أبحاث

مقالات تناولت أزمة الأخوان المسلمين في سورية وفي العالم العربي

هل ستغير جماعة الإخوان المسلمين سياستها في سوريا؟

الملخص التنفيذي:

جماعة الإخوان المسلمين السورية؛ بانتظار استحقاقين اثنين مهمين؛ الأول: الانتخابات القريبة التي ستجري في الأيام القليلة القادمة كي تنتخب مراقباً عاماً بدلاً من الدكتور محمد حكمت وليّد؛ وما تتطلبه من إعادة لهيكلية قيادتها.

والثاني: قرار الحكومة التركية بالتخلي عنها؛ بعد التقارب التركي مع السعودية والإمارات ومصر؛ ومن شروط هذا التقارب تخلي أردوغان عن احتضان وقيادة الإسلام السياسي؛ وقد نفذ تخليه عن إخوان مصر؛ وتم إبلاغ إخوان سوريا أيضاً بطريقة غير مباشرة بالرحيل خلال عام 2023.

يضاف إلى ما سبق أن حالة اللاوعي السياسي لتطور شكل الدولة ومتطلباته عند حركات الإسلام السياسي في الحالة السورية، تعد معوقاً مهماً في إنجاز التغيير والانتقال في سوريا إلى دولة حديثة ذات سلوك ديمقراطي، تعتمد التداول السلمي للسلطة أساساً في سياستها واستراتيجيتها.

ولا يمكن الخروج من حالة الاستعصاء للمأساة السورية بين الحركات الإسلاموية والتيارات المدنية الديمقراطية المختلفة؛ ثم التفاهم مع المجتمع الدولي على هذا التغيير والانتقال السياسي، إلا باتفاق القوى السياسية الديمقراطية مع الإسلام السياسي على شكل محدد للدولة وخارطة طريق؛ تنتج دستوراً عصرياً؛ يلحظ تطور شكل الدولة، تقوم أسسه على مفهوم وثقافة المواطنة؛ من خلال نهج ديمقراطي مدني يعتمد برامج تنموية لا شعبوية ديماغوجية تدغدغ عواطف المتعاطفين مع الإسلام السياسي؛ وتحلم بإعادة التاريخ إلى الخلف، فينهي صراعاً (دونكوشوتياً) أظهرته الأزمة بين التيارات الديمقراطية العلمانية السورية وحركات الإسلام السياسي.

ويبقى تنظيم الإخوان المسلمين العقدة الأكبر في طريق اتفاق السوريين؛ وتحقيق انفراج في المأساة السورية، التي باتت كارثة بكل معنى الكلمة على المواطن السوري، أينما كان.

تحاول هذه الورقة قراءة وتحليل دور حركة الإخوان المسلمين في الانتفاضة السورية، وإنْ كانت ستغير سياتها في التعامل مع الحالة السورية؛ خصوصاً وأنها قادمة قريباً على انتخابات؛ ستختار فيها مراقبها العام الجديد ومجلس شورتها، كما أن مسألة رحيلها من تركيا باتت مسألة وقت لا أكثر من خلال المحاور التالية:

    المدخل:

    التغيرات التي طرأت شكل الدولة الحديثة

    العاملان الرئيسان اللذان أطالا عمر المأساة السورية

    الحكم على الشيء فرع عن تصوره

    قراءة في سياسة حركة الإخوان المسلمين بالانتفاضة السورية

    استراتيجية الإخوان المسلمين في الانتفاضة السورية

    هل الإخوان المسلمون حالة واحدة متحدة؟

    التيارات الثلاثة التي تتنازع اليوم على قيادة التنظيم

    الخلاصة في قراءة الحالة الإخوانية السورية

ملف الدراسة

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.

————————————-

إخوان سوريا يواجهون مشكلاتهم الداخلية..تمهيدا لانتخاب مراقب عام/ عقيل حسين

يبدو أن الانتخابات الداخلية التي تحضر جماعة الاخوان المسلمين في سوريا لإجرائها ستكون استثنائية، خاصة في ما يتعلق بمنصب المراقب العام، حيث يعود الجدل حول صراع الأجيال وسعي الجماعة لمجاراة التطورات والمتغيرات التي تشهده سوريا والمنطقة، وإمكانية أن تنجح في ذلك بالنظر إلى المشكلات التي يعاني منها التنظيم.

ومنذ انطلاق ثورات الربيع العربي، شهدت الجماعة بشكل عام والفرع السوري بشكل خاص، انقسامات عدة، غادر بموجبها الكثير من الأعضاء بسبب الخلاف حول “التغيير”، الأمر الذي دفع قيادة الجماعة للتفكير جدياً في احتواء هذه المشكلة، كما يقول مقربون منها، لكن الكثيرين من المراقبين يشككون بإمكان تجاوزها بسهولة.

صراع أم توافق؟

وحسب المعلومات التي حصلت عليها “المدن” فإن أخوان سوريا بدأوا منذ شهرين التحضير للولاية الانتخابية القادمة، والتي ستشمل، بالإضافة إلى منصب المراقب العام، كلاً من مجلس الشورى ولجان المحافظات (اللجان الاستشارية).

وبالإضافة إلى إشكالية “صراع الأجيال والأفكار” تبرز إشكالية أخرى لطالما عانى منها إخوان سوريا، وهي “المناطقية” حيث وقعت الجماعة ضحية التنافس خلال العقود الماضية بين كتلتي حلب وحماة.

ورغم محاولة تجاوز هذه النقطة في آخر انتخابات، من خلال اختيار مراقب عام من مدينة اللاذقية، هو محمد حكمت وْلْيد، “إلا أن مراكز قوى الظل بقيت مسيطرة، ما سمح باستمرار خلافاتها ومشكلاتها” حسب قيادي سابق في الجماعة فضل عدم الكشف عن اسمه.

لكن الباحث في مركز إدراك للدراسات باسل حفار يؤكد أن الأمور داخل الجماعة تسير على ما يرام إلى حد كبير، مشيراً إلى أنه “رغم عدم حسم مسألة المراقب العام القادم، إلا أن إخوان سوريا متوافقون بشكل عام ولديهم تصور واضح حول ما يجب أن تكون عليه الأمور في المرحلة القادمة”.

ويقول في تصريح ل”المدن”: “من خلال إطلاعي أستطيع أن أؤكد أنه لا يوجد أي صراع أو انقسام داخل الجماعة في ما يتعلق بالمرشحين لمختلف المناصب، وعلى العكس أرى أن الترتيبات تسير على نحو جيد، وهناك توافق في كثير من النقاط، وفي نقاط الخلاف فإن ما يجري لا يتعدى تبايناً طبيعياً في وجهات النظر بحدود دعم هذا الخيار أو ذاك”.

البوسلامة مرشح قوي

وحسب مصادر “المدن”، فإن معظم الترشيحات تصب في صالح عامر البوسلامة ليكون المراقب العام القادم، حيث يُعتبر البوسلامة خياراً وسطاً بين كتلتي حلب وحماة، وبين الجيل الأقدم والجيل الجديد.

والبوسلامة من مواليد مدينة دير الزور عام 1960، ويحمل شهادة دكتوراه في الشريعة من جامعة بغداد، ويعيش منذ أكثر من عقد في تركيا التي انتقل إليها الكثيرون من الإخوان منذ عام 2011.

ورغم أن البوسلامة شخصية توافقية ويحظى بقبول من مختلف الأطراف والأجيال داخل الجماعة، إلا أن فوزه بمنصب المراقب العام لا يبدو محسوماً كما يقول حفار، الذي يؤكد أن حظوظ محمد حكمت وليد بولاية جديدة تبقى قائمة وبقوة أيضاً.

مؤشرات

لكن القيادي السابق الذي تحدث ل”المدن” بهذا الخصوص، لم يبدو متفائلاً بإمكانية أن يتجاوز إخوان سوريا المشكلات التي يعانون منها بهذه السهولة، معتبراً أن عدم فتح قنوات تواصل مع القادة والكوادر الذين استقالوا من الجماعة خلال السنوات الماضية، يُعتبر مؤشراً على استمرار النهج ذاته الذي أدى إلى خسائر فادحة مني بها التنظيم، كما يقول.

وخلال السنوات الماضية غادر الجماعة العديد من الوجوه التي تحسب على جيل الشباب فيها، ليؤسسوا أحزاباً وتشكيلات سياسية جديدة، أو يتفرغوا للعمل السياسي والأكاديمي المستقل، مثل أحمد رمضان وياسين النجار (حركة العمل الوطني)، عبيدة النحاس (حركة التجديد الوطني)، محمد السرميني (مركز جسور للدراسات) وغيرهم.

بالمقابل استمرت الكثير من الشخصيات البارزة من الجيل الأوسط في الجماعة، مع عدم تمكنها من الوصول إلى مراكز قيادية متقدمة فيها، ومن أبرز هذه الأسماء: الناشط السياسي في إيطاليا حكم الفندي، نجيب الغضبان في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة الدكتور صالح مبارك وشقيقه هشام مبارك، وغيرهم.

مشكلة مركبة

ويرى الكاتب المهتم بجماعات الإسلام السياسي عمار جلو أن مشكلة إخوان سوريا على هذا الصعيد هي “امتداد لمشكلة الجماعة الأم التي تأثرت بها مختلف الفروع في العديد من البلدان، ومنها الفرع السوري”، مستبعداً أن يتم تجاوزها بسهولة.

ورداً على سؤال ل”المدن” حول ما إذا كانت هذه المشكلة بنيوية تتعلق بطبيعة الجماعة، أم أنها تتعلق بطبيعة الشخصيات المسيطرة فيها، يقول: “المشكلة سببها الأمران معاً، فغالب أفكار تيارات الإسلام السياسي لا تعتبر التقدم في العمر سبباً كافياً للاعتزال، كما أن للشخصيات المنضوية ضمن التنظيم أثراً كبيراً، إذ تشكل هذه الشخصيات دولة عميقة ضمن الحركة، وحرساً قديماً يسعى لمواجهة أي حالة تغيير قد تنتهجها الجماعة”.

ويضيف أنه “بمرور الوقت يبدأ هؤلاء بالنظر إلى أنفسهم كأمناء وسد مقاوم لأي تغييرات قد تفضي إلى ضياع التنظيم أو تمييعه من وجهة نظرهم، ما يولد مشكلات جديدة ويسمح بانتقال أمراض أخرى، كالمحسوبية وغياب المساءلة وإفراغ الديمقراطية الداخلية من مضمونها، بحيث تصبح الانتخابات شكلية ومجرد تدوير للمناصب ضمن حالة توافقية بينهم، وليست حالة ديمقراطية حقيقية تحكمها برامج عمل وأفكار واستراتيجيات”.

بينما يرى البعض أنه لا يمكن تعليق الكثير من الآمال على الانتخابات الداخلية القادمة لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ويعتقدون أنها ستكون أداة لتكريس التيارات المهيمنة عليها، حتى وإن تم تصدير وجوه جديدة في هذا المنصب أو ذاك، يرى آخرون أن تجربة السنوات الماضية فرضت نفسها على الجماعة بالفعل، ودفعتها للتحرك في مدارات مختلفة وجديدة من التفكير والعمل، بهدف تلافي المشكلات التي واجهتها، وأهمها صراع الأجيال والتنافس المناطقي والموقف من التجديد.

المدن

————————–

إخوان سوريا: لن نتورط في فخ المصالحة مع نظام الأسد

طه العيسوي

لقاء خاص مع د. محمد حكمت وليد المراقب العام لجميعة الاخوان المسلمين في سوريا

وليد: لدى الجماعة قناعة أثبتت الأيام صحتها هي أن نظام الأسد بطبيعته نظام إبادة إجرامي لا يقبل الإصلاح ولا الشراكات

نفى المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، الدكتور محمد حكمت وليد، صحة ما يردده البعض حول “تورط الجماعة في فخ المصالحة مع نظام الأسد”، قائلا: “هذه فرية يعلم قائلها أنها كذب صراح”، مؤكدا أن “هناك مَن يتعمد الإساءة للجماعة وتاريخها الطويل في الريادة الفكرية ومقاومة الاستبداد السياسي”.

وقال، في مقابلة خاصة مع “عربي21”: “جماعة الإخوان سيدة قرارها، وهو قرار تأخذه مؤسساتها الراسخة منذ عقود، ومخطئ من يظن أن أحدا بإمكانه توريط الجماعة في مسار لا تريده، ولدينا قناعة أثبتت الأيام صحتها، هي أن النظام الأسد بطبيعته نظام إبادة إجرامي، لا يقبل الإصلاح، ولا يقبل الشراكات، ولا المصالحات”.

ورأى وليد أن “القضية السورية، في ظل انسداد الأفق أمام الحل السياسي الذي تواجهه مؤسسات المعارضة القائمة، بحاجة إلى قوى سياسية وطنية رديفة، منبثقة من جذور شعبية، تمثل الشارع السوري وتستطيع محاورته وقيادته، وتضغط على صانع القرار لتلبية مطالب الشعب السوري وتحقيق طموحات ثورته”.

وتاليا نص المقابلة الخاصة مع “عربي21”:

البعض يقول أن هناك مساعٍ جارية لتوريط جماعة الإخوان في ملف المصالحة مع نظام الأسد.. ما مدى دقة ذلك؟

جماعة الإخوان سيدة قرارها، وهو قرار تأخذه مؤسساتها الراسخة منذ عقود، ومخطئ من يظن أن أحدا بإمكانه توريط الجماعة في مسار لا تريده، هذه واحدة. والأخرى أن لدى الجماعة قناعة أثبتت الأيام صحتها، هي أن نظام الأسد بطبيعته نظام إبادة إجرامي، لا يقبل الإصلاح، ولا يقبل الشراكات، ولا المصالحات.

كيف تنظرون لمحاولات التطبيع بين تركيا والنظام السوري؟ وما موقفكم من موقف أنقرة؟

صحيح أن سوريا وتركيا دولتان جارتان تربطهما أواصر تاريخية وثقافية ودينية عميقة، إلا أن تاريخ النظام السوري تجاه تركيا مليء بالغدر والتحريض، وهو الذي احتضن أوجلان الزعيم الانفصالي الكردي لمدة 28 عاما (من 1970 إلى 1998)، وقام بتدريب الانفصاليين وتسليحهم.

وأحب أن أكرر القول هنا إن الجماعة لا تتدخل في السياسات الداخلية لأي بلد تقيم في أرضه، لكنها تتمسك بموقفها الثابت القائل بأنه لا بد من تغيير نظام الإبادة والإجرام في سوريا من أجل مصلحة الشعب السوري وكل شعوب المنطقة، كما نعتقد أن التطبيع مع نظام مجرم قاتل ليس في صالح أي بلد.

لكن البعض يرى أن المصالحة أو التقارب مع نظام الأسد ربما يساهم في حلحلة الأزمة السورية.. ما تعقيبكم؟

النظام السوري نظام أقلوي طائفي منغلق على نفسه وقائم على التسلط والقتل والإرهاب، والمصالحة أو التقارب معه يرسخ إجرامه، ويشرعن تسلطه، ويزيد من تفاقم الأزمة السورية الممتدة لعقود.

هل غياب البديل لنظام الأسد هو السبب الرئيس الذي دفع البعض للتقارب مع النظام السوري؟

سوريا من أوائل البلدان المُستعمرة التي نالت استقلالها في أربعينيات القرن الماضي، والشعب السوري من أكثر الشعوب حيوية وثقافة، ومر في تاريخه بفترات ديمقراطية ونضج سياسي متفوق على أقرانه في المنطقة. والحقيقة المرة أن النظام الأسدي (الأب والابن) أحال سوريا خلال نصف قرن من الحكم المخابراتي البوليسي إلى صحراء سياسية، وشرّد منافسيه وبدائله إلى المنافي والسجون والمقابر.

ما دلالة إعادة تفعيل دائرة دعم المفاوضات المتوقفة عام 2020 وتسليم رئاستها للإخوان؟

لا أعلم دائرة بهذا الاسم، ولعلك تقصد هيئة المفاوضات التي يرأسها الدكتور بدر جاموس خلفا للأستاذ أنس العبدة، والدكتور بدر هو ممثل التيار الوطني السوري في الائتلاف وليس من الإخوان المسلمين.

مَن صاحب قرار إعادة تفعيل دائرة دعم المفاوضات؟ وما أبرز المهام الحالية المنوطة بها؟

لعل رئيس الهيئة الجديد أراد من المبعوثين الدوليين القيام بمهامهم وإعادة الحياة إلى هيئة المفاوضات التي ركدت منذ عام 2020، وهذه مهمة عسيرة، والنظام السوري لم يكن جادا في المفاوضات في أي مرحلة من المراحل، وهذا ما أوصل ما سمي بالحل السياسي إلى حالة عبثية لتمرير الوقت وفرض الأمر الواقع.

هناك من يرى أنه بالرغم من أنكم ترفضون بشكل معلن اللجنة الدستورية ومسار أستانا، إلا أنكم تحتفظون ببعض الممثلين المعلنين وغير المعلنين في اللجنة الدستورية ووفد أستانا.. ما ردكم على ذلك؟

نحن انسحبنا من اللجنة الدستورية منذ بداية تشكيلها لإيماننا بعدم جدواها في إيجاد حل للقضية السورية، وليس لنا ممثلون فيها معلنون أو غير معلنين. صحيح أن في اللجنة الدستورية، وفي أستانا، بعض الإسلاميين، ولكن ليس كل الإسلاميين إخوانا مسلمين.

على صعيد آخر، ما الجديد بخصوص الانتخابات الداخلية الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين؟

حسب نظامنا الداخلي، الانتخابات استحقاق دوري كل أربع سنوات، يتم فيها انتخاب مجلس شورى جديد ينتخب مراقبا عاما جديدا يشكل بدوره قيادة تنفيذية جديدة يعتمدها المجلس.

هل ستكون هذه الانتخابات استثنائية أم أنها ستكون انتخابات شكلية ومجرد تدوير للمناصب كما يقول البعض؟

ليست الانتخابات القادمة استثنائية، لأنها استحقاق تنظيمي يأتي في إبانه، وليست شكلية كذلك، لأن انتخاباتنا أصبحت أعرافا راسخة، وهي انتخابات تنافسية حقيقية، وإن لم تكن تخلو من بعض التجاذبات التي هي في طبيعة الانتخابات التنافسية نفسها.

متى سيتم إجراء هذه الانتخابات بشكل محدد؟

تتم الانتخابات القادمة في نهاية الدورة الحالية، أي في أواخر العام الحالي.

ما مدى صحة ما يُقال حول وجود خلافات داخل الجماعة في ظل ما يصفه البعض بـ “صراع الأجيال والأفكار”، وإشكالية المناطقية بين كتلتي حلب وحماه؟

رغم القبول العام لأفكار الجماعة ومنهجيتها في العمل لدى شرائح واسعة من الشعب السوري، إلا أن ظروف الهجرة المتطاولة والملاحقات الأمنية الشرسة أدت إلى الحد من الكسب الجديد من شريحة الشباب إلى صف الجماعة، وهذا أمر مفهوم نعمل على تدارك آثاره على عملية الانتشار والنماء.

وتحدث بعض الاجتهادات والخلافات أحيانا حول بعض طرائق العمل وجدواها، مثل العلاقة بين الدعوي والسياسي ودور الأخير في الجسم التنظيمي للجماعة، لكن مجلس الشورى هو الذي يحسم هذه القضايا في نهاية المطاف.

أما المناطقية التي كانت بارزة في بعض المراحل السابقة من حياة الجماعة فقد خفّت كثيرا باختفاء ظروفها إلى حد التلاشي.

هل تنوي الترشح لمنصب المراقب العام أم لا؟

لا أنوي الترشح ولا يحق لي ذلك نظاما، لأني أنهيت دورتين قياديتين متتاليتين، كل واحدة منهما امتدت لأربع سنوات.

كيف تأثرت جماعة الإخوان باستقالة بعض قادتها وكوادرها خلال السنوات السابقة؟ وهل هناك تواصل مع هؤلاء المستقيلين لمحاولة إعادتهم لصفوف التنظيم أم لا؟

يشعر بعض الإخوة أحيانا بأن الارتباط التنظيمي يحد من حريتهم في العمل، خاصة إذا كان لديهم آراء في الدعوة والسياسة لا تنسجم مع آراء الجماعة الرسمية، وعادة تقبل الجماعة استقالة هؤلاء الإخوة، لأنها وإن كانت تعتقد بصواب منهجها في العمل، إلا أنها تعترف بوجود الحركات والاتجاهات الإسلامية الأخرى، وأن لها الحق في التعبير عن نفسها والدعوة حسب منهجيتها.

وفي كل الأحوال تحافظ الجماعة على علاقاتها الحسنة مع الجميع، وتعتقد أنها وكل العاملين للإسلام في سفينة واحدة، نجاتها نجاة للجميع، وغرقها غرق للجميع لا سمح الله.

عربي 21

——————————

قراءة في صراع “الإخوة الأعداء

ضمن النزاع الدائر بين الجبهتين المتصارعتين داخل صفوف جماعة الإخوان، وهما جبهة لندن بقيادة إبراهيم منير، وجبهة إسطنبول بقيادة محمود حسين، الأمين العام السابق للجماعة، قرّرت الأخيرة يوم 12 يوليو الجاري فصل القائم بعمل مرشد الجماعة، إبراهيم منير، نهائياً من الجماعة و13 قياديا في جبهته، في تطور يشكل ذروة الصراع المستعر بين الطرفين منذ اكتوبر 2021، كما يعد أحد أخطر الأزمات التي تعصف بالجماعة منذ تأسيسها في مصر عام 1928.

السياق العام:

جاء قرار جبهة اسطنبول بـ “فصل” ابراهيم منير من جماعة الإخوان في ظل جملة من المتغيرات والتطورات المتعلقة بالجماعة، أو المؤثرة عليها؛ فيما يلي أبرزها:

    نيّة جبهة ابراهيم منير عقد أول اجتماع لمجلس الشورى الجديد أيام 14 و15 و16 من تموز يونيو 2022. وكان نجح في عقد انتخابات اختار على أساسها 33 عضوا في مجلس شورى الإخوان، وهؤلاء بديل لبعض أعضاء مجلس شورى الإخوان الموالين للجبهة المناوئة (جبهة محمود حسين) وعددهم 6 أعضاء على رأسهم محمود حسين ومدحت الحداد ورجب البنا وعلي يوسف وممدوح مبروك وآخرين.

    محاولة الجماعة اختراق المشهد السياسي الحالي في مصر، خاصة بعد دعوة الرئيس المصري إلى حوار وطني يتسع للجميع، واتجاه الوضع في مصر إلى إصلاحات سياسية وانفتاح على المعارضة الوطنية، وهو ما تحاول الجماعة استغلاله عبر رسائل التودد الكثيرة التي خرجت عن قياداتها.

    رغبة تركيا في استكمال التقارب مع مصر ودول الخليج، والاشارات العديدة باقتراب رحيل الإخوان من تركيا إلى بلد ثالث، إضافة إلى تقليص دور مساحات منصاتها الإعلامية.

    التخبط الذي يعيشه تنظيم الإخوان في أكثر من بلد؛ وخاصة في تونس والمغرب وليبيا والسودان وسوريا والأردن، وقبلها مصر ودول خليجية، وما أفرزه ذلك من انشقاقات وخلافات علنية لدى أذرع التنظيم في تلك الدول.

    وقوع معظم صقور جماعة الإخوان في قبضة السلطات الأمنية المصرية، من ضمنهم محمود عزت، نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين والقائم السابق بأعمال مرشدها محمد بديع، والذي كان بمثابة ضابط الإيقاع في صفوف الجماعة حتى تاريخ اعتقاله أواخر آب أغسطس 2020. تغيّبب هؤلاء عن المشهد وغموض موقفهم من الخلافات الجارية فُتح باب الاجتهادات بل وحتى تجيير تصريحات نُسبت إلى بعض القيادات المعتقلة.

جذور الصراع بين جبهتي لندن واسطنبول:

تعود الأزمة في جذورها إلى أواخر عام 2013، حيث شكّل فض اعتصام رابعة صدمة كبرى على أنصار الجماعة وأنصار الرئيس مرسي، وكانت الصدمة مخلخلة للهيكل القيادي للجماعة بعد أن تمّ اعتقال الكثير من قيادات ورموز الجماعة، على رأسهم المرشد العام محمد بديع. حاولت فلول الجماعة تجنب الإنقسام عبر الالتزام بقرارات “اللجنة الإدارية العليا” أو مايعرف بالقيادة الإستدراكية، إلا أنّ حالة التشظي في صفوف الجماعة كانت أعمق من ذلك بكثير.

لاحقا، انفجرت الأزمة الداخلية- بشكلها الراهن- في تنظيم الإخوان المركزي (إخوان مصر) عقب إلقاء أجهزة الأمن المصرية القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، في أغسطس 2020. إذ تولى إبراهيم منير المنصب باعتباره نائب المرشد (عيَّنه محمود عزت في هذا المنصب في يوليو 2015)، وفق نص المادة الخامسة من اللائحة العامة للجماعة، الأمر الذي أثار حفيظة مجموعة محمود حسين والمعروفة بـ”مكتب تركيا/ رابطة الإخوان المصريين بالخارج” (أسسها حسين من تركيا عام 2013). حيث رأى محمود حسين أنه الأحق بالمنصب، وفقاً للمادة اللائحية المذكورة نفسها، وباعتباره آخر أعضاء مكتب إرشاد الإخوان المتبقين خارج السجون (يُمثل المكتب أعلى هيئة قيادية وتنفيذية)، وأمين عام مكتب الإرشاد وأكبر أعضاءه المنتخبين سناً.

حاول محمود حسين عرقلة وصول منير إلى هرم السلطة في الجماعة، بدايةً عبر طلب رسمي (وقَّعه 10 من قيادات مجلس الشورى العام) بتعديل المادة الخامسة من لائحة الجماعة، وإعادة صياغتها على نحو يدفع بتولي حسين مهام منصب المرشد العام، بدلاً من منير، إلا أنّ ذلك لم ينجح. بل أدت عوامل أخرى، مثل كيفية التعاطي مع المباحثات المصرية-التركية بشأن عودة العلاقات بين البلدين، إلى احتدام الصراع بين جبهتين بدأت ملامحها بالتبلور في أيار مايو 2021؛ جبهة القائم بأعمال مرشد الإخوان إبراهيم منير المقيم في لندن، وجبهة أمين الجماعة السابق محمود حسين المقيم في إسطنبول، على خلفية إجراءات وقرارات جديدة لإبراهيم منير وصفها الطرف الثاني بـ “”الإقصائية”، مثل تأجيل الانتخابات القاعدية وإقرار حد أقصى لسن الترشُّح حدده منير بـ 45 عاماً، وهو ما يعني ضمنياً استبعاد حسين وأنصاره من كل المناصب واللجان المركزية المهمة داخل الجماعة. وأيضاً قرار حلّ مكتب الإخوان الإداري في تركيا، وحلّ مجلس شورى القُطر، وإحالة محمود حسين وعدد من أنصاره- من ضمنهم محمد عبد الوهاب مسؤول رابطة الإخوان المصريين بالخارج، وهمام علي يوسف عضو مجلس الشورى العام ومسؤول مكتب تركيا، ومدحت الحداد وممدوح مبروك ورجب البنا أعضاء مجلس الشورى العام- إلى التحقيق بدعوى ارتكابهم مخالفات مالية وإدارية، وأخيراً؛ تشكيل لجنة إدارية جديدة لإدارة شؤون الجماعة.

قابل محمود حسين ومجموعته قرارات منير بالرفض القاطع والتشكيك بشرعيتها، وكانت ذروة ما اتخذته هذه المجموعة انتخاب القيادي البارز في الجماعة مصطفى طلبة ممثلاً للجنة المؤقتة، القائمة بأعمال المرشد العام محمد بديع، بديلاً لإبراهيم منير. ولاحقاً الإعلان عن فصل منير ذاته من جماعة الإخوان.

تسلسل زمني لأبرز محطات الصراع بين جبهتي لندن واسطنبول:

    يوم 12 يونيو قرّر معسكر إسطنبول بقيادة محمود حسين قرر فصل إبراهيم منير (جبهة لندن)، نهائياً من الجماعة و13 قياديا في جبهته.

    بعد ساعات من عزل جبهة لندن بقيادة إبراهيم منير لمصطفى طلبة القائم بعمل مرشد الإخوان، الذي عينته جبهة اسطنبول بقيادة محمود حسين، ردت الجبهة الأخيرة ببيان يوم 1 فبراير 2022 رفضت فيه القرار، وجددت بيعتها لمحمد بديع مرشد الجماعة المسجون في مصر. وأكد بيان جبهة اسطنبول الالتزام الكامل بقرارات مجلس الشورى العام للجماعة، واحترامها، مشيرا إلى أن مجلس الشورى العام هو المرجعية الأعلى للجماعة في كل شؤونها، ومطالبا كل عناصر الجماعة الالتزام بقرارات المؤسسات الشورية وتقديمها على رأيه الخاص.

    في 29 يونيو 2022، قرّرت جبهة لندن بقيادة إبراهيم منير عزل القائم بعمل مرشد الجماعة، مصطفى طلبة، والذي تم تعيينه قبل أيام عن طريق جبهة إسطنبول. وذكرت جبهة منير في بيان رسمي عدم اعترافها بقرارات جبهة إسطنبول، أو كما يسمى بمجلس الشورى العام، مؤكدة أن الشرعية للجماعة يمثلها نائب المرشد العام والقائم بالأعمال إبراهيم منير، فقط وأن ما حدث من جبهة إسطنبول “هو شق للصف استوجب المحاسبة”.

    في 17 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي (2021) ، أعلنت جبهة محمود حسين، حلا مؤقتا لقيادة الجماعة، تمثّل وقتها في اختيار مصطفى طلبة ممثلاً للجنة المؤقتة، القائمة بأعمال المرشد العام محمد بديع، بديلاً لإبراهيم منير. وحينها، قال بيان الجبهة إن اللجنة الإدارية المؤقتة التي تقوم بمهام أعمال المرشد العام سيستمر عملها 6 أشهر فقط، ما يعني انتهاء عملها منتصف يونيو/ حزيران (المنقضي)، والوقوف على حافة شغور المنصب. وجاء اختيار مصطفى طلبة مرشداً عاماً للجماعة بقرار منفرد من مكتب إسطنبول، في خطوة جديدة مهدت لإقصاء “منير” بعد قرار الأخير بتجميد عضوية كل من محمود حسين ومدحت الحداد ومحمد عبدالوهاب وهمام علي يوسف ورجب البنا وممدوح مبروك، ما دفع المجمدين إلى إعلان عزله من منصبه بعد ذلك.

    مطلع يوليو 2021 أصدرت “الهيئة الإدارية العليا”، التي يترأسها القائم بأعمال المرشد العام، إبراهيم منير (جبهة لندن)، مجموعة من القرارات تمثلت في حل المكتب الإداري للإخوان المسلمين المصريين في تركيا، وحل مجلس شورى القُطر بتركيا، مع تأجيل الانتخابات، التي كان من المقرر إجراؤها خلال شهر تموز/يوليو الجاري، لمدة 6 شهور.

    في سبتمبر/أيلول 2020، أعلن ابراهيم منير تشكيل لجنة لإدارة أعمال التنظيم، وإنهاء دور الأمانة العامة ومنصب الأمين العام الذي كان يشغله القيادي بالتنظيم محمود حسين.

    في 26-1-2016 دعا رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقاً، الشيخ يوسف القرضاوي، جماعة الإخوان في مصر، لإجراء “انتخابات شاملة لمؤسساتها في الداخل والخارج، بأسرع وقت ممكن” للخروج من الأزمة الراهنة التي تمر بها. كما طالب القرضاوي، بوقف التراشق الإعلامي بين قيادات الجماعة، داعيًا الطرفين المتنازعين، “إلى العمل والتعاون في ما بينهما في إطار المؤسسات القائمة للجماعة”، حتى إجراء الانتخابات. وكشف القرضاوي، أنه قام بمشاركة عدد من “الشخصيات التي لها وزنها الفكري، والدعوي، والحركي (لم يسمها)”، بـ”التوسط والمساعدة في معالجة المشكلة القائمة، وتقريب مواقف أطرافها”.

    عام 2016 انشقت مجموعة شبابية معروفة بـ”جبهة المكتب العام” أو “تيار التغيير” عن تتنظيم الإخوان، وكوّنت جماعة موازية لها مكتب تنفيذي ومجلس شورى عام موازٍ. بات هذا التيار داعماً لإبراهيم منير منذ عام 2020.

    في ديسمبر/ كانون أول 2015، أعلن مكتب الإخوان المسلمين في لندن، إقالة الشاب محمد منتصر (اسم حركي مقيم داخل مصر)، من مهمته متحدثًا إعلاميًا باسم الجماعة، وتعيين طلعت فهمي (55 عامًا) متحدثًا جديدًا بدلًا منه. وتلا ذلك تدشين موقع إلكتروني جديد للجماعة، واستمرار إصدار بيانات مضادة بين قيادات بالجماعة، ومكاتب تنفيذية بها، حول إدارة التنظيم، وشكل الثورة التي ينتهجونها ضد السلطات المصرية الحالية.

الواقع الراهن للجماعة:

بناء على ماسبق، باتت جماعة الإخوان المسلمين المصرية بصورة شبه رسمية اليوم منقسمة إلى جبهتين رئيسيين يتحكمان بالمشهد، إضافة إلى تيارات أخرى اتخذت مسارات منفصلة نوعاً ما تبعاً لأجندات خاصة بكل منها، هذه الجبهات هي:

    جبهة ابراهيم منير (جبهة لندن): أبرز شخصياتها محمد البحيري المقيم في بريطانيا وأحمد محمود الأبياري الذي انتقل من النمسا إلى لندن مؤخراً، إلى جانب المفوض السابق للعلاقات الدولية للجماعة، والمسؤول عن استثماراتها في غالبية أنحاء العالم؛ يوسف ندا.

    ترتبط هذه الجبهة بفعاليات التنظيم في كل من أوروبا وبريطانيا بالخصوص، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وذي علاقات قد توصف بـ”الجيدة” مع الأحزاب اليسارية في تلك الدول. حيثعملت هذه الجبهة خلال العامين الماضيين على تعزيز مكانتها واستقطاب مكاتب الإخوان الإدارية خارج مصر وكذلك الأعضاء والعناصر النشطة في مختلف أنحاء العالم، مستفيدةً من وجود دعم من مكاتب خارجية (أبرزها مكتب لندن، وماليزيا، والصومال وغيرها). وتحظى جبهة إبراهيم منير بدعم قطاع من أعضاء مجلس الشورى العام في الخارج.

    جبهة محمود حسين (جبهة اسطنبول): أبرز قياداتها مصطفى طلبة، مدحت الحداد، محمد عبد الوهاب، همام علي يوسف، رجب البنا، وممدوح مبروك. تمثل هذه الجبهة إخوان مصر (التنظيم المحلي) ويُشرف عليها ويديرها في الخفاء محمود حسين، الذي تربطه علاقات جيدة بالمخابرات التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم. ويستند محمود حسين على ما يتحكم فيه من ملفات مالية وإدارية خاصة بتنظيم الإخوان بمصر ودعم عدد من القيادات المستفيدة ماليًا من وراء التحالف معه، خاصة مصطفى طلبة عبر المكاتب الموالية له في رابطة الإخوان بالخارج.

    جبهة تيار التغيير (جبهة المكتب العام): تشكلت إثر أزمة داخلية بين عامي 2015، و2016 في مواجهة ما يُعرف إعلاميا بجبهة القيادات التاريخية، بعد الخلاف الداخلي الذي شهدته الجماعة في مصر بشأن الموقف من اللجنة الإدارية العليا الثانية التي تشكلت في فبراير/شباط 2014 لتسيير الأعمال بديلا عن مكتب الإرشاد الذي تم اعتقال غالبية أعضائه منذ يوليو/تموز 2013. وهي تضم القيادات الوسطى للإخوان وبعض الشباب. وتعمل هذه الجبهة بشكل مستقل تماماً ولها مكتب تنفيذي (بديل لمكتب الإرشاد)، ومجلس شورى عام (منفصل عن المجلس المعروف)، ولا تتفق مع جبهات الإخوان المتصارعة سوى على اختيار محمد بديع، مرشداً عاماً للإخوان.

    جبهة “إخوان الداخل”: يضم ما تبقى من الكتلة الصلبة للتنظيم تحت قيادة ما يعرف بـ “اللجنة الإدارية في الداخل المصري”، تقف هذه الجبهة موقف الصامت المترقب، وتحرص على عدم الانحياز إلى أي من الجبهتين المتصارعتين (لندن-اسطنبول) نظرا لارتباكها وظروفها الخاصة.

أما أبرز تجليات الصراع بين جبهتي لندن واسطنبول فهي:

    سعي كل طرف للاستئثار برئاسة الجماعة وإدارتها، مع رفض مشاركة الجانب الآخر بشكل تام، واتسام تعاطيها مع الأزمة الحاصة بالجمود والراديكالية المفرطة.

    إصرار كلا الطرفين على استخدام الأدوات والوسائل التنظيمية نفسها واتخاذ القرارات الإجرائية ذاتها لإثبات أحقيته بالقيادة، ، ومن ضمن ذلك أسلوب الاغتيال المعنون للمخالفين، وقطع الدعم المالي عنهم.

    الحرب الإعلامية الجارية بين الطرفين، عبر ادعاء كل منهما بامتلاك الحق في الانفراد بقيادة الجماعة، واتهام الطرف الآخر بالخروج على التقاليد الراسخة للحركة، وارتكاب مخالفات لائحية تتنافى مع اللائحة العامة لجماعة الإخوان، الصادرة عام 2009.

    محاولات كِلا الطرفين استمالة “المحايدين” من التنظيم أو ما تبقّى من الكتلة الصلبة داخل مصر.

    تعنّت الطرفين ورفضهما القاطع لجميع المبادرات التي طُرحت من قبل أطراف إخوانية وغير إخوانية، رغم حيادية ومرونة معظم هذه المبادرات.

    سعي كل طرف للتمايز عن الآخر؛ ففي حين تتمسك جبهة محمود حسين بالظهور بشكل تقليدي ومحافظ، تسعى جبهة إبراهيم منير في مسارها الحالي إلى إضفاء وجه حداثي عبر تدعيم صفوفها بفئة الشباب و الزعم بتبني أطروحاتهم.

التداعيات والانعكاسات المتوقعة:

تمثل التطورات الأخيرة المتمثلة بالعزل والعزل المضاد بين قادة التنظيم الدولي وقادة المكون المصري، الجزء المرئي من جبل جليد الخلافات والانقسامات العمودية والأفقية داخل التنظيم، فنحن اليوم نتحدث عن أكثر من مرشد داخل التنظيم، وكذلك عن كيانات وكيانات موازية داخل التنظيم ذاته.

وفي ظل نزوع طرفي الصراع للتصعيد وعدم التهدئة حتى إخضاع الطرف الآخر، وغياب أي مؤشرات على رأب الصدع، يمكن تحديد النقاط التالية في رسم المشهد المستقبلي للتنظيم:

    يبدو أنّ إعلان جبهة محمود حسين في تركيا “فصل ابراهيم منير من جماعة الإخوان” مجرد خطوة رمزية هدفها الإقرار بانفصال المكون المصري داخل الجماعة عن التنظيم الدولي الذي يقوده منير من لندن. وبالتالي فنحن أمام قطيعة علنية ورسمية بين التنظيم الدولي الذي تمثله جماعة المهجر في بريطانيا، وجماعة مصر التي يمثلها المقيمون في تركيا.

    استمرار هذه القطيعة وتشكيك كل طرف بشرعية الطرف الآخر سيضع الجماعة في موقف ضعف ويفقدها القدرة على التأقلم مع الأوضاع المتغيرة في الإقليم ومواكبة التحولات التي تشهدها العلاقات بين رعاتها وداعميها السابقين –كقطر وتركيا- من جهة والدول العربية من جهة أخرى. ولكن في المقابل، ستتيح ذلك لأي من التيارات المتنازعة داخل الجماعة إجراء اتفاقات أو صفقات بينها وبين بعض الحكومات، بمعزل عن موقف بقية التيارات.

    رغم ما سبق ذكره، فإنّ هذا التشرذم لا يعني قرب انتهاء التنظيم، إذ يتيح أسلوب هيكلة الجماعة الشبكي العنقودي المرن حيزاً للتيارات وللخلايا المحلية المنتشرة في الدول العربية والإسلامية والعالم أجمع، للتشتت، ثم محاولة التجمع والتشكل من جديد متى ما تهيأت الظروف المناسبة لذلك. ومن المعروف أنّ الجماعة واجهت أزمات وصراعات قيادية، خلال المحن الكبرى التي مرت بها (أعوام 1948، و1954، و1965)، وانقسمت قواعدها إلى تيارات ومعسكرات متصارعة، لكنها كانت تخرج من تلك الحالة، بطريقة دراماتيكية.

خلاصة:

يبدو من الواضح أنه حتى لو تمكن أحد الطرفين من حسم الصراع فإنّ جماعة الإخوان بشكلها القديم المعروف تآكلت، وفقدت القدر الأكبر من تماسكها، بعد أن كانت تفخر دائمًا بأنها الحركة الإسلامية الأكثر تماسكًا، وبالتالي فهي قد تتحول قريباً إلى مجرد إطار فكري لتيارات وجماعات متناحرة فيما بينها.

المراجع:

https://www.ikhwanonline.com/article/254851
https://al-ain.com/article/brotherhood-reconciliation-egypt-sisi
https://cutt.us/pq5GT
https://cutt.us/L2YsB
https://cutt.us/V7wKy
https://www.ida2at.com/bts-of-leadership-struggles-within-muslim-brotherhood/
https://cutt.us/VZdbK
https://carnegieendowment.org/sada/30999
https://epc.ae/ar/details/scenario/assiraa-dakhil-jamaat-al-ikhwan-almuslimin-muhaddedatoh-wmustqbluh
https://cutt.us/mmnOy
https://eipss-eg.org/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%8A%D8%B1-%D9%80-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB/

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.

—————————

حرب بيانات تؤجج النزاع بين «إخوان الخارج»/  وليد عبد الرحمن

جبهتا «إسطنبول» و«لندن» تتبادلان الاتهامات بـ«شَق التنظيم»

«حرب بيانات» و«اتهامات متبادلة» تلخص المشهد الحالي لنزاع «إخوان الخارج» بين «جبهة إسطنبول» بقيادة محمود حسين الأمين العام السابق للتنظيم، و«جبهة لندن» بقيادة إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد. وما زالت أصداء تشكيل «جبهة لندن» لـ«مجلس شورى جديد» وإعفاء أعضاء «شورى إسطنبول» الستة ومحمود حسين نفسه من مناصبهم تلقي بظلالها على المشهد المتأزم منذ أشهر بين الجبهتين، ما دفع «جبهة إسطنبول» إلى إصدار بيان جديد مساء أول من أمس (الخميس)، زعمت فيه أن «جبهة منير تُضعف الجبهة الداخلية لـ(الإخوان) وتفرّق وحدتهم»، على حد قولها. واتهمت «جبهة منير باستخدام مواقع التواصل في نشر ادعاءات ومعلومات غير حقيقية».

يأتي هذا بعد أيام من قيام «جبهة إسطنبول» بالإعلان عن عزل إبراهيم منير من منصبه وفصله نهائياً مع أعضاء جبهته. وأعقب ذلك إعلان تشكيل «مجلس الشورى الجديد في لندن» ليحل بديلاً عن «مجلس الشورى» التابع لجبهة محمود حسين في إسطنبول، في حضور قيادات تقيم في تركيا وكانت محسوبة على «جبهة إسطنبول»، كما حضر عدد من القيادات التي تقيم في دول أوروبا، وتم خلاله اختيار نائبين لمنير.

وكان بيان لـ«مكتب الإرشاد العالمي للتنظيم في لندن» قد أشعل الخلاف أخيراً، بعدما دعا «مجموعة إسطنبول» إلى «ضرورة تقديم البيعة لمنير بوصفه قائماً بأعمال مرشد (الإخوان)».

الخلافات كانت قد تعمقت بين جبهتي «لندن وإسطنبول» عقب قيام «مجلس شورى إسطنبول» بتشكيل «لجنة» باسم «اللجنة القائمة بأعمال المرشد العام» لتقوم بمهام المرشد العام بقيادة مصطفى طُلبة، وعزل إبراهيم منير من منصبه؛ إلا أن «جبهة لندن» عزلت طُلبة، معلنة في بيان لها «عدم اعترافها بقرارات جبهة إسطنبول أو ما يسمى مجلس الشورى العام»، مؤكدةً أن «شرعية التنظيم يمثلها نائب المرشد العام إبراهيم منير فقط، وأن أي تنصيب لطُلبة، لهو شقٌّ للصف يستوجب المحاسبة»، معلنةً «بطلان ما تسمى اللجنة القائمة بعمل المرشد التي يمثلها طُلبة».

في المقابل، ردّت «جبهة إسطنبول» على «مجموعة لندن» ببيان أكدت فيه تمسكها بـ«قرارات مجلس الشورى العام للتنظيم في إسطنبول، وأنه هو المرجعية الأعلى»، مطالبةً جميع عناصرها بـ«الالتزام بقرارات المؤسسات الشورية»، ومشددةً على «بقاء مصطفى طُلبة في منصبه، ورفضها قرار منير بعزله»، ومجددةً في الوقت نفسه البيعة لمحمد بديع مرشد الإخوان… وكانت «جبهة إسطنبول» أعلنت في وقت سابق تجديد البيعة لبديع.

ويشار إلى أن إبراهيم منير سبق أن أعلن حل المكتب الإداري لشؤون التنظيم في تركيا، وعزل محمود حسين وآخرين، لتتصاعد الأزمة بإعلان «مجموعة حسين» أكثر من مرة عزل منير من منصبه.

ويقول أحمد زغلول، المتخصص في شؤون الحركات الأصولية في مصر، إن «المشهد الآن بين الجبهتين هو صراع بيانات وصدام وانقسامات وكل جبهة تحاول القول إن الشرعية معها». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «حرب البيانات هي الخيار والحل الوحيد أمام إخوان الخارج الآن فيما يخص التنظيم وإدارة الخلافات الشخصية، لأنه لم يعد لديه أي مشروع سياسي، ووضعه العام في بعض الدول مُتأزم، فضلاً عن فقدانه أي أدوات ضغط له، وكذا عدم وجود أي تواصل مع قياداته في السجون المصرية». وأكد زغلول أنه «لهذه الأسباب، لم يعد أمام مجموعتي لندن وإسطنبول سوى الحشد الإعلامي للصراع لأنه لم يعد هناك وجود مؤثر على الأرض».

وتُكثف قيادات «جبهة لندن» من جهة و«جبهة إسطنبول» من جهة ثانية، ظهورها عبر قنوات فضائية ومنصات إلكترونية لكسب «مزيد من التأييد» لموقف كل منها في الصراع. وحسب مراقبين فإن «لجوء قيادات الخارج إلى التحشيد الإعلامي والمنصات البديلة، هدفه معالجة الآثار السلبية الناجمة عن الانقسام الشديد من ناحية، والدفاع عن وجهة نظر كل جبهة من ناحية أخرى».

ورجح زغلول استمرار «حرب البيانات» في الفترة المقبلة، لافتاً إلى أنها «مستمرة بين الجبهتين منذ مدّة»، موضحاً أن «الصورة العامة للتنظيم المُنهك الآن هي التشظّي وغياب الرموز والمشروع السياسي».

——————————–

القائم بأعمال مرشد الإخوان: الجماعة لا تزال تحظى بتأييد واسع في مصر

لندن: قال إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، إن الجماعة لن تخوض صراعا جديدا على السلطة بعد الإطاحة بها من الحكم قبل تسعة أعوام حتى رغم أنها لا تزال تحظى بتأييد واسع.

كان الإخوان قد فازوا بأول انتخابات رئاسية حرة في مصر عام 2012، لكن الجيش أطاح بهم بعد عام من تولي السلطة وذلك في أعقاب احتجاجات حاشدة على حكمهم، وهم يواجهون منذ ذلك الحين حملة قاسية.

ويقبع كثيرون من قادة الجماعة وآلاف من أنصارها في السجون أو أنهم فروا إلى الخارج، واستُبعدت الجماعة من حوار سياسي سيطلقه قريبا الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أطاح بالجماعة من السلطة عندما كان قائدا للجيش في 2013.

وتعتبر مصر جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، لكن منير أكد مجددا موقف الجماعة الرافض للعنف.

كما بدا أنه يستبعد التنافس على السلطة من خلال صناديق الاقتراع، وهو أمر لا تستطيع الجماعة القيام به بشكل مباشر بينما لا تزال محظورة، رغم أنها دفعت بمرشحين مستقلين في الانتخابات البرلمانية من قبل.

وقال منير: “نرفض (العنف) تماما، ونعتبره خارج فكر جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط أن نستخدم العنف أو السلاح بل حتى أن يكون هناك صراع على الحكم في مصر بأي صورة من الصور”.

وأضاف: “حتى لو الصراع بين الأحزاب في الانتخابات السياسية أو غيرها التي تديرها الدولة.. هذه الأمور عندنا مرفوضة تماما ولا نقبلها”.

تعرض منير (85 عاما) للسجن مرتين بمصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وعاش في الخارج خلال معظم السنوات الأربعين الماضية. وقال إن جماعة الإخوان المسلمين مرت بأوقات عصيبة من قبل، ولكن “بالتأكيد هذه المرة أقسى من كل المرات الماضية.. من كل المحن الماضية” التي شهدتها منذ تأسيسها قبل ما يربو على 90 عاما.

وأضاف أنه ليس من الواضح كم عدد مؤيدي الإخوان المسجونين في مصر، رغم أنه استشهد ببعض التقديرات التي تشير إلى أن عددهم حوالي خمسة أو ستة آلاف. وأشار أيضا إلى مصادرة أموال الكثيرين منهم.

ولم يرد المركز الصحافي التابع للدولة على طلب التعليق. وينفي المسؤولون احتجاز سجناء سياسيين، ويقولون إن الإجراءات الأمنية مع الإخوان ضرورية لتحقيق الاستقرار في البلاد.

تولى منير القيادة بالإنابة منذ عامين، لأن المرشد العام مسجون منذ أن فقدت الجماعة السلطة في عام 2013، ثم اعتُقل نائبه الأول في عام 2020.

وأقر منير بأن الجماعة عانت انقسامات داخلية حول كيفية التعامل مع الأزمة وأوضح أن اختيار مرشد جديد سيتم “عندما يستقر الوضع”.

تحولات إقليمية

أدى تحول دبلوماسي شهدته منطقة الشرق الأوسط إلى تفاقم التحديات التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين، وذلك عندما قامت دولتان منحتا اللجوء لأنصار الإخوان في العقد الماضي، هما تركيا وقطر، بإصلاح العلاقات مع محور دول ملتزم بسحق الجماعة ويضم مصر والإمارات والسعودية.

وفي العام الماضي، طلبت تركيا من قنوات التلفزيون المصرية المعارضة العاملة على أراضيها تخفيف حدة الانتقادات الموجهة للحكومة المصرية، وذلك في توقيت كانت تسعى فيه لإعادة بناء العلاقات مع مصر.

وقال منير إن جماعة الإخوان لم تتعرض حتى الآن لضغوط في تركيا. وقال: “حتى الآن لا نرى ذلك ولا نشعر به، وأيضا من حق الدولة التركية في أن تفعل أي شيء يحقق أمنها وسلامة شعبها”.

وأضاف أن الحركة التي أقامت على مدى عقود في مصر شبكة من المنظمات الخيرية، لا تزال تتمتع بتعاطف كثيرين من سكان البلاد البالغ عددهم 102 مليون نسمة.

وقال إن الحوار السياسي المتوقع أن يبدأ خلال أسابيع بين الحكومة وجماعات معارضة مختارة ليس مبادرة جادة، ولا يمكن أن يحقق نتائج إذا تم استبعاد الإخوان أو غيرهم منه.

وتابع قائلا: “الحوار مطلوب صحيح، إنما أيضا لا بد أن يشمل الجميع”.

لكن المنسق العام للحوار، قال إن جماعة الإخوان المسلمين لا تستطيع المشاركة لأن أيديها “ملطخة بالدماء”.

(رويترز)

————————

إخوان ما بعد حسن البنا: معضلة التأسيس الثاني للأيدولوجيا والتنظيم/ كريم شفيق

الإخوان المسلمون وخطاب المظلومية

مع الحفر التاريخي لجماعة الإخوان يمكن القول إن مفهوم المظلومية يحتل موقعا مركزيا في الأدبيات الأخوانية، كونه يساهم في تجسير الصلات وتمتين العلاقات بين كوادر وعناصر التنظيم. فالمحنة تحتاج إلى شرعية دينية وتوظيف مباشر للمقدس. استقراء كريم شفيق لموقع قنطرة

مثّلت المظلومية التاريخية لدى جماعة الإخوان المسلمين ما هو أبعد من مجرد حيلة تعبوية وأداة وظيفية تبريرية مؤقتة، سواء على المستوى الحركي أو بين حواضنهم المجتمعية، خاصة في لحظات الإخفاق التاريخي الذي تعرض له التنظيم. فالمظلومية التي تبدو، في أحايين كثيرة، محض مناورة تكتيكية لعبور المحن والمعضلات التنظيمية والسياسية، إنّما هي بمثابة سرديّة تحمل مضامين أيدولوجيّة، وتتعيّن داخلها آليّات اشتغال عمل التنظيم من خلال الأنساق الرمزية المختلفة، وعلى أسس فكرية تعمل بالموازاة مع الأدبيات المؤسّسة والنصوص التدشينية التي وثقها المرشد العام الأول والمؤسس للجماعة، حسن البنا، في سيرته الذاتية: “الدعوة والداعية”، وكذا كتاب “مجوعة رسائل” والذي يضم 25 رسالة.

ومع الحفر التاريخي والكرونولوجي لجماعة الإخوان، يمكن توثيق أنّ صدام الجماعة التقليدي مع الحكومات السياسية، خلال تسعة عقود، الأمر الذي رافقها على مدار تاريخها، لم يترك أثره المباشر والفوري على رأسمالها الرمزي الخاص إلا مع لحظة وفاة المؤسس. ومن ثم، فإنّ اللجوء الاضطراري لهذه الكتل النفسية، التي تشكلت تحت وطأة الأزمات التنظيمية والسياسية، ثم توظيفها الاستراتيجي بعد فترة وجيزة من وفاة البنا، كان أمراً ملحاً لجهة ملء الفراغات الأيدولوجية المباغتة وسد الجيوب التنظيمية التي تهدد بتصدعات متفاوتة.

إذاً، جاء موت البنا في ۱۲ شباط/ فبراير 1949، ليكشف عن “تراجيديا ذات أبعاد لا يمكن حصرها” بالنسبة لأعضاء الجماعة، بتعبير ريتشارد ميتشل، في كتابه المعنون بـ”مجتمع الإخوان المسلمين”، والذي صدر عام 1969. ويرى ميتشل أنّ “كل ما أصاب الإخوان كأفراد أو كجماعات على يد السلطة لم يكن له مثل ذلك الأثر المدمر على الحركة الذي ترکه فقدان القائد”.

وقد مثّل تعيين حسن الهضيبي، إثر ذلك، خليفة للبنا، النتيجة النهائية لعدد من الحلول الوسط بين القصر والإخوان، من جهة، وبين الإخوان أنفسهم، من جهة أخرى. كما أثرت هذه التوازنات بالسلب على التماسك الداخلي للجماعة، بينما نشأ عنها فراغ أيديولوجي، أفسح المجال بدوره للتعبير عن تلك النزعات التي فسرت التراث العقائدي لحسن البنا، على الرغم من إدعائها الإخلاص له، بأساليب مختلفة بدرجة كبيرة، حسبما يوضح جيل كيبل في كتابه: “النبي والفرعون”، إذ كان المرشد العام الجديد، والذي كان يعوزه النفوذ الفكرى، عاجزاً عن عمل أيّ شيء سوى أن يمنح أو يمتنع عن إعطاء موافقة التنظيم على ما ينشره أعضاؤه.

حتمية المحنة في تجربة الدعوة

ثمّة جذور أو بالأحرى شروط مؤسّسة للمظلومية في رسائل البنا، الذي ألمح فيها (25 رسالة) إلى أنّ الصدام مع الأنظمة السياسية أمراً محتوماً، ومن ثم، حدوث الخصومة وتوقع النتائج والمآلات الصعبة. فيقول البنا في رسالته: “بين الأمس واليوم”: “أحب أن أصارحكم أنّ دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية”.

وعرج البنا في الرسائل ذاتها على حتمية المحنة في تجربة الدعوة وفق ما جاء في رسالة “التعاليم”، التي تحمل إنذاراً بالعنف الموجه ضد المجتمع الذي يقف ضدهم فيقول: “الإخوان المسلمون سيستخدمون القوة العملية، حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنّهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون أولًا، وينتظرون بعد ذلك، ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح”.

غير أنّ البنا يعاود حديثه فيقول مخاطباً الإخوان: “وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}. ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين.. فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟”.

كما يقول في رسالته “بين الأمس واليوم”، وهي من أوائل رسائله في بدايات دعوته: “وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة، فقولوا نحن دعاة حق وسلام، نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا، وكنتم الثائرين الظالمين”.

واللافت أنّه في الفترة بين عامي 1949 و1954، وهي اللحظة التي أعقبت وفاة البنا بعام، وامتدت حتى الصدام مع سلطة يوليو الجديدة والناشئة بعد سقوط الملكية في مصر، سجلت وفرة في كتابات الإخوان بواسطة مجموعة من الكوادر التنظيمية، وتنامت مساهماتهم على أكثر من مستوى. ومن بين هذه الأسماء عبد القادر عودة، محمد الغزالي، سيد قطب، البهی الخولي، محمد طه بدوی. وجميعم سعوا لمواصلة عمل المرشد المؤسس (حسن البنا) في كتاباتهم الشخصية.

فالمرشد العام الراحل لم يترك من أفكاره سوى القليل من الآثار المكتوبة. وطوال حياته كان، مؤسس الإخوان، هو الذي يقرر كل شيء، وهو الذي يحدد خط التنظيم في ضوء تطورات الموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادى والدینی. ولم يكن هذا الإنتاج الذي تركه كافياً، بحال من الأحوال، لمعالجة كل المشاكل والتحديات التي واجهها الإخوان بعد موته، خاصة خلال محنة عام 1954.

أدلجة الصراع مع السلطة وتصنيف نظام عبد الناصر وحكومته بأنّها “جاهلية” أو “بربرية ما قبل الإسلام”

أزمة عام 1954، وانتقال الجماعة من حليف للنظام، بل ورديف سياسي له، إلى خصم، كشفت عن معضلة المحنة الكبرى المتمثلة، في الواقع، في ضعف وعدم إمكانية التعاطي مع هذا الصراع من الناحيتين السياسية والأيدولوجية. إذ كانت الجماعة بحاجة إلى مقولات سياسية وأدوات نظرية لتحليل النظام بصورة تماثل ما كانت عليه الأوضاع في الفترة الملكية من خلال تحديد التناقض (العدو) الأساسي (الإنجليز)، والتناقض الثانوي وعدوها المرحلي (القصر)، مثلاً. ولذلك، كان سيد قطب هو الذي ملء هذا الفراغ الأيديولوجي من خلال مؤلفاته النظرية التي كتبها بالسجن في الفترة بين عامي 1954 (عندما تم اعتقاله لأول مرة) و1964 (عندما أطلق سراحه لفترة وجيزة ليعاد القبض عليه مرة أخرى وتجرى محاكمته وينفذ فيه حكم الإعدام عام 1966).

وفي كتابه الأخير: “معالم في الطريق”، والذي ضم فصولاً من كتابه: “في ظلال القرآن”، اشتق من التراث الديني الإسلامي مفردات لتعيينها على الواقع، ووضع تصوراته السياسية الشمولية بحيث تمكنه من تحليل طبيعة النظام القائم، بناء على مخياله العقائدي، وبالتبعية، أدلجة الصراع وتصنيف نظام الرئيس جمال عبد الناصر وحكومته بأنّها “جاهلية” أو “بربرية ما قبل الإسلام”، الأمر الذي قام بتعميمه على المجتمع وشمل به الأفراد بنفس الدرجة التي صنف بها النخبة السياسية الحاكمة ومؤسسات الدولة وأجهزتها. فيما عمد إلى بناء تصور حركي لتفكيك النظام واستبدالة بما اعتبره “دولة إسلامية” وتحقيق “الحكم لله”.

نجح سيد قطب في توظيف فكرة المظلومية في سياق آخر وعلى مستوى حركي أكثر عمقاً وتنظيماً، بحيث أضحت المحنة التي سيتم التأصيل النظري لها في التأسيس الثاني للجماعة من خلال ما سيعرف بـ”فقه الابتلاء” و”فقه الثبات” و”فقه المحنة”، ضرورة أو عتبة رئيسية للوصول لمرحلة التمكين. أي تمكين الفئة المصطفة الثابتة التي لم تهتز الأرض أسفلها، أو تتعرض لخرق في ما يخص إيمانها العقيدي، وفق التعبير القرآني: “وليمحص الله الذين آمنوا”.

ومع حادثة المنشية التي حاول من خلالها الإخوان تدبير عملية اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، ألقي القبض على سيد قطب وآخرين، بينما حكم عليه بالمؤبد، قضاها بين سجن طرة والمستشفى الملحق به. وفي هذه الفترة عكف قطب على كتابة تفسيره للقرآن تحت عنوان “في ظلال القرآن”، بل إنّه نشر مؤلفه في صورة كتيب وطبعها في القاهرة، فضلاً عن كتابات أخرى عديدة. كما بدأ في عام 1962، كتابة الفصول الأولى من كتاب “معالم في الطريق”. غير أنّه بعد الإفراج عنه في نهاية 1964 بفضل وساطة الرئيس العراقي، عبد السلام عارف، الذي كان في زيارة رسمية للقاهرة، آنذاك، أصبح سيد قطب هو الحلقة الأكثر متانة التي يتموضع حولها ما بقي من جماعة الإخوان المسلمين.

وعندما أعلن عبد الناصر في ۳۰ أغسطس 1965 أنّ “مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين” قد تم كشف النقاب عنها، أعيد أعتقال سيد قطب، باعتباره الرأس المدبر للمؤامرة. وقد ضبطت نسخ من “معالم في الطريق”، في كل المنازل التي جرى مداهمتها. وقد كتبت زينب الغزالي تقول: “إذا أردت أن تعرف لماذا حكم على سيد قطب بالإعدام فاقرأ “معالم في الطريق””.

وكتاب سيد قطب “معالم في الطريق” يعد بمثابة وثيقة نظرية تعكس حدود وأطر الصراع الأيدولوجي الذي تشكل بين الجماعة (جناحها القطبي تحديداً الذي سيتشكل لاحقاً ويتبنى تلك الأفكار والمقولات المتشددة والراديكالية)، من جهة، والنظام والدولة المصرية في عقود لاحقة وممتدة، من جهة أخرى. وقد تضمن الكتاب جملة المبادىء التي عدّها الإسلاميون الحركيون بمثابة البرنامج العام (أو المينافستو) الذي التزمت به أجيال عدة من الإسلام السياسي.

“كتاب “معالم في الطريق” وثيقة نظرية تعكس حدود وأطر الصراع الأيدولوجي بين الجماعة  من جهة، والنظام والدولة المصرية” و قطيعة تامة مع منهج البنا

ولئن كانت “الجاهلية” نقطة الانطلاق المحورية التي اعتمد عليها قطب لتحقيق أهدافه النظرية والعملية، فإنّ ذلك عنى التطبيق القسري داخل المجتمع المعاصر الذي هو بالأساس “صورة متطورة لهذه الجاهلية”، وخلق “العصبة المؤمنة” و”الجيل القرآني” الذي يقف على مسافة حادة وحيادية تجاه مجتمعه في حالة من “العزلة الشعورية”، دون ثمة ارتباط عضوي أو انتماء أو التماس هوية فيه.

ولذلك، جاء طرح قطب على هذا الأساس الذي استلهم من خلاله التراث الديني الإسلامي، وعمد إلى توظيفه بصورة تحقق أغراضه النهائية، الأمر الذي انتبه له وفسره كيبل في كتابه: “النبي والفرعون”. فيقول: “الواجب أن تكون نظرة المسلم هذا للمجتمع مماثلة لنظرة الرسول والصحابة إلى مجتمعهم، وطليعة اليوم يجب عليها أن تسترشد بهذه القدوة في تحديد أسلوب عملها. وقد استخدم الرسول تكتيك المراوحة بين الانسحاب من المجتمع الذي يعيش فيه والاتصال به، وهو الذي اختار، على سبيل المثال، أن يهاجر من مكة إلى المدينة عندما وجد نفسه في موقف ضعيف، ليعود في النهاية فاتحاً للمدينة التي هجرها قبل ذلك”.

وفي كتابه: “معالم في الطريق” طرح سيد قطب مفاهميه عن المجتمع الجاهلي الذي يتم فيه تعطيل “الحكم بما أنزل الله” وكف يد الله عن التشريع وتعطيل أحكامه، وذلك من خلال “حكم الطاغوت”. هذا الحكم الذي يتشكل من خلال المؤسسات المدنية وأجهزة الدولة التي تقوم بتطبيق القوانين والتشريعات الوضعية. هذا التصنيف الذي توجه لنقد نظام عبد الناصر كان يمثل قطيعة تامة مع منهج البنا الذي يعمد إلى المراوغة والتشويش والتعمية عن أفكاره بينما لم يجرؤ لحظة على إتهام المجتمع وأفراده بمثل هذه المقولات الدينية العنيفة.

وقال سيد قطب في كتابه: “إنّ المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعی، قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. وهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار “المجتمع الجاهلی” جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا. واستعرض قطب بعد ذلك الصيغ المختلفة للمجتمعات، شارحا لماذا تشكل كل منها جزء من هذه الجاهلية بشكل عام. وفي قمة هذه القائمة تقف المجتمعات الشيوعية، التي تنكر الله والتي فيها “نظام العبودية فيه للحزب على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعية لا لله سبحانه وتعالی”.

السلطة الشرعية الوحيدة عند سيد قطب هي الحاكمية لله

وكانت السلطة الشرعية الوحيدة، عند قطب، كما هي عند أبو الأعلى المودودي، في نظام الحكم الصالح ( وهو بالضرورة مسلم ) هي حكم الله ( الحاكمية لله). وعلى نفس النمط، فالله هو الموضوع الوحيد للعبودية (العبودية لله). والنظام يستطيع أن يمارس العبودية فقط باسم الله، بتطبيق الشريعة الإلهية أي “الحكم بما أنزل الله”. فمبدأ الحاكمية لله هو الضمان في مواجهة سلطة الحاكم الفردية.

وخطة قطب للعبور من الجاهلية للإنسان ذكرها في كتابه من خلال “إنسان يؤمن بهذه العقيدة الآتية له من ذلك المصدر الغيبي، الجارية بقدر الله وحده. وحين يؤمن هذا الإنسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع الاسلامی (حكما) أن الانسان الواحد لن يستلقى هذه العقيدة وينطوي على نفسه.. إنه سينطلق بها.. هذه طبيعتها.. طبيعة الحركة الحية.. إن القوة العليا التي دفعت بها إلى هذا القلب ستمضي في طريقها قدما”.

لم يتوقف قطب عند مبدأ الدعوة أو “التبليغ” و”البيان” لتدشين “مملكة الله على الأرض”، بل إنّ مواجهة الدولة الناصرية التي تختلف عن كل الحكومات السابقة في علاقتها مع جماعة الإخوان تحتاج إلى عمل حركي مباشر وصدامي راديكالي، خاصة أن نظام يوليو عمد إلى نبذ الجماعة سياسياً وأيدولوجياً، كما أنه يحمل مشروعا بمقدوره صناعة وإحداث مزايحات لأفكارهم وتصوراتهم في السياسة والحكم. ومن ثم، فالسيف والمصحف تلازم وجودهما مع المنهج القطبي بحيث أصبح لكل منهما مجاله.

كان “معالم في الطريق”، إذاً، العمل الختامي لحياة قطب، والذي نصبه القائد الأيديولوجی للإخوان المسلمين. وفي الفترة من 1951 حتى إعدامه عام 1966، كتب سيد قطب ثمانية أعمال في العقيدة الإسلامية، خمسة منها كتبت في السجن. ولم يكن كتابه “معالم في الطريق”، في الواقع، إنتاجاً جديداً بمعنى الكلمة؛ فقد أخذ أربعة من فصوله الثلاثة عشر على الأقل من كتابه “في ظلال القرآن”، وهو تفسير للقرآن في عدة أجزاء كتب في الفترة من 1953 حتى 1964، أي كتب أغلبه في السجن. وعلاوة على ذلك، فإنّ المصطلحات التي استخدمها المؤلف قد استعارها، من مفكرين عدیدین منهم المودودي.

وثمّة مسافة بينية تفصل بين فكر سيد قطب وحسن البنا، حيث إنّ “فكر حسن البنا لمن يطالعه فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب هو فكر مجانبة ومفاصلة وفكر امتناع عن الآخرين.. والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب، حسبما ألمح المفكر المصري طارق البشري في كتابه: “الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي”، والذي يرى أن فكر سيد قطب كان “فكراً لجيش مقاتل وليس فكرا لدعوة مفتوحة”. ويتابع: “إنه ليس الفكر اللازم لبناء مجلس نيابي بل هو عينه الفكر اللازم لبناء جيش مقاتل من الرجال. الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي”.

وبالعودة إلى الفصل التمهيدي لـ “معالم في الطريق” يمكن الوقوف على مغزى الكتاب وهدفه؛ فيقول قطب: “تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها (فهذا عرض للمرض وليس هو المرض .. لكن بسبب إفلاسها في عالم القيم التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نمواً سلياً وتترقی ترقياً صحيحاً. وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من “القيم”، بل الذي لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعد ما انتهت الديمقراطية فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير ببطء وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقی وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية! تحت اسم الاشتراكية كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه.. فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عدداً كبيراً في الشرق وفي الغرب نفسه- باعتبارها مذهب يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الأخرى تراجعا واضحا من ناحية  الفكرة  حتى تكاد تنحصر الآن في الدولة وأنظمتها، التي تبعد بعدا كبيرا عن أصول المذهب.  ولابد من قيادة للبشرية جديدة!. ثم فشلت الانظمة الفردية والأنظمة الجماعية في نهاية المطاف”.

مفهوم المظلومية يحتل موقعا مركزيا في أدبيات الإخوان، حيث إنه يساهم في تجسير الصلات وتمتين العلاقات بين كوادر وعناصر التنظيم

ومن ثم، يعلق البشري على ذلك، فيذكر: “لقد قيل إن سيد قطب فى “معالم فى الطريق” بلغ قمة الرجعية لأنّه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية، ولكن فهم “معالم فى الطريق” فى إطار منطق الدعوة الإسلامية يكشف أن سيد قطب لم يغل فى الرجعية، بل غلا فى المقاومة، لأنّه بذل مجهوده فى إيضاح كيفية إعداد كتيبة الصدام للعودة إلى الإسلام وأبان في “لا إله إلا الله” معنى الانخلاع عن المجتمع الحاضر بكل قيمه ومؤسساته ورموزه، وإذا كانت الجاهلية هي نظام ما قبل الإسلام فإنّ سيد قطب عندما وصم المجتمع الحاضر بالجاهلية يكون في تصوره قد نقل الدعوة ونظام الإسلام المدعو له من الوراء إلى الأمام، من الماضي إلى المستقبل، أي جعل الإسلام مستقبلياً دعوة ونظاماً، ليكن الموقف من عموم الدعوة الإسلامية أو تفصيلاتها ما يكون، ولكن علينا أن نفهم منطقها الداخلي وسياقها وكيفية بنائها لعقلية الداعي إليها وكيفية تحريكها لبواعثه، فسلفية الداعي للإسلام سلفية راجعية مقاومة وهي ذات منظور مستقبلي”.

ورغم أن مصطلحي “العبودية” و”الحاكمية”، واللذين فهمهما سيد قطب إلى حد ما، قد نشأ في كتابات المودودی، فإن استعمال قطب لها كمفهومين أساسيين في تحليله للجاهلية وللمجتمعات الإسلامية، أضفي عليها قوة كبيرة أكثر مما فعل المؤلف الباکستانی، وفق صاحب: النبي والفرعون”.

ولم تكن “العبودية” و”الحاكمية” مصطلحات قرآنية، وهي نقطة أخذها على المودودی ( وبالتالي على سيد قطب) المرشد العام حسن الهضيبي. وكانت هذه الدعوة، في الواقع، أحد التيمات الدعائية للدولة الناصرية، رغم أن معظم المراقبين المعاصرين لم يهتموا بها أدنى اهتمام، حيث أخذوا بالدعاية التي كانت تروجها الصفوة المحلية من المتحدثين بالفرنسية والانجليزية “للاشتراكية العربية”. وبدلا من العلمانية التي تلهف البعض على تطبيقها، حاول نظام عبد الناصر تحديث المؤسسات الرسمية الإسلامية، خاصة الأزهر، في محاولة لتحويلها إلى أكثر أشكال صناعة الرأي العام المتاحة تأثيرا وكان هذا هو “الإسلام المتطور” الذي تصدى له قطب بالنقد اللاذع.

إذاً، مفهوم المظلومية يحتل موقعا مركزيا في أدبيات الإخوان، حيث إنه يساهم في تجسير الصلات وتمتين العلاقات بين كوادر وعناصر التنظيم. فالمحنة تحتاج إلى شرعية دينية أو بالأحرى توظيف مباشر للمقدس والمفارق لإحداث العصمة داخل “الفرقة الناجية” المتخيلة، والتي تحتاج إلى توليد طاقة عنف مقدسة لمواجهة السلطة وقمعها أو صداماتها العنيفة. وفي مذكرات زينب الغزالي: “أيام من حياتي”، تمتزج المحنة دوما بـالبشارة. وترتبط المظلومية بإمكانيات الخلاص. الأمر الذي يحقق نجاة الفئة المظلومة، وتعافيها بعد طول انكسار، بما يكرس حدة البناء الأيديولوجي والتنظيمي الحركي، ويضغط باستمرار على دوافع العنف داخل نفوس عناصر التنظيم، حتى إذا ما لاحت نذر النهاية، أو تراخت قبضة الدولة، فيتحول المظلوم إلى أداة للقتل المقدس.

وتوظف الغزالي، في كتابها “أيام من حياتي”، أوصافها بحمولاتها الدينية المكثفة، عن ظروف وملابسات وتفاصيل الاعتقال، فضلا عن الحوادث التي ترافقه، بغية تحقيق هدفين؛ الأول مرتبط بالموقف من النظام وتكريس العداء الأيدولوجي والخصومة السياسية ضده، والتأكيد على “فساد السلطة السياسية”، والثاني يتصل بتعزيز قوة “الحجة الإسلاموية” . وثمة صلات عضوية بين الأمرين، تتكرر وتتضح من سيد قطب إلى زينب الغزالي، وذلك بخصوص ديناميكية خطاب المظلومية الذي يعمل باعتباره جزءاً من آليات إنتاج خطاب إسلاموي مسيس أكثر من كونه شهادة عن وقائع جرت، مع الوضع في الاعتبار أنّ كتاب الغزالي صدر بعد قرابة اثنتي عشر عاما من انتهاء وقائعه، وبعد ست سنوات تقريبا على الإفراج عنها.

وبالتالي ثمة “ارتباط جوهري بين إنتاج الخطاب الإسلاموي وإنتاج الأزمات وأساليب القمع التي يصفها (كتاب زينب الغزالي) ومن دون أن يقدم نقداً جديا للآلية الحقيقية لعمل السلطة”، وفق ما ذكر تيموثي ميتشل في كتاب: “المثقف والمناضل” في الإسلام المعاصر.

فتقول الغزالي رداً على استجواب المحقق الذي أمسى يسألها عن علاقتها بشخصيات في عدة دول عربية بالسودان والمملكة العربية السعودية وغيرهما: “إنّ لي في كثير من البلاد أصدقاء عرفوني عن طريق الدعوة الإسلامية، فحركتنا في الأرض هي لله سبحانه والله يسوق إلينا من يختار وجهته وطريقه”. ثم تشير إلى صلاتها بجماعة الإخوان المسلمين، غير أنها تبرر اعترافها بـ”الإرادة الإلهية” التي وضعتها في سبيل الجماعة ومن ثم استجابت لدعوتهم. وتردف: “إنّ غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه، وإنّي باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهليتكم وتجددوا إسلامكم (…) لعل الله يخرجكم من إقفال الجاهلية إلى نور الإسلام. وبلغوا ذلك الرئيس جمهوريتكم لعله يتوب ويستغفر ويعود للإسلام ويخلع عن نفسه إطار الجاهلية” .

وعنونت الغزالي الفصل الأول من كتابها الذي وصفت فيه عبد الناصر بأنه “فرعون”: “عبد الناصر يكرهني شخصياً”، إذ تؤكد أنّ كل ما يجري معها من وقائع وأحداث إنّما هي بمعرفة عبد الناصر، والأخير حسبما تذكر “مصدر كافة الشرور التي تنبعث منه في سلسلة لا تنقطع”.

وهنا، تتبدى عملية إنتاج خطاب سياسي إسلامي مؤدلج يعتمد على إحداث مفارقة بين الضحية والجلاد، خاصة وأنّ الأخير يحاول فرض إكراهاته وهندسة جسد اجتماعي منضبط وموصوم بالضعف والانحراف والمرض والجريمة ومنع انتقال عدوى التمرد بصفتها الإسلاموية، بما يضمن قوة السلطة وبقائها وديمومتها. لكن الاستعلاء الإيماني لدى الغزالي مكنها من مقاومة الخضوع لنطاق السلطة وتوحشها، وقد عمدت إلى عقد مقارنة بين أنماط من التعذيب بهدف الحصول على الاعتراف الذي يمنح العقوبة شرعيتها، لكن ممانعتها بالإيمان هي التي تمنحها الثبات في كل مرة. فتذكر أنها قضت “ليال في زنزانتها، يتم اقتيادها مجددا إلى التحقيق وتوجه إليها تهمة الانتماء إلى تنظيم سري والاشتراك في مؤامرة تهدف إلى اغتيال الرئيس عبد الناصر”، فتنكر التهمة. عندئذ يستدعي عدد من الإخوان المسلمين ويتم ضربهم بالسياط. ويحذرها المحققون بأنها سوف تموت إذا أصرت على رفض التعاون معهم، ولكنها تجيبهم بأنها لا تخشى عذاب الموت. فكل صفحة في الكتاب كتبت بما يؤكد على قوة الإرادة التي تمنحها القناعة الدينية.

وحين توجه إليها في جلسة أخرى تهمة التآمر على اغتيال عبدالناصر والاستيلاء على السلطة، تجيب: “يا أستاذ! القضية أكبر من قتل عبدالناصر والاستيلاء على الحكم. قتل عبد الناصر أمر تافه لا يشغل المسلمين. القضية قضية الإسلام. الإسلام غير قائم (…) ونعمل على تربية نشء للإسلام”. فيرد عليها المحقق: “أنت مجنونة! هذا الكلام خطير؛ ألا تعلمين أنك لو قتلت هنا الآن ودفنت ما علم بك أحد (…)؟” فتجيب: “يفعل الله ما يشاء ويختار”. ويأمر بأن جلد “خمسمائة جلدة”.

واللافت أنّ زينب الغزالي تعمد في شهادتها إلى ذكر معرفة الرئيس جمال عبد الناصر بها، باعتباره قمة هذه السلطة، بل ومتابعة الرئيس التحقيقات معها وإشرافه المباشر على التعذيب بحقها. بينما تصر (زينب الغزالي) أن تدمج على نحو غامض وخفي ثنائية المعرفة/السلطة بتعبير الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في خطابها عن التعذيب الذي يأتي بعد كل جلسة تحقيق واستجواب، وممانعتها السقوط في فخ خطاب السلطة أو الاستجابة لإغراءاته، ومقاومتها النهائية لمحاولات المحققين معها لإضعاف حجتها أو تثبيط فعالية رهاناتها.

وبالتالي، يشكل خطاب الغزالي محاولة لرصد فعالية الإيمان الديني الذي يكافح أمام تقنيات وأنماط ممارسة تنظيم السلطة التي تهدف إلى ضمان طواعية الأفراد المتمردين وخلق ذوت ضعيفة لينة، تنبذ المقاومة، وتقوم على الطاعة والخضوع، وذلك بواسطة إلحاق الألم بالجسد وتعذيبه، وتشكيل إكراهات مادية ومعنوية عليه، كالاعتراف والاستجواب.

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

كريم شفيق صحفي وباحث متخصص في قضايا الإسلام السياسي وشؤون الأقليات في الشرق الأوسط.

————————————–

“الإخوان”.. ترك الصراع على السلطة أم الانزواء في التاريخ؟/ شريف أيمن

تحدّث القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، إبراهيم منير، في مصر لوكالة رويترز للأنباء، نهاية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وذكر أن الجماعة “لن تخوض صراعاً جديداً على السلطة في مصر”. وبعد تصريحه بيومين، نفى مصطفى طُلبة، باعتباره ممثل “اللجنة القائمة بعمل المرشد العام”، أن تكون الجماعة ناقشت هذه المسألة، وقال إن منير جرى إعفاؤه من موقعَيْ نائب المرشد العام والقائم بأعماله، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ويمثّل طُلبة الجبهة المحسوبة على محمود حسين في التنظيم. ولهذه التقسيمات جذور منذ ستين عاماً تقريباً، وفروع لاحقة، ويحتاج كل من الجذور والفروع لبيان وكشف بعض الجوانب.

خرج قادة جماعة الإخوان المسلمين الأوائل من السجون عام 1974 في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وكان النشاط الديني الطلابي في بواكيره، وانجذب جيلُ الشباب من الطلاب إلى أصحاب التضحيات، ولم تكن هناك مؤشّرات إلى وجود ثلاث ثقافات داخل جسد الجماعة، وهي التي اكتمل ظهورها على مدار ربع قرن بعد الخروج من السجون؛ فقد كانت هناك أفكار الذين اختلطوا بالمؤسس حسن البنّا في العمل الأهلي، وأفكار مجموعة النظام الخاص الذين عاصروا البنّا أيضاً، وأفكار مجموعة قضية تنظيم عام 1965، الذين اعتقلوا مع سيد قطب.

الحاصل أن الشباب انجذب إلى مجموعة التنظيم الخاص، وابتعدوا عن مجموعة تنظيم 1965 لسبب غير واضح، وابتعدوا كذلك عن مجموعة البنّا بسبب عدم التزامهم بما يُسمّى الهدي الظاهر، مثل اللحية، واستماعهم الموسيقى، وشرب بعضهم السجائر، فسيطرت مجموعة النظام الخاص على مفاصل الجماعة. ومع تقدّمهم في السن، اتجهوا إلى توريث المواقع القيادية داخل التنظيم إلى القيادات الوسيطة التي اعتُقلت عام 1965. ومن هنا، بدأ خط جديد يدخل على مسار عمل الجماعة في العقود الثلاثة الأخيرة لها، وتحكّموا خلالها في قرارات الجماعة عبر مواقع الأمانة العامة للتنظيم ولجنة التربية. وخلال هذه العقود وقعت اعتقالات عام 1995، وكانت الأشرس بعد الخروج من السجون عام 1974، وهنا كان قد حدث انصهار بين مجموعتي النظام الخاص وتنظيم 1965، وظهرت مشكلة جيل من الشباب الذين شكّلوا حزب الوسط، في محاولة لمزاولة السياسة في إطار قانوني، وحظي المشروع بموافقة مبدئية. ومع التقدّم في العمل، تم التخلي عنهم، وفصلهم عندما قرّروا الاستمرار في مشروعهم، واعترض بشدّة حينها عبد المنعم أبو الفتوح، رافضاً قرارات الفصل، وبدا أن قيادة الجماعة متماسكة إلا صوتاً واحداً.

    عقب الانقلاب العسكري في 2013، ظهر منعطف تاريخي جديد في الجماعة. كان ثمّة سخط واضح داخل الجماعة بسبب حدوث الانقلاب

كانت السنوات الثلاث الأخيرة قبل الثورة أبرز محطّات الخلاف الداخلي؛ فبدأ الخلاف يظهر إلى العلن عقب إصدار القراءة الأولى لمشروع برنامج حزب الإخوان المسلمين، ثم كانت المحطة الثانية عند وفاة أحد أعضاء مكتب الإرشاد (محمد هلال)، وكان من المفترض أن يتم تصعيد الراحل عصام العريان إلى المكتب لاعتبارات لائحية، ولم يحدث هذا، ثم جرت انتخابات مكتب الإرشاد عام 2009، وخرج حينها إبراهيم الزعفراني بمذكرة عن مخالفاتٍ شابتها.

طوال سنوات نشأة التنظيم على يد البنا عام 1928، كان التنظيم جسداً واحداً من حيث الشكل الإداري، كما استطاع أن يتجاوز سريعاً أزماتٍ عديدة كالتي ذُكرت، وأزمة كبرى مثل انتخاب المستشار حسن الهضيبي ورفض التنظيم الخاص له. وعقب الانقلاب العسكري في 2013، ظهر منعطف تاريخي جديد في الجماعة. كان ثمة سخط واضح داخل الجماعة بسبب حدوث الانقلاب، فضلاً عن اعتقال قيادة الصف الأول على مدار أسابيع قليلة، وتعقُّدُ الاتصال بالناجين من الاعتقال أو القتل، فتشكّلت لجنة إدارة الأزمة في فبراير/ شباط 2014، وهي التي تُنسب إليها أعمال مواجهة قوات الأمن خلال فضّ التظاهرات. وبعد ذلك، نُسبت إليها أعمال عنف مسلّح ضد الأجهزة الأمنية وشخصيات رسمية أو مقرّبة من النظام، وبدأ الانقسام الأول الكبير يظهر في الجماعة.

كان الشباب أقرب إلى لجنة إدارة الأزمة، وهي المجموعة التي عُرفت باسم مجموعة محمد كمال، وكانوا وقتها كتلة كبيرة من الجماعة. وبالتالي، لا يمكن اعتبار كل من فيها متورّطاً في العنف؛ وإلا لكانت مساحات الصدام المسلح أوسع بكثير مما أصدرته البيانات الرسمية من وقائع عنف. أما المجموعة الأخرى فقد كان يمثّلها محمد عبد الرحمن حتى اعتقاله، وجرى احتواء هذا الانقسام بوسائل طبيعية، مثل الحوار والنقاش، ووسائل أخرى، مثل منع مساعداتٍ مالية، أو منع الدعم القانوني لمن يتبع المجموعة الأخرى إدارياً، وسمعنا رواياتٍ من أطراف مختلفة عن تعامل بعضهم مع الأمن والإبلاغ عن المحسوبين على المسار المعارض للقيادة القديمة للجماعة، وهي الأمور التي لا تزال تحتاج إلى إخراج شهادات موثّقة.

تم احتواء الانقسام في النهاية لصالح قيادات تنظيم 1965 ووَرَثَتِهم الذين تأهّلوا إلى المواقع القيادية، بعد قرابة خمس سنوات من الانقلاب العسكري، وبدأ جسم الجماعة في الالتحام مرة أخرى لكن الجراح لم يتم تطهيرها، في ظل إدارة غير ناجحة للملفات، وخرجت تسريباتٌ تتعلق بفساد مالي في قيادة الجماعة القديمة، ونتج عن ذلك هذا الانقسام الذي نشهده حالياً بين المجموعة التي حرفت مسار الجماعة من قبل، واتهمت خصومها بكل النقائص، أنهم أصبحوا معرّضين للاتهامات نفسها، وبصورة أكثر قابلية للتصديق من خصومهم السابقين، وتستلزم هذه الحالة النظر في أسبابها، والتفكير بصورة أعمق من اعتبارها نتيجة الأخطاء الإدارية.

دخلت الجماعة في سلسلة من الممارسات الخاطئة في العقدين الأخيرين، وكانت مرحلة ما بعد الثورة الأكثر وضوحاً في خطأ الممارسات، وجرى اختطاف قرار الجماعة بواسطة النافذين في القيادة لتغيير هذا المسار. أما على مستوى التفاهمات السياسية المحلية والدولية، كانت كل الخيوط تتجمع بيد شخص واحد، فكانت السفيرة الأميركية وقيادات أميركية تزور مكتب الإرشاد بصورة بروتوكولية، وتذهب بعدها إلى مكتب خاص بالمهندس خيرت الشاطر للترتيبات النهائية، وهو الذي كان قبل انتمائه للإخوان المسلمين أحد أفراد التنظيم الطليعي الذي أنشأه عبد الناصر ليخترق كل مؤسسات الدولة. كانت القيادات العسكرية تلتقي به في أي ترتيبات تتم، كما هنْدس التحالف الديني في مواجهة العلمانيين، وجعل المجموعات الأكثر ابتعاداً عن السياسة، والأكثر تشدّداً في فهم النص الديني، هي الجماعات الأقرب إلى “الإخوان المسلمين”، وقد كان البنّا ابناً لمدرسة دينية مختلفة، فاستطاع أن يجعل جماعته ملء السمع والبصر، لقربها من ثقافة عموم المسلمين، لا المصريين فحسب.

ثم جاءت مرحلة ما قبل الانقلاب، وكانت الأمور واضحة الاتجاهات، لكن خللاً حدث في قرار الجماعة، جعلها تحثُّ السير نحو الهاوية بدلاً من التوقف وتغيير المسار. وتحتاج هذه المسألة إلى التنقيب في أسبابها، والجواب أن ما جرى كان نتيجة سوء تقدير القيادة سيكون جواباً خاطئاً، فالأمر يقترب من كونه كان سيراً متعمّداً ومقصوداً يقوم به بعضهم من أجل الوصول إلى تلك النتيجة، خصوصاً القرارات الإدارية المريبة التي كانت تزيد من تعقيدات الوضع المصري.

المحصّلة أن الجماعة عانت من خلل إداري، لكنه كان نتيجةً حتميةً لاختراق أمني حصل في مفاصل المؤسسة. ومن المهم التأكيد أن هذا لا يعني اختراقاً كاملاً، بل كان، على الأقل، (اختراقاً فعّالاً؛ دخل إلى مواضع صنع القرار)، ولا يستلزم هذا وصم عموم التنظيم الذين آمنوا بفكرتهم وعملوا لأجلها، ولا وصم كل القيادات، فبالطبع كان منهم من يعمل لما أعلنه من مبادئ وقيم.

يستلزم هذا الوضع المزري الذي بلغته الجماعة في مصر، وتأثرت به فروعها في كل مكان، التساؤل حول مصيرها، والمستقبل خط يتصل بالماضي والنشأة، وقد حملت الجماعة في نشأتها أفكاراً من عمق التراث الديني للأمة بروحٍ تتوافق مع زمن النشأة، كما أنها كانت، منذ نشأتها، تختلف مع فكرة الاستبداد، وعامِلَا الوسطية والبُعد عن الاستبداد جعلا الجماعة جزءاً من التيار الأساسي للمجتمع المصري والأمة الإسلامية فانتشرت، فلم تستطع مؤسّسة أن تملأ فراغ “الإخوان”؛ فالأزهر في مصر يحمل منارة الوسطية، لكنه، بطبيعة نصوصه القانونية المنظِّمة لعمله، ليس مؤسّسة سياسية تقف في المناطق التنافسية، وتوجد تجمّعات مصرية معارضة للاستبداد، لكنها تقف مواقف مصادمة لثقافة المجتمع المصري، فبقي فراغ الإخوان غير مملوء. ومن هنا، كانت خطوة إبراهيم منير بمثابة بدء مسار ضبط بوصلة الجماعة، لكنها مرحلة ستحتاج إلى قيادة روحية لا قيادة سياسية، فمسار الجماعات الروحية التي لا تنافس على السلطة يختلف عن مسار الجماعات السياسية، وهذا الفصلُ مؤسَّسِيّ وفصل تخصُّص، لا فصل أفكار؛ إذ لا تفصل الثقافة الإسلامية بين الدين والدنيا، لكن طبيعة القدرات الذاتية للأفراد هي التي تستدعي الفصل بين الوظائف والقائمين عليها.

إذا نَحّيْنَا العقدين الأخيرين من ممارسات الجماعة، واعتبرناهما فترة انحدار طبيعية في مسار الاجتماع البشري، فإن خطوة ترك الصراع على السلطة تحتاج دعماً من العقلاء، لا إضعافاً لها، وتحتاج صدقاً في إرادة التحوّل، والتشجيع والدعم سلوك وطني مع أي تنظيمٍ يقوم بخطوة تفيد وطنه، وقد كانت آفة مرحلة ما بعد الثورة أنْ تركّز الحوار بين الفرقاء على الخلافات، لا على مساحات الوفاق، فانتهينا إلى قمع الجميع، ومسار حريتهم يبدأ من الطريق المعاكس، وهو دعم مساحات الوفاق.

الجماعة التي امتد تاريخها إلى أكثر من تسعة عقود توشك اليوم على الانزواء في التاريخ، واحدة من الجماعات التي مرّت في التاريخ وأصابتها دورة الحياة الطبيعية من النشأة إلى الانتهاء، ويمكن أن تكون مجرّد مرحلة حرجة، وإذا نجح الإخوان في إنهاء الخلل الإداري والثقافي الذي أصاب الجماعة، فسيكون هذا التنظيم، بحجمه وصدق عاطفة عموم أفراده، دافعاً قوياً لنهضةٍ مصريةٍ كبيرة؛ إذ لا يوجد تنظيم مصري بهذا الحجم، ولا يوجد تنظيمٌ يستطيع تحمّل الضربات الأمنية شديدة القسوة التي لحقت به، إلا تنظيم الإخوان المسلمين. ولم يضعف “الإخوان” من قوة الضربات الأمنية بالقدر نفسه الذي تسبّب به الانقسام الداخلي، والمراقب للجماعة عن كثب يعلم جيّداً حجم شبكات التواصل الاجتماعية التي استمرّت على استحياء بعد الانقلاب. ويمكن أن تتحوّل في لحظة مناسبة إلى شبكة متكاملة، إذا تمت معالجة العيوب، ومكاشفة الأفراد بما عاشته الجماعة، وعندها ستهنأ الحركة الوطنية المصرية بوجود فصيل وطني قوي، يشترك في العمل في مساحات التوافق الوطني، وسيكون هناك تنظيم يقف أمام الأفكار المتطرّفة، ولا يتصادم مع الثقافة العامة للمصريين، سواء تجاه التشدّد أو تجاه تغييب القيم الدينية.

—————————–

“الإخوان المسلمون” ووثيقة “التيار البديل”/ عمرو فاروق

لا تزال المعركة مشتعلة بين “جبهة لندن” التي يتزعمها إبراهيم منير، وبين “جبهة تركيا” التي يتزعمها الدكتور محمود حسين، حول التوجهات الحركية والفكرية لجماعة “الإخوان المسلمين”، خلال المرحلة الراهنة، وإشكاليات الانتقال من الإطار التنظيمي إلى التيار الفكري العام داخل المجتمعات العربية وتعطيل العمل السياسي، وفقاً لما انفردنا بنشره في مقالة سابقة حول تسريبات ومضامين وثيقة لندن، التي أحدثت شرخاً قوياً في الجدار التنظيمي.

التخلص من العبء التنظيمي والتماهي المجتمعي والاكتفاء بالكتلة الحرجة لجماعة “الإخوان المسلمين”، ليسا طرحاً جديداً في ذاته، لكنه قُدّم من قبل إلى المرشد السابع لجماعة “الإخوان” محمد مهدي عاكف في صيف عام 2005.

في هذه المقالة ننفرد بنشر تفاصيل وثيقة “التيار البديل”، التي صاغت بنودها مجموعة من قيادات الصف الثاني في الهيكل التنظيمي، يعود موطنهم إلى محافظة أسيوط (جنوب مصر)، تناولت عملية التحولات الحركية والفكرية والتنظيمية لجماعة “الإخوان” في إطار نقدي، وتمت مناقشتها على المائدة السياسية لمكتب الإرشاد، وانتهت حينها بالرفض التام.

خرجت وثيقة “التيار البديل” (طُبعت في كتاب بتوقيع الدكتور علي عبدالحفيظ)، بمجموعة من الأطر المنهجية التي من شأنها هدم الثوابت الفكرية لجماعة “الإخوان”، ولجماعات الإسلام السياسي بشكل عام، مثل ضرورة “حل التنظيم” نهائياً والتعايش داخل إطار الدولة المصرية في شكل اجتماعي سلمي، والتخلي عن التمييز والاستعلاء الديني وعدم إثار الفتنة في جنبات الشارع المصري، والتراجع عن وهم مشروعية “دولة الخلافة”، التي وضعتها الجماعة كركن سادس من أركان الإسلام، ورفض “قداسة القيادات” وعلى رأسها حسن البنا.

استمالة الطوائف المجتمعية والتلاعب بمشاعرها الدينية، والتأثير في دوافعها السلوكية والنفسية بخطاب أحادي التوجه، وإلحاقها بالعملية السياسية في إطار توظيفي انتهازي، وصفتها وثيقة “التيار البديل”، بأنها جريمة إنسانية كبرى تنفذها قيادات جماعة “الإخوان” من دون خجل.

حول ما تبذله الجماعة من جهد متواصل، سعياً الى إقامة “دولة الخلافة”، تحت مظلة “التنظيم الدولي”، أشارت وثيقة “التيار البديل”، إلى أن المكون “الإخواني” تناسى أن لكل دولة قوميتها وخصائصها الحضارية والثقافية، وأن “الخلافة”، انتهت بعد الراشدين، والقول بعودتها تجارة بالدين، وإفساد للعقول، فالأولى العمل على استعادة الرشد لا القول برجعة الخلافة، ولن يتحقق الرشد إلا في إطار “الدولة المدنية”، التي يتحاكم فيها الجميع تحت مظلة “القانون”.

في إطار حالة الإقصاء المتأصلة لدى العقيدة “الإخوانية”، أرتأت وثيقة “التيار البديل”،صعوبة تعميم مصطلح “الإخوان المسلمون”، على مشروع وطني مصري، في ظل احتكار الجماعة للإسلام، والإساءة لمخالفيها، فضلاً عن تعاملها مع “الأقباط”، على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، في تناقض تام مع مقاصد الشريعة الإسلامية،بما لا يدع مجالاً للشك بأن النظرة الحاكمة للجماعة لم تفهم الإسلام فهماً صحيحاً.

لم يتردد القائمون على وثيقة “التيار البديل”، في فضح العقلية المهيمنة على الداخل التنظيمي لجماعة “الإخوان”، من كونها عقلية “النظام الخاص” الذي نشأ رجالاته وسط السلاح، والاغتيالات، واستباحة الدماء لمجرد الاختلاف في وجهات النظر والرأي، معتبرين أن مخالفتهم في التوجه لا تجوز شرعاً، في توحد وتماهٍ مع الثوابت الشرعية، ومن ثم لا يقبلون أي فكرة إصلاحية تتنافى مع رؤيتهم العقيمة.

تضمنت وثيقة “التيار البديل” نقاطاً رئيسية عدة، جاءت بمثابة رسائل نقدية للأطر الفكرية والحركية للكيان التنظيمي، أولها، ضرورة توقف جماعة “الإخوان” عن دعوى تمثيل “الهوية” وتقسيم المصريين إلى “إخوان مسلمين”، و”إخوان غير مسلمين”، إذ إن مشاريع الإصلاح، لا تقوم بطبيعتها على أساس التفرقة الوطنية.

وطالبت النقطة الثانية، جماعة “الإخوان” بإعادة النظر في “العقيدة السياسية” التي تدعي أنها صادرة عن “التراث القديم”، الذي يعاني من الخلل والضعف والترهل، إذ إن تاريخ المسلمين الأوائل مملوء بالحكام المستبدين والظالمين الذين لا يمكن الاقتداء بهم.

وحذرت النقطة الثالثة، من استمرار جماعة “الإخوان” في الإدعاء أن حسن البنا يمثل المرجعية الكبرى للعمل السياسي والدعوي، واحترام التاريخ السياسي الحديث ورموزه، وفي مقدمته ثورة تموز (يوليو) 1952، في شقها المتعلق بالوحدة العربية والحفاظ على العدالة الاجتماعية.

وتناولت النقطة الرابعة، هدم قداسة حسن البنا التي تروج لها جماعة “الإخوان” على مدار تاريخها المعاصر، ومحاولة وضعه في مكانة تفوق حالته البشرية، وتزينه بهالة مصنوعة ومزيفة، والزعم أنه أسس جماعة منظمة تعمل للإسلام وتحمي أطر الشريعة، رغم أنه أحدث خرقاً في الإسلام، وانتهى به الحال إلى أن وصف اتباعه ومريديه بأنهم “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين”.

في المحور الخامس طالبت وثيقة “التيار البديل” بضرورة توقف الجماعة عن المتاجرة بالدين، وتشدقها بفكرة شمولية دورها الوظيفي (السياسي والدعوي والاجتماعي)، وأن تحترم مؤسسات الدولة وقوانيها وضوابطها، وأن تحدد دورها وهويتها، إما عملاً سياسياً وإما عملاً اجتماعياً دعوياً، ومن ثم إذا رغبت في “الإرشاد والدعوة”، فلا يصح لها أن تقوم بهذا الدور في ظل وجود مؤسسات دينية كبرى مثل الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، وإذا أرادت الاشتغال بالعمل المدني، فلا يجوز أن تصف الأعمال بكونها إسلامية أو غير إسلامية.

في رسالتها، دعت وثيقة “التيار البديل” الى توقف جماعة “الإخوان” عن إدعاء نضالها الشعبي والسياسي، في ظل استمالتها واستقطابها للدوائر المجتمعية من طريق الدعاية الدينية، فضلاً عن أن النضال الشعبي والسياسي عمل مدني تجتمع عليه القوى الوطنية بأطيافها المتعددة، بعيداً من التأطير الديني.

وعن الخلط المتعمد بين السياسي والديني، اعتبرت وثيقة “التيار البديل”، أنه لا يسوغ لجماعة أو حزب أو فرد أن يؤسس لمعارضة سياسية على أساس ديني، ولا يجوز لأحد أن يدعي مرجعية الإسلام لنفسه، إذ إن الإسلام مرجعية للأمة كلها، وأن الادعاء بـ”الإسلامية” والتضرر بها طعن على الآخرين، وتشكيك في عقيدتهم وإيمانهم.

جاءت البنود السابقة الواردة في وثيقة “التيار البديل”، بمثابة حالة تمردية على السياج الفكري الذي يهيمن على العقلية “الإخوانية” وتراتبيتها التنظيمية، وأزعجت لا محال – حينها – قيادات مكتب الإرشاد، التي ساومت روادها بالإغراءات، لكنها في مجملها تنبأت بحتمية سقوط الجماعة وعجزها عن التطوير والانتقال من المشروع التنظيمي إلى أبجديات الدولة ومؤسساتها.

لا شك في أن صائغي وثيقة “التيار البديل”، أصبحوا خارج الإطار التنظيمي، وتم إقصاؤهم تماماً من المشهد “الإخواني”، في ظل تجروئهم على انتقاد الجماعة وقياداتها ومؤسسيها وإطارها الفكري والحركي، تخوفاً من استمالة الآخرين إلى طريقهم وإقناعهم بكونهم “تياراً بديلاً”، قادراً على تصحيح المسار التنظيمي للجماعة والانتقال بها إلى الساحة المجمتعية المنفتحة من دون التقيد بالأطر المنهجية التي وضعها حسن البنا وسيد قطب، ووقف مشروع التغلغل في أركان الدولة المصرية ومؤسساتها تحت مزاعم بناء الدولة الموازية التي تمهد لقيام دولة الخلافة.

———————————–

======================================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى