صفحات الحوار

سلافوي جيجك: القوة وليس النزعة السلمية هي الحل الوحيد ضد بوتين في أوكرانيا

لا يخفي سلافوي جيجك في هذا اللقاء الجديد رأيه الصريح حول الحرب في أوكرانيا وراء أي اعتبارات فلسفية عميقة متطلبة لفهم أوسع ومتخذة مسافة منها. يقول جيجك علناً إن من الواجب، عند هذا الحد من الصراع، هزيمة بوتين، وبالقوة وحدها.

في نص سابق في الصالون الفلسفي، دار جيجك دورة كبيرة عابراً بين الاستشهادات الروائية والتحليلات الفلسفية حول الحرية المجردة والحرية الملموسة، وتحدث كما هي العادة عن هيغل وسارتر وغيرهما. الآن، في هذا اللقاء التلفوني القصير مع صحيفة La Repubblica الإيطالية في 22 نيسان/أبريل 2022، يبدو الفيلسوف أكثر ارتياحاً في تقديم إجابات قاطعة: لا للنزعة السلمية، مرحباً بالقوة!

لا تعجب آراء جيجك اليساريين على العموم، وحتى حين يؤيد بعضهم موقفاً له هنا أو هناك، يعود في قضية أخرى مشابهة ليناقضه ويسخر منه. هكذا مثلاً، وحول تحفظه تجاه الانتفاضة السورية، خيّب جيجك آمال يساريين ليبراليين في الغرب بينما حظي بسمعة حسنة لدى يساريين تقليديين في الشرق. واليوم برأيه الواضح حول ضرورة انتصار أوكرانيا، يعكس الآية فيطوبه اليسار الغربي بطلاً مدافعاً عن الحرية بينما يرى إليه شيوعيون عرب مجرد “ماركسي أوروبي يناقش مشاكل العالم الثالث ويجب نقده”.

ومن الوارد أن يساهم انتشار هذا اللقاء بزيادة الحنق على جيجك بعد أن كان نجماً في الأوساط اليسارية العربية، التي ربما لا تعرف إنه كان داعماً وبـ”قوة” للعملية العسكرية الفرنسية البريطانية التي أطاحت بالقذافي وسخر بعبارات مقذعة من اليساريين الرافضين لها. كما أن هذه الأوساط ربما لا تعرف أن رأي جيجك لم يكن واضحاً كذلك في رفض الغزو الأمريكي للعراق، بل كان أقرب إلى مزاج صديقه الصحفي البريطاني كريستوفر هيتشنز الداعم المطلق للحرب والذي أخبر جيجك بأن الحزب الشيوعي العراقي دخل ولأول مرة منذ عقود في الحكومة تحت وصاية بول بريمر.

بقوله إن “السلام ليس خياراً في الحرب الأوكرانية” وبأن إيقاف بوتين يحتاج “إلى شيء واحد فقط هو القوة”، يبتعد جيجك نهائياً عن جماعة “لا هذا ولا ذاك” وجماعة “الموضوع أعقد من ذلك بكثير” والجماعة العاشقة للتعمق التاريخي والباحثة ضمنياً عن مبررات لحرب بوتين في أوكرانيا، هذا عدا طبعاً عن الجماعة المعادية للإمبريالية بشكل أعمى والتي لا يكن لها جيجك احتراماً كبيراً.

بروفيسور جيجك، بادئ ذي بدء ما رأيك بالحرب في أوكرانيا؟

هل سمعت بتلك الفضيحة التي اندلعت في إيطاليا عندما ألغت جامعة ميلانو بيكوكا حصة قدمها كاتب عن دوستويفسكي؟ حسناً، كان هناك الكثير من الاحتجاجات المحقة، كان من السخف فرض رقابة على مؤلف “الجريمة والعقاب” لأن بوتين قام بغزو أوكرانيا. لكن دوستويفسكي جسّد لفترة طويلة رؤية حول روسيا روحية ومتفوقة، معارضة للغرب المادي: أسطورة روسيا آسيوية عليها أن تتدخل دائماً لإنقاذ أوروبا، مرة من نابليون وأخرى من هتلر، دون الحصول من أوروبا على الامتنان الذي تستحقه.

وما علاقة بوتين بذلك؟

علاقته أن بوتين يحمل نفس الرؤية الغاضبة والمحبطة من الغرب.

لكن، هل يروق لك الرئيس الأوكراني زيلينسكي؟

نعم، لكني كنت سأستخدم شعاراً آخر لو كنت في مكانه. يقول زيلينسكي: “نحن من يدافع عن أوروبا”. أما أنا فكنت لأقول: “نحن الأوكرانيين نقاتل من أجل حرية روسيا”. لأنه إذا انتصرت أوكرانيا، فربما يمكننا التخلص من بوتين، وإلا فإن ديكتاتوريته ستتعزز.

في إيطاليا، وباسم النزعة السلمية، هناك من يقول: “لا مع بوتين ولا مع زيلينسكي”.

السلام ليس خياراً في هذا الصراع. الطريقة الوحيدة لمقاومة بوتين هي القوة. يقول الغزاة دائماً إنهم يريدون السلام، لأنه السبيل للتغلب على الضحايا. هتلر أيضاً أعلن إنه يريد السلام في فرنسا التي يحتلها النازيون.

قبل بضع سنوات قال بوتين إن نموذج الديمقراطية الليبرالية آخذ في الانحدار. هل توافق على ذلك؟

بطريقة ما، كان على حق. بطبيعة الحال يقول بوتين هذا ليطالب بالاعتراف باستبداده كنموذج منتصر. ومع ذلك، فإن السخط الذي يشعر به كثيرون في العالم الصناعي حقيقي وهو يشير إلى أن شيئاً ما يجب تغييره في الديمقراطيات الليبرالية.

تغيير ماذا بالضبط؟

باستخدام بعض المبالغة، يمكن أن أقول إن من الواجب القيام بخطوات كما في “شيوعية الحرب“، أي الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها لينين بعد الثورة البلشفية. ليس لإقامة الشيوعية بالطبع، ولكن لإعادة هيكلة الديمقراطية، التي تحتاج إلى المزيد من الجانب الاجتماعي، والمزيد من التخطيط، والمزيد من التعاون الدولي، والمزيد من الجهود العالمية لمعالجة مشاكل مثل الصحة وتغير المناخ والهجرة.

برنامج واسع…

ولهذا السبب توجد السياسة. لنأخذ إيطاليا. أنا لست ضد ماريو دراغي. لكنه يمثل نوعاً من الشعبوية التقنية التي يجب أن تجعل الجميع يتفقون: في الواقع، هو على رأس تحالف يضم جميع الأحزاب تقريباً. كما لو أن الجواب الوحيد الممكن اليوم هو أن يضع المرء نفسه فوق السياسة. بينما أعتقد أن السياسة يجب أن تقدم إجابات لمشاكل المجتمع”.

يجادل بعض علماء السياسة بأن الصراع الأيديولوجي القديم بين اليمين واليسار قد انتهى وحل محله التحدي بين القومية والعولمة.

أنا غير موافق. بالطبع، أنا لست ضد العولمة في حد ذاتها، لكن المليارديرات الكبار مثل جيف بيزوس محتكرون يتحكمون في كل شيء أيضاً. هناك شيء غير ديمقراطي في ذلك. ولهذا السبب يتمرد الناس. إلا أن الشعبوية على غرار دونالد ترامب هي تمرد كاذب.

هل تخشى عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟

ترامب هو ثمرة ناخبين محبطين. عليك التحدث إلى هذا النوع من الناس. ويحصل أولئك الذين يفعلون ذلك أحياناً على نتائج غير متوقعة، مثل المرشح اليساري الفرنسي ميلانشون، الذي حصل على 20 في المائة في الانتخابات الرئاسية. أرى مثل السناتور الأمريكي بيرني ساندرز إنه يجب ألا نخاف من الذهاب بعيداً إلى اليسار خشية من خسارة ناخبي الوسط، يجب أن نفوز بالناخبين اليمينيين، ناخبي ترامب، الشعبويين المحبطين.

ما هي الدروس التي قدمها لنا الوباء؟

في مواجهة مشكلة تهدد الكوكب بأسره، أعاد الناس اكتشاف أهمية الدولة والهياكل العالمية. المبادرة الخاصة شيء جميل، لكن بدون الدولة فإنها لا تعود بالنفع على الجميع. لقد ذكرنا الوباء بذلك. يجب أن ينطبق الشيء نفسه على مكافحة تغير المناخ.

هل تعتبر تغير المناخ أكبر مشكلة عالمية؟

على المدى الطويل، نعم.

وعلى المدى القصير؟

لدينا أزمة واحدة كل سنة. الأزمة الاقتصادية العالمية. الوباء. الحرب في أوكرانيا. ربما غداً الحرب بين الصين وتايوان. يبدو العالم وقد انتابه فرسان أربعة ليوم القيامة: الطاعون، الحرب، الجوع، الموت.

وحول هؤلاء الفرسان القاتمين هل أنت متفائل أم متشائم؟

التشاؤم هو أفضل طريقة للحفاظ على قليل من التفاؤل. إذا كنت متفائلاً والأمور سيئة، تفقد كل إيمان بالمستقبل. أما إذا كنت متشائماً وسارت الأمور على ما يرام، فسيكون لديك بصيص من الأمل.

مونت كارلو الدولية

—————————-

سلافوي جيجك: “بوتين مجرم حرب… لكن هل اكتشفنا ذلك الآن فقط؟

علاء خزام

يمكن فرز التعليقات على الغزو الروسي لأوكرانيا في ثلاث مجموعات كبرى قابلة للزيادة تتراوح طبعاً بين الإدانة القصوى والترحيب الأقصى وما بينهما.

ترى المجموعة الأولى، الليبرالية الأخلاقوية، الصراع باعتباره نزاعاً بين الديكتاتورية والديمقراطية. من وجهة نظرها، يهاجم بوتين أوكرانيا لسحق تجربتها السياسية في مسعى من نظام شمولي إلى تحطيم جيرانه الذين اختاروا الطريق الديمقراطي الغربي.

تكمن المشكلة الكبرى لهذا الطرح في أن الغرب الحالي، في متنه السياسي أساساً وبالنظر إلى تكوين نخبه، لم يعد حاملاً للقيم التي يدعي الدفاع عنها: حيث تحل الديمقراطية التمثيلية وتناوب حزبين كبيرين على السلطة والرأسمالية المعولمة محل سيادة الجمهور العام وحكم الشعب والرفاه الاجتماعي. يبدو إذاً من الجسارة بمكان أن نناصب باسم القيم الغربية روسيا بوتين العداء وهي وليدة طبيعية للتدخل الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

المجموعة القصوى الثانية المؤيدة للغزو، والتي يتشاركها يساريون وإسلاميون وقوميون، تبني خطابها على نقد الديمقراطية الغربية الزائفة وضرورة دعم أي سيرورة تحول دون تمدد الإمبريالية الأمريكية حتى لو عنى ذلك تأييد أعتى الأنظمة القمعية.

مشاكل كثيرة تنتاب هذه الأطروحة البائدة. ورغم أن الرغبة العمياء في دحض أمريكا يمكن أن تجد تفسيرات كثيرة في ميادين شتى، إلا أن المرء قد يميل، على طريقة السوري جورج طرابيشي، إلى وضعها في إطار علم النفس باعتبارها تصلباً ذهانياً أو عصاباً مرضياً لا تنجح معه الحجج ولا يقبل مبدئياً تبادل الآراء.

أما المجموعة الثالثة فهي تتفهم القلق الروسي وترغب في وضع حد للحرب بالتنازل من طرف أوكرانيا، دون أن ينشغل أنصارها بالإدانة ولا بتعيين المعتدي بوضوح باعتبارها بداهات لا تحتاج توكيداً.

أكثر ما يهم هذه المجموعة هو القول دوماً إن “الموضوع أعمق من ذلك بكثير” واستعراض معرفة بتاريخ الجارين الأوروبيين لا يفهم الغرض الفعلي من ورائها، إن لم يكن تبريراً في مكان ما لحاجة روسية حيوية لغزو أوكرانيا أو تلميحاً بأن أوكرانيا ورطت نفسها بنفسها وتلقى بالنتيجة مصيرها الذي تحتمه ضرورات الجغرافيا.

المجموعة “العميقة” تسخر من المواقف الواضحة باعتبارها سطحية ولا تذهب إلى العمق ولا تعرف التاريخ، ويستهزئ أصحابها بقلة معرفة المعلقين حول الشأن الأوكراني، أي قلة معرفتهم بما يبدو أن المجموعة العميقة تعرفه وحدها.

وعدا عن الموقف المتعالي الراغب في تعميق معارف السطحيين الجُهّال، تنشغل هذه المجموعة بتحليل الراهن وتقديم خبرتها الاستراتيجية في توقع سير العمليات القتالية وردود الأفعال الدولية وغير ذلك، دون أن تعنى كثيراً باليوم التالي وبموقفها من سيناريوهاته المتعددة. قلنا إن المجموعة العميقة تبدو دون رأي فعلي إلا فيما يتعلق بالبحث الدائم والعميق عن الفيل في المتجر الصيني.

في النص الجديد الذي نشره

الصالون الفلسفي“،

يوجه سلافوي جيجك نقداً طويلاً إلى المجموعة الثالثة التي تضفي طابعاً نسبياً على الحقائق و”تقلل من قوة ما هو واضح”، قبل أن يقفز فجأة ليعقد مقارنة مع وباء كورونا ويناقش الفرق بين الحرية المجردة والحرية الملموسة مستدعياً هيغل وسارتر وتشيسترتون، ومعرجاً كذلك على ألكسندر دوغين الذي يسميه “فيلسوف البلاط” البوتيني.

ثم يعود الفيلسوف باتجاه المجموعة الأولى، حاملة القيم المتحضرة، محذراً من أن انتصار أوكرانيا على الغازي الروسي، وهو ما يأمله جيجك شخصياً، سيكون بمثابة “لحظة الحقيقة” بالنسبة للأوكرانيين الذين سيتعلمون أنه لا يكفيهم اللحاق بالغرب وأن الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية العالمية تعيشان أزمة متعددة المستويات.

هل ستفضي حرية الأوكرانيين المجردة عبر حربهم ضد روسيا إلى وضع أسس لحريتهم الملموسة؟ ما سيكون خيارهم حين تحين لحظة الحقيقة ويظهر التناقض الأساسي بوضوح؟ وما هو التناقض الأساسي على أي حال؟

نشر مايكل ماردر Michael Marder في “الصالون الفلسفي” نصاً رائعاً عن امرأة أوكرانية وهي تقدّم بذور عباد الشمس لجندي روسي.

أسمي هذا النص رائعاً لأنه يقوم بما هو مطلوب بشدة اليوم، أي أنه يضيف بُعداً فلسفياً أعمق على ردود أفعالنا تجاه الكارثة الأوكرانية. أعاد هذا الحادث إلى ذهني رواية أغاثا كريستي “جيب مملوء بالحبوب” والتي يموت فيها رجل الأعمال الثري من لندن ريكس فورتسيكو بعد تناوله فنجان شاي في الصباح، ويكشف البحث في ملابسه عن كمية من حبوب الجاودار في جيب سترته. في الرواية، يعود سبب العثور على الحبوب هناك إلى أن الرواية جزء من أسجوعة للأطفال أشار إليها القاتل… يعيدنا هذا إلى أوكرانيا حيث حدث شيء مشابه بشكل غريب، وصفه ماردر، ولكن ليس مع حبوب الجاودار بل مع بذور عباد الشمس. في هينيتشيسك، وهي مدينة ساحلية على بحر آزوف، واجهت عجوز أوكرانية جندياً روسياً مدججاً بالسلاح وقدمت له بذور عباد الشمس ليضعها في جيبه – حتى تتفتح عندما يموت ويكون جسده المتعفن في الأرض مفيداً نوعاً ما، لتغذية النبات المتنامي

الأمر الوحيد الذي يزعجني في هذه اللفتة هو نقص التعاطف مع الجنود الروس العاديين الذين تم إرسالهم في مهمة إلى أوكرانيا، كثير منهم بدون إمدادات غذائية مناسبة وغير ذلك من المؤن، وبعضهم لا يعرف حتى مكان وجوده وسببه، لذلك فقد نقلت تقارير عن حالات لأوكرانيين جلبوا لهم الطعام. أعاد ذلك إلى ذهني ذكريات من براغ عام 1968. وصلت إلى هناك قبل الغزو السوفيتي بيوم واحد، وتسكعت في المدينة لبضعة أيام حتى تم تنظيم نقل الأجانب. ما صدمني على الفور كان ارتباك وفقر الجنود العاديين في تناقض واضح مع الضباط الكبار، الذين كان الجنود يخشونهم أكثر منا نحن المتظاهرين المحتجين.

حتى في هذه الأوقات المجنونة، لا ينبغي أن نخجل من التمسك بآخر بقايا العادية ومن استدعاء الثقافة الشعبية. لذا، اسمحوا لي أن أذكر عملاً كلاسيكياً آخر لكريستي، “الأجوف” من عام 1946، والذي دعت فيه لوسي أنغاتيل الغريبة الأطوار عائلة كريستو (جون، أحد كبار أطباء شارع هارلي، وزوجته غيردا، إلى جانب أفراد آخرين من عائلتها الممتدة) إلى منزلها في عطلة نهاية الأسبوع. هيركول بوارو، الذي يقيم في مكان قريب في منزله الريفي، دعي كذلك لتناول العشاء. وفي صباح اليوم التالي، كان شاهداً على مشهد يبدو غريباً: تقف غيردا كريستو وبيدها مسدس بجوار جثة جون الذي كان ينزف في حمام السباحة. كان كل من لوسي وهنريتا (عشيقة جون) وإدوارد (ابن عم لوسي وابن ابن عم هنريتا) حاضرين أيضاً في مكان الحادث. يوجه جون نداء عاجلاً أخيراً -“هنريتا!”- ثم يموت. يبدو واضحاً أن غيردا هي القاتلة. تخطو هنريتا نحو الأمام لتأخذ المسدس من يدها، لكنها على ما يبدو تعثرت فأسقطته في حمام السباحة مدمرة بذلك الدليل. يدرك بوارو أن صرخة “هنريتا” التي أطلقها الرجل المحتضر كانت دعوة إلى عشيقته لحماية زوجته من السجن بسبب موته؛ وبدون خطة واعية، انضمت العائلة بأكملها إلى المؤامرة وعمدت إلى تضليل بوارو، لأن كل فرد فيها يعرف أن غيردا هي القاتلة ويحاول إنقاذها…

إن الصيغة المعيارية (أي: جريمة قتل ارتُكبت، وهناك مجموعة من المشتبه فيهم لديهم دافع وفرص لارتكابها، لكن وعلى الرغم من التلبس الواضح للقاتل، فإن المحقق يكتشف أدلة تناقض هذا الوضوح، وهي أدلة تم تحضيرها وفبركتها من قبل القاتل نفسه ليغطي آثاره) قد عُكست هنا حيث يقدم المشتبه فيهم أنفسهم أدلة تدينهم للتستر على حقيقة أن القاتل الحقيقي “هو” الشخص الواضح الذي قبض عليه متلبساً في مسرح الجريمة وهو يحمل مسدساً في يده. لذا، فإن مسرح الجريمة قم تم إعداده، ولكن بطريقة مقلوبة: يكمن الخداع في حقيقة أن مسرح الجريمة نفسه يبدو مصطنعاً، وتظهر الحقيقة كشيء مصطنع، بحيث يكون التزييف الأصلي هو “القرائن” نفسها – أو كما تقول جين ماربل في عملي كلاسيكي آخر لكريستي هو “خداع المرايا”: “لا يجب التقليل أبداً من قوة ما هو واضح”.

ألا تشتغل الأيديولوجيا في كثير من الأحيان على هذا النحو، وخاصة اليوم؟ إنها تقدم نفسها كشيء غامض، يشير إلى جانب سُفلي مخفي، للتستر على الجريمة التي يتم ارتكابها أو يتم إضفاء الشرعية عليها علانية. أفضل تعبير يعلن عن مثل هذا الغموض المزدوج هو عبارة “إن الوضع أكثر تعقيداً مما يبدو”. يتم إضفاء الطابع النسبي على حقيقة واضحة -لنقل عدواناً عسكرياً وحشياً- من خلال استحضار “وضع أكثر تعقيداً في الخلفية” والذي، كما هو متوقع، يحوّل العدوان إلى فعل دفاعي. ولهذا السبب، على مستوى ما، يجب على المرء أن يتجاهل “التعقيد” الخفي للوضع ويثق بالأرقام البسيطة.

ألا يحدث بالضبط الشيء نفسه في أوكرانيا؟ هاجمتها روسيا، لكن الكثيرين يبحثون عن “التعقيد” وراء ذلك. نعم، بالتأكيد، هناك تعقيد، لكن الحقيقة الأساسية تبقى أن: روسيا فعلت ذلك. لم يكن خطأنا أننا لم نتعامل مع تهديدات بوتين حرفياً بما فيه الكفاية. كنا نظن أنه لم يكن يقصد ذلك حقاً وأنه كان يمارس فقط لعبة ألاعيب احتيال استراتيجي. المفارقة الكبرى هي أنه لا يسع المرء إلا أن يتذكر هنا النكتة اليهودية الشهيرة التي اقتبسها فرويد: “لماذا تخبرني أنك ذاهب إلى مدينة لفيف في الوقت الذي ستذهب فيه فعلاً إلى مدينة لفيف؟”، حيث تتخذ الكذبة شكل الحقيقة الفعلية: كان الصديقان قد اتفقا على ترميز ضمني يقول إنك عندما تذهب إلى لفيف تقول إنك ستذهب إلى كراكوف والعكس صحيح، بحيث يصبح قول الحقيقة الحرفية وفق الاتفاق يعني الكذب. عندما أعلن بوتين عن التدخل العسكري، لم نأخذ إعلانه بأنه يريد إحلال السلام في كل أوكرانيا وينزع النازية عنها بالمعنى الحرفي كفاية، لذا فإن التوبيخ الذي يسوقه الاستراتيجيون “العميقون” الآن هو التالي: “لماذا تخبرني بأنك ستحتل لفيف في الوقت الذي أردت فيه فعلاً احتلال لفيف؟”.

إذاً، ما الذي يحدث؟ لنتذكر قبل شهر أو شهرين عندما كانت الأخبار الهامة في وسائل الإعلام الجماهيرية لدينا لا تزال تتحدث عن الوباء؟ الآن اختفى الوباء تقريباً، وتصدرت أوكرانيا عناوين الأخبار. وإذا كان من أمر فإن الخوف الآن أكبر بكثير؛ يكاد يكون هناك حنين إلى السنتين الجيدتين الماضيتين في مكافحة الوباء. يوضح هذا التحول المفاجئ حدود حريتنا: لم يختر أحد هذا التغيير، لقد حدث وحسب (باستثناء منظري المؤامرة الذين يزعمون بالفعل أن الأزمة الأوكرانية هي مؤامرة أخرى من قبل “المؤسسة” لمواصلة حالة الطوارئ وإبقائنا تحت السيطرة).

لفهم الفرق بين الوباء والأزمة الأوكرانية، نحتاج إلى التمييز بين نوعين من الحرية: freedom وliberty. اسمحوا لي أن أخاطر وأصلح هذا التعارض بما هو التعارض بين ما أسماه هيغل الحرية المجردة والحرية الملموسة. الحرية المجردة هي القدرة على فعل ما يريده المرء بشكل مستقل عن القواعد والعادات الاجتماعية، بغية انتهاك هذه القواعد والعادات، كما هو الحال في انفجار “النفي الراديكالي” مثلاً في حالة التمرد أو الوضع الثوري. الحرية الملموسة هي الحرية التي تدعمها مجموعة من القواعد والأعراف. فيما يتعلق بمناهضي التلقيح، فإن حرية اختيار التلقيح من عدمه هي بالطبع نوع شكلي من الحرية؛ ومع ذلك، فإن رفض التلقيح بشكل فعال يتطلب تقييد حريتي الفعلية، وكذلك حرية الآخرين. حريتي هي فعلية فقط كحرية داخل مساحة اجتماعية معينة تنظمها القواعد والمحظورات. يمكنني السير بحرية على طول شارع مزدحم لأنني متأكد بشكل معقول من أن الآخرين في الشارع سيتصرفون تجاهي بطريقة متحضرة، وسيعاقبون إذا هاجموني، أو إذا أهانوني، وما إلى ذلك. لا يمكنني ممارسة حريتي في التحدث والتواصل مع الآخرين إلا إذا أطعت قواعد اللغة المعمول بها بكل غموضها، بما في ذلك القواعد غير المكتوبة للرسائل بين السطور. إن اللغة التي نتحدثها، بالطبع، ليست محايدة أيديولوجياً: فهي تجسد العديد من التحيزات وتجعل من المستحيل علينا صياغة أفكار معينة غير شائعة بشكل واضح. يحدث التفكير دائماً في اللغة وهو يجلب مع نفسه ميتافيزيقيا حس سليم (وجهة نظر للواقع)، ولكن لكي نفكر حقاً، يجب أن نقوم بذلك بلغة مناهضة لهذه اللغة. يمكن تغيير قواعد اللغة من أجل فتح حريات جديدة، لكن الاضطراب الذي يسببه الكلام الجديد اللائق سياسياً يظهر بوضوح أن الفرض المباشر لقواعد جديدة يمكن أن يؤدي إلى نتائج ملتبسة ويولد أشكالاً جديدة أكثر خبثاً من العنصرية والتمييز على أساس الجنس.

كان هيغل يعلم جيداً، مع ذلك، أن هناك لحظات أزمة يجب فيها على الحرية المجردة أن تتدخل. في كانون الأول/ديسمبر 1944، كتب جان بول سارتر: “لم نكن أبداً أكثر حرية مما كنا عليه في ظل الاحتلال الألماني. لقد فقدنا جميع حقوقنا، وفي مقدمتها حقنا في الكلام. لقد أهانونا في وجوهنا… ولهذا كانت المقاومة ديمقراطية حقيقية؛ بالنسبة للجندي، وكذلك بالنسبة لرئيسه، نفس الخطر، نفس الشعور بالوحدة، نفس المسؤولية، نفس الحرية المطلقة داخل قواعد الانضباط”. كان هذا الوضع المليء بالقلق والخطر هو الحرية freedom، وليس الحرية liberty، والتي بدورها نشأت عندما عادت الحياة الطبيعية بعد الحرب. وفي أوكرانيا اليوم، أولئك الذين يقاتلون ضد الغزو الروسي أحرار free لكن ليس لديهم حرية liberty. إنهم يقاتلون من أجل هذه الأخيرة، والسؤال الرئيسي هو ما نوع الحرية التي ستسود بعد القتال أضاف ألكسندر دوغين، فيلسوف بلاط بوتين، لمحة ما بعد حداثية من النسبوية التاريخيانية:تظهر ما بعد الحداثة أن كل ما يقال عنه حقيقة هو مسألة إيمان. ولذا فنحن نؤمن بما نقوم به، ونؤمن بما نقوله. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتعريف الحقيقة. لذلك لدينا حقيقتنا الروسية الخاصة وعليكم أن تقبلوها. إذا كانت الولايات المتحدة لا تريد بدء حرب، فعليكم أن تدركوا أن الولايات المتحدة لم تعد السيد الوحيد. ومع الوضع في سوريا وأوكرانيا، تقول روسيا: “لا، لم تعد أنت القائد”. تلك هي مسألة من يحكم العالم. فقط الحرب يمكن أن تقرر ذلك فعلاً”.

لكن مشكلتنا المباشرة هي: ماذا عن شعبي سوريا وأوكرانيا؟ هل يمكنهما أيضاً اختيار حقيقتهما/معتقدهما أم أنهما فقط ملعب لـ”سادة العالم” الكبار ومعركتهم؟ حتى أن بعض اليساريين ينظرون إلى دوغين باعتباره مناهضاً للنظام الرأسمالي العالمي، ومدافعاً عن التنوع غير القابل للاختزال للهويات العرقية-الثقافية. لكن التنوع الذي دعا إليه دوغين هو تنوع قائم على الهويات العرقية، وليس تنوعاً ضمن المجموعات العرقية، ولهذا السبب “فقط الحرب يمكن أن تقرر ذلك فعلاً”. إن صعود الهويات العرقية الأصولية هو في النهاية الوجه الآخر للسوق العالمية، وليس نقيضاً لها. لسنا بحاجة قليل من العولمة بل إلى مزيد منها: نحتاج إلى تضامن وتعاون عالميين أكثر من أي وقت مضى إذا كنا نريد بجدية التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري.

كتب جيلبرت كيث تشيسترتون Chesterton: “انزع كل ما هو خارق للطبيعة فلا يبقى لديك إلا ما هو غير طبيعي”. علينا أن نؤيد هذا الإعلان، ولكن بمعنى معاكس وليس بالمعنى الذي قصده تشيسترتون: يجب أن نقبل أن الطبيعة “غير طبيعية”، أنها عرض مسوخ لاضطرابات طارئة بدون قافية داخلية. في نهاية حزيران/يونيو 2021، ظهرت “قبة حرارية” -وهي ظاهرة جوية يحبس فيها مرتفع جوي ذو ضغط عالي ويضغط الهواء الساخن مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة سخونة المنطقة- فوق شمال غرب الولايات المتحدة وجنوب غرب كندا، مما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة لتقترب من 50 درجة مئوية، بحيث كانت فانكوفر أكثر سخونة من الشرق الأوسط. صحيح أن “القبة الحرارية” ظاهرة محلية، لكنها ناتجة عن اضطراب عالمي في الأنماط يعود بشكل واضح إلى التدخلات البشرية في الدورات الطبيعية، ولذلك فقد عملنا في مواجهتها بشكل عالمي.

لنتذكر كيف دعا بوتين، بعد يوم أو يومين من اندلاع الحرب، الجيش الأوكراني للإطاحة بحكومة زيلينسكي وتولي زمام الأمور، مدعياً ​​أنه سيكون من الأسهل بكثير التفاوض معهم على السلام. ربما، سيكون من الجيد أن يحدث شيء كهذا في روسيا نفسها، حيث ساعد المارشال جوكوف خروتشيف في عام 1953 في الإطاحة ببيريا. إذن، هل هذا يعني أنه يجب علينا ببساطة شيطنة بوتين؟ لا. لمواجهة بوتين بالفعل، علينا أن نتحلى بالشجاعة لإلقاء نظرة نقدية على أنفسنا.

ما هي الألعاب التي كان الغرب الليبرالي يلعبها مع روسيا في العقود الماضية؟ كيف أدى ذلك إلى دفع روسيا بشكل فعال نحو الفاشية؟ لنستدعي هنا فقط “النصائح” الاقتصادية الكارثية التي أُعطيت لروسيا في سنوات يلتسين… نعم، من الواضح أن بوتين كان يستعد لهذه الحرب لسنوات، لكن الغرب كان على علم بذلك، وبالتالي فإن الحرب ليست صدمة غير متوقعة على الإطلاق. هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الغرب كان يدفع روسيا بوعي إلى الزاوية. الخوف الروسي من أن يُحاصرها الناتو بعيد كل البعد عن الخيال المُصاب بجنون الارتياب. هناك لحظة حقيقة في ما لم يقله أحد آخر غير فيكتور أوربان: “كيف نشأت الحرب؟ نحن عالقون على خط النار بين لاعبين جيوسياسيين كبار: كان الناتو يتوسع شرقاً، وأصبحت روسيا أقل ارتياحاً بذلك. قدم الروس مطلبين: أن تعلن أوكرانيا حيادها وألا يقبل الناتو بعضويتها فيها. هذه الضمانات الأمنية لم تُمنح للروس، فقرروا أخذها بقوة السلاح. تلك هي الأهمية الجيوسياسية لهذه الحرب”. هذه الحقيقة الصغيرة تخفي بالطبع كذبة كبيرة: اللعبة الجيوسياسية المجنونة التي تتبعها روسيا.

أما بالنسبة للوضع الآن فلا ينبغي أن يكون هناك محرمات حوله. من الواضح أن الجانب الأوكراني أيضاً لا يمكن الوثوق به تماماً، والوضع في منطقة دونباس بعيد كل البعد عن الوضوح. علاوة على ذلك، فإن موجة إقصاء الفنانين الروس تقترب من الجنون. علقت جامعة بيكوكا في ميلانو بإيطاليا سلسلة من المحاضرات حول روايات دوستويفسكي لباولو نوري بحجة بوتينيّة للغاية: إنها مجرد بادرة وقائية للحفاظ على الهدوء… (تم إلغاء التعليق بعد يومين). غير أن التواصل الثقافي مع روسيا بات الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. وماذا عن الفضيحة الهائلة المتمثلة في السماح للأوكرانيين فقط بالدخول إلى أوروبا من أوكرانيا، وليس طلاب وعمال العالم الثالث الموجودين حالياً في أوكرانيا والذين يحاولون أيضاً الهروب من الحرب؟ وماذا عن العنصرية المتفجرة في الغرب؟ قال مراسل شبكة سي بي إس نيوز تشارلي داجاتا الأسبوع الماضي إن أوكرانيا “ليست، مع كل الاحترام الواجب، بلداً مثل العراق أو أفغانستان الذين شهدا صراعاً مستعراً لعقود. هذه مدينة متحضرة نسبياً وأوروبية نسبياً -وعلي أن أختار هذه الكلمات بعناية أيضاً- لا تتوقع فيها وقوع ذلك أو تأمل في وقوعه”. وقال نائب المدعي العام الأوكراني السابق لبي بي سي: “إنه لأمر مؤثر للغاية بالنسبة لي حين أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر… يُقتلون كل يوم”. الصحفي الفرنسي فيليب كوربيه قال: “نحن لا نتحدث هنا عن سوريين يفرون من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين. نحن نتحدث عن أوروبيين يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا لإنقاذ حياتهم”. صحيح أن العراق وأفغانستان قد شهدا صراعات مستعرة منذ عقود، ولكن ماذا عن تواطؤنا في هذه الصراعات؟ اليوم، عندما تصبح أفغانستان بلداً إسلامياً أصولياً، من لا يزال بيننا يتذكر أنه قبل ثلاثين عاماً، كانت أفغانستان دولة ذات تقاليد علمانية قوية، فيها حزب شيوعي قوي استولى على السلطة بشكل مستقل عن الاتحاد السوفيتي؟ لكن، بعد ذلك، تدخل الاتحاد السوفيتي أولاً ثم الولايات المتحدة، ونحن في ما نحن فيه الآن…

إن الرعب الذي يشعر به مراسلونا ومعلقونا مما يجري في أوكرانيا أمر مفهوم ولكنه ملتبس للغاية. يمكن أن يعني: الآن نحن نرى أن الرعب لا يقتصر على العالم الثالث، وأنه ليس مجرد أمر نشاهده بشكل مريح على شاشاتنا، بل يمكنه أن يحدث هنا أيضاً، ولذلك فإن أردنا أن نعيش بأمان يجب أن نحاربه في كل مكان… ولكن يمكن أن يعني أيضاً: دع الرعب يبقى هناك، بعيداً، ودعنا فقط نحمي أنفسنا منه. بوتين مجرم حرب – لكن هل اكتشفنا ذلك الآن فقط؟ ألم يكن مجرم حرب بالفعل قبل عامين عندما كانت الطائرات الروسية تقصف حلب، أكبر مدينة في سوريا، بطريقة أكثر وحشية مما تفعله الآن في كييف؟ عرفنا ذلك حينه، لكن سخطنا كان أخلاقياً ولفظياً بحتاً. إن الشعور بتعاطف أكبر بكثير مع الأوكرانيين الذين هم “مثلنا” (ينتمون إلى ما ننتمي إليه) يظهر محدودية محاولة فريدريك لوردون Frederic Lordon لبناء سياسة تحررية وفق معنى “الانتماء” بحسب ما يسميه سبينوزا “التمثل بالمشاعر-تقليد العواطف” العابر للفردية. علينا أن ننمي التضامن مع أولئك الذين لا نشاركهم الانتماء العاطفي.

عندما وصف الرئيس زيلينسكي المقاومة الأوكرانية بأنها دفاع عن العالم المتحضر، هل هذا يعني أنه كان يستبعد غير المتحضر؟ وماذا عن آلاف المعتقلين في روسيا بسبب احتجاجهم على التدخل العسكري؟ ماذا عن حقيقة أن النازية وصلت إلى السلطة في بلد يجسد أعلى ثقافة أوروبية؟ هناك كان “أوروبيون ذوو عيون زرقاء وشعر أشقر” يمارسون القتل. إذا كنا “ندافع عن أوروبا” فقط، فإننا نتحدث بالفعل بلغة دوغين وبوتين: إنها الحقيقة الأوروبية مقابل الحقيقة الروسية. الحد الفاصل بين الحضارة والهمجية هو حد داخل الحضارات نفسها، وهذا هو سبب كون نضالنا كونياً. الكونيّة الحقيقية الوحيدة اليوم هي كونيّة النضال.

كانت أوكرانيا أفقر دولة بين جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي. حتى لو انتصروا -كما آمل- فإن دفاعهم الظافر سيكون لحظة الحقيقة بالنسبة لهم. سيتعين عليهم أن يتعلموا الدرس القائل بأنه لا يكفيهم اللحاق بالغرب، لأن الديمقراطية الليبرالية الغربية هي نفسها في أزمة عميقة. إن أتعس شيء في الحرب الجارية في أوكرانيا هو أنه بينما يقترب النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي بوضوح من أزمة متعددة المستويات، يتم تبسيط الوضع الآن مرة أخرى بشكل مزيف ليصبح صراعاً بين بلدان همجية شمولية والغرب المتحضر… بينما الاحتباس الحراري بعيد عن النظر. إذا اتبعنا هذا الطريق، فقد خسرنا. اللحظة الحالية ليست لحظة الحقيقة حين تكون الأمور واضحة، حين يكون التناقض الأساسي ظاهراً بوضوح. بل هي لحظة أعمق كذبة. إذا انتصرت أوروبا تلك التي تستبعد “غير المتحضرين”، فإننا لا نحتاج إلى روسيا لتقوم بتدميرنا. نحن وحدنا سننجز هذه المهمة بنجاح.

مونت كارلو الدولية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى