أبحاث

المعارضات السورية .. سلفيات متصارعة/ علي العبدالله

تنخرط المعارضاتُ السورية في صراعاتٍ بينيةٍ وسجالاتٍ فكرية على أسسٍ قديمةٍ من دون التفات للواقع الراهن، وما حصل في العقد الأخير: الربيع العربي وثورة الحرية والكرامة التي فجّرها سوريون ضد القمع والتمييز والإذلال، وما يستدعيه ذلك من إعادة نظر في هذه الأسس، وكسر النمطية القاتلة التي منعت اتفاقها على برنامج سياسي، وخطة عمل لمواجهة التحولات السياسية والاجتماعية التي ضربت الدولة والمجتمع السوريين برد النظام العنيف والمدمّر على مطالب المتظاهرين المحقة؛ وانخراط دول وقوى خارجية في الصراع في سورية، وتحويله إلى صراع على سورية.

لقد بقيت كل القوى، اليسارية والقومية والإسلامية، تكرّر مواقفها القديمة وكأن شيئا لم يكن، فالقوى اليسارية والقومية، التي يجمعها العداء للإسلاميين، تروج، من دون حذر أو تحفظ، أفكار رموزها، إلياس مرقص؛ ياسين الحافظ؛ جمال الأتاسي، بعض منها يضيف عبد الكريم زهور عدي، باعتبارها صحيحةً وتجسّد الموضوعية والعقلانية، وأنها لا تزال صالحةً لتوجيه حركة النضال وتحقيق التغيير المطلوب. والقوى الإسلامية، الإخوانية والسلفية على حد سواء، تعمل على جب أفكار القوى اليسارية والقومية بإبراز المصدر الإلهي لمنطلقاتها مصدرا حاسما، ومن الصعوبة رفضه، وتغوي المواطنين الذين يمثل لهم الإسلام قيمة عظمى، تستقطبهم وتحشدهم في مواجهة القوى الأخرى.

واقع الحال أن ما تقوله هذه القوى، كل هذه القوى، يثير أسئلةً اعتراضيةً كبيرة. فالقوى اليسارية والقومية تعلي من شأن رموزها، وتنفخ في أهمية أفكارهم وتاريخهم النضالي، بغض نظر أو إنكار لنقطة ضعفٍ مركزية في هذه الأفكار والمواقف، ألا وهي تبنّيهم منطلقات فكرية وسياسية جاهزة؛ ليست ثمرة تفكيرهم الخاص؛ والسباحة في فضائها والمناورة داخلها من دون أن يكلفوا أنفسهم التدقيق في صحتها وجدواها لحل المشكلات التي تواجهها مجتمعاتهم التي يناضلون داخلها ويسعون إلى تغييرها. فما يميز إلياس مرقص محاربته الستالينية وربيبتها البكداشية، وما يميز ياسين الحافظ محاولته تعريب الماركسية، ولبرلتها في مرحلةٍ لاحقة، وما يميز جمال الأتاسي التنظير للناصرية لتحريرها من طابعها العاطفي. لكن أيّا منهم لم يرفع سؤال الشكّ في مواجهة قناعاتٍ ومواقف تبنّاها ووضعها على بساط البحث والتمحيص، ليكشف مدى صحتها وجدواها لمواجهة مشكلاتٍ عينيةٍ يعيشها المجتمع السوري. لقد بقوا أسرى الفكر الرائج في تلك المرحلة، ما يجعل الحديث عن عقلانيةٍ خالصةٍ تعسّفا، فوصفهم بالعقلانية ممكنٌ في حدود مقارنتهم بآخرين، الستالينيين والبكداشيين مثلا، ولكنهم ليسوا عقلانيين لاعتمادهم في مواقفهم على أفكار أنتجت في مجتمعٍ مختلفٍ في تركيبته وسياقه، في حين تقضي الحصافة إنتاج الأفكار وإطلاق المواقف ووضع الخطط والبرامج بعد عصفٍ ذهني، يستفيد من إنتاج الآخرين. وبعد دراسة الواقع المحلي، وإدراك طبيعته وبناه وقدراته، والتثبت من صحة المنطلقات الفكرية وصلاحيتها لفهم الواقع المحلي، ووضع حلول لمشكلاته. قارن موقفهم “العقلاني” بموقف الشيوعي التتري، سلطان غالي، الذي رفض، وهو جزء من السلطة السوفييتية المنتصرة، ديكتاتورية البروليتاريا التي طرحها لينين في مؤتمر الكومنترون، ودعوته إلى إقامة تحالف قوى الشعب العاملة، كونها الصيغة الأقرب إلى الواقع التتري. أو مقارنة ترجمة ياسين الحافظ نصوص ماركس وأنجلز عن الدين تحت اسم مستعار بموقف الحزب الشيوعي الإندونيسي الذي كانت كوادره تقطع اجتماعاتها الحزبية لأداء الصلاة في وقتها.

وقد زاد الطين بلة تبنّي الثلاثة الناصرية من موقع الالتحاق بالطرف المهيمن على المشهد السياسي، والتسليم للأفكار الرائجة؛ ما يشي باعتبار الرواج دليل صحةٍ وعافية، والسباحة في فضائها وترويجها على أنها تجسيد عملي للثورة العربية، لما تتميّز به من عقلانية، أو “نقل السياسة العربية من الرغبات والمطلقات والمسبق إلى الإحساس بالزمن والصيرورة إلى اعتبار الوقائع والتراكم”، وفق قول ياسين الحافظ، قول فيه الكثير الكثير من المبالغة والتضخيم. في التوجه المروّج نفسه، يكتب جمال الأتاسي في كتابه “إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي”، تقويما لعبد الناصر بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 قائلا: “لقد ظل عبد الناصر هو نفسُه من حيث توجّهه العام الفكري والسياسي، الوطني والقومي والاشتراكي، ومن حيث مبادئه ومنطلقاته، ولكنه انتقل نقلةً نوعيةً إلى طور جديد، وأضاف وأصبح شيئاً جديداً وتسلّح بخبراتٍ جديدة. لقد ظل الثورة، ولكنه أصبح عقلنة الثورة وعقلانيتها التي تضع كل شيءٍ على محكّ الواقع الملموس وعلى محكّ الجدوى”. على الضد من هذا التهليل الفج، قال أمين هويدي، في مقالة له، إن عبد الناصر لم يدرك كنه السياسة الدولية إلا بعد العام 1968، إلياس مرقص لم يكن بعيدا عن توجه رفيقيه، ياسين وجمال، وإن بقي تقويمُه أكثر حذرا.

لم يلحظ الثلاثة، أو أنهم غضّوا الطرف، عن نقطة ضعفٍ قاتلةٍ في تجربة عبد الناصر ونظامه، وهي إبعاد الجماهير عن السياسة، وتنفيذ البرنامج السياسي الناصري، عبر الأجهزة الرسمية مع العمل على تنميط الوعي السياسي للمواطنين، بربط الايجابيات بشخص عبد الناصر، وتحويله إلى مقدّسٍ لا يُسمح المسّ به أو نقده. من مآسي تلك المرحلة أن فنانا من وزن إسماعيل ياسين قد حورب بلقمة عيشه، ودُفع إلى الهجرة إلى لبنان، حيث مات مُعدما، فقط لأنه روى نكتة تمس عبد الناصر. لقد جذبهم ميل عبد الناصر نحو اليسار، مع أن الخطوة لم تكن تعبيرا عن قناعةٍ فكرية، بل تكتيكا سياسيا لكسب ثقة السوفييت، وتغطية نظامه بتوفير مستلزمات الصمود والاستمرار، بعد سحب العرض الأميركي لتمويل السد العالي وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، وحاجة مصر للدعم السياسي والاقتصادي، من السلاح إلى التنمية، تمويل السد العالي وبنائه في تلك المرحلة.

ذهب الثلاثة في مرحلة متأخرة من حياتهم نحو تبنّي الليبرالية، على خلفية المد الديمقراطي، وتصاعد الدعوة إلى تعميم الديمقراطية عالميا، وبدأوا، من دون مراجعة أفكارهم ومواقفهم التي دعت إلى مشروع تغييرٍ ثوريٍّ لا يطيقه مجتمع مفوّت، الوصف لياسين الحافظ، ترويج الليبرالية واقتصاد السوق، وربط التقدّم والنهوض بهما، وتبنّي الديمقراطية الغربية. من التناقضات الصادمة مع الموقف النظري بقاء جمال الأتاسي أمينا عاما لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي من تأسيسه عام 1968 إلى وفاته عام 2000، أي طوال ثلاثة عقود ونيف.

لقد بدأ الثلاثة مسيرتهم الفكرية والسياسية من دون تحليل عميق للواقع المحلي/ السوري، والعربي، وطبيعة التجربة السياسية والاجتماعية قيد التنفيذ التي أسفرت عن الحالة المأساوية التي يعيش تحت وطأتها المواطنون والأوطان، والتي لعبت الخيارات العقائدية على تغطيتها وتمويهها، فغدت كأنها ثورة ناجزة. نثمّن هنا محاولات مثقفين يساريين ربط أفكارٍ بسياق محلي، بندلي الجوزي وإميل توما وحسين مروة ومحمود إسماعيل وطيب تيزيني، مع التحفظ على النزعة الانتقائية التي حكمت محاولاتهم، وأدّت إلى فشلها في تجسير الهوة مع ثقافة المجتمع.

لم تكن القوى الإسلامية أفضل حالا في خياراتها وممارساتها، مع أنها امتلكت عنصرا مهما، جعل تحرّكها أسلس وأكثر اقترابا من الواقع، وهو الارتكاز إلى الإسلام معطىً بنيويا له درجة عالية من القبول والتأثير، إلا أنها أضاعت هذه الإيجابية عبر تلبيسها بقراءة سطحية ومغلقة، بدءا بمنطلقها “القرآن دستورنا” إلى “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. فالقرآن الكريم ليس دستورا، بل قاعدة فكرية للدستور الذي ينتظر من المسلمين كتابته وفق شروط المكان والزمان، وهذا ما فعله الرسول الكريم بكتابة الصحيفة. وقد زادت الجماعات السلفية حدّة اغترابها عن القرآن الكريم، بالتشدّد بتطبيق دعوى النسخ وإهدار قيمٍ وردت في آياته بذريعة نسخها بآيات أخرى، نسخوا بآية “فإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم” (التوبة: 5)، المشهورة بآية السيف، 124 آية تتحدّث عن حرية الاعتقاد والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ومعاملة المشركين، من غير المعتدين، معاملةً حسنة، وأهل الكتاب كذلك، وإبرازهم الولاء والبراء قانون حياة، مع أنها شرعت في بداية الدعوة والصراع مع المشركين على الحق في نشر الدعوة، ما استدعى فرز المواقف والأشخاص عبر المفاصلة الحادّة والحاسمة، وأن في القرآن الكريم آياتٍ تخفّف حدّة العداء والمفاصلة بعد استتباب الأمر للدين الإسلامي، وتراجع مقاومة المشركين الدعوة. مثل قوله تعالى: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”(الكافرون: 6). هذا بالإضافة إلى استخدامهم فزّاعة تكفير المخالف وقتل المرتدّ، وتنفيذ ذلك عمليا، لاحتواء تحرّكات القوى السياسية الأخرى.

لقد فشلت القوى الإسلامية في القيام بدور إيجابي بتخليص الإسلام مما علق به في عصور الجمود والانحطاط الحضاري من مواقف وفتاوى فجّة، ومن قراءات سائدة لمحتواه وتحول الاجتهادات إلى مذاهب مغلقة لا تقبل المراجعة أو التصحيح، أصبحت هي الدين، وليست قراءات له قابلة للجرح والتعديل. كما فشلت في سد نقصٍ في الاجتهاد حول مفاصل النظام السياسي والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والمؤسسات المطلوبة لإدارتها وقضايا الحريات والشأن العام في حياة المسلمين وتقنين الشورى والاقتصاد، وفي تحرير المسلمين من ظاهرة التذرّر الفقهي، الذي نشأ من توسّع الفقه، من جهةٍ، وغياب قواعد ناظمة لترجيح اجتهادٍ على آخر وربطه بالزمان والمكان، من جهةٍ ثانية، حيث صار بإمكان كل مسلمٍ دعم موقفه الراهن بفتوى أو موقف أو واقعة تاريخية، ما رتّب تذرّرا اجتماعيا موازيا، وجعل وضع تصوّر إسلامي موحد بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا، وجعل المسلمين موحدين شكلا ومختلفين مضمونا.

ما نشهده على ساحة المعارضات السورية من استعصاءٍ سياسيٍّ، أساسه جمود وانغلاق فكري غدت فيه كل التيارات الفكرية سلفيةً مع تباين شكلي في المدى الزمني الذي توقفت عنده، فالقوى الإسلامية تريد إعادتنا إلى فجر الإسلام، 14 قرنا، واليسارية إلى ماركس وأنجلز، حوالى القرنين، والقومية إلى جمال عبد الناصر، نصف قرن، كل منها توقف الزمن عند محطّة تخصها، من دون اعتبار لما كشفته الوقائع والتحولات من أخطاء قصور، ومن دون اعتبار لما حدث في الواقع والبشر من تحولات وقناعات وطموحات، وكأن شيئا لم يحدث أو يتغير في الواقع والبشر، مع رفض الخروج من ساحات العداء والسجالات العدمية، في لحظةٍ سياسيةٍ شديدة الدقة والخطورة تنذر بانهيار الوطن وتلاشيه، تحت سياط القمع والبطش والنفوذ الخارجي المتصاعد.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى