صفحات الحوار

روزا ياسين حسن: الإنسانية تاريخ طويل من اللجوء، والأرض ملك لكلّ البشر

الحرية أحد المفاهيم الرئيسية التي نعيد تعريفها في المنفى

محمد ديبو

في هذا الحوار، تحكي لنا روزا عن التغيّرات والتحوّلات التي أصابتها في هذا المنفى، سواءً على الصعيد الشخصي أو على صعيد الكتابة، حيث تصف نفسها بالقول “مريضة تكتب عن مرضى، محمَّلة بكلّ تراومات الحرب ومن ثمّ تراومات اللجوء”، لكنها رغم هذا المرض تكتب، لأنّ الكتابة إن بقيت “مسجونة في حدود المسموح به والممكن، ستؤول إلى النهاية” وهي النهاية التي ترفضها هذه الروائيّة المجتهدة والدؤوبة، صاحبة “حرّاس الهواء” و”بروفا” و”الذين مسّهم سحر”، محاولة الدفاع عن جسارة الكتابة وقوّتها بوجه طواغيت كثر، وعلى رأسهم، ربّما، طواغيت الكتابة.

“لا أقتنع شخصيًا بكتابة تحابي ما يريده “المتسلّط” الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو الثقافي، أؤمن بكتابة تقف في وجه كلّ ذلك لتقول: إنّ الملك عارٍ!”، تقول الروائيّة والكاتبة روزا ياسين حسن، في هذا الحوار، والذي يتمثّل فعلًا (لا قولًا فقط) في روايتها الصادرة حديثًا عن دار الريس في بيروت، تحت عنوان “بحثًا عن كرة الصوف”، والتي يتمحوّر حولها حوارنا هذا أو يتكأ عليها ليناقش موضوع، أو مواضيع، الرواية ومسائل الهويّة واللغة والمنفى واللاجئين والمثليّة الجنسيّة والحريّة والوطن وسوريا القريبة/ البعيدة، تلك التي لم “تعد سوريا التي عرفناها” ولكنها تبقى حاضرة على الدوام، لأنّه “لا يوجد شيء اسمه النسيان”، هذا النسيان الذي تحاوله أو تهرب منه  شخصيات الرواية دون أن تجد دربًا لما تريد بالضرورة، لتكون بذلك حالات مكثّفة عن تجربة اللجوء التي تعتبر “أقسى أنواع التراوما التي عاشتها وتعيشها البشرية”، وحيث أنّه “في المنفى تختبر أفكارك السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة”، وأيضًا في المنفى تعيد تعريف الحريّة والكتابة التي تحمل في المنفى “ملامح جديدة”.

يقول المحقّق لسرمد الراعي، أحد أبطال روايتك الصادرة مؤخرًا “بحثًا عن كرة الصوف: ثلاثة أيام من متاهة المنفى”، والتي نحن بصدد الحديث عنها اليوم: “وهل من السهل أن يتخّلص الرجل من كلّ تلك الذاكرة القذرة؟”. وتقول له أمه “في المنفى يا حبيبي كما في الحياة لا تتبع إلّا قلبك”. لننطلق مما تقوله شخصيات روايتك، ونسأل: على الصعيد الشخصي، ماذا يعني المنفى لك اليوم؟ ما هي علاقتك معه؟ وأيّة علاقة لا تزال تربطك مع “الوطن”؟

يبدو هذا السؤال اليوم من أصعب الأسئلة التي ما زلت أبحث عن إجابات عنها حتى اليوم، وبعد ما يقرب من عشر سنوات على بدء منفاي. كلّما خضت أعمق في تجربة المنفى بدت الأشياء أكثر تعقيدًا بهذا الخصوص والإجابات أكثر ضبابيّة، وما من يقين واضح. أعتقد أنّ كلّ منفيّ/ة سيُعرّف المنفى بطريقة مغايرة: هل المنفى هو جغرافيا بديلة (آمنة) فحسب، بمقابل جغرافيا خطيرة ومنحوسة هي الوطن، على الرغم من أنّ هذه الجغرافيا (الآمنة) مفعمة بمشاعر عدم الأمان؟ هل هو ثقافة جديدة، لغة جديدة، نظام جديد ووجوه غريبة، هوّة ثقافية ألفيت نفسك عالقًا/ عالقة فيها، وما اللغة إلا جزء منها بالتأكيد؟ هل هو ابتعاد قسري عن مواطن الذاكرة الأولى، بحيث يخزك الحنين كلّ فترة وأخرى ليذكّرك بأنّك غريب في مكان غريب، وربما تمدّد، ذلك الحنين نفسه، ليحتل مساحات روحك ويجعلك فيزيائيًا في مكان، وروحيًا في مكان آخر، منشطر متشظٍ كمن علق في البرزخ، كروح معاقبة؟ ربّما هو شيء من كلّ تلك الأشياء مجتمعة. الأهم من كلّ ذلك هي رحلة روحيّة وفكريّة، يجبرك المنفى على خوضها مع نفسك أولًا، ومع الآخر ثانيًا. اختبار حقيقي لكلّ ما كنت تدّعيه سابقًا قبل أن تبدأ رحلتك فيه. إعادة تعريف للبديهيات التي كانت دائمًا بديهيات، ومساءلة مبادئك وأخلاقياتك الخاصة.

المنفى مرآة واسعة وعميقة ومتعدّدة الأبعاد وغير متجانسة السطوح، كالمرايا التي واجهتها أليس في بلاد العجائب، تقف أمامها عاريًا ووحيدًا لتراقب انعكاساتك المختلفة والمتناقضة والمتشظّية، وتجاهد لتتعرّف على ذاتك “الحقيقيّة” فيها.

سألت السؤال السابق، لأنّ في الرواية تبدو سوريا، رغم حضورها الكثيف، نوعًا من ماضٍ ما، من ذكريات. هل أصبحت سوريا، بالنسبة للمنفيين مجرّد ماضي؟ خاصة أنّه لا يوجد أيّ شخصيّة روائيّة تفكر بالعودة إلى الوطن، بل كلّها تبحث عن البقاء هنا، وأبعد من ذلك تفكر في مسائل “لم الشمل” وإخراج من في الداخل! وأيضًا يجري الحديث في الرواية عن الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين، أسوة بالأتراك وغيرهم من المهاجرين؟ كيف تقرأين هذا الأمر، أم أنّ هذا مجرّد خيار روائي فقط؟

لنتفق أولًا على أمر، حتى لو اعتقدنا أنّ الذاكرة تبدّدت أو ذهبت إلى غير رجعة إلى مكان ما قصيّ، لكنها تبقى هناك صامتة متحفّزة تنتظر أيّ وقت لتستيقظ من جديد، وتنقضّ عليك ناهشةً روحك. هناك شيء ما يجعلها تستيقظ، رائحة ربّما، صورة، مشهد.. أي شيء. إذًا، لا يوجد شيء اسمه “النسيان” حقيقة، هو مجرّد محاولة للتلاعب على آلامنا. لذلك لا يمكن أن يأتي يوم وينسى فيه المنفي “وطنه”. قد يعيد تعريفه، يعيد بناء علاقته معه، يجابهه، وينقده بشدة، يكرهه، ولكن لا يمكن أن ينساه. والمنفى كما قالت الرواية هو متاهة، وحين تعلق في المتاهة، لا يمكنك أن تفكّر كثيرًا بخيارات أخرى سوى أن تنجو من ضياعها. تتركّز كلّ جهودك، خصوصًا في الفترات الأولى للمنفى على “الخلاص” من متاهة ألفيت نفسك فيها فجأة، ولكلّ منّا بالتأكيد طريقته وردود أفعاله، وكذلك تجربته التي حملها معه إلى الـ “هناك”. وهذا ما تحاول الرواية كشفه! ولا يمكننا أيضًا أن نتجاهل أنّ سوريا كبلد لم تعد سوريا التي عرفناها، ما زالت الديكتاتوريّة المتوحشة تسيطر، وأُضيفت إليها دكتاتوريات صغيرة أخرى هي قوى الأمر الواقع والجماعات الدينيّة المتطرفة. مازال السوريون في الداخل يعانون يوميًا ويتألمون يوميًا، ومازال معظم السوريين/ السوريات، إن لم نقل الجميع، في الداخل والخارج، يبحثون عن وجه سوريا الذي حلموا به ودفعوا الأثمان الباهظة من أجله، وجه الحريّة والديمقراطيّة والجمال.  

الكلمات الألمانية تملأ الرواية، لا أعرف إن انتبهت لأمر كهذا أم أنه حدث دون أن تنتبهي له. لذا سأسأل سؤالًا مركبًا هنا، جزؤه الأول يقول إلى أي حد كنتِ كشخصيّة منفية حاضرة في الرواية، وكيف انعكست تجربتك الشخصية في المنفى داخل الرواية، خاصة وأنّك تتعلمين اللغة الألمانيّة وتعيشين في هامبورغ، الفضاء المكاني للرواية؟ وجزؤه الثاني يقول: كيف انعكس المنفى على لغتك أولًا، من حيث أنّك تتعلمين لغة جديدة دخلت نصك الجديد، وبالتالي غيّرت في طريقة كتابتك (إن كان ثمّة تغيّر). كيف ترين هذا التغيير؟ ما الذي يقدمه المنفى لك على صعيد الأسلوب والتجريب وعادات الكتابة وطقوسها، بالمقارنة مع أزمنة الكتابة في سوريا؟

لنتفق على أنّ الكتابة مزيج سحري من كلّ ما حلمت وعشت وقرأت ورأيت وسمعت واختبرت بدمك وروحك، لذلك فأيّة تجربة جديدة ستغيّر في كتابتك، فما بالك إذا كانت تجربة عميقة كتجربة المنفى، تجربة مختبرة وقاسية. بالمناسبة تعتبر تجربة اللجوء من أقسى أنواع الترواما التي عاشتها وتعيشها البشريّة. بالنسبة لي كانت تجربة المنفى اختبارًا حقيقيًا لقناعاتي وإيديولوجياتي، لقبول الآخر، لديمقراطيتي التي أدّعيها ببساطة، وكذلك لقدراتي الشخصيّة وقوتي الداخليّة كامرأة. فهنا تختبر أفكارك السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشكل صارخ وحاد، وبوجود كلّ تلك التناقضات حولك.

لكن هل يعني كلّ ما قلته سابقًا إنّنا سنبني وطنًا في النص خارجًا عن كلّ تأثير؟ وطن في حكايات الخيال فحسب؟ لا، لأنّ ثقافة المهاجرين والملونين والهوامش هي جزء أساسي من ثقافة الغرب اليوم، النقطة “الملوّنة” في اللوحة “البيضاء”، بالاستعارة من هومي بابا. فتطوُّر ثقافة الغرب في العقود الأخيرة يعتمد بشكل أساسي على الهجنة، ولو لم تفعل، بذكاء وبراغماتيّة عالية، لانغلقت الثقافة “البيضاء” منذ زمن على نفسها. الثقافة “البيضاء” اليوم مفعمة بكلّ ذاكرة المهاجرين الملوّنين، حكاياتهم، خصوصياتهم، معتقداتهم، طبخهم، طقوسهم، حرارتهم كما دمائهم، إنها تتغيَّر رويدًا رويدًا، نفسًا بعد نفس.

بالنسبة لي، ومع الزمن صارت الكتابة في المنفى تحمل ملامح جديدة أيضًا، هي رؤية نفسك في مرآة الآخر، فتصبح البديهيات ليست بديهيات، وتعيد التفكير فيها، وفي الكثير من التعريفات التي كانت بديهيات قبلًا. الانتباه للتفاصيل التي لم أكن أنتبه إليها وأنا في خضمِّها، التفاصيل تخلق خصوصيتنا وجمال الصنعة اللغويّة التي نبدعها. اللغة صديق فضَّاح، يكشف ثقافتك ومزاجك وغناك أو فقرك الإبداعي. ستدخل شخصيات جديدة لأنّ موارد حياتك الثقافيّة والاجتماعيّة اختلفت، وأفكار جديدة لأن التَمترُس وراء ما كان سيجعلك أقرب إلى الجمادات، وبنية لغويّة جديدة لأنّ اللغة والمعنى، الشكل والمضمون، كما يحلو للألسنيين وصفه، أمران يتمازجان ولا يتغير أحدهما إلّا بتغيُّر الآخر. وهنا سيكون الصراع والتحدي: كيف سأتغيّر، وبالتالي تتغير لغتي، دون أن أفقد نفسي، دون أن أنظر في المرآة لألقى وجهًا غريبًا لا أعرفه؟ وهنا تبدأ حربك ضدّ أحكام القيمة التي تحيطك من كلّ جانب. أحكام القيمة والآراء المسبقة التي ستكتشف أنك أيضًا كنت أسيرًا لها لفترات طويلة، وربّما ما زلت!

التمزق، الانشطار بين عالمين، الهويّة القلقة، البحث عن الذات.. هذه سمات أغلب شخصيّات الرواية، وهذا مفهوم جدًا لشخصيّات خارجة من الحرب دون إراداتها وتبحث عن الأمان والاستقرار. لكن السؤال الذي يشغلني هو سؤال الأنا والذات، فعندما انتهيت من قراءة الرواية، شعرت أنّ أغلب أبطال الرواية لم يكن لهم “أنا” خاصة بهم حينما كانوا في سوريا، أو بشكل أدق لم يكونوا قادرين على تلمس وكشف أغوار أنواتهم وذواتهم بحريّة، كانوا مجرّد عجينة كوّنها الاستبداد والمجتمع المحيط كما يشاءان، وكأن المنفى كان إيجابيًا، رغم قسوته وأثمانه الباهظة، إذ سمح لهذه الشخصيات، باكتشاف أنّ ما كانت تظنه “أناها”، ليس أكثر من أشياء فرضت عليها: ما رأيك بهذا؟ وهل حقًا يُمكن للفرد أن يكوّن هوية له في ظلّ سلطات مستبدة، سواءً كانت اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة؟ وكيف تعاملت مع ذلك وأنت تنسجين شخصيات روايتك؟

في المنفى تكتشف كم أنّ المفهوم المحدّد للهوية مُضلِّل، وكم أنّ التعدّد الهوياتي يجعل من الآخر مرآة لنا وليس عدوًا، خصوصًا وأنّ الإيديولوجيا القوميّة والدينيّة وحتى السياسيّة لم تكن لتنبني وتترسَّخ عميقًا في لا وعينا الجمعي لو لم يكن الآخر دائمًا عدوًا، وفي أحسن الأحوال “آخر” ينبغي الحذر منه. ذلك المفهوم القديم للهويّة، إما سيتفكك لينخلق بدلًا عنه مفاهيم أخرى أكثر اتساعًا، أو سننغلق على أنفسنا مرتكسين أكثر فأكثر نحو تلك الهويّة الضيقة القديمة، وهذا ما حدث مع الكثير من اللاجئين.

من كلّ ذلك كانت الكتابة عن متاهات المنفى هذه قاسية للغاية، ولكن وعلى الرغم من قسوتها كانت مفيدة في فهم نفسي أولًا، وفي فهم الآخر تاليًا. كنت باختصار مريضة تكتب عن مرضى، محمَّلة بكلّ تراومات الحرب ومن ثمّ تراومات اللجوء، وعليّ أن أفهم تمظهرات التراوما عميقًا كي أكتبها، التراوما التي أعاني منها شخصيًا كغيري. الأهم كان أن أقتنع بأنّ الأمر ليس عيبًا ولا جنونًا، وأنّ الإنسانيّة تاريخ طويل من اللجوء، والأرض ملك لكلّ البشر. أفكار طوباويّة! أعرف، لكن كان عليّ أن أقتنع بها. في الرواية كان لكلّ شخصيّة تمظهرات خاصة وتعقيدات خاصة للتراوما، ابتداءً من الخوف، فقدان الثقة بالآخرين وانعدام الشعور بالحماية، انزياح في القيم والآراء، شعور الذنب والخجل، الاكتئاب والغضب، اضطرابات النوم وعدم التركيز، نوبات الهلع، إحساس بالعجز وعدم القدرة على المساعدة، العزلة الاجتماعيّة عن نفسها وعن الآخرين، أفكار الانتحار، الإدمان وما إلى ذلك.

بالنسبة لي بنيت بوجود ابني وأحبابي، بالإضافة إلى الكتابة، وطنًا بديلًا، لما استطعت إكمال العيش لو لم أفعل. هذه ليست كلمات في الهواء، بل حقيقة. وفي لحظة ما، ولكي نكمل حياة كلّ ما فيها يقنعك بأنّك لن تستطيع إكمالها، لن يكون لك ذاك الوطن إلّا في الكتابة! كما كتبت اليابانية يوكو أوغاوا:

– إن واصلت كتابة الروايات هل أستطيع حماية قلبي؟

– بالطبع!

السؤال الآخر الذي شغلني بعد الانتهاء من قراءة الرواية أيضًا، هو سؤال الحريّة، إذ بدت لي الشخصيات بعد أن وصلت المنفى وكأنّها أمام فائض كبير من الحريّة، وهي التي كانت تبحث عن الحريّة في بلدها، لكنها تبدو أمام كلّ الحريات المعطاة لها، وكأنّها في لحظة ما لا تعرف ماذا وكيف تفعل بهذه الحريّات كلها، وهذا ناجم عن الصدام بين منظومة الحريّة في هذه البلدان الجديدة والتي لها تاريخ عريق، وبين منظومة الأفكار أو نظام التفكير الذي يحمله المنفيون معهم. ورغم أنّ كلّ شخصيّة في الرواية، تجد طريقتها للتعامل معها في نهاية المطاف، إما بالانكفاء أو بإيجاد مسارات ما تعطي لوجودها معنى في المكان الجديد، فإن سؤالي: إلى أيّ حد يلعب هذا الفارق أو الصدام بين ثقافة المهاجرين وثقافة المجتمعات الجديدة، دورًا في توسيع أو تضييق مفهوم ومساحات الحريّة؟ وإلى أي حد تستوعب البلدان الجديدة، ثقافة المهاجرين الجدد باتجاه خلق شيء جديد، يُشعر المهاجرين أو اللاجئين أنّ ثقافتهم وتقاليدهم ليست مجرّد سقط متاع؟

حسناً، لنقل يا صديقي إنّ الحرية أحد المفاهيم الرئيسيّة التي نعيد تعريفها في المنفى، ما هي الحريّة؟! في بلداننا كان صراعنا الأساسي من أجل الحريّة. انطلقت ثورة غيّرت وجه الحياة من أجل الحريّة. وكان كفاحنا من أجل الحريّة يخلق معنى لحيواتنا. ولكن مازال مفهوم الحريّة ضبابيًا. هل يكفي أن أقول ما أريده لأكون حرّة، أقصد آرائي الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة؟ بالتأكيد لا، خصوصًا وأنّك تنصدم بمنظومة متينة في المنفى، تقنعك بأنّك حرّ في قول كلّ ما تريده، ولكن في الحقيقة، في العمق، أنت لست حرًا وثمّة عوائق وتابوهات حتى في بلدان “حقوق الإنسان”، وفي أحسن الأحوال، فإنّ آراءك تبقى أصداء في الهواء وليس بالضرورة أن تعمل على خلق أيّ تأثير ملموس. حسنًا، هل حريتي الشخصيّة في فعل ما أريده هي الحريّة؟ لنقل إنّه جزء مهم من ممارسة الحريّة، لكنه لا يكفي أبدًا. هل الحريّة سياسيّة، بحيث أختار من أريد ليمثلني؟ سيتبدّد هذا الرأي، حينما تلاحظ بأنّها أيضًا منظومة شبه مغلقة عليك أن تختار فيها أفضل الموجود، وأنّ ثمة الكثيرين ممن ينتمون إلى تلك الثقافة ويكافحون كلّ يوم في وجهها، لأنّهم ببساطة ضدّها. تحترمهم بعمق ولكنك تلاحظ أنّ كفاحهم، حتى اليوم، لم يسفر عن نتائج ملموسة في تغيير المنظومة. هل الحريّة هي قدرتنا على قول “لا” دائمًا؟! وهل كُتب علينا التشظّي كبشر في كلّ مكان نكون فيه؟

في الفترة الأولى للمنفى ستكون تلك الصدمة، وذلك “التصادم” بالنسبة للمنفيين في المنفى، لكن مع الزمن تتبدّى الأمور أوضح، ويمكنك فهم عمق الأشياء أكثر. أعتقد بأنّ مفهوم الحرية اليوم في المنفى هي قدرتك على أن تبقى نقديًا، ألّا تستطيع أيّة إيديولوجيا أو أفكار أو قيم راسخة في المجتمع الجديد أن تجعلك مستلبًا لها، أن تبقى طارحًا للأسئلة، شكّاكًا في الإجابات المنجزة المغلقة التي تلقى كلّ يوم في وجهك، بالمختصر ألّا تدعهم يدجّنوك في آلتهم العملاقة التي تدجّن البشر، ألا تجعلهم يقنعوك بأنّ ما يقتنعون به ويمارسونه هو “البديهيّة” ولا شيء يصلح غيرها.

في المنفى يبدو مفهوم الحريّة أكثر تعقيدًا بكثير، لأنّ وجوده أكثر خبثًا وحفرًا في العمق.   

المثليّة الجنسيّة وحقوق المرأة تيمتان حاضرتان في الرواية بقوة. ونظرًا لما يحيط بهما في مجتمعاتنا من حواجز وحدود اجتماعيّة من جهة، ولتماسهما مع المقدس الديني الرافض لهما من جهة أخرى، هناك من يقول إنّ من المبكر التعاطي مع هذه المسائل بكلّ هذه الجرعة الكبيرة من الحريّة في الرواية، إذ أنّ الأمر يجب أن يطرح باعتدال وأنّ مسائل كهذه غير مطروحة في مجتمعاتنا بعد، لأنّها تدخل في صدام مباشر، ليس مع رجال الدين ومنظومة الدين فحسب، بل أيضًا من المجتمعات نفسها، وبشكل مباشر. كيف تردين على ذلك؟

إذا بقيت الكتابة مسجونة في حدود “المسموح به” و”الممكن” ستؤول إلى النهاية. مع أنّي أعتقد أنّ الرواية العربية ذهبت إلى مناطق بعيدة في العقود القليلة الماضية، وعلى وجه الخصوص بعد الربيع العربي. الكتابة كشف، فضح، تحطيم للحواجز والقيود. وإن لم يكن النص صفعة للسائد الراكد والمستنقِع، فلا أعوّل عليه شخصيًا. الصدام الذي تتحدّث عنه هو أحد تحديات الكتابة “الحرّة”. وهذا تمظهر آخر للحريّة بالمعنى الإبداعي.

هذه المواضيع “التابوهات” حاضرة كلّ يوم في مجتمعات منطقتنا، حاضرة جدًا، ولكن كعادة تلك المجتمعات، تحاول أن “تغطّيها”، “تكتمها”، على اعتبار أنّ كلّ ما لا يُجهر به “غير موجود”، التعامي والتجاهل بالنسبة لثقافات منطقتنا، وصفة سحريّة للتبديد. وظيفة الكتابة هي كسر هذه الوصفة، وكتابة الأشياء بحقيقتها. إذًا فرحلتك الإبداعيّة تتلخَّص في تحويل اللغة ليس إلى أداة لمقاومة الأفكار المتكلّسة فحسب، بل أداة لمقاومة اللا جدوى، العبث، الصمت المفروض علينا، أداة لمقاومة السلطات القامعة، أيًّا كانت تلك السلطات، وكلّ ما من شأنه أن يحوِّلنا إلى أشباه بشر. باختصار لا أقتنع شخصيًا بكتابة تحابي ما يريده “المتسلّط” الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو الثقافي، أؤمن بكتابة تقف في وجه كل ذلك لتقول: إنّ الملك عارٍ.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى