مراجعات الكتب

“الشهيدان” لعمر قدور… التباسات كثيرة ويقين وحيد/ فؤاد م. فؤاد

رواية عمر قدور الأخيرة: “الشهيدان عمر قدور” (دار المتوسط 2022) هي رواية “النسخة الناجية” من اسم المؤلف، بعد موت شخصين يحملان الاسم ذاته. شخصان يُقتلان في مكانين مختلفين في شمال سوريا وجنوبها، في أولى سنوات الثورة السورية، لا صِلة بينهما سوى أن جنازتيهما كانتا على “يوتيوب”؛ جنازة صاخبة وأخرى صامتة، وأن عمر قدور الروائي والراوي وقعتْ عيناه – مصادفة – عليهما، فقرر أن يرصد هذا الموت وأن يبطىء (روائياً) في دفنهما كي يتيح للقتيلين التأمل في حياتهما وفي موتهما وفي أحلامهما وآمالهما، وكي يتيح للقارىء الخوض – ولو لزمن قراءة الرواية – في تجربة الألم السوري.

هي إذن رواية عن المقتلة السورية والشتات السوري، لكنها أيضاً عن الخوف السوري وعن الوحشية التي كان على القتيلَين أن يواجهاها وأن يدفعا حياتهما ثمناً لهذه المواجهة. فمن موقعه ككاتب صحافي في السياسة وفي الشأن السوري تحديداً، وقبلاً كروائي (صدرت له 4 روايات قبل ذلك) وكشاعر (مجموعتان شعريتان)، فإن عمر قدور يرصد التفاصيل الدقيقة لأحداث وشخصيات ومصائر عاشها قبل خروجه من دمشق وبعدها في الشتات، وعاين التحولات الكبرى والصغرى التي رفعت الثورة السورية إلى مصاف التحديات التاريخية التي أفضت إلى الخروج على أعتى الأنظمة وأكثرها وحشية، لكنه أيضاً رافق انكسار هذه الثورة وانهيارها وتعفن مآلاتها. 

رواية “الشهيدان عمر قدور” هي رواية التباسات كثيرة ويقين وحيد.

التباس الأسماء، حيث الكثير من شخصيات الرواية يحمل اسم عمر قدور: الروائي، وقتيل زملكا، وقتيل أطمة. الهارب من حي الشيخ مقصود في حلب إلى تركيا ثم على قوارب الموت إلى اليونان فألمانيا، والمتسلل إلى لبنان ثم اللاجىء إلى فرنسا، والكاتب. كلهم عمر قدور. تتداخل الشخصيات وتنمحي الحدود بين حكاياتها وربما بين مصائرها. يتشاركون جميعاً الفقدان والخوف والألم والموت. يتواجدون دائماً على تخوم الأشياء وحدودها. الحدود بين مناطق النظام ومناطق المعارضة، بين طائفة وأخرى، بين داخلٍ سوريٍ وخارجٍ منفى. الحدود بين الأمل واليأس، بين الخيبة والرغبة، بين التشبث بالبقاء وضرورة الرحيل، بين الجنس والقرف منه، بين الوحشية والحب. شخصيات تمثل الخير وأخرى هي الشر المطلق، تتواجه – وإن بشكل غير مباشر- مثل تراجيديا إغريقية تبدو الغلبة فيها للشر.

التباس الأسماء الحقيقي والمتخيل هو جزء من التباس السِّيَري بالروائي. أسماء أشخاص حقيقيين يعيشون ويُقتلون ويهاجرون ويقاومون بأسمائهم الحقيقية. يتقاطعون في حياتهم ومصائرهم. عمر قدور الروائي وعمر قدور المتخيل. اختطاف رزان زيتونة وسميرة خليل وناظم ووائل، مقتل غياث مطر ومشعل التمو ونعمان عبدو، اعتقال وتغيبب فائق المير، موت مي سكاف ومحمد سعد. شخصيات حقيقية تتجاور بمصائرها (عبر عمر قدور) مع شخصيات متخيلة (هي أيضاً خلطة من شخصيات تكاد تشي بأصحابها الحقيقيين) مثل آفين وخناف وفداء وأبو عبيدة وعادل وأبو عزام. أحداث بوقائعها كما وثقتها تقارير وفيديوهات وأخبار، تتقاطع مع سرد روائي ينتقل عبر الزمان والمكان بمونتاج سريع ومتوتر يستدعي حيوات أشخاص كما يريدها الروائي ويخلطها بمقاطع من تجاربه التي عاشها أو سمعها أو اختبرها من قرب.

ثم يأتي التباس السرد الذي يدفع بك كقارىء، من حين إلى آخر، أن تعود ربما إلى صفحات سابقة لتفهم، أو لتعرف مع أي شخصية من موشور الشخصيات أنت الآن، وفي أي زمان وأي مكان يجري ما يجري أمامك. أسماء الأماكن الكثيرة (وإن في بقع جغرافية محددة داخل سوريا) قد تزيد الالتباس الذي ربما تحميك منه معرفةٌ تملكها بسبب سوريّتك، أو ربما، بسبب متابعتك لشأن الثورة الدقيق الذي قد يكون غيرك يعرف عناوينه العريضة. ما يحميك أنت ربما يزيد التباس من لا يملك هذه المعرفة، أو مَن هو تماماً خارجها (أفكر: ماذا لو تُرجمت هذه الرواية؟)

التباس السيري والروائي يقود إلى التباس التوثيقي والمتخيل. توثيقُ قصص تعذيب واغتصاب ومداهمات وآلام وجنازات وتشبيح وطوائف متنازعة وخيانات وبطولات من شاهدٍ كان في خضمها ومعمعانها، وقربَ الكثير من أحداثها وشخصياتها. ومتخيلٌ لمواجهات ومصارحات واعترافات وخيبات وتنازلات وآمال وأحلام وانكسارها، كان لابد لها من روائي واسع المخيلة لرصدها والتقاط أدق تفاصيلها ومشاعرها.

قضايا كثيرة يستدعيها عمر قدور في روايته. الخلافات ما بين فصائل الثورة المتعددة وارتباط بعضها بمصالح شخصية أو مصالح قوى لا يعنيها ما يريده السوريون. تفاصيل عن مجموعة “غرباء الشام” وقائدها حسن جزرة، تنافسه مع قائد فصيل آخر هو خالد حياني. أسماء الأحياء التي قصفها النظام في زملكا وعربين. أسماء أمكنة ومدارس وحارات. الهجوم بالكيماوي وتوثيق بعض الشهادات التي انتشرت وقتها في الانترنت ومواقع التواصل (مثل الطفلة التي ماتت أمها ونجت هي من القتل لتسأل الطبيب الذي أسعفها: عمو أنا عايشة؟). لكن الرواية تستدعي أيضاً قضايا سبقت الثورة أو ربما مهدت لها. ما حدث في القامشلي العام 2004، والمواجهات بين الأكراد والعرب، الخلافات الكردية-الكردية، الفساد في مؤسسات القضاء والتعليم والرشاوى التي يتلقاها المدرسون والقضاة، والمحامون المهادنون- إن لم يكونوا فاسدين- “لقد نجحتَ أن تكون محامياً فاشلاً”، تقول آفين لزوج المستقبل الذي هو أحد نسخ اسم عمر قدور.

يمر الروائي على الكثير من القضايا بضربات ريشة سريعة ونزقة، لكنه يصر على توثيقها.

ثم هناك التباس المآل والقصد. هل هي روايةٌ – شهادةٌ تتقصد أن تحمل أسماء أشخاص حقيقيين فُقدوا أو قُتلوا كي تكون شهادة عن زمن ومكان يحكمه قتلة؟ روايةٌ – شهادةُ تصلح لباحث أو محكمة أو تاريخ مقبل؟ أم هي رواية – رواية تتعمّدُ كل هذه الالتباسات كي تكون جديرة باسمها وباسم هذا الفن لأزمنة وأمكنة أخرى؟

التباسات كثيرة تصنعها وتتقصدها الرواية، لكن يقيناً واحداً ووحيداً تضعه أمام قارئها: لقد خرج (بعض) السوريين لأمر محق. ومهما اختلف التأويل، ومهما اختلف الحدث وتعددت الروايات عنه، ومهما تراكمت الالتباسات والخيبات والآلام، ومهما تكسرتْ آمال، فإن ما خرجوا يوماً ما لأجله لم يكن إلا محقاً.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى