية

أصحيح أنّه “ما من رواية إلّا تحمل في طياتها جوانبَ من سيرة كاتبها”؟

بشكلٍ أو بآخر؛ نعم. فالكاتب نرجسيٌّ، وليس بوسع النرجسيّ أن يخرج من ذاته أو يهرب من شخصه. كلّ روايةٍ هي تنويعٌ على قصة الذات. وحضور الذات يتفاوت بين روايةٍ وأخرى. قد تدخل في إحداها صريحةً أو مواربةً، أي في أجزاء من سيرته أو رؤاه في الحياة، وتدخل في خياراته حين ينتقي موضوعاته أو شخوصه، وفي طريقته في تقديمهم كذلك في إنجاز مصائرهم.

في عالم الكتابة الروائية، هل هناك أسئلة تُلحُّ عليكِ؟ وهل تحرصين في كتاباتك على تقديم أيّ إجابات أم تُشرعين باب التساؤلات والبحث والاجتهاد؟

وهل يملك أحدنا الأجوبة عن أسئلة الوجود الكبيرة؟

الأسئلة بالذات هي التي تلح، ويكفي الأدب همّةً أنه لا يتوقّف عند المتداوَل الجاهز، يشكّك في المثاليّ، يزعزع اليقين، يقلقل السكون، يكسر الرتابة، يستثير التأمّل، يحضّ على التمرّد، يحرّض على الأسئلة الكبرى ويشرع بواباتها ومفاتيح التفكير وآفاق الغد..

يقول الشاعر والكاتب الفرنسي جان جنيه: “وراء كلّ كتابة جيدة ثمّة مأساة كبرى”، كما يرى مواطنه الفيلسوف جورج باتاي، في كتابه «الأدب والشر»، أنّ “الكتابة شرّ لا بدّ منها”. ما رأيك أنتِ في المقولتين بحسب تجربتك؟

تجربة جان جينيه الحياتية منحته أفكاره الفريدة في تحوير المأساة إلى فلسفةٍ خاصة، كأن يعكس السجن (كمكانٍ) في مؤلفاته الروائية والشعرية والمسرحية على أنه مستراحٌ ومطهرٌ أوسع وأرحب من العالم خارجه، وأن يقف مع كلّ إنسانٍ وحيد ومع كلّ مضطهَدٍ لم يستكن إلى الظلم. من هنا أفهم مقولة جان جينيه على أنّ المأساة الكبرى هي مأساة العقل، مأساة الفهم العميق، مأساة الألم بإدراك مدى البؤس ومدى الشرّ في هذا العالم، ومدى الزيف في الأوساط المسمّاة بالمتحضّرة (البورجوازية مثلًا) بينما هي أنانيةٌ وجشعة ولا تعترف بالآخر ولا حتى بحقّه في الوجود، وفهم هذا الواقع ليس أقلّ من نبعٍ للكتابة.

“الكتابة شرٌّ لا بد منه” هي عبارة جورج باتاي في كتابه «الأدب والشر»، وهي كما وردت في سياقها لا تعني الشرّ الأخلاقي، بل الشرّ بوصفه تركيبة جزءًا من طباع الإنسان، كالشعور بالإثم أو بالذنب أو الرغبة بالفحش، وجميعها مشاعر حاضرةٌ في البشر وهي أيضًا عناصر إثارة في أيّ حكاية، هو مفهوم الشرّ الذي طالما كان أحد محرّكات الكتابة، وقصص الشرّ حقًا هي من أكثر القصص جاذبيّة، إذ يضيف باتاي في كتابه نفسه “ما إن يبتعد الأدب عن الشر حتى يصبح مملًا”..

أنا أفكّر أبسط كثيرًا من كليهما، إذ لا أملك دفاعاتٍ حيال فتك الكتابة بي، أكتب لكي أرتاح، لأفهم نفسي أولًا وهذا العالم من حولي، لأحاول الشفاء من ألمي المقيم..

اليوم، وأنت بعيدة عن أرض وطنك الذي مزّقته الحروب، نسألك: هل صحيح أنّ “المناخ العامّ الذي يعيش فيه الكاتب هو الذي يحدد قضاياه المُلِحّة في الكتابة”؟

طريقة عقلي في التفكير هي مناخي اللصيق، هي عالمي الداخليّ الذي يبقى معي في أي أرضٍ كنتُ وفي أيّ فضاء. الوقائع كثيرةٌ حول الأديب، سواءٌ أكان في بلده أم خارجها، ويجتذبه منها ما يشغل تفكيره الشخصيّ في الدرجة الأولى. تشغلني حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والتعليم والعدالة الاجتماعية وانفتاح الخيارات، وإن كانت شخوص رواياتي من بلدي، فهذا لأنه المكان الذي خبرتُ، وبإمكاني التجوال فيه بارتياح، وهي لا تختلف في جوهرها عن قضايا الإنسان في كلّ مكان.

هذا يدعونا إلى سؤالكِ: ما هي مهمة الأدب الأساسية في اللحظة الراهنة، من منظورك ومعين تجربتك؟

الأدب في جوهره نتاجٌ طلق، زهرةٌ رهيفةٌ وشرسة، تشمّها الروح فتحيا بها وينتفض عنها غبارها وتتعلّم منها الرقة في مكانها والعصيان في أوانه. والأدب جمالٌ وإمتاعٌ وإضافةٌ إلى المعارف العملية. والأدب ارتحالٌ في الزمان والمكان وحيوات الآخرين، ورسول التعاطف بينهم، ومهندس الشراكات الإنسانية.

المقال والخاطرة يواكبان اللحظة الراهنة، كذلك بعض الشعر التعليميّ. بينما يختلف الأمر مع دور الشعر وكذلك الرواية، المخلوقَين للحياة في كلّ زمن.. نبعهما من الحاضر والماضي، ووجهتهما إلى أمام وأعلى، ومصبهما في الحاضر والغد القريب والبعيد..

والرواية دخولٌ مداهمٌ إلى عمق حيوات القراء، تهذيبٌ للغرائز، عزيمةٌ تصحو وهدفٌ يُرسَم، حياةٌ موازية في جمال المبنى وقيمة المعنى، ارتقاءٌ بالعالم الأرضي ليصبح أقل قبحًا وضراوة، زادٌ للإنسان ليهتدي إلى حلمه ويمسك به بضراوةٍ ويعاود الكرّة كلّما أخفق..

هكذا الرواية؛ ثورةٌ بيضاء، بسيطةٌ وعميقة الأثر، كتفٌ يتفقّدنا كلّما رآنا وحيدين..

لم تكن معاملة المبدعين السوريين عادلةً ولا منصفة

إلى أيّ مدى معنية ككاتبة بالهُنا (سورية)، الآن تحديدًا؟

إلى أقصى مدى، إلى كامل المدى.. ليس خيارًا أن أكون معنيّةً أو لا أكون، ليت لي ترف الاختيار لأُعتقتُ من نعمة الأوطان كما من لعنتها. أنا معنية بها لأنها أقدم أجزائي تشكُّلًا.. قدرٌ ملعون أن تكون مقصومًا بين الهنا والهناك، كعينين أختين في كامل صحوهما، مرميّتين كلٍّ في قارّة..

للكتّاب السوريين/يات حكايات طويلة ومؤسفة مع أجهزة الرقابة الأمنية على مدار العقود الخمسة الماضية، ما نتج منه تحجيم؛ لا بل غياب الحريات العامّة، وفي المقدمة منها حرية التعبير. ماذا عنك أنتِ وكيف انعكس الأمر على إنتاجك الإبداعي؟

أن تقف على أرضك فأنت على صخر، أما خارج بلدك فعليك أن تحيل السراب والماء والهلام صخرًا حتى تستطيع الوقوف، وقد فعلتُ حين لم يكن لدي خيار. قد وقفتُ كطبيبةٍ مُحاضرة على منابر كثيرة في بلدي، لكنها لم تكن لي منبرًا أدبيًّا، ولم أنشر مقالًا في صحفها ولم أطبع كتابًا واحدًا فيها، وهذا جرحٌ حيّ، وما يزال. لم تدخل أعمالي إلى بلدي إلا مهرّبةً أو مقرصنةً أو محمّلةً في ملفات بي دي أف، يتداولها القراء في سوريا بكثافةٍ وهمّةٍ وحرصٍ أغبط نفسي عليه، كذلك يرسلون إلي مراجعاتهم وآرائهم ونقدهم. وإن أفرحني هذا التفاعل والقبول، إلا أنّه ليس حالًا طبيعيًا، ولا إنصافًا للكتاب كمنتَج.

من المفارقات المضحكة المبكية، أنّ الحكومة السوريّة التي احتضنت المنفيين العرب، واحتفت بهم في إعلامها، ومنحتهم منابرها ووافقتْ رقابتها على طباعة أعمالهم في سورية، لم تكن عادلةً ولا منصفةً ولا رحيمة بأبنائها المبدعين السوريين.

هل تعتبرين نفسك كاتبة في المنفى؟ وماذا يعني لك المنفى؟ وهل تعتبرين وجودك في مدينة ألمانيا -بعيدًا عن مسقط رأسك- ميزة؟ أم أنه حرمكِ من ميزات معينة؟

لا. لستُ كاتبةً في المنفى. هذا المكان الذي تسمّيه منفى قد يعطيني الأمان اللوجستيّ، لكنه ليس أحد ينابيع الكتابة. قد حرمني هذا المكان الجديد من الأرض التي كنت خبرت تضاريسها وكيف أمشي عليها وأي ثياب ألبس لكلّ طقس، وأي حذاء يحمي قدمي من الألم! لا يمكن لأحد أن يحلّق بقدمين متألمتين على أرضٍ غريبة، إن لم تكن ذاته هي مكانه الأول. وفي هذا المعنى أدين للمنفى بأنه رحلتي إلى اكتشاف ذاتي. اختباراتي الحقيقية أمام نفسي والحياة عايشتها هنا وليس في بلدي.

هل تعتقدين أن أعمالكِ الروائية قوبلت نقديًا بما تستحقه؟

لستُ أنا من يقيّم. كلّ عملٍ يحكي عن نفسه وتقابله آراء النقّاد والقرّاء. كُتبتْ مقالاتٌ قليلة عن أعمالي الأولى، ثم عشرات المقالات في «لا ماء يرويها»، وبعض الدراسات النقدية ورسائل الدكتوراه بأقلام دارسي الأدب العربي في جامعاتٍ عدة، قليلٌ منها قبل جائزة “كتارا” عام 2018، وأكثرها بعد الجائزة..

أنا أتوقف طويلًا أمام آراء القراء الأشدّاء والذوّاقين، والجسورين في تعبيرهم عن الحب المطلق أو انحيازهم إلى عملٍ أكثر من سواه. حتى اليوم أسمع من كثيرين أنّ «بلاد المنافي»، عملي الروائي الأول هي الرواية الأحلى، وبعضهم يقول هذا عن «غورنيكات سوريّة»، وقد يكون في هذا مبالغة، لكنه رأي. إنما الغالبية منحازة إلى «لا ماء يرويها» قبل أن تنال جائزةً معتبرة.

ما تزال كتبي حديثة العهد، وأنا ما أزال في أول دربي، لم يمض الزمن الكافي بعد لإطلاق حكم. إنما خارج الآراء كلّها، ليس أمامي سوى طريقٍ واحد، أن أظل أكتب وأكتب..

يلاحظ اتجاه في الرواية السوريّة الجديدة نحو اختراق المحظورات (التابوهات الثلاثة: السياسة والدين والجنس). هل نحن أمام مرحلة جديدة للأدب السوري عمومًا، والرواية على وجه الخصوص؟ أي هل يمكننا الحديث اليوم عن “الرواية السوريّة الجديدة”، “رواية ما بعد الثورة/ الحرب”؟

محاولاتُ اختراق المحظورات الثلاثة ليست جديدة، عمرها من عمر الأدب، وهي إحدى كينوناته ووظائفه، ومن فضائل الأدب أنّه ينتهك حرمة المقدسات، أو لنقلها بطريقةٍ أخرى: ماذا يبقى من الأدب إن لم يقارب المحظورات؟

ومن نتاج الثورات أو الحروب، بعيدًا من مخلّفاتها على الأرض، أنها تخترق الوجدان وتقلقل الراكد وتساهم في تغيير منظومة التفكير الفردية والجماعية. في الحروب موتٌ وخساراتٌ وعطبٌ وخراب، وفي الأدب، والفنون الإبداعية كلها استرجاعٌ فنيٌّ للألم الذي تخلّفه تلك الخسارات الهائلة، تحفّزه فيعيد إنتاجها جمالًا وصرخة تحذيرٍ ورؤى جديدة.. وفي هذا المعنى حتمًا سوف تجدّد الرواية السوريّة نفسها في موضوعاتها وأدواتها..

لم تكتمل الثورة بعد، لم تكتمل الحقيقة

ما نظرتك إلى ما جرى ويجري في بلدك منذ منتصف آذار/ مارس 2011 حتى يومنا هذا؟

عام 2011 هو عام وعي غياب الحرية والكرامة والعدالة، بوصفها مقومات حياة، عام يقظة الذهن بأننا مجرد وجود بيولوجيّ عاطلٍ عن التفكير ومنقادٍ إلى عصابة عمياء وشريرة، عام شجاعة الروح لتستعيد حياتها فكريًا في بلدٍ يعترف بالإنسان، لتقف في وجه المخبر والسجان وسارق اللقمة والمستبد الديني الظاهر أو الباطني، وفكرة القبيلة أو الطائفة أو القومية الزائفة، وكلّها كانت متمثلةً في شخص الدكتاتور، الذي اجتهد لاحقًا لخلق الأعلام السوداء كحليفٍ مخلص، ونجح، وقابلتهم قيادات معارضة قاصرة وهزيلة وشخصية المصالح، وتوافق الكل مع أجندة المصالح العالمية على بقاء المأساة السوريّة قائمة.

لم تكتمل الثورة بعد، لم تكتمل الحقيقة، يكفيها أنها هدمتْ المسلّمات وشرختْ نمط التفكير القديم.

السخط والغضب يغمران شوارع موطنك الأصلي في الآونة الأخيرة، من جراء الانهيار الاقتصادي والتدهور المعيشي، كيف تنظرين إلى هذا الغليان الشعبي من منفاكِ الألماني؟ وهل ترين ثمّة تغييرًا في الأفق؟

تخطر لي مقولة فاروق جويدة، الشاعر: (فلا البعد يعني غياب الوجوه/ ولا الشوق يعرف بعد المكان). لا أظنني بعيدة، لا أنا ولا سواي ممن ولدنا وكبرنا في أوطاننا النكّارة. من إحدى تعريفات الأوطان أنها ذاكرة الرأس.. وأنا، من (هنا) برلين، عالقةٌ حتى عظامي في ذلك (الهناك) المقيم في الرأس، والحالة هنا وجدانيةٌ لا وطنية!

قالت لي سلمى على التلفون: مصروفي اليومي إلى المدرسة مئة ليرة، هي نصف ثمن كيس الشيبس، في الفرصة أتشارك أنا ورفيقتي على كيسٍ واحد، نتناوب على أكله بالدور، حبّة لي وحبة لها، وعند الحبة الأخيرة تدعوني لآكلها فأخجل، أقول لها: أنا شبعتُ كليها أنتِ، فتجيبني رفيقتي: أنا أيضًا شبعتُ، كليها أنتِ..

وأسأل سلمى: وهل كنتِ شبعتِ حقًا؟ ولا تجيب؛ تصمت هذه البنت التي عمرها عشر سنين..

وتخبرني أختي، أم سلمى، أنّ النساء يذهبن إلى السوق ومعهن كيس نايلون من البيت، يشترين ملعقة أو اثنتين من زيت الذرة أو عبّاد الشمس (لا زيت الزيتون) (لتقلاية الطبخة)، أو ملعقة لبنٍ لفطور العائلة..

لا أود للعيش ولا كفاءة في التعليم، ولا أفق لمستقبلٍ قريب.. بشرٌ يفتقرون إلى الأمان والسقف والدفء والقوت، بشرٌ ساخطون وغاضبون نعم لكنهم يكدّون، يكافحون، يخترعون أسباب الحياة الأوليّة، وهذه مأثرتُهم، وهي في الوقت نفسه أَمانةُ أبناء البلد المقيمين خارجها كي يردّوا بعض دَينهم الإنسانيّ إلى أهلهم. وهذا الدعم ليس حلًّا، إنه تسكين، فتأمين شروط الحياة من مهمات (الدولة) لا الأفراد..

لا أملَ قريبًا في أن تُسبل العصابة أذيالها. وحال الإنسان في بلدي عارٌ على هذه البشرية وخزيٌ لها بدءًا من الدكتاتور إلى منظمات حقوق الإنسان إلى حكومات العالم الوقح الذي يسمّي نفسه بالمتحضّر!

ومن بين سلمى ورفيقتها المتقاسمتين لكيس الشيبس، من بين هؤلاء الأطفال الذين تعلّموا باكرًا أن يقاوموا العوز بـ(الكذب الأبيض، الحلو)، ومن هذه البيوت التي تعيش على الخبز الرديء وحده في أيام كثيرة، يأتي الغناء والعزف واللوحات والشعر والفنّ القصصيّ والبطولات الرياضية.. هؤلاء بشرٌ لن يموتوا وإن حاولت عصابة الأمر الواقع أن تقتلهم بكلّ وسيلة، آخرها بالتجويع..

هؤلاء أهلي وناسي وعالمي.. أبادر نحوهم بما أستطيع، وأحفظ مآثرهم في رأسي وأُحيي أصواتهم في كلّ محفل، وأحاول إنصافهم بكتابتها..

ما تقييمك وأنت الطبيبة والكاتبة لوضع المرأة السوريّة بعد عقدٍ دامٍ دفعت فيه أثمانًا باهظة، وما هي الطرائق الممكنة لإيجاد حلول لهذا الوضع؟

ليس بعد السنوات العشرة الأخيرة وحدها؛ طوال القرن العشرين زغردت المرأة السوريّة للابن وللأخ وللزوج الذاهب إلى قتال مستعمر بلاده، بينما قلبها يتمزق. وشاركت بنفسها في القتال عن الأرض والوجود، وقامت بأعمال الرجال الذين ماتوا في المعارك وعمّرت البيوت في غيابهم. ثم (تحررت) البلاد ودخلنا في الفقر وغاب الرجال خلف البحار ليرسلوا بلقمة العيش من المنافي، وظلّ قدر المرأة أن تربّي الأولاد وحدها، وأن تحرس الأرض وتعمّر البيت وفوق هذا تظل حقوقها ناقصة.

أما اليوم، وبعد الثورة السوريّة، ثم الحرب التالية؛ لم يعد حال المرأة السوريّة وحدها، أصبحت المأساة السوريّة اليوم وجوديةً إنسانيةً، لا جندرية.

المرأة والرجل في بلدي يخوضان معركة البقاء معًا، بفارقٍ لافتٍ في هذه الفترة بالذات، أنّ الرجل لا يعاني حاليًّا أقلّ من المرأة، إذ تجد المرأة متنفسًا في البكاء وفي أشغال البيت وفي اهتمام بعض المؤسسات بها أو قدرتها على خلق المشروعات الصغيرة أو إدارتها. أما الرجل فهو متروكٌ تمامًا لعجزه عن إطعام نفسه وأسرته على الرغم من بذله النفس والجهد والعرق والوقت، وهو يخجل من البكاء فيكتمه.

لن يفهم الدكتاتور بأي حالٍ أن شعبه أبقى له من ثروته التي نهبها من صدور الناس، وأبقى له من سادته الذين لا يحترمونه. قد يطلع أفقٌ من قوانين الحياة، فلا حال يدوم، قوة الحياة سوف تخلق الجديد. في جيلٍ ما، في المستقبل الذي قد لا نكون نحن فيه، سوف تنقرض الدكتاتوريات من بلادنا كما انقرضت في بلدانٍ سبقتنا كثيرًا إليها، وسوف يتعب حيتان العالم ومافيات السلاح والحكومات العدوة لشعوبها من الحرب، فيستريحون ليأخذوا وقتهم في الاستعداد للحرب القادمة. حينها قد يتركون للناس برهة وقتٍ للتنفس في الهدنة قبل الحرب التالية..

تنشغل الرواية العربية منذ عقود بسؤال الهوية، هل هو سؤال مُلِحّ لديك، وكيف يمكن أن تُفهم الهوية السوريّة في الوقت الراهن، بعد كلّ هذا التشظّي في المجتمع السوري؟

سؤال الهويّة عالقٌ أبدًا! هل أقول: امرأة، طبيبة؟ أديبة؟ سوريّة؟ عربية؟ متدينة؟ مؤمنة؟ ملحدة؟ ابنة الماضي أم الحاضر أم المستقبل؟

أخلص منها كلّها إلى أنني أحمل هويّاتٍ عدة، تتقدّمها هويتي: إنسانة، ومن بعدها طبيبة: هي حقيقة اجتهادي وجهدي وتعبي لكي أحوز عليها. وفي الأديبة مني يجتمع هذا الخليط الممتد من أرضي الأولى إلى برلين حيث أنا اليوم، إلى أي أرضٍ قد أقيم فيها غدًا، ومن بدء الخليقة حتى آخر جيلٍ فيها، ومن شخصي الحيّ إلى أصغر ذاتٍ في شخوص رواياتي.

كذلك لا يشغلني النبش في هويتي بقدر ما يغويني: كيف أثري هذه الهوية، وعلى التوازي لا أفقد فردانيتي..

في الوقت الحاضر لا مكان لترف الهوية السوريّة؛ نحن نعايش صراع البقاء بما يُخلّف من قبحٍ وجمال.

في الحلم بالمستقبل: مشروع بناء دولة مواطَنةٍ وقانون، هويّة أفرادها إنسانيةٌ ووطنيّةٌ تشاركية في مجتمعٍ مدني موسّع، يحترم حرياتهم، بما فيها الدينية ويصون انتماءهم الخاص وسط الانتماء العامّ.

في النهاية، ماذا تخبريننا عن مشروعاتكِ الكتابية الراهنة والمستقبلية؟

أتذكّر موقفين حصلا خلال وجودي في بيروت 2017، وفي رحلة البحث المضني عن ناشرٍ لروايتي «لا ماء يرويها»، (والبحث عن ناشرٍ كان عذابًا يُكتب فيه الكثير، فدور النشر العريقة والكبرى التي توجّهتُ إليها لم تُخفِ إعجابها الشديد بالرواية، وراوغت في نشرها إن لم أدفع مالًا مقابل النشر، وهو ما لم أكن لأفعله على أي حال).

الأول في مكتب الأديب عبدو وازن، في صحيفة الحياة، مع صديقتي الأديبة والصحفية مايا الحاج، وأنا مهمومةٌ بالنشر ومشقّاته، ويسير بنا الحديث ويتفرّع إلى سير شخصية.. قال لي الأستاذ وازن بعدها: “أيًّا كان ما كتبتِه هنا، في هذه الرواية التي تسعين لنشرها الآن؛ لن يكون أغنى مما رويتِه للتوّ أمامي، إذا عرفتِ كيف تروينه..!”.

والثاني أيضًا في بيروت، في جلسةٍ مع أصدقاء بينهم صحافيٌّ كويتي قرأ «لا ماء يرويها» بعد صدورها بأيام، وهو المهتمّ بتاريخ منطقة جبل العرب، مسقط رأسي في سورية، قال لي: “لا تخشي على روايتك هذه، ستحيى وتثمر أكثر مما قد تحلمين، لكنّ سيرتك الشخصية، إنّ فكّرتِ يومًا بكتابتها، ستكون الأهمّ من كلّ ما تكتبين!”. تبيّن أنه يعرف عن حكايتي الشخصية أكثر مما توقّعتُ أنه يعرف، أنا التي التقيه أول مرة، ولم أكن في الجلسة أكثر من مستمعة..

رأيان منفصلان أمدّاني بالتفاؤل ثم بالقلق مما ينتظرني.. فأنا أكتب في سيرتي منذ سنوات، وهي سيرة جيلي، ومن بعض أقداري أن انعطفت حياتي الشخصية بعيدًا عن منبتي شديد الخصوصية، وكانت من الغرابة والخطورة والأرق ما كلّفنا، أهلي وأنا، غاليًا قبل أن يبدأ بطرح الثمر. من أجلها بحثتُ بل نقّبتُ عن هذا الفن من الروي، على نهج تجربة د. آذر نفيسي، اختصاصية اللسانيات الإيرانية المقيمة في أميركا، كذلك مشروع إيريكا يونغ/ أميركا، وإيمان مرسال/ مصر، وبعض من نتاج إيزابيل الليندي.. لتكون تجربة في السيرة الروائية، مطعّمةً باختباراتي في الحياة وفي مهنة الطب وفي الكفاح النسوي والمجتمعي. هذا النمط الكتابيّ شديد الغنى ومتعدد الرسائل.. ما أزال أخطّ فيها وأنا أطرد الرقيب الذي يفسد صدق كلّ سيرة، ولن أنشرها إلا تكتمل جرأتي على نشرها بغثّها وسمينها، بقوتها وضعفها وانكساراتها كما بجمالها وبشاعة بعض تجاربها بعيدًا عن الطهرانية، وما أزال أتجاذب مع نفسي وأنا أخطّ كلّ مقطعٍ منها. لم يخرج ما أُنجز منها حتى اليوم على طريقة المذكرات، إنما أخذ نسقه الروائي بما لا يختلف عن أسلوبي في الكتابة بشيء، سوى بفارق أنني أطلّ جهارًا هذه المرة على قرائي بسُمرة الجبل على وجهي، بعينيّ الصغيرتين يضيئهما بريق الحياة، بطبقات صوتي التي ما زال بعضها حبيس الحنجرة، بقلبي الذي يتسع لشغب وحب العالم، بتركيبة روحي من أقصى صلابتها إلى أقصى هشاشتها.. وإلا فلتبق طيّ الأدراج..

وفضلًا عن عملي المهني في عيادتي والاجتماعي في ألمانيا، حول التوعية الصحيّة للنساء المهاجرات، هناك مشروع روايتين للإنجاز القريب، ولا أعرف بأيهما سأبدأ! موضوع الأولى سجون الرأي، والثانية عن الحب. قد كُتبَ الكثير فيهما من قبل، كذلك سوف يُكتب، ما دام على الأرض سجونٌ تُغلق على أصحاب الرأي وما دام لغز الحب ينكأ كلّ قلبٍ حيّ.

(*) صورة الكاتبة تصوير فرح أبو عسلي

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى