مراجعات الكتب

آني إرنو في “السنون”: شذرات من خطاب… إعلامي/ إسكندر حبش

أثار فوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بجائزة نوبل للأدب لعام (2022)، الكثير من التعليقات والردود في مختلف صحف العالم. ولأسباب كثيرة. في أيّ حال، لن تغيّر التعليقات المتنوعة، في جوهر الأمر: تربع إرنو على عرش الكتّاب “المنوبلين”. بيد أن الملاحظ، في غالبية المقالات التي تناولت الكاتبة، كما في بيان “اللجنة الملكية السويدية”، تلك الإشارة إلى روايتها “السنون”، إذ اعتُبرت “أفضل ما كتبته”. هنا عودة إلى هذا الكتاب (الذي حاز يومها العديد من الجوائز الأدبية الفرنسية).  

على الغلاف الأخير من روايتها “السنون”، (سلسلة “فوليو” لـ “كتاب الجيب”)، تقول الكاتبة الفرنسية آني إرنو، اختصارًا للقول والحديث، الجملة التالية: “إنه شكل جديد من أشكال السيرة الذاتية غير الشخصية والجماعية”. قد تُمارس هذه الجملة سحرًا وتأثيرًا علينا، بمعنى أنها تدفعنا إلى تفكير عميق، لما تحاوله الكاتبة، إلا أنّ “محتوى” الرواية، في الواقع، يبدو أكثر تعقيدًا. إذ أن كتاب إرنو هذا يحمل في طيّاته، إذا جاز التعبير، كتابين أو أكثر.

هناك بداية، كتاب الزمن الماضي. الكتاب الذي نجد فيه أن الفعل الأدبي يحمل أحاسيس بداية الحياة. ففي هذا القسم، الذي يعود إلى الأربعينيات والخمسينيات، تتحدث إرنو عن عجائز منطقة “ليلبون” – وعن الفتاة الصغيرة التي كانت عليها – تمامًا على طريقة المغني (الفنان البلجيكي) جاك بريل حين غنّى عن بحارة أمستردام، أقصد هذا المزيج الذي يقف على مسافة من الموضوع كما يتقمصه في الوقت عينه. هؤلاء العجائز الذين يشكلون شريحة كبيرة من المجتمع الفرنسي: الآباء والأجداد والأقارب والجيران إلخ… وبعيدًا عن تنوع المناطق، ربما نجد أنهم يشكلون أيضًا تلك الشريحة الأوروبية، ولمَ لا هذه الشريحة الإنسانية العامة. لكن وبالرغم من ذلك كلّه، علينا أن ننتبه إلى أنهم وقبل أيّ شيء، هم أناس منطقتها، في النورماندي، أهلها الذين يعيشون فيها، الذين يعيشون خارجها، الذين يشكلون الماضي والحاضر أيضًا بفضل هذا الاستدعاء الحنيني للأشكال والتفاصيل التي تغلف الفضاء بما يحتويه. وعبر هذا السرد، يعود الواقع ليجد حقوقه إذ لا تكمن المسألة في الاحتماء خلف الكلمات السهلة و”الخاطئة” – مثل “العالم الريفي”، “التحديث”، “التعليم”، “النسوية”، “الصعود الاجتماعي” – بل تكمن في الذهاب مباشرة إلى الأشياء عينها: النساء اللواتي يضعن بين سيقانهن مطاحن البنّ، والدجاجات من أجل ذبحها، تتحدث أيضًا عن الإعلانات، وأغاني الكلمات الباقية في ذاكرتنا، والتي نرددها من دون أن ننتبه لذلك في كثير من الأحيان.

تتكلم الأشياء عن نفسها، في كتاب آني إرنو، كي تستطيع الكاتبة معرفة كيف تستقبلها. أشياء تروي لنا عن الزمن الذي مضى، عن العالم الذي لم يعد موجودًا، وهو على الرغم من اندثاره، إلا أنه يصبح عالمًا استثنائيًا، غير مألوف. هذا العالم الذي ننظر إليه والذي ينظر إلينا، الذي يتهم غرابتنا وشذوذنا نحن، هذه الغرابة الكامنة في نجاتنا من الاندثار عينه.

كلّ هذا العالم الذي تعيد إرنو إحياءه، يبدو عالمًا أليمًا، مرعبًا، ومع ذلك فهو موجود. هو عالم الوجود والكائن. وهذا ما يجعلنا في النهاية نستمع إلى هذا التعداد الحزين، المسلّي، لآلاف التفاصيل الحسيّة التي تتأسس عليها “هذه الدراما”. كلّ الدراما التي تكتبها إرنو، تكمن في التفاصيل، في التراجيديا عينها بدون شك، لكنها في الواقع ليست سوى مجموعة من التفاصيل، الهاربة، الأشبه بفقاعات صابون لا تتأخر في الاندثار. ربما لذلك تبدو هذه الصفحات من أجمل صفحات الكتاب، الأعمق، المليئة أكثر من غيرها بهذه الروح الإنسانية، بلحمها وشحمها أيضًا.

العصر

لا يبدو ما تقدم وكأنه يشكل العنصر الوحيد من كتاب “السنون”، إذ تنحو الكاتبة أيضًا إلى إظهار هذه القماشة التي كانت تُرسم عليها أحداث طفولتها وصباها: هناك تيتو وبراغ والليندي وبرنامج اليسار المشترك… توليفة أشبه بأغنية لـ بيللي جويل. ثمة حياة أخرى تفسح مكانًا لنفسها في هذا القسم من الكتاب – الذي يمكن لنا أن نُعدّه كتابًا ثانيًا – حياة تتكثف في هذه المادة التي يشكلها الضميران “أنا ونحن” اللذان لا يتوقفا عن اختراق الكتاب عبر أحاديثهما: صوت فترة الشباب، صوت اليسار، ذلك الصوت الذي كان سائدًا قبل أن تقع الأشياء كلّها في الوهم المطلق. ربما ثمة الكثير من القراء الفرنسيين، الذين تخطوا الستين قد يجدون أنفسهم في هذا الكلام، وربما أيضًا بعض اليساريين الآخرين، من بلاد أخرى، فيما لو اعتبرنا أن ثمة “تناغمًا بين الأجيال” كان سائدًا في تلك الحقبة. حقبة تعود إلينا بكل ما تحمله من “دموع” و”ذكرى”، لكن ما زال يمكن لها أن تأسرنا – على الأقل عبر الحنين إلى تلك الأفكار – وإن كانت الكاتبة تنحو في الواقع إلى كتابة “اللاطبيعي” في “الطموح إلى قول هذه الحقبة المرتبطة بعمر ما”، أيّ يشكل الأمر في النهاية نوعا من عملية “فصل الروح عن الجسد”.

يبدأ الانحدار في كتاب “السنون” مع “السنوات الأبوية”، أيّ بعد انتخاب ميتران رئيسًا لفرنسا، انحدار تشير إليه إرنو بالقول إنها لم تعدّ تعرف كيف تتكلم أو تفكر لا بصفتها كائنًا بل صارت أشبه بالتلفزيون. فترة جعلتها تبحث عن “يسار ثان” ضائع في عالم لم تعد تفهمه، لذلك ابتعدت عن كل التزام لتغرق في حالة من الدوار لم تعد تعرف كيف تتخلص منها. ربما في ذلك حالة كبيرة من الشيخوخة تصيب الكلمات والكاتبة بطبيعة الحال، شيخوخة نتعرف عليها من خلال عدم قدرتها على التخلص من مدّ الكلمات هذه التي تجتاح نصها، إذ أنها لا تنتمي أبدًا إلى لغة الكاتبة التي اعتدنا عليها والتي لا يمكن لقارئ إرنو أن لا ينتبه لها: كلمات عادية، مضجرة، منزلقة عن مكانها، كلمات تشير إلى استدارات الروح وعذابها، إلى أمكنة مشتركة لا تعرف كيف تميّز بينها، كلمات تخرج منها وهي مليئة بالتعب، أي لا تتمتع بتلك الحساسية الكبيرة التي كانت ترشح من كتبها السابقة، فالسنون قد سقطت في هذا المدّ الأسود “لعصر التواصل”.

الخطاب التلفزيوني

يمكن لنا، بعد قراءة “السنون” أن نعود ونستدعي كتبًا أخرى لإرنو مثل “الساحة”، “شغف بسيط” وغيرها، استدعاء كي نقارن في ما بينها، كي نقيم “جردة حساب”، كي “نحللها”. لكن لنأخذ كتابها الحالي في فرادته وعمّا هو عليه. من هنا لنطرح السؤال التالي: ماذا يقدم لنا الكتاب في العمق؟ ربما هو مغامرة لمشروع كتابة سيرة ذاتية متفردة ينتهي بشكل غير متوقع، أي يمكن لنا أن نصفه بالقول “شذرات من خطاب إعلامي” (فيما لو لعبنا على عنوان كتاب رولان بارت “شذرات من خطاب عاشق”). أيّ لسنا أمام مشروع شخصي أو لا شخصي. ثمة مسار غريب ما بين ضمير “نحن” (Nous)، الوجودي الذي يثير العاطفة والذي يأسر الأشباح الحيّة لطفولة ماضية وبين ضمير (On)، الراهن، الذي مات، من جراء هذه الآلة الإعلامية وسفسطتها العبثية.

ومع ذلك كلّه، ثمة رهان ومجازفة تقوم بها إرنو، في كتابها هذا. بداية، هي تعتقد فعلًا أن الخطاب التلفزيوني قد استطاع من السبعينيات والثمانينيات أن يشكل “ثقافة” ما، أيّ أن يقول عصره ويشير إليه حقًا، أيّ يشهد عليه ويذوب فيه. من هنا، فنحن لو أعطينا الحق لإرنو في ذلك، فمعناه أن المجتمع ليس سوى قطيع ما، يتشكل وفق مقتضيات الشاشة الصغيرة، وبأنه لم يعد للأدب – ببساطة شديدة – أي معنى في أن يستمر في الوجود، لأن “الأدب الحقيقي” والصوت الحقيقي لعصرنا لم يعد سوى نشرات الأخبار.

 هل هذا ما تقصده إرنو؟ ربما ثمة شك في ذلك، إذ لا بدّ أن تقودنا قراءة أخرى إلى اعتبار أن ما تكتبه ليس سوى صرخة أليمة وحزينة، صرخة أدب تخطته القنوات الفضائية. لذلك يبدو كتابها وكأنه رسالة تطلب النجدة، على الرغم من أن الرسالة التي كتبتها ووضعتها في زجاجة استقرت على شاطئ … اللامعنى.

التخييل الذاتي

أعتقد أنه يتوجب علينا، في هذه العجالة، أن نعود إلى ما قالته إرنو على الغلاف الأخير من أن كتابها شكل جديد من أشكال السيرة الذاتية. في الواقع، تنتمي رواية “السنون” – كغالبية كتب إرنو – إلى ما عُرف منذ عام 1977، في الكتابة الفرنسية، باسم تيّار “التخييل الذاتي” (وهي تسمية أطلقها الكاتب سيرج دوبروفسكي ليصف بها كتابه “ابن”). يتكون المصطلح من البادئة auto (من اليونانية αὐτός: “الذات”) والخيال. الأدب الذاتي هو نوع أدبي يتم تعريفه بواسطة “تناقض متناقض” أو “ميثاق متناقض” يربط بين نوعين متعارضين من السرد: إنها قصة تستند، مثل السيرة الذاتية، إلى مبدأ الهويات الثلاث (المؤلف هو أيضًا الراوي والشخصية الرئيسية)، التي تدعي مع ذلك أنها خيالية في طرائقها السردية وفي الادعاءات المتعلقة بالنص (العنوان، الغلاف الخلفي، إلخ). وتُسمى أيضًا “الرواية الشخصية”. ومن الواضح أنها تشكل تقاطعا بين قصة حقيقية لحياة المؤلف وقصة خيالية تستكشف تجربة عاشها.

بهذا المعنى، تقع الرواية في هذه “الحركة الواسعة” لأدب التخييل الذاتي، أي في “مشتقات” السيرة الذاتية، وتعدد الأشكال التي تغطيها، وبخاصة في ذاك الاتجاه الذي يتشكل عبر اهتمامه بشكل الحياة البشرية. فمهما كانت عليها درجة التخيل هذا، نجد أن هذه الحياة الممثلة في الكتابة تستحق أن تُروى عبر طابعها الرمزي أو حتى الإحصائي: إذ يمكنها، على درجة كبيرة، أن تخبر عن حياة الآخرين، عن “كلّ حياة”، وإن لجأت الكتابة إلى ضمير المتكلم. ثمة أمثلة كثيرة عن ذلك، وأقصد ما نجده في روايات إيمانويل كارير، وكاميل لورنس، وميشيل ديسبورديس، وفيليب فورست، وفي كتب بيير غويوتا الأخيرة، وغيرهم عديدون. ما يمكن قوله، إن أدب هؤلاء – بمن فيهم آني إرنو بالطبع – يجعلون من الأدب أداة معرفة عن الحياة، وإمكانية عرض تجربة شخصية تتعرض لأشكال من خبرة لن تكون متاحة لنا إلا عبر الأدب، لأنها ببساطة، مجهولة من قبلنا، غير محسوسة تمامًا، بالنسبة إلينا، لأننا لم نعشها. من هنا، فإن واحدة من القراءات الممكنة، عبر تجربة “التخييل الذاتي” التي تقدمها لنا الكاتبة الفرنسية، هي اهتمامها بعلم الاجتماع والانتماء الطبقي، بل بالأحرى هي واحدة من أكثر الناشطات في هذا الاتجاه، اللائي يقدمن، بدءًا من المادة الحقيقية لحيواتهن، قصصًا تعمّم تفردها لتنفتح على البُعد الجماعي… بالرغم من أن الكاتبة تعود لترتكز في نهاية خطابها الروائي على صورها الخاصة، أيّ على جملتها التي أفردت لها مكانتها في عالم الرواية الفرنسية المعاصرة. تعود وتشكل هذا المناخ الخاص بها، لتختم به الكتاب. خاتمة قد تعطينا أملًا أخيرًا بأن قصة “السنون” ليست سوى مشروع لكتابة أحاسيس “مفبركة” نجدها اليوم في العالم بأسره. وبالتأكيد كما غالبية كتب إرنو، يستحق “السنون” أن نقرأه.

(*) كاتب ومترجم لبناني: نقل إلى العربية كتابين لآني إرنو هما “الاحتلال” و”شغف بسيط” (صدرا عن “منشورات الجمل”).

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى