أبحاث

عن الراحلين سايكس وبيكو… وسوريا بلا إضافات!/ موفق نيربية

أصبح الحديث في التاريخ مملّاً، ولكنّه للأسف يبقى مَهْرباً من الحاضر، لا ينفكّ يعيدنا إليه. والمناسبة هي مرور ذكرى «شهداء السادس من أيار» الأسبوع الماضي، ومرور ذكرى توقيع الاتفاقية الشهيرة من قبل السيدين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي بعد ذلك بعشرة أيام. وكلاهما صاحب دورٍ كبير في تاريخنا الحديث.

ما زال الكثير من الإسلاميين – العثمانيين يرون أن الذين أعدموا يومها «عملاء» و»خونة»، تعاملوا مع الغرب الكافر لإنهاء شوكة الإسلام؛ بل إنهم تخلّوا عن أيّ تحفّظ سابق وأخذوا يعبّرون عن موقفهم بصراحة وحريّة أفسحتها لهم نجاحات جديدة في هذا القرن في العاصمة القديمة ذاتها. كان الاحتفال بيوم الشهداء ذاك، عادةً في القرن السابق اعتدناها، من دون تدقيق كبير، لا إيجاباً ولا سلباً.

ولكن موضوع هذه المقالة يعود من جديد إلى مسألة اتفاقية سايكس- بيكو، بمناسبة ما يُثار حول الهوية، وما ينبغي إثارته أيضاً. وقد كتبت مقالة منذ حوالي خمسة عشر عاماً حول «غدر السيدين سايكس وبيكو»، لامست فيها الموضوع ببعض الحذر والتجريبية، مناسبة تلك المقالة أصبحت أشدّ إلحاحاً الآن، ولأسباب أكثر تنوّعاً. حاولت جمعية العربية الفتاة، أمّ معظم التجمعات السياسية في المشرق العربي، مع جمعية العهد – جناحها العسكري- أن تدخل على الموضوع بشكلٍ استباقي. ووضعتا ما سمّي وقتها باسم «بروتوكول دمشق»، الذي أراد دولة موحدة اتحادية في المشرق، ابتداءً من خط العرض 37 شمالاً إلى أقصى الجنوب، مستثنياً عدن استرضاءً وتفهّماً لرغبات بريطانيا القاطعة. كان ذلك التفهّم يحاول مراعاة مصالح فرنسا أيضاً، وتجنّب التعارض مع أيّ مشروع آخر يعرفون قوته. تمّ تقديم ذلك المشروع والخريطة إلى الأمير فيصل في دمشق على طريقه إلى الأستانة للاحتجاج على مؤامرة خلع أبيه الحسين واستبداله بشريف منبوذ كان اسمه علي حيدر. في طريق عودته من العاصمة اجتمع ثانيةً في دمشق مع ممثلي الجمعيتين، وبدا كأنه اقتنع أكثر بعرضهما الذي يقترح قيادة الحسين وأسرته لثورة ضد العثمانيين بالاتفاق مع البريطانيين. ابتدأ الشريف الأب مفاوضاته مع الإنكليز على أساس تلك الخريطة والامتيازات المعروضة عليهم.

وكانت مسألة إرث الدولة العثمانية قد انتصبت على الطاولة بقوة، فتداعت دول «الوفاق» الثلاث إلى التفاوض حول توزيع وتقسيم التركة، كلّ يريد حصة لطموحاته الخارجية: بريطانيا وفرنسا وروسيا – كانت الولايات المتحدة بعيدة آنذاك. مثّل السير سايكس الأولى والسيد جورج بيكو الثانية بوجود سيّد روسي موافق على ما يجري، شرط حصول بلاده على حصة في شرق تركيا الحاليّة، سمك ما زال في الماء ولم يخرج. وحين جاءت الثورة الروسية، لم تمرّ أيام معدودة حتى فضحت المستور كلّه. تعرّضت الخريطة لتعديلات عديدة، بعد الحرب، ثم انتصارات أتاتورك الوطنية اللاحقة، وتوازنات جديدة مؤثّرة أيضاً، حتى استقرّت في ما بعد على الشكل الذي نعرفه، مع مرورها أيضاً بمعالجات تجريبية لسنواتٍ لاحقة. من يومها، يندب أهل المشرق من العرب حظهم ومصادرته من قبل تلك الوريقة – الخريطة، فبؤرة اهتمام تينك الجمعيتين المذكورتين أعلاه كانت في المشرق، وخصوصاً في سوريا.

تنامت بالتدريج مظلومية ثانية كرديّة، تأسّست على تقسيم كردستان من دون أيّ اعتبار لأهلها، الذين كانوا العنصر الأضعف آنذاك، حاقت اللعنة بذلك العنوان حتى الآن: سايكس- بيكو، من دون تمحيص أحياناً. اعتمد العرب – السوريون على فرط عروبتهم في موقفهم ذاك، والكرد – السوريون على عَوَز كرديتهم، التي نمت بعد ذلك بالتدريج، في النصف الثاني من القرن السابق. وها هم الآن جميعاً يبحثون في موضوع الهوية، ويتمسّك أكثرهم اندفاعاً بما كان سائداً لديه في الزمن القديم، بحيث ينفي بعض العرب الأعلى صوتاً « سوريّتهم» أو ينزلون من منزلتها، ويفعل مثل ذلك بعض الكرد بشكل معاكس في الشكل والمضمون.

وأودّ هنا الذهاب إلى تجربة أخرى تتعلّق ليس بالهوية نفسها وحسب، بل أيضاً بحدود الدولة وضمان وحدة أرضها وسيادتها، من دون مساسٍ بحرية بناء الدولة داخلياً على الدستور المناسب، من حيث بناء المركزية واللامركزية. فأذهب إلى افريقيا، الجغرافيا الأصعب في العالم على الثبات. تتداخل القبائل والإثنيات وتكثر بشكل هائل هناك، ولا يمكن ضبط تواجُهِها وانقسامِها بين الحدود وحولها، الأمر الذي أصبح عنصراً قاتلاً بعد انكشاف الثروات الباطنية ونزاعاتها. هنالك في افريقيا 20% من اليابسة على الكوكب، ويوجد فيها 16 بلداً لا سواحل له، أو إطلالة على بحر، ويبلغ طول سواحلها أكثر بقليل من محيط الأرض أيضاً، ومرّت عليها حركات تحرير واستقلال وطني هي الأهمّ في التاريخ الحديث، وتتزاحم فيها أكثر من 50 دولة، لا تزال حدود معظمها بحاجة إلى ترسيم وتحديد يجريان من دون توقّف.. ورغم ذلك، لم تجد تلك القارة بديلاً عن التوافق على أن حدودها نهائية غير قابلة للتعديل، إلّا في شروط متوافَقٍ عليها بسلاسة، ومن دون خطر الانتقال إلى الصدام العسكري. لم ينجح الأمر تماماً ونهائياً، ولكنه أسّس جيّداً للأمر، ونرى الاتحاد الافريقي كلّ فترة وأخرى يمارس سلطات وتوجيهات ميثاقه. وُضعت مبادئ عمل الاتّحاد الأفريقي في مادة قانونه التأسيسي الرابعة، ونصّت الفقرة الأولى – المبدأ الأول – فيها على: «المساواة في السيادة، والاعتماد المتبادل ما بين دول الاتّحاد». ونصّت الفقرة الثانية – المبدأ الثاني- على» احترام الحدود القائمة عند نيل الاستقلال» ثم مبادئ أخرى.

مرّت افريقيا بالكثير من العواصف، وتحوّل العديد من قادة حركات تحريرها إلى طغاة كان بعضهم مهزلة تعيسة، كما أصبحت الديمقراطية وروح تسوية النزاعات سلمياً إلى روحٍ غالبة عليها وعلى صورتها. ولا يمكن المرور على ذلك من دون إعجاب بمسار القارة، التي ما زال أمامها الكثير، ولكنها اجتازت من الفِخاخ ما كان قادراً على تفجيرها وإعادتها إلى حالة أدغال من الخراب.

واحدّ من أهمّ ما استندت إليه افريقيا في تطورها هذا هو تثبيت حدودها، كما ورثتها من الاستعمار والاستقلال عنه، وهنا مربط الفرس في ذلك المثال. هو مربط سؤال الهوية الجامح كما يبدو. في سوريا، هويات عديدة منها ما هو دون الوطنية، ومنها ما هو فوقها، وأقلّه ما هو عندها تماماً. يمكن رؤية ذلك من دون إلحاح على التوقف أمام تعبير «الوطنية» الإشكالي، الذي تُرجم من اللغات الغربية من دون تمحيص كاف، ولا تفريق عن «القومية»، أو تحديدٍ لدور الحداثة فيه من مواطنة ودستور وحكم قانون وسيادة للشعب وإقرار بحريات أساسية وحقوق إنسان. ومنها حقوق» الجماعات» و»المكونات» وكلّ الكتل البشرية ذات الهوية الثانوية. من تلك الهويات ما هو قومي أو إثني أو ديني أو مذهبي وطائفي، منها ما هو قابلٍ لأن يكون قاتلاً أيضاً. لنفترض إذن أن هنالك إمكانية للعودة إلى الهوية والاسم والحدود التي ورثناها عن الانتداب، أو الاستعمار، أو ما شئتم، تلك الهوية «السورية» وحسب، ونتمسّك بها ونعتبرها ممّا يمكن أن يجمع شتات هذا البلد من جديد، بعد كلّ آلامه والأعاصير التي شتّتته وشتّتت أهله وأبناءه. في تلك الحالة، يعمد العرب السوريون – المسلمون السنة – إلى التنازل عن تسمية الدولة باسم الجمهورية «العربية» السورية، التي حاول بها حكام دمشق بعد انفصالهم عن مصر عام 1961 أن يعوّضوا عن انفصاليّتهم، ويعودوا إلى الاسم الأصلي: سوريا، سورية، الجمهورية السورية؛ شكلاً ومضموناً، ويقبل الآخرون – الكرد خصوصاً – ذلك كهوية وطنية لا تتعارض مع الهويات الجانبية؛ في إطار دستور حديث مرضٍ للجميع ولا مركزي؟ أو بطريقة أخرى:

لندفن أخيراً السيدين سايكس وبيكو باحترام، وندعو بطول العمر لما بقي من خريطتهما ثابتاً متقلقلاً حتى الآن!

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى