أبحاث

الوجود العسكري الروسي في سورية والعقيدة البحرية الروسية الجديدة/ طارق عزيزة

المحتويات:

    ملخص تنفيذي

    لمحة تاريخية موجزة

    نبذة عن العقيدة البحرية الروسية الجديدة

    أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا

    حرب أوكرانيا وتحدّيات الوجود العسكري الروسي في سورية

    خاتمة

    ملخّص تنفيذي

في ظلّ المستجدّات الحاصلة على الساحة الدولية، وبالتوازي مع حالة التوتّر الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 31 تموز/ يوليو الماضي، وثيقةً تتضمّن “العقيدة البحرية الروسية” الجديدة، وفيها تحدّد روسيا المناطق التي توليها أهميةً استراتيجية أو تعدّها ذات صلة بأمنها القومي حول العالم، وتُبيّن سبل التعامل مع المتغيّرات لضمان مصالحها. صنّفت الوثيقة سياسة الولايات المتحدة الرامية إلى الهيمنة على المحيطات العالمية في خانة العداء، بوصفها التهديد الرئيس الذي يواجه المصالح الروسية في العالم، وهو ما لم يرد من قبلُ في “العقيدة البحرية الروسية” السابقة. ولمّا كان من بين بنود الإستراتيجية الروسية التأكيد على أهمية وجود روسي مستدام في البحر الأبيض المتوسط، فإنّ القواعد العسكرية في سورية تمثّل أولوية كبرى لروسيا، بالنظر إلى أهمية موقع سورية بالنسبة إليها، سواء عبر التاريخ أو في العقيدة الجديدة، بما يعنيه ذلك من تحدّيات قد تواجه الوجود العسكري الروسي في سورية والبحر المتوسط، نتيجة التصعيد بينها وبين الولايات المتحدة وحلفاء واشنطن الأوروبيين، في إثر الحرب الأوكرانية.

وإذ تعدّ روسيا فاعلًا أساسيًّا في المشهد السوري، وقد تَعزَّزَ دورها بصورة أكبر بعد تدخّلها العسكري المباشر لدعم نظام الأسد، منذ العام 2015، فإنّ فهم المتغيّرات التي تطرأ على استراتيجيتها، ومن ضمنها العقيدة البحرية الجديدة والصعوبات التي تعترضها، من شأنه المساعدة في تطوير المقاربات المتعلّقة بالشأن السوري، وتحديثها في ضوء المستجدّات، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى الإسهام فيه.

    لمحة تاريخية موجزة

يعود النشاط العسكري الروسي في شرق المتوسط إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إبان العهد القيصري. ففي الحرب الروسية – العثمانية (1768 – 1774)، أرسلت الإمبراطورة كاترينا الثانية الأسطولَ الروسي من بحر البلطيق إلى البحر المتوسط، لمحاربة الأسطول التركي، ودعم حركة اليونانيين والسلافيين المناهضة لتركيا، وبعد هزيمة الأسطول التركي في معركة جشمة بتاريخ 26 حزيران/ يونيو 1770، سيطر الأسطول الروسي على الجزء الشرقي من المتوسط، وحاصر السواحل التركية[1]. في ذلك الحين، كان لروسيا دور مؤثّر في الصراعات بين الولاة والقادة العثمانيين في مدن الساحل السوري، ووصلت سفنها أول مرة إلى الشواطئ السورية سنة 1772، وأنزل الروس قواتهم في بيروت صيف ذلك العام، ولم ينسحبوا إلا بعد الحصول على الغرامة السنوية التي تدفعها المدينة للسلطان[2].

أمّا الوجود القنصلي الروسي في سورية، فقد بدأ في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حيث أقيم أول مركز قنصلي روسي في يافا عام 1820، وفي الثلاثينيات من القرن نفسه، كانت توجد وكالات قنصلية لروسيا في كل من حلب واللاذقية وبيروت وصيدا[3]. وكانت روسيا، شأنها شأن القوى الأوروبية الكبرى الأخرى، تحصل على الامتيازات وتعزّز مكانتها في الدولة العثمانية بذريعة “حماية الأقليات”.

استمرّ الاهتمام الروسي منصبًّا على سورية خلال الحقبة السوفييتية، ولا يخلو من دلالةٍ حول مركزية سورية وأهميتها في السياسة الخارجية السوفييتية، أنّ أوّل مرة استُعمل حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي كانت من قبل فيشنسكي مندوب الاتحاد السوفييتي، في 16 شباط/ فبراير 1946، عند مناقشة المجلس مسألةَ جلاء القوات الفرنسية عن سورية. حينها اعترض المندوب السوفييتي على مشروع قرار قدّمت الولايات المتّحدة، لتضمّنه عبارة “الانسحاب بأسرع وقت ممكن”، مصرًّا على “الانسحاب فورًا”. ورفض فيشنسكي أيّ مقترحات بإجراء مفاوضات حول الجلاء، وعلى ذلك قبل المجلس مبدأ جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية ولبنان[4].

وخلال صراعهم مع الغرب، عمل السوفييت على تعزيز نفوذهم في الشرق الأوسط، وسورية خصوصًا، فكانت من أبرز ميادين الحرب الباردة، بدءًا من خمسينيات القرن الماضي. وقد شكّل الصراع العربي – الإسرائيلي أحد المفاتيح المهمة للدور الروسي في المنطقة، سواء لجهة مدّ الدول العربية، وفي مقدّمتها سورية، بالسلاح والخبراء، أو عبر دعمها النسبي المواقفَ العربية في المحافل الدولية.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، انعطفت سياسة روسيا الخارجية نحو الغرب، بدايةَ عهد الرئيس بوريس يلتسن، وانكفأت عن مواقع النفوذ السوفييتي التقليدية. رأى يلتسن أن إدماج روسيا مع الحضارة الغربية وحلف الأطلسي يشكّل الوسيلة الوحيدة لتمكينها من النهوض اقتصاديًا، مع الاعتراف بأنها أصبحت قوّة دولية عادية، والتحالف مع الولايات المتحدة والقبول بمنظورها للعلاقات الدولية، وإعطاء التنازلات من طرف واحد. وكان أول تطبيق لذلك زيارة يلتسن للولايات المتحدة، في شباط/ فبراير 1992، وفيها أكّد سعي بلاده لبناء سياسة خارجية غير أيديولوجية، وأنها ستبذل قصارى جهدها للتعاون مع الغرب، ولن توجّه صواريخها النووية صوب المدن والقواعد العسكرية الأميركية، فأميركا لم تعد عدوًا محتملًا لها، بعد أن تغيرت العقيدة العسكرية الروسية، وجسّد ذلك في “وثيقة التعاون الأميركي – الروسي”، التي وقعها مع الرئيس الأميركي بوش (الأب). وفي العام نفسه، أجريت مناورات مشتركة للأسطولين الأميركي والروسي في البحر المتوسط، ووافقت روسيا على فرض عقوبات على يوغوسلافيا، والعراق، وليبيا[5]. لكن سلبية الغرب تجاه مبادرات يلتسن أدت إلى تبنّيه سياسة خارجية مختلفة، أهم ركائزها أن روسيا دولة أوروبية – آسيوية (أوراسية)، وبالتالي عليها توجيه سياستها الخارجية نحو هذا العالم، ففي العالم الأوراسي تقع روسيا وتكمن مصالحها، ومنه تنبع مصادر التهديد الأساسية للأمن القومي الروسي. ومن ناحية أخرى، الغرب لن يُخرج روسيا من أزمتها، لأنه حريص على بقائها دولة ضعيفة أطول فترة ممكنة، والدليل أنه لم يقبل إدماجها في مؤسساته[6].

ومع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، شرع يعمل على استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، ذلك أنّه على الرغم من تناقص رصيدها في ميزان القوى العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فإنها احتفظت بالكثير من إرثه، من مثل العضوية الدائمة في مجلس الأمن، والنزوع التوسّعي المسنود بترسانة نووية هائلة، فضلًا عن تأثيرها في أسواق الطاقة، كونها من أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم. وبالتدريج، استطاعت موسكو الخروج من محنتها، وإعادة ترتيب أوراقها للعودة إلى التأثير في السياسة العالمية، بالتفاهم حينًا وبإثارة المشاكل أحيانًا.

    نبذة عن العقيدة البحرية الروسية الجديدة

في أثناء الاحتفال بيوم الأسطول البحري الروسي، في مدينة سانت بطرسبورغ، بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2022، وقع الرئيس الروسي وثيقة “العقيدة البحرية الروسية” الجديدة. وتعدّ هذه الوثيقة الثالثة من نوعها، بعد أول “عقيدة بحرية” صدرت في تاريخ روسيا الحديث، في حزيران/ يونيو 2001، والثانية الصادرة في تموز/ يوليو 2015.

حدّدت الوثيقة المكونة من 55 صفحة الأهدافَ الاستراتيجية الواسعة للبحرية الروسية، ومن ضمنها طموحاتها “كقوة بحرية عظيمة” تمتد إلى العالم بأسره. وفي حين أقرّت عقيدة 2015 السابقة أربعةَ أبعاد وظيفية لاستراتيجية روسيا البحرية، هي تعزيز نشاط النقل البحري، والكشف عن الموارد الطبيعية في البحر المفتوح، وتكثيف البحوث العلمية البحرية، والاهتمام بالنشاط العسكري البحري، فإنّ البعد العسكري احتلّ المرتبة الأولى في وثيقة 2022، والتي صدرت في ضوء التغيرات التي شهدها العالم خلال السنوات السبع الماضية، وما فرضته من تحديات وتهديدات، زادت حدّتها بعد الحرب الروسية في أوكرانيا. وعلى عكس وثيقة 2015 التي لم تشر إلى أعداء أو خصوم، نصّت السياسة الجديدة للبحرية الروسية على أن التهديد الرئيسي لموسكو هو السياسة الاستراتيجية للولايات المتحدة للهيمنة على محيطات العالم، وتحرّك حلف شمال الأطلسي العسكري بالقرب من حدود روسيا، وكذلك تعزيز شامل لموقع روسيا الجيوسياسي في البحر الأسود وبحر آزوف، وتوسيع البنية التحتية العسكرية في شبه جزيرة القرم، وبناء حاملات طائرات حديثة. إلى ذلك، نصّت الوثيقة على أن “عدم وجود عدد كاف من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا الاتحادية المخصصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، يعتبر نقطة خطرة”، وأنّ “مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط مهمّة لضمان الأمن القومي لروسيا”[7]. وجدير بالذكر أنّ “روسيا ستدافع عن مصالحها في هذه المناطق من المياه الدولية بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة العسكرية”، وفقًا لفلاديمير بوشنين، أحد المشاركين في صياغة الوثيقة، في تصريحات نشرتها وكالة (سبوتنيك) الروسية للأنباء[8].

للمصادفة التاريخية، جاءت العقيدة البحرية السابقة، الصادرة في حزيران/ يونيو 2015، بعد نحو أربعة أشهر من ضمّ روسيا شبهَ جزيرة القرم، وفي مناخ متوتّر بينها وبين أوروبا والولايات المتحدّة على خلفية الأزمة الأوكرانية. وبالمثل صدرت العقيدة البحرية الجديدة بعد ستة أشهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، في ظلّ تصعيد متزايد بين موسكو والدول الغربية، مع استمرار القتال على الأراضي الأوكرانية، التي نجحت روسيا في احتلال ما يقارب ثلث مساحتها.

وفي حدثٍ استعراضي، يمكن عدّه مؤشرًا على أهمّية القاعدة العسكرية الروسية في سورية، أقيم احتفال رسمي على شاطئ مدينة طرطوس، “بمناسبة عيد الأسطول البحري لروسيا الاتحادية”، بالتزامن مع توقيع بوتين الوثيقة، حضره “قادة وكبار ضباط القوات الروسية في سورية والسفير الروسي بدمشق”. تخلّل الاحتفال “عرض بحري يحاكي الأعمال القتالية الحقيقية”، شارك فيه طرّاد صواريخ وسفينة مضادة للغواصات، وفرقاطتان وبعض الغواصات، إضافة إلى الطيران الحربي والحوامات القتالية البحرية”[9].

    أهمية سورية الاستراتيجية بالنسبة لروسيا

أعادت وثيقة العقيدة البحرية الروسية الجديدة تأكيد أهمية وجود روسي دائم في البحر المتوسط، وتحديدًا في الشرق منه. هذه الجزئية تعني أن القواعد العسكرية الروسية في سورية ركنٌ رئيس في الاستراتيجية الروسية عمومًا، وضمن العقيدة البحرية الجديدة على نحو خاصّ. أي أن خطط روسيا السياسية والميدانية في سورية ستركّز على تكريس الوضع الراهن، وضمان وجود عسكري طويل الأمد فيها.

سبقت الإشارة إلى أهمية سورية تاريخيًا في المنظور الروسي، وهو أمر تطوّر باستمرار، فالعلاقة مع دمشق شكّلت لبنة أساسية في سياسات موسكو الشرق أوسطية، منذ ما قبل مرحلة نظام الأسد، مما أتاح لروسيا حضورًا فاعلًا شرقي المتوسط، وهو ما كانت تطمح إليه منذ قرون. ويمكن القول إنّ حرص روسيا على تثبيت نفوذها العسكري والاقتصادي في سورية، وموقفها الداعم للنظام في مواجهة ثورة 2011، يندرج ضمن الوسائل الأساسية لتحقيق طموحات بوتين، في استعادة دور بلاده بوصفها “قوّة عظمى” في العالم.

تعدّ سورية أحد أهم الشركاء التجاريين لروسيا في العالم العربي، إذ تشكل التجارة الروسية – السورية ما نسبته 20% من إجمالي التجارة العربية الروسية. وتعدّ القاعدة البحرية في مدينة طرطوس السورية القاعدة الوحيدة لروسيا على شواطئ البحر المتوسط. وبالرغم من أنها موجودة، عملًا باتفاقية قديمة بين البلدين تعود لعام 1971، فإن استمرارها كلّف روسيا إعفاء سورية من ديون بلغت 9.8 مليار دولار عام 2006. وسورية من الدول المهمة في سوق السلاح الروسي، إذ شكّل نصيبها من تجارة روسيا العسكرية حوالي 7% عام 2010، فضلًا عن صفقات عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار حتى عام 2013. ما يعني أنّ روسيا قاربت الثورة السورية من منظور جيواستراتيجي، حيث ترى أن بقاء النظام السوري هو نفوذ جيواستراتيجي لها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك قررت مناهضة الثورة ومواجهة من يؤيدها، ومساندة النظام من خلال استخدام حق النقض، واستخدام القوة العسكرية[10]. زاد من تصلّب موقف الروس في سورية استياؤهم مما عدّوه “خديعة” تعرّضوا لها على يد (حلف الناتو)، حين تحوّل إصدار قرار دولي لحماية المدنيين من بطش القذافي، إلى ذريعة للتدخل العسكري الغربي وفرض وصاية على ليبيا، الأمر الذي شكّل ضربة لمصالحهم الحيوية في البحر المتوسط.

بالتالي، فإنّ تدخّل روسيا العسكري المباشر في سورية على النحو المستمر منذ 30 أيلول/ سبتمبر 2015، لم يكن مدعاةً للدهشة، بصرف النظر عن الموقف منه، حيث جاء تتويجًا للسياسة التي انتهجتها موسكو حيال “الملف السوري”، منذ اندلاع الثورة ضد نظام الأسد عام 2011، فلم تتوانَ عن استخدام حق النقض (الفيتو) مرارًا في مجلس الأمن الدولي، للحيلولة دون صدور قرارات ضدّه، ولو لمجرّد إدانة جرائمه بحق الشعب السوري، وواظبت على مدّه بالعتاد والسلاح والمستشارين. وعندما وجدت أنّ ذلك كلّه لم يعد كافيًا، في ضوء التطورات الميدانية على الأرض والانكسارات والهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها قوات النظام، “حليفها” في سورية، لم تجد بدًّا من تصعيد تدخّلها، والزجّ بقواتها المسلّحة مباشرة في الحرب السورية، إدراكًا منها بأن سقوطه قد يعني خسارة منطقة نفوذها الأهمّ في الشرق الأوسط، والتي تؤمّن إطلالتا اليتيمة على البحر الأبيض المتوسط. هكذا، من الوجهة التاريخية، ونظرًا إلى ثقل الحضور الروسي في سورية وحيوية المصالح الروسية الاستراتيجية فيها، سيبدو “منطقيًا” أن تسعى للحفاظ على قواعدها فيها، مهما كان الثمن.

    حرب أوكرانيا وتحدّيات الوجود العسكري الروسي في سورية

على الرغم من اختلاف المقاربتين الروسية والأميركية بشأن الملف السوري، وبصرف النظر عن عبارات الشجب والاستنكار الغربية، فإنّ التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية، نهايةَ أيلول/ سبتمبر 2015، حدث “بموافقة ضمنية، إن لم تكن صريحة، من واشنطن”، وفق تصريح الرئيس الإيراني (وقتذاك) حسن روحاني، لشبكة (سي إن إن)، بتاريخ 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وفي المقابلة ذاتها، قال روحاني إنّ بوتين أخبره “أنه تحدّث حتى إلى السيد أوباما عن هذا الموضوع، وأنّه يودّ أن يجدّد التزامه بقتال داعش وهزيمتها”. وأن “السيد أوباما رحّب بتحليله وبخطّته. ولذا فحتى مسبقًا، أُخطرت الولايات المتحدة الأميركية”[11]. إذن، لم تقم روسيا بخطواتها في سورية منفردةً تمامًا، والترتيبات اللاحقة بشأن تنسيق العمليات الجوية في السماء السورية، ما بين طيرانها وطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، لم تكن سوى نقاشات في التفاصيل، بعد أن تمّ الاتفاق على الجوهر، في إطار تنسيق المواقف في سورية، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ومنع “انهيار الدولة” والفوضى.

لم يكن دعم روسيا لنظام الأسد بالمجّان، إذ أصبح مطار حميميم على الساحل السوري قاعدةً روسية، وأحكمت قبضتها على القاعدة البحرية في طرطوس، وفق اتفاقيات طويلة الأمد وقّعتها مع حكومة النظام، فضلًا عن عديد من القواعد العسكرية الأخرى، وأبرمت عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، مُنِحت الشركات الروسية بموجبها امتيازات هائلة في سورية. في المقابل، كان عليها إيجاد سبل للتفاهم مع إيران، التي تشاركها دعمَ الأسد، وتنافسها في الاستحواذ على الموارد ومناطق النفوذ في سورية، والتوصل إلى تفاهمات مع تركية ذات التأثير الواسع في الملف السوري، خصوصًا بعد تدخّل أنقرة العسكري، وبسط نفوذها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، سواء بصورة مباشرة، أو عبر الميليشيات السورية التابعة لها. هذا يعني أنّ التنسيق الروسي – الإيراني – التركي المشترك ضمن “مسار آستانة”، لا يلغي تضارب المصالح، واختلاف المقاربات السياسية والأولويات الاستراتيجية، بين أطراف هذه الشراكة الاضطرارية.

مجمل المعطيات السابقة (الموقف الأميركي، المصالح التركية والإيرانية في سورية)، مرشحة لأن تكون عوامل تزيد من تعقيد المهمة الروسية في سورية، كون الظروف تغيّرت عمّا كانت عليه قبل سبعة أعوام. التنظيم الإرهابي الذي من أجل قتاله تواطأت إدارة أوباما مع الخطوة الروسية هُزِم عسكريًا، ولم يبق منه سوى مجموعات تشنّ عمليات محدودة، انطلاقًا من جيوب معزولة داخل البادية السورية. والتوتّرات التي كان يجري احتواؤها سابقًا في إطار الأقنية الدبلوماسية بشأن أوكرانيا، تحوّلت إلى حرب تشارك فيها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون، عسكريًا بصورة غير مباشرة، من خلال دعم كييف بالعتاد والسلاح، وبشكلٍ مباشر على جبهة الاقتصاد، بأسلحة العقوبات الاقتصادية والمالية. وانشغال روسيا في حربها الأوكرانية، ومحاولاتها التأقلم مع العقوبات الغربية الشاملة المفروضة عليها، سيتيح لتركيا وإيران هامشًا للمناورة والمساومة، من أجل اغتنام الفرصة وتحصيل مزيد من النقاط في صراعهم الخفي مع روسيا في سورية.

لعل من ضمن السيناريوهات الأسوأ لروسيا في سورية، أن تتطوّر الأمور باتجاه الضغط عليها عسكريًا هناك، وإن بصورة غير مباشرة، في إطار تحرّك غربي يكون (الناتو) جزءًا منه، وأن تنحاز أنقرة إلى عضويتها في الحلف، على حساب تفاهماتها مع موسكو.

    خاتمة

من السمات التي ميّزت العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أنّ القوى الكبرى عندما تنجح في التوصّل إلى اتفاقات بينية ترضي حاجاتها وطموحاتها، فإنّها تجد دومًا الوسائل الكفيلة بإظهار الأمور بالشكل الدبلوماسي، بدءًا من التعبير المتبادل عن “احترام” كل منها لـ “مناطق نفوذ” الأطراف الأخرى و”تفهّم” مصالحها، وصولًا إلى عقد اتفاقيات واضحة. وغالبًا ما يجري ذلك على حساب دول أعضاء في الأمم المتحدة، ويُفترض أنها مستقلة وذات سيادة. لكن في غياب ذلك التفاهم، قد تجنح إحداها إلى تعزيز مواقعها، وتقويض مصالح بقية الأطراف، سعيًا إلى إحداث تغيير في ميزان القوى لصالحها.

وبناءً على ما تضمّنته العقيدة البحرية الروسية الجديدة، يمكن القول إنّ مساعي بوتين لم تعد مقتصرةً على استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، وإنما انتقل إلى تحدّي القوى الأخرى، خصوصًا الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، بما يعنيه ذلك من تكلفة متزايدة يفرضها التوسّع العسكري، وما يتطلّبه من نمو اقتصادي وقوّة سياسية، “فالتفاعل بين الاقتصاد والسياسة خاصّية جوهرية من خصائص عملية التغيير السياسي الدولي. فمن جهة توفر الرغبة في المكسب الاقتصادي حافزًا قويًا للسعي إلى تغيير النظام الدولي، ومن جهة أخرى، يتوقف توزيع القوى نفسها في نهاية المطاف على القاعدة الاقتصادية”[12].

لكن يبدو أن المعطيات والمؤشّرات الاقتصادية لن تكون في صالح الاستراتيجية الروسية الطموحة، فضلًا عن أنّه في ظروف الصراع المتصاعد مع الغرب، لن يكون من السهل الحفاظ على استقرار مناطق نفوذ موسكو الحالية، ومن ضمنها سورية. ذلك أنّه مع مرور الوقت ترتفع تكلفة الحفاظ على الوضع الراهن بما يفوق منافعه الاقتصادية، “وفي النهاية، تصبح الموارد الناتجة عن التوسع السياسي والإقليمي والاقتصادي غير كافية لسداد تكاليف الموقف الإمبريالي أو المهيمن”[13]. في هذه الحالة، يمكن خفض النفقات من خلال “الدخول في تحالفات مع القوى الأقل إثارة للتهديد أو السعي إلى التقارب معها”، حيث “تقدم القوة المسيطرة والمتراجعة تنازلات في الواقع إلى دولة أخرى، وتوافق على تقاسم منافع الوضع الراهن معها، مقابل التشارك في تكاليف المحافظة عليه”[14]، وهذا قد ينطبق، بصورة أو بأخرى، على آفاق التفاهمات بين روسيا وكلّ من إيران وتركيا على الصعيد السوري، وكذلك ما قد يسفر عنه التوجّه الروسي نحو الصين والهند في السياق العالمي الأوسع. إنها إحدى مفارقات السياسة الدولية، حيث يشكّل تشابك المصالح، في الآن ذاته، عامل تفاهم وتوتّر.

يبقى أنّ الصعوبات التي تنتظر روسيا في سورية لن تقتصر على ما يتعلّق بمصالح الدول فقط، إذ تشمل موقف السوريين أنفسهم (الشعب وليس النظام). ففي نهاية المطاف، روسيا مرفوضة شعبيًا في مناطق سيطرة المعارضة، نظرًا لمساندتها نظامَ الأسد، وارتكابها جرائم حرب بحق المدنيين. ومن ناحية ثانية، بدأ سكّان “المناطق الموالية” يدركون أنّها ليست بالحليف ولا الشريك، وتتصرّف كأي دولة احتلال تعمل وفق مصالحها فحسب، عسكريًا واقتصاديًا، دون اكتراث لما يعانونه، تحت سطوة نظام يمعن في إذلالهم، وما كان لينجح في البقاء، لولا الدعم الروسي له.

المصادر والمراجع

    بازيلي، قسطنطين سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، طارق معصراني (مترجمًا)، ط1، موسكو: دار التقدم، 1989

    المنيّر، حنانيا. الدرّ المرصوف في تاريخ الشوف، د. ط، د. م، منشورات جرّوس – برس، د. ت.

    الخاني، عبد الله فكري. سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي، ط1، دمشق، دار النفائس، 2004

    خبّاز، حنّا. وحدّاد، جورج. فارس الخوري حياته وعصره، د.ر. بيروت، مطابع صادر ريحاني، 1952

    الأشقر، جلبير. انتكاسة الانتفاضة العربية، عمر الشافي (مترجمًا)، ط1، بيروت، دار الساقي، 2016

    غيلبن، روبرت. الحرب والتغيير في السياسة العالمية، عمر سعيد الأيوبي (مترجمًا)، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 2009.

    قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، طارق معصراني (مترجمًا)، ط1 (موسكو: دار التقدم، 1989)، ص 56 في الهامش.

    المصدر نفسه، ص 58، 59. للاطلاع على مزيد من التفاصيل يُنظر: حنانيا المنيّر، الدرّ المرصوف في تاريخ الشوف، د. ط (د. م: منشورات جرّوس – برس، د. ت). ص 13 – 15

    قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص5

    عبد الله فكري الخاني، سورية بين الديمقراطية والحكم الفردي، ط1 (دمشق: دار النفائس، 2004) ص31، ويُنظر أيضًا: حنّا خبّاز وجورج حدّاد، فارس الخوري حياته وعصره، د.ر. (بيروت: مطابع صادر ريحاني، 1952) ص158، 159.

    حسيبة مخبي، “توجهات الاستراتيجية الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط: دراسة حالة سوريا”، مجلة مدارات سياسية، عدد ديسمبر 2017 (بتصرّف)

    المصدر نفسه.

    سكاي نيوز عربية: “من 2015 إلى 2022.. ماذا تغيّر في العقيدة البحرية الروسية؟”، 31 تموز/ يوليو 2022 (بتصرّف). يُشار أنّ مصالح روسيا، وفق الوثيقة، تكاد تشمل كافة المحيطات والبحار في العالم، من المتجمّد الشمالي، إلى الأطلسي والهادي والهندي، والبحر الأحمر، فضلًا عن البحر الأسود وبحر قزوين.

    سبوتنيك عربي: “أحد مطوري العقيدة العسكرية الروسية الجديدة يكشف تحديها “الهيمنة الأمريكية” في المحيطات الدولية“، 31-7-2022

    وكالة سانا: “احتفال مركزي للقوات الروسية في طرطوس بمشاركة سوريّة بمناسبة عيد الأسطول البحري الروسي“، 2022-07-31

    حسيبة مخبي، “توجهات الاستراتيجية الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط”.

    جلبير الأشقر، انتكاسة الانتفاضة العربية، عمر الشافي (مترجمًا)، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2016)، ص 68،

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية، عمر سعيد الأيوبي (مترجمًا)، ط1 (بيروت: دار الكتاب العربي، 2009). ص 91, 92

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية. ص 208

    روبرت غيلبن، الحرب والتغيير في السياسة العالمية. ص 234

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى