مراجعات الكتب

رواية «جسم مثالي لرجل مهم»: حكاية «مصر» مع فحولة ذكورها وغربتهم/ محمد سامي الكيال

تطرح رواية «جسم مثالي لرجل مهم» الصادرة في العام الحالي 2022، للروائي والصحافي المصري خالد بري، كثيراً من مستويات القراءة الممكنة، ربما كان أكثرها سطحية وفقراً، اعتبارها مجرد تشريح، تشوبه الإدانة، للذكورية. فعلى الرغم من أنها، فعلياً، سيرة ذكر مصري مع قضيبه، واستيهاماته حوله، بين البلدان والحكايات والأزمنة، وصولاً إلى «خلاصه» منه، بعد أن «عبده» طويلاً، وأكسبه صفات مقدسة، إلا أنها تُعنى بطرح الأسئلة، أكثر من تقديم تصورات متماسكة عن مدى «سُمّية» الذكورية المصرية، والكوارث التي يمكن أن تؤدي إليها. أسئلة ظلت تحاصر بطل الرواية، وربما كاتبها نفسه، حتى آخر صفحة فيها.

القضيب، الذي يشغل المركز الأساسي في الرواية، ليس مجرد استيهام فالوسي على الطريقة الفرويدية، بل هو أيضاً جانب من تكوين «مصر» وهويتها، تحيط به كثير من الأساطير المثيرة للحيرة. و»مصر» هنا يجب أن تبقى بين قوسين، لأنها مصر «في رواية أحدهم» أي تصور خاص وغير شائع حول ما يعتبره كثيرون «البلد العربي الأكبر» فيما يراه الكاتب «كمت» بحسب اللفظ الفرعوني/القبطي. الوادي الخصب الضيق، المحاط بالصحراء من شرقه وغربه، والمعرّض لتسلل الغزاة البدو من كل الجهات. الصحراء الكمتية هذه مصدر التهديد والحاجز الذي يهب الحماية في الوقت نفسه، وهي صفات قضيبية كما هو واضح. وفيها أيضاً يرابط حرس الوادي، الذين قد يفرضون تسلّطهم وقمعهم على سكّانه المحبين للحياة. لمن، إذن، القضيب العجيب الذي ورثه بطل الرواية، الذكر المصري الفلّاح؟ لأهل الوادي المسالمين، ممن بنوا أقدم الحضارات وأعظمها؟ لحرّاسه من العسكر المتسلطين، الذين اكتسبوا صفات صحراوية؟ لغزاته من البدو المتعصبين؟ أم هو مزيج من كل هذا، خاصة أن «كمت» لا يمكن أن توجد إلا بجدل وصراع بين تلك الفئات الثلاث؟

مشكلة «القضيب» المصري/الكمتي إذن شديدة التعقيد والتركيب، ومصدر لتناقضات لا تنتهي في نظر الكاتب. صحراوية القضيب المحتملة تعطيه قسوة واندفاعاً، لكنها تبقيه عقيماً، ما يجعله يحلم بالوصول إلى الخصب، إخضاعه والسيطرة عليه، ويبدو أنه سيفشل دائماً. هكذا يمضي بطل الرواية في رحلته، من امرأة إلى أخرى، متحرّشاً ومغتصباً ومعتدياً، لكن خاضعاً ومنبهراً بخصوبتهن، وخائفاً من إخصائه مادياً أو معنوياً؛ ومن صعيد مصر إلى لندن، حاملاً رسالة فحولة عابرة للأزمان، لا يهتم بها أحد؛ ومن الوالد القاسي، الذي حمّله كثيراً من الحِكَم والحكايات والمسؤوليات، إلى الزوجة الأقسى، التي برعت في جعله يواجه حقيقة عقمه. كل هذا على مستوى الهاجس، الذي حرّك النص وكاتبه، لكن هل استطاعت الرواية نفسها، بوصفها متناً فنياً، تقديم رحلة بهذه الملحمية؟

«كمت» برواية الذكر

تبدو ذات الذكر، في عمل بري، المهيمن في النص وليس في العالم. كل ما في الرواية سرد لخواطر الراوي وانطباعاته وشهواته، إلا أن «العالم» سواء كان خيالياً أو واقعياً، يثبت دائماً أنه لم يعد يعبأ بتصورات البطل عن فحولته وكرامته وتفوقه، وربما كان هذا التناقض بين هيمنة الراوي على نصه، والخيبات التي يواجهه بها عالمه، هو المفتاح الأساسي لفهم الرواية.

يقدم لنا الكاتب تصوّراً خيالياً متماسكاً عن هوية «مصر» عبر أساطير متعددة عن آلهتها، صراعات سكانها والوافدين إليها، القيم المتوارثة فيها، سواء كانت معلنة أو مضمرة، إلا أنه يحرص على إظهار أن هذا التصور يتكسّر لدى أول مواجهة فعلية مع الواقع. إنها «مصر» برواية ذكورها، الذين سرعان ما يكتشفون مدى قصورهم وضعفهم، والتناقضات القاتلة في روايتهم. وكل ما يفعلونه لإبقاء العالم، كما تعودوا عليه وفهموه، سينتهي بهم إلى مزيد من الخصاء والعجز. بهذا المعنى يصبح المغترب، الذي تمثله مدينة لندن في الرواية، عنصراً بنيوياً لإظهار عبثية الرواية الذكورية، حتى لو كانت تسندها «سبعة آلاف سنة حضارة». إذا حاولت إخضاع امرأة، عبر الاعتداء عليها في لندن، فستسحقك بالاستعانة بالقانون والأجهزة الأمنية وغيرها من معادلات السلطة، ولن تهرب بعارها كما فعلت «أم حسين» في ريف مصر، أول امرأة اعتدى عليها البطل. رغم هذا فإن النص لا يتسرّع في إطلاق الأحكام، فالقضيب المصري ليس مجرد وهم تكسره «الحضارة».

وفي نهاية الرواية يحتفظ به البطل في صندوق محكم الإغلاق، ولا يتخلّص منه نهائياً، فهو يبقى سؤالاً إشكالياً، وليس مجرد فكرة متخلّفة يمكن تجاوزها بكل بساطة. إنه التساؤل حول المشكلة المستمرة التي تعايشها «مصر» لا القوانين الأوروبية، ولا الدعوات النسوية، ولا حتى الانفتاح المفترض الذي يشهده عالمنا، قادرا على إعطاء حلول مبسّطة لتلك المشكلة.

يقدم بري رواية الذكور المصريين دون تحيّز لهم أو لأوهامهم، لكن بتعاطف كبير مع مأساتهم ومعاناتهم، ما يخرج نصه من الأدلجة المباشرة، ولعل هذا من أهم ما يميز الرواية، باعتبارها أول سرد ذكري واعٍ بنفسه، ومنتبهاً إلى حدوده ومواطن قصوره وضعفه وتناقضه في الوقت نفسه. لم يخرج الكاتب من جلده، إن صح التعبير، فهو يبقى ذكراً يسرد حكاية الذكور، لكنه أذكى وأكثر إخلاصاً من أن يظل سجين ذكوريته من جهة، أو أن ينسحق أمام نقّادها المعاصرين من جهة أخرى. وكأنه يقول: تلك هي قصة أبناء «كمت» وسواء أعجبتكم أم لم تعجبكم، فهي أكثر تعقيداً من أن تختزلوها بأحكام بسيطة، وتستحق ما هو أكثر من الإدانة الواثقة بأخلاقيتها.

رواية النبرة الواحدة

تتمتع «جسم مثالي لرجل مهم» بكثير من الخصائص المشوقة، التي تجعل تجربة القراءة حافلة بالوعود، مثيرةً اهتمام القارئ، ودافعة له للمواصلة. نتحدث هنا عن جماعة أهلية معزولة، احتفظت بسر «كمت» القديم. وكان اكتشاف حقيقتها، عبر الأب المشرف على الوفاة، دافع البطل لمواصلة رحلته، بعد أن عرف سر قضيبه، المنحدر على ما يبدو من الإله المصري القديم «حور» أو «عزير»؛ عن أحداث تدور بين عدة عوالم، متباعدة جغرافياً وزمنياً؛ عن مستويات في الروي تتوزّع بين الواقع والأسطورة والوهم، إلا أن السرد يبدو معنياً بوصف خواطر البطل وتعقّله لعالمه، أكثر من التركيز على حبكة معينة، أو طبقات روائية متعددة، ما يجعل المتلقي في مواجهة مباشرة مع أفكار؛ نمط معين من البلاغة، سليمة «الفصاحة» العربية للمفارقة؛ سرد لتجارب ذاتية، تتطلب منه قدراً كبيراً من التركيز، وتفترض اهتماماً مسبقاً بالهواجس التي تشغل الكاتب.

لن يكون من المجحف اعتبار الرواية نصاً لصوت واحد، فما فيها من ظواهر؛ تجارب؛ تعليقات؛ شخصيات تظهر وتختفي، ليس أكثر من انطباعات الراوي، الذي يمسي الكون نفسه انعكاساً لاستيهاماته وصدماته. لا توجد دهشة أو تجربة أو معنى، إلا ما قرر صوته الذاتي سلفاً أن يصوغه لنا، وبالتالي فمن الصعب على القارئ الشعور بلذة التنقّل بين العوالم المتعددة التي تصفها الرواية. لا فرق كبير لدى الانتقال بين سرد اشتهاء البطل لجارته «أم حسين»؛ ونقله للأساطير المدونة في الكتاب الذي ورثه عن والده. كل ما في العالم مشدود على سطح تجربة ذاتية، تحكي ما تريد، بنبرة واحدة لا تتغيّر.

يبدو النص إذن أقل عمقاً، وأبسط تركيباً من العوالم التي يحاول أن يصفها، ما قد يجعله ترميزاً لأفكار وأسئلة جاهزة، مسرودة بشكل خطّي ورتيب. الأمر الذي يدفع للتساؤل عن سبب تضييع كثير من الفرص، التي وعد بها نص يحوي عناصر بهذا الغنى.

اختفاء «الصنايعية»

يعمل بطل الرواية حِرفيّاً في لندن، بعد أن عجز عن الإنفاق على نفسه بالنقود التي يقبضها من الجماعة السرية المتخيّلة، التي أمّنت سفره إلى أوروبا، يرفض عروض الدراسة والدخول في عوالم الثقافة والإعلام في المغترب، فالرجل الجيد، وفق منظوره، يجب أن يكون «صنايعياً» بارعاً. قد يذكّر هذا بملاحظة متكررة لدى عدد من المثقفين المصريين، وهو اختفاء «صنايعية» مصر الماهرين، وانخفاض جودة ما يقدمه المهنيون من حِرَف، وربما يكون هذا جانباً من أزمة الذكور المعاصرين، الذين لم يعد لديهم المجال ولا القدرة على أن يكونوا متميزين في عملهم، وهو أحد تجليات كرامتهم.

قد يكون نص خالد بري الروائي شهادة حية على هذه الأزمة، فسرد الذكور، المحاصرين بأزمات غير مسبوقة، لا يمتلك السعة كي يبرع في تمثيل المستويات المتعددة لتجربتهم وخيالاتهم، ويبقى أسيراً للتعبير المباشر عما يعانونه ويفكّرون به. ما يثير الحنين لزمن اتسم به السرد الروائي المصري بكثير من الحِرفيّة والتميّز على المستوى العربي. إلا أن ما يبدو من افتقاد نص بري لبعض «حرفة» الكتابة الروائية لا ينتقص كثيراً من أهمية التجربة التي يقدمها للقارئ، وبراعته في التخيّل وصياغة الأسئلة.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى