سياسة

الزلزال المهول الكارثي: تركيا مركز الزلزال وسوريا مركز الكارثة!

التحديث اليومي لهذا الملف ينشر في أعلى الملف يوميا، التحديثات السابقة بعد ذلك

=====================

تحديث 28 شباط 2023

—————————

الاستجابة السورية لكارثة الزلزال: زلزال فوق الزلزال/ كمال شاهين

إعلان المحافظات اﻷربع مناطقَ منكوبة جاء بعد أربعة أيام على كارثة الزلزال، وربما بعد ضغوط خارجية، وهذا التأخير لوحده كان سبباً لفرملة الاندفاع العربي والدولي تجاه دمشق، ليأتي عدم إعلان الحداد العام على ضحايا الزلزال سبباً ثانياً، على الرغم من أن العدد اﻹجمالي للضحايا السوريين بلغ قرابة عشرة آلاف أنسان أو أكثر في كامل البلاد.

بقدر عالٍ من اليقين، يمكن القول إنّ كارثة زلزال السادس من شباط / فبراير الجاري – الذي ضرب عشر ولايات تركية جنوبية وأربع محافظات سورية شمال وغرب البلاد (إدلب وحلب وحماة واللاذقية) وأوقع ضحايا فاق عددهم حتى الساعة خمسين ألفاً – هذه الكارثة لم تنجح بتغيير الصورة السيئة للحكومة السورية (الحكومات تجاوزاً تبعاً للسيطرة على اﻷرض) لدى مختلف السوريين، داخل البلاد وخارجها.

يضاف هذا الفشل إلى سجل العجز والفشل المقيمين في إدارة البلاد والعباد منذ عهد كارثة أخرى لا تقلّ فجاعة عن كارثة الزلزال، نعني تبعات الحراك الذي انطلق العام 2012، متصاحباً مع أزمة وجودية مستمرة حتى اليوم. وهو ما ترك آثاره على الاستجابة المتوقعة لحدث كالزلزال، وأساسها تمرّغ سيادة البلاد في وحول التصارع الدولي واﻹقليمي عليها.

في اليوم السابع للكارثة قصفت “إسرائيل” مواقعاً في العاصمة دمشق، فيما نُقلت أنباء عن حدوث اشتباكات عسكرية بين أطراف محلية في مناطق إدلب في اليوم الثامن.

وفيما تباطأت الاستجابة اﻹنسانية (الدولية والعربية)، والتي وصلت ذروتها بعد أسبوعين من الكارثة، بما لا يتجاوز عدداً من طائرات المساعدات والقوافل المماثلة من بلدان عربية مجاورة، ومساعدات مالية وإغاثية أممية (لم تصل إلى مئة مليون دولار) برعاية اﻷمم المتحدة وتصرّفها، خابت “اﻵمال العريضة” التي عوّل عليها النظام والمعارضة بغاية تحريك الوضعية السورية الساكنة من الجهة السياسية ، إذ لا تغيير يذكر في وضعية النظام السوري. كما فشلت المعارضات، من ناحيتها، خاصة المسيطرة على مناطق إدلب وغرب حلب، في الدخول في قلب حدث الكارثة كلاعبٍ رئيسي، حيث إنّ ما أصاب تركيا من كارثة ودمار وانشغال أبعد رعايتها عن المتناوَل، كما خلق وضعيات جديدة للنظام التركي قد تدفعه أكثر نحو دمشق بهدف التخلص من عبء إغاثة ورعاية مناطق إدلب وغرب سوريا، والنازحين السوريين في الأراضي التركية.

آمال النظام السوري المتبخرة دولياً (أميركياً بصفة خاصة) لا ترتبط فقط بأسباب تلك الدول وعلاقتها المقطوعة مع دمشق منذ دهر، بل ﻷن دور الدولة السورية نفسه كان موضع جدال عند السوريين أنفسهم أثناء الكارثة ولاحقاً بعد الانتقال من المرحلة اﻹسعافية إلى مرحلة اﻹغاثة وما بعدها، وهي المرحلة الأهم بعد الكارثة، فهو بكلمات مختصرة: لم يرتق أبداً إلى مستوى ما حدث.

سمات استجابة الحكومة /الحكومات السورية

منذ الساعات اﻷولى لكارثة الزلزال ظهر أنّ إعلام دمشق الحكومي تعاطى مع الكارثة من منطق “لا حول ولا قوة إلا بالله”، أي أنه لا يمكن فعل شيء إزاءها، فهي “قضاء وقدر” وعلينا تقبلها على هذا اﻷساس. وفي اﻷيام التالية تجاهل اﻹعلام ومعه الحكومة (وهذه الأخيرة هي الأصل) إلقاء أي لوم على أي مؤسسة حكومية لتأخرها في الاستجابة السريعة للحدث، وتفادى أيضاً أي حديث عن ترهل عمل هذه المؤسسات وضعف ـ إن لم نقل عدم ـ استجابتها لنداءات الاستغاثة المتكاثرة من السوريين في كل أنحاء سوريا، خاصةً ما ارتبط بوقائع انهيارات الأبنية خلال اﻷيام الثلاثة التالية لحدث الزلزال.

إعلامياً وحكومياً، ظهر أنّ هناك توجهٌ غير معلن للتبرير بطريقة “ليس باﻹمكان أحسن مما كان”، فحتى “الدول الكبرى تعجز عن التعامل مع مثل هذه الكوارث”. وبعدها مباشرةً وبكثافة تمّ تداول حديث العقوبات الدولية واﻷميركية وقانون “قيصر” في تبرير عدم قدرة الجرافات الوصول إلى مواقع انهيارات اﻷبنية التي كان محتملاً وجود أفراد ناجين تحتها.

كانت الحكومة ومؤسساتها وصانعي القرار فيها وكأنهم “مذهولون” أكثر من الناس الذين تعرّضوا لحدث الزلزال نفسه. ومع أنّ الجزء الغربي من سوريا يقع على فالق زلزالي وحدثت بجواره زلازل وهزات حتى فترة قريبة، فالسلطات عبر هذه السنوات الطوال لم تأخذ الموضوع بعين الاعتبار ولا الاهتمام الفعلي. وليس لدى سوريا أصلاً ما يمكن تسميته “إدارة الكوارث” وليس هناك صندوق وطني للكوارث!

في اليوم الرابع للكارثة، وبعد عقد على الحرب السورية، سمعنا بشكل رسمي، ﻷول مرة، إقرار مجلس الوزراء السوري إحداث “صندوق لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة”. وحتى اليوم، لا يزالهذا الصندوق غير موجود ﻷنه بحاجة إلى مرسوم رئاسي ﻹحداثه، كما أنه “بعد البحث لم يُعثر على أيّ نص قانوني في التشريعات السورية يُعرّف مصطلح “المناطق المنكوبة” أو يحدد تبعات الإعلان عنها والمستند القانوني لتمويل عمليات الإغاثة وتعويض المتضررين ضمنها، ليُستند عليها في إحداث الصندوق. وحتى قرار إحداث “اللجنة العليا للإغاثة” الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، لم يتضمن توضيحاً عن كيفية تأمين تمويل قرارات هذه اللجنة (بحسب أحد المحامين المعنيين بهذا الجانب).

تخبّط حكومي آخر وضحت آثاره في قرارَيْن متتابعين صدرا في يومي الزلزال التاليين، اﻷول رفع أسعار المازوت الصناعي، مما يعنى ارتفاع سعر كل المنتجات المرتبطة، والثاني، وهو المتعلق بالزلزال ووقائعه، هو أنّ الحكومة لن تعوّض الناس عن أضرار منازلهم المهدومة والمتصدعة، وأنّ الترميم سيكون على حساب الناس، وفق ما تناقلته الصفحات الزرقاء بناء على تصريحات رسمية تمّ سحبها لاحقاً. وهذا يشكّل مخالفة واضحة للمادة “24” من الدستور السوري التي تنص على “أنّ الدولة تكفل بالتضامن مع المجتمع اﻷعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية” فيما تشير المادة “22” إلى أنّ “الدولة تكفل كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ”. ولاحقاً حاول وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك القول إنّ الحكومة تدرس الوضع القانوني للأبنية الفارغة (دون تحديد نوعية ملكيتها) لبحث إمكانية إيواء المتضررين فيها “مؤقتاً”، دون أن يحدث ذلك بعد أسبوعين على الكارثة، ومعظم الخارجين من بيوتهم المتهدمة على قيد الحياة، وُضعوا في مراكز إيواء مؤقتة (مساجد وكنائس وملاعب وصالات) ليست بأحسن أحوالها.

    إعلامياً وحكومياً، ظهر أنّ هناك توجهٌ غير معلن للتبرير بطريقة “ليس باﻹمكان أحسن مما كان”، فحتى “الدول الكبرى تعجز عن التعامل مع مثل هذه الكوارث”. وبعدها مباشرةً وبكثافة تمّ تداول حديث العقوبات الدولية واﻷميركية وقانون “قيصر” لتبرير عدم قدرة الجرافات الوصول إلى مواقع انهيارات اﻷبنية التي كان محتملاً وجود أفراد ناجين تحتها.

    تخبّط حكومي آخر وضحت آثاره في قرارين متتابعين صدرا في يومي الزلزال التاليين، اﻷول رفع أسعار المازوت الصناعي، مما يعني ارتفاع سعر كل المنتجات المرتبطة، والثاني، وهو المتعلق بالزلزال ووقائعه، القائل بأنّ الحكومة لن تعوّض الناس عن أضرار منازلهم المهدومة والمتصدعة، وبأنّ الترميم سيكون على حساب الناس، بناء على تصريحات رسمية تمّ سحبها لاحقاً.

مراكز اﻹيواء نفسها التي اتخذها الناس على عجل، هي لوحدها حكاية. صحيحٌ أنها أفضل من الخيم التي غطّت مناطق إدلب وغرب حلب (هذه أيضاً لم تتوفر أحياناً)، إلا أنها بدت أشبه بمعسكرات ضمّت المتضررين وغيرهم من غير المتضررين الباحثين عن المساعدات الغذائية والإغاثية. وحتى بعد أسبوع من الكارثة لم يتوفر مستند رسمي للمقيمين في مناطق اﻹيواء نفسها يؤكّد تضررهم. وهذا التخبّط تسبب في كثير من اﻹشكالات على أرض الواقع.

نحو مزيد من الشقاق في البلاد

كان اﻷكثر إثارة للاستفزاز أنه في اﻷيام اﻷولى ﻹعلان حكومة دمشق عن أرقام الضحايا، تجاهلت ذكر محافظة إدلب وكأنها خارج المساحة الجغرافية السورية، وهذا ما فعلته مثلاً وزارة الصحة في دمشق في إعلانها أرقام الضحايا شاملةً فقط (حلب وحماة واللاذقية)، وفي العديد من البيانات الصحافية ﻷرقام الضحايا التي صدرت عن الحكومة في دمشق، لم تتم اﻹشارة إلى إدلب إلا بعد موافقة دمشق على الطلب الدولي بفتح المعابر مع المنطقة الخارجة عن سيطرة الدولة السورية (إدلب وغرب حلب).

في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة الموالية لتركيا لم تكن “حكوماتها” على قدر ولو طفيف من المسؤولية لا على اﻷرض، ولا على مستوى اﻹعلام، تجاه كارثة إنسانية حقيقية. ولولا مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات اﻹغاثة المحلية، وعددها التقريبي خمسون منظمة ومبادرة وجمعية، لكان الوضع أسوأ بكثير.

أما الأداء السياسي والإعلامي للأطراف السورية، فقد دفع باتجاه زيادة الشرخ في البلاد عبر استخدام الكارثة لتحقيق مكاسب آنية على حساب اﻷطراف اﻷخرى. وعلى الرغم من حجم الكارثة الكبير الذي كان يفرض كسر التخندق السياسي والعسكري، فإنّ التعاطي الحكومي والتعاطي المقابل له من جماعات المعارضة، لم ينجح في تغيير معادلة التوازن اﻹجباري على اﻷرض، فقد تم افتتاح طريق للمساعدات من دمشق إلى مناطق إدلب بضغط عربي (إماراتي) وروسي، كما أنّ حالات متعددة من العنصرية تجاه المتضررين في مختلف المناطق ظهرت بوضوح في خطاب الطرفين، ولو أنّ الغالب كان وجود تعاطف كبير بين الناس تجاه بعضهم البعض.

إعلان المحافظات اﻷربعة مناطقَ منكوبة جاء بعد أربعة أيام على كارثة الزلزال، وربما جاء بعد ضغوط خارجية، وهذا التأخير لوحده كان سبباً في فرملة الاندفاع العربي والدولي تجاه دمشق، ليأتي عدم إعلان الحداد العام على ضحايا الزلزال (وقد أعلنته تركيا منذ اليوم اﻷوّل للكارثة) سبباً ثانياً، على الرغم أن العدد اﻹجمالي للضحايا السوريين بلغ قرابة عشرة آلاف أنسان أو أكثر في كامل سوريا (والعدد غير دقيق).

من أبرز التخندقات السياسية التي حصلت في سوريا خلال اﻷيام اﻷولى والتي عززت الانقسام في المجتمع السوري، رفض كلٍّ من دمشق والمعارضة في شمال غرب البلاد، قبول قوافل مساعدات جهزتها اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. كما أنّ بعضاً من هذه القوافل تمّ تغيير صفتها إلى “مساعدات العشائر” حتى تعْبر مناطق السيطرة إلى مناطق دمشق، في حين أثمر الضغط التركي على ما يبدو في منعها من الدخول إلى مناطق إدلب.

الشعب يتفوق على الحكومة/ ات

بعد مضي أسبوعين على الكارثة، لم يكن هناك ـ مثلاً ـ إحصاءات متوافرة بدقة عن أعداد المنازل المدمّرة أو تلك المتصدعة أو المنازل التي أخليت من سكانها، وهذا أوقع الناشطين الميدانيين في كثير من اﻷخطاء والتكرارات في عمليات اﻹسعاف والإغاثة كان يمكن تجنبها بتوفير منصة معلومات تُحدّث كل ساعة على اﻷقل.

وفيما لم تكشف الحكومة عن خطة عملها، مكتفيةً بتحديد خطوط عريضة من قبيل انتهاء المرحلة اﻹسعافية والانتقال إلى مرحلة ما بعد الكارثة بعد مضي أسبوع على الأقل على الكارثة، فإنّ الشفافية غابت كلياً عن طريقة تعامل الحكومة مع المرحلة التالية للزلزال: فماذا سيكون مصير المنازل المدمّرة وكيف سيتم تعويض أصحابها (إن حدث أصلاً)، هل سيتم تشييد أبنية جديدة وآمنة بدل كل مبنى تهدم في الزلزال؟ وما مصير المساعدات التي قُدمت للشعب السوري وبلغت عدة مئات من اﻷطنان بواقع أكثر من مئتي طائرة هبطت في مطارات دمشق وحلب واللاذقية. كل هذا يبقى في إطار المجهول. على سبيل المثال، حين سُئِل وزير اﻷشغال العامة في حكومة دمشق، في مؤتمر صحافي، عما إذا كان سيتم دفع تعويضات لمتضرري الزلزال، لم يؤكد ذلك ولم ينفه في الوقت نفسه، وأشار إلى فكرة وجود قروض للترميم من قبل البنوك السورية!

على الجهة اﻷخرى من المشهد السوري، تحرّك المجتمع السوري بمبادرات فردية ومدنية لتجاوز حالة غياب جهاز الدولة في عمليات اﻹنقاذ واﻹسعاف واﻹغاثة، فظهرت على مساحات المدن والقرى المنكوبة مبادرات (أفراد وجمعيات مجتمع أهلي ومدني) تحركت من خلال علاقاتها مع المجتمع في عمليات اﻹغاثة، حيث اضطر كثير من الناس في كثير من المناطق إلى البحث والعمل في اﻷنقاض بأيديهم بسبب قلة المعدات والتركسات وغياب الوقود اللازم لتشغيلها. ومثاله اﻷكثر إيلاماً في محافظة اللاذقية، كان في منطقة اسطامو (20 كم عن اللاذقية)، حيث انهار أربعة عشر بناء في اليوم اﻷول للزلزال مخلفاً على الأقل خمسين ضحية وعدداً كبيراً من المصابين، وتأخرت فرق الإنقاذ في الوصول حتى اليوم الثالث وفق ناشطين وشهود هناك.

عملت الجمعيات واﻷفراد على تأمين وإيصال مواد غذائية ومياه شرب ومواد صحية وأغطية وفرشات من تبرعات قام بها أفراد أو جمعيات في مناطقهم أو مناطق أخرى، داخل وخارج البلد. ومع ظهور عرقلات حكومية سابقة تتعلق بتحويل اﻷموال بين المحافظات السورية على أرض الواقع، تحرك المصرف المركزي السوري فرفع سقف الحوالات الداخلية من مليون يومياً إلى خمسة ملايين (700 دولار)، فيما بقيت القيود الخارجية على الاستلام بالدولار حتى اللحظة عند حدود أربعمئة دولار، وأكثر من ذلك، تمّ تحديد مراكز محددة لاستلام الحوالات في دمشق حصراً.

الزلزال كفرصة أم تجديد للكارثة؟

زلزال سوريا هو كارثة بكل معنى الكلمة، والاستجابة الهزيلة من الحكومة (والحكومات) تشير إلى أنها فعلياً تكثيف لمجريات الحرب بكل ما حملت من انشقاق في بنية المجتمع وتكريس لها، لتكون علامات حقيقية في مستقبل البلاد، وهو ما يجعل من القضية السورية، مرة جديدة، على أبواب الشد والجذب اﻹقليمي والدولي، بدل أن يكون الزلزال فرصة مؤلمة للبناء عليها في توجه سياسي مغاير.

معالجة آثار الكارثة اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً، والخسائر في حدها اﻷدنى هي بمليارات الدولارات، يحتاج إلى عشرات السنوات لتجاوزها وسط وضع اقتصادي كارثي هو اﻵخر. وهذا يفترض به أن يتجاوز صفة المهمة الطارئة أو الاستجابة لحدث الزلزال نفسه.

السفير العربي

————————-

الزلازل وقابلية الحل في سورية/ عبد الباسط سيدا

زلزال الطبيعة الذي ضرب جنوب تركيا، وشمال غرب سورية، وامتدت تأثيراته إلى لبنان والأردن والعراق بارتداداته الكثيرة القوية، أكد أن دول منطقتنا مرتبط بعضها ببعض ليس على المستوى المجتمعي والسياسي، والتدخلات السكانية بين مختلف الانتماءات القومية والدينية والمذهبية فحسب، بل هناك ترابط جيولوجي، وعمق جغرافي حيوي، إلى جانب الخلفية التاريخية المشتركة، والمصالح الاقتصادية المتبادلة.

كما أكد هذا الزلزال بانعكاساته الكارثية التي تمثلت في الدمار الهائل، والعدد الكبير في أعداد الضحايا والمصابين، وتبعات ذلك كله على الاقتصاد والخطط التنموية مستقبلاً؛ الفرق الكبير بين الدول المستقرّة بمؤسساتها وبنيتها التحتية الفاعلة، والقادرة على التحرّك السريع في الوقت المناسب، وهو حال الدولة التركية. وبين دول أخرى مزّقتها الزلازل البشرية نتيجة إصرار سلطتها الدكتاتورية على البقاء، وإعلانها الحرب على غالبية شعبها تحت شعار زائف تضليلي: “مقاومة المؤامرة الكونية، والصمود في وجهها”؛ وعدم الاكتفاء بذلك، بل وصل الأمر إلى حد الاستعانة بالجيوش والمليشيات الأجنبية، لتساعدها هي الأخرى في قتل السوريين الثائرين على استبدادها وفسادها وإفسادها، وتهجيرهم، وتدمير بلادهم؛ حتى تحوّلت الدولة إلى جملة سلطات أمر واقع، وتمزّقت الأرض السورية بين مناطق نفوذ تتحكّم بها قوى إقليمية ودولية، ومليشيات وافدة ومحلية؛ وتعطّل النشاط الاقتصادي، وتعرّضت الثروات السورية للنهب من مختلف الأطراف، وبات الناس مادّة للاستنزاف، حتى بلغ الحال أن أصبح معظم السوريين، وفي مختلف المناطق، بغض النظر عن سائر التصنيفات، دون حد الفقر؛ يعيشون على المساعدات الدولية، وعلى تحويلات أقربائهم في الخارج، أو يتدبّرون أمورهم  بأقسى الشروط وأسوأها.

أما السلطة وشركاؤها فقد وجدوا في تجارة المخدّرات، واستغلال مآسي الناس، وفرض الإتاوات على أصحاب الحاجات وأهالي المعتقلين مجالاً لتحصيل الأموال لزيادة ثرواتهم، وإذلال عامة الشعب. ودمّرت البنى التحتية، أو تآكلت، وأصبحت المشافي والمراكز الصحية في وضعية يُرثى لها، تعاني من نقصٍ كبير في المعدّات والكوادر والأدوية. ويؤكّد ذلك كله أن هذه السلطة ستكون عاجزة عن تقديم المستلزمات الإسعافية والخدمات لأولئك الذين فقدوا مساكنهم، وأصبحوا في غضون دقائق مشرّدين في الشارع.

وفي منطقة شمال غرب سورية، أثبتت المعارضة الرسمية بمؤسّساتها المختلفة فشلها الذريع، وبُعدها عن الناس، وعدم قدرتها على تأمين الدعم المطلوب ولو في حدوده الدنيا. بل كان اللافت أن واجهاتها أصبحت خارج التغطية نحو أسبوع؛ لتؤكد حقيقة بدهية يعرفها السوريون جيداً، أنها معارضة لا حول لها ولا قوة، ولا تأثير لها، وإنما غدَت جزءاً من لعبة إدارة الأزمة والتسويف بالوعود، وإعطاء انطباع إيهامي بوجود مشروع حلٍّ سياسي، تطبخه لجنة دستورية كسيحة، لم ولن تؤدّي إلى أي شيء مفيد يحتاج إليه السوريون، وينتظرونه.

زلزال الطبيعة الذي ألحق الضرر بمدن وبلدات سورية عديدة، خصوصا جنديرس وحارم وسراقب وجبلة، وتسبب في وقوع نحو ستة آلاف من القتلى، وعدد كبير من المصابين والجرحى، وأثر في حياة الملايين السوريين الذين كانوا يعانون أصلاً من آثار حربٍ كارثية أعلنتها السلطة الأسدية عليهم، وهي الحرب التي أدّت إلى سلسلة من الزلازل المجتمعية والإنسانية التي لن تعالج من دون التوصل إلى حلٍّ مستدام يضع حداً لعذابات السوريين وآلامهم وشعورهم بانعدام الآفاق. زلزال الطبيعة هذا ربما كان فرصةً أليمة تذكّر العالم مجدّداً بالمعاناة السورية المستمرة منذ 12 عاماً، وهي معاناة تشمل مختلف جوانب الحياة، وتؤثر في مستقبل الشباب، ومستقبل الأجيال السورية المقبلة.

وربما من المناسب أن يُشار، في هذا السياق، إلى الأصوات التي ارتفعت هنا وهناك بعد الزلازل مطالبة بالانفتاح على بشّار الأسد وسلطته، تحت شعار الضرورات الإنسانية والحفاظ على وحدة السوريين. كما كانت هناك تصريحاتٌ ولقاءاتٌ وزياراتٌ معلنة قام بها مسؤولون عرب وأمميون إلى دمشق، حيث التقوا مع بشار الأسد. ويؤكّد ذلك كله تجاهل الجميع أمرا يعرفونه جيدا، أن بشّار الأسد لن يكون في مقدوره، مهما حصل عليه من دعم، وبُذلت من أجل تسويقه وتعويمه الجهود، من ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتوحيد البلاد، والارتقاء بسورية إلى مصافّ الدول الطبيعية صاحبة السيادة، المحصّنة تجاه أصحاب المشاريع الإقليمية أو الدولية.

لقد انتظر السوريون 12 عاماً المجتمع الدولي ليساعدهم على تجاوز محنتهم، ولكن من الواضح أن الوضع السوري الملتهب لم يعد أولويةً لدى القوى الرئيسة المؤثرة في المجتمع المذكور، بل باتت تلك الدول، بعد أن حصلت كل واحدةٍ منها على ما تريده في الأرض السورية، تستخدم المسألة السورية صندوق بريد لتبادل الوسائل، وورقة ضغط تستخدمها وقت اللزوم في المفاوضات في ملفّات أخرى وأماكن أخرى، ومن الواضح أن الدول الإقليمية تدرك، هي الأخرى، ماهية هذه اللعبة وأبعادها، لذلك تحاول استخدام الوضع السوري بما ينسجم مع حساباتها ومصالحها.

وحدهم السوريون يدفعون الضريبة، خصوصا الجيل الشاب الذي قطع الأمل من إمكانية تحقيق تطلعاته في أجواء النفق السوري المظلم الذي لا تلوح في الأفق أية بارقة أمل من شأنها أن توحي بإمكانية الوصول إلى حلٍّ ما، يبشّر بالفرح القريب، ويطمئن السوريين من جميع الانتماءات وفي جميع الجهات السورية، ويضمن مستقبلاً أفضل للأجيال السورية المقبلة.

وما يلاحظ في تصريحات بشار الأسد وتصرّفاته في المناسبات المختلفة أنه ما زال يصرّ على  تعرّض سلطته لمؤامرة استهدفت إسقاطها محاسبة لها على دورها “المقاوم الممانع”، وهو الدور الذي أسهم، بالتنسيق مع النظام الإيراني، في تدمير مجتمعات المنطقة ودولها (لبنان والعراق واليمن)، ويهدّد مجتمعات ودولاً أخرى. هذا في حين أن المؤامرة الحقيقية كانت على الشعب السوري الذي تُرك لمصيره من دون أي مساعدة تمكّنه من الوصول إلى برّ الأمان.

وستستمر المعاناة السورية، ولن تستقر سورية ولا المنطقة، مع بقاء بشار الأسد على رأس السلطة. ولن تتمكّن كل قوى العالم من إقناع السوريين بالعودة إلى حظيرة هذه السلطة، أو إرغامهم على ذلك، بعد كل ما فعلته بهم من قتل وتهجير وتدمير وتغييب.

حقّق السوريون، ويحقّقون، نجاحاتٍ فردية في سائر الدول التي هاجروا إليها قبل عقود، أو تلك التي هاجروا إليها في السنوات الأخيرة بعد الحرب التي أعلنتها عليهم سلطة بشار الأسد؛ وهي نجاحاتٌ تحظى باحترام وتقدير الجميع. كما سجّل الطلبة السوريون نتائج باهرة في مختلف الاختصاصات. وفي الوقت ذاته، تمكّن رجال الأعمال والأكاديميون السوريون من بلوغ مستوياتٍ متقدّمة في ميادين الإنجازات المعرفية والاقتصادية والإدارية المتنوعة، واستطاعوا إثبات مؤهلاتهم المتميزة وفق أرقى مستويات المعايير الدولية؛ ولكن جميع هذه الإنجازات ستظل فرديةً لا تساهم في نهضة المجتمع السوري، وتنميته لصالح سائر مواطنيه مستقبلاً ما لم تكن هناك دولة مستقرّة، ونظام حكم رشيد جاذب يحرص على مواطنيه في الداخل والخارج، ويرسّخ لديهم الشعور بالانتماء إلى مجتمعهم ووطنهم، والاعتزاز بهذا الانتماء. 

هناك كفاءات سورية يُشهد لها في مختلف المناطق السورية، ومن جميع الانتماءات، وهناك كفاءات وخبرات بالمقاييس العالمية خارج سورية. وواجب الوفاء لسورية شعباً وأرضاً يُلزم هذه الكفاءات بالتواصل المباشر، والاجتماع، لتتوافق على حلٍّ يضع حداً للمعاناة السورية، بعيداً عن التخندقات الأيديولوجية بكافة ألوانها القومية والدينية والمذهبية والعلمانية، والشعارات الشعبوية، فسورية اليوم تحتاج إلى ترميم النسيج المجتمعي الوطني الذي دمرته سلطة الفساد والاستبداد والإفساد، وتحتاج أيضاً إلى العودة الآمنة الطوعية للمهجّرين قسراً من أبنائها وبناتها، كما هي في أمسّ الحاجة إلى نهضة اقتصادية متوازنه تشمل جميع المناطق، ولن يتحقّق ذلك كله من دون إرادة وجهود السوريين المخلصين الحريصين على شعبهم. والمعنيون هنا هم في المقام الأول: رجال الأعمال والأكاديميون والإداريون وسائر المؤثرين اجتماعياً، فهؤلاء لو منحوا الفرصة، بعيداً عن سطوة السلطة وأحابيلها، في مقدورهم أن يتوافقوا على حلٍّ يطمئن سائر السوريين، ويضعوا الخطط الواقعية التي تمكّن السوريين من تجاوز قيود الدائرة اللعينة التي تطحنهم لصالح مافيات الفساد الداخلية والخارجية.

كما يمكن لأصحاب الكفاءات المعنيين هنا أن يضعوا خريطة طريق تقنع السوريين أولاً، والجوار الإقليمي والمجتمع الدولي بأن سورية يمكن أن تستقرّ، وتضمن مقوّمات العيش الكريم في ظل وجود إدارة نزيهة رشيدة متوازنة، مخلصة لشعبها، حريصة على وطنها.

واستقرارٌ من هذا القبيل سيمهّد الطريق أمام  تحوّل سورية إلى بوابة الاستقرار والأمان والانتعاش والسلام في المنطقة؛ وذلك على نقيض ما هو عليه دورُها راهناً في إطار مشروع “محور المقاومة والممانعة” الذي أنهك مجتمعات المنطقة ودولها، وعمّم فيها الفساد والخراب اللذين لم يسلم منهما البشر والشجر والحجر.

العربي الجديد

———————-

عن إرهاصات الزلزال وتبعاته في تركيا/ عمر كوش

شهدت تركيا حالة تضامن وطني وشعبي واسعة مع ضحايا الزلزال الذي ضرب جنوبها وشمال غربيّ سورية في 6 فبراير/ شباط الجاري، واستنفرت مؤسسات الدولة منذ الساعات الأولى لوقوعه، وبدأت بتسخير إمكاناتها، وتسيير فرقها المتخصصة، من أجل القيام بعلميات الإنقاذ والإغاثة. ولم تتأخّر المنظمات المدنية، والأحزاب السياسية، إضافة إلى متطوّعين من الأهالي، في تقديم مختلف أنواع الدعم المادي، عبر تنظيم حملات جمع التبرّعات، وإرسال الحاجات الضرورية من خيام وأغطية وملابس وأغذية، إضافة إلى تبرّع أتراك عديدين بالدم للجرحى والمصابين، وإيوائهم من فقدوا بيوتهم.

على المستوى السياسي، لم يتأخّر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الاتصال برؤساء أحزاب معارضة، من بينهم رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنر، ورئيس حزب الديمقراطية والتقدّم علي باباجان، ورئيس حزب الوحدة الكبرى مصطفى دستجي، وحزب اليسار الديمقراطي أوندر أقصقالي، وبحليفه زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهجلي، وخرج معظمهم في اليوم الأول للكارثة بتصريحاتٍ اعتبرت الزلزال لحظة تضامن وطني، واتفقوا ضمناً على رفع شعار: لا صوت يعلو على صوت الزلزال، وعلى توجيه كل الجهود من أجل إنقاذ حياة الناس وإغاثتهم.

غير أنه في تركيا، وفي سواها أيضاً، من الممكن أن يوظف كل شيء في السياسة، حتى كارثة الزلزال، خصوصاً مع الكلفة البشرية العالية، فضلاً عن فداحة الخسائر الاقتصادية والمادّية التي تقدّرها أوساط تركية بأكثر من 84 مليار دولار، والتي وضعت تركيا في حالة اقتصادية حرجة جداً، وبحاجة إلى مليارات الدولارات التي لن تسدّدها المساعدات الدولية.

جاء تسييس حدث الزلزال على خلفية سعي كل أحزاب المعارضة والحكومة لتوظيف إرهاصاته وتبعاته لصالحها، وذلك مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في تركيا، حيث أشرف الرئيس أردوغان بنفسه على إدارة عمليات الإنقاذ والإغاثة من مقر هيئة الإغاثة والطوارئ التركية، وإعلان أعداد الضحايا والمصابين، وكيفية سير عمليات الإنقاذ والإغاثة، ووعد ببناء جميع الأبنية التي تهدّمت خلال عام، وتعويض المتضرّرين مادياً، بينما ذهب معظم وزراء الحكومة وقيادات حزب العدالة والتنمية إلى أغلب المدن والمناطق التي ضربها الزلزال، وكذلك فعل قادة أحزاب المعارضة، خصوصاً قادة أحزاب الطاولة السداسية، الذين سارع بعضهم إلى الحديث عن تأخر عمليات الإنقاذ والإغاثة، وتقصير الحكومة، وسوء إدارتها الأزمة، والفساد في ملفات البناء والمناقصات وسوى ذلك.

الكارثة التي خلفها الزلزال كبيرة، ومؤلمة، وعجزت إمكانات الدولة التركية وقدرتها عن التعامل السريع معها، بالنظر إلى أنه أصاب عشر ولايات تركية، فضلاً عن مناطق شمال غربيّ سورية، وامتدت آثاره المدمّرة على مسافة 500 كيلومتر، لذلك طلبت الحكومة التركية مساعدات دولية، وفي الوقت نفسه، ركّزت جهودها على أولوية استكمال عمليات الإنقاذ والبحث عن المفقودين، وعلاج الجرحى والمصابين، وتوفير أماكن سكن مؤقت لملايين المشرّدين. لكن، بالنظر إلى هول الكارثة، سادت في البداية حالة من الارتباك في جهود فرق الإغاثة والإنقاذ التي لم تصل بالسرعة المطلوبة إلى جميع أحياء المدن والمناطق المنكوبة، حيث اشتكى ناجون ومتضرّرون عديدون من تقصير الهيئات الرسمية، وتأخّرها في الوصول إلى مناطقهم. وقد اعترف الرئيس أردوغان بحصول تأخير في سرعة الاستجابة، وأرجع ذلك إلى صعوبة الاستعداد لمواجهة كارثة طبيعية بهذا الحجم، فيما ذهب مسؤولون أتراك إلى تأكيد أن الأمر لا يتعلق بالتقصير الحكومي، بل إن هول الكارثة وضخامة قوة الزلزال، وامتداده إلى مناطق واسعة ومأهولة بالسكان هما السبب الأساسي في تأخّر فرق الإنقاذ والإغاثة في الوصول إلى بعض المناطق المنكوبة. أما في جانب المعارضة التركية، فقد حمّل رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، مسؤولية الفشل في إدارة أزمة الزلزال لأردوغان، واتهمه بعدم الاستعداد المسبق لها.

إذاً، تحولت كارثة الزلزال إلى فرصة للاستغلال السياسي من مختلف الأطراف، لكن تبعات الزلزال وإرهاصاته لم تتوقف على طرح ملف الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بل بدأت تلقي بظلالها على ملفات عديدة أخرى، من خلال طرح المعارضة أسئلة عن سرعة استجابة هيئة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، متهمة الحكومة بتعيين شخصياتٍ غير متخصّصة في رئاستها، إلى جانب ضعف استعداداتها، وقلة إمكاناتها، على الرغم من ضخامة الميزانية المخصّصة لها من الدولة، فضلاً عن مليارات الليرات التركية التي تأخذها الدولة من المواطن التركي عبر فرض “ضريبة الزلازل”. كذلك سارعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ في الولايات العشر التي ضربها الزلزال، وإلى فتح ملف الفساد في علميات البناء، حيث اعتقلت السلطات التركية أكثر من مائة شخص، ما بين مقاول ومتعهد بناء، وأنشأت مكاتب تحقيق في جرائم تتعلق بالفساد، على خلفية اتهامهم بالمسؤولية عن انهيار مبانٍ سكنية عديدة حديثة، نتيجة عدم تقيدهم بالمواصفات المطلوبة للأبنية المقاومة للزلزال. ومع ذلك، لم تُقنع هذه الإجراءات أحزاب المعارضة التي تريد توسيع دائرة الاتهام ليطاول مسؤولين في الحكومة، ومتواطئين معهم، داخل مختلف إدارات الدولة، على خلفية اتهامهم بالفساد الذي دفعهم إلى الموافقة على ترخيص أبنية مخالفة للمعايير، وكانت السبب في مقتل عشرات آلاف الأتراك وتضرّرهم جراء الزلزال.

تبدو الانتخابات العامة الملف الأكثر تأثراً بإرهاصات الزلزال في تركيا، بالنظر إلى اقتراب موعد إجرائها، الذي كان من المقرّر تقديمها إلى 14 مايو/ أيار المقبل، لكن هذا الموعد، بعد الزلزال، بات عرضة لنقاش التأجيل والتقديم بين الحكومة والمعارضة، وذلك في ظل التجاذبات الحزبية، والظروف الاستثنائية التي تمرّ بها تركيا جراء الكارثة. وذهب بعضهم إلى عقد مقارنة ما بين زلزال 1999، وإرهاصاته التي عصفت بحكومة بولنت أجاويد الائتلافية، وأبعدته عن الحكم بعد ثلاث سنوات، وزلزال 2023 وإمكانية انعكاس إرهاصاته على أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بالرغم من أن الأمر مختلف من حيث حجم الكارثة، وكذلك من حيث الظروف والأوضاع في تركيا، لكن في مطلق الأحوال، الأمر يتوقف على قدرة الحكومة التركية على التعافي، وتعويض المتضررين، والخروج من الكارثة بأقل الأضرار.

العربي الجديد

—————-

رفع العقوبات الأميركية والعقوبات الأسدية/ راتب شعبو

يكثر الكلام اليوم، عقب الزلزال الذي نكب سورية، عن محاولة نظام الأسد استغلال الكارثة لفكّ العزلة المفروضة عليه في العالم وفي محيطه العربي. ينصبّ الحديث الأساسي على أهم عناصر عزلة طغمة الأسد، وهي العقوبات الأميركية والأوروبية. من جانبه، يحاول بشار الأسد لغة جديدة نسبياً للتشجيع على فكّ العزلة، فيتكلم، في خطابه أخيرا، عن “الأشقاء العرب”، ويمتنع عن استخدام كلمة “الاحتلال” الأميركي أو التركي، كما يتكلم عن حوار سوري، ما يضمر (بعد كل هذا الخراب) اعترافاً بآخر سوري غير خائن وغير عميل ويجب الحوار معه.  

الواقع أن أهم ما تطمح إليه الطغمة الأسدية رفع العقوبات الاقتصادية، مستفيدةً من الأثر النفسي الذي خلفته كارثة الزلزال. عقدة هذا الموضوع تكمن في أن السوريين في الداخل أيضاً يتمنّون رفع العقوبات (نقصد العقوبات التي تؤثر على حياتهم)، وهو ما يفرض مناقشة هذا الأمر بعقلانية.

ما ينبغي التوقف عنده، في هذا الموضوع، محاولة الطغمة الأسدية جرّ معارضيها إلى الموقع الذي تختاره لهم، وهو موقع رفض رفع العقوبات التي تؤثر سلباً ليس فقط على مسؤولي النظام وزُلمه وزبائنه، بل تؤثر سلباً، أيضاً، على الاقتصاد السوري وعلى حياة السوريين. هدف طغمة الأسد أن تختزل الصراع كله في الموقف اللحظي من العقوبات، وأن تقطع، بالتالي، اللحظة الراهنة منه عن سياقٍ سابقٍ يفسّر سبب فرض العقوبات وسبيل الخلاص منها. ما تفعله، في هذا الصدد، طغمة الحكم في سورية هو نوع من الحرتقة السياسية التي تهدف إلى إظهار المعارضين لنظام الأسد بمظهر من لا يبالي بآلام السوريين في الداخل، ولا بالوضع البالغ السوء الذي صاروا إليه. هذا النوع من الاجتزاء أو “الحرتقة” يريد أن يقول إذا كنت تهتمّ بآلام الشعب السوري، عليك أن تنضمّ إلى حملة رفع العقوبات “الغربية”. بطريقة أخرى، على السوري الجيّد أن يهتم بما يفرضه الخارج على النظام من حصار أو عقوبات، من دون أن يكترث بما يفرضه النظام على السوريين من عقوبات ومن قتل وسجن وإغلاق البلاد على زعامة متفرّدة من دون أي أفق لحل سياسي قابل للحياة.

للوصول إلى هذه النتيجة، يقوم دعاة النظام بأمرين: الأول، ردّ بؤس السوريين كله إلى العقوبات، وهو ما لا تكفّ الألسنة الأسدية عن تكراره، الهدف هو إقناع السوريين ببراءة نظام الفساد والمحسوبيات والتشبيح والاحتكار وتهريب أموال السوريين إلى الجنات الضريبية في بنما وغير بنما، من بؤسهم وفقرهم. من دون أن يعني هذا إغفالَنا ما تسببه العقوبات من آلام للسوريين. والثاني، النظر إلى العقوبات وكأنها حالة معزولة، ولم يتم فرضها بناء على ممارسات إجرامية يقوم بها النظام وداعموه ضد السوريين. أهم قانون عقوبات مفروض على النظام السوري، نقصد قانون قيصر (2019)، يحدّد، في المادة 301 منه، سبعة بنود أساسية، من أجل رفع العقوبات، أهمها عدم استهداف السكّان المدنيين من خلال استخدام الأجهزة الحارقة من براميل متفجّرة أو أسلحة كيميائية وصواريخ ومتفجّرات، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين الذين يجري احتجازهم قسراً، وعدم استهداف المرافق الطبية والمدارس والأحياء السكنية والأسواق، والعودة الآمنة والطوعية والكريمة للسوريين الذين شرّدهم النزاع، ومساءلة مرتكبي جرائم الحرب في سورية والمشاركة في عملية حقيقية وموثوقة للحقيقة والمصالحة.

العقوبات متنوّعة ومتعدّدة المستويات، ومن الضروري التمييز بين عقوباتٍ تحدّ من قدرة النظام على البطش بمعارضيه، وتستهدف مسؤوليه ورجاله وزبائنه (هذه عقوبات لا ينبغي طمس طبيعتها المحقّة بدمجها مع بقية العقوبات)، وعقوباتٍ تخنق الاقتصاد وتمسّ بصورة أكبر حياة الناس. ولكن صحيحٌ أيضاً أنه لا يمكن، في الواقع، تخيّل عقوبات “ذكية” إلى حدٍّ لا تنعكس معه سلباً على حياة الناس، وبصورة خاصة في ظل استبدادٍ معمّرٍ يضع يده على اقتصاد البلد ويؤسّس لنفسه أنه أبدي، استبدادٍ يلتفّ على المجتمع، كما تلتفّ أفعى على ضحيتها، فلا يمكنك أن تستهدف الأفعى من دون أن تؤذي الضحية.

نعلم أن العقوبات لا تُسقط هذا النوع من الأنظمة، بل ربما تزيدها بطشاً ونزوعاً احتكارياً وتحيل المجتمع إلى جسدٍ منهك، كما بيّنت التجربة في العراق أو في كوريا الشمالية. ونعلم أن هناك إجراءاتٍ أكثر فاعلية بكثير من العقوبات الاقتصادية، إذا كان ثمّة إرادة جادّة لمساعدة السوريين على تغيير النظام الأسدي، أو لفرض الحل السياسي الذي أقرّه مجلس الأمن منذ خريف 2015، ونعلم أن العقوبات الاقتصادية المفروضة تتسبّب في زيادة معاناة الناس داخل سورية. أكثر من ذلك، نعلم أن العقوبات مع الزمن تُضعف الطاقة والتطلع الديمقراطي في المجتمع، لأنها تنهك المجتمع، وتُضعف الطبقة المتوسّطة التي تشكّل الحاضنة الأهم للمطلب الديمقراطي. ونعلم أيضاً أن العقوبات لم تُفرض بقرار سوري، ولا تُرفع بقرار سوري، فهي أولاً وأخيراً جزءٌ من سياسة دول كبرى لا نعتقد أن القيم الديمقراطية هي محرّكها الأساسي، وإلا لما متنا كل هذا الموت، ولا كنا في الحضيض الذي نحن فيه اليوم.

مع ذلك، ليس من الحرص المطالبة برفع العقوبات، بهذه العمومية التي تشمل العقوبات المفروضة بحق مجرمين وبحق أصحاب قرارات إجرامية، وبالتعامي عن الأسباب التي أدّت إلى فرض هذه العقوبات، ومن دون اكتراث بالعقوبات التي يفرضها نظام الأسد على محكوميه، ولا سيما منهم الذين يموتون في السجون (هل العقوبات الغربية هي المسؤولة عن بؤس عشرات آلاف السوريين في السجون؟) والذين يعيشون في بلدان اللجوء محرومين من العودة إلى بلدهم تحت طائلة السجن أو القتل، ومحرومين حتى أن يدفنوا في بلادهم إذا ماتوا. المطالبة برفع العقوبات الغربية من دون انتباه إلى العقوبات التي يفرضها نظام الأسد على سورية كلها حين يصرّ على استمراره في التفرّد بالحكم على منواله السابق، ويرمي باللعنة كل من يعارضه، هي مطالبةٌ مجزوءةٌ فيها إدارة ظهر للسوريين بقدر ما يبدو فيها حرص عليهم وتضامن مع آلامهم.

على الحريصين أن يطالبوا برفع كل العقوبات التي تُثقل على حياة الشعب السوري، رفع العقوبات الغربية والعقوبات الأسدية معاً، في هذا اتّساقٌ مع المنطق ومع الأخلاق، وفيه تضامنٌ فعلي مع الشعب السوري.

العربي الجديد

————————–

بين زلزالين/ عزيز تبسي

مرَّت أحد عشر عامًا لم نستحوذ فيها على وسيلة قياسٍ كمّي لعذابات السوريين، كما استحوذ خبراء الزلازل على وسائل معرفة درجات اهتزازات الأرض. إذْ اخترقَ الرصاص صدور السوريين العارية، وانهالت مئات البراميل على رؤوسهم وبيوتهم، ومزّقت مدينتهم القديمة تفجيرات أنفاقٍ تم حشوها بأطنان الديناميت، وعبرت صدورهم فيروسات كورونا وأمعاءهم جراثيم الكوليرا.

سكنوا بيوتًا آيلةً للسقوط، بيوتًا لم يُكْتمَل بناؤها. استضافتهم خيم وشوارع وحدائق، ورمتهم كارثتهم المستمرة في عراءٍ لا ينتهي. تاهوا في بلدانٍ وأنهارٍ وبحارٍ لم يروا خرائطها إلا في كتبهم المدرسيّة. أحد عشر عامًا أوصلهم من أرادوا تحطيمهم وإنهاكهم وتجاهل آلامهم، إلى قاع الهاوية. كل ما حولهم وبينهم يعزّز الأركان القاتمة لليأس.

وقفوا، حيث يجب أن يستريحوا، خلف طوابير الخبز وأمام صيدليَّات لا يملكون ثمن أدويتها، ليعودوا قبل المساء إلى بيوتٍ بلا إنارة. لا يحتاجون لاختبار فجر 6 شباط/ فبراير، ليدركوا المصير الكارثي الذي وصلوا إليه. علّمتهم تجاربهم أّن من استخفّوا بالأحياء سيستخّفون بالموتى. كما علمتهم مصائر آلاف المسجونين والمفقودين، أنّه أهون عليهم الموت تحت ضربات الزلزال. ظلّوا واقفين على ساقين ضامرتين، أو على ساق واحدة، ليكملوا مسيرة، أمسَت من مجازات الحياة.

تكبرُ أمامهم الكارثة التي تتجدّد، وتنهل من العطالة الاجتماعيّة والسياسيّة. أغمضوا عيونهم وأغلقوا عقولهم عن مهمّةٍ تأسيسيّةٍ لا يمكن الفرار منها، وإدارة الظهر لها، لا تلك المُدرجة تحت عيش الكارثة لتحويلها إلى بكائيّات ودموعٍ، بل وعي تجربتهم وسبر أسبابها ونتائجها التي تتراكم كل يوم، لتجاوزها وطمرها تحت أنقاضها، لا انتظار ركامها المتهيّأ لطمرهم من جديد. إذ لا تقاس إنجازات الشعوب بالتضحيات المهولة التي تقدّمها، والتي تجاوزت بتجربتنا طاقة الشعب السوري، إن لم تُواكَبْ بوعيٍ ثوريّ متجدِّد. لهذا ظلت تضحيات الشعب السوري رهينة عماءٍ سياسي، هيمنت عليه قوى ثورة مضادّة، انتحلت أزياء الثوار، وعجزت عن القيام بممارسة ثوريّة واحدة.

عرفت تجارب الشعوب مئات الانتقاضات المهزومة. رغم ذلك انتصرت قيمها الثورية والأخلاقية. تداخلت في تجربتنا الهزيمتان الثورية والأخلاقية، حيث توازت قوائم جرائم المرتبطين بأجهزة المخابرات المتعددة ومصالح دولهم، مع قوائم النهابين والمرتشين، ودبّجوا الكتابات الطائفيّة والعنصريّة، إذْ شكّلوا اتّحادًا من القوى المضادّة للثورة على امتداد أزمنتها وتحوُّلاتها.

لا يجدي الهروب من تغيير قوانين السلطة وآلية الحكم، وهي قابلةٌ للتغيير كما أثبتتها كلّ تجارب الشعوب والمجتمعات، إلى ما لا يمكن تغييره في قوانين الطبيعة. كأن توقف الطبيعة زلازلها تحنُّنًا وترحُّمًا علينا، وعلى فساد تجار العقارات ومن يقذفون البراميل ويحفرون الأنفاق. لا نستطيع أن نطلب من الطبيعة أن تجمع فصولها الأربعة بفصل ربيعٍ دافئ، لتجنّبنا الهروب من حلول برد الشتاء ولهيب الصيف.

ولأنّنا نراوح بمكاننا منذ قرن، مُنِحْنَا فيه أكثر من فرصة تاريخية للتحرر وبناء دولة ديمقراطية باستراتيجيّات تنمويّة لصالح الطبقات الشعبيّة، أطاحت بها سلطات ما بعد الاستعمار، نحن الآن أمام المفترق التاريخي من جديد، ستتكّفل قوانين الطبيعة بإخراجنا من الجغرافيا، كما تخرجنا السلطات الغاشمة من التاريخ. كانت بلاد الشام مقبرة للحضارات، فمن يذكر اليوم شعوب المدن المهجورة: البتراء وتدمر وبصرى وبعلبك وقنسرين وأفاميا، الغافين في ذاكرة عميقةٍ تلامسُ النسيان. صحيحٌ فعلًا أننا الآن “لسنا شيئًا، لكننا نرغب بأن نكون كل شيء”. وعرٌ ومؤلم طريق وعي التجربة ونقدها، لكنه الوحيد الذي يفضي إلى الخروج من هذا النفق التاريخي المظلم.

أنينٌ من تحت الرّكام

نحدّق في الأرض، لا للومها على ما أخفته عنا، بلْ لأنّنا لا نستطيع النظر في وجوه أخوتنا. وننصت إلى أصوات أعماقها، علّنا نسمع أنين من ينادون بأسمائنا من تحت الركام المتهاوي على صدورهم. ونلوم أنفسنا على تقاعسها، لو استطعنا جسّ نبضها كما لو أنّه وريدٌ محقون بدمه، علّنا نسعفها قبل انفجار قلبها. ما من قوّةٍ تستطيع إيقاف الزلزال، ونحسبُ أن البشريّة راكمت المعارف العلميّة والخبرات التاريخيّة، للحدّ من آثاره، بمراقبة أمان الأبنية، وفرض شروط السلامة على تراخيص إنشاء الأبنيّة الجديدة، والتوسُّع في الأبنية القديمة. والأهم قبل ذلك، تحييد المدنيين في الصراعات الحربيّة، والأماكن الحيويّة لديمومة حياتهم، كبيوتهم ومعاملهم ومزارعهم وورشاتهم المتوسّطة والصغيرة.

أفضى كلّ ما حصل إلى تحطيم الأساس المادّي لاستمرارهم في الحياة، أي الإلغاء الممنهج أو العشوائي لوجودهم، والذي تفصح عنه الأرقام المتصاعدة لأعداد المهجّرين والعاطلين عن العمل والمتسوّلين، والذين يعيشون على الإعانات الماليّة التي يرسلها ذووهم من الخارج.

لا يمكن أن نتناسى أّننا أمسينا في ثلاث دول، سلطات تقاسمت الجغرافيا السورية وأهلها ومواردها، ما أضاف إلى الكارثة كوارثَ أخرى. هيَّأت الكارثة فرصة للتعبير ولتعزيز وحدة آلام ومصائر الشعوب التركيّة والعربّية والكرديّة. لكنها لم تستطع أن تردم الانقسامات، والتي تتزايد بين المجموعات الحاكمة. المجموعات العسكريّة وضعت مصالحها الضيقة فوق عذابات الشعب، بعد أن أخذوه رهينة للمساومة على إنقاذه وإسعافه، كما على طعامه وأدويته وسكنه. علينا أن نصدّق من أدْخَلَوا بلا استئذان آلاف المقاتلين والدبابات وحاملات الجند والصواريخ والمدفعية، أنهم ينتظرون الموافقات الدولية لإدخال سيارات الإسعاف والطواقم الطبيّة والطحين والحليب والأدوية.

إن كان من الصعوبة لشعب متّحد أن يواجه كارثة طبيعيّة، إلا بمزيد من الاتّحاد والعمل والصبر والتضحية، فإنه من الاستحالة على شعبٍ مُفكّك أن يواجه ما هو أدنى من كارثة طبيعيّة. ستستمرُّ الهزّات الارتداديّة لسنة وربما أكثر، ستطمرُ تحت أنقاضها أناسًا جددًا من الذين يسكنون بيوتًا متداعيةً وآيلةً للسقوط. وهناك إنذارات جدية، تشير إلى تصدُّعات السدود التي ستغرق بانهيارها عشرات القرى والحقول. وهناك تشقُّقات الجسور والطرقات، والتي ستضع الناس أمام مخاطر التنقّل. كلّها إشاراتٌ لتجدّد الكارثة. وهناك الصراع السياسي المتحول إلى صراع عسكري باستقطابات إقليمية ودولية. استقطاب أُنتِجَتْ في سياقه حزمة متراصّةٌ من خطابات الكراهيّة والأحقاد، نهلت من مزابل التاريخ ومستنقعات الثقافات الظلامية المتهافتة.

استسهلت السلطة وأعوانها إعطاء الدروس في أسباب الموت، وما يتلوه من عذابات القبر، لكنّها فشلت في إعطاء الناس درسًا واحدًا في أسباب الحياة وكرامة العيش. عَلِمَ السوريّون أنّه لا أحد ساعدهم سوى أهلهم الذين تقاسموا معهم الخبز والبرغل. وذهبوا معًا إلى الأسواق لشراء مساعدات الإغاثة. منكوبون يجمعون التبرعات لمنكوبين، مهجرون يتقاسمون بطانيتهم وألبستهم مع من لم تزفّ ساعة تهجيرهم. ولصوص يغيثون لصوصًا.

ضفة ثالثة

—————–

الزلزال فرصة سياسية/ بشير البكر

يجب أن تحصل كارثة طبيعية مثل الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية في السادس من فبراير/ شباط الجاري، كي يحسّ السوريون بمقدار الوجع، ويفتحوا عيونهم على حقيقة ما هم فيه. لقد أصابتهم على نحو مضاعفٍ كل الكوارث التي شهدتها المنطقة خلال العقد الأخير، ولم يتزحزح وضعهم، بل هو يسير إلى الوراء. لا تكفي الضربات اليومية التي تنهال عليهم كي يشعروا بالألم، لقد تعوّدوا هذه الحالة المأساوية، وتعلّموا التعايش مع التراجيديا، تلقّوا براميل رئيس النظام بشّار الأسد والأسلحة الكيميائية ودمار حلب وحمص وحماة ودير الزور والرقّة ودرعا وإدلب، وهناك ضربات أخرى. ومع كل ضربةٍ يعدون من الصفر، ولم يعد يفرق معهم إذا نزلوا درجة أخرى في الكوارث، طبيعية كانت أم غير طبيعية.

وفي كل مرّة يواجهون موقفا صعبا يفتحون مجالس عزاء من أجل شكوى الحال، وشتم رئيس النظام بشّار الأسد والروس والإيرانيين، وينتقدون التقصير الدولي والعربي والتمييز والكيل بمكيالين، ولا يتركون مظلمةً إلا ويرفعونها، ولكنهم عاجزون عمّا يجب أن يقوموا به. يضعون أنفسهم في موقع الضحية ويكتفون بذلك، ولا يفتحون دفاترهم المختومة بالشمع الأحمر، التي تغطّي على أسباب الهزائم السياسية والعسكرية التي لحقت بالثورة السورية. ينعون ضعفهم وتقصير العالم عن مساعدتهم، وهذا أمرٌ لا جدال فيه، إلا أنهم لا يواجهون الواقع كما هو، ومن ذلك الجيوش العاطلة من العمل في المناطق التي يسمونها “المحرّرة”، وهي فصائل عسكرية لو كان قرارها بيدها، لما صعُب عليها فتح معارك عسكرية تعيد وضع المسألة السورية في نصابها، وتُجبر الأسد وحلفاءه على الدخول في مفاوضات جادّة من أجل حل نهائي لسورية.

ويستدعي الأمر أيضا توافق الحكومتين اللتين تسيطران على “المحرّرة”، وهما الحكومة السورية المؤقتة التي تتبع للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في إسطنبول، وهي حكومة لا حول لها ولا قوة، ولا حضور مميّزا لها، وتعد أصدق تعبير عن العجز الذي أصاب الجسم السياسي للمعارضة، الذي تشكّل من أجل هدف لم يعد موجودا، وتحوّل إلى عنوان في إسطنبول للتغطية على الفشل وتبرير السياسات الدولية، وصار إعلان وفاته واجبا. أما الحكومة الثانية فهي تحمل اسم “حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) بقيادة أبو محمد الجولاني، وهي تشكل مظهرا من مظاهر التدهور السوري، وغير أنها تكتم أنفاس الناس الذين يعيشون تحت ادارتها، فهي في نظر العالم بؤرة للتطرّف، وهي، في جميع الأحوال، تثير لدى السوريين نفورا بالقدر الذي تحاول فيه أن تبيّض صفحتها أمام المجتمع الدولي، من خلال التعاون في مجال مكافحة الإرهاب ومطاردة “داعش” والمتطرّفين من “القاعدة”. ويجب ألا ننسى أن ثلث سورية تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية”، تحت اسم “الإدارة الذاتية”، بدعم أميركي تحت ذريعة الحرب على “داعش”. وقد ظهر خلال كارثة الزلزال أن الحدود بين هذا الجزء من سورية أقوى منها بين مناطق النفوذ الأخرى.

وحتى لا نقع في السوداوية المطلقة، لا بد من الإشارة إلى ظواهر إيجابية تستحق التثمين والأخذ بها مثلا على ما يجب أن يقوم به السوريون من أجل إصلاح أحوالهم، ومنها منظمة الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) التي أدت دورا مهما في مواجهة كارثة الزلزال، ولولا وجودها لكانت الأضرار أضعافا مضاعفة. وقد شهد كل السوريين الذين أصابتهم المأساة أن وجودها كان العون الوحيد المادي والمعنوي. وما تقوم به هذه المنظمة ليس مستحيلا، بل هو أمر عادي في ظروف استثنائية، إذا توفرت إرادة صادقة، وهذه هي كلمة السر وراء نجاح الدفاع المدني الذي يجب أن يتمسّك به السوريون، ويعزّزوه ويبنوا عليه وينسجوا على غراره مؤسّسات تعيد تأسيس وضع سوري جديد في الشتات والداخل.

المدن

——————————–

اللحمُ السوريّ على مائدة “الأسد إلى الأبد”/ عبير نصر

بحيادٍ مجلّلٍ بالصمت والترقّب، تابع السوريون الكيفية التي شكّل بها “الأسد الأب” جمهورية الصمت والرعب والقهر، مستنداً إلى رواية جماعية لمظلومياتٍ مُضخّمة ومتوارثة، لا تفتأ تذكّر الأجيال المتعاقبة بها، كي تحفّز لديهم الشعور الدائم بالخطر، فيما إذا فكّروا أن يتخلوا عن عصبيتهم الطائفية في مواجهة “الآخر”. انطلاقاً من هذا الاستعداد النفسي والأخلاقي لتسويغ كلّ الخروقات والجرائم التي تُرتكب باسم العائلة الحاكمة، ومن أجل حمايتها، يغدو أي تعارضٍ مع المصلحة الوطنية مشروعاً ومباحاً، بل ومباركاً أيضاً.

وعلى مدى عقود ثلاثة قضاها حافظ الأسد رئيساً على سورية، يقول صالح القلاب، وزير الثقافة ووزير الإعلام الأردني الأسبق في وصفه: “إنه كان ناعم الملمس وشديد التهذيب، وافر الأناقة وطويل البال، وعندما يريد التخلّص من خصومه فإنه يأكلهم بالشوكة والسكين”. في المقابل، فإنّ سياسة “اللعب على الحبال السياسية” التي احترفها “الأسد الابن”، الرجل الضعيف، (أو كما يُنظر إليه)، تعطيه القدرة على التمسّك بالعرش، بالطريقة نفسها التي يمكن للحاكم القوي الإمساك بكل مفاصل القوة، فقد تعلّم بشار الأسد فنّ أكل اللحم السوري على طريقة أبيه، عبر تحويل مظاهر العجز ومطبّات الأزمات الملتهبة إلى أرصدة قوية للنجاة.

وعليه، وخلال الحرب السورية الطاحنة، بدت رؤية بشار الأسد إلى الشعب السوري هي رؤية أبيه المتطرّفة ذاتها. وبابتسامة باردة مترفعة، ترافقه أنّى اتجه، يتناول ولائمه البشرية بصمتٍ مريب، لا يوفر وسيلة لحماية كرسيه. وفي الحقيقة، ما زالت الوسائل نفسها حين أطلقت قوات “الأسد الأب” النار على أول مظاهراتٍ اندلعت بعد استيلائه على الحكم خلال أحداث الاحتجاج على دستور 1973، والذي فصله على مقاسه ليتوَّج بفضله “ربّ السوريين الأعلى”، ما زالت نفسها حين ارتكبت مجزرة حي المشارقة في حلب، صبيحة عيد الفطر عام 1980. وفي العام نفسه، حين ارتكبت مجزرة جسر الشغور، وسُحل شبان المدينة في الشوارع، بعد ما رُبطت أجسادهم بالسيارات العسكرية عشية عيد الأضحى، ما زالت نفسها حين ارتكبت مجزرة حماه الكبرى عام 1982، وهُدم ثلثا المدينة، ثم أجبر الأهالي أن ينظفوا الشوارع من دماء أبنائهم، وأن يعيشوا سنوات الانتظار المرّ بحثاً عن آلافٍ آخرين، اقتيدوا إلى المعتقلات، وظلّ مصيرهم مجهولاً…

البدايات خدّاعة.. فمن المجحف الجزم مسبقاً بأنّ “الأسد الابن” لا يملك المؤهلات القيادية، أي بعبارة أخرى ليست لديه شخصية والده الصلبة، في وقتٍ أثبت فيه أنه أكثر شراسة وسادية وخبثاً منه. ففي عام 2013، على سبيل المثال، اقترب الأسد من خط النهاية، حيث بدا أنّ كلّ التكهنات قد بدأت بالتحقّق، بعد خسارته مناطق شاسعة من سورية، والكثير من الشرعية الدولية. وكانت الولايات المتحدة تخطو نحو دعم الثورة بشيءٍ أكثر من الكلام، ثم جاء هجوم غاز السارين واجتياز خط أوباما الأحمر، عندها برزت مواهب الأسد الخفية، خصوصاً نفسه الطويل في فنّ المراوغة وكسب الوقت، بدلالة أنه، وعندما طلب منه العالم التخلّي عن أسلحته الكيميائية، نفّذ ما طُلب منه، وعندما أمره بوقف الحرب الأهلية بدا مستعدّاً للمشاركة في مؤتمر جنيف، وفي نيته أن تبقى الأمور معلّقة، وللأسف حصل ما أراده تماماً.

ومثلما قيل في مقالة تحدثت عن الجاسوس الإسرائيلي إيلياهو كوهين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، النظام السوري هو “أسد يهوذا الرابض على بلاد الشام” لحماية الدولة العبرية وتنفيذ وظائف محدّدة، فالنظام ما انفكّ يلعب بحرفية على وتر المقاومة والممانعة، هرباً من الاستحقاقات الداخلية، ليثبت، يوماً بعد آخر، زئبقيته في التعامل مع الوقائع مهما بلغ تأزمها، وعليه، ما إن حلّ بالسوريين ما حلّ بهم جرّاء الزلزال الذي ضرب البلاد أخيراً، حتى تفتّق ذهن الأسد، كعادته، عن استغلال المأساة ليجيّرها لصالحه. فمن قتل مليون سوري، ودمّر بلاداً بأكملها، هل يأبه لموت آلاف عدة من السوريين، وتدمير أبنية لا تعادل 1% مما دمّره؟

واليوم يأتي الزلزال المدمّر في وقتٍ لا تزال فيه المعطيات الكارثية قائمة بالنسبة للأسد، مع انهيار الاقتصاد وزيادة العقوبات الأممية، ومضاعفة إيران سعر إمداداتها النفطية، والمطالبة بالدفع المسبق. لسوء الحظ، تأتي الكارثة لتشكّل قشّة النجاة الأخيرة، المؤكد أنها ستنتشل الأسد من المستنقع الذي يتخبّط فيه، لذا يبدو الأخير مستميتاً للاستفادة من المساعدات الدولية الموجهة إلى السوريين، بينما يضع نفسه حلّاً للمشكلات الشرّيرة التي أوجدها، من خلال تقديم تنازلٍ بسيط بالسماح بدخول المساعدات إلى شمال غرب سورية، حيث مناطق المعارضة، وعبر أكثر من معبرٍ حدودي، ثلاثة أشهر.

لدى بشّار الأسد المنبوذ منذ أكثر من عقد، الآن سببٌ وجيهٌ للشعور بالثقة مرّة أخرى، فقد تلقى اتصالات تعزية من حلفائه، كما من الرؤساء الذين نبذوه سابقاً، كالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. يعزّز ثقته هبوط أكثر من 60 طائرة تحمل مساعدات دولية في مناطق النظام، ليأتي وزير الخارجية، فيصل المقداد، ويعزف على سيمفونية رفع العقوبات التي، وحسب قوله، تزيد من صعوبة الكارثة. الهلال الأحمر السوري، بدوره، دعا إلى رفع الحصار، وكذلك مستشارة الأسد، بثينة شعبان، وأيضاً فنانون موالون، وكأنها جوقة معدّة سلفاً، أعطى المايسترو الإشارة لتبدأ عزفها، على وقع زيارة الأسد أطلال الزلزال ضاحكاً سعيداً، وهو يدرك، ضمنياً، أنّ الزلزال هبة من السماء ستفكّ الحصار عنه، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس الأميركي، بايدن، إعفاء أي معاملات متعلقة بجهود إغاثة ضحايا الزّلزال من العقوبات، 180 يوماً، وهذا بالضبط ما كان يبحث عنه الأسد ليفكّ عزلته، ويشجع الدول العربية للتطبيع معه. وبدأت النتائج تتكشف بالفعل بعد الزيارة التي قام بها الأخير إلى عُمان، والتقى خلالها السلطان هيثم بن طارق، في أوّل رحلة خارجية بعد الزلزال الكارثي، لبحث القضايا العربية والإقليمية، وتدعيم العلاقات بين البلدين.

في هذا الوقت، ألقت صحيفة فاينانشال تايمز الضوء على محاولات الأسد المفضوحة لإعادة تأهيل نفسه على مسرح السياسة الدولية من بوابة الزلزال والمساعدات، محذّرة من محاولته استغلال الكارثة لفرض نفسه أمراً واقعاً. وذكرت، في تقريرٍ أشار إلى سلوكيات الأسد الوضيعة: “إنه ديكتاتور من نوعٍ خاص، يستخدم زلزالاً مميتاً لإعادة تأهيل نفسه مع المجتمع الدولي في أثناء التقاط الصور في منطقة منكوبة مع زوجته”، وختمت مؤكّدة أنه لا ينبغي نسيان السوريين أو تقديمهم ذبيحة في تنازلاتٍ متسرّعة، لأنّ المنطقة برمّتها قد أنهكها عناد نظام الأسد.

فعلياً، حجم الكوارث التي ارتكبها النظام السوري أكبر بكثير من تداعيات الزلزال أخيراً. بالتالي، من المعيب أن تتحوّل هذه الكارثة المأساوية إلى فرصة ذهبية لإنقاذ هذا النظام المنتهي أخلاقياً وسياسياً ووطنياً. نظام قتل وشرّد الملايين من الشعب السوري من أجل الحفاظ على سلطته، واليوم يحاول استغلال كلّ ما لديه من نفوذ وعلاقات خارجية ودولية، واستثمارها على حساب دماء الضحايا، في وقتٍ يتفق فيه السوريون، وبكل أطيافهم ومكوناتهم، أنهم عاشوا نصفَ قرن في ظلّ نظامٍ همجي لا يصلح لحكم زريبة حيوانات، وليس لحكم بشرٍ توارثوا حضارة سبعة آلاف سنة. بشر تُؤكل أحلامهم كما لحومهم بالشوكة والسكين على طاولة “الأسد إلى الأبد”.

العربي الجديد

———————————–

مؤيدو الأسد من رامي مخلوف إلى الزلزال/ رانيا مصطفى

كتب رامي مخلوف، رجل الأعمال السوري وابن خال الرئيس السوري، منشوراً على “فيسبوك”، ألبس فيه نفسه ثوب القداسة والخير، وادّعى امتلاك بصيرة الأنبياء، متنبئاً بحصول زلزال جديد مدمّر في سورية. كانت ردود أفعال الشرائح التي أيدت النظام لافتة، من حيث استهجانها شخصية مخلوف، وسخريتها من كوميديّتها من جهة، ومن سوداوية الحال السوري المتأزم معيشياً، والذي كان مخلوف، في مرحلة سابقة، أحد مسبّبي هذه الحال. تناولت الصفحات والمواقع المقرّبة من الحكومة منشور مخلوف، ربما لتحميله وحدَه كل أسباب الفساد والسرقة، بعد أن طردته العائلة الحاكمة، في 2018، من ملكوتها الاقتصادي، بينما كان من المحظور تناول اسمه في السابق، وقد كسر متظاهرو 2011 هذا الحظر بشعاراتٍ ولافتاتٍ نعتته بـ”الحرامي”، لما كان يرمز له حينها كحوت نيوليبرالي، يمثل الوجه المافيوي الاقتصادي للنظام.

لم يدرك القائمون على السلطة في البيت الحاكم مدى تأثير ظهور مخلوف العلني بفيديوهات على الشرائح المؤيدة للنظام، والتي طرح من خلالها خلافه مع العائلة، لأنه سمح بتناول دور العائلة الاقتصادي، وتحميلها مسؤولية الفساد، خصوصا ما تقوم به السيدة الأولى عبر سيطرتها على قطاع الأعمال الخيرية في البلاد. وتصاعدت تلك الانتقادات مع تفاقم الأزمة المعيشية، ما دفع الحكومة إلى إصدار قانون “الجرائم المعلوماتية” في 2022، لمراقبة ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ويواصل النظام التضييق على الفنانين المؤثّرين، واعتقال الصحافيين والناشطين المؤيدين بسبب انتقادهم الحكومة. بذلك، تمكّن النظام من إعادة إحكام السيطرة على المجتمع، لكنه لم يستطع أن يمحو تأثير الظهور العلني للشرخ العائلي في السلطة في معركة الصراع مع رامي مخلوف على نهب ما في جيوب الناس، وأن شرائح واسعة من الموالين قدّموا أرواح أبنائهم فداء لبقاء تلك العائلة في الحكم، وليس دفاعاً عن وحدة الوطن ضد عدوٍّ متخيّل مركب ما بين التآمر الخارجي والصهيونية والتطرف الديني.

إذا كان الصراع العلني ضمن العائلة قد هزّ الشرائح الموالية للنظام، فإن كارثة زلزال 6 فبراير/ شباط الجاري، وطريقة تعاطي الحكومة معها، قد صدّعتا تلك الشرائح؛ فعشية الزلزال، كان هناك انهيار دراماتيكي جديد في قيمة الليرة السورية، وتضخّم وارتفاع في الأسعار، فيما تعالج الحكومة ذلك كله بمزيد من الضرائب، إضافة إلى الإتاوات التي تفرضها المليشيات المختلفة الداعمة للنظام على حركة نقل البضائع في الداخل، والتي يدفعها التجار الصغار والمتوسطون، وبالتالي، هناك حالة ضيق عامة. سيطر النظام، وعبر دوائره الحزبية والنقابية، والمؤسسات غير الحكومية التي تشرف عليها السيدة الأولى، وعلى مرأى الجميع، على عملية توزيع الإعانات المقدمة للمتضررين، وكل تلك الدوائر غير موثوقة من الشعب، وهناك حالات سرقة مثبتة؛ وفي حين أن كمية التبرّعات القادمة من دول عربية كبيرة نسبياً، حسب ما تورده الصفحات المقرّبة من النظام، إضافة إلى تعليق الإدارة الأميركية والأوروبيين العقوبات التي تخصّ التحويلات المالية مؤقتاً، لم ينعكس على واقع العمل الإغاثي في الأماكن المنكوبة. فضلاً عن حجمٍ غير قليلٍ من التحويلات المالية القادمة من السوريين في الخارج لإغاثة أهاليهم في الداخل، والتي من المفترض أن ترفد خزينة الدولة بالعملات الصعبة. وكل ما سبق كان من المتوقع أن يحسّن من قيمة العملة السورية، وما حصل هو تذبذب في سوق العملة، ثم صعدت قيمة الدولار إلى أكثر من 7000 ليرة سورية، يضاف إلى ما سبق قرار الحكومة رفع سعر المازوت الصناعي في هذا التوقيت الحرج، وبالتالي، استمرار ارتفاع الأسعار.

في الغالب، العملات الصعبة القادمة من الخارج على شكل حوالات ومساعدات تُسيطر عليها شركات تحويل محدّدة، ولا تذهب إلى خزينة الدولة، بل إلى أطراف إيرانية، وهذا الافتراض الذي يتداوله السوريون يفسّر سبب عدم تحسّن قيمة العملة. استغلّ النظام حادثة الزلزال في الترويج، أمام المجتمع الدولي، لإمكانية المضي في مسار التطبيع معه، باعتباره يمثّل الدولة التي يقع على عاتقها إدارة أزمة ما بعد الزلزال؛ لكنه، في الوقت نفسه، عاجز عن القيام بهذا الدور، بسبب حجم الفساد الذي ينخر دوائره، وبسبب حجم التدخّل الخارجي، الإيراني خصوصاً، والذي بات يسيطر على قطاع التحويلات لتعويض نقص العملات الأجنبية التي تأتي إلى طهران، بسبب التضييق الأميركي أخيرا عليها في العراق.

باتت هذه الصورة واضحة أمام السوريين في مناطق سيطرة النظام، الموالين منهم والمشكّكين والحياديين وغيرهم، بأن النظام ليس أكثر من مافيا عائلية تسرق ما في جيوب السوريين بالشراكة مع داعميهم الإيرانيين والروس. والأزمة الإنسانية التي تسبّب بها الزلزال من ضحايا ومهجّرين كثيرين هي استمرار للأزمة التي بدأها النظام منذ 2011، من قتل وتشريد، ونهبٍ مستمر. لكن أزمة الزلزال هي الجديد، وتأثيرها لم ينته بعد، في ظل العجز الواضح للحكومة عن تقديم شيء للمتضرّرين، وفي ظل تضامن كبير بين السوريين، في كل المحافظات، في تقديم ما تيسّر من مواد إغاثية. هذا يعطي مؤشّراً إلى قدوم لحظة حرجة، من المفترض على النخب السورية المعارضة التقاطها وتقديم البرامج والحلول.

هذه النخب غائبة تماماً عن التقاط الحدث، كما كانت غائبة عنه في السابق، وبعضها انتظم في مؤسسات مكرّسة، كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والمجلس الوطني، ووضعت كل بيضها في سلة الطرف التركي، الذي وجد مصلحته أخيرا في مصالحة النظام، وإعادة اللاجئين السوريين، من دون حلّ سياسي. كانت هذه المعارضات، منذ نشأتها قبل الثورة، مفلسةً من أية برامج بنّاءة، وعجزت خلال الثورة عن بلورة رؤية واضحة سياسية واقتصادية واجتماعية، ولم تعالج مشكلة الموالين للأسد، بل صنّفتهم بالشكل الطائفي والمذهبي، في ما يخصّ العلويين وبقية الأقليات الدينية والقومية، تارة، وتارة أخرى بالشكل التخويني، في ما يخصّ أبناء المدن التي لم تشارك في الثورة، ولم تدرس أسباب ذلك التأييد، خصوصا ما يتعلق بالتخويف من الثورة بوصفها طائفية وسلفية ومرتهنة للخارج. فعلت المعارضة العكس، طبّقت تلك المقولة التي يريدها النظام، وحوّلت الثورة إلى فصائل إسلامية طائفية مرتهنة للخارج؛ فكيف سيكون بإمكانها امتلاك رؤية وطنية اليوم.

العربي الجديد

—————————-

الدستور السوري وحماية المواطن في الكوارث .. ولا يلتزم النظام/ عماد كركص

تكفل الدساتير في كل الدول، أو معظمها، حقّ الفرد على الدولة بالتعويض عن خسائره ومساندته في الكوارث الطبيعية، وحتى غير الطبيعية التي تصيب الدولة أو منطقة عيش فرد ومجموعة من الأفراد يتعرّضون للضرر الجسدي أو المادي، لسبب خارج عن إرادتهم، سيما في حالات الكوارث، كالزلازل والفيضانات والأعاصير وغيرها.

كما تتكفّل الدول بمواطنيها، أو غير القادرين على إعانة أنفسهم، في حالتي المرض والعجز. وكلا الأمرين، أو أحدهما، باتا مصيراً لضحايا كارثة الزلزال أخيرا في سورية. وباتت الأسئلة مطروحة بشأن خطط النظام السوري، الذي يمثل الدولة بشكل أو آخر، لتعويض المتضرّرين وإغاثتهم، هؤلاء المتضرّرون الذين يعدون ضمن النظام الضريبي للدولة في سورية يدفعون ما عليهم من ضرائب متعدّدة تفرضها الدولة السورية، بقوانينها ومراسيمها التي كثرت منذ العام 1970، أي مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، فباتت الدولة تقتسم، حرفيا، المواطنين بأرزاقهم بأشكال مختلفة.

لم يقدّم رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في الخطاب الوحيد الذي خرج به إلى السوريين بعد عشرة أيام من الزلزال، سوى الوعود والدعوة إلى الصبر والاحتساب، ودراسة، وليس إقرارا، بل دراسة صندوق دعم للمتضرّرين، لم يقر بعد، مع التلميح إلى أن هذا الصندوق يجب أن يملأ من التبرّعات المالية للدول، بعد أن ألمح إلى ضعف إمكانات النظام.

الدستور وحماية المتضرر

قال مدير رابطة المحامين السوريين الأحرار، وهي جهة حقوقية معارضة، مقرّها إسطنبول، الحقوقي والمحامي سامر الضيعي، لـ “العربي الجديد”، إن “الزلزال فضح هشاشة النظام السوري”. وشرح الوضع القانوني في مثل هذه الحالات والمطلوب من الدولة، بالقول إن الاتحاد الدولي للصليب الأحمر يعرّف الكارثة بأنها “اختلال خطير في أداء المجتمع، وهو ما يشكل خطرًا جسيمًا وواسع الانتشار يهدّد حياة الإنسان والصحة والممتلكات والبيئة، سواء كانت ناجمة عن حادثة أو من النشاط الطبيعي أو الإنساني، وسواء ظهرت فجأة أو نتيجة عمليات طويلة الأجل، ولكن مع استثناء النزاع المسلح”. وأشار إلى أن الدستور السوري لعام 2012 نصّ، في مادته رقم 41، على أن الدولة تكفل، بالتضامن مع المجتمع، الأعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية. وفي المادة 22 “تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليُتم والشيخوخة”.

وأوضح الضيعي أن المبادئ التوجيهية للقوانين الدولية للاستجابة في حالات الكوارث تأتي بالقيام على الصعيد المحلي بتيسير الإغاثة الدولية وتنظيمها في حالات الكوارث والمساعدة المقدّمة من أجل الإنعاش الأوَّلي، والتي اعتمدت في أثناء انعقاد المؤتمر الدولي الثلاثين للصليب الأحمر والهلال الأحمر في سنة 2008. وتدرج المبادئ التوجيهية توصياتٍ تعيد التأكيد على سيادة الدول ودور الجهات الفاعلة المساعدة. وفي المقابل، تبسط الشكليات القانونية والإدارية للدول من أجل الوكالات الأجنبية. وعلى الدول المتضرّرة تحمّل المسؤولية الأساسية في أراضيها عن الكوارث لتقديم المساعدة في مجالي الإغاثة والإنعاش، وعليها أن تعتمد أُطرًا شاملة قانونية وسياستية ومؤسسية، والتخطيط من أجل درء الكوارث والتخفيف من آثارها والتأهّب لها وتقديم الإغاثة والإنعاش التي تراعي بشكل تام الدور المساعد للجمعية الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. ولذلك يقع على عاتق الدولة واجب تعويض المتضرّرين من الكوارث الطبيعية ورعايتهم وتقديم العون لهم حتى. وتشمل هذه الرعاية تقديم المأوى والرعاية الاقتصادية والصحية والاجتماعية والقانونية والنفسية التي يحتاجها أي إنسان بعد تعرّض بلاده لكارثة.

عيوب قانونية

وبالنسبة للقانون الوطني في سورية، يفصل الضيعي أن فيه نقصا وعيبا تشريعيا في موضوعة الكوارث عموما، والزلزال خصوصا، فلم يتطرّق إليهما سوى في بعض مواد القانون المدني فيما يتعلق التزامات المنتفع في أثناء استغلاله العقار في حال هدم البناء نتيجة الكارثة، وفي قانون العقوبات ارتكاب الجرائم في أثناء ظرف الكارثة وتشديد العقوبة، والمرسوم التشريعي رقم 8 لعام 2021 لحماية حقوق المستهلك، والمرسوم رقم 114 لعام 2011 إحداث صندوق للتخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية على الإنتاج الزراعي والمرسوم التشريعي رقم 104 لعام 2011 قانون التعبئة العامة، وقوانين أخرى موزّعة بين القانون المدني وقانون العقوبات، لكنها لا تعالج بشكل مباشر كارثة الزلازل، إنما فيها فقرات ترتبط بموضوع القانون في حال حدوث الكارثة.

ويلفت الضيعي إلى أنه تم في عام 2004 إقرار القانون رقم 54، وبموجبه تم إحداث المركز الوطني للزلازل، وهو جهة علمية اختصاصية ومرجعية في مجال الدراسات والبحوث الزلزالية، مخوّلة بالقيام بأعمال الرصد الزلزالي بمختلف أنواعه على المستوى الوطني، وتوزيع معطياته ونشرها وفق ما تقتضیه الضرورة، إذ نصت المادة رقم 4 من القانون على دراسة تأثير الهزّات الأرضية على المنشآت والأبنية السكنية، واتخاذ الإجراءات المناسبة مع الجهات ذات العلاقة والمصلحة العامة.

ويقول إنه لا يخفى على أحد أن آلاف الأبنية في سورية قد تصدّعت جراء القصف الذي مارسه النظام السوري وآلياته العسكرية، وخصوصا في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة. وبموجب هذا القانون، وخصوصا بعد سيطرة النظام على هذه المناطق، يجب أن يتم فحص هذه الأبنية ومدى مقاومتها الزلازل وترميمها بما يتوافق مع المعايير العلمية، لكن النظام السوري، بدلا من ذلك، أصدر القانون رقم 3 لعام 2018، والخاص بإزالة أنقاض الأبنية المتضرّرة بغرض السيطرة على عقارات السوريين، وإصدار مخطّطات تنظيمية جديدة للمنطقة، يحرمهم من أملاكهم، ما جعل هؤلاء أمام خيارين. إما التوجّه إلى مناطق العشوائيات، وأغلبها مخالفة لنظام ضابطة البناء أو التوجّه إلى مناطق لم يصدر فيها قرار الهدم، ورشوة عناصر الحواجز العسكرية للسماح لهم بالسكن في الأبنية المتصدّعة أصلا بسبب الحرب. ولا أدل على ذلك من حدوث حالات هدم لبعض الأبنية قبل حدوث الزلزال في مناطق حلب، ما فاقم نتائج الكارثة بأضعاف عند حدوث الزلزال.

القوانين الناظمة للبناء في سورية

وعن مدى فاعلية قوانين العمران في سورية فيما يتعلق بالزلازل، يوضح الحقوقي الضيعي أن تعميم رئاسة مجلس الوزراء رقم 15/7884 لعام 2006 نصّ على المتطلبات والاشتراطات الإنشائية الواجب تأمينها لحالات ترخيص الأبنية واستكمال إنشائها، وميّز بين الأبنية الجديدة، فقد اشترط أن تخضع لمتطلبات اشتراطات “الكود العربي السوري” للخرسانة وملاحقه كالملحق رقم 2 المتعلق بتصميم المباني والمنشآت المقاومة للزلازل، المأخوذة من “كود البناء الموحّد الأميركي UBC-97. وتشمل هذه الفئة الأبنية قید إنشاء هیكلها، والأبنية أو قید الترخيص، وجمیع الأبنية المزمع إنشاؤها. وبالنسبة للأبنية القائمة، جاء في الفقرة د من التعميم أنه “في حال عدم كفاءة المباني المذكورة أعلاه لتحمل الحمولات الشاقولیة، یجب إعادة دراستها لتحمل القوى الشاقولیة والزلزالیة معا، وتدعیمها حسب الأصول”.

يقول أستاذ الحد من المخاطر والكوارث في جامعة كوليدج لندن، البروفسور ديفيد ألكسندر، لموقع بي بي سي “كانت الشدّة القصوى للزلزال عنيفة، ولكنها ليست كافية بالضرورة لهدم مبان جيدة التشييد”. ويعلق الحقوقي الضيعي على كلامه: “كلنا نعلم الفساد المستشري والرشى في مناطق النظام، ما يجعل هذه المعايير الواجب تطبيقها غير مطبقة، وهذا ما كشفه حجم الدمار والعدد الكبير للوفيات”.

ويزداد حجم هذه الكارثة في مناطق العشوائيات والمخالفات، فهي تجمّعات سكنية غير مرخّصة أو مخطّطة، ولا تتقيّد بنظام ضابطة البناء، فتكون في مناطق غير مُعدّة للبناء أصلا، لأنها مخالفة لنظام ضابطة البناء، والتي لا تتقيد أصلا بنظام ضابطة البناء، وهي معضلة بدأت منذ الثمانينيات بهجرة سكان الريف إلى المدينة. وساهمت القوانين والأنظمة الإدارية في ازدياد هذه المناطق، ويتهم سياسيون ومعارضون كثيرون، وحتى حقوقيون، منظومات الفساد داخل بنية النظام بأنها وفرت بيئة حاضنة لنشوئها، ما جعل حدوث الزلزال يشكّل أثرا كبيرا وكارثيا في هذه المناطق التي ضربها الزلزال. ويعلق الضيعي هنا: “مما سبق، نرى أنه سواء في المناطق المفروض أن تتقيد بنظام ضابطة البناء في الأبنية التي تصدّعت بسبب الحرب، أو التي لم تتعرّض للقصف أو في مناطق العشوائيات التي لا تتقيد بنظام ضابطة البناء، بسبب فساد المؤسّسات والأجهزة الحكومية للنظام السوري. وكانت النتيجة أن تكون الفاتورة مضاعفة في الممتلكات والأرواح، بدلاً من تخفيف المخاطر من النتائج المتوقعة لحدوث الزلزال.

آليات النظام للتملص من الإجراءات الدستورية

يذكر الضيعي أن المادة 41 من الدستور السوري تنص على أن الدولة تتكفّل بالتضامن مع المجتمع بالأعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية. وقد صدر القانون رقم 15 لعام 2008 الخاص بإحداث الهیئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري. ونص في المادة 14 وفقرته الرابعة على أن الأولوية لمشاريع إيواء المتضررين من الكوارث الطبیعیة، وهذا يجعل التزاما على النظام السوري بإيواء المتضرّرين من الزلازل، ولكن ما سوف يتلاعب به النظام السوري كعادته للتهرّب من التزاماته الدستورية والقانونية بحق الشعب السوري هو موضوع إثبات الملكية للمتضرّرين. وسوف تزداد هذه المشكلة تعقيداً في مناطق العشوائيات والمخالفات، وهي المباني المشيّدة على الأراضي المحدّدة والمحرّرة، ويملكها أفراد، ووصفها في السجل العقاري بأنها أراض زراعية، وتعدّ خارج المخطط التنظيمي. ولا يمكن تصحيح أوصافها بالسجل العقاري إلى مبانٍ وشقق سكنية، لأنها غير نظامية وغير مرخّصة وغير مفرزة، فلا يستطيع أصحاب هذه المساكن والشقق تسجيلها بأسمائهم في السجل العقاري، إنما من الممكن أن تسجّل الملكية باعتبارها حصّة سهمية من أصل العقار الزراعي، وقد يصل عدد المالكين للعقار الواحد إلى المئات، وكثيرًا ما يؤدّي هذا الواقع إلى عدم معرفة المتضرّرين من الزلزال الواجب التعويض لهم، والذين فقدوا منازلهم. ناهيك عن موضوع سندات الملكية  التي فقدت بسبب الحرب والتهجير وإصدار النظام السوري عدة قوانين وتشريعات استهدفت حقوق الملكية والسكن، كبّلت السوريين في إثبات ملكيتهم، بهدف الاستيلاء عليها، بالإضافة إلى موضوع الموافقات الأمنية.

ويرى الضيعي أن النظام لن يتملص من التزاماته الدستورية فحسب، بل سوف يكون الزلزال ذريعة يستخدمها في متابعة مخططه غير البريء في الاستيلاء على ممتلكات السوريين العقارية في المناطق التي هُدمت بسبب تعرّضها للزلزال وفق القانون رقم 3 لعام 2018 والمرسوم 66 لعام 2012 والقانون رقم 10 لعام 2018 وغيرها من القوانين التي تستهدف حقوق الملكية والسكن في سورية.

التقاضي بعد الضرر

وبشأن إمكانية تحصيل الحقوق عبر المحاكم، يفيد القانوني بأن ذلك “يمكن وفق القانون المدني، فقد رتَّب مسؤولية المهندس المعماري عن الضرر الناجم عن عمله ولو لم يصدر منه أي خطأ، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 617 من القانون المدني على أنّه: “يضمن المهندس المعماري والمقاول متضامنين ما يحدث خلال عشر سنوات من تهدم كلي أو جزئي فيما شيَّدوه من مبانٍ أو أقاموه من منشآت ثابتة أخرى…”، فالقانون اعتبر المهندس المعماري مسؤولاً عن الأضرار التي ستنجم عن تهدُّم أيِّ بناءٍ أو جسرٍ أو سدٍّ كان مسؤولاً عن عملية الإشراف على بنائه، ولو لم يثبت صدور أي خطأ منه، بل ولو كان الخطأ ناجماً عن عمل المقاول الذي يقوم بأعمال التنفيذ، إذ جعل القانون المهندس متضامناً مع المقاول في دفع كل قيمة المبالغ الجابرة للضرر الناجم عن تهدُّم البناء كلياً أو جزئياً، وكأنَّ القانون في هذا البند قد جعل لكلِّ من المهندس والمقاول دافعاً للرقابة على عمل الآخر، بحيث يسعى كلٌ منهما إلى اكتشاف أيِّ أخطاء قد يقع بها الآخر لينبّهه إليها ويساعده على إصلاحها.

ويجب التأكيد أن الزلزال لا يعتبر قوة قاهرة في جميع الحالات، إلا إذا حدث بقوة أكبر مما جُهز عليه البناء، لأن الأنظمة النقابية والتصميمات العالمية تقتضي على المهندس أن يصمّم درجة تحمّل البناء على زلزال بقوة ست درجات حدّا أقصى. وبالنسبة لـ”الكود العربي السوري للخرسانة” وملحقه رقم 2 المتعلق بتصميم المباني والمنشآت المقاومة للزلازل، المأخوذة من “كود البناء الموحد الأميركي UBC-97″، فإنه توجب تحقيق هذا الحد، وما يحدث بأعلى من ذلك فهو غير مسؤول عنه ولا يستوجب التعويض. أما الزلزال فيمكن ألا يكون قوة قاهرة تعفي المسؤولية عن المهندس أو المقاول، وذلك أن هدم البناء هو بسبب سوء التصميم والتنفيذي، أي لا ينفي العلاقة السببية ما بين تهدّم البناء والضرر الذي وقع مثلاً، أو أن الزلزال الذي أصاب البناء كان أقلّ قوةً من القوة التي درسها في تصميمه، وكان هو السبب في التهدّم بكونه صمّم البناء على أنه سيتحمّل زلزالاً بقوة ست درجات على مقياس ريختر، وحدث الزلزال بقوة أربع درجات، فإن المهندس هنا يسأل عن خطئه في تهدّم البناء ويكون ملزما بالتعويض.

الدستور والقوانين بيد النظام

يرى الحقوقي السوري رامي عسّاف أن “المطلوب من الدولة تجاه رعاياها الوقوف إلى جانبهم وتحمّل المسؤولية”. وقال لـ “العربي الجديد” إن دور الحكومة يكون صغيراً بوجود دور المجتمع المحيط بالفرد أو الأسرة، لكن عندما يُفقد هذا الدور نتيجة الكوارث، يتم التعويل على الحضن الوطني الأكبر لتصبح مسؤولية الحكومة أكبر، بالبحث عن الناجين بدايةً، فمن غير الممكن لكل عائلة أن تبحث عن أبنائها. ويضيف: “إسعاف المواطنين وإنقاذهم وإطعام الناجين وتأمين الملجأ الآمن المؤقت، مهما كانت طبيعته، تلك متطلبات الاستجابة السريعة بعد الكوارث، والتي لم نشهدها في مناطق سيطرة النظام السوري”. ويبين عسّاف أن “التأكد من صلاحية الأبنية يصبح مسؤولية الدولة، والتأكّد من الأبنية التي يجب إزالتها عن طريق فرق تفتيش هندسي، التي تحدد إن كان يمكن لسكانها العودة أو عدم العودة إليها إلى الأبد، وأحيانا هدمها، هذا كله مسؤولية الدولة”. ويضاف إلى ذلك، بحسب عسّاف: إعادة إعمار المناطق، ليكون هناك ثلاثة مستويات لعمل الحكومة عند وقوع كارثة: الأول، سريع جداً، من عمليات إنقاذ وغيرها. الثاني، متوسّط المدى، ويتم فيه فحص الأبنية والبنى التحتية من شبكات مياه وكهرباء وغيرها من كل الخدمات العامة للتأكد من صلاحيتها. والثالث إعادة الإعمار، عن طريق خطط لإعادة بناء الأحياء المدمّرة، وهذا ضمن خطط.

ويوضح عسّاف أنه في مثل حالة النظام السوري يطلق عليها “خطّة خمسية”، ويحدد ما إذا كانت الدولة هي التي تبدأ عمليات البناء أو تتعاقد مع شركات خاصة. ولكن النظام السوري لا يلتزم أبدا بأيّ من هذه الأمور، ففي غير أوقات الأزمات كان لا يؤمن متطلبات المواطن، ليلبّيها خلال أوقات الكوارث، هو ذاته النظام الذي قصف الأبنية ودمّرها والأسواق، لن يكون له أي رد فعل بخصوص أبنيةٍ أو غيرها، سيسعى إلى الاستفادة من الحدث الكارثي لصالحه، وبند المساعدات هذا قد يخفّف عنه.  ويشير الحقوقي السوري إلى أن جميع الكيانات الحليفة للنظام ستسعى إلى الاستفادة أيضا، من دون أي مسؤولية حتى لحاضنة النظام، ويشدّد على أن “النظام عموما لا يلتزم بأي إجراءات دستورية متعلقة بإعادة الإعمار. لا يوجد من يحاسب النظام في الأصل، فلا يوجد إلزام قانوني.. يجب أن يكون هناك برلمان قادر على المحاسبة أو محكمة دستورية، هو يعيّن البرلمان وأعضاء المحكمة الدستورية”.

العربي الجديد

—————————–

متلازمة الهرس الملازمة للسوريين/ سوسن جميل حسن

لم يكن الناس عمومًا يعرفون ما تعنيه “متلازمة الهرس” التي شاع تداولها على الشاشات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والصحف، وغيرها، بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب سورية وتركيا في السادس من فبراير/ شباط الحالي، لكنها صارت الأكثر تداولًا ورعبًا في الوقت الحالي، صارت الخوف الذي يخطف ومضة الفرح بانتشال عزيزٍ من تحت الأنقاض حيًّا، يزيد من الرعب في احتمالية حدوثها معرفة الجميع بما تعاني منه المؤسّسات الصحية في سورية، في مختلف مناطقها، من القلّة والندرة في مجالات عديدة في الخدمة الصحية، بعد 12 سنة من الحرب التي أنهكت البلاد، فقبل الزلزال كانت مشكلات القطاع الصحي في ازدياد وتفاقم، وكانت الدولة في منطقة النظام، وسلطات الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرته، قد أظهرت عجزَها عن مواجهة وباء كوفيد الذي أودى بأعداد كبيرة من الأفراد، ومن بينهم أعداد كبيرة من الأطباء، خصوصا في الموجة الأولى التي كانت الأعنف، إضافة إلى أن عدد الأطباء في سورية كان قد أخذ بالتراجع منذ بدء الحرب، بين تهجير ولجوء وقتل واعتقال. وصار حلم الشباب منهم على أبواب تخرّجهم من الجامعات هو الهجرة لمتابعة الدراسة، وتأمين فرص عمل وعيش ومستقبل، بعيدا عن بلادٍ لم يعد فيها وجود للمستقبل، ما جعل الأرواح متأزّمة باطراد.

بشكلٍ عام، تنجم متلازمة الهرس، أو الانحلال العضلي، عن انضغاط طويل الأمد للعضلات الهيكلية في جسم الإنسان، خصوصا في الطرفين السفليين، بسبب وقوع ضغطٍ ثقيلٍ عليها مدة لا تتجاوز الساعة في بعض الأحيان، والأكيد أنها مرجّحة لأن تحدُث كلّما تطول مدة التعرّض لهذا الثقل. يؤدّي هذا الضغط إلى تلف الألياف العضلية، بسبب نقص التروية الدموية. وبالتالي، فإن مكوّنًا عضليًّا اسمه رابدوميوغلوبين ينطلق من هذه الألياف إلى الدورة الدموية، مع خروج أنزيم الكرياتين كيناز الذي يتوفر في العضلات لأهمية دوره في إنتاج الطاقة، وشاردة البوتاسيوم، بشكل أساسي، ويترافق غالبًا مع انخفاض الكالسيوم، ما يُدخل المريض في حالةٍ تحتاج تدبيرًا دقيقًا، تسمّى الحماض الاستقلابي، هذا كلّه يُرهق الكلى فتصبح غير قادرة على طرح هذه الكميات المتدفقة إلى الدم، عن طريق البول، فتترسّب جزيئات هذا البروتين في الأنابيب الكلوية، ويدخل المريض في حالة قصورٍ كليةٍ حادة تستوجب التنقية الدموية سريعًا، بينما أجهزة التنقية وخدماتها شحيحةُ بسبب ظروف الحرب وظروف الزلزال، وقلّة العنصر البشري المتخصّص. ولقد شاهدنا قصصا مؤلمة وحالات عديدة أدّى فيها البقاء طويلًا تحت الأنقاض الثقيلة إلى ظهور متلازمة الهرس لديها، كان من ضحيتها الطبيب السوري والأديب والشاعر المتميّز مصطفى عبد الفتاح، الذي بترت ساقه، وبعدها وافته المنية ملتحقا بابنتيه وزوجته، والطفلة السورية شام، التي تصرُخ من عمق وجعها، مع أخيها، وهي الطفلة التي لم تأخذ نصيبها من حقها الطبيعي في الحياة.

يثير مجرّد التسمية الهلع عند سامعيها، فالهرس هو الدٌقّ الشديد، وهو الطحن، وهو السحق، والسحل. كلّها مفرداتٌ تشير إلى قوة كبيرة لها القدرة على التحطيم والتفكيك والتفتيت، وهي كلمة متداولة كثيرًا في اللغة الدارجة، بمعناها الأدائي والمجازي، ومنها هرس الأرواح لدى الأحياء، وهرس النفوس، وهرس الضمائر والكبرياء والكرامة والطموح والحافز، والإرادة، وغيرها كثير من الفضاء النفسي والروحي والمعرفي والقيمي للإنسان، هذا الهرس تعاني منه المجتمعات الواقعة تحت نير الطغيان بكل أشكاله، فتكميم الأفواه هو استلاب وظيفة عضوية لدى الإنسان وحقّ من حقوقه، هو اعتداءٌ على الطبيعة البشرية، وهو قتلٌ للروح الاجتماعية التي هي حاجة لدى الكائن البشري، وسمةٌ تميّزه عن بقية الأنواع. وشلّ القدرة على التعبير هو نوع من قتل الروح الإبداعية، بالرغم من أن الدساتير تكفل هذا الحق “حرية الرأي والتعبير”، واستغلال قوّة العمل لقاء أجرٍ لا يؤمّن الاحتياجات الأساسية، إذا صرفنا النظر عن الرفاهية، للفرد. هو هرس وتبديد لقدراته، ونوع من العبوديّة، وخرق الدولة العقد المبرم بينها وبين الفرد، بحرمانه من الخدمات الأساسية وترك حياته في أماكن التجمّعات من مدن ومناطق وقرى، تعاني من التردّي في الخدمات الأساسية المخوّلة الدولة بها، وترك الناس يواجهون مشكلات الحياة بمفردهم، هو هرسٌ، بما ينجُم عنه من مشكلاتٍ قد تصبح كارثية، شهدنا قسمًا منها في الكوارث الطبيعية وجديدها أخيرا الزلزال، إذ انهارت بسببه البيوت والمرافق، التي تعاني، في الأساس، منذ وقتٍ طويل، مثالها شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، الذي وقعت في إحدى حفره المكشوفة، قبل أشهر، صبية في اللاذقية، وابتلعتها المياه قبل أن يتوفّر حبلٌ لإنقاذها، ضياع الحقوق في التقاضي بسبب فساد القضاء. هو هرس للنفوس، انعدام المساواة في الحقوق والواجبات، كما عرف المجتمع السوري سنوات طويلة، هو هرسٌ معنوي، فمن المعروف كم كانت الفرص تتاح بموجب المحسوبيات والرشاوى والقوّة أيضًا، على حساب أصحاب الكفاءات والجديرين. السلطوية في التعليم، ابتداءً من سطوة الأمن والقيادة الحزبية، إلى المنظمات الملحقة من طلائع “البعث” وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة، وصولًا إلى المناهج التعليمية التي تؤسّس لكوادر مستقبلية من أجيال فاقدة القدرة على الإبداع والمبادرة، بأسلوبٍ تربويٍّ قائم على التلقي ومحاربة التفكير، مع ربط الهدف والغاية بالشعارات الوطنية والقومية التي تشلّ التفكير خارج النسق المتاح، وكأن هذه الغايات منتهى الطموح الإنساني، هذا نوع من الهرس.

الانفتاح غير المسؤول والليبرالية غير المدروسة أو الموجّهة، وفتح الأسواق على منتجات العالم، من دون توفير قوة أو قدرة لدى الشعب للوصول إليها، هو نوعٌ من الهرس، اشتداد ضيق العيش على الناس، حتى في أوقات الاستقرار المزعوم، كان نوعًا من الهرس البطيء، ثم حرف الانتفاضة عن غاياتها، واستبدالها بحربٍ لا ترحم، وانحدار معيشة الأفراد إلى مستوىً يقارب الموت، هرس أيضًا.

يمكن تعداد الكثير الكثير من حالات الهرس البطيء أو المباشر، المُطبقة على أرواح الشعب السوري، وعقول أبنائه، من أنظمة الاستبداد التي لم تفكّ تحالفاتها يومًا، بدعم متبادل فيما بينها، كلّ بحسب أدوات قوّته، الديني، الاجتماعي، الاقتصادي، الأعراف، وغيرها، بمباركة ودعم من الحكومات المتلاحقة، في وقتٍ تدّعي فيه العلمانية، والديموقراطية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات، وعدم التمييز، وتبنّي قضية المرأة، ودعم الأسرة، وما لا يمكن عدّه من الأوهام التي أُغرق الشعب بها، لتأتي الانتفاضة وما تلاها، وتكشف عن متلازمة الهرس الجماعي التي عطّلت الأجهزة الحيوية للمجتمعات السورية، وما يُدمي القلب ويُبكي الصدور، أن هذا الشعب المنتهك، قام من تحت ركامه وأوجاعه، ليسند بعضه بعضا في مواجهة تداعيات الزلزال، بينما أرواحه تُهرس أمام تداعي العالم أخلاقيًا، وتهافته لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011، بعد كل الأثمان التي دفعها، وإبقاء الأنظمة نفسها تتحكّم بمقادير الشعب وتدير حياته وتصنع سياساته وترسم مصيره. هذه هي متلازمة الهرس الفادحة التي تلوح في أفقه، والتي يصيبه بها إلقاء العالم بأنقاض أزماته فوقه، بعدما صارت مشكلته عبئًا عليه.

العربي الجديد

—————————–

نظام الأسد يحقق فوائد سياسية من الزلازل ويحرم المتضررين من المساعدات عبر شروطه القاسية/ عدنان عبد الرزاق

ترك نظام بشار الأسد السوريين المتضررين من الزلازال التي ضربت أربع مدن سورية، منذ السادس من فبراير/شباط الجاري، لأقدارهم، بعد أن حقق، برأي مراقبين، الفائدة السياسية من مأساتهم الإنسانية.

ولم تتوقف المساعدات وزيارات مسؤولين من دول عربية، آخرها وفد البرلمانيين العرب يوم الأحد، بعد أن جمّدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية العقوبات لمدة ستة أشهر.

ويقول بشار أحمد من ريف مدينة اللاذقية لـ”العربي الجديد” إنه لم يتلق أية مساعدة حكومية حتى اليوم، بعد أن تصدّع منزله جراء الزلزال وبات الاستمرار بالسكن، من دون تدعيم، خطراً على أسرته المؤلفة من خمسة أشخاص.

وأشار إلى أن القرض الذي أعلنت عنه حكومة الأسد، جاء مشروطاً وبحاجة لكفلاء ولن يستطيع جميع المتضررين الحصول عليه. وكان مصرف الوطنية للتمويل الأصغر قد طرح قرض “ساند” المخصص، لترميم وإعادة تأهيل المساكن المتضررة من الزلزال في محافظات حلب واللاذقية وحماة، مبيناً خلال بيان، أن قيمة القرض تصل إلى 18 مليون ليرة (نحو 2400 دولار) من دون فوائد وفترة السداد تمتد لست سنوات.

وأكد أحمد، وهو متقاعد، أن معظم المتضررين لا طاقة لهم بقرض “ساند”، لأن القسط الشهري 250 ألف ليرة، وشرط القرض أن يكون دخل المقترض الشهري 750 ألف ليرة، علماً أن متوسط دخل السوريين 100 ألف ليرة.

وأضاف خلال اتصال أن البديل إن لم يكن الدخل كبيراً، وجود 18 كفيلاً من أصحاب الدخول المرتفعة ليتم الحصول على القرض، بمعنى صعوبة الحصول على القرض إن لم نقل الاستحالة، مستدركاً أن القرض لا يشمل أيضاً من تهدّم منزله، بل فقط من تضررت منازلهم بشكل جزئي وبحاجة لتدعيم.

ووصف أحمد طلب نقابة المهندسين في مدينة اللاذقية مليون ليرة لتكشف على المباني المتضررة وتقدم تقريرها ليتم بناء عليه التقدم للقرض، بالفضيحة.

في المقابل، سألنا السيدة “فطينة.ح “من حي الكلاسة بمدينة حلب عما قدمته حكومة بشار الأسد للمتضررين من الزلزال فأكدت، بعد رجائها عدم ذكر اسمها كاملاً، أنها لم تتلق أية مساعدة، بل أقامت في الحدائق والساحات العامة وأسرتها، لأيام، “لأن الشقق في حي هنانو لم تستوعب سوى 1% من المتضررين”.

وتشير السيدة السورية العاملة في القطاع العام أن راتبها الشهري نحو 110 آلاف ليرة وتكلفة ترميم منزلها الذي تصدع “بالملايين” وأنها لا تستطيع تدبر تكاليف المعيشة بعد غلاء الأسعار ومحاولات “الترقيع وبيع الممتلكات على مدى سنين”، فمن أين سترمم المنزل الذي تصدع وربما يسقط بواقع عدم الاستقرار واستمرار الهزات الارتدادية.

وأعلنت لجنة السلامة العامة في سورية، عن وجود 2287 مبنى غير آمن في مدينة حلب، والتي تعد أكثر المدن تضرراً بالزلزال ضمن مناطق سيطرة النظام.

وتكشف لجنة السلامة في حلب، أن عدد المباني المتضررة بحلب وصل إلى 11 ألف مبنى، منها 300 مبنى غير قابل للإصلاح، بعد التقييم والكشف وعودة الأهالي إلى 8 آلاف مبنى بالمناطق المتضررة.

وحول الاستفادة من قرض “ساند” تتحدث السيدة السورية لـ”العربي الجديد” عن استحالة تحقيق شروطه، لأن دخلها محدود ولا يمكن تأمين 18 كفيلاً دخلهم مرتفع، معتبرة أن المستفيدين من القرض قلائل جدا وما إعلانه سوى “دعاية إعلامية”.

ولم يشمل القرض، على صعوبة الحصول عليه، من فقد منزله ويعيش نازحاً منذ خمسة عشر يوماً كما يقول أحمد خيرو من حي السكري في حلب الذي فقد منزله، مكتفياً خلال اتصال مع “العربي الجديد” بأن الجميع تخلى عنهم وهم بانتظار مبادرة غرف التجارة والصناعة بالمعونات أو ببناء وحدات سكنية للمتضررين.

ويقول “موفق.د” من الحي نفسه خلال اتصال معه “ليقارنوا بين ما تقدمه تركيا وما نعانيه من تخل بعد فقداننا كل ما نملك”، مشيراً لـ”العربي الجديد” إلى أن كل ما يملكه صار تجت الأنقاض، وهم يمنون علينا أننا على قيد الحياة”، مؤكدا أن “المواساة عبر الشعارات لا تفيد السوريين المتضررين، فنحن بحاجة لمأوى وتعويض لأننا فقدنا كل شيء”.

وتساءل السوري موفق عن الأبنية التي وعد بها بشكل عاجل وزير الأشغال العامة والإسكان، سهيل عبد اللطيف إذ لم يتم سؤالنا “مجرد سؤال حتى اليوم” كيف نتدبر أمرنا أو أين ننام، والخشية، بحسب المتحدث، أن تكون 300 شقة بشكل عاجل، كما غيرها من الوعود.

مبادرات شعبية

يقول الصناعي محمد طيب العلو لـ”العربي الجديد” إن لغرفة الصناعة قدرة محددة، ورغم ذلك أعلنت من منح مليوني ليرة سورية لكل من تهدم منزله، كاشفاً أن اللجنة العليا لإغاثة الزلزال برئاسة الوزير، حسين مخلوف طلبت لغرف الصناعة والتجارة تحويل أموال الرسوم للجنة لتسخيرها بالإغاثة، “لكن الغرف رفضت وتستمر بالمساعدة بطريقتها”.

ووصف العلو ردود فعل حكومة النظام بـ”البطيئة والمترددة، فحتى اليوم لا يوجد أي قرار واضح للتعويض أو منح المتضررين منازل ولو بأقساط شهرية”.

وأكد استمرار منح غرفة صناعة حلب المواد الإغاثية فضلاً عن منح مليوني ليرة لمن فقد منزله، مشيرا إلى “أنها لا تكفي ولكن هذه استطاعتنا فنحن تنظيم غير حكومي ولسنا دولة”.

ولم تقدم حكومة بشار الأسد، حتى اليوم، سوى الوعود خلال الاجتماعات بحسب السوريين، والتي كان آخرها ما تمخّض عن اجتماع الحكومة، إذ اكتفى مجلس الوزراء خلال جلسته برئاسة حسين عرنوس، بإقرار خطة العمل الوطنية للتعامل مع تداعيات وآثار الزلزال في مختلف القطاعات الأسرية والسكنية والخدمية والتنموية و”السعي لتأمين احتياجات المتضررين وآليات إعادة النشاط الاقتصادي والاجتماعي إلى المناطق المنكوبة.

ورغم تشرد عشرات آلاف السوريين بمناطق النظام ومضي أكثر من عشرين يوماً على الكارثة، قال رئيس مجلس الوزراء عرنوس خلال الاجتماع إن “الدولة تدرس كل الخيارات للتعويض على المتضررين”.

فرصة للتعويم عبر التسول والاستعطاف

 ويقول الاقتصادي السوري، عبد الناصر الجاسم إن نظام بشار الأسد لم يبد سلوك دولة خلال كارثة الزلزال، بل تعامل مع الكارثة كفرصة لعودة تعويمه دولياً من خلال التسول واستعطاف الدول، رغم أنه لم يقدم أي شيء للمتضررين، وحتى المساعدات تباع في الأسواق السورية بعد سرقتها.

ويشير الجاسم لـ”العربي الجديد” إلى أن 119 طائرة مساعدات وصلت لمناطق سيطرة نظام الأسد، وهي بآلاف الأطنان، لكن حال السوريين لم يتغيّر، سواء على مستوى عرض السلع و الأسعار أو وضع المتضررين، وكل ما في الأمر برأيه، فائدة “عصابة الأسد” من الزلزال عبر جمع أموال وتجميد العقوبات الدولية والانفتاح على العالم.

وأبدى الجاسم خشية الاستمرار في استغلال الحالة الإنسانية وزيادة التطبيع العربي والدولي مع نظام الأسد وتناسي قتل وتهجير أكثر من نصف السكان “لو نظرنا إلى خريطة البيوت المهدمة في سورية لرأينا أنها في المناطق التي تعرض سابقاً لقصف الطائرات الروسية والأسدية.. بأصل الزلزال وآثاره هو نظام الأسد”.

وحول أضرار الزلزال على مناطق سيطرة النظام وحجم المساعدات، يضيف الاقتصادي السوري إنه حتى الآن لم تصدر أية تقديرات رسمية، واصفاً ما يصدر من تقديرات بالمبالغة، لأن بعض “أبواق النظام وصلت تقديراتهم بالخسائر لمئة مليار دولار في حين أقل التقديريات وصلت إلى 30 ملياراً” واصفاً تلك التقديرات بالتهويل لمزيد من الاستعطاف وحصد النتائج السياسية.

وكان أستاذ التنمية في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، أيمن ديوب قد قدر الخسائر الحاصلة في سورية بفعل الزلزال بحوالي 15 مليار دولار تقريباً، من بنى تحتية و أبنية وغيرها وهذه تحتاج، برأيه، إلى الضعف لإعادة البناء أي 30 مليار دولار، حتى تعود المناطق لما كانت عليه.

ويبدي الاقتصادي الجاسم خشيته من استمرار استغلال الكارثة الإنسانية وسرقة المساعدات التي وصلت لدمشق، وآخرها طائرة مساعدات مقدمة من دول الاتحاد الأوروبي، تحمل 120 طنًا من المواد الإغاثية والطبية للمتضررين من الزلزال.

وكان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بحكومة الأسد، عمرو سالم قد أعلن أمس الإثنين في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، عن توزيع مختلف المواد الإغاثية على المتضررين من جراء الزلزال عبر البطاقة الإلكترونية خلال الفترة القادمة، وذلك لضمان وصولها إلى مستحقيها في المحافظات المنكوبة في سورية.

(الدولار= 7500 ليرة)

العربي الجديد

——————————–

حرفة الموت السوري/ سميرة المسالمة

هل كان يمكن للكارثة التي حلت بالسوريين ان تكون أقل فتكًا بهم؟ يبدو السؤال منطقيًا عندما نتحدث عن زلزال السادس من شباط/ فبراير، واتساع رقعة خرابه في تركيا، ولكن عندما يكون السؤال عن سورية، وتحديدًا في الشمال السوري المنكوب، يصبح هذا سؤالًا فيه كثير من الرفاهية، إن لم نقل أنه ينتمي إلى العيش خارج واقع السوريين على أقل تقدير من 12 سنة إلى اليوم، فمنذ إطلاقهم صيحات الحرية عام 2011 والسوريون يعاندون يأس الواقع، بشغف الحب، وينزحون من أرض إلى أرض، ويموتون مرة تلو مرة، كأن الموت عند السوريين حرفة، يتقنون تفاصيلها، تمامًا كما هي صنعة الحياة الدنيا، لا يدركهم اليأس من تجديد أشكال موتهم، ولا تحيلهم المأساة إلى التسليم بالهزيمة.

بين الأمل الذي حكمنا لعقود، واليأس الذي يمد لنا لسانه، كان خيار السوريين في العقد الأخير من حياتهم أن يبنوا حقيقة أخرى على الأرض، أن يعيشوا رغم أنف الموت الذي يحاصرهم، صحيح أنهم خلاف للناس لا تتعدد فرصهم في الحياة ثانية وثالثة، بل تتعدد فرص موتهم وتتباعد مراقدهم، ورغم حقيقة أن الموت يحاصرهم، يقاومون ليحصلوا على فرص جديدة منه، واختبارات عديدة لأنواعه، فهم الذين لاحقهم الموت تحت ركام المباني المقصوفة بالقنابل، والبراميل المتفجرة، والصواريخ الغبية منها، والذكية، واصطادهم قناص من فوق الأسطح ورشاش الجنود، وجندرما الحدود، وهراوات البوليس، ثم ماتوا غرقًا أو تعبًا أو جوعًا، السوريون الخبر الأول عند الموت والأخير في فرص العيش.

إذا غضب عنصري في بلاد الغرب، قتل الناس ساجدين، أو استاء معارض من حاكم هناك قتلهم حرقًا أو بالسكاكين، يعرف السوري دون العالمين طعم القتل رصاصًا وخنقًا وبالسواطير، وبالغاز السام والكلور الرخيص، وأخيرًا وليس آخرًا بالطوفان والبراكين والزلازل، وبكل وسائل الموت الممكنة، والمتاحة وبالأسلحة المجربة وقيد التجريب، وبصك تمليك وتكليف بقتلنا من حكوماتنا السورية الأربع، ترفعه دول احتلالنا بوجه شعوبها، فيموت الجميع من معارضين وموالين، لربما يسجل التاريخ سابقة للسوريين أنهم أول “شعب مات ليحيا الرئيس”.

بين رحلة موت عابرة، وأخرى قادمة، يكتب السوريون قصص خلودهم على جدران القبور، ممتدة من أرض الوطن إلى بلاد المهاجر، بكل مسمياتها، وألوان أعلامها، وألسنة شعوبها: “نحن الشعب الذي يموت مرة تلو أخرى، ويبحث عن سبل النجاة من الحياة، وليس لأجلها”، ويصادق طرق الموت برًا وبحرًا وجوًا، يعانق صخور الأرض المتناثرة غضبًا، ويزرع رايات النصر فوق خيام ناجية من موكب مساعدات أممي عابر.

نحن “المنكوبين” بالحرب والزلازل علينا أن نضحك عندما يتصور معنا المحسنون، ونرسم علامات البهجة على وجوهنا وهم يوزعون علينا الجبن ورغيف الخبز وزجاجات العصير.

لا يرتكب السوري الجديد- أي السوري ما بعد 2011- جنحة اليأس، ولا الصمت، ولا يتعلق بحبال الأمل الواهمة، كما أنه لا يقبل العيش بينهما، بل يصنع لنفسه حياة من واقع الحرب والدمار والتشرد والفقر والزلازل، ومن فوق  الركام ينسج قصص حب، وتولد حياة جديدة، تسكن باطن الأرض، أو بين حطامها، تبني وطنا من جدران محطمة، وتستظل بأسقفها المهدمة، لا سجون فيه، ولا قيود تصادر الكلام وتكم الأفواه، من هناك من تحت الرماد تخرج حكايات عن الود والحب والذكريات، والإيثار في أحلى صوره، صحيح أن قصص الناجين من موت كوارث الزلازل تخيم على أحاديث الناس، تفزعهم أحداثها، وتفرحهم النهايات السعيدة، رغم أنف الموت، لكن ثمة حكايات أخرى تحت الأرض، أيضًا، يكتبها “الناجون من الحياة”…

الناس في ميزان الكارثة إما أموات، أو جرحى، أو أحياء، لكن للسوريين أيضًا تعداد آخر، أو بند مضاف لا تعرفه الشعوب الأخرى عند إحصاء خسائرها أو غنائمها، “المغيبون” الذين ليسوا في عداد الراحلين، ولا هم على قيد الناجين، لا يعرفون إذا كانوا تحت الأرض أم فوقها، وليس لهم من يسأل عن أسمائهم، كأنهم من زمن غابر، قبل أن تولد المدنية والقبيلة وحتى البشرية، ذهبوا دون أن يوقعوا على دفتر الحضور البشري، كانوا محض ألم عابر، لا يذكره معافى ولا يعلم به طبيب، هم أنفسهم الذين كانوا في الحرب الضحايا، وفي التهجير القسري كانوا ركاب “الباص الأخضر”، كانوا فقط فرق أرقام، وفي الزلازل سقطوا من كل القوائم، ولن تحصيهم عدادات الخسائر.

الرسائل الهاربة من بين الركام، توثق تفاصيل حياة عنيدة، صاخبة ملونة كما هي جدران مقابرهم هناك، وقصاصات أوراقهم المبعثرة بين الركام، وأشعار نزار، وروايات غادة، ومذكرات كلينتون، و”سيديات” العندليب وسهرات أم كلثوم، وفيروزيات الصباح، وصفحات جرائد، ومقالات مرصوصة تنام تحت وسادة عاشق، وأقلام الحمرة، ومشابك الشعر، و”فساتين” الساتان اللامعة، وامرأة على مشارف الموت تغازل زوجًا أو حبيبًا وتخلط الألم بالسياسة “لا تكتب لي بالأحمر، ذكرت لك أكثر من مرة، هنا في بلادنا المنسية، الأحمر لا يعني الحب، هو لون الموت المضرجة به أسقفنا المدمرة، هو ليس انعكاس لدفء الجوري، هنا، هو الدم، المحرقة، النار، سيارة الصليب الأحمر، والهلال الأحمر، التائهة عن عناويننا”.

عوالم الحب لسكان الأبنية الهشة التي زعزعتها الزلازل رصينة صنعتها الإرادة، ومدتهم بالقوة، كسرت حواجز خلافاتهم، ووحدت معالم وطنهم الذي اختلفنا على حدوده وعلمه وأحزابه، تمسكوا – رغم العجز عن مواجهة الطبيعة الغاضبة- بفرصة ثانية للحياة، ربما ليس رغبة بالحياة نفسها، وإنما لتكون جسر عبورهم إلى تجربة موت جديدة، كأن قدر السوريين أن يتمسكوا بفرص النجاة، لاختبار قدرتهم على الموت مجددًا، ليس يأسًا، وليس تمسكًا بأمل واهم، بل هو التحدي لهذا الموت المتكرر أن يستطيع ابتلاع حيواتهم العديدة وحلم حريتهم، فهل يزهر هذا النصر على الموت وطنًا أكبر من مقبرة، وأوسع من سجن، وأصغر من ساحة حرب؟

ضفة ثالثة

——————————-

“دليل إغاثة السوريين”… هل هناك فرق بين ما دمرته الحرب وما دمّره الزلزال؟/ مناهل السهوي

إن كان المبنى متضرراً من الحرب، ألا يمكن تدعيمه خوفاً من زلزالٍ آخر؟ أم أن الأبنية المتضررة من الحرب والمهددة بالسقوط هي خارج نطاق المساعدات الإنسانية؟

نتوقع بشكل تلقائي، حين نتخيّل وقوع كارثة في منطقة ما، أن يمد المجتمع الدولي يده لتقديم المساعدة للمتضررين، والحرص على استغلال كل دقيقة لإنقاذ من يمكن إنقاذه، فالكوارث الطبيعيّة سباق مع الزمن لحماية الأرواح.

المفترض أننا متفقون على المبدأ العام السابق، لكن هناك استثناء، الكارثة الطبيعيّة وقعت في سوريا، ووقف المجتمع الدولي متأملاً ما يحصل لأيام،  قبل أن يجد أسلوباً ما لمساعدة السوريين، محتاراً بين طرق متعددة لإيصال المساعدات، طرق تحمل إلى الآن الكثير من الالتباس الذي يدفعنا الى التشكيك في نوايا الفاعلين الدوليين.

مخاوف الغرب تعطّل الإغاثة

خلال الأيام الأولى للكارثة، كانت احتمالات إنقاذ الأرواح مرتفعة، لكن  لم يجد السوريون طريقة لإخراج عائلاتهم وأصدقائهم وأحبتهم  من تحت الأنقاض سوى أيديهم، النقص الحاد في معدات الحفر والحماية الشخصية والوقود، أدى إلى الفشل في إنقاذ الكثيرين، وخلال هذه الأيام شديدة الحساسية، لم تُقَّدم أي مساعدات عاجلة لإنقاذ الأرواح من أي جهة أممية، وكان على السوريين أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم، يمكن القول إن هذه أولى الخطوات التي تقاعسَ فيها المجتمع الدولي، الذي وإن كان يريد المساعدة لم يستطع، إذ فاقت السياسة والعقوبات الاقتصادية والإجراءات البيروقراطية إنسانيته ولهفته لإنقاذ المتضررين.

على رغم رفع بعض العقوبات جزئياً عن سوريا لستة أشهر، إلا أن  الأسئلة لم تتوقف من الأفراد أو الكيانات التي انخرطت أو تريد الإنخراط في العمليات الإغاثية، ليُصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية، في 21 شباط/ فبراير، دليلاً حول المحظورات والمسموحات في ما يتعلق بعمليات الإغاثة في سوريا.

 جاء الدليل كردٍّ على استفسارات وأسئلة كثيرة تلقاها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية المتعلقة بجهود الإغاثة من الزلزال في سوريا، إذ لدى الأفراد والكيانات والبنوك في الخارج مخاوف حقيقية من تعرّضهم لإجراءات قضائية في حال تعاملهم مع أي جهات في سوريا. وعلى رغم جدية الموقف، إلا أن طريقة طرح الدليل بدت مضحكة، إذ جاء على طريقة أسئلة شائعة يتبعها نعم أو لا، وكأنك أمام تعليمات بشأن دخول مسبح للاستجمام أو طريقة تستخدم بها جهاز تلفزيون، وليس الأمر متعلقاً بحياة الآلاف واحتياجاتهم الماسّة.

شمل دليل الخزانة الأميركية تأكيد استطاعة الأشخاص الأميركيين التبرع بالمال للمنظمات غير الحكومية دعماً للجهود الإغاثية في سوريا، كما يجوز جمع الأموال من الأشخاص الأميركيين من خلال التمويل الجماعي، كما يمكن للأشخاص الأميركيين إرسال الأموال إلى الكيانات والأفراد السوريين غير الخاضعين للعقوبات عبر التحويلات بأشكالها كافة، سواء البنوك أو مكاتب التحويل، لكن للأسف وعلى أرض الواقع، تبدي بنوك غربية كثيرة مخاوفها بشأن التحويل، إذ إن احتمال خطأ 1 في المئة قد يعرضها للمساءلة، وهو ما يعرقل بشكل واضح وصول المساعدات، الأمر إذاً لا يتعلق  برفع العقوبات إنما بإزالة مخاوف الغرب من التعامل مع السوريين.

المسموح والممنوع في المساعدات الإنسانية

الدليل شديد التفصيل، إذ ورد فيه أن الأمثلة على جهود الإغاثة من الزلزال، تشمل تقديم المساعدة والغذاء والدواء، المياه والصحة والصرف الصحي وخدمات الطوارئ للجرحى والناس النازحين نتيجة الزلزال. حسناً، ولأن الموضوع شديد الوضوح، وهذا الجزء ليس بحاجة إلى دليل، هل يمكن ألا تشمل المساعدات الغذاء أو المياه الصالحة للشرب! يبدو الأمر في النهاية طريقة للتغطية على حجم التقصير الكبير لا أكثر، وكأن الولايات المتحدة تقول: “نحن لم نمنع دخول الغذاء والدواء”. لكن حتى في هذه النقطة، هناك شيء من اللبس، إذ لفت الدليل الى أنه يمكن إرسال البضائع إلى سوريا، والتي تشمل الطعام والأدوية، وعلى رغم أن هذه المواد لا تحتاج في معظمها الى رخصة للتصدير إلى سوريا، إلا أن الدليل ذكر أن جميع الأسئلة المتعلقة بالتصدير يجب أن يتم توجيهها إلى مكتب الصناعة والأمن في وزارة التجارة الأميركية! حسناً، يبدو الأمر وكأنه غير دقيق وبحاجة دائمة الى طرح تساؤلات تبعدها الخزانة الأميركية عن نفسها وتضعها على أكتاف بنك الصناعة والأمن.

يرد في الدليل أن المساعدات تشمل إقامة الملاجئ الموقتة، وعمليات البحث والإنقاذ وإزالة الأنقاض وإصلاح وتدعيم المباني الأخرى والطرق التي تضررت من الزلزال، وإصلاح أو إعادة بناء المستشفيات والمدارس في المناطق المتضررة من الزلزال، وعمليات التفتيش عن سلامة المباني. وهذا كلام لا غبار عليه، بخاصة أنه وبحسب الدليل، سرّع بنك التسويات الدولية معالجة رخصة التصدير.

ولأن الموضوع شديد الوضوح، وهذا الجزء ليس بحاجة إلى دليل، هل يمكن ألا تشمل المساعدات الغذاء أو المياه الصالحة للشرب!

 لكنْ، هناك سؤالان، الأول، إن كان المبنى متضرراً من الحرب، ألا يمكن تدعيمه خوفاً من زلزالٍ آخر؟! أم أن الأبنية المتضررة من الحرب والمهددة بالسقوط هي خارج نطاق المساعدات الإنسانية؟. السؤال الثاني، كما نعلم تحتاج هذه المساعدات إلى آليات ومواد وغيرها من الضروريات، والتي قال الدليل إن تصديرها ليس ممنوعاً، لكن يجب الحصول على ترخيص لمرورها، وهذا يعني المزيد من الأوراق والبيروقراطية، ألا يعني ذلك تأخر وصول المساعدات إلى السوريين، لا سيما في ظل عدم طرح آلية لتسهيل التصدير؟!

 يمكن تفهُّم مخاوف الغرب من سرقة النظام المواد القادمة واستخدامها كوسائل لقمع الناس والضغط على معارضيه، لكن ألا توجد طريقة تبسّط الأمور وبشكل شديد الوضوح، لتسهيل وصول كل ما يحتاجه الناس؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها السوريون اليوم في الشارع، وهي أسئلة محقّة بعد مضي ثلاثة أسابيع على الكارثة.

الاتحاد الأوروبي على خطى الخزانة الأميركية

يقوم الاتحاد الأوروبي اليوم بالخطوة نفسها، فهو يقدم تنازلات تبدو وكأنها مساعدة للسوريين، إذ أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً في 23 من شباط، يتنازل فيه عن حاجة المنظمات الإنسانية الى الحصول على إذن مسبق من السلطات الوطنية المختصة، في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لإجراء عمليات نقل أو توفير السلع والخدمات المخصصة للأغراض الإنسانية للأشخاص والكيانات المدرجة في القائمة، إلا أن توقيت البيان الذي يأتي بعد دليل الخزانة الاميركية، يشي بمحاولة للتغطية على تقصير متعمد خلال قرابة ثلاثة أسابيع على وقوع زلزال 6 شباط، كانت نتيجته  خسارة المزيد من الأرواح.

هذه التنازلات وبروشورات الإغاثة ما هي إلا طريقة للتغطية على حقيقة واحدة وهي، أن المجتمع الدولي بأطرافه كافة، ساهم بشكل مباشر في زيادة عدد ضحايا الزلزال ومعاناة الناجين في سوريا ، عن طريق التقصير والتأخر في الاستجابة. وعلى رغم عدم الحاجة الى موافقة النظام السوري لإدخال المساعدات، إلا أن الأمين العام للأمم المتحدة أكد مراراً ضرورة مرور المساعدات عبر النظام.

“لقد خذَلْنا الشعب في شمال غربي سوريا. يحق لهؤلاء أن يشعروا بأن الجميع تخلى عنهم وهم ينتظرون المساعدات الأممية التي لم تصل”، بهذه العبارة اختصر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث، ما يختبره ملايين السوريين، فلثمانية أيام بعد الزلزال، لم تساعد الأمم المتحدة المناطق المنكوبة في شمال غربي سوريا، لثمانية أيام تركت السوريين ينبشون الأرض بأيديهم، ليأتي العالم اليوم ويمنّ عليهم ببروشورات وتنازلات لإغاثة من ماتوا بالفعل.

درج

—————————-

سوريا-جنديرس: تمييز  ضد الكرد وفصائل تعمل “على هواها”/ أحمد حاج بكري

على طرفي الطريق الواصل بين جنديرس ومدينة عفرين، تنتشر الخيام التي أصبحت الخيار المفضل للمدنيين… لا يكل الأهالي من السعي وراء خيمة يعتبرونها اليوم طوق النجاة من الموت القادم من الأرض.

لم تمضِ على وصولنا الى بلدة جنديرس بريف مدينة عفرين إلا دقائق حتى علت الصرخات من حولنا، إذ انهار بناء متصدع، على رغم مرور أكثر من أسبوعين على كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، فالهزات الارتدادية لا تزال ترعب من نجوا، وتهدد المنازل المتصدّعة.

سارعنا إلى جوار المبنى الذي سُوّي نصفه بالأرض، لم يغادر سكانه عقب الزلزال على رغم تصدّع البناء، فلا مكان ينزحون إليه حسب ما قالوا في حديثهم لفرق الدفاع المدني، التي أخرجت من كان بداخله وأمنت محيطه تحسباً لانهياره بالكامل.

لم يتضرر داخل مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية بالزلزال المدمر بشكل كبير، لكن محيطها وتحديداً بلدة جنديرس التابعة لها، دُمر نحو 50 في المئة من مبانيها الطابقية (185 بناية)، كما فقد أكثر من ألفي شخص حياتهم نتيجة الزلزال في هذه البلدة فقط، بحسب ما قال وائل وليد (اسم مستعار) في حديثه لـ “درج”.

يغلق وائل، الشاب الثلاثيني الكردي، باب دكانه الصغير الواقع في سوق البلدة، والذي صمد في وجه الزلزال، ليخبرني ورفاقه المجتمعون في الداخل، عما يعانونه من ظلم وانتهاكات فوق خسارتهم منازلهم وأقرباءهم.

لم يكن ما حدث لحظتها، حين وجدت نفسي داخل الدكان، مقابلة صحافية أو قصة ناج من الزلزال، أعادني ما حدث إلى ما سمعته وقرأته عن خوف الناس من المخابرات أو أن يسمع أحد ما يتحدثون حوله.

حاول وائل بعد إغلاق باب الدكان، أن يلمّح لي عما يتعرضون له من ظلم وتمييز  من جانب الفصائل التي تسيطر على المنطقة، تدخّل الصديق الذي كنت برفقته مؤكداً للمجتمعين بأن يتحدثوا بكل صراحة، فربما تجد معاناتهم آذاناً صاغية.

يقول وائل إنه قبل بداية الثورة في عام 2011، كان الأكراد يشكلون نسبة 80 في المئة من سكان بلدة جنديرس، في مقابل 20 في المئة من العرب. لكن مذاك، نزح نصف سكانها خلال فترات مختلفة، وبعد تهجير المدنيين من حلب والغوطة، زاد عدد سكان البلدة ثلاثة أضعاف، وأُنشئت مبان طابقية كثيرة لم تكن موجودة من قبل، فمعظم منازل البلدة كانت تتألف من طابق واحد أو اثنين على الأكثر.

يلفت وائل الى أنه نزحوا جميعاً من منازلهم، عقب الزلزال، الى القرى المحيطة، محاولين إيجاد سكن موقت إلى حين استقرار الوضع، لم يأخذوا معهم شيئاً من حاجياتهم لشدة الخوف، لكن في المقابل لم تصلهم أي مساعدات أيضاً. لم يبحثوا عن الرفاهية، كل ما طلبوه هو بطانيات وفرش وخيام.

يضيف وائل، “بعدما وصلت إلى منزل أهلي البعيد عن البلدة نحو 20 دقيقة، في اليوم الثاني للزلزال، خرجت لاستلام بعض المساعدات التي وصلت إلى القرية، لكني سرعان ما عدت إلى المنزل خالي اليدين”.

يؤكد وائل أنه عندما اقترب من شاحنة المساعدات المركونة في ساحة القرية، شاهد عناصر الفصيل المسيطر على المكان يحيطون بها، ولم يسمحوا للمنظمات بالعمل وتوزيع المساعدات إلا تحت إشرافهم. ويستطرد بعدها ليخبر عن خلاف نشب بين أحد عناصر الفصيل والمدنيين بالقرب منه، فسارع عناصر الفصيل الى ضرب الناس بالعصي التي يحملونها، ليرد أحدهم بأنه عسكري أيضاً، فاعتذروا منه على الفور بقولهم “لا تواخذنا معلم فكرتك كردي”. يضيف وائل ودموعه تسبق كلماته، “يعني نحن ما بشر، مسموح ننضرب من عناصر كل فصيل وما نقدر نرد بكلمة، عدت إلى المنزل ولو بدي موت لن آخذ مساعدات توزع تحت إشراف هؤلاء”.

يقول فؤاد (اسم مستعار)، “فقدت شقيقي وزوجته واثنين من أطفاله، لم تنجُ من أسرته إلا ابنته البالغة ست سنوات، تعيش اليوم معي ومع زوجتي وأطفالي الأربعة، نسكن في خيمة بقريتنا بالقرب من منزل أهلي المتصدّع، لكن على الأقل يمكننا استخدام المرحاض والحمام فيه”.

يضيف فؤاد، أن قافلة المساعدت الآتية من إقليم كردستان العراق وصلت منذ أكثر من أسبوع، ولم يُوزع إلا قسم قليل منها حتى اليوم، والسبب أن الفصائل تريد السيطرة على القافلة وتوزيعها كما تريد، وهذا ما رفضته المنظمات التي جاءت من الإقليم، والتي طالبت بتوزيع القافِلة بنفسها، الأمر الذي لم تسمح به بعض الفصائل، على رغم حاجة الناس الماسّة اليوم الى أي دعم يصل.

يستطرد فؤاد قائلاً “إن هناك منظمات وأفراداً يوزعون المساعدات النقدية سراً بَعيداً عن أعين الفصائل، فعلى سبيل  وصل أحدهم إليّ وسلمني مبلغاً مالياً، وقال لي اشترِ ما يلزمك ولكن لا تخبر أحداً أنك تسلّمت مني شيئاً”. يضيف فؤاد، أنه على رغم حجم الكارثة الكبير، لا تزال المساعدات وعدالة توزيعها العائق الأكبر الذي يحول دون تحسين ظروف الناجين القاسية.

خرجت من الدكان، فالتقيت خلال تجوالي في سوق البلدة، بأحمد الرجل، الذي خرج وأسرته من تحت الأنقاض بعد ساعات من وقوع الزلزال، لكنه فقد والدته التي بقيت تحت الأنقاض لأيام قبل أن تتمكن فرق الدفاع المدني من انتشالها جثة هامدة، دفنها أحمد في مقبرة البلدة بالقرب من معارفه وأصدقائه الذين فقدوا حياتهم نتيجة الزلزال.

يقول أحمد  بغضب مختصراً الوضع: “أقسم لك بأن المقاول الذي بنى البناية التي كنت أسكن فيها مع عائلتي، والتي وقعت فوق رؤوسنا، يعمل اليوم مدير منظمة إغاثية يقوم بتوزيع المساعدات على السكان”.

يتساءل أحمد، لماذا لا تتم ملاحقة المقاولين الذين شيدوا هذه المباني التي سقطت كلها كما يجري في تركيا؟ خصوصاً أن الأمر هنا أبسط، كون المقاولين الذين عملوا في البلدة لا يتجاوز عددهم العشرة، وهم معروفون من الجميع، لكن لم يتم توقيف أحد منهم حتى الآن.

لم يتبقَّ أي بناء سليم في “الشارع المبلط” كما يسميه سكان البلدة، والذي التقيت فيه أم فراس، النازحة من ريف حلب الغربي، والتي تسكن في خيمة منذ ثلاث سنوات مع أحفادها الثمانية، بعدما قتل قصف نظام الأسد الأب والأم. تقول لـ”درج”، “خرجت من الخيمة بعد الزلزال، لم أكن أعلم ماذا يحصل، ولكني شاهدت المباني المجاورة لخيمتي قد سُويت بالأرض، كانت تسكن هذه المباني الثلاثة -تشير إليها وهي تحدثنا -عائلات من حلب وحمص ودمشق وجنديرس، خرج منها 10  أشخاص فقط على قيد الحياة، ينتمون الى أسر مختلفة، استقبلتهم في خيمتي هنا، ويعيشون اليوم معي، ومن تبقى منهم أخرجتهم فرق الإنقاذ جثثاً هامدة، أتوقع أنهم أخرجوا ما يزيد عن 70 جثة”.

على طرفي الطريق الواصل بين جنديرس ومدينة عفرين، والذي تحيط به أشجار الزيتون، تنتشر الخيام التي أصبحت الخيار المفضل للمدنيين، وعلى رغم صعوبة الحصول على واحدة منها، لا يكل الأهالي من السعي وراء خيمة يعتبرونها اليوم طوق النجاة من الموت القادم من الأرض.

درج

—————————————-

الخيمة حلم السوريين… وسلطات الأمر الواقع تبرّر/ امر الأحمد

“كان الحلق يساوي نحو 110 دولارات، فظننت أنني سأشتري خيمة وبعض متطلبات المعيشة، لكني أدركت أنني أعيش في الخيال، فأرخص خيمة ثمنها 140 دولاراً”.

لم تعد تقوى أم رشدي وأبناؤها على النوم في منزل أقربائها في بلدة ملس غرب محافظة إدلب، نجت وأبناؤها الثلاثة، وخسرت زوجها ومنزلها نتيجة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 شباط/ فبراير 2023.

تقول إن الله كتب لها ولأطفالها النجاة، ولم تجد سوى منزل عمها في بلدة ملس للجوء إليه، كونه يقع في البساتين ولا تعلو فوق سطحه طوابق. أمضت هناك 13 يوماً، لكنها  شعرت وأبناؤها بعدم الترحيب بهم بعدما طالت مدة إقامتهم. تستطرد قائلةً، “أصبح أبناء عمي يتعاملون مع أطفالي بقسوة، ويوجهون إليهم كلاماً يشعرهم بأنهم غرباء، ما ترك جرحاً كبيراً في نفسي. وعلى رغم تكراري  الحديث عن رغبتي في الخروج من المنزل والعيش في خيمة، إلا أنني لم أسمع اعتراضاً واحداً من أقربائي، ما دفعني الى التوجه مع أبنائي إلى مبنى التنمية والمهجرين التابع لحكومة الإنقاذ، للمطالبة بخيمة نمكث بها هذه الفترة”.

المفاجأة أن طلب أم رشدي لم يجد له آذاناً صاغية، إذ قال أحد الموظفين لها: “من وين جبلك خيمة، أشتري من جيبتي ؟!”.

أُغلقت جميع أبواب الحياة في وجه أم رشدي بعد هذا الرد،  فجلست، حسب وصفها، تبكي في الشارع حاضنة أطفالها تستذكرُ زوجها الذي قضى في الزلزال، بقيت بعدها أربعة أيام تبيت عند أناس غرباء في مراكز الإيواء، إلى أن  خطرت لها فكرة بيع أقراطها الذهبية التي لا تملك سواها لشراء خيمة، “كان الحلق يساوي نحو 110 دولارات، فظننت أنني  سأشتري خيمة وبعض متطلبات المعيشة، لكني أدركت أنني أعيش في الخيال، فأرخص خيمة ثمنها 140 دولاراً”.

فضّل كثيرون في المناطق المتضررة ترك منازلهم والسكن في الخيام ضمن مراكز الإيواء أو بالقرب من منازلهم المتصدّعة والمتهدّمة خوفاً من الهزات الارتداديّة، لكن سعر الخيام ارتفع في اليوم الرابع. وحسب ما رصد “درج” في محافظة إدلب في 23 شباط 2023 ، فإن سعر الخيمة الواحدة يتراوح بين 170 و230 دولاراً.

التقى “درج” مع الحداد سالم المعري في منطقة حارم، فقال إن أسعار الحديد اللازم لصناعة الخيام ارتفعت أضعافاً بسبب زيادة الطلب الجنوني عليها، بخاصة بعد الزلزال الثاني الذي ضرب المنطقة في 20 شباط. ويضيف، “كان سعر كيلوغرام الحديد 0.80  سنت قبل وقوع الزلزال، ليرتفع إلى 1.20 دولار اليوم”، عازياً السبب الى تحكّم التجار بالأسواق. علماً أن الخيمة تحتاج في أصغر مقاساتها إلى كمية حديد تصل إلى  60 كيلوغراماً.

وأكد حمد السمير، تاجر شوادر وعوازل بلاستيكية، أن سعر الشادر اللازم لخيمة بحجم صغير يبلغ 40 دولاراً، إضافة الى عازلٍ أرضيّ بسعر 20 دولاراً، لكن هذه الأسعار تتغير كل ساعة بتغيُّر العرض والطلب.

اشترت أم رشدي خيمة رثة مستعملة بمبلغ 100 دولار، واشترت بما تبقى معها من ثمن الأقراط بطانيات وضعتها على سقف الخيمة لتغطي أنحاءها الممزقة، وذلك لإيواء أسرتها وتجنّب طلب المساعدة من أحد، حتى من أقربائها، لتتحول الخيمة إلى غرفة نوم وحمام ومطبخ وغرفة ضيوف تنعدم فيها الخصوصية، ولكنها “أفضل من الموت” حسب أم رشدي.

أحصت منظمة “منسقو الاستجابة” عدد المنازل غير الصالحة للسكن في شمال غربي سوريا، والذي بلغ 14128 منزلاً إلى جانب 10833  منزلاً متصدعاً، كما أن استمرار الهزات الارتدادية جعل أكثر من 80 في المئة من السكان يتوجهون الى العيش خارج منازلهم، وجميعهم بحاجة الى مأوى حالياً.

وصّعب اختلاف القوى المسيطرة في محافظة إدلب وريف حلب الشمالي آلية توزيع الخيم لمستحقيها، إذ أكد الناشط علي الإدلبي، أنه على رغم الجهد الكبير الذي تبذله حكومة الإنقاذ لإيواء السكان المتضررين ضمن خيم ومراكز إيواء جماعي، يبقى تفضيل هذه القوى عناصرها على باقي السكان شأناً لا يمكن تجاهله، إذ شاهد استلام عناصر هيئة تحرير الشام عدداً من الخيام لكل عنصر في مراكز إيواء حارم، فيما لا يسمح للسكان المراجعين لدائرة التنمية بالدخول بحجة وجود عمل مستمر وضغط على العمال. وأضاف الإدلبي أن دائرة التنمية تتدخل في عمل المنظمات الإنسانية، وتخزن الكثير من المساعدات في مستودعاتها، وتمنع توزيعها، لا سيما الخيام، بينما تسمح فقط للمنظمات الموثّق عملها صورياً على أسماء عدة بالقيام بمهامها، ما يعقد العمل أكثر وأكثر.

أسعار الحديد اللازم لصناعة الخيام ارتفعت أضعافاً بسبب زيادة الطلب الجنوني عليها.

وأكد أحد العاملين في وزارة التنمية التابعة لحكومة الإنقاذ، أن آلية توزيع الخيم والمساعدات يجب أن تكون منتظمة، وتحتاج الى جهة واحدة تعمل بعيداً عن العشوائية، مشيراً الى أن الوزارة لديها فرق تعمل باستمرار على إحصاء السكان المتضررين، لكن مع اتساع رقعة الكارثة وازدياد أعداد المتضررين بسرعة كبيرة، أصبحت كمية المساعدات قليلة ولا يمكن تغطية حاجات السكان المختلفة بما هو موجود، ما شكل ضغطاً على كاهل الحكومة الموجودة في محافظة إدلب.

وبلغ عدد الشاحنات الأممية الداخلة إلى إدلب حتى 23 شباط بحسب معبر باب الهوى 226  شاحنة، وما تبقى لا يرتقي إلى ما هو متوقع  من المنظمات العالمية، فوفق الناشط علي السوادي، كل الشاحنات الداخلة لا تساوي نسبة 15 في المئة من الاستجابة اللازمة للكارثة التي أثرت في أكثر من ثلاثة  ملايين نسمة في محافظة إدلب.

درج

———————————

السوريون قتلى النظام واللجوء والزلزال… مَوتهم في كل مكان!/ ماجد كيالي

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

 ربما لا يوجد شعب اختبر الموت، أو اختبره الموت، بكل أشكاله، كما السوريين، ومن في حكمهم ككرد سوريين وكفلسطينيين سوريين، فقد قتل السوريون بالكيماوي، وبالبراميل المتفجرة، وبهراوات الشبيحة وسكاكينهم، ونتيجة أفانين التعذيب المهولة في المعتقلات الرهيبة، وبرصاص حرس الحدود.

ومات سوريون كثر غرقاً في البحر، فيما كانوا يطلبون عيشاً آمناً، وماتوا من الجوع في المناطق التي خضعت لحصار مشدد (وضمنها مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين)، وماتوا من الصقيع في مخيمات البؤس على الحدود التركية في الشمال السوري، والآن ماتوا من الزلزال الذي دفن آلافاً منهم في الجنوب التركي وفي الشمال السوري.

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

بيد أن الأشد هولاً، ربما، من كل تلك الفظائع هو الخذلان، أو التنكر، اللذان واجههما الشعب السوري، من قبل النظامين العربي والدولي. وجرائم النظام السوري الحاكم منذ أكثر من ربع قرن، لا تغطي عليها، ولا تخفف منها، العقوبات الدولية، ولا محاولات العزل الضعيفة تجدي مع نظام لا يهمه سوى بقائه سيداً على “التركة”.

التنكر والخذلان في الحالة السورية، تكثفا معاً في لحظة الزلزال، فتركيا، مثلاً، التي عانى شعبها من نكبة الزلزال، باتت حكومتها تطلب موافقة النظام السوري على فتح معابر، لإدخال مساعدات إنسانية الى الشمال السوري، كأنها نسيت، فجأة، أنها اجتاحت تلك المنطقة مراراً، أقله في ثلاث عمليات عسكرية (درع الفرات 2016، وغصن الزيتون 2018، ونبع السلام 2019)، وأن قواتها موجودة في أكثر من منطقة من دون إذن من أحد، وأن الفصائل المعارضة في تلك المنطقة طوع أمرها، كما تمثل ذلك في العمليات العسكرية المذكورة. وطبعاً، ففي كل ذلك تبدو تركيا كأنها نسيت توعدها، منذ عامين، باجتياح الشمال السوري بعمق 30 كلم، وهي ذاتها المنطقة التي استهدفها الزلزال، الذي زلزل كل شيء.

 هذا يشمل الولايات المتحدة الأميركية، التي باتت تطلب من مجلس الأمن الدولي التدخل لفتح معابر رسمية معترف بها، علما إنها مع ميلشيات “قسد” (الكردية) تسيطر على شرقي الفرات، وهي تقوم بين فترة وأخرى بعمليات عسكرية ولا ينقصها لا الآليات ولا الطائرات، لغوث المحتاجين ودعم فرق الإنقاذ في مناطق الشمال السوري الخارجة عن هيمنة النظام.

الغريب، أيضاً، أن الأمم المتحدة، التي كانت أوقفت عد ضحايا النظام، منذ سنوات بعدما تجاوزوا مئات الآلاف، تناست كل ذلك وباتت تطلب منه الإذن لفتح معابر، كأنها تطالبه بأن يرأف بالسوريين الذين هجّرهم، وقتل أهلهم، وطمرهم بالبراميل المتفجرة، في مشهد سريالي عجيب، فيما الرئيس ذاته يزور حلب، ويوزع ابتسامات لا معنى لها.

الحقيقة أن كل المشهد ينم عن “خيانة” السوريين، لآمالهم، ووجودهم، وحتى لإنسانيتهم، إذ تم التمييز في محاولات إنقاذ السوريين في تركيا، وتأخير وصول المساعدات الغذائية والإنسانية للمنكوبين في الشمال السوري، والحؤول دون وصول آليات للتمكن من رفع الأنقاض وإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى الشمال السوري؛ وهو دور حاولت منظمتا “الخوذ البيضاء” و”فريق ملهم” تغطية ما يمكن بإمكانياتهم المحدودة.

“الخيانة” تتمثل، أيضاً، في أن كل تلك الدول التي اعتبرت نفسها “صديقة” للشعب السوري، والتي كانت أخذته، أو استدرجته للعمل المسلح، قبل عشرة أعوام، بما استنزفه، وضيع طاقته الكفاحية، وقوض صورة ثورته، هي ذاتها الدول التي تخلت عنه في ما بعد، فتركيا ذهبت إلى التحالف مع روسيا وإيران (شريكي النظام!) في ما عرف بثلاثي استانة. أما الولايات المتحدة الأميركية، فعسكرت في شرق الفرات (كراعية لقوات قسد)، في حفاظ على معادلة قوامها عدم الحسم، أي إبقاء الوضع السوري من دون أي حل.

بيد إن “الخيانة” تبدو واضحة وجلية في حقيقة أن تلك الدول “الصديقة” التي أدخلت كل تلك الأسلحة والذخائر والجماعات المقاتلة، من هذا البلد أو ذاك، بدت لا تريد أن تفعل شيئاً لإدخال مواد غذائية، أو طبية، أو آليات للحفر ورفع الأنقاض.

الزلزال هو نكبة القرن الحادي والعشرين (للسوريين والأتراك)، إن في عدد ضحاياه، أو في دمار مدن، عمرها مئات أو آلاف السنين (انطاكية عمرها أكثر من ألفي عام)، لكن الكل يريد أن يهرب من الزلزال، أو يريد أن يختطفه، فالنظام الذي قتل شعبه وشرده، ودمر مدناً وقرى، يريد صك براءة، ويريد تعويم نفسه على الصعيد الدولي، كأنه يريد تصفير العداد، أو تبييض صفحته.

تركيا- أردوغان تريد فتح صفحة جديدة، نقيض ماضيها، لتجدد شرعيتها، فالانتخابات على الأبواب، والآن باتت تداعيات الزلزال تضاف إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد التركي منذ سنوات.

أما الولايات المتحدة فما زالت عند ترددها في حسم الصراع السوري، بأي اتجاه، مركزة على بقاء إسرائيل آمنة في بيئة عربية مضطربة، كمصلحة استراتيجية لها.

منذ مطلع عام 2011، بات السوري منذوراً للموت، لمجرد أنه يريد التحرر من الهامش والذهاب إلى المتن، لمجرد أنه يريد أن يخرج من الصورة، كي يدخل في التاريخ، كفاعل بشري، ضد نظام أصم، جمد الزمان والمكان والمعنى في ما يعرف بـ”سورية الأسد”.

لا أدرى ما الذي كان سيقوله محمود درويش في “فنون” الموت السوري، بكل فظائعه، وهو الذي قال: هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلادِ

الرافدين. مِسَلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ،

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتْكَ

وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك

الخُلُود…

         فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد.

درج

——————————–

كيف ألقت كارثة الزلزال بظلالها على ملف التقارب التركي – السوري/ فاضل المناصفة

جاءت كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا بالعديد من المواضيع المتصلة بالشق السياسي فيما يخص علاقات سوريا مع محيطها الإقليمي والدولي، حيث قدم اتصال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالرئيس بشار الأسد وزيارة وزير الخارجية الأردني إلى دمشق بعد 12 عاما من الغياب، وزيادة التمثيل الدبلوماسي لتونس وهبوط طائرة سعودية في مطار دمشق لأول مرة منذ بداية الثورة السورية، وزيارة الأسد الأخيرة إلى مسقط، مؤشرات توحي بأن النظام السوري قد استفاد من الكارثة للخروج من العزلة العربية فيما بقي باب الدوحة موصدا إلى إشعار آخر.

وبالحديث عن العلاقات السورية – التركية يبدو أن الزلزال لم يكتف فقط بتحريك الأرض بضعة أمتار بل أيضا بتأجيل اللقاء الذي كان من المزمع أن ينعقد بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره السوري فيصل المقداد في منتصف الشهر الحالي، بعد أن أجبر الزلزال الآلاف من اللاجئين السوريين على مغادرة تركيا، وهو ما تبحث عنه أنقرة من خلال رغبتها في فتح قنوات اتصال مع دمشق ولقاء المقداد.

العودة الطوعية للاجئين ستحقق المطلوب، وستعفي أنقرة من التودد إلى نظام الأسد الذي يمانع في لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويتهرب من ذلك متحججا بمسألة احتلال الأراضي كشرط أساسي للتفاوض مع تركيا، ولكن وفي حقيقة الأمر فإن النظام السوري لا يرغب في عودة اللاجئين في الوقت الحالي لاعتبارات أمنية واقتصادية، ولا يرغب في تقديم خدمة مجانية لأردوغان.

لم تتوقع تركيا قبل الزلزال هذه العودة الطوعية الكبيرة للاجئين السوريين خلال الأيام القليلة الماضية، حيث بلغ عددهم أكثر من عشرين ألفا والرقم في تزايد مستمر. ولم تتوقع أنقرة أيضا أن تجبر الأمم المتحدة الجانب السوري على فتح معبرين إضافيين لتلقي المساعدات، ومنها عبور الآلاف من السوريين إلى بلادهم، وهي خدمة قدمتها الكارثة الطبيعية من دون أن تتدخل فيها السياسة، بل إنها حققت أحد الأهداف الأساسية من الرغبة في التقارب مع النظام السوري، ولم يعد مهمّا رأي دمشق في مسألة اللاجئين ما دام السواد الأعظم منهم يغادر طواعية، ومن المتوقع أن تستمر مغادرتهم تحت وطأة المخلفات الاقتصادية للزلزال التي ستزيد من معاناتهم.

من المنطقي أن يقوم النظام التركي بوضع الملف السوري جانبا بعد أن خلط الزلزال الحسابات السياسية لأردوغان وأصبح لزاما عليه الآن أن يهتم بالشأن الداخلي أكثر من الشأن الخارجي، خاصة أنه على بعد أقل من ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية، لذا سيتم تأجيل ملفات السياسة الخارجية الكبرى ريثما يتم التعامل مع الكارثة الاقتصادية التي أثقلت كاهل تركيا اقتصاديا ولم تكن في الحسبان، ولكنها في نفس الوقت فرصة مناسبة لأردوغان لتوظيفها في حملته الانتخابية والتي من شأنها أن تأخذ الحيز الكامل فيها وأن تنسي الأتراك فشله في إدارة ملف اللاجئين السوريين الذي يبقى ملفا عالقا لعقد كامل.

ربما لن يكون النظام السوري مجبرا على إعادة تقدير الموقف في ملف التقارب مع تركيا بعد كارثة الزلزال، خاصة أنه حقق مكسبا إستراتيجيا بعد موجة التعاطف العربي وتقارب الأنظمة العربية نحوه. كما أن الأسد يبدو في وضع مريح نسبيا بعد تعليق قانون قيصر بشكل مؤقت، مما سمح بتدفق المزيد من المساعدات والأموال وهي جرعة أوكسجين هامة لنظامه. لكنه، وفي نفس الوقت، فوّت فرصة كبيرة لابتزاز أنقرة بموضوع المعارضة والقضاء على آخر ما تبقى منها في تركيا، بعد أن أصبحت العودة الطوعية للاجئين لا تستدعي أيّ تفاوض وأيّ تنازلات من الجانب التركي، وبعد أن أصبحت تركيا مهتمة أكثر بالشأن الداخلي ولا تضع في أجندتها الملف السوري كأولوية بعد أن أتت أولوية الزلزال.

لقد ألغى الزلزال كل التوقعات والحسابات السياسية بعد أن ألقى بظلاله على مسألة التقارب السوري – التركي، ولكن وحتى وإن حققت أنقرة مكسبا من خلال فتح المعابر ومرور الآلاف من اللاجئين إلّا أن المسألة الأمنية قد تدفعها مكرهة إلى التقرب من الأسد في وقت لاحق.

العرب

—————————–

معاً لمنع كارثة إنسانية أخرى عقب زلزال سوريا/ مهند هادي

اهتزت الأرض يوم السادس من فبراير (شباط) 2023، وخلفت خسائر لن تعوض في الأرواح، وخسائر في الممتلكات ستحتاج إلى أعوام طويلة من الإصلاح. وكأن الناس في سوريا لم يعانوا ما يكفي على مدار العقد الماضي، ليجدوا أنفسهم اليوم يواجهون وحدهم آثار زلزال مدمر لم يحدث مثله منذ أكثر من قرن، وربما أكثر. لقد شهدت سوريا الكثير من الأزمات والمحن، بدءاً من الحرب التي تسببت في تدمير البنية التحتية للبلد، ومقتل الآلاف من الناس، وتهجير مئات الآلاف، إلى الوباء الذي أثر على النظام الصحي، وترك آثاراً وخيمة على الاقتصاد. والآن، تعاني سوريا من محنة جديدة.

لقد قُتِلَ أكثر من ستة آلاف شخص في المناطق المتضررة من الهزات الأرضية داخل سوريا، وهذا العدد مرشح للازدياد مع أعداد المفقودين الذين ما زالوا تحت الأنقاض، وأُصيب أكثر من عشرة آلاف شخص آخرين.

الأضرار في المباني والبنية التحتية جسيمة وتفوق الخيال. فقد انهارت عشرات الآلاف من المباني السكنية خلال دقائق عدة، وأصبحت عشرات الآلاف من العائلات من دون مأوى، كذلك تضررت الخدمات الحيوية، مثل المستشفيات، والمراكز الصحية، وخطوط الكهرباء، وأنابيب المياه، وبنية الصرف الصحي.

من ناحية أخرى، لم تكن الأضرار النفسية أقل شدة من الأضرار المادية.

فقد خلف الزلزال هزة جديدة، وهي هزة نفسية ستحتاج سنوات وسنوات حتى تُمحى آثارها من ذاكرة من عاشوها. ويعاني نحو تسعة ملايين شخص في سوريا اليوم من آثار هذا الزلزال، حيث سيحتاج خمسة ملايين منهم إلى نوع من أنواع المساعدات الإنسانية في محافظات حلب وحماة واللاذقية وحمص وطرطوس وإدلب. وحتى قبل وقوع الزلزال، تشير التقديرات إلى أن أكثر من خمسة عشر مليون شخص في سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية هذا العام. وتعمل منظمات الأمم المتحدة داخل سوريا لتلبية الاحتياجات الإنسانية منذ اندلاع الصراع السوري عام 2011 لمساعدة نحو سبعة ملايين شخص كل شهر.

وبعد ثلاثة أيام من الإغلاق المؤقت للمعبر الحدودي مع تركيا بسبب الطرقات المتضررة نتيجة الزلزال، استأنفت الأمم المتحدة عملياتها الإنسانية إلى الشمال السوري عبر الحدود، في التاسع من فبراير. وقد تم نقل وتوزيع جميع المواد المتوفرة في المستودعات الموجودة في تركيا إلى سوريا لتوزيعها فور وقوع الزلزال، إضافة إلى توزيع المواد التي كانت متوفرة سابقاً في مستودعات الأمم المتحدة في سوريا. وفي غضون ساعات، خصصت الأمم المتحدة 25 مليون دولار من صندوق الطوارئ لدعم الاستجابة في كل من تركيا وسوريا. ولاحقاً، تم تخصيص 25 مليون دولار إضافية للاستجابة داخل سوريا فقط.

ونعمل حالياً على توسيع نطاق الاستجابة للزلزال وإدخال أربعين شاحنة محملة بالمواد الإغاثية اللازمة يومياً إلى الشمال السوري، وهذا ضعف كمية المساعدات ما قبل الزلزال. وجرى فتح معبرين، هما «باب السلام» و«الراعي»، إضافة إلى «باب الهوى»، ودخلت عن طريقها أكثر من ثلاثمائة وثمانين شاحنة منذ بداية وقوع الهزة.

نحن ملتزمون بمواصلة مساعدة السوريين للتخفيف من آثار الصراع والهزات الأرضية، من خلال تقديم المساعدات الضرورية للأشخاص الأكثر احتياجاً وحمايتهم. وتقع على عاتقنا مسؤولية الوصول إلى جميع السكان المتضررين ومساعدتهم، أينما كانوا في جميع أنحاء سوريا.

بالإضافة إلى التأثير المباشر للزلزال، تتفاقم الاحتياجات الإنسانية بسبب أشهر الشتاء، والأزمة الاقتصادية، وأزمة الغذاء والوقود العالمية، وتفشي الأمراض. ونحن قلقون للغاية من احتمال حدوث كارثة إنسانية أخرى بسبب الأضرار التي لحقت بشبكات المياه، وامتزاج مياه الشرب مع مياه الصرف الصحي، خصوصاً وسط تفشي الكوليرا الذي لا يشكل خطراً على الأشخاص المقيمين في سوريا فحسب، بل يشمل خطورة الانتشار لدول الجوار. إنه تهديد حقيقي يجب احتواؤه.

وقد أطلقت الأمم المتحدة نداءً عاجلاً بقيمة ما يقرب من 400 مليون دولار لتقديم المساعدة العاجلة المنقذة للحياة إلى ما يقرب من خمسة ملايين سوري من المتضررين من الزلازل، لمدة أولية مدتها ثلاثة أشهر. وهناك حاجة إلى تمويل عاجل ومرن لتلبية الاحتياجات الإنسانية السابقة والجديدة لملايين المدنيين المتضررين، حيث يقوم الشركاء في المجال الإنساني بإعادة تنسيق استجابتهم لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً أولاً، واستدامة العمليات المنقذة للحياة. إن الاحتياجات الأكثر إلحاحاً في اللحظة الراهنة هي المأوى والمستلزمات الشتوية والمساعدات النقدية والإمدادات الطبية ودعم المراكز الطبية وإزالة الأنقاض.

إنني أناشد الجميع، وكل من يمكنه المساعدة، من هيئات ومؤسسات وجهات مانحة وأفراد في المنطقة وحول العالم، بالاستمرار في دعمهم للناس في سوريا بكافة الوسائل المتاحة، بما في ذلك دعم استجابة المؤسسات الأممية الإغاثية من خلال الدعم المادي لهذا النداء. إن هذه الأزمة هي اختبار حقيقي للسخاء والتضامن والدبلوماسية العالمية؛ لذا يجب بذل أقصى الجهود لتخطي عواقب هذه الكارثة الطبيعية بأقل الأضرار، ولمنع كارثة إنسانية أخرى.

فمعاً نستطيع إنقاذ الأرواح.

منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية

الشرق الأوسط

———————————

مشاكل المساعدات والحاجة في سوريا/ فايز سارة

يملك السوريون أكثر من أي شعب في عالم اليوم تاريخاً صعباً من الحاجة إلى دعم الحياة وتحسينها، ليس بسبب قلة الموارد والإمكانات، وهي كثيرة، ولديهم أيضاً ما هو أهم وخلاصته، أن السوريين معروفون بهمتهم العالية في العمل والنشاط، وقدرتهم على خلق شروط أفضل للحياة، وهذه حالة أكدها وجود السوريين في العديد من دول هجروا وهاجروا إليها في العقد الماضي. أبرز محطات الحاجة السورية، حدثت مع ولادة نظام الفساد والاستبداد.

وقد سعى السوريون للتغلب بما أمكن من وسائل لمواجهة سياسة النظام في الإفقار وتعميق الحاجة من خلال الهجرة والاغتراب في أنحاء مختلفة من العالم، وغزو أسواق العمل المتاحة وخاصة في البلدان العربية، حيث نجا جزء، ووقعت الأكثرية تحت عبء الحاجة، وهذا ما وصلت إليه في دراسة لي عن الفقر في سوريا، نشرت في العام 2010، قالت استناداً إلى إحصائيات وتحليلات سورية ودولية، إن معدل الفقر في سوريا، طال آنذاك اثنين من كل ثلاثة سوريين، أي أن ثلثي السكان خرجوا من عهد الأسد الأب، ودخلوا عهد الأسد الابن في حالة من الفقر، وكان ذلك بين الأسباب المؤكدة لثورة السوريين في العام 2011.

ومنذ الأيام الأولى للثورة لجأ النظام إلى جانب عملياته العسكرية – الأمنية إلى تدمير المرتكزات الاقتصادية للحياة السورية؛ إذ فتح أبواب هجرة وتهجير السكان بالتوازي مع تدمير ممتلكاتهم ونهب ما يمكن نهبه في عمليات التعفيش، وعطل الأنشطة الاقتصادية وقطع الطرق، ودمر المرافق والخدمات العامة، وحاصر مدناً وقرى وأحياء في إطار استراتيجيته في تصعيد الحاجة عند السوريين ليسهل إخضاعهم وإعادتهم إلى حظيرته، غير أن وحشيته لم تجبر السوريين على الخضوع، بل اتجهوا وسط حملات تضامن ومساعدة بعضهم بعضاً إلى تأكيد رفض النظام وأطروحاته وسياساته رغم ما حل به من خسائر بشرية ومادية، وتدهور في مستويات حياتهم، وصعوبات في تلبية احتياجاتهم سواء للمقيمين في سوريا واللاجئين في بلدان الجوار القريبة منها، وقد تجاوزت حالات الفقر، التي تحتاج إلى مساعدة ما يزيد على ثمانين في المائة من إجمالي السوريين، حسب الأمم المتحدة. ورغم تمزق سوريا إلى ثلاثة من كيانات الأمر الواقع، فإن نظام الأسد الذي يمثل واحداً منها، سعى طوال الوقت إلى التحكم في المساعدات الدولية، من أجل نهبها، وتوزيع فتات منها على أنصاره ومؤيديه بمساعدة داعميه الدوليين وفي مقدمتهم الإيرانيون، وقد سمح التراخي الدولي، وتخلي بعض الدول عن مسؤولياتها في مساعدة السوريين إلى تردي أحوال السكان في المناطق كافة.

وإذا جاء الزلزال في ظل هذه الحالة، فإنه دفع نحو انهيار شامل، امتد خصوصاً في ثلاثة من مناطق الانتشار السوري، أولها عشر مقاطعات تركية، تمتد في منطقة الشمال الغربي من الحدود المشتركة للبلدين، وهي المنطقة التي تضم قسماً كبيراً من لاجئي تركيا أغلبهم من الفقراء ومتوسطي الأحوال، وإضافة إلى الضحايا من القتلى والجرحى، فقد خسر السوريون هناك كل شيء، وبات عليهم البداية من الصفر – والمثال الفج على ما أصابهم كان في إقليم هاتاي الذي سويت فيه معظم مباني مدينة أنطاكية بالأرض.

والمنطقة الثانية التي ضربها الزلزال كانت منطقة شمال غربي سوريا شاملة ريف حلب ومدينة إدلب وريفها والمسماة بمنطقة السيطرة التركية، وكانت آثار الزلزال فيها شديدة بسبب اكتظاظها البشري، وتوسعها العمراني العشوائي والبعيد عن الرقابة، ودمر الزلزال تجمعات سكانية رئيسية وهدم مساكنها ومرافقها بصورة شبه كاملة، كما حصل في جنديرس التابعة لمدينة عفرين، وجعل أغلب سكانها ضحايا بين قتيل وجريح، وخسر معظم السكان ما يملكون أو كله. وامتدت المنطقة الثالثة في الزلزال عبر مناطق سيطرة النظام. إذ شملت محافظات حلب وحماة وطرطوس واللاذقية، وكانت النتيجة وقوع خسائر بشرية كبيرة من قتلى وجرحى، وخسر بعض سكان تلك المناطق، ما يملكون نتيجة ما سببه الزلزال من دمار وأضرار بمناطق واسعة.

لقد ضاعف الزلزال حاجة السوريين وحوّل ملايين إلى معدمين، وهو وضع كان يفترض بالمساعدات الدولية وتحويلات السوريين إلى أهاليهم، أن تعالجه ولو جزئياً، لكن ما حدث من نتائج، كان أقل من جزئي بفعل ظروف وأسباب بعضها أحاطه الغموض والبعض الآخر كان مفهوماً من خلال روابط واعتبارات سياسية، أو لأسباب مصلحية، سواء كانت مصالح دول وحكومات وجماعات، وكلها أدت في النهاية إلى عجز المساعدات عن تلبية الحاجة السورية بالدرجة الممكنة، وليس المطلوبة؛ لأن المطلوب كثير.

إن ما يفسر عجز المساعدات، يتمثل بصورة أساسية في مسارها ومحتواها ومآلها النهائي، وفي هذا يمكن تسجيل أربع ملاحظات، أولى الملاحظات تأخر المساعدات، وكان ذلك واضحاً في وصولها ثم في مرورها عبر معابر إلى مناطق الحاجة، مما زاد في معاناة الضحايا، وأثبت فشلاً في امتصاص قوة الصدمات الأولى من الزلزال، وتقوية الضحايا والمناصرين على الاستجابة. والثانية محدودية المساعدات وخاصة تلك التي توجهت لمنطقة شمال غرب، والتي اقتصرت على المساعدات الإسعافية من خيام وأغذية ودواء، وغابت عنها المساعدات الإنقاذية من فرق الإنقاذ والمعدات والتجهيزات؛ الأمر الذي رفع أعداد القتلى بسبب العجز عن رفع الأنقاض والركام عنهم، والملاحظة الثالثة، ضعف التعبيرات المباشرة عن حجم وتأثير المساعدات في البيئات المنكوبة.

رغم ما قيل عن مساعدات كبيرة وصلت إلى مناطق سيطرة النظام، أو تلك التي وصلت عبر تركيا. وإذا كانت الأخيرة توزعت بين مناطق الزلزال في تركيا ومناطق شمال غربي سوريا مما يخفف من تعبيراتها المباشرة، فإن سبب غياب هذه التعبيرات في مناطق سيطرة النظام سببه الرئيسي قيام النظام بالاستيلاء على المساعدات، كما تسربت أنباء عن قيام الإيرانيين الذين يسيطرون على حلب بمسعى للتحكم في مساعدات أردنية وصلت إلى هناك.

والملاحظة الرابعة، تتصل بالفوضى، التي أحاطت بوصول المساعدات وتوزيعها، حيث لم تكن لها مرجعية واحدة، بل إنها كانت متعددة المرجعيات في كل منطقة، قللت من فرص وصول المساعدات إلى أصحابها، وفتحت الأبواب نحو فساد ممكن في غياب الرقابة وتداخل شبكات الوصول.

ورغم الملاحظات، فلا بد من قول إن عجز المساعدات في تلبية الحاجة السورية، لا يقلل من مساهمتها في تخفيف الكارثة عن الضحايا، وإنها تأكيد على نهج المساعدة الإنسانية الذي يتبناه العالم رغم الضغوط والأزمات التي تجتاحه، والتي تدفع إلى تسييس المساعدات حسبما ظهر في سوريا، التي ينبغي أن تكون خارج التسييس لأنها إنسانية بالأصل.

الشرق الأوسط

—————————–

زلزال تركيا وسوريا… أزمة في قلب أزمة/ ديفيد ميليباند

كانت عواقب الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا يوم الاثنين 6 فبراير (شباط) بقوة 7.8 درجة، مدمرة بكل معنى الكلمة، وهذا ما يخبرنا به موظفو لجنة الإنقاذ الدولية على الأرض في تقاريرهم عن المعاناة الإنسانية الهائلة والمستويات المذهلة من الدمار.

لم يتسبب الزلزال في مقتل أكثر من 46 ألف شخص وإصابة أكثر من 100 ألف آخرين فحسب، بل أدَّى إلى تفاقم الوضع المتهالك بالفعل الذي ما انفكّت تعيشه الأسر السورية، التي تعاني من أزمة هائلة منذ نحو اثني عشر عاماً.

يقوم موظفو لجنة الإنقاذ الدولية البالغ عددهم 1000 موظف محلي داخل سوريا منذ عام 2012، بالاستجابة لاحتياجات المجتمع في شمال غربي البلاد وشمال شرقها من خلال توفير الرعاية الصحية وخدمات الحماية وبرامج تنمية الطفولة المبكرة وتعزيز الانتعاش الاقتصادي.

تقف سوريا في مواجهة الكثير من الصعوبات التي تجعلها واحدة من أكثر حالات الطوارئ الإنسانية تعقيداً في العالم. ففي شمال غربي سوريا، يعيش 4.4 مليون شخص في أوضاع أمنية متقلبة، ما جعل وصول المساعدات الإنسانية –حتى قبل الزلزال– أمراً صعباً للغاية. ويعيش المدنيون في هذه المناطق في صراع دائم ويشهدون الكثير من الفظائع، بينما يعاني الكثير منهم من ندوب جسدية وعاطفية تُغيِّر حياتهم.

في هذه الظروف الصعبة جاء الزلزال ليشكِّل أزمة داخل أزمة. أزمة كادت تختفي من عناوين الأخبار، لكنها تتطلب منّا اهتماماً عاجلاً ومتجدداً والتزاماً طويل الأمد.

هناك ثلاثة عوامل مركّبة تجب معالجتها مع استمرار هذه الاستجابة:

أولاً، التهجير: منذ عام 2011 نزح نحو 7 ملايين سوري داخل البلاد بسبب الصراع. وتشير التقديرات، الآن، إلى نزوح عشرات الآلاف من النازحين حديثاً بسبب الزلزال، وهم بحاجة ماسّة إلى المأوى والأمان. وكان الكثير من هذه العائلات قد هُجِّرت أكثر من مرة خلال العقد الماضي.

قبل يوم واحد فقط من وقوع الزلزال، كان أكثر من ثلثي سكان سوريا البالغ عددهم 22 مليون نسمة في حاجة إلى مساعدات إنسانية –أكثر من أي وقت مضى منذ بدء النزاع. ولكن ما تلا ذلك كان أسوأ، وقد تضاعفت تلك الاحتياجات.

ثانياً، الظروف التي تهدد الحياة: انخفضت درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في الأسابيع الأخيرة. وبات معظم الناس في العراء من دون مكان آمن أو دافئ ليلاً. قلةٌ هم في الخيام والكثير منهم ينامون في الخارج بإضرام النار للتدفئة.

كان 800 ألف شخص في شمال غربي سوريا يعيشون قبل الزلزال بالفعل في مبانٍ مؤقتة من دون ماء أو كهرباء أو صرف صحي. ومع استمرار ارتفاع عدد الضحايا، تحذّر لجنة الإنقاذ الدولية من كارثة ثانية محتملة للناجين، إذا لم يحصلوا على وسائل العيش الأساسية.

لقد انهار نظام الرعاية الصحية وبات غير قادر الآن على التكيف، بعد سنوات من النزاع، حيث تعاني المستشفيات في شمال سوريا من ضغط شديد، وحيث إن الأضرار التي لحقت بالطرق والظروف الجوية الحالية تجعل الوصول إلى الخدمات الصحية أمراً معقداً ومحفوفاً بالأخطار بشكل متزايد.

لذلك، تدعو لجنة الإنقاذ الدولية المجتمع الدولي إلى زيادة التمويل بشكل عاجل لضمان حصول العائلات على المساعدة الطبية المنقذة للحياة والمياه النظيفة والغذاء والمأوى.

ثالثا، الوصول الإنساني: هناك حاجة إلى المساعدة من العالم الخارجي الآن أكثر من أي وقت مضى. ولكن لا يمكن للغالبية العظمى من المساعدات أن تصل إلى الناس إلا من خلال المرور عبر الحدود السورية – التركية. ونحن نعلم أن الطرق والبنية التحتية، مثل الجسور، قد تضررت من الزلزال، مما يجعل وصول الإمدادات إلى الناس أكثر صعوبة.

ولكن حتى قبل الزلزال، كان الوضع الإنساني في شمال غربي سوريا مزرياً بسبب صعوبة إمكان الوصول لتلبية الاحتياجات المتزايدة. أما الآن، فقد جعل الدمار زيادة الوصول الإنساني إلى هذه المجتمعات بأي وسيلة ممكنة أمراً ذا أهمية قصوى.

تحاجج لجنة الإنقاذ الدولية باستمرار بأن المساعدة عبر الحدود هي شريان حياة حيوي في غياب بدائل عملية قابلة للتطبيق. وقد ناقشنا توسيع هذه المساعدة إلى ما بعد نقطة عبور واحدة لضمان التدفق المناسب للأشخاص والمعدات والإمدادات إلى شمال غربي سوريا لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة.

نرحّب بإعلان فتح نقطتَي عبور إضافيتين، باتتا متاحتين لعبور الشحنات التجارية، مما يجعل الحصول على مساعدة الأمم المتحدة عبر الحدود ممكناً في الأشهر الثلاثة المقبلة. نأمل أن يضمن ذلك تسهيلات أسرع وتوسيع نطاق المساعدات التي تشتد الحاجة إليها لشمال غربي سوريا. مع ذلك، فإن تأثير هذا الزلزال سيظل راهناً أطول من الأشهر الثلاثة، لذلك سوف نستمر في المطالبة بتوسيع جميع المسارات الصالحة لإيصال المساعدات وتمديدها.

نداء عالمي عاجل للعمل: لا تزال لجنة الإنقاذ الدولية ملتزمة وتعمل على توسيع نطاق الاستجابة المتكاملة في كلا البلدين، بفضل شجاعة زملائنا ودعم شركائنا في المنطقة.

لمنع وقوع كارثة إنسانية ناجمة عن الكارثة الأولى، لجميع المحتاجين بمن في ذلك أولئك الذين كانوا يعانون بالفعل قبل الزلزال، تدعو لجنة الإنقاذ الدولية المجتمع الدولي إلى زيادة التمويل لمساعدة الناس للبقاء على قيد الحياة والتعافي وإعادة بناء حياتهم. لقد غدا وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر تضرراً للمحتاجين أينما كانوا، أكثر إلحاحاً اليوم من ذي قبل، خصوصاً في شمال غربي سوريا، حيث تتعرض المجتمعات لخطر التخلّي عنها.

لقد نهضت دول الخليج لتوفير إمدادات الإغاثة، ونظّمت حملات تبرعات جمعت أكثر من 385 مليون دولار، ونقلت خدمات الطوارئ جواً إلى كلا البلدين. من المهم أن تستمر هذه الجهود الرائعة في مرحلة ما بعد الصدمة حيث تبدأ أعمال التعافي وإعادة التأهيل في جميع المناطق المتضررة.

إن حجم هذه المأساة لا يتطلب فقط تمويلاً طويل الأجل ووصولاً غير مقيّد للمساعدات الإنسانية، بل يتطلب فوق ذلك تضامناً دولياً مستداماً.

رئيس ومدير لجنة الإنقاذ الدولية التنفيذي ووزير خارجية بريطانيا من 2007 إلى 2010

الشرق الأوسط

————————–

حتى الزلازل عاجزة عن إثارة تعاطف الاسد/ حايد حايد

يُعتبر الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 فبراير/ شباط الاكبر في تاريخ المنطقة منذ عقود، حيث شعر به سكان في كل من لبنان والأراضي الفلسطينية واليونان وقبرص وأرمينيا وجورجيا والعراق وبعض المناطق في مصر. وتشير التقارير إلى وفاة أكثر من اربعين ألف شخص في تركيا وما يقارب ٦٤٠٠ آخرين في سوريا، بالإضافة إلى تضرر أكثر من ٨ ملايين.

وعلى خلاف الأعراف عقب أزمات بهذا الحجم، لم يقم النظام السوري (ممثلاً برئيسه او حكومته) بمواساة الشعب على أرواح الضحايا لمدة قاربت الأسبوعين. ركّز النظام في تلك الفترة جهوده على استغلال المأساة للضغط باتجاه رفع العقوبات، وفك عزلته السياسية، بالإضافة إلى طلب المزيد من المساعدات. حتى عندما خاطب الشعب السوري تحت ضغط التساؤلات عن غيابه، امتنع الأسد عن إعلان الحداد الرسمي، كما ركز في كلمته المتلفزة على “ضحاياه وجرحاه” متجاهلاً ادلب وسكانها.

من الملفت للنظر أن تعاطي السلطات التركية مع ضحايا الزلزال في بلدهم كان مختلفا تماما. حيث أصدرت الحكومة في الساعات الأولى التي تلت الزلزال بيان عاجل أعلنت فيه الحداد الوطني لمدة أسبوع. وعلى الرغم من أن عدد الضحايا في تركيا أكبر عن مثيله في سوريا، لكن من غير المرجح على الإطلاق ان يكون هذا هو السبب وراء احجام النظام السوري عن اعلان الحداد. ذلك ان ممارسة هذا الطقس مرتبطة عادة بهول المصيبة لا بعدد ضحاياها. فعلى سبيل المثال، قامت الحكومة اللبنانية بإعلان الحداد الوطني على ضحايا انفجار بيروت الذي وقع في أغسطس/ آب ٢٠٢٠ والذي أسفر عن مقتل ما يقارب ٢٢٠ شخص. كما قامت الحكومة العراقية بإعلان الحداد ثلاثة أيام على ضحايا العبارة التي غرقت في مدينة الموصل في شهر مارس/ آذار ٢٠١٩ والتي أدت إلى غرق 118 شخص.

الحداد الوطني هو بطبيعته فعل معنوي لإشعار الضحايا وأهاليهم بتضامن الحكومة معهم وتعاطفها مع مصيبتهم. غير أن هذا السلوك الأخلاقي البسيط يتطلب ان تشعر الحكومة أو الحاكم بمسؤولية تجاه مواطنيه، وهو ما يتناقض مع الأنظمة لتي تنظر لرعاياها على انهم اتباع. لذلك من غير المفاجئ عدم قيام النظام السوري بإعلان الحداد العام للتعاطف مع مواطنيه على مدى حكمه الطويل، حيث انه ينظر لهم كحاشية مفروض عليها أن تطيع الأوامر وتعلن امتنانها للعطايا. من الملفت للنظر أن غالبية المناسبات التي دفعت النظام السوري لإعلان الحداد كانت مرتبطة بأحداث سياسية خارجية. فيما ارتبطت باقي مناسبات الحداد العام بوفاة أحد أفراد العائلة الاسدية الحاكمة، وعلى رأسها وفاة الرئيس حافظ الأسد (٢٠٠٠) وأبنه باسل الأسد الذي كان يجري تأهيله لخلافة والده (١٩٩٤). أي ان النظام الاسدي لا يشعر بالمسؤولية إلا نحو نفسه أو تجاه دول أخرى (مع العلم أن الأخير يكون عادة مدفوعاً بمصالح اقتصادية أو سياسية).

عقلية الطاعة او العصا هي ما دفع النظام السوري لاستخدام العنف المفرط ضد مواطنيه طوال السنوات الماضية، حيث لا يُسمح للاتباع بطلب الحرية او التغيير. تساعد هذه الذهنية أيضاً في تفسير طريقة تعاطي النظام السوري مع كارثة الزلزال ومحاولته استغلالها لتحقيق مصالحه. حيث سعى الأسد منذ اللحظات الأولى لوقوع الزلزال إلى استغلال هذه المأساة للضغط على المجتمع الدولي لرفع العقوبات المفروضة عليه. على عكس العقوبات الاقتصادية التي لا تمنع المساعدات من دخول مناطق سيطرة الحكومة السورية، فإن النظام السوري حاول جاهداً، على مدى العقود الماضية، إيقاف او الحد من وصول المساعدات إلى مناطق المعارضة بهدف تعزيز احتكاره للمساعدات وتعزيز شرعيته على الساحة الدولية.

عدم تعاطف الأسد مع ضحايا الزلزال كان أيضا واضحاً في امتناع الأسد عن زيارة المناطق المنكوبة لمدة ٤ أيام. حتى عندما ظهر بشار في حلب، تحت ضغط تسليط الاعلام الغربي ووسائل التواصل الاجتماعي على غيابه، كان يضحك مما أثار غضب الضحايا الذين شاهدوا صور تغطية الحدث. عدم إحساس النظام بالمسؤولية تجاه الضحايا تجلى كذلك في استمرار انتهاكاته بحق المدنيين، حيث قام الجيش بقصف بلدة مارع المتضررة في شمال حلب وأرسل دبابات إلى السويداء بالساعات التي تلت الكارثة.

خطاب الأسد المتلفز كان فرصته الأخيرة لإظهار شعوره بالمسؤولية تجاها ضحايا الزلزال، لكنه لم يكن معني بذلك الأمر. حيث انصب تركيزه على ضرورة حماية الوطن بغض النظر عن حجم التحدي او الإمكانيات، وشكر الدول التي أرسلت مساعدات إلى الحكومة. “رحم الله فقداءَنا، وشفى جرحانا”. بهذه الكلمات التي ذيلت خطابه، توجه الأسد للمتضررين بالزلزال بشكل مقتضب وغير شخصي.

تسييس النظام للزلزال وتعاطيه معه بشكل خالي من التعاطف هو أحد الأمثلة التي لا تنتهي عن الأسباب التي  دفعت السوريين للتظاهر في ٢٠١١ وما زالت تمنع الملايين من العودة إلى مناطقه بالرغم من كل الألم والصعوبات التي يعانون منها في الداخل السوري او خارجه.

المجلة

————————–

مصائب السوريين وفوائد قوم المتنبي/ عالية منصور

مع الهزات الارتدادية للزلزال الذي ضرب كهرمان مرعش التركية قبل اسبوعين التي لم تتوقف ويبدو انها ستستمر لفترة كما يقول علماء الجيولوجيا، ومع ارتفاع عدد الضحايا ليصل الى نحو خمسين الف انسان بينهم نحو 10 الاف سوري قضى معظمهم تحت الانقاض في مدن لجأووا اليها في تركيا، أو في مناطق شمال غرب سوريا الخارجة عن سلطة النظام السوري.

مع حكايا بدأنا نسمع بها لناجين تمنوا لو انهم قضوا مع عائلاتهم، واطفال باتوا بلمح البصر ايتاما ووحيدين، مع الاف البشر عاد العراء مآواهم بانتظار خيمة ما تأتيهم من جهة مانحة، لا يبدو ان بالامكان الحديث عن حدث آخر.

كلمة “كارثة”، قد لا تصف حقيقة ما حل بالناس، اقل من دقيقة استمر فيها الزلزال كانت كفيلة ان تغير حياتهم وتقلبها رأسا على عقب لسنين طويلة.

الصور التي شاهدها العالم بأسره على شاشات التلفزيون وصفحات الانترنت ليست المشاهد الوحيدة التي يمكن رصدها، مشاهد ما بعد الزلزال قد يكون لها اثر الزلزال نفسه.

في المشهد الاول، ايام تمضي والسوريون في مناطق شمال غربي سوريا محرومون من اي مساعدة، حتى من كانوا يقومون بمهام “دولة”، وهنا اقصد الدفاع المدني “الخوذ البيضاء”، على مدى ايام يطالبون ويستنجدون بالعالم بضرورة ارسال اليات ومعدات تساعدهم على رفع الانقاض وانقاذ من بقي فيه رمق، ولكن ما من مجيب.

كانت الذريعة ان لا طريق الى تلك المناطق، وان الطريق قد تضرر بفعل الزلزال، لكن نقل جثامين السوريين الذين قضوا في تركيا ليدفنوا في سوريا أثبت كذب الادعاء، فالطريق سالكة ولا اسباب لوجيسيتة منعت نقل الجثامين، اذن وحدها الاسباب السياسية منعت اغاثة وانقاذ السوريين.

في المشهد الثاني: بشار الاسد يزور حلب متفقدا الاضرار، زارها بعد زيارة اسماعيل قاني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الايراني، زارها ضاحكا فرحا لم يستطع اخفاء فرحته. فرحة لم يفهمها البعض في تلك اللحظة ولكنها باتت اليوم مفهومة للجميع، وخصوصا اذا ما اخذنا بالاعتبار ان مقتل 10 الاف سوري لن يسبب اي حزن لمن تسبب بمقتل مئات الالاف منهم. في حلب توجه بالحديث لقائد ميليشيا عراقية تابع لايران وتسيطر على أجزاء كبيرة من حلب، مبتهجا قائلا له انهم سويا انتصروا.

المشهد الثالث الذي يجمع بين المشهدين، كانت حملة بعض الاعلام والاعلان المبرمجة التي تطالب برفع الحصار عن سوريا، وتقول ان العقوبات تحول دون انقاذ السوريين. بينما الحقيقة التي لا تقبل النقاش هو ان سوريا الدولة ليست محاصرة، وتجارتها مع دول العالم مستمرة، وان المحاصر كانوا السوريون العالقون تحت الانقاض في مناطق المعارضة، يحاصرهم النظام ومعه روسيا بمنع دخول مساعدات الا من معبر باب الهوى، هذا المعبر الذي سمح ان يتم نقل الجثامين ومنعت المساعدات في الايام الاولى من ان تمر من خلاله.

وبينما كانت تركيا تمنع دخول المساعدات للسوريين في مناطق شمال سوريا عن طريق المعبر، اوردت وكالة “رويترز” خبرا مفاده ان تركيا تبحث اعادة فتح معبر مع النظام السوري وارسال المساعدات عن طريقه، بعد قطيعة استمرت لاكثر من عشر سنوات، ليبدو ان الزلزال ايضا لم يؤجل من نية الرئيس التركي اردوغان بالتطبيع مع الاسد.

لتمر ايام اخرى وليبلغ مارتن غريفيث منسق الأمم المتحدة للإغاثة في حالات الطوارئ في اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي أن الأسد وافق على السماح للأمم المتحدة بتوصيل المساعدات إلى سوريا عبر معبرين حدوديين آخرين من تركيا لمدة ثلاثة أشهر. اي انه اعترف انه هو من كان يحاصر السوريين لا “قانون قيصر” ولا العقوبات.

وليبدأ بعد ذلك المشهد الرابع: مشهد محاولات تعريب بشار الاسد والتطبيع معه، وليتوهم البعض ان الاسد منزعج من النفوذ الايراني وانه يستنجد بالاشقاء العرب، وان بالامكان مساعدة السوريين المنكوبين من خلاله، ولكن ضحكاته في حلب وكلماته كفيلة بأن تنفي هذا الادعاء. فهاهم وزراء عرب زاروا دمشق، ومسؤولون اتصلوا بالأسد الذي خطت طائرته الرئاسية في سلطنة عُمان، في زيارة  هي الاولى التي اتخذت طابعا رسميا  منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011.

وفي مشهد غير ذي أثر، هو مشهد “الائتلاف السوري” المعارض والمؤسسات المنبثقة عنه وعن المعارضة، فقد يكون الزلزال هو القشة التي كشفتهم للجميع، واصبح وجودهم عبأ على الثورة والسوريين.

وبين هذا وذاك، وبعد توقف استمر اسابيع، عاودت اسرائيل قصف سوريا، هذه المرة قصفت قلب العاصمة، وهي نادرا ما تشن ضربات مماثلة داخل دمشق، بل تقتصر ضرباتها معظم الاحيان على مواقع عسكرية على أطراف العاصمة وفي ريفها ومناطق أخرى. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يعرف تماما من او ماذا استهدفت اسرائيل، الا ان المؤكد ان موقع الاستهداف هو نفسه الموقع الذي اغتيل فيه القيادي في “حزب الله” اللبناني عماد مغنية عام 2008، وان الموقع هو عبارة عن  مكان سري تعقد فيه قيادات من النظام مع شخصيات ايرانية اجتماعات.

وحده مشهد القصف الاسرائيلي لا يزال غامضا وان كان يبدو انه رسالة مزدوجة، فلا اقوال الاسد وتسريباته ستقنع الاسرائيلين بانزعاجه من الوجود الايراني، ولا محاولة تلميع صورته بالسماح بالمساعدات الانسانية بالدخول ستنسي العالم ان ايران ما زالت هناك باستخباراتها والميليشيات الموالية لها واذرعها الثقافية والاقتصادية والتعليمية والتجارية.

وحدهم السوريون يرون مشهدا آخر يبدو ان قلة غيرهم تراه، هو مشهد دمار مدنهم وقراهم وصور ابنائهم قتلى في المعتقلات، ولقب شهيد أمام اسم من يحبونه قضى ببرميل متفجر  او بالسلاح الكيماوي او بقصف الطيران، هذه المشاهد التي لم تنسيهم اياها المشاهد التي خلفها الزلزال.

قال المتنبي يوما ان “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وكان حينها يتحدث عن نساء من الروم أخذن سبايا، فمصيبة تلك النساء والصبايا وعائلاتهن هي فوائد لمن اخذهن.

واليوم يحاول الاسد ان يستثمر في دماء السوريين الضحايا الذين سقطوا تحت أنقاض الزلزال، وهو الذي أدمن منذ اثني عشر عاما على سحق السوريين وقتل أحلامهم، وفي حلب مدينة المتنبي وشاعرها الأثير ، وقف بشار ليستعيد حكمة المتنبي لكن بالاتجاه العكسي، لقد أخذ الأسد سوريا رهينة عنده، وبات السوريون جميعا أسرى لديه فلا هو يطعمهم ولا هو يطلقهم، حتى بات العالم أجمع أمام ابتزاز قبيح لم يصل له خيال المتنبي، فإما يدير العالم ظهره لهؤلاء الأسرى ويتركهم للموت تحت الركام والجوع، أو يبادر بإطعامهم ولكن وفق شروط الآسر القبيح.

المجلة

————————-

تداعيات مزلزلة/ فرانشيسكو سيكاردي

إن مرحلة ما بعد 6 شباط/فبراير 2023 لن تكون أبدًا كما قبله بالنسبة إلى تركيا وسورية. فقد أودى الزلزال المدمّر الذي ضرب المنطقة في ذلك اليوم بحياة عشرات الآلاف من السكان (كانت حصيلة الخسائر البشرية 37,000 شخص في تركيا و5,800 شخص في سورية أثناء كتابة هذا المقال)، وأسفر عن تهجير ملايين الأشخاص على طول حدود البلدَين.

لا شكّ في أن مشاعر الحزن ومساعي إعادة الإعمار سترافق المواطنين السوريين والأتراك على مدى السنوات المقبلة، لكن بتنا نتلمّس أولى التداعيات السياسية الناجمة عن هذه الكارثة. ففي تركيا، يبدو المصير السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان على المحك.

فالسخط الشعبي من الاستجابة البطيئة التي أبدتها السلطات التركية للتصدّي إلى الكارثة قد يؤدّي إلى فقدان أردوغان فرصة إعادة انتخابه رئيسًا في السنة التي تصادف فيها الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. لكن من المستبعَد أن يتوجّه الأتراك إلى صناديق الاقتراع يوم 14 أيار/مايو نظرًا إلى الأضرار التي خلّفها الزلزال، ومن المرجّح تأجيل إجرائها إلى منتصف شهر حزيران/يونيو، أي المهلة المحدّدة دستوريًا، أو إلى العام 2024 في حال تمكّن أردوغان وحزبه من تحقيق ذلك. أما في سورية، فالرئيس بشار الأسد يستخدم التعاطف مع ضحايا الزلزال من السوريين للدعوة إلى رفع العقوبات الغربية المفروضة على البلاد ووضع حدّ لعزلته الدولية.

ستكون للزلزال تداعيات ضخمة على العلاقات التركية السورية. لقد حدث تقدّم على مستوى تحقيق التقارب بين البلدَين لغاية كانون الثاني/يناير من العام الجاري، بعد أكثر من عقدٍ من العداء والضغينة. فبعد الإحجام عن تنفيذ التوغّل العسكري الخامس في شمال سورية، بدأت القيادة التركية إرسال إشارات مشجعة إلى دمشق. في المقابل، اشترط نظام الأسد انسحاب جميع القوات التركية من سورية. لكن بات التقاء المصالح بين أنقرة ودمشق ممكنًا على نحو متزايد بهدف إحباط تطلّعات استقلال الأكراد في شمال شرق سورية.

وإن كان اهتمام الأسد بالانفتاح التركي نحو بلاده قد أمْلته رغبته في الصمود السياسي، فسياسة تركيا المتعلقة بسورية تُحرّكها عوامل خارجية وداخلية على السواء. من جهة، كانت روسيا تدفع تركيا لفتح قنوات حوار مع سورية بهدف خفض فرص الانتشار العسكري التركي الموسّع في شمال سورية، ودقّ إسفين بين أنقرة وحلفائها الغربيين، الذين يعارضون أي مصالحة مع النظام السوري. ومن جهة أخرى، اعتبرت أنقرة أن تحسين علاقاتها مع سورية قد يساعدها على تحقيق مكاسب انتخابية من خلال إظهار أن الحكومة سعت من أجل التوصّل إلى حلول عملية لأعداد اللاجئين السوريين الكبيرة في تركيا. وسيكون ذلك بمثابة سرقة نقطة من المعارضة التي اقترحت إجراء حوار مع الأسد كحلّ لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وقد سلّط ذلك أيضًا الضوء على القضية الكردية في النقاش السياسي التركي، ما اعتبر أردوغان أنه سيصبّ في صالحه.

بعد زلزال 6 شباط/فبراير، تغّيرت هذه الاعتبارات بطرق عدّة. على الصعيد الدولي، ستواصل روسيا وقوى إقليمية أخرى الترويج للتطبيع مع نظام الأسد. وقد قدّمت بعض من هذه الدول، مثل الإمارات العربية المتحدة، بسخاء مساعدات طارئة إلى تركيا وسورية، إضافةً إلى المساهمة في تحسين المالية العامة لتركيا. وعلى الصعيد المحلي، من المنطقي ألا يكون الوقت مناسبًا لقيام أنقرة بتصعيد خطابها المناهض للأكراد السوريين، ناهيك عن إقناع ناخبيها بأن مكافحة الإرهاب وضبط الحدود يشكّلان مبرّرًا جيّدًا لنشر الجيش التركي في شمال سورية. علاوةً على ذلك، أعلن حزب العمال الكردستاني عن تعليق عملياته مؤقتًا في تركيا، ما من شأنه أن يصعّب أكثر على الحكومة تبرير موقفها. مع ذلك، برزت تقارير عن تنفيذ غارات تركية بطائرات مسيّرة في شمال سورية خلال الأسبوع الذي أعقب الزلزال.

وعلى الرغم من أن عمليات الإغاثة ستبقى الشغل الشاغل للحكومة التركية على الأمدَين القصير والمتوسط، ستشكّل قضية اللاجئين على نحو متزايد عقبة أساسية في طريقها. واقع الحال أن الخطاب الشعبوي المعادي للسوريين قد تصاعد في المناطق التركية الأكثر تضرّرًا من الزلزال. واتُّهم السوريون بالسرقة، وانتشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي بفضل حملة نظمها سياسيون يمينيون متطرّفون مناهضون للاجئين على غرار أوميت أوزداغ. ومن المستبعد أن تنتهي هذه الظاهرة في وقت قريب. لكن من الصعب تخيّل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى بلادهم في ظل الظروف الراهنة.

وسيتعيّن على تركيا أيضًا التعامل مع احتمال تدفّق المزيد من اللاجئين السوريين من محافظة إدلب، التي كانت قبل الزلزال تأوي نحو 3 ملايين من الأشخاص النازحين داخليًا. لهذا السبب، من المستحيل أن تتمكّن أنقرة من الوفاء بالشروط المسبقة التي وضعها نظام الأسد للحوار، والمتمثّلة في سحب تركيا جيشها من شمال سورية ووقف دعمها للمتمرّدين على الأرض. فتركيا ترى أن استمرار وجودها العسكري في إدلب يشكّل ضمانة في وجه أي تدفق للاجئين عبر الحدود في المستقبل.

لا يضع كلّ ما سبق الكثير من الخيارات الجيدة أمام تركيا. وبات من المؤكّد، على ضوء الحملة الانتخابية، أن زلزال 6 شباط/فبراير عزّز تمحور أهداف السياسة التركية في سورية حول مصالح أردوغان الانتخابية. هذا هو المبدأ الذي سيوجّه خطوات تركيا ومفاوضاتها في المستقبل.

يُعتبر بشار الأسد أيضًا في وضع مماثل، إذ يقوم باحتساب كل خطوة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وإبعاد نفسه عن صورته كمنبوذ على الصعيد الدولي. وسيقدّم الأسد تنازلات يراها مناسبة في هذا الشأن. وأحدث مثال على ذلك فتح ممرات للمساعدات الإنسانية إلى مناطق شمال غرب سورية الخاضعة لسيطرة المتمردين. لكن وبينما تتجلّى حسابات الجانبَين التركي والسوري، ستبقى على الأرجح معاناة ضحايا الزلزال في البلدَين مستمرة. لكن لا يبدو أن لمأساتهم ثقلًا كبيرًا ضمن اللعبة السياسية الأكبر التي ترتسم معالمها من حولهم.

———————————

بعد الكارثة، حان دور السياسة/ مارك بييريني

في 6 شباط/فبراير، تسبّبت سلسلة من الهزّات الأرضية بالدمار والأسى لسكان سورية وتركيا، إذ لقي آلاف الأشخاص مصرعهم (فبحلول منتصف يوم 7 شباط/فبراير، قُدِّرت حصيلة القتلى بأكثر من 5,000 شخص) وساهم الدمار الواسع والطقس البارد في إحباط معنويات الناجين على نحو متزايد. ليس مفاجئًا إذًا أن ذلك كلّه زاد من احتمالات تقدّم السياسة قريبًا إلى الواجهة.

كان ردّ الفعل الأوّل تقييم مدى القوة الهائلة لهذا الزلزال. سُجِّل وقوع أضرار من شمال شرق قبرص وصولًا إلى أرضروم في شمال شرق الأناضول، وطالت الأضرار أيضًا شمال غرب سورية. يبلغ مجموع السكان في هذه المنطقة نحو 19 مليون نسمة. ومع خروج بعض المطارات من الخدمة، وتضرّر عدد كبير من الطرقات، ودمار خطوط التيار الكهربائي، وتدفّق الطلبات على خدمات الدولة والمنظمات المدنية، ووصول المساعدات الخارجية على وجه السرعة، كان محتومًا أن تتبع الكارثة فترةٌ تسودها حالةٌ قريبة من الفوضى، تفاقم أسى السكان المنكوبين ومعاناتهم. كان أمرًا جيّدًا مع ذلك أن تركيا وسورية طلبتا مساعدات خارجية، وكان من المريح رؤية الأعداد الكبيرة من فرق الإنقاذ التي وصلت للمساعدة أو هي في طريقها إلى هناك. ولكن، للأسف، سيعيش السكان على جانبَي الحدود التركية السورية مرحلةً من المشقّات المستمرة خلال الأشهر المقبلة.

مما لا شكّ فيه أن الصعوبة مضاعفةٌ في مواجهة زلزال ضرب منطقة ترزح أصلًا تحت وطأة النزاعات العسكرية. لذلك يُتوقَّع من جميع القوات العسكرية في المنطقة – الجيوش الروسية والسورية والتركية، بالإضافة إلى القوات الكردية والمناهضة للأسد – تطبيق وقف فوري لإطلاق النار بحكم الأمر الواقع، على أن يستمر طوال المدّة التي تستغرقها عمليات الإنقاذ. وينبغي أيضًا تكثيف العمليات الإنسانية عبر الحدود من تركيا إلى سورية، والتي يُسمَح بها أساسًا بموجب تفاهم برعاية الأمم المتحدة. وينبغي فتح ميناء اللاذقية ومطارها أمام العمليات الإنسانية تحت إشراف الأمم المتحدة. ولكن ذلك يتطلب مرونة من جهة الحكومتَين في دمشق وموسكو.

يقود ذلك إلى ملاحظة ثالثة عن الغُبن المحتمل في معاملة الجهات المانحة الدولية لسورية مقارنةً مع معاملتها لتركيا. فالمخاطر الناجمة عن العمليات العسكرية التي يشنّها الكثير من الأفرقاء، والأضرار التي سبق أن لحقت بالبنى التحتية الخاصة بالمواصلات وأنظمة الصرف الصحي في شمال سورية، وممارسات النظام السوري بحق شعبه على مدى اثنَي عشر عامًا من النزاع، قد تؤدّي مجتمعةً إلى تدفّق المساعدات إلى البلاد بكميات أقل من المطلوب. التمست السلطات السورية المساعدة فور وقوع الزلزال، ولكن عليها أن تتعهد الآن رسميًا بالتعاون الكامل والشفّاف مع الجهات المانحة للمساعدات، فيما ينبغي على الأمم المتحدة أن تؤدّي دور الضامن لمرور المساعدات الإنسانية بشكل آمن وتوزيعها بطريقة فعّالة.

ثمة قاسمٌ مشترك بين الدمار في سورية وتركيا. فالقواعد والمعايير المضادة للزلازل، سواءً كانت موضوعة أم لا، والتي تفرض التقيّد بمقتضيات معيّنة للحصول على تراخيص البناء، لا تُطبَّق في معظم الأحيان بسبب الفساد المستشري، والمصالح الشخصية، والمضاربات العقارية. لقد تسبب انهيار آلاف المباني، ومنها مستشفى حكومي في تركيا، بنشوب خلافٍ سياسي. وسيستغرق صنّاع السياسات وقتًا لاستخلاص العبَر وصياغة توصيات ناجعة، لكن في المدى المتوسط لن تنجو القيادة التركية على الأرجح من وابل الانتقادات الشديدة من المعارضة السياسية في البلاد ومن الجمهور العريض. يُشار إلى أن التوسّع السريع في مشاريع البنى التحتية كان في صُلب أولويات حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان طوال عشرين عامًا، وشملت هذه المشاريع بناء الكثير من الطرقات السريعة الجديدة والمطارات والمستشفيات، وترافق ذلك مع طفرة في المشاريع السكنية في المدن. لكن قد يؤدّي ذلك إلى ارتدادات عكسية تلقي بظلالها على الحزب، إذ ستُثار تساؤلات حول مدى تطبيق معايير البناء المضادة للزلازل، أو سيُشتبه بأن العقود العامة قد مُنحت إلى شبكات المحسوبية السياسية التابعة للنظام، فشيّدت مشاريع إسكان اجتماعية لا ترقى إلى المستوى المطلوب.

على ضوء ذلك، بات موعد الانتخابات التركية موضع تكهّن قد يرسم معالم المشهد السياسي التركي في الأيام المقبلة. نظرًا إلى أن الزلزال ألحق الضرر بنحو 16 مليون نسمة من أصل مجموع السكان البالغ عددهم 86 مليون نسمة، ويُرجَّح أن عشرات الآلاف باتوا الآن من دون مأوى وتبعثرت ممتلكاتهم تحت الأنقاض، بما في ذلك أوراقهم الثبوتية، فيما طال الدمار الكثير من المباني الإدارية، فهل سيكون من الممكن تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية عادلة في 14 أيار/مايو المقبل، كما هو متوقع؟

يبقى هذا السؤال مطروحًا. والأولوية هي الآن للتضامن الدولي والاستجابة الإنسانية الطارئة. لكن الهزات الارتدادية الناجمة عن الزلزال ستواصل التأثير في المشهد السياسي التركي على مدى الأشهر المقبلة.

—————————–

هل أنتم بخير؟/ منى رافع

اليوم هو السادس عشر من شباط عام 2023 ، الساعة التاسعة مساءً و49 دقيقة، تقفز أمي من على الأريكة وتسألني بهلعٍ إن كنتُ أهزها، يرتفع رأسي تلقائياً إلى الثريّا المعلقة في سقف الغرفة فأجدها تهتز قليلاً، «ارتدادية» أقول، وأطلب منها ألا تقلق، لكن لون وجه أمي يتحول للأصفر، تبرد أطرافها وتتزايد ضربات قلبها بشدة. على الدرج نسمع صوت جيراننا في الطابق الأخير وهم يهرعون نزولاً نحو الشارع، دقائق قليلة ويتزايد عدد الناس في الشارع، النساء بأغطية الصلاة، والرجال يتجمعون حول بعضهم وهم يدخنون.

 أكتب ما سبق وأنا أشعر بخجلٍ شديد، لأنّ مدينتنا لم تتأذ ولم نفقد أرواحاً كما هو حال مدن كثيرة في تركيا ومناطق حلب واللاذقية وجبلة وحماة والحبيبة إدلب، وهذا ليس يعني أنني لن أخجل لو كانت مدينتي حمص قد انتكبت كما هو حال المدن المذكورة سابقاً، لكن ربما أن بقاءنا على قيد الحياة، بينما الباقون قد رحلوا، بحدّ ذاته أصبح أمراً يدعو للخجل، والرعب، والخوف، والتعلق بأهداب الإيمان، الذي لولاه، لربما فقدنا عقولنا.

صباح يوم الزلزال المشؤوم، في الرابعة وسبعةَ عشرَ دقيقة فجراً، كان أهل المدينة بجلّهم مستيقظين في بيوتهم، غير مستوعبين ما يحدث، زلزال!، زِلزاال!، لم يكن لِأسوأ توقعاتنا أن تحسب حساباً لذلك. في صباح ذلك اليوم راح كلٌ منا إلى أعماله بوجوهٍ كالحةٍ مذهولة، كانت هواتفنا بأيدينا نتابع أخبار الضحايا، أخبار الموت والدمار، وفي ظهيرة ذلك اليوم شعرنا مجدداً بهزةٍ ثانية، كانت أخف من الأولى، تركنا أعمالنا وهرعنا إلى بيوتنا، ومع انقطاع الكهرباء المتواصل، كانت هواتفنا هي السبيل الوحيد لمعرفة ما يجري، الصدمة كانت سيدةَ الموقف، تروما جديدة نعيشها، رغم أن عقولنا وأجسادنا وأرواحنا مازالت غير مستوعبة بعد لتروما الحرب وتبعاتها.

أسأل صديقتي في الشمال عن الأحوال عندهم، كان ذلك صبيحة الزلزال. بصوتٍ متهدج ومذهول تخبرني أن الكثير من معارفها مفقودون ولا تعرف عنهم شيئاً، وأن الوضع كارثي جداً ولا يمكن تصوره، وأنها إلى الآن لا تستوعب أو تصدق ما حدث، وأنها جمعت أشياءها الهامة وجلست مع أسرتها في جامعٍ قريب، فأن يسقط سقفٌ واحدٌ عليهم أهون من أن يدفنوا تحت بناءٍ كامل. أسرة صديقتي تسكن  في المدينة،  ومثلها كثرٌ ممن لديهم أبناء وأهل في الشمال. عاشت هذه الأسر على أعصابها في انتظار رسالةٍ على الواتس تطمئنهم عن أحوال أبنائهم، لا تنتشر الأخبار كثيراً حول ما حدث لهم، فالكل يخاف أن يعلم حتى أقرب الناس إليهم بوجود أقارب لهم في الشمال، لا سيما مع حوادث الاعتقال المتعلقة بذلك. أما أولئك الذين لهم أقارب في المناطق التركية المتضررة فلهم قصصٌ أخرى، يتداول أهل المدينة قصة امرأةٍ حمصية في هاتاي لديها أربعة أطفال، طلقها زوجها وتزوج بأخرى أنجبت له ثلاثة أطفال، ليموت طليقها وزوجته الثانية معاً بعد الزلزال، وينجو الأطفال الثلاثة ويعودون للعيش في كنف الزوجة الأولى المطلقة، بينما يتحدث آخرون عن قصة الأسرة التي ظنوا أنها قضت تحت الأنقاض، ليتبين أنهم أحياء بعد عدة أيام.

 على حائط جامع عمر بن الخطاب وُضعت نعوةٌ لأسرة آل الشرفلي، وهم من أبناء المدينة، تقول النعوة: قضوا في زلزال أنطاكيا. إذن هو الموت، مصرّاً على ملاحقة السوريين في أماكن نزوحهم ولجوئهم. نسأل أنفسنا بلا جواب عن ما هو أسوأ؛ أن يموت المرء تحت بناءٍ قصفته طائرة روسية؟ أم يموت تحت بناء دمره الزلزال؟ ليس لدينا جواب، وليس لدينا حتى سعةُ الأفق والخيال حتى نحلل ذلك، أو نفهمه. الجميع الآن في بيوتهم يتابعون الأخبار، ضحايا في حلب، وضحايا في اللاذقية وجبلة، وضحايا في إدلب، وضحايا في تركيا. هواتف الاطمئنان لا تصمت من المهجرين في دول الاغتراب، «أنتم بخير»؟ يقولون، لتجيب الأمهات عما حدث إبّان اللحظات الأولى للزلزال. يومها لم ينزل الكثير من الناس من بيوتهم، لأننا ببساطة لا نعرف ماذا نفعل، أذكر أني ضممت أسرتي وأنا أتساءل إن كان بناؤنا العتيق سينهار، أكرر خجلي وأنا أكتب ما أكتبه.

وغفرانك يا الله لا أستطيع أن أحمدك لأننا لم نمُت.

ولأننا لم نمت، ورغم أننا، نحن الموجودون في مناطق النظام، محسوبون على «الصامتين السفلة» كما كتب أحدهم على صفحته في تويتر، إلا أن الدم المُراق والأجساد المنهرِسة والوجوه المُغبرّة تحت الأنقاض، حركت الهمّة والنخوة في عروق الناس، حيث لم تلبث أن بدأت حملات التبرع للمنكوبين، وبدأ الناس يتداعون في الاستجابة إليها بكل ما يستطيعون. كما أن المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية العاملة هنا، استنفرت بشكل تام للتخطيط للاستجابات الممكنة في المحافظات المتضررة الواقعة تحت سلطة النظام، ولكنّ هذا الأمر كما هو معروف، كان بإشرافٍ وتنسيقٍ كاملٍ مع النظام للحصول على الموافقات الأمنية، حيث لا يُسمح لأي جهةٍ أهلية أو جمعية محلية أو منظمة دولية بالتحرك دون أخذ موافقاتٍ من الجهة العاملة معها، مثل الهلال الأحمر، والبلدية، والمحافظة، ووزارة التربية ومديرية التربية وأمن الدولة وغيرها. فعلى سبيل المثال، تحتاج الجمعيات المحلية إلى موافقة الشؤون الاجتماعية لبدء أي مبادرة، وتحتاج المنظمات الدولية إلى موافقة وزارة الخارجية، بينما تحتاج المساجد إلى موافقة وزارة الأوقاف عند القيام بأي مبادرة.

تشكلت لجنةٌ للكشف عن البيوت المتضررة، وقامت بعض الجمعيات الأهلية بإطلاق حملات التبرع بالمواد العينية، وفي يوم الجمعة العاشر من شباط، كانت خطبة الجمعة موحدةٌ في كل الجوامع، تحثّ الناس على التبرعات العينية لأهالي المدن المنكوبة. وبالفعل امتلأت الجوامع بهذه المواد، أما على المستوى الفردي، فقد لجأ الكثير من الناس إلى التبرع مباشرةً للثقاة الذين يستطيعون إيصال التبرعات المالية للمتضررين، ولا أستثني هنا التبرعات المالية للأماكن المنكوبة في شمال غرب سوريا، إذ توجد عدة طرقٍ للتبرع إلى هناك، لكنّ يبقى من الأسلم التحفظ على تلك الطرق، ولا بدّ من ذكر أن بعض الأسر التي تضررت بيوتها في حلب واللاذقية نزح أفرادها مؤقتاً إلى حمص، حيث أقاموا في بيوت أقاربهم، وأقام قليلٌ منهم في مراكز إيواء خصصها النظام.

يكتب أحدهم على صفحته في فيسبوك «السوري صار عين على الأسعار وعين على التريّا»، ولا أعلم إن كان من المفترض أن نبتسم هنا، وكنت أتمنى أن أقول إنّ ما حدث وحّدنا وجعلنا شعباً واحداً، كنت أتمنى أن يكون الأمر بهذه البساطة،  لكن الأمر ليس كذلك. الجميع هنا، بمن فيهم المؤيدين للنظام، قد أظهروا حزناً وتعاطفاً حقيقياً على الكارثة التي حدثت شمال غرب سوريا كما تعاطفوا مع المدن المنكوبة الأخرى، حتى أن معظم الناس شاركوا فيديوهات الكارثة من شمال غرب سوريا، بما في ذلك فيديوهات صفحة الدفاع المدني في الشمال، بل إنّ أحدهم كتب «أنا عسكري وأتمنى أن تدخل المساعدات فوراً إلى الشمال»، لكن المرء يتمنى لو أنّ هذا التعاطف كان موجوداً دائماً، وأنه ليس لحظياً، لأن الدم المُراق بفعل القصف والبراميل وغيره هو ذاته الدم المُراق في الزلزال. ليس الوقت الأنسب الآن للحديث باسترسالٍ عن ذلك، يبقى القول المهم: كثيرون من السوريين يعيشون كارثةً جديدة، رغم أننا لم نستفق بعد من كارثة الحرب المدمرة، ولن أقول إنه لا بدّ أن نتمسك بالأمل، ولا بالحياة، ولا بأي شيء، سأنتظر فقط حتى نستفيق من الصدمة، ونساعد بالقليل الذي نقدر عليه، وعندما نستفيق، وعندما نتمكن من لملمة أوجاعنا، ربما سنجد حينها شيئاً له معنى يمكن أن يُقال.

تحديثٌ أخير: مساء الاثنين، العشرين من شباط، أحسسنا جميعاً بهزةٍ أرضية في الساعة الثامنة وسبع دقائق، هذه المرة نزلنا إلى الشارع، هرع جارنا حافياً إلى الشارع بعد أن اطمأن إلى أنّ أسرته وأطفاله قد سبقوه، الناس تجمعت في سياراتها وفي فسحات الشوارع، بينما أصحاب المحال تركوا محالهم وخرجوا بعد أن أغلقوها، يرفض أبي النزول قبل أن يرتدي ثياباً أنيقة. تخبرني صديقتي في الشمال أنها اضطرت للنزول هي وزوجها إلى الشارع وبالكاد تضع شالاً على رأسها، الأمر الذي جعلها تبكي بسبب ذلك، لكن زوجها يضع سترته عليها كي تغطي ما تريد ستره، تقول: إنّه لا بدّ من وجود حكمةٍ إلهية لا نعرفها وراء هذه الزلازل، يقول الناس إنّه لا بدّ من وجود حكمةٍ إلهية لا نعرفها وراء هذه الزلازل، تقول صديقتي يجب أن نخاف، يقول الناس يجب أن نخاف، تقول صديقتي إن الإنسان لا يعيش خوفين، يقول الناس إن الإنسان لا يعيش أمانين، وبين خوف الدنيا وخوف الآخرة، وأمان الدنيا وأمان الآخرة، ننتظر مصيرنا.

صابرين.

موقع الجمهورية

————————-

أنطاكيا 4:17/ مطر اسماعيل

تلعب أمامي ابنة شقيقتي الصغيرة، ليلى، ذات العام ونصف العام من العمر، في غرفةٍ دافئة بعد النزوح إلى اسطنبول، وتقول بين الحين والآخر: «ماما دح، آبي دح، لالا دح، بح»، وتضع يديها الصغيرتين حول رأسها وتهزه في استعادةٍ رمزية لـ «القيامة المصغرة» التي عاشتها في مدينة ملاطيا التركية يوم السادس من شباط (فبراير). بكلماتٍ غير مكتملةٍ ومشاعر مختلطة، تعيد ليلى تشكيل الثواني الضوئية عندما زُلزلت الأرض من تحت أيديهم وأرجلهم عدة مرّات، كان آخرها ظُهراً مع زلزالٍ جديد ضرب المدينة. وبينما كادت الأرض تتقيأ أثقالها مجدداً، ضمّت شقيقتي طفليها حاجبةً عنهما ضجيج العالم ومشاهد المباني وهي تنهار من حولهم، بينما كانت تتعالى صيحات الأتراك «الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله» في باحة إحدى المدارس التي لجأوا إليها.

أمام براءة ليلى وحلاوتها ينفطر قلبي، وأَغور عميقاً عائداً بذاكرتي إلى أنطاكيا، مع عشرات الوقائع الشبيهة: أمهات لم يحالفهن الحظ والوقت لأكثر من ضمّ أطفالهن فوق الأَسرّة، آخر لحظات الحب قبل أن يغبن وفلذات أكبادهن تحت حمولة السقف الطاحنة. يرتجف قلبي كلما تخيّلت وجه الشبه، فأتودّد إلى خيالي كي يُطفئ تلك الصور. لم أعد نفسي بعد أن دخلت تحت سقف منزل المرحوم عصام، شقيق صديقي محمد الحاج بكري. فوق السرير، قدّمت الأم آخر عطاياها لحماية طفلتها وطفلها الذي هو بعمر ليلى، شارعةً جناحها فوقهما، في وجه القدر، بينما كانت الحياة عصيّة.

المنزل في الطابق الأرضي كان قد أطبق على أنفاس عصام وزوجته وابنتيه وابنه الصغير، فيما نجا أبو عصام وأم عصام بعد أن سقطا عن ظهر السرير في أولى ثواني الزلزال، وخرجا من تحت الأنقاض خلال الساعات التالية. يقول أبو عصام، الصابر كجبلٍ من جبال اللاذقية حيث أصوله: «صارت الهزة، وركض عصام عالممر وصرخ هزّة، فكرت إنها قامت القيامة، وخلال لحظات انهار المبنى علينا ونحن في الطابق الأرضي». رَجَفانُ صوته ووصفه للكارثة يدفعان للبكاء واللطم، لكن ثبات قلبه يرغمك على الخجل ومداراة الدموع، فكيف إذا علمت أنه خسر ثلاثين شخصاً من عائلته دفعة واحدة؟

4:17

فجأة، قبل فجر الإثنين، السادس من شباط، بدأت الأرض تهتز بعنفٍ لا مثيل له، بصوتٍ لا يُشبه شيئاً نعرفه أو سمعناه، كتصاوير اليوم الأخير؛ والناس بين جافل وغافلٍ أخذتهم الفُجاءة نحو دروبٍ وأقدارٍ متباعدة. تحت أسقف منازلهم هرعوا يوقظون الأطفال، راكضين في الممرات مع أصوات صلواتٍ لا تنتهي وتَشَهُّد، ثم وَثبَت الأرض وَثبتها لتتكسر الجدران. قالوا إن صوت تكسّرها لا تخطئه أذن، يخلع القلب، كإنذارٍ أخير قبل أن تنطفئ كهرباء الوجود. وقبل أن يحطّ الشهيق زفرته، انفجر كلّ ما خزّنته أنفاس البيوت من ضحكاتٍ ودموعٍ على رؤوس المنضوين تحت الطاولات والأسرّة، الهلعين نحو الممرات وسلالم المباني والأبواب، قبل تصدّع أركان الحياة بانهيار أحلام الناس فوق رؤوسهم.

بلا أدنى شك، كانت هذه المقتلة «الطبيعية» أبشعَ صورِ الموت التي يمكن أن تُعاش، لا لأن الموت بالكيماوي، أو تهاوي البراميل فوق الرؤوس أو انقطاع الأنفاس تحت التعذيب، أرحم، لا، بل لأنه موت كثيفٌ ومعمّم، موتٌ لا يمكن أن تحتاط منه، خارج الحسبان. من ذا السوريّ الذي تخيّل للحظة هذا المآل بعد أن نجا من 185 ألف كم مربع من الموت المشاع؟ من ذا التركيّ الذي أعدّ العدّة وحقيبة الطوارئ وحياته تترنح بين صدع شرق وغرب وشمال الأناضول؟ موتٌ غير بشريّ، موتٌ أنجبته الطبيعة لكنه غير طبيعي، لا يمكن شتمه ومحاربته، ولا يمكنك هزمه بقدر ما يمكن التأقلم مع وجوده، وتطويع الحياة على إيقاعه. إنه موت وجيز، بالثواني، والموت المعتاد غالباً ما يأخذ وقتاً وجهداً أكبر بكثير. كان موتاً بمعنى، وهنا يتدافع المعنى بين كفر وإيمان، وتتداعى كلُّ محاكمات التاريخ في قلوب المذهولين والسكارى.

أنطاكيا، بعد الفجر، تشدّ إزارها وتبدأ رغم وطأة التيه دورة التعافي اليومية. بحثاً في الأنقاض عن نبض، مئات فرق الإنقاذ والآليات الثقيلة تحاول الحفر في الطوابق المكّدّسة فوق بعضها كطبقات البسكويت الهشّ. لا الخبرة ولا الهمّة ولا الفزعة ولا حتى صلة الرحم كانت ذات نفعٍ، فالكارثةُ أكبر من أن تطوَّق وتُطاق. يفوق عدد المباني المنهارة وأعداد الضحايا المحتملين قدرات أي دولة، كما يفوق قدرة أي عالقٍ تحت الأنقاض على المقاومة. عدا عن المحاصرين تحت الأنقاض في حظوظ حياةٍ استثنائية، يمكن القول إن الناجين هم من حالفهم الحظ بالخروج من المنازل في الثواني الأولى. أما من لم يصحُ، «المراهقون مثلاً نومهم ثقيل» كما أشار ناجٍ، أو من حاول الهرب في وقتٍ كان عليه الاحتماء والدعاء فقط، أو من يسكن في الطوابق العليا، كانت فرصة نجاتهم تقارب الصفر.. هذا في المباني التي انهارت كلها أو أجزاء منها، ناهيك عن المباني التي صمدت هيكلياً، لكن تصدّعها كان أكثر هولاً وعبرة.

أنطاكيا ليلاً موحشة كمدينة أشباح، لا تحفز في الخيال إلّا صوراً من أفلام الرعب، فالمباني المتصدّعة تبدو كبيوتِ العنكبوت: شبكاتٌ تتمدد من أدنى إلى أعلى، كأن أظافر الأرض تسلّقت لتأكل ما فوقها أثناء الزلزال، لكن الوقت لم يَكفِها. النوافذ عيونٌ جائعة، ترابط في الشوارع وتحدّق في المشاة بانتظار موعدٍ جديدٍ للانقضاض. الشوارع تكنس الأحياء وفرق الإنقاذ نحو مواقد النار وشوربة العدس. الظلام يربّت على الأكتاف، يسوق المتعبين إلى المقابر والأراضي الفلاة. لقد صار النوم في العراء آمناً، وصارت الغفوة بين قبرين أو على كتف مقبرةٍ مدعاة هناء.

كل إرشادات السلامة والتدابير الوقائية باتت حبراً على ورق، لا رمق في الحناجر يرطّب آخر الحشرجات. قُدِّرَ للسوري أن يختبر معنى حديث الرسول «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»، والسَرب بفتح السين هو البيت. لكن البيوت آلت أهدافاً للطيران الحربي والصواريخ منذ عقد، وبات لزاماً هجر الطوابق العليا والانكفاء عن النوافذ ومَترستها بالدشم. قبل أن تنهار تلك القاعدة كليّاً، إذ صارت الطوابق الدنيا أكفانا للنائمين، والنوافذ مراسٍ بين عالمين. هل فكّروا طويلاً كيلا يخرجوا إلى البرد القارس والثلج والمطر؟ هل خدعهم دفء البيوت التي رتبوها من عرق الجباه؟ هل أدركوا خيانات الإسمنت بعد فوات الأوان؟ أسعفني الحظ لإدراك المعادلة، ذهبت إلى أنطاكيا خائفاً من الخروج، وعدت إلى إسطنبول خائفاً من الدخول.. لقد صارت الأبواب محط شكٍ وقلقٍ عميقين.

«سيس يوك»

على واجهة بناءٍ سكني كُتب SES YOK (لا يوجد صوت)، العبارة التي صارت نذير شؤومٍ لأولئك الذين دُفنوا تحت الأنقاض وكَتَم الردم أنفاسهم فأُجّلت عملية انتشال جثثهم، وبشارة أملٍ لأولئك الذين ولدوا من جديد، وضحكت لهم السماء، وبين الحالين تساوت لغات الأرض فلا معنى لأحرف الأبجدية إن بقي في الصدور عُدّةٌ من ليالي أُخَر. كانت كل جهود الإنقاذ منصبة على التقاط أي إشارة بشرية من تحت المباني المدمّرة طيلة الأيام التالية للكارثة، وقال البعض إن سوريين لم ينبَسوا بحرفٍ عربي واحد لمنقذيهم كيلا يغادروا لمساعدة عائلة تركية، وهذا مما تلوكه الأساطير وتنكره الوقائع، وربما يكون قد حصل في حالات أخرى عكس ما رأيت!. كانت المساعي تتجاوز أي لغةٍ وأي لهجةٍ وأي جنسية، كانت تبحث عن أي نَفَسٍ حيّ، عبر الكلاب المدرّبة والكاميرات ومكبرات الصوت، كانت تبحث مع الأماني والتضرّع إلى الله.

لا يوجد صوت

وصلت عشرات المناشدات، وربما المئات منها، لما قيل إنها عائلاتٌ حيّة تحت الأنقاض عبر منشورات فيسبوك وحالات واتس أب، حضرت التراجيديا في الختام: «الناجي الوحيد من العائلة يحاول إنقاذ عائلته وفرق الإنقاذ لا تستجيب». على الأرض، كانت الأولوية واضحةٌ بانصباب كل الجهود على المباني التي سُمعت منها أصوات. كثيرةٌ هي مواقع الخرائط المنشورة والمناشدات المشابهة التي هرعنا إليها في أنطاكيا فوجدناها مكتظةً بالعمال والمتطوعين، وكثيرةٌ هي الحالات المتوهمة عن أحياء تحت الأنقاض.. ربما كانت أصداء أصواتهم المتخيّلة تصيب الناجي بالشك، بينما هم كانوا قد رحلوا.

وهنا، يبقى كل ناجٍ ممسوساً بحلم النجاة حتى يرى الجثث أمام عينيه ليصحو على الحقيقة، وهذه بيئة حاضنةٌ للشعور بالعنصرية، فبقدر ما حصلت وقائع عنصرية بطبيعة الحال ونتيجة الاحتقان، بقدر ما كان لسوء الإدارة، الفوضى، وأحياناً تفاوت التقديرات، أثرٌ سلبي على واقع عمليات الإنقاذ. حضرتُ حادثةً جليّة تثبت ذلك حين طلب فريقٌ تأجيل إخراج جثثٍ بحجة الخوف من انهيار المبنى، فيما فعل فريقٌ آخر المستحيل لإخراجهم ونجح بعد ساعات. تهاوشَ الفريقان كثيراً في هذه الأثناء. ليس سليماً الاستسلام في كل واقعةٍ إلى العنصرية، فهناك أسبابٌ أخرى، بينها غريزة الإنسان الصرفة في مواجهة الموت.

أبان ويمان

مع مرور الوقت، تضاءلت آمال الأهالي المنتشرين أمام المباني المدمّرة، واصلين الليل بالنهار، رجالاً ونساءاً، ملتحفين بطانياتٍ وأغطيةَ درءِ البرد القارس، ومتكورين حول تنكة حطب أو برميل إطاراتٍ مشتعلة. فيما بعد، ومن شدّة الإنهاك، باتت متابعة الأهالي لعمليات الإنقاذ تُدار بالتناوب وكأنها رِباطٌ على جبهة قتال، البعض يرتاح في سيارة أو خيمة أو قرية قريبة، والبعض الآخر يتابع في الميدان.

مقابل سوبرماركت ميغروس في شارع أتاتورك الأنطاكي، خمس كتلٍ طابقية كبيرة، تقطنها عدة عشرات من العائلات، استوت على الأرض بارتفاع طابقٍ واحدٍ على امتداد مساحةٍ بمئات الأمتار المربعة. تُهنا ونحن نبحث عن الموقع المُرسَل من أصدقاء، فكل المنطقة تحولت إلى ركام، وكل الوجوه متشابهة، مغبرّة، منهكة، وخيوط الدمع على الخدود كشرائط ذكريات. في البدء وجدنا ضالتنا، تحت هذه التلّة يوجد أبان ياسين شقيق الصحفية إيلاف؛ وفي الختام وجدنا ضالتنا، للمصادفة (أو ربما أنها ليست مصادفة أن يقطن السوريون متجاورين)، في الطرف الآخر من المبنى، صديقنا الصحفي يمان الخطيب واثني عشر فرداً من عائلته.. وبين البدء والختام استمر الحفر لأكثر من أسبوع، وتصاعد الغضب والقهر من أداء فرق الإنقاذ على كثرتها، والتي تناحرت في الوقت الخطأ، في المكان الخطأ، في الحدث الخطأ.

كان الوقت مؤشر يأسٍ يزداد معه القلق والتوتر والحزن والقهر والغضب والكره، ويقلُّ به الأمل وفرص النجاة والتوقعات، حتى بدأ دعاء الناس يتغيّر، وتتضاءل أمنياتهم من خروج أحبابهم أحياء إلى إيجاد جثثهم، ثم إلى إخراج أجسادهم بهيئةٍ واحدة، وأخيراً صار الأمل بالعثور على جثثهم تحت الأنقاض. أما فادي، شقيق يمان، فكان يقف أمام عائلته ويبكي. قال المنقذون إنهم في الغالب قد لجأوا إلى غرفة واحدة جميعاً، وأمام هذه المعلومة كان يتمتم في ذهول وقلبٍ محطّم: «بس واحد يا الله، بس واحد». فادي، المكتفي بواحدٍ في لحظة انكسار، لم يسعفه القدر إلا ببضع قماشٍ من رائحتهم، في اليوم الأخير خرج الجميع: أبان ياسين، ويمان الخطيب وجميع أفراد عائلته، إلى مثواهم الأخير.

لن تمر قصة أنطاكيا دون ذكر أحياء جمهوريات والمزرلك وشارع أتاتورك ومبنى الريسيدنس وغيرها.. المناطق التي صارت أقرب لمقابرَ جماعية. وصلت مناشداتٌ كثيرة من هناك على الفيسبوك السوري، الذي يُشعرك أن الأحياء تحت المباني أكثر من الأموات، لكن الواقع كان عكس ذلك. خلال أسبوعٍ من العمل، ساعدنا بإخراج عشرة جثثٍ تقريباً، ونشرنا خبراً عن ناجية واحدة، ورأينا عشرات الجثث خلال التجوال، والحصيلة الفعلية بالآلاف. الإشاعات على وسائل التواصل كانت تستنزف الأهالي، هيا بلخي كانت إحدى ضحايا الزلزال والسوشَل ميديا، فبعد أن نُشر إعلان على فيسبوك بأنها حيّة تحت الأنقاض وما زالت ترسل رسائل لشقيقها وبحاجة مساعدة، تَوجَّهنا إلى المكان لنجد أخوال الفتاة ووالدها مرابطين أمام المبنى المحدد منذ أيامٍ مع فرق الإنقاذ. قال لي أحد أخوالها بعدما شتم أولئك «المتاجرين»، أن خطها السعودي مسروق منذ سنتين وهناك من يستخدمه بدلاً عنها. بقي الفيسبوك السوري من ناشطين وحسابات «copy/past» تنشر قصة هيا واستغاثاتها «المزيفة» يوماً إضافياً، رغم ما نَشرتُهُ على صفحتي بطلبٍ من العائلة لتوضيح حقيقة الأمر.

في سياقٍ مشابه، تضاربت الأنباء أمام أحد المباني حول سماع صوتٍ ما من تحت الأنقاض، مايك من الفريق الأميركي أكّد، أما كلاب الفريق السعودي فنفت بعد أن شمّت دون أن تعوي، الجيران أعادوا التأكيد وما كان من الممكن سوى أن يستمر العمل بالطريقة الخطيرة المعتادة: يبدأ سائق الحفّار «الباغر» بهدم وقضم المبنى بالتدريج ونقل البقايا بعيداً، بعض العاملين كانوا احترافيين والبعض الآخر كانوا يؤدون وظيفة مملة ومتعبة، وكلّما ظهرت فتحاتٌ نحو الداخل خلال العمل، يتوقف الحفّار وتبدأ محاولات بشرية لإيجاد ناجين أو متوفين. أعطاني مايك، قبل أن يغادر نحو المطار في عجلة، أداةً لكشف الصوت وتكبيره، ولم نسمع شيئاً.. كان ذلك في اليوم الثامن، وتوقيت هذه العطيّة ليس إلّا إشارة سلبية بأن لا ناجين باقين.

لكن وسام كان ينتظر إخراج عائلته. هو وآخرون أكدوا أنهم سمعوا صوتاً. في البداية ظننا أن هناك شخصاً واحداً تحت الأنقاض ويفترض أنه حيّ، بعد قليل اتضحت الصورة أكثر عندما وصل المنقذون إلى أول جثةٍ لامرأة، سيظهر خلفها جثتان، رجلٌ وطفل. «من هؤلاء؟» يقول وسام الذاهل عن الواقع، متسائلاً لمن تكون هذه الجثث بعد أن تسلّم أمس ما يفترض أنه جثتا والده ووالدته، ودفنهما في المقبرة، إذن هل من الممكن أن خطأ ما قد حصل؟! وتلك الجثتان لشخصين آخرين! يبدو ذلك، دخلنا في دائرة التيه، وما من حلٍ إلّا بالتحقق من الوجوه، رغم فظاعة المنظر تهشماً وتعفناً وتلوّناً. وبينما ينتظر وسام نقلهم إلى الشارع قال لنا: «أريد الطوق في يدي أخي، اسمه عبد الرحمن»، وضعوا الجثث، أخرجوا الطوق من يد الطفل الغضّة، ثم ألقى وسام نظرة تفحص أخيرة رغم التشوه المرعب ليتأكد، وأكمل: «صحيح، هذا عمي وزوجته، أنا بناديلهم أبي وأمي لأنه أهلي بالأصل متوفين من زمان، وعمي تبناني صرت ابنه، طبعاً ما كان يجيهم ولاد بعد سنين طويلة من الزواج، حتى عملوا زراعة -طفل أنبوب- من سنتين وحبلت مرة عمي وجابت عبد الرحمن». وسام أصبح اليوم وحيداً أكثر، «مقطوعاً من شجرتين»، وأضيفت إلى المقبرة جثتان بلا هوية.

منذ اللحظة الأولى التي صحوت فيها على سريري باسطنبول، غارقاً بماء «الدلف» من السقف والجدران حتى صارت الفرشة مستنقعا من الرطب، مصادفةً في توقيت الزلزال نفسه، وحتى لحظة كتابة هذا النص، مضت كل ثانية وكأنها «حلم» لم تقرصه يد الإدراك بعد ليصحو، فيلمٌ سينمائي من لقطةٍ واحدة أطول من العمر: كيف هرعنا لنطمئن على الأهل في سوريا، وفي هاتاي وعنتاب وملاطيا ومرعش، ثم أطفأنا مواقد النار تحت قدور النفس التي تغلي قائلين: «بالتأكيد هزّة مثل العادة، لا شيء مخيف، كل أقاربنا أحياء». كيف لم ندرك حينها أن الوضع لا يحتمل التأخير؟ وكيف تأخرنا يومين قبل أن ننطلق؟ بالتأكيد كنا ممسوسين، أخذتنا «السِّنةُ» ولا نوم.

دخلنا أنطاكيا مساء اليوم الثالث للزلزال بعد سفرٍ بدأ الرابعة فجراً من إسطنبول نحو عنتاب. وفي الطريق كنا نمنّي النفس بأن تضررها محدود، وبالتالي فإن وجهتنا الأخيرة لن تكون بهذا السوء. تزامنَ وصولنا مع آلاف الحافلات المحمّلة بالمتطوعين وفرق الإنقاذ والشرطة، وأصوات سيارات الإسعاف تنهال كالتراب فوق جثة المدينة، أضواؤها تلوّن السماء بالأحمر والأزرق بقدر الحيوات الناجية. غادرنا أنطاكيا في اليوم العاشر مع دخول حافلات ترحيل الأنقاض وانطفاء الأضواء ليلاً، حتى بالكاد كنا نلمح سيارة إسعافٍ أو نسمع صوتها.

بينما كانت المدينة تحتضر لم يوفّر كثيرون من السفلة فرصة «بزنس»عظيمة، في سوقٍ حرٍّ للمستثمرين من العنصريين والمؤثرين والسياسيين القتلة، لكنّها قبل أن تموت انتظرت كثيراً.. يقول ناجٍ إنهم في الساعات الأولى للكارثة كانوا يسمعون أصوات العالقين تحت الأنقاض وهم يطلبون المساعدة، فَتحتَ كل بناءٍ كان هناك ناجون كثر، «لم نستطع أن نقدّم لهم شيئاً، كان البرد شديداً والمطر غزيراً، وبالكاد كانت هناك دولة». وبين احتضار المدينة وانتشال جثّتها كان الوقت من شهيقٍ وزفير، أنفاسٌ كثيرة قضت. لم تحتمل كل هذا التأخير.

موقع الجمهورية

———————————

حلب التي تنظر إلى السقف بخوف/ قاسم البصري

تسكن غالية وأسرتها حيَّ صلاح الدين في الجزء الجنوبي من مدينة حلب، الذي كان على مدار أربع سنواتٍ أحد أبرز جبهات القتال بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة، والذي انتهى ببسط النظام السوري كامل سيطرته على ما كان يُعرف حينها بحلب الشرقية بعد حملةٍ عسكريةٍ دموية، تبعها إجلاءٌ كاملٌ للفصائل المناوئة للنظام من المنطقة نهاية عام 2016. وحين ضرب زلزال السادس من شباط سوريا وتركيا، ظهرت سريعاً آثارُ سنواتٍ من القصف العنيف على أبنية الحي، فانهار بعضها تماماً وتصدّع قسمٌ آخر، فيما قرّرت لجنة السلامة الإنشائية التي شكّلها النظام بعد الزلزال إزالة قسمٍ آخر من المباني المُهدّدة بالسقوط.

في اليوم الأول للزلزال اضطُرت غالية للتوجه مع أسرتها إلى المدنية الرياضية القريبة من منزلها مثلما فعل معظم أهالي الحي، وظلوا هناك ليومين. ثمّ بدأت أعمال السرقة لتقرّر العائلة أن تنقسم إلى نصفين: الشباب والصبايا الكبار عادوا إلى المنزل متصدّع الجدران لحراسته، كونهم الأقدر على التحرّك بسرعة والنزول إلى الشارع عند حدوث الهزّة الأرضية؛ وظلّ القسم الثاني رفقة الأم والأب في المدينة الرياضية. تقول غالية: «لم يكن اتخاذ القرار سهلاً، ولكنّ هذا البيت وما بداخله هو كل ما نملك، ولا بدّ من حمايته».

عاد جميع أفراد أسرة غالية إلى المنزل عشية الزلزالين اللذين ضربا ولاية هاتاي وامتدّ أثرهما مجدداً إلى سوريا يوم 20 شباط الجاري، ولكن مع اهتزاز البيت عاودت الأسرة النزول إلى الشارع: «الناس خائفون، يقضون أوقاتهم خارج المنازِل ويتجنّبون المشي أسفل المباني. طفلي الصغير يُرعبه البقاء تحت أيّ سقف، واضطُررنا لنقله إلى المستشفى نتيجة الرعب الذي لحق به من الزلزال الثاني. حينها قررت أن أعود مع كامل أسرتي إلي المدينة الرياضية، وما زلت أقيم فيها حتى اليوم».

لا-إحصائيات

ذكرت أولى الإحصاءات الصادرة عن مجلس مدينة حلب أنّ عدد المباني المُدمّرة بشكلٍ كامل قد بلغ 54 مبنىً، مع وجود 50 مبنى آخر آيلٍ للسقوط جرى هدمها جميعها. وتقع معظم هذه المباني في أحياء الصالحين والسكري والفردوس والشعار والميسّر والصاخور وتل الزرازير والسكري والمشارقة وصلاح الدين وبستان الباشا والحلوانية. أما في حلب القديمة، فقد كانت أحياء باب أنطاكية وباب قنّسرين أكثر المناطق تضرراً. وبمراجعة أسماء هذه الأحياء، نجد أنها نفسها التي تعرّضت للقصف العنيف بالبراميل المتفجّرة خلال فترة سيطرة المعارضة 2012-2016، وكان تداعيها أمراً محتوماً بعد الزلزال نتيجة ما ألحقت العمليات العسكرية من ضررٍ في بنيتها.

في وقتٍ لاحق، بلغ عدد اللجان الهندسية المُكلفة بالتأكد من مدى سلامة المباني 116 لجنة، كشفتْ حتى يوم 19 شباط على 13 ألف مبنى، ونتج عن عملها ارتفاع عدد الأبنية التي تمت إزالتها إلى 220 مبنى، وتحديد 306 مبانٍ بوصفها غير آمنة ويجب إزالتها. وقد تشكّلت هذه اللجان الهندسية التي حملت اسم «لجان السلامة الإنشائية» من أعضاء في نقابة المهندسين ومجلس مدينة حلب والشركة العامة للدراسات والخدمات الفنية وجامعة حلب وعددٍ من الجهات الحكومية الأخرى، وهي تعمل بموجب دليلٍ واستمارةٍ موحّدين وضعتهما وزارة الأشغال العامة والإسكان، تتضمنان بشكلٍ رئيسي تقييم الأبنية وتصنيفها إلى أربع فئات: أبنية متضرّرة بالكامل، وأخرى متضرّرة تحتاج إلى تدعيم، وأبنية تحتاج إلى صيانةٍ بسيطة، وأبنية سليمة. حتى الآن لا يوجد أرقام رسمية نهائية عن عدد أبنية المدينة التي ستُهدم بالكامل، إلا إن رئيس غرفة صناعة حلب، فارس الشهابي، قال على صفحته في فيسبوك إن العدد سيصل إلى 1000 مبنى. بدوره، قال محافظ حلب حسين دياب إن اللجان قد كشفت، حتى يوم الأحد الماضي 19 شباط، على 11277 مبنى، منها 8684 آمن إنشائياً، ما يعني أن هناك 2593 مبنى متضرر، إلا إنه لم يحدّد عدد الأبنية التي سيتم هدمها أو التي سيُكتفى بتدعيمها.

الإيواء والإيواء الوهمي

أشار محافظ حلب خلال مؤتمرٍ صحفي إلى أن أكثر من 13 ألف أسرةٍ حلبية تضرّرت من الزلزال بشكلٍ مباشر، وقد بلغ عدد مراكز الإيواء 188 مركزاً. غير إنّ لجان السلامة الإنشائية تواصل الكشف على المباني، وقد تؤدي نتائج عملها إلى تشريد مزيدٍ من العائلات التي تصرّ اليوم على البقاء في بيوتها رغم الخطر. تعلّق إحدى المتطوعات في مدينة على حلب على كلام المحافظ بالقول إن هذه الأرقام تقديرية وليست دقيقة: «لا يوجد هذا العدد في مراكز الإيواء، والقسم الأكبر من الأُسر التي تركت منازلها يُقيم حالياً لدى أقارب أو معارف، ولذا فإنّ معظم حالات النزوح مستترة. كما أن المدارس التي استقبلت النازحين عاودت نشاطها يوم 14 الشهر الجاري، وجرى إخراج الأسر منها، وهو ما خفّض من عدد مراكز الإيواء». وبالفعل، صرّح وزير التربية في حكومة النظام دارم الطباع أن مدارس حلب التي تم إعلانها آمنةً قد عاود الطلاب دوامهم فيها. لا بد من الإشارة هنا إلى أن المُشردين لم يقصدوا المدارس بالدرجة الأولى، وإنما المساجد والحدائق، وما تزال الخيام موجودةً حتى الآن في الحديقة العامة وحديقة بستان القصر بحسب معايناتٍ نقلها لنا سكان المدينة وصورٍ حصلت عليها الجمهورية.نت.

كما زعم محافظ حلب «تأمين 150 شقة في حي مساكن هنانو تابعة لمجلس المدينة، و25 شقة تتبع للسكك الحديدية في مبنى التأهيل والتدريب في حي الشيخ طه لتأمين الإيواء المؤقت لعشرات العائلات المتضررة». تشير المتطوعة إلى أنها لم «تسمع خلال عملها بوجود شققٍ مخصصةٍ لاستقبال النازحين، ولم يصلهم إخطاراتٌ بذلك حتى يقدموا المساعدة الإغاثية للأسر التي نزحت إليها».

تحدّثت الجمهورية.نت إلى متطوعةٍ أخرى زارت المدينة الرياضية الواقعة على مقربةٍ من حي الحمدانية، والتي تضمّ التجمّع الأكبر من الأسر التي شرّدها الزلزال. تقول إنّ متعهّد صالة الأفراح الموجودة هناك قرّر إيواء عشرات الأسر المُشردة، والوضع فيها أفضل من باقي مراكز الإيواء لأنها مجهّزة بتكييفٍ يقيهم البرد. لا تقيم غالية في هذه الصالة، إنما في أحد الممرات المؤدية إلى ملعب كرة السلة، وتشتكي من انعدام الخصوصية: «تنام العوائل إلى جانب بعضها البعض. الأُسرة بالكامل؛ الرجال والنساء والأطفال، فوق حصيرٍ وبعض ألواح الإسفنج. العراقيون هم الذين يديرون الأمور الإغاثية هنا، ويتبعون للحشد الشعبي. جاؤوا مع مطابخ ونقاط طبية مجهّزة، ونصبوا قرابة 10 خيام قبالة المدينة الرياضية لتخديمها، ووزّعوا البطانيات وألواح الإسفنج».

زيارة بشار الأسد غيّرت كل شيء

صبيحة اليوم الأول للزلزال، نشرت صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فيسبوك صورةً قالت إنها لاجتماعٍ طارئ أجراه رئيس النظام السوري بشار الأسد لدراسة تداعيات الزلزال، ثم غاب عن المشهد بشكلٍ كامل. وفي اليوم الخامس للكارثة وصل الأسد إلى حلب وزار المشفى الجامعي وحي المشارقة ومركزاً للإيواء، ثم عقد اجتماعاً صحبة زوجته مع غرفة العمليات في المدينة. تقول إحدى المتطوعات للجمهورية.نت: «في الأسبوع الأول للكارثة لم تتدخل السلطات والمنظمات الكبيرة القريبة منها مثل الأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر في عمليات الإغاثة بحلب، وكان ثمة مساحة للمبادرات الأهلية من أجل العمل على التخفيف من نكبة المشردين ومساعدتهم عبر التبرعات التي كانت تصل من داخل وخارج سوريا، ولكن بعد زيارة بشار الأسد للمدينة تغيّر كل شيء، وأصبح عملنا مكبّلاً بالعراقيل».

تركت هذه العراقيل خيبة أملٍ كبيرة لدى المتطوعة: «أنت ترى دماراً جديداً في مدينتك وتريد المساعدة، وهم -أي النظام- يعرقلون كل شيء. صار يُطلب منا موافقاتٌ أمنية وصورٌ عن هوياتنا عند الوصول إلى أي مركز إيواءٍ لتقديم المساعدة. أحد العسكريين قال لنا ‘نريد التأكد من أن الطعام ليس مسموماً’. أدت هذه المضايقات إلى توتّر المتطوعين، واستطاعت الإجراءات الأمنية ترهيبنا، إلى أن أوقفنا العمل بسبب الأنباء التي وردتنا عن إمكانية طلبنا إلى الأفرع الأمنية في حال واصلنا العمل دون تصريح».

وتضيف المتطوعة أنها تسمع الكثير من «الشائعات» في حلب عن أن النظام لم يسلّم قسماً كبيراً من المساعدات إلى مستحقيها، وعمد إلى تفريغ محتوياتها وتبديلها، وتعتبر أنّ «لجنة الإغاثة الوطنية» هي المسؤولة عن هذا الفساد بالدرجة الأولى. تتوافق الشائعات التي نقلتها لنا المتطوعة مع ما يمكن استنتاجه من الصور التي نشرتها سانا ووكالة الصحافة الفرنسية وقناة العربية للمساعدات السعودية التي انطلقت من مطار الملك خالد الدولي ووصلت إلى مطار حلب، وتظهرُ فيها معداتٌ كهربائية وأواني منزلية وخيام، ولكن لم يُسلّم شيءٌ منها حتى الآن إلى المتضررين الذين تواصلنا معهم، كما لم يلحظها المقيمون في مراكز الإيواء ممّن تحدّثنا إليهم.

كما تنقل لنا المتطوعة ما حصل مع أحد المتطوعين اللبنانيين الذين وصلوا حلب: «احتوت المساعدات بشكلٍ أساسي على البطانيات، إلا إن قواتٍ عسكريةً تابعةً للنظام صادرت نصفها لكي تسمح بمرورها إلى حلب. عدا عن السرقة، النظام يريد السيطرة على كامل العملية الإغاثية، حتى إننا لم نعد نجرؤ على استقبال الأموال عبر مكاتب التحويل، وإنما عن طريق الاستلام باليد. هذا الواقع، والمشي بين حطام مدينتي مرةً جديدة سبّب لي الكثير من الغضب». تكرّر فرض النظام الحصول على نصف المساعدات للسماح بتمريرها مع القافلة التي حاول الهلال الأحمر الكردي إيصالها إلى حي الشيخ مقصود في المدينة بحسب فيديو نشرته موظفة ألمانية في المنظمة، وبقيت القافلة عالقةً على معبر التايهة لعشرة أيام.

يرفض عناصر النظام العسكريون في كثيرٍ من الأحيان إدخال المساعدات الأهلية إلى مراكز الإيواء بموجب تعليماتٍ أمنية، ولكنّ المتطوعين «صاروا يعرفون أنهم مضطرون إلى تقديم رشاوى للمفارز الأمنية المسؤولة عن مركز الإيواء حتى تسمح لهم بالدخول وتقديم المواد الغذائية»، تضيف المتطوعة. للتخلّص من العراقيل الأمنية التي يضعها النظام أمام العمل الإغاثي الأهلي، حاول بعض المتطوعين-ات الحصول على تراخيص لمبادراتهم من خلال مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، ولكنهم تفاجأوا بوجوب إجراء معاملةٍ طويلةٍ ومعقدة، والخضوع لدراسةٍ أمنيةٍ تطال جميع الأفراد المنخرطين-ات في المبادرة، وأن تكون حساباتهم البنكية مراقبةً إلي حين توقّف المبادرة وحصولهم على براءة ذمة من المديرية. 

رغم الوعود التي قدّمها وزير الأشغال في حكومة النظام السوري ببناء 350 وحدة سكنية مسبقة الصنع لإيواء المتضررين جرّاء الزلزال في مدن حلب واللاذقية وجبلة ريثما تتم إعادة إعمار وتنظيم المناطق المدمرة بشكلٍ كامل، سيبقى المشردون من الزلزال عرضةً للإخراج من مراكز الإيواء المؤقتة والانتقال إلى العراء. ولا يبدو أن النظام جادٌ في إغاثتهم وتأمين أوضاعهم أو حتى السماح للمبادرات الأهلية في تقديم يد العون، كما أنّ التعهّد الذي قدّمه رئيس غرفة صناعة حلب بتقديم مبلغ مليوني ليرة لكل عائلة متضررة لتتمكن من استئجار سكنٍ مؤقت، وفي حال الالتزام به فعلاً، لن يكفي إلا لبضعة أشهر، كما أنه لن يؤمّن مستلزمات العيش الأساسية التي تحتاجها العائلات بعد أن تدخل البيوت المُستأجرة.

إنّ معظم الأبنية التي طالها الانهيار بعد الزلزال كانت مهترئةً أساساً بالبراميل المتفجرة، وتقع في مناطق أهملها النظام بعد سيطرته عليها إلى درجة أنه لم يرحّل الأنقاض منها حتى اليوم. اليوم، تعيش حلب ركامين؛ قديمٌ من فعل النظام وجديدٌ أحدثه الزلزال، وعلى هذين الركامين تتربّع عنجهيةٌ أسديةٌ لا ترحم المنكوبين ولا تقبل من أحدٍ رحمتهم والتخفيف عنهم.

موقع الجمهورية

———————————

جنديرس المنكوبة/ فداء الصالح

كانت مدينة جنديرس بريف عفرين إحدى أكثر المدن السورية تأثراً بزلزال السادس من شباط (فبراير) الذي ضرب سوريا وتركيا، ومات فيها قرابة 1100 شخصاً نتيجة تضرّر 1110 أبنية، تهدّم منها بالكامل 278 مبنى معظمها طابقية. في حين أنقذت فرق الدفاع المدني 831 شخصاً من تحت الأنقاض، ونتج عن الزلزال تشرّد أكثر من 4 آلاف عائلة، توزّعَ 3 آلاف منها على 39 مخيماً أُنشئت لهذا الغرض، بينما بقيت 1050 عائلة دون مأوى حتى كتابة هذه السطور، وذلك بحسب تقريرٍ أصدره المجلس المحلي للمدينة.

واعتمدت الاستجابة لتداعيات الزلزال في جنديرس على مدار يومين بعد الكارثة على الفزعة والأعمال التطوعية الكيفية، مع غياب إدارةٍ فاعلةٍ تختصّ بتوجيه المتطوعين وفرق الإنقاذ. وعلى الرغم من الكوارث المتتالية التي شهدتها المنطقة خلال أزيد من 12 عاماً مضت، ظهرت خلال هذين اليومين عشوائية الاستجابة بعد الشلل الذي أصاب مجلس جنديرس المحلي نتيجة نقص الكوادر القادرة على العمل، لِتقتصر على شخصين فقط. أما بقية العناصر، فقد كانوا من بين المنكوبين في عوائلهم ومنازلهم، وذلك بحسب رياض الجاسم، المسؤول في غرفة عمليات إدارة كارثة جنديرس التي أنشئت ثالث أيام الكارثة بمبادرةٍ من بعض النشطاء.

بدأت عمليات الإنقاذ في المدينة أول الأمر بجهود الأهالي وبعض عناصر فرق الدفاع المدني في مركز جنديرس، وباستخدام آليات وبعض المعدات بسيطة. بينما تأخر وصول فرق إنقاذٍ مجهّزة إلى المدينة حتى منتصف اليوم الثاني، وذلك جرّاء انقطاع الكهرباء والإنترنت وشبكات الاتصال التركية. «لم يكن أحدٌ يتصور أن حجم الكارثة في جنديرس بهذا القدر»، هذا ما قاله صالح الجاسم الذي أنشأ بعد ساعاتٍ من الزلزال غرفةً عبر برنامج واتساب بعنوان «مساعدة جنديرس» بغية حشد وتنظيم جهود المتطوعين. وقد أُنشئت هذه الغرفة كمجموعة تطوعية بمحض الصدفة، وتوسّعت لتضم طلبةً جامعيين وموظفين وأطباء وممرضين وغيرهم. يضيف صالح الجاسم: «لم يكن لهذه الغرفة أي ارتباطٍ بالمجلس المحلي، وباتت تهتم بطلب المساعدة وتحديد نقاط الحاجة وحشد المتطوعين وتوجيههم».

ولم تقتصر الغرفة على جنديرس فقط، بل توسعت لاحقاً لتشمل كامل المناطق المتضررة من الزلزال في شمال غربي سوريا بحسب الجاسم، الذي أضاف: «رغم الإيجابيات الكثيرة لهذه الغرفة، إلا إنها تسبّبت في تكرار تقديم المساعدات في نفس النقطة من قبل أكثر من جهةٍ أو منظمة بدلاً من توسيع الاستجابة لتشمل مناطق أوسع».

لاحقاً، وفي اليوم الثالث من الكارثة، أُنشئت غرفة «إدارة عمليات الكارثة» التي ارتبطت بالمجلس المحلي في جنديرس من قبل الناشط علاء أيوب. يقول الأيوب للجمهورية.نت: «كان مُلاحظاً نقص الكوادر في المجلس المحلي وعشوائية عمليات الإنقاذ والإغاثة، لذا تأسّست الغرفة بالتعاون مع المجلس المحلي لتحشد أكثر من أربعين متطوع-ة لإدارة الاستجابة للكارثة». ويتابع الأيوب: «غياب التنظيم وسوء الإدارة منعنا من إنقاذ المزيد من الناس، بالإضافة إلى أنّ عشوائية الأعمال الإغاثية قد حرمَت كُثراً في أيام الكارثة الأولى من الحصول على مستحقاتهم. وبفضل الغرفة، جرى تكليف فريقٍ بعمليات الإحصاء للمباني المتضررة، والكشف على مدى قابليتها للسكن، وإحصاء المخيمات والمتضررين».

يُرجِع رياض الجاسم عدم تنظيم إدارة الكارثة، خاصةً في أيامها الأولى، إلى «تضرّر أعضاء المجلس المحلي من الزلزال، فضلاً عن ضعف إمكانيات المجلس». في حين أرجعها صالح الجاسم إلى «عدم وجود آليات إدارة طوارئ في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، وعدم تسلّم المنظمات الإنسانية زمام المبادرة وإدارة الكارثة بشكلٍ كلي خشية تحمّل المسؤولية، وكذلك نتيجة تنوّع سياسات تلك المنظمات وارتباطها غالباً بسياسات الجهات الداعمة لها».

من جهته، كان لدى عمار العبسي، مدير مكتب منظمة بنفسج في إعزاز، وجهة نظرٍ أخرى حيال سوء إدارة الكارثة: «مشكلتنا تتمثّل بغياب سلطةٍ حقيقيةٍ تشكل رأس الهرم وتكون قادرةً على إدارة المناطق المحررة في العموم والتعامل مع الظروف الطارئة. الحكومة السورية المؤقتة ليس لها حضورٌ على أرض الواقع، ومجالس المحافظات هلامية، رغم أن تشكيل غرفة طوارئ بعد الزلزال كان من المفترض أن يكون منوطاً بها». ويضيف العبسي في هذا الإطار: «من غير المعقول أن تكون منظمةٌ إنسانيةٌ هي التي تقود غرفة إدارة الكارثة».

وشهدت غرفة عمليات إدارة كارثة جنديرس «تبادلاً للاتهامات» بين مسؤولي بعض المنظمات التي اجتمعت في المجلس المحلي، وتركزت الاتهامات حول «محاولة إحدى المنظمات السيطرةَ على القرار في الغرفة بما يخدم تحقيق أهداف ومصالح مشاريعها دوناً عن باقي المنظمات»، وذلك بحسب مصدرٍ حضر الاجتماع وفضّل عدم ذكر اسمه. ويعمل في مدينة جنديرس العديد من المنظمات الإنسانية، أبرزها: بهار وإحسان وشفق وسيريا ريليف ومنظمة أطباء العالم (DDD) وميرسي وسوريا للإغاثة والتنمية (SRD) ومنظمة غول وأُنصر.

ويقول العبسي تعليقاً على الاجتماع الذي جرى في مجلس جنديرس المحلي: «مَن دعا للاجتماع هو مجلس محافظة حلب، ولم يكن لدى مجلس المحافظة ومجلس جنديرس المحلي رؤيةً واضحةً لإدارة الكارثة، مما أدى إلى تنوعٍ كبيرٍ في الآراء. كان اجتماعاً غير منضبط وسادته فوضى عارمة، ولم يخرج بنتيجة». كما نفى العبسي حدوث خلافاتٍ بين المنظمات «لأن الاجتماع كان عبارةً عن فوضى» على حد وصفه.

ومنذ سيطرة الجيش الوطني المدعوم تركياً على مدينة جنديرس، ارتبطت إدارة أيّة كارثةٍ في المنطقة، بشكلٍ رئيسيّ، بإدارة الطوارئ والكوارث التركية (آفاد)، والتي غابت كلياً أثناء الاستجابة لكارثة الزلزال نتيجة انشغالها بأعمال الإنقاذ في تركيا. ويصف الناشط المدني جميل صالح (فضّل استخدام اسمٍ مستعار لأسباب أمنية) عملَ آفاد بالعموم بـ«البيروقراطي والبطيء». وتدير آفاد عموم المخيمات في عفرين وريفها، وخاصةً مخيمات دير بلوط والمحمدية اللذين يتواجد فيهما قرابة 1500 عائلةٍ مهجرةٍ من دمشق وريفها وحماة، لكنها غابت تماماً عن المنطقة بعد الزلزال، واقتصر مجمل الحضور التركي في المنطقة على بعض الزيارة التي تلت الزلزال بأيامٍ لضباط ومسؤولين رافقهم فيها قادة فصائل في الجيش الوطني مثل محمد الجاسم (أبو عمشة) وسيف أبو بكر.

«ارتباط هذه المنطقة المباشر بالجانب التركي وآفاد منعَ من إنشاء إدارة كوارث حقيقية في المنطقة، فالأوامر يجب أن تأتي من الأتراك» يقول جميل صالح. كما يرى الناشط المدني أن «لدى الدفاع المدني القدرة على قيادة العمليات الطارئة، إلا أن إمكانياته محدودة أمام ما يحصل من كوارث في الشمال السوري. كما أن استعداد المنظمات الأخرى للعمل تحت مظلتها محدودٌ بتوافق ذلك مع سياسات كلّ منظمةٍ وأهدافها».

في المقابلات التي أجريناها، غابت الإشارة إلى أيّ دورٍ قامت به الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف الوطني السوري كلياً، كما لم تكن الجهات المحلية التابعة لها على قدر المسؤولية. يعلِّق على ذلك نائب رئيس مجلس جنديرس المحلي، يزن الناصر، بالقول: «تُقدّم المجالس المحلية الخدمات التقليدية المتمثّلة في النظافة والمياه وتنظيم السجلات المدنية والإغاثية، وهي تعمل بموارد محدودة. لذا لا يملك المجلس المحلي الإمكانيات اللازمة لإدارة كارثةٍ بحجم ما شهدته جنديرس، وقد تسبّب الضرر الذي لحق بأعضاء المجلس وإصابة بعضهم أو وفاته نتيجة الزلزال فراغاً كبيراً حاولنا تغطيته من خلال متطوعين ضمن غرفة عمليات إدارة الكارثة في جنديرس».

وبخلاف غياب الحكومة المؤقتة، ظهرت حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام في جنديرس بعد يومين من الزلزال، وانتشرت آلياتٌ ثقيلةٌ تتبع لها في المنطقة، رغم أنها لا تقع تحت سيطرتها من الناحية النظرية، وإنما تديرها المجالس المحلية التي تنسّق مباشرةً مع الجانب التركي، وفي كثيرٍ من الأحيان دون المرور بالحكومة المؤقتة التي تتبع لها رسمياً. كما انتشرت صور لزعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني وهو يجري زيارةً للمدينة «ليُعاين آثار الزلزال»، زاعماً أنه أرسل إليها أكثر من 30 آلية ثقيلة لتشارك في عمليات إنقاذ وانتشال الضحايا.

ويشير معظم الذين التقيناهم إلى أنّ تشتت المتطوعين والجهات العاملة على تقديم الدعم للمتضررين، ودون توجيهٍ صحيحٍ من قبل إدارةٍ فاعلةٍ للكارثة، جعل ذلك الدعم يبدو أقل فاعليةً، فضلاً عن قلة هذا الدعم أساساً عند مقارنته بحجم الكارثة في المدينة.

موقع الجمهورية

——————————

مساعدة وقلق عبر حدودٍ عالية/ المعتصم خلف

كلما حاولنا أن نواجه اليقين بأسئلة الحاضر كي ندرك مدى تأثير الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا فجر يوم الاثنين 6 شباط (فبراير)، نكتشف كيف حَوَّلت المأساة وجوه الذين نحبهم إلى أرقام لا تنتهي. صور الضحايا والمفقودين التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وفيديوهات المدن التركية والسورية الممسوحة عن الأرض، تطلبت تكاتفاً اجتماعياً بين جميع فئات المجتمع السوري، خاصةً بعد عجز السلطة السورية بمواقفها المخجلة عن الاستجابة السريعة لآثار الزلزال، وبعد تخاذل الأمم المتحدة.

هذا التكاتف لم يقف عند حد معين، بل شمل كل أطياف المجتمع ومن بينهم اللاجئون السوريون في لبنان، الذين شعروا بهزة الزلزال ليلاً، وحاولوا جمع التبرعات بعد اليوم الأول من الكارثة، وواجه كثيرين منهم صعوبة بالتواصل مع عائلاتهم، كما بحث بعضهم على وسائل شرعية وغير شرعية للوصول إليهم.

إلى كل الذين لم نسمع قصصهم حتى الآن

غالباً ما يسكن اللاجئون السوريون الأحياء الأكثر هشاشة في لبنان، خاصة ضمن المدن مثل طرابلس وبيروت وصيدا وصور، ويشكلون كثافةً سكانية كبيرة ضمن المخيمات الفلسطينية الممتدة على طول البلاد. أغلب الأبنية التي يسكنها اللاجئون بشكل عام غير صالحة للسكن، وتعاني من الرطوبة العالية التي تُسبب أضراراً في إكساء الأبنية، مع توجيهٍ مستمر لنداءات مكثفة لمفوضية الأمم المتحدة قبل حدوث الزلزال لضرورة ترميم بعض المنازل. مريم (35 سنة) قالت بما يشبه الإحساس الخسارة: «كنت خايفة من البرد والجوع والعنصرية والترحيل، وحالياً صار في خوف جديد، مو خوف أني موت بسبب زلزال، خوف من فكرة أني بعرف ما حدا رح يسأل عنا هون لو صار أي شي، لأنو يلي ما أنقذنا من البرد ما رح يأنقذنا من الخوف ولا العنصرية ولا حتى الزلزال. بيوتنا ضعيفة، وحالتنا صعبة، ما في شي بخوف أكتر من إنك تتصل على أمك الصبح لتشوفها عايشة ولا ميتة بالشمال، وبالأخير تطلع مفقودة ومش عم يلاقوها».

أغلب اللاجئين السوريين في منطقة البقاع لم يشعروا بالزلزال، كان هاجسهم الاطمئنان على عائلاتهم الموجودة في المدن التركية والسورية والشمال السوري. لم تخفف الحكومة اللبنانية أياً من القيود المفروضة على اللاجئين السوريين بعد الكارثة، والنظام السوري بدوره لم يرفع شروط زيارة البلد لمن يريد الإطمئنان على عائلته، أو المساعدة في عمليات الإنقاذ وجمع التبرعات. يقول خالد: «يلي بفكر فيه أنو حتى لو تم فتح الحدود من قبل النظام، ما كنت رح أرجع، مو بس أنا، كل هاي الناس، نحن ما عنا ثقة به النظام، ما منأمنه على أنفسنا وعائلاتنا وأولادنا، ما بأمّن أنو وأنا راجع بس كرمال أنقذ أهلي يعتقلني أو يقتلني أو حتى يشلحني مصرياتي اللّي داخل فيها».

أما أحمد، وهو لاجئ سوري في البقاع، فمحاولاته للوصول إلى الشمال السوري من لبنان كانت معقدة بسبب الاستغلال الذي قام به المهربون للأزمة. في اتصال مع أحمد قال للجمهورية.نت «أول شي فكرت فيه أنو أطلع على الشمال السوري، وأهلي ما بعرف عنهم شي أبداً. أول شي زاد بعد الزلزال هو عدد المهربين بين لبنان والشمال السوري، وثاني شي هوي سعر التهريب يلي وصل حتى 800 دولار على الشخص. صرت أفكر إذا بدي أتدين المصاري مشان روح شوف أهلي ولا أبعتلهم المصاري، طيب إذا صاير عليهم شي لمين بدي أبعت المصاري، وإذا عايشين كيف بدي أوصلهم، كنت عاجز وضايع، والحمدلله على كل شي».

وردة في جيب معطفٍ نسائي بلا أزرار

بعد أربعة أيامٍ من الكارثة أدرك اللاجئون السوريون حجم المأساة جيداً، خاصة بعد أخبار تخاذل المجتمع الدولي، ومحاولة استغلال النظام السوري للزلزال سياسياً لأبعد حد. لربما هذه كانت الأسباب البعيدة لمحاولتهم جمع التبرعات، أما الأسباب القريبة التي جعلتهم يؤمنون بدورهم فهي شعورهم بأنهم جزء من أولئك الناس الذين كانت «فزعتهم» داخل سوريا العنصر الأساسي في المساعدة. للحظة أدركوا أن العالم ما زال يتّسع لمحاولةٍ أخيرة، مهما كانت بسيطة. شملت المساعدات التي نظمها اللاجئون السوريون في لبنان جميع المناطق تقريباً، وكانت في معظمها تعتمد على المبالغ المادية والملابس والغذاء، وتركزت بشكلٍ أساسي يوم الجمعة، رابع أيام الكارثة.

يقول طارق، شاب سوري من مخيم الرشيدية في صور: «العالم جمعت كلشي قدرت عليه، بعرف عائلات ما معها مصاري ولا عندها تياب، بس عندهم كيس معكرونة زيادة مثلاً تبرعوا فيه، كانت التبرعات من الكل ومنعرف إنها مش كبيرة لكن هدول نحن، أنا والله بعتت مليون ليرة لبنانية، بعرف مش مبلغ كبير أبداً، ولكن كان كلشي معي». بينما شرح إبراهيم طريقة إرسال المال للمتضررين في الشمال السوري: «لأول مرة حسيت أنو نحن شعب متحرر من السلطة وعم نعمل شي كجماعة بدون أي فرق، ولكن الصعب إرسال المصاري على الشمال السوري، لأنو ما في مكاتب تحويل، ويلي بصير إنو نحن منقبّض المصاري لشخص هون، وهنيك بيستلمهم شخص تاني، بس الصعب حرفياً أنو حتى بالكارثة تم استغلال المساعدات. من يلي بعرفهم هون، ما رضي أي شخص ينزّل النسبة يلي بياخدها مقابل هالعملية، بالعكس رفعوا النسبة بهالظرف. للأسف، أخدوا نسبة عشرة بالمية من كل مبلغ أرسلناه». أكد جميع اللاجئين الذين تحدثنا إليهم أن السوريين المتضررين يحتاجون لأي مساعدة، لذلك لم يحصروا مساعدتهم ضمن نوع واحد. كما أكدوا أن عائلاتهم المتضررة في تركيا أو سوريا أو الشمال السوري، تحتاج لجميع أنواع الدعم.

في اتصال آخر مع خالد، اللاجئ السوري في البقاع، قال لنا: «بعرف أشخاص كتار هون ما بعتوا مصاري للداخل السوري، وحتى أنا شخصياً ما بعتت مصاري بعتت تياب، لأنو في احتمال كبير عنا أنو تنسرق من النظام. الكشّافة نظموا المساعدات بالمنطقة، ولأول مرة حسيت أنو نحنا كمان فينا نعطي حياة مع إنو صدّقني انحرمنا منها كتير، ولكن تخيل حجم الكارثة اللي خلتنا نحن يلي منركض ورا المساعدة ركض، نحاول نقدم شي».

كانت ميساء (18 سنة) بين عشرات النساء اللواتي حاولنَ جمع المساعدات: «حاولنا نحن النساء جمع شو عنا تياب، ما قدرنا أكثر من هيك، الحمدلله طلعت الكمية جيدة، أكثر شي كنت دور فيه عن شو بدهن النساء هو الفيسبوك وما قدرت أجيب كلشي بيحتاجوه، وجمعنا تياب ولاد كمان، وأنا ما قدرت قدم أكثر من جاكيت كنت شاريته من البالة ما عليه زرار، شفت على الفيسبوك أنهم عم يحطوا بطاقات فيها كلمات حلوة مع التياب، أنا ما عرفت شو أكتب، عندي مزهرية فيها ورد بلاستيك أخذت وحدة وحطيتها بجيبة الجاكيت وبعثته للمساعدات».

تجديد الموت وسؤال الأمان

في آخر عشر سنوات، لا أذكر أن السوريين كانوا ضحايا الموت إلّا وهم يحلمون بالأمان. كانت كارثة الزلزال قاسية جداً على جميع أفراد الشعب السوري دون استثناء، لا أعلم إن كانت كلمات مثل الرحمة والسلام تتسع لكل هذه الأرواح، ولكن من حسن حظنا أن كل أطياف الشعب السوري والخوذ البيضاء في الشمال السوري قدمت ما تستطيعه. هذه «الفزعة» الاجتماعية في جميع مناطق سوريا وفي الشتات، تؤكد لمرة أخيرة، أن سوريا ليست سوريا الأسد أبداً، إنها سوريا الناس الذين يحبون ويحاولون رغم جوعهم وخوفهم ومأساتهم الشخصية. بعد يومين من العمل اتصلتُ بمريم لأطمئن على والدتها، أخبرتني أن والدتها توفيت، ثم كرّرت: «ما قلتلك بعرف ما حدا رح يسأل علينا». بكيتُ وأنا أسمع صوت مريم، بكيت ليس من أجلها فقط، بل من أجل جميع الذين رحلوا وهم يبحثون عن أمانهم الشخصي.

موقع الجمهورية

——————————

الأمم المتحدة والزلزال في سوريا: أسبوعان من «الفشل»/ قاسم البصري , ياسين السويحة

بعد مرور أكثر من أسبوعين على الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط (فبراير) الجاري، انعدمت احتمالية الوصول إلى ناجين وناجيات تحت الأنقاض في كلا البلدين. وإذا كانت فرق الإنقاذ في تركيا قد أعلنت الوصولَ إلى ناجين أحياء بعد مرور 13 يوماً على الزلزال، فإن فرق الدفاع المدني في شمال غربي سوريا أنهت مرحلة البحث والإنقاذ عقب 108 ساعاتٍ فقط، مضطرةً للانتقال للمرحلة اللاحقة من العمل بشكل سريع. ولم يكن الإعلان الصادر عن الدفاع المدني السوري، في العاشر من شباط (فبراير) متسرّعاً بقدر ما كان واقعياً. لقد أدى متطوعو المنظمة وسعهم، ووظّفوا كل إمكانياتهم وخبراتهم للتعامل مع الكارثة، غير إنهم افتقروا للمعدات الكافية لمواجهة تبعات زلزالٍ مدمّر هو الأكبر في تاريخ المنطقة الحديث. كما أنّ تدريبهم وعملهم الأساسي خلال العقد الماضي كان متركّزاً على انتشال ضحايا الأعمال الحربية للنظام السوري وراعيه الروسي وحلفائهم ضدّ المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبالتالي ليسوا مؤهلين أساساً للتعامل مع كوارث طبيعية كالزلازل، كما هو الحال مع مؤسسة آفاد التركية المتخصّصة بمواجهة الكوارث، فضلاً عن الفارق الهائل في الإمكانات.

بالنظر إلى إمكانيات الخوذات البيض وحجم الضرر الذي لحق بالمنطقة التي يعملون فيها شمال غربي سوريا، أين كانت الأمم المتحدة ومؤسساتها؟ ولماذا تركتهم وحيدين في هذه المأساة التي أزهقت أرواح 4525 وتسبّبت بإصابة 8424 آخرين حسب آخر الأرقام المتوفرة عن منطقةٍ صغيرةٍ جغرافياً يتكدّس فيها قرابة 5 ملايين إنسان، معظمهم مهجرون من محافظات سورية عديدة استطاع النظام وحلفاؤه إعادة السيطرة عليها، ويعيشون أوضاعاً بالغة الهشاشة كما تشير تقارير جميع المؤسسات الأممية العاملة في المنطقة.

أين كانت الأمم المتحدة؟

طوال الأيام الثمانية الأولى بعد الزلزال، لم تقدّم الأمم المتحدة أيّ شيءٍ للمناطق المنكوبة في شمال غربي سوريا يتجاوز التصريحات والمشاورات، بل عمدت إلى التعمية على تقصيرها من خلال تجنّب ذكر مكان استجابتها الطارئة بوضوح، وذلك من خلال إدماج مزيجِ من التحرك واللا-تحرك في سوريا مع التحرك المباشر في تركيا. في هذا السياق، نشر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث تغريدةً على تويتر بعد ثلاثة أيام من الزلزال، في التاسع من شباط، قال فيها: «قمنا بتنسيق نشر أكثر من 4948 خبيراً في البحث والإنقاذ وفرق الاستجابة للطوارئ بعد وقتٍ قصيرٍ من الزلزال الذي هزّ تركيا وسوريا». بالتأكيد لم يكن السيد الوكيل، أو مساعدوه على الأقل، في غفلةٍ عن عشرات الردود التي جاءت من سوريين-ات على تغريدته بأن لا شيء قد وصل إلى شمال غربي البلاد. توهّم معظمنا أن الاستجابة الأممية الطارئة اقتصرت على تركيا، وذلك بطلبٍ من حكومتها، على أن تفاصيل لاحقة كشفت أن الأمم المتحدة قد فعّلت آليات الاستجابة الطارئة في مناطق سيطرة النظام السوري أيضاً، ولكنها حجبتها عن مناطق شمال غربي سوريا دون تقديم أي تبرير لهذا التمييز. من الجيد جداً بالنسبة لنا أن توظّف الأمم المتحدة جميع إمكانياتها لمساعدة أهلنا المقيمين في مناطق سيطرة النظام، على أنه من العار ألا يشمل هذا التفعيل كل الأراضي السورية.

إذاً، لم يصرّح الأمين العام للأمم المتحدة، أو وكيله لشؤون الاستجابة في حالات الطوارئ، علانيةً أنّ الأمم المتحدة قد فعّلت عمل آليات تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC، والمجموعة الاستشارية الدولية لفرق البحث والإنقاذ INSARAG في سوريا مثلما فعّلتها في تركيا، وهما آليتان بيّن الدكتور محمد كتوب في مقالٍ منشورٍ في الجمهورية.نت كيف كان بوسع الأمم المتحدة من خلالهما إنقاذ حياة سوريين في مناطق الشمال الغربي. لقد قامت الأمم المتحدة وضوحاً، وبشكلٍ يفتقر إلى الشفافية والمصداقية، بحصر استجابتها الطارئة التي كان بإمكانها المساعدة في إنقاذ الأرواح في مناطق سيطرة النظام، ومن دون تقديم تفسيراتٍ لهذا السلوك الشائن. على أن تفعيل الآليتين في مناطق سيطرة النظام كان أيضاً بلا قيمةٍ فعليةٍ على الأرض، ففرق الإنقاذ التي وصلت إلى هناك لم تكن بالمشاورة والتنسيق مع الأمم المتحدة، وإنما من خلال دول حليفة أو «صديقة» للنظام السوري مثل روسيا والعراق والجزائر وإيران ولبنان.

لا بدّ أن تقدّم الأمم المتحدة إجاباتٍ واضحةً للسوريين تبيّن ما إذا كان حصر تفعيل أليات الاستجابة الأممية الطارئة في مناطق سيطرة النظام خطوةً قد أقدمت عليها من تلقاء نفسها، أم إنها أتت نتيجة الرضوخ للنظام السوري وروسيا وضغوطاتهم. علماً أن رئيس النظام السوري، وفي الكلمة الأولى والوحيدة التي وجهها «للمواطنين» بعد الزلزال، تجاهل جميع المناطق التي ضربها الزلزال خارج مناطق سيطرته، واقتصر في حديثه على المحافظات التي يحكمها. كذلك، تجاهلت التصريحات الصادرة عن مندوب النظام السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، وبشكلٍ تام، أي استجابةٍ ممكنةٍ للتعامل مع الزلزال، وانصبّ تركيزه على «سيادة سوريا وسلامة أراضيها»، وهو أيضاً ما ركزت عليه التصريحات الروسية التي جاءت على لسان ديمتري بوليانسكي نائب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة.

لقد دعت الأمم المتحدة، ومنذ اليوم التالي للزلزال، في جميع بياناتها وعلى لسان أهم موظفيها بشكلٍ متكررٍ إلى «عدم تسييس المساعدات وجهود الإنقاذ»، رغم أن ما يرشح من كلّ سلوكها خلال الأسبوعين الماضيين هو أن قراراتها كانت مفرطة التسييس، مهجوسةً بتوازنات دول مجلس الأمن الدولي على طول الخط بدل انشغالها بواجبها وفق القانون الدولي الإنساني.

في الأثناء، لا بد من العودة لتصريحٍ آخر صدر عن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث في الثاني عشر من شباط، قال فيه: «لقد خذَلْنا الشعب في شمال غربي سوريا. يحق لهؤلاء أن يشعروا بأن الجميع تخلى عنهم وهم ينتظرون المساعدات الأممية التي لم تصل». جاء هذا الاعتراف الأممي متأخراً جداً ودون قيمة، لأن الفشل قد حصل، وكان من النوع الذي لا يمكن «تصحيحه»، إذ لم يعد ثمة أرواحٌ يمكن إنقاذها.

بالإضافة إلى التضليل المتعلق بعدم تحديد مناطق استجابة الأمم المتحدة بوضوح، ثمة تضليلٌ آخر عمدت إليه الأمم المتحدة عندما أدخلت في اليوم الثالث بعد الزلزال، التاسع من شباط، أول شحنة مساعداتٍ إلى شمال غربي سوريا عبر الحدود، واكتفت بالقول إنها تتضمن مواداً غير غذائية ومستلزمات إيواء ونظافة، وعنونت أخبار الأمم المتحدة النبأ بالآتي: «منذ وقوع كارثة الزلزال، أول قافلة مساعدات أممية تصل إلى شمال غرب سوريا المنكوبة»، بشكلٍ يوحي بأن الأمم المتحدة قد بدأت فعلياً جهود الاستجابة للكارثة. ولكنّ بياناً صادراً عن الدفاع المدني أوضح أن «المساعدات الأممية التي يجري الحديث عن دخولها لشمال غربي سوريا هي مساعدات دورية، وتوقّفت خلال الأيام الأولى من الزلزال، والآن تم استئنافها. وبالتأكيد هي ليست مساعدات ومعدات خاصة لفرق البحث والإنقاذ وانتشال العالقين تحت الأنقاض». ولم يفت الدفاع المدني في البيان الإعراب عن «خيبة أمله الكبيرة» من عدم إدخال الأمم المتحدة المعدات التي ستساعدهم في إنقاذ الأرواح من تحت الركام في وقتٍ هم في أمس الحاجة إليها.

مرحلة جديدة من الاستجابة

في الثامن عشر من شباط الجاري، وبعد صمتٍ وتكتمٍ كاملين من الأمم المتحدة عن موقف النظام الرافض لإدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا، رغم وضوح تصريحات وزير خارجية النظام فيصل المقداد عن «ضرورة الحصول على ضمانات بألا تصل المساعدات إلى أيدي الإرهابيين»، صرّح مدير برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي أن البرنامج «لا يحصل على تسهيلات الدخول التي يحتاجها من السلطات في شمال غرب سوريا»، وأوضح أن هذه العراقيل «تُبطئ وصول المساعدات»، مشيراً إلى أن الحكومة السورية «تتعاون على نحوٍ جيدٍ» في جهود الإغاثة من الزلزال. يتقاطع هذا مع كلام الأمين العام للأمم المتحدة الذي «رحّب» بسماح النظام السوري إدخالَ المساعدات إلى شمال غربي سوريا من معبري باب السلامة والراعي بعد ثمانية أيامٍ كاملةٍ بعد وقوع الزلزال.

لسنا هنا بمعرض الدفاع عن قوى الأمر الواقع في شمال غربي سوريا، ولكن لماذا غابت أية تصريحات من هذا النوع إزاء تعطيل إدخال المساعدات الطارئة في الساعات الحرجة الأولى التي كان بالإمكان خلالها إنقاذ أرواح البشر، ولماذا أصر الأمين العام للأمم المتحدة على المرور عبر النظام السوري رغم وجود قراراتٍ أممية ونصوص قانونية تتيح للأمم المتحدة التصرف دون الرجوع إلى النظام السوري، وهو ما ذكره محامون دوليون في رسالةٍ موجهةٍ للأمين العام قالوا فيها إن غوتيريش لا يملك أية أعذار لإبطاء الاستجابة الطارئة عن ضحايا الزلزال في سوريا، وهو ما أشارت إليه أيضاً عريضةٌ مزوّدةً بالنصوص القانونية أطلقتها سيريا كامبين  في العاشر من شباط لمطالبة الأمين العام بضمان استخدام جميع المعابر إلى شمال غربي سوريا بشكلٍ فعال وتقديم المساعدات والمعدات والدعم الفني على الأرض فوراً، ووقع عليها قرابة 18 ألف شخص، دون أن يستجيب أو يتفاعل معها الأمين العام. كما قدّم البرنامج السوري للتطوير القانوني (SLDP) توضيحاً حصلت الجمهورية.نت على نسخةٍ منه جاء فيه أن الأمم المتحدة، وبموجب أحكام المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف (1949) التي تنطبق على النزاع المسلح في سوريا، لم تكن بحاجة موافقة النظام السوري للقيام بأعمال الإغاثة، بل إن المادة بحسب التحليل تمنح «أساساً قانونياً للحصول على موافقة الجهات الفاعلة غير الحكومية في شمال غرب سوريا، وذلك على الرغم من الموقف الذي اتخذه النظام السوري».

في تصريحاتٍ عديدة، شدّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على أن المساعدات «يجب أن تمر من كل الجهات، إلى كل الجهات، عبر كل الطرق، ومن دون أي قيود»، إلا إن واقع الحال يؤكّد أن الأمم المتحدة هي التي أصرت على تقييد تحركاتها دون مبرر، وليس بأي قيد، وإنما بقيود وشروط نظام الأسد، الذي تحفل تقارير المنظمات التابعة للأمم المتحدة نفسها بسجلاّت إجرامه. لقد كانت الأمم المتحدة حريصةً «على تجنّب حقيقة أن النظام في دمشق لاعبٌ أساسي في الحرب القائمة،…. ، بل هو صانعٌ لهذه الحرب ومتورطٌ بها من ألِفها إلى يائها» كما أورد الدكتور تيسير الكريم في مقالٍ نشرته الجمهورية.نت الأسبوع الماضي.

اقتصرت تصريحات الأمم المتحدة منذ أسبوع على أنباء إدخال قوافل المساعدات التي «سمح» النظام السوري بإدخالها عن طريق باب السلامة وباب الهوى الحدوديًّين، ومناشداتٍ للتبرع لمنكوبي الزلزال في سوريا وتركيا، وبالتالي إهمال كل ما مضى كأنه لم يكن والاقتصار على المساعدات الإنسانية والإغاثية المعتادة عبر 6 وكالاتٍ تابعةٍ للأمم المتحدة، والتي تحتوي على الخيام والفرش والبطانيات والملابس الشتوية وأدوات فحص الكوليرا وأدوية أساسية ومواد غذائية. هذا يعني أنه ما من استجابة خاصة ونوعية للزلزال وتبعاته على الإطلاق، بل معاودة للنشاط السابق على الزلزال، والذي كان أصلاً منقوصاً ومتناقصاً باستمرار، وسيصطدم مرةً أخرى بعدم وجود مانحين دوليين لمواصلته وتعزيزه بعد أن يمضي وقتٌ قصيرٌ على الزلزال ويهدأ الاهتمام الخبري وتتقلص لذلك رغبة المبعوثين الدوليين في التقاط صورٍ بسترات المنقِذين وخوذاتهم أمام الركام والشاحنات.

* * * * *

وفقاً لتشريعات دولٍ كثيرةٍ حول العالم، يُشكّل الامتناع عن إبداء المساعدة لمن يحتاج الإنقاذ (كما في حال مَن يشهد حادث سيرٍ أو غيره، وكان بوسعه المساهمة في إنقاذ عالقٍ أو نقله بسرعة إلى المشفى لكنه لا يفعل) جريمةً يُعاقَب عليها الأفراد بالسجن، وتزداد فداحة العقوبة عندما يكون الممتنع عن الغوث صاحب اختصاص (طبيب، مثلاً) أو إمكانات (آليات أو وسائل إنقاذ)، أو صاحب قرارٍ على المكان الذي يحصل فيه الخطر. أليس هذا، الامتناع العمد عن إبداء مساعدة ممكنة، ما فعلته الأمم المتحدة في شمال غرب سوريا؟ لو أن فرداً ترك آخرين يموتون رغم قدرته على إنقاذهم للوحق قضائياً، ولوُجّهت له تهمة الامتناع عن المساعدة، أو ربما حتى وصلت التهمة إلى «القتل بالامتناع» حسب القوانين الجنائية لبعض الدول. هل يُعقل أن تكون بعض عبارات الأسى على الفشل، من نوع التي نطقها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث -القادم إلى منصبه الحالي من فشلٍ آخر في اليمن- كافيةً لطيّ صفحة فضيحةٍ من هذا النوع، كلّفت سوريات وسوريين كثر حيواتهم؟

ثمة ضرورةٌ لتنسيق جهود المؤسسات الحقوقية والمنظمات الإنسانية السورية الداعية لإجراء تحقيق وإطلاق مسارٍ لمحاسبة المسؤولين الأمميين الذين امتنعوا عن غوث السوريين بُعيد الزلزال، والسعي لأن تتطوّر هذه الجهود من تعبيرٍ غاضب الآن إلى حملة مستمرة وطويلة الأمد. «الموضوع معقّد»، لا شك، كما هو «معقّد» أمام كل جهود محاسبة ركّاب قطار الإفلات من العقاب في سوريا، لكن جهوداً منسّقةً لتثبيت هذه المُطالبة ورفعها بوضوح ليست فقط مفيدة لأنها محاولة محاسبة مسؤولين بعينهم امتنعوا عن أداء واجبهم، ما كلّف أخوة وأخوات لنا أرواحهم-ن؛ بل لأنها أيضاً تدخّل في الساحة العامة يُرافع عن قيمة حياة وكرامة السوريات والسوريين: إن كان الزلزال كارثةً طبيعية، فما لا يُطاق أن يكون طبيعياً هو التبخيس المتواصل لقيمة أرواح السوريات والسوريين في الأروقة الدولية، وبلا حساب ولا عقاب.

موقع الجمهورية

——————————–

تداعيات ما بعد الزلزال/ أحمد مظهر سعدو

ندرك جميعاً أن هول ووقع الكارثة الزلزالية التي ضربت جنوبي تركيا وشمالي سوريا كان كبيراً ومؤلماً، وأوقعت عشرات آلاف الضحايا من الأتراك والسوريين من جرّاء زلزال مدمّر لم تشهده المنطقة منذ عقود طويلة.

واستطاع الشعب التركي وكذلك السوري تحمل المسؤولية في مواجهة تبعات الكارثة الكبرى، وفعل كل ما يلزم من أجل بلسمة الجراح النفسية والجسمية التي أنتجت مئات الآلاف من المعوقين وعشرات الألوف من الضحايا، وأكثر منهم من المهجّرين والنازحين إلى مناطق أخرى أكثر هدوءاً وأبعد نسبياً عن مخاطر الهزات الارتدادية، التي ما برحت تفعل فعلها في بث الذعر والخوف لدى قطاعات واسعة من الناس، من حيث إنها تؤشر إلى احتمالات ممكنة في انهيارات جديدة للأبنية التي سبق وطالها التشقق.

لذلك لا بد من التوقّف وقراءة مستقبلات الأيام وما سوف تتركه حالات الزلزلة المستمرة، محاولة قراءة التداعيات الأولية، وأيضاً المتوسطة، وطويلة الأمد، بعد كل هذه الخسائر، وبعد حالة الفجيعة الكبرى التي نالت من السوريين والأتراك في ظل التفاتة إقليمية وعالمية متميزة وقفت إلى جانب المتضررين وأمسكت بأيديهم، ولو بشكل نسبي، من منطلق إنساني وبعيد عن المصالح السياسية، التي لا يجوز أن تتمظهر في هكذا حالات، مع العلم أننا شهدنا العديد من التحركات التي ظاهرها كان إنسانياً لكن مضامينها سياسية بامتياز.

الكثير من التداعيات التي يمكن الحديث فيها وعنها التي خلّفها وسيخلفها هذا الزلزال/الكارثة، والتي ستترك آثارها وتبعاتها على كلا الشعبين المتأثرين بالزلزال وأعني التركي والسوري، منها تداعيات سياسية، داخلية واقتصادية وأيضاً إقليمية ودولية، من الممكن أن تكون أكثر وقعاً وأمضى تأثيراً، نذكر منها:

الزلزال ترك مئات الآلاف من المنكوبين الذين يحتاجون إلى المأوى والطعام والشراب والخدمات والتعليم والعلاج، ومن ثم الاشتغال الحثيث والصعب لإعادة تأهيل هذه المناطق من جديد، في ظل واقع تضخمي اقتصادي ومعيشي غاية في الصعوبة، سبق أن تركت ذيوله جائحة كورونا، وأيضاً الحرب الروسية على أوكرانيا التي دخلت عامها الثاني، وسط توقعات في استمرارها لفترة أطول.

هناك أيضاً الآلاف من التلاميذ الذين باتوا من دون تعليم بسبب انهيار مدارسهم، أو من جرّاء واقع الزلزال الذي فرض بالضرورة أن تكون هذه المدارس مراكز ضرورية جداً للإيواء.

ناهيك عن حالات تفشي مرض الكوليرا شمالي سوريا بعد الضرر الكبير الذي لحق في قطّاع الصرف الصحي من خلال ما فعله الزلزال في الكثير من مناطق الشمالي، وهي مسألة تحتاج إلى إمكانيات كبيرة في الصحة والمتابعة، ما زالت مفتقدة كلياً أو جزئياً في ظل عجز الحكومتين المؤقتة والإنقاذ عن فعل أي شيء نتيجة شح الإمكانيات وندرتها.

النقطة الأخرى تتركز حول الوعود الأوروبية في مساعدة تركيا والسوريين من أجل الخروج من آثار كارثة الزلزال، حيث يتساءل السوري والتركي: هل يمكن أن تفي الدول الأوروبية والغربية عموماً بوعودها وتسهم في عملية لملمة جراح تركيا ودعمها بينما هي بالأصل لم تكن ولا تريد لحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، أن تنجح في الانتخابات المقبلة، والتي أضحت على الأبواب.

والتحدي الآخر هل ستتمكن تركيا من إنجاز الوعد في إجراء الانتخابات التركية بموعدها بعد كارثة الزلزال، وماذا يمكن أن يحدث فيما لو تم التأجيل ولصالح مَن ستكون النتائج في ظل هجوم لا يهدأ واستغلال من قبل المعارضة على الجهود الكبرى التي تبذل (في مواجهة الكارثة) من قبل مؤسسات الدولة التي تديرها حكومة العدالة والتنمية.

في المقلب الآخر فإنّ الحديث يجري متتابعاً وكثيفاً عمّا يمكن أن يجنيه بشار الأسد بعد الزلزال وبعد أن راحت بعض الدول العربية تهرول تباعاً إلى دمشق، وتدعو رأس النظام إليها كما جرى في سلطنة عُمان، وتوجّه وزير خارجية مصر إلى دمشق وأنقرة، لكن ما يبدو واضحاً حتى الآن أن بشار الأسد لن يُشتغل على إعادة تأهيله السياسي، غربياً على الأقل، كمنتج جانبي للتعاطف الدولي والعربي مع نكبة السوريين الزلزالية. أوروبا لن تستعجل التطبيع معه وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، التي أعلنت أنها ستصد كل محاولات البعض لتجاوز العقوبات المفروضة على النظام السوري.

في الحديث عن الذي تم البدء به قبل ذلك بأشهر من محاولات التطبيع والمصالحة بين تركيا والنظام السوري، فإنه وكما يرى المتابعون قد يكون هناك تحسن في العلاقة التركية السورية اضطراراً بسبب الكارثة الزلزالية الصعبة، لكن ما قيل عن إمكانية تقارب تركي سوري على مستوى الرئاستين، سيشهد جموداً وتراجعاً نسبياً كما هو مرجّح.

أما حكومة الملالي في إيران ستضطر (بحسب مراقبين) لأخذ تأثير الزلزال في كل من تركيا وسوريا ضمن سياقات مشاريعها وأيضاً بعض خياراتها الإقليمية في الاعتبار، وعلى الأرجح أنها ستتأنى كثيراً، لأنّ هذه الكارثة  الزلزالية ليست إنسانية فقط، وإنما تداعياتها الإقليمية والجيوسياسية قد تفعل فعلها في احتمالات العودة إلى مستديرة رسم بعض الاستراتيجيات السياسية، وكذلك السيناريوهات التي كانت.

في أميركا فإن الكونغرس الأميركي الذي يهيمن عليه (الحزب الجمهوري) يتوقّع أن يكون بالمرصاد لأية مشاريع روسية وإيرانية ضمن الجغرافيا السورية، وكذلك لأيّ محاولة تعويم وتأهيل نظام بشار الأسد الكبتاغوني أو لتجاوز العقوبات.

وهو كذلك سيعارض سياسات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فيما لو سمحت باستثناءات أوسع وأكثر لـ”قانون قيصر” الشهير، وعموماً فإن إدارة بايدن وأيضاً الكونغرس لا يُعتقد أنهما في وارد رفع العقوبات عن النظام السوري تحت ضرورات إنسانية خلفتها الكارثة الزلزالية، حيث تعمل الولايات المتحدة في البحث عن آليات جديدة وإضافية لعمل المنظمات الدولية للإغاثة، كحال المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وأميركا لن تسمح في التعاقد مع النظام لإيصال المساعدات إلى المناطق المتضررة سواء أكانت تحت سيطرة النظام أو حتى المعارضة كما هو بائن.

وتجدر الإشارة إلى أنّ تركيا اليوم في حالة اقتصادية صعبة، وما محاولاتها اتخاذ قرارات اقتصادية كتخفيض سعر الفائدة وما رافقه من قرارات، إلا ضمن سياقات مواجهة التحديات الكبرى التي خلّفها الزالزال، ويبدو أنه حتى الآن ما زالت قادرة على معالجة ذلك عبر ما تبذله من جهود حثيثة لا تهدأ في لملمة الجراح وبلسمة أوضاع المتضررين، فهناك مدن كبرى وولايات عشر دُمِّرت، بما يتطلّب مليارات الدولارات التي لن تستطيع أن توفيها حقها بعض المساعدات التي تسددها الدول الأوروبية بملايين الدولارات، فأوروبا مكبّلة بمشاكلها وبحربها مع روسيا، واقتصاداتها متضعضعة والتضخم يزداد اضطراداً، كما أن أولوياتها ليست في دعم الأتراك ولا السوريين بعد حرب أوكرانيا.

وصدق من قال (أكثر أنواع الزلازل مأساوية هي التي تصيب القناعات الراسخة المقدسة)، وهو مالا نأمله أبداً لكلا الشعبين الصديقين السوري والتركي، عسى أن تؤتي الكارثة دفعاً ميدانياً موضوعياً مشتركاً لإنجاز النهوض بعد الزلزال من جديد، والإرادات الصادقة والجادة من الممكن أن تتمكن من ذلك، فيما لو بنيت على أسس موضوعية.

————————————–

قراءة في أدبيات الزلزال/ حسام جزماتي

بعد ثلاثة أسابيع على الكارثة التي ضربت الجنوب التركي ومناطق من سوريا يكاد القول حولها أن ينفضّ، بعد أن شغلت أخبار الزلزال والكتابة عنه وسائل الإعلام في البلدين. تهدف الأسطر القادمة إلى التأمل في الأفكار التي طُرِحت بمواكبة هذا الحدث الجلل منذ وقوعه فبدء عمليات الإنقاذ والإغاثة والإيواء في المجال السوري، ولا سيما الخطاب المعارض كما تجلى في مقالات ولقاءات متلفزة ومنشورات جادة على وسائل التواصل.

من الطبيعي أن يتشابه بعض ما قيل هنا مع جزء مما قيل في ضفة مناطق النظام، لكن القدرة الفردية المحدودة على الرصد تدفع إلى التأكيد على أن موضوع هذه القراءة هو خطاب كتّاب ومعلّقين وصانعي رأي منحازين إلى الثورة، وفق استطاعة كاتب هذه السطور على المتابعة، «مما سمع وقرأ وشاهد» من الأفكار التي ربما تمحورت في ما يلي:

استعادة الوحدة الوطنية

استنفرت الكارثة حميّة عابرة للمناطق وللحدود بين سوريين، مما أغرى متابعين بالقول إنها وحّدت السكان من جديد حول المصاب العمومي بغض النظر عن أي انتماء سياسي. والحال أن شبكات التضامن التي سرى التيار في محطاتها وأسلاكها ظلت منفصلة على فالق الأراضي المحرّرة ومناطق النظام بشكل أساسي. وبما أن الأضرار في هذه الأخيرة تركزت في محافظة اللاذقية، ثم في حلب وحماة على الترتيب؛ فقد تلقت مناطق الساحل الحصة الأوفر من دعم «الدولة» السورية وأنصارها من مختلف الأنحاء داخل البلاد وحيث تجمعهم جاليات قوية موالية للأسد في دول صديقة له أو غربية. صحيح أن بعض مؤيدي النظام والرماديين ذكروا إدلب ضمن المناطق المنكوبة، لأسباب دعائية تخصهم على الأرجح، لكنهم لم يفعلوا تجاهها شيئاً يُذكر. كما أن بعضهم حرص على إيضاح أن تعاطفه يشمل الأطفال والمدنيين الموجودين هناك بحكم الأمر الواقع، وتمييزهم عن القوى العسكرية وأجهزة الحكم والمؤسسات البديلة.

وفي المقابل انشغلت طواقم المناطق المحرّرة، ومؤيدوها خارج البلاد، بحشد الدعم لمصابها الذي كان أشد إيلاماً مما حصل عند النظام وبإمكانات أقل. نعم جرى ذكر حلب واللاذقية في خطاب البعض على وجه الإجمال، لكن أشد المتفائلين انفعالاً يجب ألا يأمل الآن في تعاطف جمهور الثورة الكليم مع القرى المتضررة في ريف جبلة. فقد خلّفت السنوات العشر الماضية شقاقاً عميقاً لا يردمه زلزال.

الشعب الأسطوري

بالتوازي مع صورة سوريا الموحدة شعورياً ظهر خطاب يُعلي من شأن السوريين، وخاصة منهم سكان الشمال، الذين نهضوا أحياء من تحت الركام مثل طائر الفينيق، ليسهموا بقدرة «استثنائية» في أعمال الحفر وتقديم المساعدات. وقد أضفى الإنشاء السهل على هؤلاء صفات فوق بشرية لم تلبث أن اتصلت بعُظام لا ينفك يمد رأسه في كل مناسبة، وكأن أي شعب في العالم لن يبادر إلى البحث عن أحبائه من تحت الأنقاض، أو أن عشرات المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية تتبرع بما لا يدخل في نطاق تعريفها لنفسها ورسالتها وعملها أصلاً.

لا شك أن المرء يستحق التقدير لقيامه بواجبه، خاصة مع شحّ الإمكانات، لكن تحويل الشكر الواجب إلى أهازيج شعرية ليس ضخاً حصيفاً في عروق شعب عليه أن يعي الكثير من عيوبه أولاً، قبل أن ينال التصفيق على أسابيع من النبل.

طبقات المظلومية

المظلومية هي الوجه المقلوب للعظمة. ويتوافر هذان الشعوران بكثافة في النفس السورية، خاصة الثورية منها، في السنوات العشر الأخيرة. وأينما مددت يدك ستعثر على نماذج من خطاب المظلومية بطبقاته التي تبدأ من أعلى؛ فالسوريون أسرى لعنة التاريخ أو السياسة، والموت يطاردهم على وجه الخصوص، والقدر لم يشبع من دمهم سواء بالقتل أو بالقصف أو بالغرق في مجلس عزاء مستمر. فها هي قبورهم تملأ الرحب، وها هو الزلزال يلاحقهم إلى المدن التركية التي لجؤوا إليها فلاقوا حتوفهم في أنطاكيا ومرعش وسواها، وعادوا بالتوابيت على طرق تلكأت المساعدات الدولية أياماً عن عبورها، في مرافعة معتادة تجاه العالم «العاهر» وأممه «المنافقة». وفي حين يجري تناقل أي معالم عنصرية تركية على نطاق سوري واسع فإن الأخبار المضادة لا تحظى بالقدر نفسه من الرواج لأنها لا تحفز المظلومية.

من سرق المساعدات؟

لاحظ جميع المتابعين ارتفاع سوية التشكيك والاتهام، اللذين صارا معتادين مع الأسف، إلى درجات ملتهبة غير مسبوقة مع زيادة حاجة الناس إلى المساعدات بأنواعها. وقد حصل هذا في الصفيحتين السوريتين اللتين ضربهما الزلزال؛ ففي مناطق النظام جرى التشكيك في نزاهته أولاً، ثم في ذمة جميع الفاعلين المحليين من مجموعات ومخاتير ووجهاء ومشايخ. وفي الشمال لم تنجُ تقريباً إلا منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، على حنق من الذين يرغبون في تحطيم كل شيء وتلطيخه بالسواد.

وذلك على الرغم من تناقض هذا التعميم بشكل صارخ مع كل ما سبق من أنفة السوري وتفوقه المفترض على العالمين. دون أن ينتبه المتنقلون بين الخطابات الانفعالية إلى استحالة القول بتميز شعب أنجب كل هذا العدد من اللصوص؛ سواء في منظمات الإغاثة أو من مديري المخيمات أو من أعداد لا تحصى من «ضعاف النفوس» من الذين استغلوا الوضع فسارعوا إلى استلام المعونات مراراً وبيعها، قاطعين الطريق على المنكوبين الحقيقيين الذين منعتهم نفوسهم العفيفة عن المنافسة والتكالب.

لا يخلو كل ما تم استعراضه من أن يكون صوراً ذهنية يدفع إليها الوهم. ولعل من أولويات بناء المستقبل السوري أن نعي أننا شعب عادي كالبقية، وربما أصبحنا أسوأ منهم نتيجة الظروف المنهكة التي استمرت لأكثر من عِقد، وعلى أرضية أخلاقية مهتزة.

—————————————

حتى زلزال القرن الذي قتل آلاف السوريين يعجز عن تحريك قضيتهم دوليا..!/ محمود عثمان

فجر السادس من فبراير/ شباط الجاري، كان الشمال السوري والجنوب التركي على موعد مع زلزال مدمر بقوة 7.7 درجات بمقياس ريختر استمر 65 ثانية، أعقبه زلزال آخر بقوة 7.6 درجات استمر 45 ثانية، ثم تبعه بعد عدة أيام زلزال آخر بقوة 6.4 ، في حين أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” لاحقا، تسجيل 8 آلاف و550 هزة ارتدادية.

بعض علماء الجيولوجيا قدر قوة الزلزالين الأوليين وحدَهما، بما يعادل 11 درجة على مقياس ريختر، مما خلا نظيره في تاريخ البشرية جمعاء، هذا بالإضافة للهزات الأرضية الارتدادية، التي كانت كافية لإحداث دمار هائل، أدى إلى انهيار عدد كبير من المنازل فوق ساكنيها، وتسبب في مقتل ما قد يصل إلى 45 ألف شخص في تركيا، وما يقارب العشرة آلاف في سوريا، إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين والمشردين، الذين تركهم الزلزال فوق ركام المباني وفي الطرقات بعد فقدان الأهل والمسكن.

بالرغم من كون الزلازل كوارث طبيعية يستحيل التنبؤ بها مسبقا، وهذا ما يجعل أضرارها المادية وخسائرها البشرية فادحة مؤلمة، فإن ذلك لم يمنع من احتدام النقاش حولها، في ساحات مختلفة ومجالات عديدة، منها ما هو على صعيد المسببات إذ يعتبرها بعضهم نوعا من العقوبة الإلهية بسبب انحراف الناس وبعدهم عن تعاليم الدين، ومن يعدها وسيلة لتكفير الذنوب ورفع الدرجات، وغالبا ما يتداخل التفسيران العلمي والديني لهذا الحدث الجيولوجي المدمر. لكن الجميع متفقون على أن ضحايا الزلازل شهداء، نالوا مرتبة الشهادة، التي لها مكانة عظيمة في الدين الإسلامي.

دبلوماسية الكوارث الطبيعية

لا شك بأن المساعدات والتعاطف الدولي مع متضرري الزلازل غالبا ما تسهم في تقليل حدة التوترات السياسية، وأن رسائل الدعم والتعاطف من مختلف أرجاء العالم، تخلق إحساساً بالتضامن في أوقات الأزمات، ولهذا يسود بعض الهدوء في العلاقات الإقليمية المتوترة في أعقاب وأثناء عملية التعافي.

لقد نجحت الدبلوماسية التركية تأمين حشد دولي ضم 90 دولة، منها دول حليفة، ومنها دول تشهد علاقتها معها توترات ونزاعات. مع ذلك جاءت تلك الدول للتضامن والمساعدة الإنسانية، 40 دولة منها من أرسلت فرق إنقاذ مدربة، كما فعل العديد من الدول العربية واليونان والولايات المتحدة وإسرائيل، بالرغم من أن تركيا لديها خبرة في الزلازل الشديدة، وآليات متطورة للاستجابة لحالات الطوارئ.

لقد كان بإمكان السوريين الاستفادة من التعاطف الدولي الذي رافق كارثة الزلزال، سياسيا وإنسانيا. لكن غياب مؤسسات المعارضة السورية، الائتلاف والحكومة المؤقتة، وحتى المجالس المحلية التي لم تتلق أية تعليمات أو توجيهات للتحرك، فوّت على السوريين إعادة قضيتهم إلى دائرة الاهتمام الدولي، وحرم متضرري الزلزال السوريين من الاستفادة من التعاطف الدولي.

مرة أخرى تطفو على السطح ضرورة إيجاد بديل وطني مقبول شعبيا، يحظى بقدر من استقلالية القرار، يتولى زمام المبادرة، ويكون على مستوى المسؤولية. حيث تستطيع القيادات الحكيمة استغلال الكوارث الطبيعية كالزلزال وغيره سياسيا، باستخدامه كأحد الوسائل الدبلوماسية الفعالة، من أجل تفعيل العلاقات مع الأصدقاء والحلفاء، ومد الجسور لبناء علاقات جديدة، والعمل على فتح قنوات تواصل مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، بواسطة تحرك نشط، يقود ما يمكن تسميته بدبلوماسية الكوارث الطبيعية، على غرار دبلوماسية الرياضة، وغيرها من الدبلوماسيات الظرفية.

رأينا الملك البريطاني تشارلز يزور خيمة العزاء التي نظمها سوريون في لندن. كان من الواجب استثمار هذا الحدث سياسيا، وتنظيم مثيلاتها في شتى البلدان، وحشد الأصدقاء والمؤيدين لحقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة.

تقاعس الأمم المتحدة عن نجدة السوريين

بحسب إحصائية لعدد شاحنات المساعدات التي دخلت الشمال السوري بعد الزلزال في الفترة بين 10و22 شباط/فبراير، فقد عبرت 1143 شاحنة، تم تصنيفها  كما يأتي:

* 177 شاحنة من منظمات محلية ودولية عاملة في الشمال السوري

* 158 شاحنة من عشائر المنطقة الشرقية في سوريا

* 143 شاحنة منظمة IHH التركية

* 108 شاحنات من جهات مختلفة

* 69 شاحنة من جمعية بارزاني الخيرية – كردستان العراق

* 46 شاحنة + 6 بيك آب من السوريين في المهجر

* 37 شاحنة مساعدات من الأمم المتحدة

* 34 شاحنة من السعودية

* 33 شاحنة من قطر + فريق طبي

* 24 شاحنة من وقف الديانة التركي

* 9 شاحنات من تل أبيض

* 5 شاحنات من منظمة آفاد

* 4 شاحنات من أهالي بلدة السخنة

* شاحنة من المجلس المحلي في مدينة اعزاز

* شاحنة من المجلس التركماني السوري

* 294 شاحنة مساعدات أممية دخلت من معبر باب الهوى

وبينما كانت حالة التضامن مع تركيا البلد القوي المستقر في ذروتها، شهدنا حالة من الإعراض وعدم المبالاة بنداءات الاستغاثة التي أطلقها السوريون من تحت الأنقاض. حتى إن مساعدات الأمم المتحدة المقررة مسبقا قبل الزلزال، لم تصل إلا بعد أيام، وبقدر لا يسدّ الرمق، ولا يتناسب مع حجم الكارثة.

ومع وجود ملايين الأشخاص الذين أخرجهم نظام الأسد من بيوتهم ومدنهم، وهجرهم قسرا إلى الشمال السوري، وبسبب الدمار الهائل الذي خلفته البراميل المتفجرة التي صبها نظام الأسد فوق رؤوس السوريين، والانهيار الاقتصادي الذي أحدثته الحرب، فقد أصبح من المستحيل بالنسبة لكثير من السوريين الحصول على وجبة غذاء كافية، خصوصا مع أزمة الوقود وبرد الشتاء القارس.

كما تسببت البنية التحتية المدمرة في إصابة الآلاف بالكوليرا في الأشهر الأخيرة، وأدى الخراب الذي لحق بالمستشفيات إلى عدم تمكن عديد من الناس الحصول على رعاية صحية، ثم جاء الزلزال ليقتل الآلاف ويسوي أحياء بكاملها بالأرض في وقت واحد.

هل تحرك ارتدادات الزلزال مياه الأزمة السورية الراكدة؟

يعتقد بعض المراقبين أن كارثة الزلزال وتداعياته المحتملة، يمكن أن تكون نقطة تحول تاريخي في مسار الأزمة السورية، حال توفر إرادة سياسية إقليمية ودولية. لكن الحديث عن وجودها حاليا ضرب من الخيال، حيث كل من الغرب وأميركا منهمكان في صراع تكسير العظام في أوكرانيا.

من جهته، يحاول نظام الأسد استغلال ظروف الزلزال للبحث عن شرعيته المفقودة، تارة من خلال استغلال المساعدات الإنسانية التي تقدمها المؤسسات الأممية، وتارة بما تتيحه إيران وحلفاؤها من فرص، منها زيارة سلطنة عمان، التي تخالف المتعارف عليه في مثل هذه الظروف. حيث يقطع الرؤساء زياراتهم الخارجية ويعودون إلى بلدانهم للإشراف المباشر على سير عمليات الإنقاذ. لكن بشار الأسد فعل العكس، عندما ترك السوريين تحت الأنقاض، وسافر إلى مسقط بحثا عن شرعية منقوصة مفقودة.

————————————–

مقاصد كليتشدار أوغلو من رسالته إلى بشار الأسد/ فراس رضوان أوغلو

لا شك أن تداعيات الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا كانت كبيرة وكثيرة وعلى كل الأصعدة، فأعداد الضحايا الذي فاق 44 ألفاً وأضعاف هذا الرقم من الجرحى إضافة إلى الأبنية المهدمة والتي سيعاد بناؤها في الولايات الإحدى عشرة والتي وصلت إلى 199739 ألف بناء علاوة على التصدعات والتشقاقات والاهتزازات الارتدادية، أضف إلى ذلك الارتدادات السلبية التي قد تلحق بالاقتصاد التركي من جراء توقف ردف هذه الولايات للدخل القومي التركي وربما هذه الارتدادت لن تقتصر على الصعيد الاقتصادي فحسب بل إنها طالت الصعيد السياسي حيث كان هذا الزلزال مدخلا للاتصالات السياسية بين دول كانت على قطيعة مع النظام في دمشق.

لم يحد رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض السيد كمال كليتشدار أوغلو عن هذا المسار وأرسلَ رسالة تعزية إلى بشار الأسد يعرب فيه عن غاية حزنه لما حل من تبعات كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا ويترحم على أرواح الذي توفوا تحت الأنقاض ويتمنى الشفاء العاجل للجرحى لأبناء الجارة العزيزة سوريا (من دون ذكر المتوفين من السوريين تحت الأنقاض في تركيا) ورغم أن هذه الرسالة تتسم بطابع إنساني بما تتضمنه من كلمات بسيطة وإنسانية إلا أن ما وراءها أهداف سياسية واضحة المعالم على عدة أصعدة أراد السيد كليتشدار أوغلو إيصالها.

المقصد الأول الذي أراد السيد كليتشدار أوغلو توضيحه لأعضاء حزبه وهي أنه مستمر على نهجه الذي أعلنه من قبل وهو التواصل مع النظام في سوريا مباشرة. سياسة التوجه نحو الأبواب مباشرة سواء في القاهرة أو دمشق وأنه ما زال على هذا النهج وأن حل الملف السوري سيكون هكذا في حال تم له الأمر في الانتخابات أو أي أحد من مرشحي الطاولة السداسية وطبعاً بنفس الوقت رسالة للداخل التركي وربما تحديداً الولايات الجنوبية التي ضربها الزلزال مستفيداً من حالة الغضب الموجودة هناك من أجل كسب أصوات لصالحه إن تم ترشُحه وخاصة أن أغلب تلك الولايات كانت تصوت لصالح حزب العدالة والتنمية ولعله أراد أن يقول أيضاً إن عودة السوريين الآن أصبحت حاجة ملحة فلا توجد مساكن تؤوي أبناء بلده فكيف بالسوريين علاوة على إعادة الإعمار التي قد تتحقق في عام بحسب ما تقول الحكومة أو لا تتحقق بعدة سنوات لكبر العدد المطلوب بناؤه وأيضاً لعله يريد أن يذكر الناخب التركي بأنه هو صاحب فكرة التواصل مع دمشق التي تقوم بها الحكومة الآن وأن صاحب الفكرة أولى بقضائها.

المقصد الثاني هو رسالة للخارج وذلك بأن المعارضة التركية الآن هي الخيار الأفضل دولياً وإقليمياً وخاصة أنها ليست على عداء مع أحد وأن من قام بتلك المناكفات السياسية هو الرئيس أردوغان أي الحكومة الحالية وأن المعارضة التركية الآن هي مقبولة بشكل أكبر من غيرها والدليل هذه الرسالة التي أرسلها السيد كليتشدار أوغلو وتم تقبلها بدمشق برحابة صدر فما بالكم بالدول الأخرى، وأن التجديد (وهو شعار المعارضة) قد آن أوانه رغم التحديات الكبيرة التي سوف تواجهها تركيا في السنوات المقبلة سواء في آثار الزلزال وتبعاته أو الحرب الروسية الأوكرانية وما نجم عنها من تغيرات سياسية ليست بالبسيطة أبداً.

المقصد الثالث وهي رسالة لا يمكن وصفها بالإيجابية أبداً نحو المعارضة السورية التي تدعمها تركيا بقيادة الحكومة الحالية مفادها أن المعارضة التركية لا تعترف بالمعارضة السورية بل حتى لا تراها فرسالة التعزية لرئيس النظام السوري فقط ولا رسالة للمعارضة السورية التي ضرب الزلزال مناطقها وخلف قتلى أكثر بكثير مما هو عليه الحال في مناطق سيطرة دمشق ولعل هذا سينعكس على التعاون بين المعارضة التركية في حال نجاحها بالانتخابات المقبلة وبين النظام في دمشق من أجل إعادة اللاجئين السورين وربما يتطور الأمر نحو إنهاء المعارضة السورية المسلحة وتعاون أمني وعسكري وغيره وبهذا يتم إرضاء روسيا وإرضاء الداخل التركي وإرضاء الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر المعارضة السورية مقربة من الفصائل الإسلامية وهنا يجب استحضار هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل في إدلب وريفها.

رسالة وإن قلّت سطورها إلا أن ما بين السطور يحتاج لعدة رسائل كي تشرحه فسياسي مخضرم بحجم رئيس حزب الشعب الجموري لا يمكن أن يقوم بخطى سياسية غير محسوبة الأبعاد وخاصة أنه يرأس أكبر حزب معارض في تركيا وما هذه الرسالة إلا استمرار لنهج التواصل بينه وبين دمشق الذي قام به من عدة سنوات عبر زيارات وفديّة من حزبه نحو دمشق .

 ————————————–

فوضى في الاستجابة لكارثة الزلزال شمالي سوريا.. أسباب وحلول/ عائشة صبري

أدّى الزلزال المدمّر في جنوبي تركيا وشمالي سوريا، يوم السادس من شهر شباط الجاري، إلى حالة من الفوضى والعشوائية في توزيع المساعدات للمنكوبين واستغلال بعضهم لتلك الحالة، لا سيما شروط التوزيع بأن يكون المتضرّر في الخيم الجديدة، مع غياب الحوكمة وضعف أداء الحكومة السورية المؤقتة عبر المجالس المحلية في ضبط الفوضى.

ويؤكّد شهود عيان لـ موقع تلفزيون سوريا، قدوم بعضهم من منازل أو من مخيّمات غير متضررة من الزلزال، إلى مناطق توزيع الخيم على المتضررين في ريفي إدلب وحلب، خاصة أطراف مدينة جنديرس المدمّرة نتيجة الزلزال في منطقة عفرين شمال غربي حلب، ليكونوا مع متضرّري الكارثة كسباً للمساعدات.

لؤي اليونس – أحد إعلاميي مركز جنديرس الإعلامي – قال لـ موقع تلفزيون سوريا: “لاحظنا قدوم كثير من العائلات غير المتضررة من الزلزال إلى جنديرس، وبعد التأكّد من حالة عدد منهم، فكّكت الشرطة العسكرية عدداً من الخيم للأشخاص غير المتضررين، القادمين من مناطق إدلب وعفرين واعزاز، بهدف الحصول على مساعدات إنسانية مقدّمة في الأساس إلى المتضررين”.

أزمة إيواء كبيرة.. 190 ألف نازح بسبب الزلزال شمال غربي سوريا

وأشار اليونس إلى أنّ “1050 عائلة تحتاج إلى خيم إيواء حالياً بعد تأمين 3500 عائلة في مخيمات مخدمة نسبياً، لكن إحدى نقاط الإيواء موجودة في الحي القديم قرب التل بجنديرس، فيها أكثر من 250 عائلة لا يوجد لديهم حمامات، ما يخلق كارثة كبيرة تضاف إلى الكوارث السابقة”.

من جانبه، أوضح رئيس الشرطة العسكرية في جنديرس إبراهيم الجاسم لـ موقع تلفزيون سوريا، أنَّ عملية التدقيق على الأشخاص المتضررين من الزلزال بدأت بعد حصر سكّان مراكز الإيواء التي وصل عددها إلى 52 مركزاً، إذ توجهت الفرق إلى أحد المراكز المؤلفة من 30 خيمة وضُبط أحدهم من ريف حلب الجنوبي وقد جلب أقاربه بقصد إسكانهم وأخذ المساعدات، ومؤخّراً أُزيل المخيم بتنفيذ من الشرطة وسُلّمت الخيم إلى هيئة الطوارئ والكوارث التركية (آفاد)، التي تولّت عملية الإحصاء”.

وأشار الجاسم إلى تشكيل غرفة عمليات لإدارة الكارثة في جنديرس من عدة مؤسسات هي: “المجلس المحلي، آفاد، الشرطة العسكرية، الشرطة المدنية، الجيش الوطني، الدفاع المدني (الخوذ البيضاء)”، وذلك بعد انتهاء عمليات الإنقاذ وتدفق المساعدات، حيث سعت فرق الاستجابة الطارئة إلى تخديم جنديرس بعدد من الخيم ومراكز الإيواء، مؤكداً أنَّ “العمل جارٍ في مراكز الإيواء، فلا يزال هناك كثير من المعوقات تتم متابعتها حتى الانتهاء منها”.

في ريف إدلب، قالت ياسمين عرموش -إحدى المتطوعات في مراقبة توزيع المساعدات- : “شاهدنا نسبة قليلة من الناس غير المتضررين من الزلزال ينتشرون في الطرقات وتحت أشجار الزيتون، بالقرب من مخيمات المتضررين، وذلك من أجل الحصول على المساعدات”.

هرباً من الزلزال في تركيا.. سوريون يعودون إلى منازل دمرها القصف في إدلب

وفي حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا، أرجعت عرموش السبب إلى حاجة سكّان المنطقة الذين معظمهم من الفقراء أو تحت خط الفقر، موضحةً: أنَّه “شعب منكوب منذ 12 سنة قد استهلك كل شيء، إضافة إلى قلة فرص العمل وقلة الأجور التي لا تتجاوز اليومية منها 30 ليرة تركية”.

أسباب الفوضى والعشوائية

بحسب ما قال رأفت فرزات – أحد المتطوعين في العمل الإغاثي بمنطقة عفرين – لـ موقع تلفزيون سوريا، فإنّ أسباب انتشار الفوضى في توزيع المساعدات هي:

    غياب السلطة الواحدة المنظمة للعمل في أثناء الطوارئ والكوارث، حيث كان للعمل الشعبي الدور الأول بعد الدفاع المدني الذي سارع بآلياته ورجاله إلى المناطق المنكوبة، ولكن المصاب وحجم الكارثة كان أكبر من قدرتهم وإمكاناتهم.

    سارعت الفرق التطوعية المحلية والسكّان المحليين للمساعدة في انتشال الناس من تحت الأنقاض ومساعدة الناجين بما أمكن ضمن الإمكانات المتوفرة.

    جمع السكّان في المناطق الأقل تضرّراً، التبرعات العينية والمادية لإغاثة المنكوبين من الزلزال بأسرع ما يمكن.

    غياب الدعم الدولي والإقليمي وغياب دور الأمم المتحدة بشكل كامل.

    كثرة الفرق التطوعية وغياب التنظيم.

    كثرة ضعاف النفوس من المتسلقين على مصاب المنكوبين.

ووفق “فرزات”، هذه الأسباب أدّت إلى ضياع قسم كبير من التبرعات النقدية والمادية لمن لا يستحقونها، وخاصة بعض أهالي المخيمات غير المتضرّرين في محيط جنديرس وأطمة، الذين انتقلوا إلى جنديرس أملاً بالاستفادة من المساعدات.

وأضاف: “باتوا يتهجمون على قوافل المساعدات ويستولون عليها، ما دفع الشرطة العسكرية للتدخّل في بعض الأحيان لتفرقة الناس وحماية المعونات الخاصّة بالمتضرّرين”.

المحامي محمد سليمان دحلا – المقيم في عفرين – أشار إلى أسبابٍ أخرى، إذ يرى أنَّ “سياسات المانحين في الاستجابة لمتضرّري الزلزال تشجّع عن قصد أو عن غباء على زيادة المساحات البيضاء والزرقاء (المخيمات) التي يُفترض التخلُّص منها، بسبب اشتراط توجيه الإغاثة إلى المخيمات، ما دفع بعض ضعاف النفوس لجمع عائلاتهم في مخيّمٍ جديد لاستجرار الدعم”.

ويقول المحامي لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّ “غالبية قاطني الخيام الجديدة بعد الزلزال هم إمّا من سكّان مخيمات سابقة أو من أصحاب الأضرار الطفيفة وكلّ ما يحتاج إليه منزلهم القليل من أعمال الترميم، والنسبة الأقل هي من المتضرّرين المباشرين”.

وتابع: “من الأفضل أن تستهدف مشاريع الترميم وتُقدّم المساعدات الإغاثية إلى المجتمعات المحلية عبر التجمعات والروابط واللجان الأهلية، وعدم حصرها بسكّان الخيام”، مشيراً إلى أنّ ذلك ما فعله هو كمنسّق عام لـ”رابطة مهجّري زملكا”، موضحاً أنّ “الرابطة أمّنت عبر متبرعين كمية من الإسمنت والبلوك، وطلبت من العائلات التي بيوتها متصدعة وتحتاج إلى ترميم أن تأتي لتأخذ حاجتها، لكن الاستجابة كانت بطيئة، بسبب شروط توزيع المساعدات في الخيم”.

وأوضح أنَّ عدد عائلات زملكا 423 عائلة في الشمال السوري، أكثر من نصفهم يقيمون في مناطق عفرين ومعبطلي وجنديرس، من بينهم 6 منازل هُدّمت بشكل كلّي، و71 منزلاً بشكل جزئي تحتاج إلى ترميم.

الحلول المقترحة

بحسب رأفت فرزات – أحد المتطوعين في العمل الإغاثي بمنطقة عفرين – على المجلس المحلي أن يأخذ دوره بشكل مباشر لتنظيم عمل الفرق والمنظمات، وتشكيل فريق استجابة طارئة ينظّم عملها بالتعاون مع مؤسسة الشرطة المدنية والعسكرية، لحماية المساعدات وإيصالها إلى مستحقيها، والاعتماد على قوائم المكاتب الإغاثية بالمجالس المحلية.

وفي هذا السياق، يؤكّد عضو المكتب القانوني في مجلس عفرين المحلي، المحامي محمد حاج عبدو، وجود عشوائية في توزيع المساعدات، موضحاً أنَّ سببها يعود إلى أنَّ الجهات التي تنشئ المخيمات تعتمد على المناطقية في مصدرها ومآلها ولا تمرّ عبر المجلس المحلي للمنطقة.

اقرأ أيضاً.. منزل متحرك.. عربة جرار مأوى لأطفال من الزلازل شمال غربي سوريا |صور

وقال حاج عبدو لـ موقع تلفزيون سوريا: “حتى اليوم، وقّع المجلس المحلي في عفرين، ثلاث مذكرات لثلاثة مخيمات في (البازار القديم والكراج ومدرسة السواقة)، وفي هذه المخيمات سجل لأشخاص من ذوي الاحتياج بعد التأكد ما أمكن من أحقية مستحقيها، بينما خارج هذه المخيمات لم تكن عن طريقنا، وبعضها وُضعت الخيم على أملاك خاصة، وتقدّم أصحاب الأراضي بشكوى للمكتب القانوني، بسبب إيذاء ممتلكاتهم، خاصة الأشجار”.

وأوضح أنَّ “المجلس المحلي لا يمكنه في هذه الظروف اتخاذ إجراءات منع إنشاء أي مخيم لأنه لا يملك البديل، كما أنَّه من السهل حشد الناس ضده وإظهاره بأنه (غير إنساني)”، مشيراً إلى أنَّ الاستجابة لكارثة الزلزال سمحت للمنظمات بالعمل من دون بيانات أو حتى إذن عمل، حيث تضاعفت أعداد المنظمات والجمعيات والفعاليات الخاصة التي تعمل من أجل المنكوبين.

سرقة المساعدات.. الزلزال يفاقم الظاهرة في مناطق سيطرة النظام السوري

وتابع: “نحن في المجلس وجدنا أنَّ تأمين الاحتياج أهم من ضبطه بالقرارات حالياً، وأنَّ التنظيم هو مرحلة قادمة عندما تهدأ الأمور ويعود من يسكن الشارع خوفاً من الهزات الأرضية وليس بسبب الحاجة والضرر اللاحق لبنائه”.

وبحسب “حاج عبدو” فإنّ المجلس المحلي يحاول ضبط عمل المنظمات بطريقة التنسيق وليس المنع، فإنَّ اللجان الهندسية تستطيع كشف من لم يتأذ منزله، بينما من يخاف سكن المبنى بسبب تكرار واحتمال الهزات فهذا ما تحكمه غريزة الخوف المسيطر حالياً، لافتاً إلى أنَّ العمل الهندسي تركز على حي عفرين الجديدة الأكثر تضرراً في المدينة، وبقية الأحياء لم تتأثر إلا بنسبة بسيطة، ويكون الكشف بحسب طلب صاحب العلاقة.

كثرة الطلب على الخيم

يدعو ناشطون بشكل يومي على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تلبية الحاجة في الحصول على مزيد من الخيم، لأنّ الذين يخافون المبيت في منازلهم المتصدعة من جرّاء الزلزال أو الذين تهدّمت منازلهم، جميعهم يحتاجون إلى خيمة، إضافة إلى محاولة بعضهم إقامة خيمة أمام منزله يأوي إليها عند الهزّات الأرضية التي تكرّرت كثيراً.

ملاذ الحمصي – أحد الإعلاميين في مدينة الباب – يقول لـ موقع تلفزيون سوريا، إنَّ “الحاجة للخيم كبيرة جداً، وهناك أكثر من 20 عائلة يعيشون في بيوت متصدعة أساساً بقصفٍ سابق للنظام في بلدة تادف شرقي حلب، وهي بلدة تفصل بين مواقع قوات النظام والفصائل، لذلك يصعب على المنظمات، الوصول إلى تلك العائلات المتضرّرة.

وتابع: “نحاول وفق مجهود ذاتي تأمين الخيم لهم، والتي ارتفع سعرها – استغلالاً للحاجة – أضعاف ما كانت عليه، فالخيمة 3بـ4 أمتار سعرها 120 دولاراً، و4بـ6 أمتار 170 دولاراً”، مشيراً إلى أنَّ 75% من الخيم صناعة محلية، التي تعاني أساساً من نقص المواد الأولية وأبرزها الحديد، بينما الاستيراد يكون للمنظمات التي تبني مخيمات جديدة في ساحات بعيدة.

يذكر أنّ الدفاع المدني السوري وثق في تقريره

، قبل أيام، تشريد الزلزال المدمّر، بشكل مباشر أكثر من 40 ألف عائلة في العراء أو في مخيمات إيواء مؤقتة بنيت على عجل وبظروف طارئة، يهدّدها ضعف البنية التحتية ومرافق الإصحاح وافتقار كثير منها لمقومات الحياة ووسائل التدفئة في ظل الأجواء الشتوية التي يمر بها شمال غربي سوريا.

—————————-

بدر جاموس لـ”نداء بوست”: الأمم المتحدة خذلت الشعب السوري وعليها تغيير آلية عملها

نداء بوست – حوارات سياسية – كندة الأحمد

قال رئيس هيئة التفاوض السورية الدكتور بدر جاموس في حديث خاص لموقع “نداء بوست”: إن الأمم المتحدة لم تأخذ دورها القيادي في حالة الكارثة التي حصلت في شمال غرب سورية، ولم تطلب مساعدة الدول الأعضاء بشكل عاجل، وبذلك هي لم تعرف حجم الكارثة الحقيقي لإنقاذ السوريين الذين بقوا لأيام تحت الركام الذي خلّفه الزلزال”.

وأضاف جاموس أنه في حقيقة الأمر الأمم المتحدة عبارة عن دول وليست دولة واحدة، وهنا يجب أن نحمّل المسؤولية للدول الصديقة قبل الدول غير الصديقة، وكان بإمكانهم تقديم دعم أسرع وأكبر منذ اليوم الأول للزلزال وكان بإمكانها أن يكون لها دور أكبر بتقديم المساعدة مبكراً لإنقاذ حياة الناس”.

كما أشار جاموس إلى أنه كان هناك تصرفات فردية من بعض موظفي الأمم المتحدة تُمثِّل إساءةً للشعب السوري، وذلك عندما زار وكيل الأمين العامّ للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ السيد مارتن جيريفيث دمشق والتقى بشار الأسد بذريعة أنهم غير قادرين على إدخال المساعدات للشمال السوري، وبعدها قام بزيارة باب الهوى ولم يلتقِ قادة المعارضة المتواجدين في المنطقة، يعني من الواضح أن مارتن يرى بشار الأسد ممثلاً حقيقياً لسورية في الأمم المتحدة دون أن يهتم لدماء المليون شهيد وملايين المهجرين من الشعب السوري وتتحمل الأمم المتحدة جزءاً كبيراً من المسؤولية باسم أشخاصها الموجودين”.

وبدوره أوضح جاموس أنه أرسل رسائل واضحة للأمم المتحدة والتقى المبعوث الأممي إلى سورية “غير بيدرسون” بعد عودته من دمشق، وأرسل له رسائل من السوريين خاصة عندما كان في جنديرس، رسائل كانت تُحمِّل دول العالم كله مسؤولية التقصير تجاه الناس الذين خذلتهم الأمم المتحدة مخاطباً إياه كالتالي: “نريد أن نراكم في مناطقنا كما كنتم في مناطق سيطرة نظام الأسد”.

وحول ترحيب الأمم المتحدة بموقف الأسد المزعوم من فتح المعابر قال “جاموس”: هذا النظام المجرم لا يملك شيئاً، هذا نظام مُخترَق للعظم، لا قرار للأسد في مسألة الموافقة على فتح المعابر والتي هي بالأساس تسيطر عليها المعارضة ولا تحتاج لموافقة النظام؛ لأنه لا يسيطر على شيء وفي ظل الوجود الإيراني والروسي لا قرار للأسد”.

كما نوّه جاموس إلى أنه تم التواصل مع الخارجية التركية في أول يوم من وقوع الكارثة، وكان معبر باب الهوى بحسب ما صرحت به الأمم المتحدة مغلقاً لأسباب لوجستية وبدورنا أبلغنا السلطات التركية بضرورة فتح معبرين إضافيين لتسهيل دخول المساعدات من كل المعابر وأبلغتني الخارجية التركية أننا نستطيع إدخال المساعدات من معبر باب السلامة ومعبر الراعي فى اليوم الثاني وانطلقت قافلة من مدينة “اسطنبول ” ودخلت الشمال السوري يوم الثلاثاء قبل أن يوافق بشار الأسد”.

أما بالنسبة للترحيب الذي أبدته الأمم المتحدة برئيس النظام السوري بشار الأسد فيقول جاموس: جميعنا نعلم أن الأمم المتحدة لم تحمِ السوريين على مدار 12 عاماً، وهي كعادتها تنظر من منظور النظام المؤسساتي، وهذه كارثة إنسانية لا تنتظر قراراً ليوافق عليه أحد هناك سبعة أبواب مهمة مع تركيا نستطيع إدخال المساعدات من خلالها “.

استغلال الكارثة

كما أوضح” جاموس” أن بشار الأسد استغل كارثة الزلزال بشكل واضح، وكانت هناك دول أيضاً سارعت للتطبيع مع نظام الأسد من خلال بعض اللقاءات بزعم أنها كارثة إنسانية تستدعي ذلك وبالتأكيد كانت هناك بعض الجهات حاولت استخدامها سياسياً”.

زيارة بيدرسون إلى دمشق

وعلق جاموس على زيارة “بيدرسون” قائلاً: “كانت زيارته لدمشق زيارة مجدولة قبل وقوع الزلزال وأرسل بدوره رسالة لنظام الأسد بأن الوقت غير مناسب، لكن النظام أراد الاستمرار بذلك. نعم هناك محاولات من قِبل بيدرسون كخطوة مقابل خطوة اللجنة الدستورية وتفعيل إجراءات بناء الثقة لكن حقيقة ما في الأمر أن النظام حتى لو قدمت له الأمم المتحدة كل ما يريده فلن يقبل، هو لا يريد أي شرعية من الأمم المتحدة لأنها تنقص من شرعيته”.

كما لفت بقوله: “الأمم المتحدة دائماً تمشي في الطريق الخاطئ من عام 2012 تعتقد أنه كلما قدمت تنازُلات للنظام يمكنها أن تحصل على شيء وهذا غير صحيح، بل الذي يحدث هو العكس تماماً، أما بالنسبة لاجتماع قريب للجنة الدستورية فلا يوجد حالياً، الحل يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي تدير كامل المرحلة السياسية، وإذا لم يحدث فكل المسارات ستفشل منها اللجنة الدستورية، وبيئة آمنة محايدة، وخُطوة مقابل خُطوة كل هذا حقيقةً هو عودة للطريق الخاطئ”.

وختم جاموس بقوله: عندما بدأنا ثورتنا بدأناها وَحْدَنا ولم ننتظر إذناً من أحد، وبالتالي الحل في سورية ليس حل الدول بل هو حل السوريين فقط، حتى وإنْ سارعت كل الدول للتطبيع مع نظام الأسد المجرم؛ إذ لا أحد سيعطي شرعية لهذا النظام الذي قتل الملايين من الناس وهجّر الآلاف ودمّر شعباً بالكامل”.

وهناك رسائل يجب إيصالها لكل العالم، ألَا وهي أن الشعب السوري لن يقبل بهذا النظام، يجب أن يكون هناك حلٌّ سياسيٌّ وهيئةُ حكم انتقالي وإفراجٌ عن المعتقلين وعودةٌ آمنة للسوريين بوجود نظام عادل ونظام جديد وتجري محاسبة المجرمين والقَتَلَة، ونهايةً الشعب السوري هو وحدَه مَن يقرر مصيره”.

———————————–

أطفال شمال سوريا بعد الزلزال… هل من يسأل عن صحتهم النفسية؟/ أحمد رياض جاموس

تملك أم فارس الحمودي، وهي مهجرة من ريف دمشق، وتعيش في عفرين في ريف حلب، ثلاثة أطفال أكبرهم في سن السادسة. بدأت معاناتها المريرة معهم بعد الزلزال، خاصةً أن ابنها الأكبر أصيب بجروح في وجهه جراء انزلاقه ليلاً وهم يحاولون الفرار من المنزل.

تقول الحمودي، والتي تعمل مدرّسةً في إحدى روضات الأطفال، لرصيف22: “لقد بدأت ألاحظ خوفاً كبيراً عند أطفالي من أي هزة خفيفة أو ضجيج أو عند حديثي معهم بصوت عالٍ، بالإضافة إلى سهرهم معي لأوقات متأخرة وكأنهم ينتظرون شيئاً ما، عدا فقدانهم رغبتهم في تناول الطعام”، مضيفةً أن ابنها الأكبر يطلب مراراً منها الخروج من المنزل، وعند سؤاله عن السبب يفصح بالقول: “خايف يهز، في إشارة إلى البناء الذي نقيم فيه”.

أيضاً، بدأت تلاحظ عند الأطفال في الروضة التي تعمل فيها، اختلافاً في سلوك بعضهم كالتحديق في سقف الصف، بالإضافة إلى طرح بعضهم أسئلةً، مثل: “آنسة ليش صارت تهز الأرض؟”، مشيرةً إلى أنها بدأت بالتواصل مع الأهالي والاتفاق معهم على سلسلة إجراءات لتجاوز هذه المحنة، وتهيئة بيئة آمنة من خلال ضبط تصرفات الأسرة والتعامل مع أطفالهم بطريقة تخرجهم مما هم فيه، بعد أن استشارت مختصاً نفسياً.

وترك الزلزال على الأسر السورية وخاصةً الأطفال ندوباً نفسيةً صعبةً ومأساويةً، فكثيرون منهم أُنقذوا من تحت الأنقاض بعد أن بقوا ساعات طويلةً أسفل الصخور والأتربة، ومنهم من عايش مشاهد قاسيةً بين الأشلاء وجثث أهله، ما خلّف عندهم ضغطاً نفسياً هائلاً، يضاف إلى ما تعرضوا له سابقاً من صدمات الحرب والقصف، عبر سنوات النزاع السوري.

وتحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، من أن أكثر من سبعة ملايين طفل (4.6 ملايين طفل في الجنوب التركي و2.5 ملايين طفل في شمال سوريا)، بحاجة إلى دعم إنساني عاجل، مطالبةً بتحرك عاجل لإنقاذهم قبل تفاقم الوضع نظراً لخصوصية الحالة وحساسيتها واحتمال أن تتجاوز الخطوط الحمراء خلال الأيام المقبلة، وقالت المديرة التنفيذية لليونسيف، كاثرين راسل، إن “الصور التي نراها من سوريا وتركيا تدمي القلب وإن وقوع الزلزال الأول في الصباح الباكر عندما كان العديد من الأطفال مستغرقين في النوم زاد من خطورته كما تجلب الهزات الارتدادية مخاطر مستمرةً”.

تقييم الحالات المأساوية

يقول صلاح الدين لكه، المختص في الصحة النفسية في منظمة إحياء الأمل HRO، العاملة في مجال الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي في المنطقة، إنه “لا يمكن توقع تشخيصات طبية ونفسية عن وضع الأطفال حالياً، أو معاناتهم بالضبط من دون جلسة تقييم نفسي اجتماعي كاملة تُنفّذ عن طريق مختص بالصحة النفسية، ومن المهم تجنّب إطلاق أوصاف وتشخيص اضطرابات نفسية خلال الفترة الأولى للحدث، بحسب توصيات متخصصي الصحة النفسية في الأزمات”.

من غير المعقول أن كثيرين منّا لا يزالون يطالبون بأبسط حقوقهم. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا.

ادعمونا

ويلفت إلى أنه “من المهم توقع أن الأطفال لو توفرت لهم الاحتياجات الأساسية، والأسرة الداعمة، والفرصة للتعبير واللعب، والانخراط مع أطفال آخرين، يمكن أن تتجاوز غالبيتهم هذه التجربة، ويتعافوا ويعودوا إلى حياتهم وأنشطتهم الطبيعية، ويستثنى من ذلك مؤشرات واضحةً عن تعطل القدرة على القيام بالأنشطة الاعتيادية، أو عدم القدرة على النوم بشكل متكرر، أو مشكلات في تناول الطعام، أو العزلة الشديدة، أو رفض اللعب والانخراط في الأنشطة أو التهديد أو محاولات إيذاء النفس أو الآخرين”.

وبحسب لكه، فإن آلية عملهم في فترة الكوارث تجسدت في الاستجابات العاجلة عبر انتقال جميع الفرق في منظمة إحياء الأمل في الميدان، إلى وضعية الطوارئ، وتم تحويل جميع الموظفين للعمل كفرق خارجية لتقديم الخدمات التالية:

– الإحالات والوصول إلى الجهات الطبية المتوفرة وباقي الخدمات.

– تنفيذ أنشطة دعم نفسي اجتماعي للأطفال، بهدف التخفيف عنهم، وتوفير فرصة اللعب والفرح لهم خلال هذه الظروف.

– تطوير خريطة الخدمات، وتحديث نقاط اتصال المنظمة.

– استجابة العون النفسية الأولية PFA، بالإضافة إلى الدعم النفسي الاجتماعي الفردي والجماعي.

– تقديم خدمات الاستشارات النفسية الفردية والإحالات لمقدمي الخدمات التي يحتاجها المستفيدون، بالإضافة إلى تعيين 3 خطوط للإجابة أونلاين.

– تقديم خدمات حماية الطفل وتوثيق حالات الأطفال المنفصلين عن ذويهم.

– نشر المعلومات الأساسية حول ردود فعل البالغين والأطفال على الأزمات وحول الجوانب القانونية، وحقوق المتضررين.

– تطبيق استبيانات حماية الطفل واستبيانات رصد حماية الفئات الأشد ضعفاً في المخيمات والمجتمعات المتضررة.

وخلال الأسبوع الأول من كارثة الزلزال، استطاع الكثير من المنظمات المهتمة بالصحة النفسية تخصيص أرقام هاتفية، بغرض تقديم خدمات الاستشارة النفسية عبر الهاتف، عبر متخصصين في الإرشاد النفسي، ومنها:

منظمات: هيا ورحمة وحراس ومنظمة إحياء الأمل والجمعية السورية الألمانية DSV ومنظمة عطاء والجمعية السورية للصحة النفسية “سمح” والرابطة السورية للداعمين النفسيين وأطباء العالم وبيت سلام لاستشارات الصحة النفسية.

ضغوط ما بعد الصدمة

أبو إسماعيل باسل الأحمد (29 عاماً)، مهجر من ريف حماه الشمالي، ويقيم حالياً في مخيم إطمة، بعد أن نجا بأعجوبة هو زوجته وأطفاله الثلاثة قبل لحظات من سقوط المبنى الذي كان يقيم فيه في جنديرس في ريف حلب، ينفي حصول أطفاله على أي دعم نفسي من الفرق التطوعية الجوالة، لافتاً إلى أن أطفاله الثلاثة الآن في وضع صحي ونفسي سيئ، خاصةً ابنه الأصغر الذي يعاني بعد الزلزال من التبول اللا إرادي، والخوف الشديد.

ويلفت إلى أن أطفاله “لم يكونوا يعانون من أي آثار مرضية ونفسية من خوف أو غيره، إذ كانوا ينامون قبل المغرب، أما الآن فهم ينامون في وقت متأخر”، مضيفاً أنه لاحظ تأثر حالتهم وكثرة أسئلتهم حول كيفية موت أقاربهم بعد أن غافلوه وفتحوا جهازه الموبايل ونظروا إلى الصور المأساوية لأقاربهم الذين فارقوا الحياة جراء الزلزال.

وحول الحلول التي يقدّمها الأحمد لأطفاله، أجاب بأنه يمنحهم حريةً أكبر في اللعب أمام الخيمة ومع بقية الأطفال، كما أنه يحاول أن يكون متفهماً أكثر في حال ارتكاب أحدهم خطأً ما.

ويبدو أنه من الضروري أن يكون الأهل مهيئين لفهم التغييرات التي لوحظت عند الأطفال بعد الأزمة، فالسلوكيات مثل الخوف وتجنّب الآخرين أو القتال أكثر مع الأطفال الآخرين هي ردود فعل شائعة بسبب التوتر، حسب لكه، موضحاً أنه لا بد من استشارة مختص الصحة النفسية على الفور، إذا لوحظت أعراض نفسية شديدة، أو أن الأطفال لم تنخفض تغيراتهم السلوكية أو تزداد تدريجياً بعد الكارثة.

مبادرات عاجلة

في تركيا، ودعماً للأطفال، سارعت مكتبة الشعب وهي مكتبة متنقلة، إلى دعم الأطفال المتضررين من كارثة الزلزال في ولاية قهرمان مرعش التي كانت بؤرة زلزال 6 شباط/ فبراير، وتضم المكتبة المتنقلة العديد من الكتب والمواد التعليمية وتقدّم خدمات الإنترنت والسينما والحاسوب والرفاهية من رسم ورياضيات وألعاب الذكاء.

أما في الشمال السوري، فالوضع مختلف تماماً، فإلى جانب الحرب الدائرة منذ 12 عاماً والتي خلّفت وراءها 1.2 مليون طفل يتيم، تأتي كارثة الزلزال لتعمق الجراح وتزيد مأساة الطفل السوري على الصعيد النفسي والجسدي، إذ يلفت تقرير لمنظمة “أنقذوا الأطفال” Save the children، إلى أن العائلات بعد 12 عاماً من الصراع في سوريا على حافة الهاوية وأن الأطفال يحتاجون إلى دعم عاجل للحصول على الطعام والمأوى والملابس لحمايتهم من العوامل الجوية، كما لفتت في تقارير سابقة لها إلى “ارتفاع عدد الأطفال المُصابين بالصدمات النفسية إلى درجة من الممكن أن تتسبب بضرر دائم مدى الحياة”.

وقالت المنظمة: “الأطفال، خاصةً في مناطق الشمال السوري يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة”، وأشارت إلى أنه تنتشر بينهم ظواهر فقدان القدرة على النطق والعدوانية والخوف من الأصوات المرتفعة.

أولى الخطوات

وفقاً لاختصاصين نفسيين، فإن الطفل في وقت الأزمات والكوارث قد يبدي جملةً من الأفعال التي تستوجب العناية والاهتمام كالتشبث بالأهل أكثر والاستثارة المفرطة وتغييرات في نمط الأكل، والنوم والخوف من أشياء لم تكن تخيفهم سابقاً، وإفراطهم في الحركة والخمول والانكفاء إلى سلوك أصغر من عمرهم كمص الإبهام والتبول اللا إرادي، والتوقف عن الكلام والكوابيس الليلية والحديث عن الحدث بطريقه متكررة.

وترى المعالجة النفسية المختصة بالأطفال لميس وتار، أن “تأثير الزلازل على الأطفال من الناحية النفسية تأثير مزدوج، ناتج عن الحدث الصادم (الزلزال) من جهة وعن ردة فعل المربي، أي الأب والأم، وحالتهما، عند لحظة التعرض لهذه الصدمة من جهة أخرى، فالطفل يتأثر بملامح وجهي والديه وحركات جسديهما والنبرة والبكاء والرعب”.

وتضيف: “توافر مسكن أو مكان آمن ثابت والاحتياجات الأساسية لديه من طعام ونوم ورعاية جسدية وتفهّم مشاعره وتصرفاته، تساعد الطفل على تجاوز مرحلة الخطر بأمان وتقلل من خطر إصابته باضطراب الشدة بعض الصدمة في ما بعد”.

وبحسب وتار، فإننا قد نجد الأطفال تحت سن الخامسة يعبّرون عن مشاعر الخوف والحزن والفقد من خلال الغضب أو البكاء أو العدوانية على الأشخاص أو الأشياء، فالطفل في هذه المرحلة العمرية لم يتعرف على مشاعر الفقد بشكل كبير، فهي مشاعر مبهمة جديدة بالنسبة له، لذلك يعبّر عنها بالطرائق التي يعرفها مثل البكاء والعدوانية، كما أن الأطفال فوق سن السابعة قد تظهر ردود أفعالهم عبر إعادة الحدث الصادم عن طريق الألعاب، وهذا صحي وجيد، ويُفضّل في هذه الحالة اللعب معهم وترتيب الأحداث لهم، فترتيب الأحداث في مكان آمن يساعد الطفل على تجاوز هذه المرحلة بأمان.

احتياجات الأطفال

تلخص وتار، احتياجات الأطفال بعد الزلزال، بثلاثة نقاط وهي صالحة للمراهقين أيضاً:

أولاً: تأمين الأمور المادية الفيزيائية، كالسكن والمشرب والطعام وإعادة روتين حياتهم اليومي السابق، كتنظيم النوم ومواعيد الأكل واستعمال الأجهزة أو التعليم والتدريس، فترتيب روتين الحياة يعاكس الأثر المرضي للصدمة التي بعثرت روتين الحياة، كما أن الأنشطة الحركية الرياضية والمسابقات والأنشطة الإبداعية الفنية من رسم وكتابة وطبخ واللعب بالطين والمعجون أشياء تساعد الطفل كثيراً على التكيف والتعافي وإخراج ما في داخله من حالات الخوف والقلق.

ثانياً: توفير شعور الأمان أهم ما يحتاجه للتكيف والتعافي المبكر ويكون من خلال الحضن والعطف والتلامس الجسدي والبقاء إلى جانب الطفل أو المراهق، وفي حال كان الطفل فاقداً الرعاية الوالدية (الأب والأم توفيا)، فيجب التفكير مباشرة في تأمين المسكن الثابت له والجهة الثابتة الراعية البديلة عن الأب والأم، ويُفضّل أن يتولى شخص واحد محدد مسؤولية العناية به بشكل دائم، فهذا الشخص الثابت سيجعل الطفل يشعر بالثبات والأمان.

ثالثاً: التفاعل مع الطفل وشرح ما جرى بإجابات موضوعية حقيقية، والحديث بصراحة عن مشاعرنا، بالإضافة إلى الاستماع لمشاعره بغرض إتاحة المجال له للتعبير عن رأيه أو مشاعره تجاه الزلزال، والتحدث معه ومشاركته في الخطط القادمة للأسرة والإمكانيات المستقبلية المتاحة.

وتنبّه وتار في ختام حديثها، إلى أنه يجب إعلام الطفل بوفاة والديه بهدوء وموضوعية بعيداً عن المبالغة العاطفية، ويُفضّل أن يتم ذلك من قبل الشخص الثابت الذي تحدثنا عنه سابقاً، كما يُفضّل أن يرى الطفل بعد سن السابعة والديه المتوفيين ليتسنى له وداعهما، وتجنّب رؤيتهما في حال كانا مشوّهين، أما في عمر ما قبل السابعة، فيُفضّل إخباره من خلال توفير القصة التي تقرّب إلى ذهنه عملية الفقد التي حصلت ومفهوم الموت بأنه عملية انتقال من حياة إلى حياة أفضل، والتأكيد على أن المتوفى لن يعود، لكننا سنتذكره دائماً.

رصيف 22

————————–

===================

تحديث 20 شباط 2023

————————

من ينتشل الشمال السوري من تحت الأنقاض/ جنى العيسى | حسن إبراهيم | حسام المحمود

راكم الزلزال المدمر، إلى جانب أنقاض المنازل التي تركت أهلها دون مأوى، الاحتياجات الإنسانية في مناطق شمال غربي سوريا، التي لم تكن بأفضل حالاتها ما قبل الكارثة، جراء تراجع الدعم والتمويل الدولي للمنظمات الإنسانية والطبية العاملة على الأرض تحت ذرائع مختلفة.

فرض الظرف الطارئ تجاوبًا سريعًا مع احتياجات إضافية على المستويين الطبي والإغاثي، لم يكن التعامل معها يسيرًا، رغم فتح باب التبرعات الأهلية التي استجاب لها السوريون، وسط مماطلة أممية بتقديم المطلوب لإنقاذ الموقف في المنطقة المتضررة، وتحديدًا معدات وآليات لرفع الأنقاض وإنقاذ العالقين تحت الركام.

احتياجات الإنقاذ والمأوى والمأكل والطبابة اجتمعت في وقت ضيق بما يتطلب استجابة إنسانية استثنائية، تختلف عن تلك التي تقدّمها المنظمات في الأوضاع الطبيعية، عبر فتح باب التبرعات التي أدارت عجلة الاستجابة ضمن حدود.

وبعد تدرّج مستوى الكارثة، والانتقال من بحث متواصل ومضنٍ لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، إلى البحث وانتشال الجثث على يد “الدفاع المدني السوري” ومدنيين، دونما كفاية معدات وآليات، تكشّفت الأزمة الإنسانية بوضوح أمام فقدان العائلات منازلها بكامل ما تحتويه، إلى جانب انتقال القطاع الطبي من الإسعافات الأولية إلى التعامل الجراحي مع الحالات التي خلقها الزلزال.

وأمام كل تلك التحديات وغياب الفعالية الحكومية، تولت المنظمات إدارة المرحلة الإسعافية الانتقالية بين كارثة الزلزال واستيعابها، بالاعتماد على ما جمعته أو ما ستجمعه لاحقًا من تبرعات بهدف إعادة إعمار ما دمره الزلزال.

تسلّط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على طبيعة الاستجابة الأولية لكارثة الزلزال المدمر في مناطق شمالي غربي سوريا، حيث تتعدد السلطات والمنظمات الإغاثية والإنسانية، كما توضح عبر متخصصين حجم الاحتياجات خلال الفترة القليلة المقبلة، وطبيعة الاحتياجات للمرحلة “ما بعد الحادة”، وسبل تأمينها، بهدف تعويض المتضررين من الزلزال جزءًا من خسارتهم.

إنقاذ الأرواح..

إمكانيات محدودة أمام “كارثة القرن”

بعد ساعات من الزلزال الذي كان مركزه ولاية كهرمان مرعش التركية بشدة 7.7 درجة على مقياس “ريختر”، في 6 من شباط الحالي، ملحقًا الضرر بأربع محافظات سورية، تبعه زلزال آخر في الولاية ذاتها، بشدة 7.6 درجة، في ظهيرة اليوم نفسه، أعلن كل من فريق “الدفاع المدني السوري” و”الحكومة المؤقتة” وحكومة “الإنقاذ” الشمال السوري منطقة “منكوبة”.

كانت الفرق التطوعية والأهالي والجهات المحلية شمال غربي سوريا تسابق الزمن لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، بعد الزلزال الذي أسفر عن 2274 حالة وفاة و12400 مصاب بالمنطقة، في حصيلة غير نهائية.

“الدفاع المدني السوري” وفرق تطوعية ومنظمات ومجالس محلية وفصائل عسكرية وحكومتان شمال غربي سوريا، استجابت بمتطوعيها وعناصرها وآلياتها لأكثر من 550 مبنى مدمرًا بشكل كامل، وأكثر من 1570 مبنى مدمرًا بشكل جزئي، في أكثر من 60 مدينة وبلدة وقرية، وسط ضعف الإمكانيات وتأخر وصول المساعدات من معدّات وآليات بذريعة وجود عوائق لوجستية.

“الخوذ البيضاء” تواجه الكارثة

مرت الساعات الأولى من الزلزال مسرعة على متطوعي “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، الذين وصلوا الليل بالنهار لإنقاذ الضحايا، في حين كانت الساعات بطيئة جدًا على حيوات تحت الأنقاض كانت تبحث عن حياة فوقها.

نائب مدير فريق “الدفاع المدني السوري”، منير مصطفى، أوضح لعنب بلدي أن الاستجابة بدأت مع اللحظات الأولى لحدوث الزلزال، مع إعلان مباشر لحالة الطوارئ والعمل بالطاقة القصوى، وبلغ عدد المتطوعين الذين بدؤوا العمل بشكل مباشر في عمليات البحث والإنقاذ 2900 متطوع ومتطوعة من جميع الاختصاصات، الإنقاذ المائي والإطفاء والإسعاف وغيرها، وبجميع الآليات والمعدات الثقيلة المتوفرة.

ويبلغ عدد متطوعي “الدفاع المدني” 3300، وضعت إدارة المنظمة 2900 منهم في استجابة مباشرة بعمليات البحث والإنقاذ، وبقية المتطوعين بين عمل إعلامي وإداري ولوجستي وتأمين إمداد للفرق التي تعمل، وفق مصطفى، مضيفًا أن الفرق لم تعمل بشكل تناوبي (أو ورديات)، إذ رفض قسم كبير منهم مغادرة أماكن عملهم في أول 48 ساعة.

وقال مصطفى، إن الفرق توزعت وفقًا للأولويات ونوع الإدارة، فقائد الفريق هو من يحدد الأولوية للعمل ويوزع الفرق إلى المنطقة التي تعاني نقصًا وفيها دمار كبير، ويوجه الكوادر من أجل مؤازرة المناطق الأكثر تضررًا، وكانت هناك عملية إشراف مباشرة على توزيع الفرق.

وحدد مصطفى نوعين من العقبات التي واجهها متطوعو “الدفاع المدني”، طبيعية وتقنية، الأولى متعلقة بالمساحة الواسعة المدمرة جرّاء الزلزال، إذ امتدت النقاط التي تعرّضت لأضرار من مدينة جرابلس بريف حلب الشمالي الشرقي إلى ريف إدلب الغربي والجنوبي، بشريط يمتد لنحو 200 كيلومتر، وضم أكثر من 60 قرية وبلدة ومدينة مدمرة.

ومن العقبات الطبيعية، الهزات الارتدادية التي شكّلت خطرًا على حياة المتطوعين من إصابات وجروح رغم أنهم مدربون، وكذلك العوامل الجوية كالمطر والبرد، التي كان لها أثر سلبي، وزادت احتمالية انهيار المباني.

وتمثلت العقبات التقنية بنقص المعدات والآليات التي لا تكفي للاستجابة لهذا الكم الهائل من الدمار، وكذلك عدم قدرة هذه المعدات على التعامل مع الكارثة، وشكّل غياب المجسّات والكاميرات الحرارية عائقًا كبيرًا أمام الإسراع في عمليات الإنقاذ.

بعد 108 ساعات على الزلزال، أعلن “الدفاع المدني” أن عملياته في سوريا بدأت تأخذ مسار البحث والانتشال، بعدما صارت فرص العالقين تحت الأنقاض بالبقاء على قيد الحياة نادرة جدًا، دون وصول أي مساعدات من معدات وآليات لإنقاذ العالقين.

وحمّل مدير “الدفاع المدني”، رائد الصالح، الأمم المتحدة مسؤولية تأخر وصول المساعدات، مؤكدًا أن نقص المعدات الفعالة كان سببًا كبيرًا في العجز عن إنقاذ الكثيرين، وذلك خلال مؤتمر صحفي أجراه، في 10 من شباط الحالي، بعد مناشدات كثيرة لتأمين المعدات الثقيلة والمحروقات اللازمة لتشغيلها.

فرق تطوعية.. حلول “مؤقتة”

منذ اليوم الأول للزلزال، خلق بقاء عشرات آلاف الناس في العراء الحاجة لتحرك سريع لتأمين مراكز إيواء مؤقتة تحميهم من انخفاض درجات الحرارة، ومن تصدع بيوت يُحتمل وقوعها جراء أكثر من أربعة آلاف هزة ارتدادية حدثت منذ 6 من شباط الحالي.

وفي منطقة لم تعتد سابقًا على الكوارث الطبيعية بهذا الحجم، لم تكن سلطات الأمر الواقع أو المنظمات المعنية العاملة في المنطقة، تمتلك الخبرة أو الإمكانيات المادية واللوجستية الكافية للتعامل السريع مع تداعيات الزلزال، التي تسارعت بشكل كبير يفوق قدرة الاستيعاب في الساعات الأولى منه.

استجابت عشرات الفرق التطوعية والمنظمات والجمعيات لكارثة الزلزال، وساعدت على حسب وظيفتها الإغاثية أو الطبية أو الإنسانية وغيرها، رغم تأثر كوادرها أيضًا سواء في تركيا أو سوريا بالكارثة.

وعملت العديد من المنظمات خلال الساعات الأولى على تأمين المأوى للمتضررين، عبر نقلهم إما إلى قرى سكنية سبق أن أنشأتها، وإما إلى مخيمات مؤقتة.

مدير البرامج في جمعية “عطاء للإغاثة الإنسانية” العاملة في تركيا والشمال السوري، صهيب طليمات، قال لعنب بلدي، إن جهود الجمعية كمعظم المنظمات الإغاثية خلال الأسبوع الأول لكارثة الزلزال انصبت على عدة أقسام، وكانت الاستجابة الأولى هي دعم “الدفاع المدني” بإنقاذ الضحايا العالقين، بينما كانت الاستجابة بعدها متعددة القطاعات عبر تأمين مراكز إيواء، وتزويد المتضررين بمواد غير غذائية لها علاقة بالمأوى والتدفئة، من مدافئ وألبسة وفحم وبطانيات، وتوزيع وجبات جاهزة، ولاحقًا توزيع السلال الغذائية.

ولفت طليمات إلى أن تنفيذ البرامج والمشاريع القائمة التي تعتمد على التوزيع ركّزت جهودها على المتضررين من الزلزال كـأماكن ومواد، في حين توقفت بشكل مؤقت البرامج والمشاريع التي لها علاقة بالجانب التنموي وليس الإغاثي أو الاستجابة، لأجل إنشاء مراكز استقبال متضررين وتجهيزها، وبعد إنشاء المراكز عادت البرامج للعمل وفق المخطط له.

وأوضح طليمات أن التنسيق بين المنظمات العاملة خلال ساعات الاستجابة الأولى لم يكن غائبًا بالكامل، إنما اقتصر على المستوى الميداني فقط عبر المشاريع الميدانية ومديري المكاتب الميدانيين، وذلك بهدف تنسيق الجهود لتفادي حرمان مناطق معيّنة من الخدمات، على حساب تكرارها في مناطق أخرى.

مدير قسم حملات الاستجابة في فريق “ملهم التطوعي” العامل في الشمال السوري وتركيا، فيصل الأسود، قال لعنب بلدي، إن استجابة الفريق شملت جميع القطاعات التي يعمل بها، الطبية والإغاثية والمواصلات والإخلاء، إذ أعلن حالة الطوارئ بجميع مناطق انتشاره في سوريا وتركيا.

وأضاف الأسود أن فريق “ملهم” أوقف العمل بجميع الأقسام وجميع المشاريع للاستجابة بشكل كامل للكارثة في سوريا وتركيا.

الناطق الإعلامي باسم منظمة “إنسان الخيرية” العاملة في مناطق ريف حلب، عبد الحميد العبد الله، قال لعنب بلدي، إن المنظمة عملت على تجهيز مراكز إيواء مؤقتة للمتضررين من الزلزال في بلدة جنديرس التي كانت أكثر المناطق تضررًا في الشمال.

وأوضح العبد الله أن استجابة المنظمة مؤقتة في الوقت الحالي، وطالما أن الاحتياجات موجودة ستبقى الفرق التابعة لها تستجيب لها بقدر الإمكانيات، إذ تعمل على تقديم الإسعافات الأولية للجرحى والمصابين، وتستقبل المرضى في عيادات متنقلة، كما توزع بعض السلال الغذائية والوجبات اليومية.

السلطات حاضرة

منذ الساعات الأولى للزلزال، تحركت أيضًا السلطات في المنطقة، وفق إمكانياتها، وكمرحلة أولى قدمت المساعدة في دعم “الدفاع المدني” بمحروقات وآليات من جهة، وأمّنت وصول المصابين إلى المستشفيات بأسرع وقت ممكن، عقب انتشالهم من تحت الأنقاض، وتأمين مراكز إيواء مؤقتة لهم.

حكومة “الإنقاذ”، التي تسيطر على محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب، استجابت خلال الأيام الأولى للكارثة عبر 20 ألف عامل في مؤسساتها المدنية والأمنية والعسكرية، لتقديم المساعدة في إنقاذ العالقين وتأمين مراكز إيواء مؤقتة بلغ عددها نحو 40 مركزًا.

بينما تركّز عملها خلال المرحلة الثانية على تسهيل دعم ودخول وحماية الفرق الطبية والإغاثية من معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وإخلاء المباني المتصدعة وترحيل الأنقاض، وتقييم الأبنية المتضررة، وتأمين الإيواء، ومحاربة الاحتكار، وصرف مساعدات نقدية وإغاثية بقيمة تتجاوز 20 مليون ليرة تركية مبدئيًا لجميع العائلات المتضررة، وفق ما أعلن عنه القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام” صاحبة النفوذ العسكري في المنطقة، “أبو محمد الجولاني”.

مدير العلاقات العامة في حكومة “الإنقاذ”، جمال الشحود، قال لعنب بلدي، إن وزارة الداخلية في “الإنقاذ” استنفرت ما يزيد على 2600 من الوحدات الشرطية والمهام الخاصة وجميع الآليات التابعة لوزارة الداخلية من رافعات وسيارات لنقل الجرحى والمصابين وسيارات شرطة المرور، منذ الساعات الأولى للزلزال، وعملت على تأمين الحماية ومنع وقوع السرقات وحماية ممتلكات المتضررين، وتسلّم جميع الأمانات التي أُخرجت من الأبنية المهدمة وتوثيقها وحفظها لتسليمها لأصحابها ولذوي الضحايا.

وفي ريف حلب حيث تسيطر “الحكومة السورية المؤقتة”، طلبت وزارة الدفاع من جميع الوحدات والتشكيلات العسكرية في “الجيش الوطني السوري” تقديم المساعدة لعناصر “الدفاع المدني” والآليات المطلوبة لإنقاذ وإسعاف المصابين، وتوجيه الحواجز بتأمين مرور عربات الإسعاف بشكل سريع، إلى جانب تأمين المجالس المحلية التابعة لـ”الحكومة المؤقتة” مراكز إيواء للأهالي.

الناطق الرسمي باسم “الجيش الوطني” الجناح العسكري لـ”المؤقتة”، العميد أيمن شرارة، أوضح لعنب بلدي أن الآليات والعناصر في “الوطني” مستمرة بعملها إلى جانب الأهالي والمنظمات بعد مرور أكثر من عشرة أيام على الزلزال، وجرى تشكيل “خلية أزمة” لحماية المناطق المنكوبة لتقديم ما يلزم للأهالي المتضررين وتسهيل عمل المنظمات الإنسانية وحمايتها.

ولم تقتصر الاستجابة لكارثة الزلزال على الجهات المحلية والعسكرية والمنظمات، إذ استجاب الأهالي للكارثة كل حسب قدرته من تبرعات ودعم وآليات وإطعام وجهد جسدي، ووصلت شاحنات وسيارات محمّلة بالمساعدات من أهالٍ وناشطين وعشائر استجابة للمتضررين.

    لا هيئة كوارث تدير الاستجابة

    توجد في أي دولة هيئة تسمى “هيئة الكوارث الطبيعية”، وهو ما لا تمتلكه المنطقة في شمال غربي سوريا، حيث تغيب أيضًا المرجعية والخبرة والأدوات والمخازن والأجهزة وإدارة المخاطر المجهزة لكارثة طبيعية كهذه، بحسب المختص بإدارة منظمات المجتمع المدني الدكتور باسم حتاحت.

    وفي ظل غياب كل ذلك، وحدوث الزلزال بشكل مفاجئ، الأصل أن ينشأ تعاون مع جهتين أساسيتين، أولاهما السلطات التركية التي تشرف على الوضع في الشمال السوري، والهيئات الأممية التي تعمل على تقديم المساعدات.

    إلا أن غياب “هيئة الكوارث الطبيعية” يمنع الهيئات الأممية والجهات الدولية ضمن القرارات الأممية من المساعدة، بما في ذلك إيصال الآليات الثقيلة، بحسب حتاحت.

    وأجبر ذلك “الدفاع المدني السوري” على استئجار آليات بالإضافة إلى آلياته، لم تكن قادرة على الاستجابة لكارثة من هذا النوع، كون الزلزال كان في مجموعة مناطق مساحتها أكثر من 100 كيلومتر مربع، بما يعني أنه لو وجدت الآليات مسبقًا، فإن توزيعها على كارثة بهذه المساحة سيبقى بطيئًا وناقصًا.

    في الكوارث الطبيعية المشابهة، يجب توفر خمسة أنواع من التجهيزات في المنطقة بهدف الاستجابة المبكرة وضمان الحدّ من ارتفاع عدد الضحايا وهي:

    1- آليات ثقيلة.

    2- آليات هندسية إلكترونية تحدد إحداثيات سقوط الأبنية.

    3- آليات أقل ثقلًا من آليات الحفر، بهدف إزالة وتفريغ الحجارة الكبيرة.

    4- أجهزة حرارية، تعمل عبر حساسات خاصة على استشعار التنفس أو جسم الأشخاص العالقين، بالإضافة إلى أجهزة تنصت يمكن سماع الأصوات مكبرة عبرها بعمق 30 مترًا.

    5- الكلاب المدربة، التي تعد أسرع بكثير من أي جهاز إلكتروني.

    وفي إدارة الكوارث يقسم العمل إلى أربعة أقسام، بحسب الدكتور باسم حتاحت، أولًا البحث، وثانيًا الإيواء الذي يتمثل بإيجاد أماكن بديلة للمتضررين في الكارثة، وهي الحالة التي لا تزال غير موجودة في الشمال، رغم وجود عشرات المنظمات العاملة في قطاعات الإيواء، والتي من المفترض أن تضم قسم إدارة مخاطر يضمن إقامة عشرات المخيمات خلال ساعات.

    بينما يجب في القسم الثالث ضمن منهجية العمل في أثناء الكوارث، العمل على مستشفيات ميدانية لاستيعاب أعداد الإصابات الكبيرة، ورابعًا وجود مركز للإحصاء والتوثيق، هدفه الإحصاء المباشر للضحايا والأضرار المادية، ومعالجة المشكلات الآنية الناجمة عن الكارثة والحد من تفاقمها، وإحصاء الاحتياجات بأنواعها (إغاثة، خبراء، آليات) بشكل مركزي للتفاعل مع المنظمات الأممية والدولية.

طبيًا..

العمل حتى النفس الأخير

في القطاع الطبي، لم يكن الوضع بأفضل حال، ولطالما عانى القطاع خلال السنوات الماضية نقصًا كبيرًا في مستهلكاته وكوادره، جراء أسباب عديدة، أبرزها عدم كفاية الدعم المقدّم له، وسبق أن سجّل مع انتشار الأمراض والأوبئة في المنطقة ضعفًا أكبر في إمكانياته.

وأجبر تعرض بعض الكوادر الطبية لآثار مباشرة جراء الكارثة، إما بوفاتهم مع عائلتهم وإما ببقائهم تحت أنقاض منازلهم، زملاءهم من الكادر على العمل لساعات متواصلة خلال الأيام الأولى، وسط وصول أعداد الإصابات لأضعاف قدرة المراكز والمستشفيات على الاستيعاب.

كما فقدت معظم المستشفيات احتياطياتها من الديزل والمستهلكات الطبية، إذ امتلأت جميعها بالمرضى خلال الأيام الأولى، ووُضع عدد منهم في ممرات المستشفيات، ما جعل بعض المراكز الطبية تستخدم موارد كانت مدرَجة لاستهلاكها خلال ستة أشهر، في يوم واحد فقط.

واجه القطاع أيضًا عدة عوائق لوجستية، تمثلت أولًا بغياب الكهرباء التي كانت تصل إلى المنطقة بطبيعة الحال من تركيا، ما اضطر المستشفيات والمراكز الصحية للعودة إلى الاعتماد على الديزل لتشغيل المولدات، الأمر الذي لم تُتخذ احتياطات مسبقة له.

واقع غير مبشّر

تتضمن الإصابات جراء الزلزال حالات تستدعي تدخلًا جراحيًا، بعد انتهاء المراكز الطبية من مرحلة الإسعاف، لكن هذه الخطوة رهينة بمعطيات غير واضحة، وفق ما قاله مدير مستشفى إدلب المركزي، الدكتور عادل الدغيم.

وركّز الدغيم، في حديث إلى عنب بلدي، على عدم وجود تصور كامل حول عدد العمليات الجراحية المنتظرة في فترة ما بعد الكارثة، مبررًا ذلك بعدم إمكانية التنبؤ بتطور الإصابات الحاصلة جراء الزلزال، من كسور ورضوض متعددة.

كما أن المصابين لا يزالون في مرحلة الخطر، وقد تتطور لديهم حالات تستدعي بتر أطراف مثلًا، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون حاليًا “متلازمة الهرس” أو القصور الكلوي، ويخضعون لغسل الكلى بشكل مستمر.

و”الهرس” حالة مرضية يحدثها التعرض لصدمة جسدية جراء الضغط المطول على أي جزء من الجسم، وقد تحدث بسبب تأثير مباشر للصدمة أو نقص التروية المرتبط بالضغط، ويمكن أن تسبب فشلًا كلويًا.

وفي السياق نفسه، أوضح الدغيم أن الحلول لأزمات القطاع تتطلب ترميم الكوادر الطبية، وتأمين المستلزمات والأجهزة الطبية في المنطقة المنكوبة.

بينما تتمثل الاحتياجات، في المرحلة “ما بعد الحادة” من حدوث الزلزال، بتأمين المستلزمات الطبية الكافية بأنواعها، بالإضافة إلى المواد الأولية اللازمة لعمليات غسل الكلى، الأمر الذي يتطلب الدعم من قبل منظمات وجهات دولية، بسبب صعوبة تأمينها محليًا من جهة، وصعوبة إدخالها إلى المنطقة عبر تركيا من جهة أخرى.

بعد الصدمة..

الحاجة إلى الإدارة والتنسيق

بعد انتهائه من مرحلة الاستجابة الطارئة للزلزال، التي تجلّت بانتشال العالقين تحت الركام في عمل متواصل على مدار الساعة لإنقاذ الأحياء، انتقل “الدفاع المدني السوري” إلى مستوى آخر من الاستجابة للتعامل مع آثار الزلزال، وهي آثار طويلة الأمد.

نائب مدير “الدفاع المدني السوري”، منير مصطفى، أوضح أن هذه المرحلة من الاستجابة تبدأ بفتح الطرقات ورفع الأنقاض من الطرقات الرئيسة والفرعية، ما يشكّل تحديًا كبيرًا، جراء وجود كميات كبيرة جدًا من الركام والأنقاض.

إلى جانب ذلك، يتجه الفريق خلال الفترة الراهنة لإعادة تقييم الأبنية وتحديد ما هو صالح للسكن منها، بالتعاون مع مهندسين ومختصين، وتحديد آلية التعامل مع البناء، عبر الهدم الكلي أو إزالة أجزاء منه، وفق منير مصطفى.

بينما تتركز جهود المنظمات الإغاثية خلال الفترة الحالية والمقبلة على إيجاد أماكن دائمة لمتضرري الزلزال الذين تهدمت منازلهم أو تصدعت ولم تعد مناسبة للسكن.

وبحسب حديث عنب بلدي مع عدد من مسؤولي هذه المنظمات، فُتح باب التبرعات في هذا الخصوص، كما بدأ التنسيق مع مختصين هندسيين لبدء مرحلة التخطيط لأماكن القرى السكنية الجديدة، وتصميمها داخليًا وفق الاحتياجات.

وحتى نهاية الأسبوع الثاني، بعد حدوث الزلزال، جمع فريق “ملهم التطوعي” (وهو من الفرق السورية القليلة التي تعلن حجم التبرعات التي تصلها) ضمن حملة “قادرون” التي أطلقها بهدف إعادة إعمار ما دمره الزلزال، أكثر من 11 مليون دولار أمريكي، المبلغ الذي يكفي تقريبًا لبناء 2247 منزلًا من أصل أربعة آلاف، على اعتبار أن تكلفة تأمين المنزل الواحد تصل إلى نحو خمسة آلاف دولار.

ضعف العدالة يخلّفه غياب التنسيق

مع إعلان العديد من المنظمات عن نيتها بناء منازل دائمة، وغياب دور السلطات في توحيد جهودها للوصول إلى نتائج أفضل بسرعة تضمن احتواء آثار الكارثة في أقرب وقت، لم تصل هذه المنظمات بعد إلى تنسيق بين بعضها حول برامجها وخططها في بناء المنازل وتحديد المستفيدين خلال الفترة المقبلة.

نائب مدير “الدفاع المدني”، منير مصطفى، قال لعنب بلدي، إن تعدد الجهات الفاعلة ما دون المحلية، يعد من أبرز معوقات العمل خلال الفترة المقبلة، ما يؤدي إلى غياب جهة حوكمية واحدة تخطط وتنفذ، وهذا يتطلب التعامل وفق خطة تكتيكية أكثر من استراتيجية.

ولفت مصطفى إلى وجود نية تتعلق بتوحيد الجهود أو التوصل لغرفة عمليات مشتركة، في سبيل توزيع المهام وتتابعها، وعدم حدوث تضارب عمل في مكان واحد.

الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن التنسيق والتعاون بين المنظمات من شأنه تحقيق فاعلية مرتفعة في العمل الإغاثي، كما يضمن تحقيق العدالة في الدعم، مشيرًا إلى أن ضعف التنسيق بين المنظمات الإغاثية العاملة في مجال إغاثة المنكوبين ليس بجديد في الشمال السوري، فخلال سنوات الحرب، عانى العمل الإغاثي والإنساني تراجعًا في مستوى التنسيق، وانعكس هذا في العمل الإغاثي بعد الزلزال.

ويرى السيد عمر أن ضعف مستوى التنسيق بين المنظمات الإغاثية والإنسانية العاملة في المناطق المنكوبة، يعود لعدة أسباب، منها أن هذه المنظمات تحصل على تمويلها من جهات مختلفة، فالمنظمات مضطرة لمراعاة شروط المانحين التي قد تكون مختلفة ومتباينة.

كما يؤدي عدم وجود قواعد بيانات محدثة إلى تراجع مستوى التنسيق، بالإضافة إلى تعدد الجهات السياسية المحلية المشرفة على العمل الإغاثي، وقد يؤدي إلى عدم عدالة في الدعم، فقد تحصل مناطق جغرافية محددة مثلًا على دعم من عدة منظمات، بينما تُحرم مناطق أخرى.

وفيما يتعلق بمنطقة الشمال السوري، فإن تحقيق الأهداف المرجوة من العمل الإغاثي يتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين المنظمات، ولتحقيق هذا، لا بد من وجود هيئة إغاثية عليا في المنطقة، تعمل تحت لوائها مختلف المنظمات الإغاثية، وتأتمر بأمرها، فهي الموجه الرئيس للعمل.

وعلى هذه الهيئة إعداد قاعدة بيانات ديموغرافية ذات نطاق جغرافي، بحيث يتم تحديد الفئات الأشد حاجة، وتسجيل الفئات التي تم تقديم الدعم لها، وفي ذات الوقت لا بد من ضمان عدم تدخل السلطات السياسية المحلية بالعمل الإغاثي، فحدود تدخلها لا يجب أن تتعدى تقديم الدعم اللوجستي للمنظمات، بحسب السيد عمر.

المختص بإدارة منظمات المجتمع المدني باسم حتاحت، انتقد في حديث إلى عنب بلدي غياب التنسيق بين المنظمات في ظل وجود مثل هذه الكارثة والاحتياجات الكبيرة المرافقة لها، وعدم وجود هيئة إغاثية عليا فاعلة بهذا الدور، بجانب “الدفاع المدني”.

ويؤدي التنسيق بين المنظمات أو وجود هيئة إغاثية عليا إلى توزيع التبرعات وفق أهم الاحتياجات، مثل تأمين آليات ومعدات تساعد في الإنقاذ بالمرحلة الأولى، أو تأمين أماكن لإيواء المتضررين، وتشكيل لجان تكشف عن الأضرار.

وأشار حتاحت، على سبيل المثال، إلى خطورة وضع السدود المتأثرة بالزلزال التي يمكن أن يسبب تهدمها كوارث أخرى.

وأبرز حتاحت أهمية الوصول إلى اتفاق مع الهيئات الأممية للدخول إلى الشمال السوري، موضحًا أن آلية دخول المساعدات للمنطقة هي آلية أممية دورية معتمدة، وبالتالي في حال الوصول إلى اتفاق مع هذه الهيئات يقضي بسماح دخول منظمات المجتمع المدني، يمكن حينها للأخيرة تلقي دعم أممي ضروري يصعب على المنظمات المحلية جمعه.

عنب بلدي

—————————-

سورية بين زلزالي الطبيعة والسياسة/ سميرة المسالمة

يصعب على أي كاتب سوري ألّا ينزلق إلى حفرة العاطفة، بعد الزلزال الكارثة الذي أصاب تركيا وسورية في 6 فبراير/ شباط الحالي، لأنه يكتب عن ضحايا الزلزال، وهو أحدهم، وعن المصابين، وهو الجريح، وعن الناجين، وهو المكلوم، لا مسافة تفصل بين الناس، قربهم وبعدهم عن هول المصاب، فقد كان هو النقطة الصفر الجامعة. صحيحٌ أنّ هذا الدمار ليس جديداً عليهم، فقد خبروه مراراً وتكراراً، هربوا منه فلحق بهم، ولا يزال ملتصقاً بتفاصيلهم وأخبارهم. لقد وحّدت الكارثة آلام السوريين، لكنها لم تستطع رأب صدع جغرافيتها الممزّقة، انتصبت حدودها في وجه تدفّق المساعدات للمنكوبين، معلنة هزيمة الإنسانية أمام قبح السياسة، فكانت سبباً متجدداً لتفاقم عذابات الناس وموتهم.

وقعت الكارثة ولم تنتهِ مفاعيلها، هي أيضاً على تلك البقعة التي كانت، إلى حين قريب، محطّة انتظار لحربٍ تركية خاطفة، أو عملية عسكرية خاصة، وتتنازع على ملكيّتها دولٌ وكيانات، لكنها اليوم صارت هذه الأرض السورية ذاتها بلا مأوى تستند إليه، فلا راعي لها، ولا مدافع عن حقّ أهلها بالحياة، انتزع عنها النظام السوري سوريتها، ولم يعترف بمأساتها، ورمى الطامعون بها عن كاهلهم عناء إغاثتها، وشكّلت بمأساتها سورية جديدة، تضاف إلى عديد “سوريات” قائمة بحكم الأمر الواقع، سورية النظام، وأخرى لفصائل محسوبة على تركيا، وثالثة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تحت الحماية الأميركية، ورابعة هي إمارة الجولاني (جبهة النصرة)، والجديدة هي سورية الزلزال الغارقة تحت ركامها بشعبها وعدّتها وعتادها.

تعيد هذه الكارثة التي استهدفت مناطق متفرّقة من الأرض السورية (تحت حكم النظام وخارج سيطرته) تموضع السياسة الدولية، وأدوار الفاعلين في ملف القضية السورية، وترتب (أو تنشر الفوضى) من جديد في مواقع الدول في صداقاتها وتحالفاتها أو مساوماتها مع النظام السوري، ممثلاً برأسه بشار الأسد مباشرة، أو عبر طريق غير مباشر مع ما تسمّى مؤسساته. وبعض هذه الأدوار مبنيّ على أسس إنسانية بحتة، مهمتها إنقاذ العالقين بين زلزالي الطبيعة والسياسة، وبعضها الآخر ينفذ من فوهة الموت ليسهم في قيامة نظام الأسد من جديد، منطلقاً من اصطفافٍ مسبقٍ ضد حريات الشعوب، وعدوى الديمقراطية ونداءات الحرية.

يستطيع رئيس النظام السوري أن يتحدّث عن عجز الدولة في أداء مهامها، بسبب هول المصاب وسعة تدميره، وأن يطلب المساعدة من كلّ العالم (وليس من روسيا وإيران الغارقتين بمشكلاتهما)، وعلى العالم الذي يساند الحريات أن يفعل ذلك من دون مدلولات سياسية، لأن تلك المساعدات حقّ للسوريين جميعهم، وهذا ما تؤكّده حتى العقوبات الأميركية والدولية على سورية، التي استثنت على الدوام ما يتعلق بالغذاء والدواء، وهما من الأساسيات التي يفتقدها المواطن السوري، قبل زلزال الطبيعة، أي نتيجة تلك الحرب التي يتحدّث عنها الأسد بصيغة المبني للمجهول، وأنها هي المسؤول عن خراب الاقتصاد، من دون أن يحدّد الفاعلين الأساسيين فيها، وكأن هذه الحرب خارجية، وليست حرب نظام على شعبه.

من الغريب جداً أن يستخرج الأسد مزايا للحرب السورية الطويلة التي استنفدت إمكانات سورية بجيشها واقتصادها ومخزونها المالي، وأن يدّعي أن الحرب مكّنت الناس من امتلاك خبراتٍ للتعامل مع هذه الكارثة، وكأننا كنا في رحلةٍ تعليمية، وليس تحت زلزال السلطة التي يرأسها، شرّدت السوريين، وقسّمت مجتمعهم، وما خبروه في الحقيقة خلال 12 عاماً من الحرب التي يخوضها النظام لتحرير الأرض من معارضي سلطته، هو الفقد والخراب والموت تحت الدمار.

على الجهة المقابلة، أنهى الزلزال بكل تفاعلاته أدوار كيانات المعارضة وفصائلها المسلحة على الأرض الغائبة أساساً عن أي مشاركةٍ شعبيةٍ، ما يترك السوريين في المناطق المنكوبة على قارعة الطريق، أو في مهبّ الريح، فلا هم على أرضهم، ولا هم ضمن جزئية التفاوض عليهم في العلاقة المستحدثة بين النظام السوري ومجموع الدول المؤثرة، ومنها تركيا الحاضنة لكيانات المعارضة.

على السوريين انتظار تعافي تركيا من مصابها الكبير، وخسائرها الفادحة والمؤلمة جداً التي أحدثها زلزال كهرمان مرعش وتداعياته على 11 ولاية منكوبة، لأن الكلمة الفصل في الشمال السوري ستبقى معلقة، بما ستقرّره السياسة التركية بخصوص نوعية مداخلتها في الشأن السوري، لجهة الاستمرار في الجهود للتطبيع مع النظام، أو لجهة الإصرار على الدخول العسكري إلى مناطق الشمال السوري بعمق 30 كم، وهو الوعيد الذي دأب الرئيس أردوغان على إطلاقه بين فترة وأخرى منذ حوالى عامين، منتظراً الظروف الدولية والإقليمية السانحة التي تسمح له بذلك، لذا ففي هاتين المسألتين يفترض انتظار تعافي تركيا من جراحها، أو التقاطها أنفاسها، وربما انتظار فترة ما بعد الانتخابات الرئاسية، إن جرت في موعدها!

على رغم الحماسة الدولية لتقديم العون للمناطق المنكوبة في سورية وتركيا، مع اختلاف درجات هذا الاندفاع، يواجه التعامل مع الوضع السوري صعوباتٍ وتعقيداتٍ عديدة، إذ إن الأطراف الدولية المعنية، أو القادرة على العون، وهي الدول الغربية تحديداً، لا تبدو متحمّسة للانفتاح على النظام، أو توكيله بأشكال الدعم المقدّم إلى المناطق المنكوبة في الشمال السوري، غير الخاضع لسيطرته، وهو ما كان واضحاً من تأكيد الإدارة الأميركية أنّ قرارها التعاطي مع الكارثة السورية لا يعني إعفاء النظام من العقوبات، لأنّ كلّ العقوبات لا تشمل أصلاً المواد الغذائية والصيدلانية، وحالياً مواد الإغاثة.

ستكون كارثة الزلزال الأكثر حضوراً في مناقشة الواقع السوري على طاولة الحوار الدولي، خصوصاً بعد التقديرات عن مضاعفة احتياجات سورية لترميم بنيتها التحتية، وإعادة قدرة مؤسساتها على تقديم الخدمات، إذ قدرت خسائرها أخيراً بما يفوق خمسة مليارات دولار، ما سيطرح عدة أسئلة، مثلاً، هل سيُجرَّد الملف السوري من طابعه السياسي، والاكتفاء بطابعه الإنساني/ الإغاثي؟ وهل هذا التحوّل، إن حصل، سيعني طيّ صفحة الصراع مع النظام؟ ثم بين هذا وذاك، ما شأن فصائل المعارضة، أو ما بقي منها، في ضوء هذا التطوّر؟ وماذا عن أدوار الأطراف الفاعلين الدوليين والإقليميين، ولا سيما تركيا؟

العربي الجديد

————————

14 يوماً على زلزال سوريا… هل يستجيب العالم لنداء “الخوذ البيض”؟/ مصعب الياسين

ما زال أحمد يعمل مع أصدقائه في “منظمة الدفاع المدني” على انتشال الضحايا من تحت الأنقاض في مدينة جنديرس بعد 14 يوماً من الزلزال، مستخدمين ما يتوفر لديهم من قوة وما تبقى من تجهيزات، يصلون الليل بالنهار للاستجابة لآثار الكارثة.

بعد ساعات قليلة على وقوع الزلزال، التحق المتطوع في الدفاع المدني أحمد الحسن بعمله، تاركاً خلفه والده المصاب بكسور في ساقه، وعائلته وأهله الذين فروا من منزلهم المتصدع في مدينة جنديرس شمال محافظة حلب، صباح الاثنين 6 شباط/ فبراير 2023.

يعمل أحمد الحسن منذ عام 2018 ضمن فرق البحث والإنقاذ في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيض) إذ انتقل من ريف حماة ثم ادلب وأخيراً نحو جنديرس حيث يسكن أحمد مع عائلته منذ نحو 10  أشهر، يصف لحظة الزلزال قائلاً: “استفقنا مثل بقية السكان على شيء لم نعهد مثله في حياتنا، وبحكم سكني وزوجتي مع أهلي في منزل واحد، هرعت إلى أبي الذي سقطت على ساقه واحدة من حجارة تزيين البناء وهو بطريقه للخروج من المبنى، حملته على ظهري وتوجهت به نحو سيارة قريبة، أودعته هناك مع أحد أشقائي لينقله إلى مستشفى في مدينة عفرين، ثم عدت للاطمئنان على أسرتي”.

يصف أحمد التصدعات التي أصابت المنزل علماً أنه أصبح غير مؤهل للسكن، “كان ذلك المنزل بالنسبة إلينا كنازحين، كل شيء وذهب بلحظة”.

يتابع: “برغم قساوة أن تشاهد كل شيء يسقط أمامك، إلا أنني شعرت برغبة جامحة بالمساعدة كوني متطوعاً في الدفاع المدني. فقررت أن التحق بمركزي في المدينة على رغم أن نوبة عملي لم تكن قد حانت بعد، عملت حينها على إيصال أهلي إلى أحد المخيمات القريبة، فيما كانت مناظر الموت تعترض طريقي حتى خرجت من المدينة بصعوبة، جراء الأنقاض والمصابين والموت المنتشر بين الحطام والأحياء السكنية”.

بعد يومين من التحاق أحمد ورفاقه في عمليات الإنقاذ، تهالكت المعدات البسيطة التي كانوا يستخدمونها في تكسير الأسقف المتهاوية فوق أجساد السكان، بيد أن الأمل كان يبرق في عيني أحمد، في وصول معدات وفرق إنقاذ دولية، تساند الدفاع المدني في عمله وتسرّع عمليات الإنقاذ. إلا أن ذلك لم يحدث حتى، وتُرك رجال التطوع في العراء يحاولون تخفيف وقع الكارثة. علماً أن النظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد تجاهل تماماً وجود إدلب ومنطقة شمال سوريا عموماً، ففي خطاب الأسد بعد زلزال، كان واضحاً أن سكان تلك المنطقة ليسوا في قائمة اهتماماته، فحتى في لحظة الزلزال القاسية يريد النظام السوري تجيير الصراعات السياسية لمصلحته ومواصلة انتقامه من الناس.

يقول أحمد: “في اليوم الثاني لعمليات الإنقاذ ونفاد معظم معداتنا وتلفها، مقابل كثرة المواقع المتضررة ،كنت دائماً ما أتكلم مع زملائي مؤكداً لهم أن المجتمع الدولي سيمدنا بآليات ومتطوعين لإنقاذ السكان من الكارثة، لكن تلك الأمنيات انهارت مع صباح اليوم الثالث بعد الزلزال، وارتفاع عدد القتلى، حينها أيقنت أننا في آخر قائمة اهتمامات الأمم المتحدة، التي بقيت تقدم حججاً وذرائع واهية من أجل عدم مساعدة السوريين في محنتهم”.

“الدفاع المدني السوري (#الخوذ_البيضاء) منظمة إنسانية من 3 آلاف متطوع يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين وزراعة الأمل، أنقذنا 125 ألف شخص، بينما فقدنا 304 متطوعين”، هذا التعريف موجود على حساب الدفاع المدني السوري على “تويتر”، ومن يتصفح تغريداته، يشعر وكأن هؤلاء المتطوعين هم بالفعل أمل السوريين الأخير وسط هذا الركام الكثير منذ الحرب عام 2011 وحتى زلزال 2023.

وإذ ترك رجال الخوذ البيض وحيدين تقريباً وسط الكارثة، مع تأخر الاستجابة والمساعدات، لا سيما في الشمال السوري، نشر الدفاع المدني على وسائل التواصل الاجتماعي، لقاء جمع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونائب وزير الدولة لشؤون التنمية وإفريقيا في الخارجية البريطانية أندرو ميتشل، بمدير الدفاع المدني للشؤون الخارجية فاروق حبيب، الذي عبّر بشكل واضح عن انتقاده التقصير والخذلان وازدواجية المعايير التي حدثت في المناطق المتضررة من الزلزال بالشمال. اللقاء ناقش كيفية دعم “الخوذ البيض” ومساعدتهم في مواجهة كارثة الزلزال، لكن ذلك يأتي بعد أسبوعين تقريباً على وقوع الزلزال، وهذه المساعدات لو أتت بسرعة، لربما كانت ستنقذ حياة كثيرين من الذي اختنقوا تحت الركام.

وبحسب المتطوع رائد الصالح، مدير منظمة الدفاع المدني السوري، الأمم المتحدة كانت طلبت من السوريين شمال غربي البلاد الصمود أمام الكارثة، من دون أن ترسل المساعدات اللوجستية والمساعدات اللازمة لإنقاذ حياة السكان، فيما رفض الوفد الأممي الذي دخل عن طريق باب الهوى في 14 شباط/ فبراير الدخول إلى أماكن الدمار الناتج عن الزلزال ومشاهدتها، بحجة أن الإدارة منعتهم من الذهاب إلى تلك الأماكن، واتهم الصالح في حديث تلفزيوني الأمم المتحدة بتسييس المساعدات إذ تسعى للحصول على موافقة بشار الأسد الذي قتل السوريين بطائراته  والكيماوي لإدخال المساعدات عبر باب الهوى وغيره من المعابر الحدودية.

ما زال أحمد يعمل مع أصدقائه في “منظمة الدفاع المدني” على انتشال الضحايا من تحت الأنقاض في مدينة جنديرس بعد 14 يوماً من الزلزال، مستخدمين ما يتوفر لديهم من قوة وما تبقى من تجهيزات، يصلون الليل بالنهار للاستجابة لآثار الكارثة.

أحمد ينتظر لقاء والده الذي تركه مع شقيقه، يطمئن عليه عبر الهاتف، ولا يعلم متى سيتمكن من زيارة  أسرته، يعمل مع رفاقه دون كلل بانتظار أن يحسم العالم موقفه، ويهرع لإنقاذ السوريين دون تمييز أو استنسابية.

درج

—————————

زلزال تركيا: التداعيات السياسية الداخلية والخارجية

أصاب تركيا زلزال هائل، خلف عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وأوقع الآلاف من البنايات، وقد امتدت تداعيات ذلك إلى الجدل السياسي الداخلي، وعلاقات البلد الخارجية.

ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا، فجر يوم الاثنين 6 فبراير/شباط 2023. كان مركز الزالزال قريبًا من مدينة كهرمان مرعش التركية، ولكن محوره امتد إلى 400 كيلومتر على طول ما يعرف بالصدع الأناضولي الجنوبي. أوقع الزلزال خسائر فادحة، وإن متفاوتة، في عشر ولايات تركية، من أضنة وهاتاي إلى ديار بكر وملاطية، وفي عدة مدن وبلدات من محافظتي حلب وإدلب. ما ضاعف من وقع الكارثة، أن المنطقة المنكوبة ضُربت بزلزال ثان، بعد عشر ساعات من الأول، وبقوة لم تقل عن 7.6 درجات على مقياس ريختر، تسبب في انهيار الآلاف من المباني التي لم تكن قد انهارت في الزلزال الأول.

طبقًا لوكالة الكوارث والطوارئ التركية (أفاد)، شهدت المنطقة المنكوبة ما لا يقل عن 3800 رجة زلزالية خلال الأيام العشرة التالية على الزلزالين الكبيرين الأولين. وبالرغم من أن هذه الرجات لم تكن بقوة زلزالي السادس من فبراير/شباط، إلا أنها فاقمت من أثار الكارثة وتسببت في تعطيل عمليات الإنقاذ والإغاثة في بعض الأحيان، ونشرت الذعر والخوف بين الناجين، دافعة الكثير منهم إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم واللجوء إلى مناطق أخرى آمنة.

قورن الزلزال في أيامه الأولى بزلزال الولايات المتحدة في 1906، ولكن تكشف حجم الكارثة تدريجيًّا دفع علماء زلازل إلى القول بأنه أحد أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدتها الأرض في أكثر من مئة عام. أما وكالة (أفاد) التركية فقد أكدت أن زلزال كهرمان مرعش، كما بات يُعرف، هو الأكبر حجمًا والأكثر وقعًا طوال ألفي عام من تاريخ الأناضول.

خلال الأيام الأولى على وقوع الزلزال، ساد في تركيا مناخ من التضامن الوطني، الذي لم تعرفه البلاد منذ عقود. وفيما عدا استثناءات قليلة، تراجعت اللغة السياسية وجدل المسؤولية عما حدث لصالح تعزيز عمليات الإنقاذ ومد يد العون للناجين. ولكن، وكما كل الكوارث الكبرى، كان لابد لزلزال كهرمان مرعش في النهاية من أن يثير أسئلة عديدة حول الأسباب التي أدت إلى حجم الخسائر الهائلة في الأرواح والمباني، وحول العواقب السياسية للكارثة، داخليًّا ودوليًّا.

عواقب الزلزال الأولية

تعتبر منطقة الزلزال واحدة من مناطق الكثافة السكانية في الأناضول منذ دخلها المسلمون العرب في موجة الفتح الإسلامي الأولى. وطبقًا لتقديرات الدولة التركية، أثَّر الزلزال على ما يزيد عن 13.5 مليون مواطن في الجانب التركي بصورة مباشرة، وما يقارب ستة ملايين آخرين بصورة غير مباشرة. أما في الجانب السوري، فتقول مصادر المعارضة إن تعداد السكان الذين تأثروا بالزلزال، وأغلبهم من النازحين من مناطق سورية أخرى، لا يقل عن خمسة ملايين.

مع أواخر اليوم العاشر، أعلنت السلطات التركية نهاية عملية البحث والإنقاذ في خمس من ولايات حزام الزلزال، وكانت معظم جهود البحث والإنقاذ قد انتهت في الجانب السوري في اليوم السابق. بذلك، وصل عدد قتلى الزلزال في الجانب التركي إلى 38 ألفًا، وفي الجانب السوري خمسة آلاف، إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى في الجانبين. وبالنظر إلى مدى تقدم عمليات البحث والإنقاذ، فمن المتوقع أن يفوق عدد قتلى الزلزال في الجانب التركي الأربعين ألفًا، وربما يزيد عن الستة آلاف في الجانب السوري.

ولكن الأثر الديمغرافي للزلزال لم يقتصر على القتلى والجرحى، فمثل كافة الكوارث الأخرى، يعتقد أن أكثر من مليون مواطن قد غادروا الولايات المنكوبة إلى مناطق أخرى في شمال وغربي تركيا، خوفًا من الارتدادات اللاحقة أو بحثًا عن مسكن لائق. حركة النزوح هذه ستترك أثرًا ملموسًا على طاقة الأيدي العاملة في الولايات العشر، لاسيما أن من غير الواضح ما إن كان نازحو اليوم سيعودون إلى بلداتهم وقراهم في المستقبل.

أوقع الزلزال الدمار فيما يصل إلى ألف من الوحدات السكنية في شمالي سوريا، بينما تضررت بدرجات مباشرة عدة آلاف وحدات أخرى. أما في الجانب التركي، فقد كان حجم الكارثة هائلًا، وتكاد أرقام الوحدات المدمرة أو التي لابد من هدمها تزداد يوميًّا، بفعل استمرار مهندسي (أفاد) في عملية الكشف عن المباني في ولايات الزلزال العشر.

لم تُرسم بعد صورة كاملة للآثار البشرية والهندسية للزلزال، لذلك فإن تقديرات تكلفة الكارثة، بما في ذلك أثرها على الدخل القومي ومتطلبات إعادة البناء وخسارة الأيدي العاملة، لم تعرف بصورة قاطعة بعد. ثمة تقديرات بأن مجمل التكلفة قد يفوق 80 مليارًا من الدولارات، ولكن الأرجح أن هذا الرقم ليس سوى نتيجة حسابات أولية. المؤكد، أن الزلزال سيؤدي إلى تراجع بمقدار 1–2 بالمئة من الناتج القومي لهذا العام. أما غير ذلك، فلابد من الانتظار قبل حساب التكاليف.

بالنظر إلى قوة الزلزال وحجم المنطقة التي أصابها، وإلى أن توقعات الزلزال القادم في تركيا كانت تدور حول حوضي مرمرة وإيجة، فالواضح أن الاستجابة الرسمية في اليوم الأول من الحدث، وربما حتى اليوم الثالث في بعض المناطق، شابها الارتباك. وقع عدد من عناصر (أفاد) المقيمين في المنطقة ضحية للزلزال، ولم تكن المعدات التي تحتفظ بها في الولايات العشر كافية للتعامل مع الدمار الهائل الذي أوقعه الزلزال. ولكن، ومنذ اليوم الثاني أو الثالث، كانت الدولة التركية قد نشرت عشرات الآلاف من منتسبيها، أو من المتطوعين، في كافة الولايات المصابة، وبدأت واحدة من أضخم عمليات البحث والإنقاذ والإغاثة التي شهدها العالم منذ عقود.

عشرات من الدول، وفي مقدمتها أذربيجان والجزائر، أرسلت مجموعات بحث وإنقاذ ومساندة، وعشرات من الدول العربية والإسلامية والغربية، وفي مقدمتها قطر والسعودية والإمارات والكويت، أرسلت عشرات الطائرات المحملة بالمعدات والمواد الإغاثية. كما جُمعت عدة مئات من ملايين الدولارات في حملات تبرع شعبية، نُظِّمت في دول الخليج العربية، بل وحتى في فلسطين وأفغانستان. وبالرغم من تواضع الدعم الذي قدمته الدول الغربية، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية إلى عقد مؤتمر للمانحين لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، يعقد في منتصف مارس/آذار المقبل.

ولكن حالة التضامن التي أظهرها الشعب التركي، بكافة فئاته، مع ضحايا الزلزال، والمستمرة بوتيرة عالية، لم تعرفها تركيا منذ حرب الاستقلال. عشرات الآلاف من كافة التخصصات توجهوا إلى مناطق الزلزال للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، ومئات من المهنيين ورجال الأعمال، من أبناء المناطق المنكوبة، المقيمين في إسطنبول وأنقرة، تحركوا بمبادرات فردية إلى مساعدة أهلهم وأقاربهم بكافة الوسائل والطرق الممكنة.  

الجدل السياسي الداخلي

كان واضحًا في الأيام الأولى من الزلزال أن الشعب التركي لم يكن يرغب في تسييس الحدث. كما كان لافتًا أن السيدة ميرال أكشنر، رئيسة الحزب الجيد، سارعت إلى التصريح بأن هذا يوم يجب ألا يُسمع فيه إلا صوت الدولة، وعلى كل الأصوات الأخرى أن تصمت. ولكن كمال كاليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، سارع، على خلفية من الزلزال، إلى فتح معركة سياسية مع الرئيس أردوغان. وصف كاليتشدار أوغلو أردوغان بالمسؤول عن الخسائر الفادحة، وأن حكوماته المتعاقبة طوال العشرين عامًا الماضية لم تعمل على إعداد البلاد لزلزال كبير.

لم تجد تصريحات كاليتشدار أوغلو صدى ملموسًا لدى أغلب قطاعات الرأي العام؛ ولكن استعداده لتفجير معركة سياسية لم يلبث أن أظهر عمق الانقسام الثقافي والسياسي في تركيا الحديثة. عشرات الأصوات التركية، من أكاديميين وإعلاميين ونشطين سياسييين، ارتفعت لمساندة كاليتشدار أوغلو وتوجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس التركي وحزبه. وبين وقت وآخر، كشفت المعركة السياسية عن جانب أكثر قتامة، عندما عمل نشطون معارضون على نشر شائعات كاذبة حول آثار الزلزال، بهدف إحراج الحكومة، بدون الاكتراث بعواقب مثل هذه الشائعات على عمليات البحث والإنقاذ، أو على ضحايا الزلزال. كما أظهرت أصوات علمانية معارِضة شماتة لا تخفى في تعرُّض مناطق يُعرف أهلها بتوجههم الإسلامي لكارثة الزلزال؛ ودعت أخرى إلى مطاردة وقتل اللاجئين السوريين والأفغان، متهمين إياهم، كذبًا، بارتكاب جرائم سلب ونهب للمساكن المتضررة.

كمال كاليتشدار أوغلو هو صاحب الحظ الأقوى في أن يصبح مرشح تحالف الأحزاب الستة المعارضة لخوض انتخابات الرئاسة في مواجهة أردوغان. ويعتقد أن توجهه إلى تسييس الزلزال ليس المقصود به أردوغان على وجه الخصوص، بل محاول إقناع شركائه في تحالف الستة المعارضين لترشحه، مثل ميرال أكشنر، أو المترددين في دعم هذا الترشح، مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان. أظهر كاليتشدار أوغلو خلال الشهرين الماضيين تصميمًا على الترشح للرئاسة، بينما يسود شعور في تحالف الستة أنه يفتقد المؤهلات الكافية لمنافسة أردوغان. ولذا، يبدو أن كاليتشدار أغلو وجد في تبني خطاب سياسي حاد، في خضم كارثة قومية، وسيلة ناجعة لتوكيد قدرته على مواجهة أردوغان في الحملة الانتخابية الرئاسية.

تمحور الجانب الثاني للجدل السياسي حول البنايات المنهارة، التي بُنيت بعد نفاذ قانون الإنشاءات الخاص بمقاومة الزلازل في 2000. انهيار هذه البنايات يعني بوضوح أن الرقابة على الإنشاءات لم تكن صارمة خلال العقدين الماضيين، وأن الفساد شاب إقرار هذه البنايات وترخيص صلاحيتها للسكن. ولأن العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ أواخر 2002، تقول المعارضة، فالمسؤولية عن ترخيص هذه البنايات تقع على عاتق حكومات أردوغان المتعاقبة.

الحقيقة بالطبع أن ثمة تقصيرًا يتعلق بإنشاء هذه البنايات وترخيصها، ولكن المعروف أن البلديات، وليس الحكومة، هي الجهة المسؤولة عن البناء والإنشاء في تركيا. والمؤكد، أن الأيام الأولى من الزلزال شهدت مبالغات مقصودة في تقدير عدد بنايات ما بعد الـ 2000 المنهارة، وأن نسبة هذا الصنف من البنايات إلى مجموع البنايات التي سقطت لا يزيد عن اثنين إلى خمسة بالمئة. ولإدراك وزارة العدل لشبهات التقصير والفساد التي شابت ترخيص هذه البنايات، فقد سارعت إلى إصدار أوامر قبض وتحقيق مع عشرات المقاولين الذين تعهدوا إنشاء البنايات الحديثة المنهارة في ولايات الزلزال العشر.

كما لحق الجدل بصحة البناء ومدى تطبيق القانون وما شاع حول العفو العام الذي أصدرته حكومة أردوغان عن المقاولين المخالفين في 2018. ولكن، وفي حين يعترف أنصار الرئيس التركي أن عددًا من الأبنية التي تمتعت بعفو 2018 كانت ربما مخالفة بهذه الدرجة أو تلك لقانون الإنشاءات، فإن العفو تعلق في الأغلب بمخالفات ذات علاقة بالتخطيط أو عدد الأدوار وليس بعيوب في البناء ومقاومته للزلازل.

أما الجانب الثالث للجدل السياسي الداخلي، فيتعلق بموعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وكان الرئيس التركي أعلن قبل وقوع الزلزال أنه سيدعو إلى عقد الانتخابات في منتصف مايو/أيار، بدلًا من موعدها المقرر في منتصف يونيو/حزيران، وذلك لتجنب موسم الامتحانات وعطلة عيد الأضحى. ولكن شائعات دارت بعد السادس من فبراير/شباط تقول بأن أردوغان يخطط لاستخدام وقع الكارثة وإعلان حالة الطوارئ في ولايات الزلزال لتأجيل الانتخابات حتى عن موعدها القانوني في يونيو/حزيران. وهذا ما دفع كاليتشدار أوغلو وعددًا من قيادات المعارضة إلى التحذير من التأجيل، والتذكير بأن الدستور لا يسمح بتأجيل الانتخابات إلا في حالة الحرب وحسب.

المؤكد أن أردوغان شخصيًّا لم يتناول مسألة الانتخابات بأي صورة من الصور في تصريحاته وخطاباته المتعددة منذ وقوع الزلزال. بولنت أرينتش، رئيس البرلمان الأسبق، وأحد قادة العدالة والتنمية المؤسسين، الذي لا يتولى منصبًا رسميًّا منذ سنوات، هو الذي أبدى رأيًا حول صعوبة عقد الانتخابات في ظل ظروف ما بعد الزلزال. ولكن رأيه لم يجد استجابة علنية من الرئيس، أو من أي من قادة الحكومة أو العدالة والتنمية.

الواضح، أن عددًا من زعماء المعارضة يرى أن آثار الزلزال ستصب في غير صالح أردوغان وحزبه، لأن عموم الأتراك سيبحثون عن جهة ما لتحميلها مسؤولية المأساة، بغض النظر عن أداء أردوغان وحكومته في الاستجابة للكارثة، وأن هذه الجهة ستكون الرئيس وحزبه. ويشير هؤلاء إلى عواقب زلزال 1999، التي أدت إلى سقوط حكومة بولنت إيجيفيت، وتمهيد الطريق لصعود حزب العدالة والتنمية الكبير في انتخابات 2002. كما يفترض هؤلاء، بدون التصريح علنًا، حقيقة أن اضطراب الوضع السكاني في محافظات الزلزال، سيحرم أردوغان وحزبه من مئات الآلاف من الأصوات بمنطقة معروفة بتصويتها للعدالة والتنمية بنسب مرتفعة.

بيد أن الأرجح، بالرغم من أن الحدث لم يزل في أيامه الأولى، أن أردوغان لن يطلب، أو يحاول، تأجيل الانتخابات، وأن أقصى ما سيقوم به هو الدعوة إلى عقد الانتخابات في يونيو/حزيران، قبل أيام من موعدها القانوني المقرر. ولا يستبعد أن يظل على مخططه السابق على وقوع الزلزال بعقد الانتخابات في مايو/أيار، وأن ترجيح أي من الخيارين سيعود إلى اللجنة العليا للانتخابات وما تحتاجه من وقت كاف لتنظيم العملية الانتخابية في المناطق المنكوبة، وضبط أحوال الناجين، الذي نزحوا إلى مدن أخرى، أو غادروا أماكن سكنهم الأصلية.

خلف هذا الجدل السياسي يعترف أنصار الرئيس بأن استجابة الحكومة للكارثة في أيامها الأولى لم تكن كما يجب، ولكنهم يقولون: إن حجم الكارثة كان أكبر بكثير مما تصورته أنقرة أو توقعته لأي زلزال محتمل، وأن ليس ثمة دولة في العالم كان يمكنها الاستعداد لمثل هذه الكارثة الطبيعية. ولكنهم يعتقدون في الوقت نفسه أن الشعب التركي يدرك أن أداء أجهزة الدولة ارتفع بسرعة فائقة إلى مستوى الحدث، وأن الشعب يرى بأم عينيه، سواء في المناطق المنكوبة، أو في عموم البلاد، عملية إنقاذ وإغاثة لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث كله. ويقول هؤلاء إن أيًّا من قيادات المعارضة لم يُظهر طوال الأيام التي تلت حدث الزلزال من الأداء ما يتوقعه الشعب من رجال دولته.

ويشير أنصار الرئيس إلى الاستجابة الشعبية غير المسبوقة لحملة جمع التبرعات لوكالة (أفاد)، مساء 13 فبراير/شباط، التي تجاوزت ما يعادل 6.1 مليارات دولار، باعتبارها تجديد ثقة بـ(أفاد) وبالدولة التركية. وكانت (أفاد) تعرضت لهجوم حاد من أوساط المعارضة، واتهامها بعدم الكفاءة وبأنها ليست سوى أداة سياسية لأردوغان، بل إن بعض الأصوات دعت الشعب التركي لعدم التبرع لـ(أفاد) ولا التطوع لدعم جهودها.

بكلمة أخرى، يخلص أصحاب هذا الموقف إلى أن الشعب سيضع ثقته من جديد في أردوغان، ليس لأنه يبرئ الرئيس وحكومته كلية من الانتقادات التي وُجهت إليهما، بل لأنه يعتقد أن أردوغان وحده من يستطيع أن يقود البلاد في معركة إعادة البناء ومواجهة عواقب الكارثة الثقيلة.

الزلزال والسياسة الخارجية

انتهجت تركيا أردوغان خلال السنوات القليلة السابقة على زلزال فبراير/شباط 2023 سياسة خارجية استقلالية نسبية. التزمت تركيا بما تفرضه عضويتها في حلف الناتو من واجبات، ولكنها حافظت على خطوط اتصال دافئة مع الصين وروسيا الاتحادية، وأحجمت عن الالتزام بالعقوبات غير المقرة من الأمم المتحدة، التي فرضتها الدول الغربية على الصين وروسيا وإيران. وكان التوتر في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة ودول حلف الناتو الأخرى بدأ بالخلاف حول المقاربات الغربية للأزمة السورية، والبرنامج النووي الإيراني، وموقف الدول الغربية من المحاولة الانقلابية في 2016 والحماية التي وفرتها الولايات المتحدة ودول أوروبية لعناصر جماعة غولن، والموقف من الخلافات التركية-اليونانية في شرق المتوسط والحرب الروسية على أوكرانيا.

وبالرغم من أن أنقرة انتهجت سياسة تصالحية مع دول الجوار الإقليمي، مثل مصر والإمارات وإسرائيل، وحتى سوريا، فقد كانت علاقات تركيا، عندما وقع الزلزال، مع أرمينيا لم تزل مقطوعة، والتدافع مع اليونان يوشك أن يتطور إلى صدام عسكري.

ولكن الزلزال أحدث ما يشبه الانقلاب في علاقات تركيا الإقليمية والدولية. أظهرت الولايات المتحدة وكافة الدول الأوروبية الغربية تعاطفًا واضحًا مع تركيا، تجلى في إرسال فرق لدعم جهود البحث والإنقاذ، أسهمت في عمليات العون والإغاثة، وإن بدرجات متفاوتة. فتحت أرمينيا حدودها المغلقة منذ عقود مع تركيا، وشاركت هي الأخرى في جهود الإنقاذ والإغاثة. وكانت اليونان، التي عبَّرت وسائل إعلامها عن تضامن صريح مع الأتراك، إحدى أوائل الدول التي أرسلت فرق إنقاذ كبيرة، وسارع وزير خارجيتها إلى زيارة المناطق المنكوبة. وكان واضحًا أن وزير الخارجية التركية لم يعرب خلال المؤتمر الصحفي، الذي عقده مع نظيره اليوناني، عن امتنان تركيا لجهود الجارة الخصم، وحسب، ولكنه وعد أيضًا بتطبيع العلاقات بين الدولتين في القريب العاجل.

لم تتخلف روسيا والصين هي الأخرى عن مد يد العون؛ ولكن الواضح أن ما تنتظره تركيا من دعم غربي يفوق ما تنتظره من روسيا والصين، سيما بعد أن دعا الاتحاد الأوروبي لعقد مؤتمر للمانحين في منتصف مارس/آذار، يمكن أن ينتهي إلى تقديم دعم مالي واقتصادي ملموس للمناطق المنكوبة في تركيا وسوريا. كما تعرف تركيا أن الدول الغربية، التي تعتبر من أكبر شركائها الاقتصاديين، يمكن أن تلعب دورًا غير مباشر للمساعدة، سواء على صعيد العلاقات التجارية والاقتصادية المباشرة، أو على صعيد المنظمات الدولية التي يفترض أن تسهم في عمليات الإنقاذ والإغاثة وإعادة البناء.

سيصعب على تركيا ما بعد الزلزال تجاهل من مدوا لها يد العون في ساعة الألم والحاجة. من جهة أخرى، ولأن تركيا كانت قبل الزلزال تجتهد للخروج من بقايا أزمة مالية-اقتصادية، فإن أعباء ما بعد الزلزال الهائلة يمكن أن تتحول إلى كوابح متفاوتة القوة لتوجهات أنقرة الخارجية الاستقلالية، بغضِّ النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. تركيا ما بعد الزلزال ستكون أكثر حاجة لدعم حلفائها في الغرب، وأصدقائها في الجوار، مما كانت عليه قبل الزلزال.

سياسات للكوارث الطبيعية

تركيا هي بالطبع دولة كبيرة، حجمًا وشعبًا ومقدرات؛ وليست الزلازل في تركيا بالشيء المفاجئ أو المستغرب. وليس ثمة شك في أن تركيا ستنهض من تحت ركام الزلزال، الذي سيتحول في النهاية، كما زلزالي 1939 و1999، إلى مجرد ذكرى حزينة وتاريخ.

ولكن مسيرة النهوض ومواجهة عواقب الزلزال لن تكون يسيرة. كان هذا زلزالًا هائلًا، ألقى بأعباء بالغة على كاهل البلاد، أعباء لم تكن متوقعة على الإطلاق، تزداد حجمًا ووقعًا بمرور الأيام والساعات. ثمة مئات الألوف من الوحدات السكنية التي انهارت، أو لابد من هدمها وإعادة بنائها من جديد. وليس من المستبعد أن يرتفع عدد القتلى إلى ما يقارب الخمسين ألفًا، وأن يتجاوز عدد الجرحى المئة ألف. والمؤكد أن يترك الزلزال خلفه متغيرات ديمغرافية واقتصادية واسعة النطاق في منطقة واسعة من جنوب تركيا، من ملاطية شرقًا إلى هاتاي غربًا.

ليس ثمة دولة يمكنها أن تضع حسابات مسبقة للزلازل، مهما كانت طبيعة تجاربها مع هذا النوع من الكوارث الطبيعية. ولكن الزلازل بهذا الحجم والوقع لابد أن تأتي معها بآثار سياسية، وليس متغيرات ديمغرافية واقتصادية وحسب. وسواء أفضى هذا الزلزال إلى تغيير في طبيعة السلطة والقوى الحاكمة، أم لا، ونجم عنه قدر من الانكفاء في دور تركيا الدولي والإقليمي، أم لا، فالمؤكد أن زلزال فبراير/شباط سيشكِّل منعطفًا سياسيًّا بارزًا في تركيا الحديثة، في رؤية تركيا لذاتها وفي رؤيتها للعالم من حولها.

—————————–

التداعيات السياسية للزلزال على تركيا وسوريا!/ د. عبد الله خليفة الشايجي

لا شك أن الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا، كما وصفه الرئيس أردوغان بالأقوى والأكثر دماراً خلال 100 عام، بالإضافة إلى المآسي الإنسانية والخسائر البشرية الكبيرة التي تتجاوز 40 ألفا في تركيا بينهم حوالي 1600 سوري، وأكثر من 108.000 مصاب، وتسبب بتدمير 48000 منزل ومبنى، ودمار هائل وغير مسبوق في 11 ولاية منكوبة في تركيا. وفي الشمال الغربي السوري وخاصة مناطق المعارضة السورية، وبمجمل حوالي 6000 ألف قتيل في سوريا و 10.000مصاب.

سيكون للزلزال بالإضافة لتداعياته الاجتماعية والاقتصادية، تداعيات سياسية في الدولتين. أبرزها تأثير تلك التداعيات البشرية والإنسانية على المشهد السياسي وسط انقسام سياسي حاد قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة في الجمهورية التركية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 منهياً الخلافة الإسلامية.

كان ملفتاً استغلال وحجم انتقادات المعارضة التركية التي توظف وتستغل حجم الكارثة من وفيات ودمار لآلاف المباني التي كان من المفترض أن تقاوم الزلزال، على شعبية ومكانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه. خاصة وأن معظم المدن التي لحق بها الدمار والخسائر البشرية يديرها رؤساء بلديات من حزب أردوغان العدالة والتنمية. كما تشكل تلك المحافظات ومدنها خزان كبير من الناخبين الداعمين عادة لحزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان. خاصة وأن الرئيس أردوغان يواجه تحديا كبيرا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بعدما قدّم موعد الانتخابات من شهر يونيو/حزيران إلى منتصف شهر مايو/أيار القادم، بعد بدء تحسن الأوضاع الاقتصادية. لكن يبقى الوضع الاقتصادي والمعيشي صعباً برغم انخفاض التضخم لـ57٪، لكن تبقى من أعلى النسب، وثبات صرف العملة (الليرة) التركية، لكن تبقى منخفضة لمستويات غير مسبوقة أمام الدولار. ما رفع الأسعار وكلفة المعيشة، وساهم بزيادة حالة الاستياء الشعبي حتى قبل الزلزال.

بات واضحاً تصميم المعارضة التركية بشكل محموم على هزيمة أردوغان في الانتخابات القادمة، بتسييس وتوظيف تداعيات الزلزال للنيل من أردوغان وحزبه كورقة انتخابية ضاغطة. ألقى كمال كليجدار أوغلو(زعيم المعارضة التركية المتحالفة من ستة أحزاب، وزعيم حزب الشعب الجمهوري) كارثة الزلزال، أنها «نتيجة لسياسة وفشل حكم أردوغان وحكومته خلال عشرين عاماً بتحضير البلاد لكوارث وزلازل».

بدوره أستنكر الرئيس أردوغان من هاتاي المنطقة الأكثر تضرراً من الزلزال، توظيف المعارضة لكارثة الزلزال ـ سياسياً واصفاً ـ «حملة التهجم السياسية مؤسفة ولا تطاق» وحث على الوحدة والتضامن الوطني لمواجهة تداعيات الزلزال الكارثية.

لكن السؤال المهم في خضم ذلك كله ومع إعلان الرئيس أردوغان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر بعد الزلزال ـ تنتهي قبل موعد الانتخابات، هل ستجرى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها؟ خاصة مع وجود ملايين المتضررين والنازحين عن مدنهم وولاياتهم من تداعيات الزلزال! أم ستؤجل الانتخابات بسبب مخاوف من ردة الفعل الغاضبة على بطء التعامل مع كارثة الزلزال وارتفاع عدد الضحايا من قتلى ومصابين ونازحين ممن فقدوا أسرهم ومنازلهم ومصادر دخلهم؟ لا شك أن الكارثة كبيرة وعميقة، والتحدي كبير وبرغم تعهد الرئيس أردوغان ومسؤولين بإعادة إعمار دمار الزلزال خلال عام، إلا أن الواقع بسبب ما يتكشف من كارثة وآثار الزلزال المدمر، ودمار 48000 مبنى على الأقل لا يطمئن أن الحكومة التركية قادرة على الإيفاء بوعودها ببناء ما دمره الزلزال خلال عام واحد.

وكذلك يوظف ورقة توزيع المساعدات الإغاثية ومطالب الأمم المتحدة بفتح مزيد من المعابر لإيصال المساعدات لمناطق المعارضة، للمطالبة برفع العقوبات الدولية والغربية. وكذلك يستغل ويوظف الأسد ونظامه كارثة الزلزال للتطبيع مع الدول العربية وخاصة الخليجية، بدعم من الدول العربية المطبعة مع نظامه وروسيا وإيران. نشهد ذلك باتصال الرئيس المصري السيسي بالأسد، وزيارة وزير خارجية حكومة تصريف الأعمال اللبنانية ورفع تونس التمثيل الدبلوماسي وحتى أمل استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، بعد تعليق عضويتها عام 2011 بعد عسكرة النظام للثورة السورية وارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي وغاز السيرين والبراميل المتفجرة والصواريخ بعيدة المدى ضد المديين العُزّل من شعبه.

وكان ملفتاً من علامات التطبيع الخليجي مع نظام الأسد عقب الزلزال الذي أصاب مناطق سيطرة المعارضة في الشمال الغربي السوري ـ وسقوط ضحايا وتعرضها لدمار أكبر مما لحق بمناطق النظام، بث الفضائيات الإخبارية الخليجية ـ خطاب وزيارات الأسد عن الزلزال للمرة الأولى منذ الثورة السورية ـ وإرسال مساعدات إغاثية للنظام، ما يؤكد أن عملية التطبيع تكتسب زخماً وتتبلور حتى خليجياً.

في المقابل جمعت الشعوب والحكومات الخليجية عبر حملات شعبية ومن اللجان الخيرية والمجتمع المدني والهلال الأحمر والقطاع الخاص ومساعدات حكومية شملت تبرعات نقدية وعينية بلغت عشرات ملايين الدولارات، وتسيير جسور جوية تحمل المساعدات من مواد غذائية وطبية وبطانيات وخيام وغيرها. كما شهدنا في الأسبوع الماضي من الكويت وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. شكّل إصرار الأسد على وصول المساعدات إلى مطارات دمشق وحلب التي يسيطر عليها نظامه، تحدياً للدول العربية والخليجية غير المطبعة مع نظامه.

تدفقت المساعدات الإغاثية من دول ومنظمات وأفراد ومتطوعين بجسور جوية لتخفيف المعاناة عن الناجين بإرسال فرق وقوافل المساعدات والإغاثة، وخاصة من الدول الخليجية التي تقيم علاقات (الإمارات ـ البحرين ـ عمان) وغير المطبعة مع نظام بشار الأسد. ولكن محدودية المساعدات التي وصلت إلى مناطق المعارضة السورية في الشمال السوري، عكس إخفاقاً وفشلاً بإيصال العون لأكثر المناطق المنكوبة. خاصة مع محدودية المساعدات، وانتقاد بطء جهود الأمم المتحدة بإيصال المساعدات إلى مناطق المعارضة المنكوبة في إدلب وشمالي سوريا.

مفارقة ملفتة كيف تتسبب دبلوماسية الكوارث الطبيعية والزلازل والإغاثة والمساعدات الإنسانية بالتأثير على مسار الانتخابات، وبتسهيل وتسريع التطبيع ولو محدود مع أنظمة مارقة!

أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت

القدس العربي

————————–

سوريا: الزلزال المؤقت والكارثة المستمرة!

رأي القدس

أدت الحرب التي شنّها النظام السوري على الاحتجاجات الشعبية منذ عام 2011 إلى تداعيات ديمغرافية وسياسية وعسكرية هائلة نشأت على إثرها ثلاث مناطق سيادة رئيسية، يسيطر على الأولى النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون، وتهيمن المعارضة السورية المسلحة والجيش التركي على المنطقة الثانية، فيما يدير حزب العمال الكردستاني، تحت أسماء «الوحدات الكردية» و«قوات سوريا الديمقراطية» وغيرها، المنطقة الثالثة مع رعاية ووجود عسكري أمريكيين.

تعرّضت بعض المدن والبلدات والقرى التي استهدفها النظام خلال عملياته العسكرية اللاحقة إلى حالات مسح وتطهير طائفي وسياسي، كما رعى النظام عمليّات إجلاء منظمة من مناطق عديدة نحو إدلب والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة بحيث وصل عدد النازحين الداخليين في سوريا قرابة 6,5 مليون.

ارتفع عدد ساكني المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى قرابة 4,5 مليون نسمة، واستقبلت تركيا قرابة 3,7 مليون منهم، فيما اتجه قرابة 1,3 مليون لاجئ سوري إلى الأردن، و850 ألفا إلى لبنان، و260 ألفا إلى العراق، ووصل رقم اللاجئين السوريين في العالم إلى قرابة 6,6 مليون، مما جعل سوريا منبع أضخم أزمة نزوح في العالم.

واجه السوريون في مناطق المعارضة والنظام، وكذلك في أراضي لجوئهم في تركيا، كارثة جديدة تمثّلت بالزلزال الرهيب الذي ضرب البلدين في وقت واحد، وهو ما رفع منسوب المآسي إلى درجة مهولة، بحيث اجتمعت المصائب واختلطت أشكالها، بين السياسي والعسكري والإنسانيّ.

استمرّت المعاناة في مناطق النظام نتيجة تسخير موارد الدولة في خدمة آلة الحرب، وتوقف الإنتاج الصناعي، وموجة الجفاف التي تضرب المنطقة، وتداعيات فيروس كورونا، وسيطرة روسيا وإيران على الجزء الأكبر من الاستثمارات السيادية كالغاز والفوسفات والكهرباء، ويضاف إلى ذلك تعنّت النظام في قبول أي حل سياسيّ، واستمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية عليه، وانضاف اجتياح روسيا لأوكرانيا ليرفع مستويات الأسعار العالمية للحبوب والوقود.

تراجع الوضع الاقتصادي للسوريين، عموما، إلى مستويات فقر قياسية، بحيث تصدرت سوريا قائمة الدول الأكثر فقرا بالعالم، بنسبة بلغت 82,2 في المئة وصار 90 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وبات أغلبهم يعيش على الحوالات الخارجية للمغتربين المقيمين في الخارج.

يعتبر وضع اللاجئين السوريين في تركيا الأفضل نسبيا، مقارنة بنظرائهم في لبنان والأردن والعراق، فهم يتمتعون بـ«حماية مؤقتة» تسمح لهم بالحصول على الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية، لكنّ هذه الأوضاع «المؤقتة» عانت من أنواع من التوتّر لعبت فيه الحملات السياسية المنظمة دورا، ولم يقتصر الأمر على «حزب النصر» المعادي صراحة للسوريين، بل صار الأمر موضوع مزايدة بين كل الأحزاب السياسية، فتعهد حزب الشعب الجمهوري المعارض بإعادة جميع السوريين إذا انتخب، وواجه حزب «العدالة والتنمية» الحاكم هذه الدعوات بمشروع «إعادة توطين» لإعادة مليون سوري.

مع استمرار ارتفاع رقم قتلى الزلزال في تركيا يفترض كثيرون أن عددا كبيرا منهم كانوا من اللاجئين السوريين، ويمثّل الزلزال كارثة كبرى جديدة تحلّ بهم، وتشير مجموعة من الأخبار إلى مظاهر عديدة للكارثة، من قبيل صعود مد الكراهية ضدهم، رغم الكارثة المزدوجة التي يعانونها، واضطرار البعض ممن فقدوا بيوتهم وأشغالهم للعودة إلى سوريا.

من جهته، استقبل رئيس النظام السوري بشار الأسد، الكارثة بسعادة ظاهرة، فهذه الكارثة الجديدة أدت لوقف العقوبات الأمريكية والأوروبية لمدة ستة أشهر، وتلقّيه اتصالات شخصية من العديد من الزعماء العرب، وارتفاع دعوات التطبيع معه، ووصول شاحنات المساعدات، التي لاحظ السوريون، بأسى، بيعها في الأسواق، أو توزيعها على الموالين، بل إن بعض من طالبوا بحصتهم من المساعدات تم اعتقالهم!

بدا الأمر، للسوريين، كأن الكارثة الجديدة التي وقعت على رؤوسهم، قد تم استثمارها، وأن الزلزال السريع الذي دفع الأرض بقوة 8 آلاف كيلومتر بالساعة، صار بضاعة جديدة للزلزال المستمر الذي يمثله النظام، والذي ما زال جاثما على صدورهم.

القدس العربي

—————————

فوق الزلزال ضحكة وشماتة بشار/ د. فيصل القاسم

يقول تولستوي: «في مآسي الآخرين وانكسارهم، إياك أن تبتسم، تأدب في حضرة الجُرح. كن إنساناً أو مت وأنت تحاول». لكن ما يسمى «الرئيس السوري» ضرب عرض الحائط بنصيحة تولستوي الشهيرة، ولا شك أن ملايين العرب وخاصة السوريين انتبهوا وانصدموا بالابتسامات المستفزة التي كان يوزعها بشار وهو يزور، وبعد تنبـّه وسمع باليوم الخامس بالزلزال، المناطق المنكوبة في محافظة حلب السورية، وللعلم فإن معظم الأبنية التي سقطت هي التي كانت قد تصدعت سابقاً من القصف البراميلي الذي تعرضت له على يد هذا المجرم، فبينما كان مئات الألوف من السوريين يفترشون العراء في ظروف جوية غير مسبوقة برداً وصقيعاً وثلوجاً وجليداً، وبينما كان الآلاف تحت الأنقاض، أطل بشار برفقة زوجته وهما يوزعان الابتسامات والقهقهات والضحكات العريضة أمام شاشات التلفزيون وكأنهما بالأوسكار أو في حفلة «زار»،، وظهرا في غاية السعادة والتشفي لحدوث هذا الزلزال الذي دمـّر المناطق المحررة وشرّد مئات الألوف من سكانها للمرة الثانية، ففي المرة الأولى حرق بشار وعصابته مدن الشمال بالبراميل المتفجرة بالتواطؤ مع حليفه الروسي الوحشي وهجّر الملايين من بيوتهم، وفي المرة الثانية أكمل الزلزال «معروفه» مع هؤلاء المساكين، مما جعل بشار يتنفس الصعداء ويشعر بالانشراح فما عجز عنه قام به الزلزال، وكأنه يقول في سره: لقد أراحني الزلزال من استخدام الطائرات والبراميل لحرق ما تبقى من مناطق المعارضة. وللعلم هذا الكلام ليس مجرد افتراء مطلقاً على ما يسمى برئيس سوريا، فقد ردد شبيحته على صفحات النظام هذه الجملة عشرات المرات. لقد ظهرت الشماتة في أقسى صورها في منشورات الشبيحة الموالين للعصابة الحاكمة، وكلهم كانوا يقولون: شكراً للزلزال الذي وفر علينا مزيداً من البراميل المتفجرة. ولو لم تكن مخابرات النظام التي لا شغل لها سوى متابعة كل المنشورات على مواقع التواصل لو لم تكن سعيدة بالمنشورات الشامتة بضحايا الزلزال، لكانت قد تدخلت ومنعت كتابة أي منشورات تتلذذ بكارثة الشمال السوري. ولا ننسى أن حكومة النظام سنت قوانين قراقوشية صارمة لمعاقبة أي سوري يكتب منشورات تعتبرها مضرة بما يسمى بالوحدة الوطنية، لكن مخابرات بشار تركت آلاف الشبيحة يفرّغون حقدهم على الأطفال السوريين العالقين تحت الأنقاض أو الذين لا يجدون لقمة الخبز في المدن والقرى التي حوّلها الزلزال قاعاً صفصفاً. ولطالما قرأنا منشورات تقول: إن الزلزال جاء عقاباً للإرهابيين في الشمال السوري أو داخل تركيا. تصوروا أنهم يعتبرون أكثر من تسعة ملايين لاجئ سوري موزعين بين شمال سوريا والمدن التركية إرهابيين. وعندما حاولت بعض فرق المتطوعين اللبنانيين دخول سوريا عن طريق مدينة حمص لإغاِثة المنكوبين أوقفتهم أجهزة الأمن السورية ومنعتهم من التوجه إلى المناطق المنكوبة وقالت لهم حرفياً: «هؤلاء إرهابيون دعوهم يموتون، أنتم ما خصكم» وهذا ما أكده، حرفياً، فيصل المقداد وزير خارجية بشار الأسد في مقابلة متلفزة.

هل عرفتم الآن لماذا كان بشار وزوجته في غاية النشوة وهم يزورون المناطق المتضررة في حلب بروح احتفالية بعد خمسة أيام على الكارثة، نعم بعد خمسة أيام؟ قارنوا بين تصرف الرئيس التركي أردوغان الذي بدا في غاية الحزن والتأثر والألم وهو يزور الولايات التركية المنكوبة هو وكل وزرائه ومسؤولي الحكومة الكبار والصغار دون استثناء، وبين بشار الذي ذهب إلى حلب لالتقاط صور السلفي، كالمراهقين، ونجمات «التيك توك» المتصابيات مع شبيحته والمارة في شوارع المدينة والاستمتاع بهتافات المطبـّلين والمزمـّرين المأجورين، ولا عجب في ذلك، فلا يمكن أن تتوقع ممن قتل وشرد وعذب واعتقل أكثر من نصف الشعب السوري أن يهتم بمحنة آلاف المنكوبين في كارثة الزلزال، ويظهر ذرة من التعاطف والمواساة والعزاء معهم. وحتى المعونات العربية والدولية التي وصلت إلى سوريا عبر النظام لم يصل منها شيء لا لمناطق المعارضة ولا حتى للمناطق المنكوبة التابعة للنظام بشهادة الشبيحة أنفسهم، فقد اشتكى كثيرون من أنهم شاهدوا بأم أعينهم المعونات العربية وهي تباع في الأسواق السورية بأسعار خيالية بدل إيصالها إلى مستحقيها، وتحفل صفحات السوشال ميديا بآلاف الصور لتلك المواد الإغاثية معروضة للبيع بشوارع المدن المنكوبة، وامتلأت صفحات تلك المواقع بصور قناني الزيت والحليب والبطانيات التي تملأ الأسواق والأرصفة في العديد من المدن السورية. من المسؤول عن المتاجرة بالمساعدات العربية في الأسواق السورية؟

أليس القصر الجمهوري ومخابراته التي لا يطير طير إلا بأمرها ومعرفتها وموافقتها؟ لماذا باعوها بدل توصيلها للمحتاجين؟ هل يعقل أنهم يتاجرون حتى بقوت ضحايا الزلزال؟ نعم هذا صحيح، وليس جديداً أن تتاجر هذه العصابة الحاكمة بالخراب والدمار. وقد اعترف بشار في أحد لقاءاته دون خجل إن قيمة الليرة السورية تدهورت أمام الدولار بعد أن خرجت العصابات الإرهابية من سوريا، لأن تلك العصابات كانت تحصل على ملايين الدولارات من الخارج مما كان يساهم في دعم سعر الليرة السورية ويحرك الاقتصاد. قال بشار هذا الكلام وكأنه يتحسر على وقف الحرب لأن الوضع الاقتصادي وقتها كان أفضل من اليوم بكثير بعد أن توقفت الحرب ولم تعد تدخل الدولارات إلى سوريا. يبدو وكأنه يحن إلى تلك الأيام الخوالي التي كانت تدعم ليرته واقتصاده. واليوم يبدو أن بشار وعصابته تنفسوا الصعداء وشعروا بالارتياح الشديد بعد الزلزال، لأنه جلب لهم مساعدات مالية وعينية كبيرة ساعدت في إنعاش الاقتصاد والليرة. وفعلاً لأول مرة منذ سنوات ارتفع سعر الليرة مقابل الدولار بسبب تدفق ملايين الدولارات إلى الخزينة. باختصار هذا نظام لا يعيش ولا ينتعش إلا على الخراب والدمار والكوارث مثله مثل محلات دفن الموتى.

والأنكى من ذلك أن الطاغية الذي سلطه مشغلوه على السوريين بدل أن يفعل ما فعله أردوغان بالتخفيف من كارثة السوريين وتقديم الوعود لهم بإعادة بناء منازلهم التي دمرها الزلزال أو تقديم مبالغ عينية، راح يتهم الغرب بأنه يفتقر للإنسانية، ويا سلام عليه وعلى إنسانيته وهو يرقص طرباً، ويتمايل جزلاً، ويوزع ابتساماته وهو يتجول بين الأنقاض. تصوروا أن بشار يحاضر بالإنسانية. ونحن للأمانة نتفق معه في هذه الجزئية، فالغرب فعلاً لا يمتلك أي ذرة إنسانية لأنه ترك طاغية الشام على مدى اثني عشر عاماً يذيق السوريين شتى أنواع القتل والإجرام والاعتقال والتهجير بالملايين دون أن يرف له جفن. نعم الغرب بلا إنسانية لأنه وقف يتفرج على جرائم بشار بحق شعب كامل دون أن يحرك ساكناً.

لقد تكوّن لدى السوريين جميعاً، وخلال عقدين ونيف من الزمن، تصوراً كاملاً وشبه تام عن طبيعة هذا الشخص النرجسي وعلله النفسية، وبات الجميع يدرك مدى حقده، وحقد أبيه المتأصل ضد أهل سوريا الأصليين، ويعلمون مدى عبثه وطيشه الصبياني، وافتقاره لأي قدر من الأدب والحس السليم، لكن أحداً ما، لم يكن ليتصور أو يتخيل، وفي أسوأ الأحوال، أن لديه هذا الكم الهائل من الرعونة والتوحش والاستهتار والاستخفاف بحياة البشر ومآسيهم وأرواح البسطاء والسكان الآمنين لتبلغ به الوساخة والسفالة حد الشماتة والتشفي والقهقهة وتوزيع الابتسامات ورائحة الدم واللحم البشري حواليه، وهو يرى أمام عينيه أطفالاً ونساء وشيوخاً وآدميين يئنون ويصرخون وينازعون تحت ركام الأبنية التي كانت قد تضعضعت سابقاُ من براميله ومن براميل صديقه مؤسس عصابة فاغنر «أبو علي بوتين» الروسي.

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

————————–

هل نلوم الزلزال أم مباني «سيستم يوك»؟/ وائل عصام

عام 1999 وعقب زلزال أزميت المدمر في تركيا، كان الرئيس الحالي أردوغان في معسكر المعارضة، وخرج بتصريح يتحدث فيه عن أن (الزلزال لا يقتل، بل المباني هي التي تقتل)، في إشارة للأبنية غير المطابقة لمواصفات المناطق المعرضة للزلازل. تدور الأيام، ليقول الرجل نفسه لإحدى السيدات الناجيات من الزلزال «إنه القضاء والقدر» ويتحدث مطولا للإعلام عن قوة وهول الزلزال، قبل أن يقر لاحقا بضعف الاستجابة الأولية للحكومة ويتحدث بصراحة عن المباني المخالفة للمواصفات.

لقد كان التركيز على تضخيم قوة الزلزال وعدد القنابل الذرية التي توازيه، وما إلى ذلك من الحديث عن القضاء والقدر، محاولة لتبرير القصور الحكومي في معالجة آثاره من جانبين، الأول هو الاستعدادات المحدودة، وتأخر وصول فرق الإغاثة للمحافظات المنكوبة جنوبا، التي بدا أنها لم تنل النصيب الكافي من التجهيز والإمكانيات مقارنة بإسطنبول، أما العامل الثاني وهو الأهم، فضعف الرقابة الحكومية والبلدية على البناء، والمقاولين، وانتهاج سياسة حكومية تعرف «بالإعفاءات الإنشائية» تعفي أصحاب الأبنية من تحقيق شهادات وشروط السلامة «اكواد البناء» مقابل دفع رسوم مالية! بلغ عدد المباني في محافظات الجنوب التركي التي أعفيت من شروط السلامة 75 ألف مبنى، ويسري هذا القانون منذ الستينيات، أي أن حكومات أحزاب المعارضة الحالية والسلطة تتحمل قدرا متساويا من المسؤولية عن هذه السياسة، رغم أن القوانين تم تشديدها منذ 1999 بعد زلزال أزميت المدمر.

لقد كانت المباني المغشوشة أو المبنية وفق مواصفات غير مطابقة لشروط السلامة هي المتسبب الرئيسي في أعداد الضحايا المؤلفة، وليس قوة الزلزال، ويكفي النظر للأحياء المتأثرة بالزلزال في إنطاكيا ومرعش لنرى بناء منهارا وإلى جانبه مباشرة بناء لم يتأثر بالزلزال، لأن هذا مبني ضمن المعايير وذاك لا، صحيح أن المباني التي لم تنهر تصدعت وتشققت، لكن المباني المتصدعة لم تقتل ساكنيها، المباني والعمارات التي انهارت فقط هي التي قتلت ساكنيها، ولو نظرنا لإنطاكيا مثلا من الأعلى، لوجدنا أن نسبة المباني الصامدة أكثر بشكل جلي من تلك المهدمة، أي أن الزلزال لم يدمر المدينة بالكامل بل المباني الضعيفة فيها، وطبعا في حالات مثل بلدة نورداغ قرب مرعش نسبة الدمار والتصدعات فيها عالية جدا، كون نسبة مبانيها المغشوشة من مقاولين فاسدين عالية، كما أنها قريبة جدا من مركز الزلزال. في حالات كثيرة دفع أصحاب الأبنية رشاوى في إنطاكيا لموظفين في البلدية «التابعة للمعارضة في السنوات الأخيرة» من أجل تأجيل تنفيذ قرارات هدم صدرت بحق مجمع في منطقة المزرلك في إنطاكيا، وبعدها بشهور انهار المجمع وقتل ساكنيه في الزلزال، وفي حالات أخرى دفعت رشاوى من أجل بناء طوابق إضافية لا تتحملها الأساسات. وهكذا بدأت تداعيات قضية البناء تتفاعل، وباتت محور النقاشات في تركيا، حاول الكثير من المقاولين الهرب واعتقل العشرات منهم، أعيد بث عشرات التصريحات لمسؤولين وعلماء جيولوجيا أتراك يحذرون من خطر قانون الإعفاءات الإنشائية، منها كلمة لنائب في حزب الشعوب الديمقراطي يقول فيه عام 2018 في جلسة للبرلمان التركي «عندما تنهار تلك المباني في زلزال، سيفقد الآلاف من مواطنينا حياتهم»، وخرج اليوم وزير العدل التركي ليعترف أيضا، ولو بعد فوات الأوان، بدور البناء الفاسد في زيادة الضحايا، واعلن قائلا: «سنحاسب الذين أهملوا في معايير البناء وتسببوا في زيادة أعداد ضحايا الزلازل ويخضع الآن 255 مقاولاً للتحقيق». علماء وخبراء دوليون تحدثوا في تحقيقات لصحف غربية كـ»التايمز» و»بي بي سي» عن هذه القضية، ونقلوا عن بيان صدر قبل أسابيع من الزلزال من اتحاد المهندسين والمعماريين في تركيا حذروا فيه من أن «تركيا فشلت بالتحضير للاحتياجات المطلوبة قبل الهزة، وأن المشرفين على البناء تعاملوا مع المعايير على أنها مجرد ورق»، ويقصد هنا بالمعايير الجديدة تلك التي أقرت بعد زلزال عام 1999في تركيا، والتي يعتبرها البروفيسور ديفيد ألكسندر الخبير في التخطيط وإدارة الطوارئ في يونيفرسيتي كوليدج لندن: أنها كانت كفيلة بحماية الأرواح من الزلزال، ويقول: «كانت أقصى شدة لهذا الزلزال عنيفة ولكنها ليست كافية بالضرورة لهدم مبانٍ جيدة التشييد». وتابع: «في معظم الأماكن، كان مستوى الاهتزاز أقل من الحد الأقصى، لذلك يمكننا استنتاج أن جميع تلك المباني التي انهارت ويُقدر عددها بالآلاف لم تتماش مع أي كود بناء معقول خاص بالزلزال». ويشرح خبير ياباني عمل في تركيا لسنوات معنى التقيد بـ»اكواد البناء»، ويقول موريواكي يوشينوري رئيس مكتب تركيا لشركة الإعمار اليابانية «هازاما أندو كوربوريشن»، إن «معايير الهندسة التركية لمقاومة الزلازل هي المعايير اليابانية نفسها، ولكن هناك مشكلة في تطبيقها، ويضيف أن الحكومات التركية الحالية والسابقة، استحدثت برنامجا لمنح عفو للشركات والأفراد الذين ينتهكون أكواد البناء طالما أنهم يدفعون غرامة». ويذكر المعماري الياباني أن «عمليات التفقد من قبل السلطات قبل وبعد أن تبدأ أعمال التشييد متساهلة، وأن المهندسين غير الخبراء يمكنهم أن يصبحوا مؤهلين لأن يكونوا خبراء تصميم وتشييد». وأكد أن «أكواد البناء» وإجراءات أخرى قد عدلت في تركيا بعد زلزال عام 1999، ولكن الأضرار هذه المرة كانت بالقدر نفسه. لقد طوع الإنسان بالعلم والمعرفة الطبيعة، وأوجد حلولا لمواجهة ما يهدد حياته من الأمراض والكوارث الطبيعية، فاخترعت الأدوية واللقاحات ووضعت اسس هندسة البناء لمواجهة الزلازل، وهكذا فإن ضعف الادارة وسوء التدبير هو ما يقود للتهلكة وليس الزلازل والقدر، ان الفساد زلزال صامت.

كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

القدس العربي

—————————

تركيا الشاحبة: زلازل ويوميات لاجئين وزعيم صامت/ محمد تركي الربيعو

تبدو أحيانا كتب ونصوص اليوميات مفيدة في أكثر من جانب. فهي، وإن كانت لا تعكس بالضرورة الحقيقة التاريخية، لكنها تمتاز بقدرتها على تقريبنا أكثر من رائحة الأجواء التي كانت تحيط ببعض الأحداث، وكيف صوّرها الناس العاديون، ولاسيما الأحداث الكبرى. وعلى هذا الصعيد، عادة ما تمتلئ كتب التاريخ الرسمية بالمداولات والنقاشات والمعارك، بينما لا نعثر في المقابل على فهم يوميات شخص عادي، وكيف انعكست الأحداث على حياته اليومية. وفي هذا السياق، ستحاول هذه المقالة تدوين تفاصيل بسيطة، لعلها غير مهمة كثيرا، عن يوميات كاتبها (لاجئ سوري في إسطنبول) خلال الأسبوع الأول من وقوع زلزالين ضربا عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا، وأوقعا آلاف القتلى والمفقودين إلى هذه اللحظة. وربما ما دعانا إلى كتابتها، الشعور بأنّ نصوص اليوميات توفر قدرة على جمع صور عديدة في متنها، وهو يتيح لكل الصور التعبير عن نفسها، ولأنّ تدوين بعض الملاحظات شكّل فرصة أو فسحة قصيرة للخروج، ومحاولة فهم أو ترتيب العالم اللاعقلاني الذي عاشه السوريون والأتراك إلى وقت نشرها وربما لأيام طويلة.

قبل الزلزال بيوم:

في اليوم السابق للزلزالين اللذين ضربا المنطقة في 6/2/2023، لم يكن أي شي غريب. كان الاستثناء الوحيد والمفرح بدء سقوط الثلوج في إسطنبول وباقي المدن التركية. في العادة، تعيش تركيا منذ رأس السنة في كل عام موجة من البرد والثلوج، لكن هذا العام تأخّر قدوم المطر والثلج. ما أثار قلقا لدى الحكومة التي لا تكّف عن نشر صور للسدود وهي جافة. وعلى الرغم من أنّ تقلبات الطقس في تركيا تبدو كما يرى بعض الخبراء مرتبطة بتغيرات مناخية عالمية، لكن بعض اللاجئين السوريين لم يكفوا في المقابل، في ظل شعورهم بالتهميش وأيضا بموجة العنصرية، والخشية من التكلم في المواصلات العامة باللغة العربية؛ من تفسير الجفاف في تركيا بـ«نوايا الأتراك غير البريئة» مع اللاجئين.

ومع قدوم موجة البرد، لم يكن كاتب هذا المقال، أو زملاؤه، يفكرون بشيء عدا عن كيفية عدم الذهاب للمكتب وإكمال العمل من المنزل. ومع قرب الليل، وصلت رسالة متأخرة من المؤسسة تفيد بأنّ الدوام سيكون من المنزل لليوم التالي، ولذلك نمت قرير العين كما تروي الحكايا. في صباح اليوم التالي، ومع سقوط الثلج بكميات كبيرة، الذي ترافق مع رياح شديدة وصلت لخمسين كيلومترا في الساعة، جاء الاستيقاظ متأخرا بعض الشي. وبمجرد أن فتحت شاشة الموبايل حتى بدا وكأنّ شيئا غريبا حدث. رسائل من العائلة والأصدقاء تسأل عني وعن أحوال أسرتي، وأخرى تتحدث عن وقوع زلزال في تركيا. في البداية بدا الأمر طبيعيا، فسكان إسطنبول اختبروا في السنوات الماضية عددا من الهزات الشديدة بعض الشي أو الضعيفة. لكن خبراً آخر سرعان ما كبح استنتاجاتي السريعة، عندما أشار إلى وجود مئات القتلى. مع ذلك، ظلّ الشك تجاه الأرقام وحجم الكارثة يحول دون فهم المشهد بشكل جيد.

بعد ساعات ومع الاستماع أكثر لنشرات الأخبار، كان المشهد ما يزال غير واضح. هناك حديث عن مئات القتلى، وفي المقابل أنباء أخرى تتحدث عن إنقاذ العشرات أيضا. في هذه الأثناء تواصلت مع بعض الأصدقاء في عنتاب وكلس للاطمئنان عليهم، بدا الجميع بخير. وربما هذا ما جعلني أعود للشك ببعض الأرقام، واعتبار ما يجري مبالغات من هول الحدث، وإن كان رقم 7.8 ريختر ظل ينغّص عليّ محاولة التصديق بأنه شبيه بكل الزلازل السابقة.

في نهاية اليوم الأول، عدت للسؤال على أحوال عائلة أحد الأصدقاء، الذي انقطع تواصله بهم، وكان الرد صوتيا «آخر نبأ وصلني أنّ الختيار والختيارة بخير.. لكن لا أعرف شيئا عن أختي وأخي وأولادهما». وهنا شعرت بنبرة توحي بشيء غريب، ولذلك رددت «خير إن شاء الله».

اليوم الثاني: اكتشاف الكارثة

في وقت مبكر من صباح اليوم الثاني، وصلني خبر وفاة قسم من عائلة صديقي (8 أشخاص بينهم اخته وأخاه) وأخذت الشاشات تعرض مشهدا آخر لمدن مثل إنطاكيا ومرعش (تركيا) وجنديريس (شمال سوريا) وهي على الأرض. وكأنّ حربا عالمية كبرى في هذه المناطق قد وقعت وانتهت في اليوم نفسه. لا وجود لعمارة أو حتى دكان صغير. كل شيء منهار، والآلاف تحتها دون من يساعدهم. في هذه الأثناء سيروي لي أحد الأصدقاء ما وصله من إنطاكيا عن وجود الآلاف في الشوارع دون خبز أو مأوى. وعن بدء صعوبة الوصول إلى المدن المنكوبة وغياب الدولة. بدت تركيا القوية، كما يقال عادة على صعيد الخدمات والبنية التحتية، غائبة تماما عن المشهد، ولذلك أخذ الحديث يدور عن فتح المحال التجارية في إنطاكيا وباقي المدن، بهدف الحصول على الطعام من ناحية، وللسرقة أيضا.

اليوم الثالث.. إبادة جماعية

في اليوم الثالث، كان عنوان المشهد يتغير مرة أخرى. فبدلا من قراءة وفاة العشرات هنا وهناك، كان الواقع يتحدث عن مقتل عائلات بأكملها، وعن مصير مجهول لمئات العوائل بعد انهيار مجمعات (وأشهرها مجمع الريزيندس) في مدينة إنطاكيا. لم يعد الأمر مجرد وفاة شخص أو اثنين من العائلة (وهو أمر في حد ذاته يعد فاجعة) بل غدونا نتحدث عن مشهد «إبادة جماعية» والجاني هي الطبيعة هذه المرة. أخذ هذا الواقع ينعكس على واقع مكتب العمل الذي أعمل فيه. كارثة كبيرة أو لنقل إنه شيء لا يمكن وصفه، وهذا ما أخذت التمسه من وجوه العاملين في المكتب، وبالأخص الزميل المشرف على مراقبة الدوام والأمور الإدارية. بدا لي يومها ساكنا على غير عادته. حتى أسلوبه الجاف في السلام، تحول إلى شيء من السكينة. لم يبدُ ممتعضا من التأخر في الوصول للعمل، وهو امتعاض عادة ما نتلمسه في ملامح وجهه التي تخونه في الغالب. الكل جالس خلف شاشات اللابتوب، ويراقب بصمت وخوف ودهشة ما يجري. هل نحن أمام فيلم، أو ضربة كيميائية؟ أم أمام شيء آخر ترك كورونا وكل مصائب العالم خلفه وسبقهم بوحشيته؟

لن يقتصر الخوف على هذا الجانب، فالنقاشات تدور حول ماذا لو كان الحدث في إسطنبول المهددة بزلزال مدمر. قلق في المقابل من انهيار البنايات (12000 بناية كما قيل في الأيام الأولى) خاصة أن البعض منا يسكن في طوابق عالية، خاصة في ظل عدم الشعور بالثقة بعد اليوم بأساسات عماراتنا، أو أي مجمع آخر في تركيا (سواء بني قبل 1999 أو بعدها). فالزلزال سرعان ما كشف عن وجود فساد كبير في مخططات آلاف الأبنية والمؤسسات التي تدير بلديات بعض المدن التركية. عمارات قديمة صمدت، مقابل أبنية حديثة سقطت كالملح. وهنا أخذ الحديث يتناول واقع تركيا في السنوات الأخيرة وانتشار الفساد والمحسوبيات، وفي هذه المناسبات لا بد أنّ يطل ابن خلدون برأسه كالعادة، فهو دليل العرب المفضل (رغم المراجعات العميقة الناقدة له) عند الحديث عن سقوط الحضارات وبدء زوالها جراء التخمة التي أصابت نخب الدولة، لكن هذا الحديث الجانبي لم يكن يصمد كثيرا أمام عدد الفيديوهات التي كانت تصل في كل لحظة، بالتوازي مع انتشار مئات الصور لمعارف ومصورين وأطفال مفقودين أو توفوا جراء الزلزال.

في ليلة اليوم الثالث والرابع، بدا النوم صعبا، في ظل الخوف من حدوث زلزال آخر في إسطنبول. وفي الوقت ذاته استوقفتني قليلا بعض الصور التي نشرت للرئيس التركي طيب رجب أردوغان، الذي وصل المنطقة المنكوبة في اليوم الثالث هو وفريقه ومؤسسات الدولة، بعد أن عجزت طائرات الهيلكوبتر التركية عن إسقاط أرغفة خبز وبطانيات لمن تبقى من أهل المدن المنكوبة في ظروف قاسية، لكن أردوغان الذي ظهر في السنة الأخيرة وهو يلعب مع مجموعة من الشباب كرة سلة، ظهر غير قادر هذه المرة على تحريك أي شيء، فالرجل بدا متعبا للغاية، مصدوما بما شاهد. وفي مقطع آخر ظهر وإلى جانبه سيدة تركية تتمسّح ببدلته، ولا أخفي أنه في هذه اللحظة قفز إلى ذهني الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي، الذي تحدث عن السلطوية في العالم العربي رابطا إياها بانتقال طقوس صوفية من عالم الدين إلى عالم السياسة (الدنيا) وكيف أنّ الحاكم غدا أقرب للإمام المبروك، الذي لا يقترب منه إلا للتبرك وطلب الرحمة. وفي هذا المقطع، أخذت السيدة تطلب من إمامها (الرئيس أردوغان) الدعاء لها، مع ذلك جاءت إجابته مختصرة على غير العادة (أدعو لك ضعفين). وظل الرئيس التركي يفضل الصمت على الحديث، شاحب الوجه، كأنه قد كبر عشر سنوات خلال يوم واحد.

بالتوازي مع هذا الواقع، ظل المشهد في الشمال متروكا دون جدوى، كل ساعة تظهر القنوات التلفزيونية المعابر وهي فارغة، ثم تقفز من جديد بين جنديريس وإنطاكيا. ولا شيء في الأفق يوحي بتغير الأحوال، وكلّ (تركيا، النظام السوري، الأمم المتحدة) يرمي بالتهمة على الآخر.

اليوم الخامس.. صلاة الزلزال

كانت القوانين في تركيا قد تغيرت في السنوات الأخيرة لصالح إعطاء عطلة ساعية لمن يرغب في الالتحاق بالجامع. وعلى الرغم من أنني غير مواظب على الصلاة وارتياد الجوامع، لكن هذا لا يعني أنني ملحد في المقابل. لكن في الأشهر الأخيرة بات موعد صلاة الجمعة بالنسبة لي فرصة للخروج من المكتب لساعة من الزمن، وأيضا لمرافقة الأصدقاء نحو المسجد القريب سيرا على الأقدام، للحديث وتبادل النكت عن العمل ومشاكله، ولأنّ الجمعة جاءت هذه المرة بعد الإبادة التي شهدتها جنوب تركيا وشمال سوريا، توقعت أن تكون خطبة الصلاة مختلفة. عادة ما كانت الخطبة في تركيا تكتب على ورقة صغيرة، وهذا ما كنا نراه في بداية قدومنا للبلاد 2013، قبل أن تتطور أجهزة الموبايلات، ليصبح معظم الخطباء يقرؤون الخطبة المرسلة عبر الواتس آب من خلال أجهزتهم، لكن ولأنّ البلد في أزمة، فقد توقعت أنّ يكون الوضع مختلفا، وهذا ما تعودناه مثلا في سوريا. فعلى الرغم من أنّ موضوع الخطبة كان يعد سلفا، إلا أنه في بعض الأحداث، كان بعض خطباء دمشق ينتهكون بعض القواعد، كما أنهم يكثرون من الاستعانة بقصص الأنبياء والصحابة، وبصوت جهوري وأداء خطابي مسرحي يثير الحماس في نفوس المصلين. إلا أنّ هذا المشهد غاب تماما عن اللاجئين السوريين في تركيا، فالخطيب عادة يقرأ بطريقة سريعة ويبدأ خطبته بذكر موضوع الخطبة من خلال آية قرآنية، وحديث نبوي يدلّ على الموضوع، ثم ينتقل للحديث بالتركية. ولذلك حاولت بعض الجماعات الدينية السورية في حي الفاتح في إسطنبول، إقامة الصلاة في أماكن خاصة بهم، بما يضمن الحفاظ على طقوس صلاة الجمعة في سوريا مقارنة بالطقوس التركية. وبالعودة لخطبة جمعة ما بعد الزلزال، لم يكن هناك أي تغيير، باستثناء تمديد فترة الدعاء لمدة دقيقة إضافية، بل إنّ الخطيب بدا وكأنه مسرع في تلاوتها هذه المرة، خوفا ربما من شائعة تقول بقدوم زلزال قوي إلى إسطنبول هذه الأيام، أو لأنّ هذه الرتابة تعكس أيضا عدم مرونة المؤسسات التركية، وهذا ما لاحظه الكثيرون مع الأزمة، أو عدم حيوية الشخصية التركية وفق تعبير بعض اللاجئين.

نازحون وطباخون:

في اليوم السادس والسابع، كانت الأنظار تتجه هذه المرة إلى موجة النازحين من المدن المنكوبة، فبعد أن يئسوا من انهيار الحياة في مدنهم، وعدم القدرة على انتشال جثث أولادهم وأقاربهم، توجه من تبقى من اللاجئين السوريين إلى مناطق أخرى قريبة من منازلهم المهدمة مثل كلس ومرسين وماردين، أو مدن بعيدة وبالأخص في وسط تركيا على خط قونيا أنقرة إسطنبول. وهذا ما قد يعني في حالة طول فترة إعادة إعمار المدن المنكوبة، ولادة خريطة توزع جديدة للاجئين السوريين تختلف عن الخريطة السابقة. كما أنّ هناك من عاد من المناطق المنكوبة بعد محاولة تقديم الخدمات، وهنا أخذنا نستمع لقصص غير معقولة، مثل قصة شاب طلب من المنقذين تقطيع يدي اخته ليتمكنوا من فك الابن الرضيع الحي، والذي كتبت له الحياة بعد بقائه في حضنها. يروي لنا صديق آخر وهو ينوح عند انتشاله لقطعة لحم من جسد ابنة عمه المتوفاة أثناء محاولته سحبها للخارج. وإلى جانب هذه المشاهد المرعبة، تناول الحديث في إسطنبول ظاهرة غابت منذ سنوات وعادت اليوم، وهي قصة وجود شبكات سورية تعمل على تأمين منازل للمتضررين، وبالمجان، من خلال الحصول على تبرعات من الخارج، لكن ذلك لم يمنع أصحاب المنازل من التلاعب بأسعار الايجارات. ولا ننسى في هذا الشأن ظاهرة الطباخين السوريين أو حتى الأتراك، الذين ظهروا مع أول أيام الزلزال أكثر فاعلية من مطابخ الحكومة التركية ومؤسساتها. وهذا ما قد يطرح تساؤلا إن بات هؤلاء الطباخون (سواء السوريين أو الأتراك) ويوتيوبرز يعكسون شكل وواقع الدولة في الشرق الأوسط. ففي ظل غياب الدولة المؤقت، أو لنقل استمرار أساليبها التقليدية في الرد على الأحداث، بدا العشرات من هؤلاء الأفراد والمجموعات الخاصة أكثر فاعلية وقدرة على التحرك عبر الحدود (جمع مساعدات) وكأنّ الحدود الدولية معهم أصبحت أكثر سيولة في الأيام الماضية، مقارنة بالمساعدات الأممية التي تحتاج لألف بروتوكول وبروتوكول.

رائحة جارتنا أم أيمن:

لكن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد، فمع مرور الأيام الخمسة الأولى، بدت جارتنا التركية تبدي موقفا أكثر عنفا تجاه السوريين، مقارنة بما عرفناه عنها. فطالما عهدنا من هذه الجارة (أم ايمن/ تلفظ ايمين في تركيا) الابتسامة، وعدم التفريق بين ابنتي وابنها مثلا. لكنها ظهرت في الأيام الأخيرة على صفحاتها الاجتماعية بشكل آخر. فقد أخذت تدعو إلى طرد السوريين والأفغان من البلاد، بعد قرار بإخلاء مساكن الطلاب في جامعة مرسين لتقديمها للمتضررين، لكن الأمر لن يتوقف عند الجارة، إذ ظهر الزلزال وكأنه قد فتح شقوقا أوسع للخطاب العنصري لتعم رائحته كل مكان في تركيا. وليعبر عن نفسه بشكل أوضح من خلال هتافات مشجعي نادي بشكتاش التركي في كهرمان مرعش المنكوبة الذين نادوا: «لنضرب السوري بالرصاص فقد انتهى السلام» وهو هتاف وإن كان لا يعكس بالضرورة موقف جميع الأتراك، إلا أنّ تعليقات جارتي وفريقي المحلي المفضل بات يعكس بالنسبة لي مزاج شريحة واسعة من الأتراك في البلاد.

يحتار كثيرون في أمر تركيا اليوم، وهناك من يحاول الربط بين ما جرى قبل أيام وزلزال 1999، وربما ما يعقّد من الوضع اليوم، أن تركيا الحالية غير تركيا 2010، في ظل أزمة اقتصادية تعيشها بعد كورونا. وهي أزمة يبدو أنها ستتعقد في الأيام المقبلة في ما يتعلق بمدى إمكانية اجراء انتخابات بعد ثلاثة أشهر أم لا، ومستقبل الحزب الحاكم في حال أجريت. وهنا قد يطرح تساؤل، هل فعلا مشهد تركيا اليوم قريب من مشهد 1999، أم أنها في ظل ما تشهده داخليا من حروب كلامية سياسية، واقترابها من محاور أخرى غير غربية (روسيا) وتفتت الدول المحيطة حولها، وتفشي رائحة العنصرية في أجوائها، وانهيار مدن وبلدت بأكملها جراء الزلازل، في ظل خزينة فارغة، وزعيم سياسي فضّل الصمت على الكلام في الأيام الأخيرة، تعيش شيئا قريبا من لحظة ما بعد الحرب العالمية الأولى؟

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

عن أخبار الزلازل التي توالت على حلب/ فيصل خرتش

جاء في كتاب كامل الغزّي بعنوان “نهر الذهب في تاريخ حلب”، الصادر بطبعة جديدة عام 1993 عن “دار القلم العربي”، أنّ زلزالًا عظيمًا ضرب مدينة حلب في 19 من شهر صفر من عام 1170هـ، تلته زلازل ارتدادية آذت مدينة حلب، وهدمت حصونًا في حمص، وحماة، وكفر طاب، وأفاميا.

لم يسلم من عطب هذا الزلزال في بلاد الشام إلا النادر. ضربت الكارثة بشكل أساسي حماة وحلب، وكانت تتبعها صيحات مختلفة، كالرعود القاصفة. هلك في الزلزال كثير من الخلق، وقُدِّرت الأعداد بـ 10 آلاف ضحيّة. وذكر كامل الغزّي أيضًا أنه في صبيحة يوم الخميس، العاشر من شعبان من سنة 1424، زلزلت حلب مرّة أخرى، وخُرِّبَت كثيرٌ من الأماكن والمساجد. وفي الثالث من جمادى الأولى من العام نفسه، وتحديدًا يوم الجمعة، ضرب زلزالٌ حلب وخرّب كثيرًا من الأماكن والمساجد، حتى تضرّع الناس خوفًا إلى الله.

وفي ليلة الأربعاء، في الأول من أغسطس/ آب سنة 1821م، زلزلت الأرض زلزالًا شديدًا، امتدّ حكم سلطانه الرهيب إلى مسافات بعيدة عن حلب، وانتهت حدوده شمالًا إلى مرعش، وجنوبًا إلى حمص، وشرقًا إلى الفرات، وغربًا إلى لواء إسكندرون، وكان أعظمها مصيبة به وأشدها نكبة وبلاء مدينة حلب، ثمَّ أنطاكية.

حدثني شيخ عن أعظم الحوادث التي آذته في حياته، فأجاب: كانت في ليلة الزلزلة الكبرى، بينما كنت جالسًا في مصيف داري مع جماعة من خلاني، إذ انقطع عنا النسيم الذي كنا نتمتع به بغتة، واشتد الحرّ حتى شعرنا بضنك في صدورنا، وضيق في أنفاسنا، وما مرَّ علينا سوى نحو عشرين دقيقة إلا وسطع في الفضاء ضوء أشرقت به الدنيا كأنه نافذة من نوافذ جهنم، وتلا ذلك دويٌّ كهزيم الرعد، وإذا بالأرض قد مادت بنا يمنة ويسرى، ثمَ انتفضت الأرض أربع مرات متوالية أزاحتنا عن مقاعدنا، فنهضنا على أقدامنا، وما من أحد إلا وقد أحس بدنوّ أجله، كأنَ السماء وقعت عليه، أو الأرض كادت تنخسف تحت قدميه. فصرنا نكرر الشهادتين ونضرع لله تعالى. الجدران تتداعى، وتخر السقوف، وتتساقط الحجارة على الأرض فيسمع لها جلبة ودوي تقشعر منهما النفوس. وقد اشتدّ غواش الناس وضجيجهم يستغيثون بالله، وعلا صراخ النساء وعويلهن، وطفقت الخلائق إلى الصحراء وهم يتدافعون ويتراكضون في الشوارع والأزقة هائمين على وجوههم.

لا يلوي والد على ولد، كلهم يهرع مهرولًا إلى ساحل السلامة يطلب النجاة لنفسه، حتى كأن القيامة قد قامت، وأذن حبل الحياة بالانصرام، وكان القتام شديدًا، حلك منه الظلام، وحجب النجوم عن العيون. أما أنا فقد كان أهلي جالسين في صحن الدار، وكانت الدار التي أسكنها فسيحة وجدرانها قصيرة، لم يؤثر فيها الزلزال، ولا انهدم منها شيء، والجماعة الذين كانوا يسمرون عندي أسرعوا الكرّة إلى منازلهم ليتفقدوا أهلهم، وبتنا ليلتنا في قلق زائد، لأن الأرض كانت ترتجف وتختلج، ونحن نستغيث بالله ونتعوذ من سخطه، فلما طلع الفجر أحضرنا جماعة من العتالين فحملناهم من البيت ما يسد حاجتنا وخرجنا بهم إلى أحد البساتين، وكان الناس قد خرجوا في الليل، وبات أكثرهم على الأرض بلا غطاء ولا وطاء، واستمر الزلزال نحوًا من أربعين يومًا، تارة خفيفًا، وأخرى شديدًا.

وحين حدوث الزلزلة الأولى كان أكثر الناس على أسطح المنازل، وفي فسحات دورهم، جريًا على عادتهم في موسم الصيف، فسلم عدد كبير منها، ومع هذا فقد مات تحت الردم زهاء خمسة عشر ألف نسمة. كان الناس يتكبدون مشقة في الحصول على الأقوات، وكان المتشردون يقصدون الدور والمنازل وينهبون ما فيها، فاضطر الأهالي إلى وضع الحراس عليها، وكانت جماعة الحكومة، كالوالي، والقاضي، قد تركوا منازلهم وأقاموا في البرية تحت الخيام وبيوت الخشب، وشغلهم الخوف والفزع عن القيام بوظائفهم، فاختل نظام الحكومة، وكثرت حوادث النهب والسلب.

أمّا جثث القتلى فقد أخرجوها ودفنوا أصحابها بثيابهم، واستخرج بعضهم الذين كان فيهم رمق من الحياة فعاشوا، ومنهم من مات بعد ساعات. والذين خرّت عليهم السقوف ظلوا أحياء لم يصابوا بشيء، أما الفقراء فقد بقي قتلاهم مدفونين تحت الردم، فكانت هناك قبورهم إلى الأبد، وكانت الأرض في هذه المدة لا تنقطع حركتها، إذْ كان الناس يحسّون من وقت إلى آخر برجفات تحت أقدامهم!

ضفة ثالثة

———————-

حلب:منكوبو الزلزال يعيشون في المقابر..والدولة ليس لديها بدائل سكنية/ منصور حسين

رغم حجم المساعدات الضخم الذي تلقاه النظام السوري خلال الأيام الماضية، وتأكيداته على تأمين مساكن للمتضررين من الزلزال الذي ضرب مناطق سيطرته، إلا أن عدداً كبيراً من العائلات لا يزال تعيش في المقابر، في ظل غياب المؤسسات الرسمية المعنية بتقديم المساعدات للمنكوبين، ما يجعلهم عرضة للأمراض والأوبئة.

وبينما كان رئيس النظام السوري بشار الأسد يتحدث في كلمة مسجلة نشرت ليل الخميس، عن تأمين مؤسساته بدائل سكنية للمتضررين من الزلزال، كانت عشرات العائلات التي فقدت مساكنها أو من تم إجلاؤها من منازلها من قبل فرق الكشف الهندسية (لجان السلامة العامة) في مدينة حلب تفترش المقابر.

الحلبيون يفرون إلى المقابر

ونشرت صفحات محلية موالية صوراً وتسجيلات مصورة لعشرات العائلات المشردة من رجال ونساء وأطفال، يقيمون في مقبرة حي الصالحين جنوب مدينة حلب التي تحولت إلى ملاذهم الوحيد بعد تركهم من قبل مجلس المحافظة والمؤسسات الإغاثية من دون بدائل سكنية.

حلب مقبرة حي الصالحين منكوبي الزلزال

وناشد ناشطون موالون المؤسسات المعنية بتقديم المساعدات، للالتفات إلى أوضاعهم، خصوصاً وأن معظم هذه الأسر تعيش تحت أغطية حوّلوها إلى خيام من خلال ربطها بشواهد القبور، وفرشوا بعض الأقمشة البالية تحتهم للحماية من الصقيع.

وأشار الناشطون إلى ضرورة توفير الاحتياجات الأساسية من خيام وبطانيات، فضلاً عن مستلزمات الأطفال من حليب مجفف وأدوية وغيرها، إضافة إلى الحاجة الماسة للوقود ووسائل التدفئة بعد أن تسبب انخفاص درجات الحرارة بمرض الجميع.

وكشفت مصادر محلية ل”المدن”، أن أعداد العائلات المقيمة في مقبرة الصالحين تتراوح بين 20 و30 عائلة، جميعهم من سكان المنطقة الذين هرعوا إلى العراء فور وقوع الزلزال ولم يعودوا إليها بسبب تضررها، وآخرين تم إخلاؤهم من قبل فرق الكشف الهندسية الجوالة عن الأبنية المتصدعة.

وتقول المصادر إن بعضاً من هذه الأسر غادرت المقبرة إلى منازل فارغة تعود لأقارب أو معارف لهم بطلب من قسم شرطة الصالحين الذي تدخل فور انتشار المقاطع المصورة، إلا أن الغالبية رفضت الخروج وما زالت تنتظر نقلهم إلى مساكن جديدة، لعدم توفر البديل ووضع إشارات على منازلهم من قبل لجان السلامة العامة على أنها ذات خطورة عالية.

مؤسسات النظام بلا فاعلية

مشاهد الأطفال والأسر بين القبور تطرح تساؤلات حول دور كل من مجلس محافظة حلب ومجلس مدينتها وتعاطيهم مع الكارثة الإنسانية التي أصابت المدينة التي تعتبر الأكثر تضرراً في مناطق سيطرة النظام.

واقتصر دور هذه المجالس على تقديم بعض الآليات خلال الأيام الثلاث الأولى، وإصدار التعاميم والتراخيص لعمل المنظمات والفرق المحلية في مساعدة المتضررين وتشكيل فرق هندسية للكشف عن المنازل الخطرة، وتحديد مراكز الإيواء المؤقت.

لكن مصدراً في مجلس محافظة حلب أكد ل”المدن”، أن المجلس يعاني منذ سنوات، من نقص المعدات وتخفيض مخصصاته من الوقود وغيرها من المصاريف بذريعة الحصار، فضلاً عن نقل الكثير من صلاحياته التي يفترض أن تكون من تخصصه لصالح مؤسسة الأمانة السورية للتنمية، وبالتالي تحوله إلى واجهة خدمية مهمتها تشريع بعض الأعمال وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين بحسب قدراته.

ويشير المصدر إلى أن “الحكومة وحتى اللحظة لم تضع خطة في ما يخص تأمين بدائل سكنية للمتضررين”. ويوضح أن العمل الإغاثي وخاصة المتعلق بإجراءات الاستجابة الطارئة للمنكوبين في الزلزال من صلاحيات الأمانة السورية للتنمية التي تسيطر على هذا المجال بالكامل بصفتها الجهة المخولة باستلام المساعدات الأممية.

الأمانة السورية

ويوضح الاقتصادي يونس الكريم أن تشكيل الأمانة السورية للتنمية التي تديرها أسماء الأخرس، زوجة رئيس النظام بشار الأسد، كان لثلاث أهداف متمثلة بالسيطرة على مؤسسات المجتمع المدني، واستغلال خلفية الأخرس الأوروبية للتحكم بالمساعدات باعتبارها منظمة مدنية، وأيضاً تهيئة المجتمع المحلي للتغيرات السياسية والاقتصادية التي تجري في مناطق سيطرة الأسد.

ويقول ل”المدن”، إن المساعدات التي تقدم إلى سوريا تقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول والأقل للمجتمع المتضرر، والثاني للأجهزة الأمنية وعناصر الجيش والموظفين في الأمانة السورية، ونسبته أكثر من 30 في المئة من المساعدات، والأخير يتم تسريبه إلى السوق لتحويله إلى قطع أجنبي في عملية تدوير ممنهجة.

وبحسب كريم وهو مدير منصة “اقتصادي”، فإن هناك أسباباً لتنازل المجالس والمؤسسات عن الكثير من أعمالهم لصالح المنظمة، تتمثل باستخدام ملف الإرهاب ضد كل من يحاول منافستها، إضافة إلى غياب الدور الواضح لعمل هذه المجالس، بالنظر إلى بيروقراطية العمل التي تربط المجالس بالعديد من الوزارات والأفرع المخابراتية، وبالتالي هذا التعدد يخلق ثغرة كبيرة تتحكم فيها أسماء الأسد فقط.

المدن

——————————

تغيّر دراماتيكي لبناني وعربي.. والأسد إلى الخليج/ منير الربيع

تتقدم سوريا إلى واجهة الأحداث. رهانات لبنانية كثيرة ترتبط بالتطورات السورية. ثلاثة ملفات أساسية يراقب اللبنانيون مساراتها. ملف الزلزال الذي دفع جهات دولية وعربية إلى التضامن مع السوريين، فسارع وفد وزاري لبناني إلى زيارة دمشق ولقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد. ملف الاهتمام العربي بالوضع في سوريا، وسط مساع لإعادة التواصل، وهو ما اختصره كلام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، حين ردّ على سؤال حول زيارته إلى سوريا بالقول: “لا أعلق على شائعات، ولكن هناك إجماعاً عربياً على أن الوضع في سوريا لا يجب أن يستمر هكذا”. أما الملف الثالث، فهو تجدد الضربات الإسرائيلية واستهداف مبنى في منطقة كفرسوسة، وهي منطقة تمثّل عمقاً أمنياً وعسكرياً.

التنافس على سوريا

حتى الآن لا تشير هذه العمليات الأمنية إلى حصول تحول في المسارات السياسية، إذ كل ما يجري هو عبارة عن عمليات أمنية مستمرة بشكل متقطع، لها وظائف تقليدية، ولكن ربما يكون لها تداعيات غير تقليدية. ما يعني أن العمليات تأتي في وقت ضائع، أو في مرحلة ما قبل اتخاذ قرارات أساسية من شأنها أن تقود إلى تكريس وجهات سياسية مختلفة في المنطقة.

هذه الملفات الثلاث تدفع إلى ضرورة مراقبة تطورات المنطقة، سواء كانت تصعيدية فعلية، أم أن التصعيد الكلامي والتهديدات تتعلق بالبحث عن فتح مسار سياسي جديد، خصوصاً أن الثوابت العربية المعلنة حول إعادة العلاقة مع دمشق، تختصر بضرورة خروج النظام السوري من العباءة الإيرانية. وبناء على هذا العنوان العربي، يستمر “التنافس” على سوريا. فطهران التي سارعت إلى تقديم المساعدات لسوريا، معززة بجولة قام بها قائد فيلق القدس اسماعيل قاآني، تقول إنها موجودة ومستمرة. وإضفاء الطابع العلني لزيارة قاآني هو جزء من الإجابة على كل ما يحكى عربياً. تلك الحركة الإيرانية قابلتها حركة لبنانية أيضاً، بدءاً من زيارة الوفد الوزاري وصولاً إلى زيارة الوفد النيابي اللبناني، وما بينهما من قوافل مساعدات نظمها حزب الله.

الأسد في الخليج؟

في ظل هذه التطورات، تتحدث المعلومات عن زيارة سيقوم بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى دولتين عربيتين في الأيام المقبلة. إذ سيتوجه الأسد إلى سلطنة عمان، وبعدها إلى دولة الإمارات، حسب ما تقول المعلومات. في لبنان أيضاً، هناك من يراهن على هذه التحركات كعنصر سيفرض تغييراً سياسياً لصالحه، على قاعدة استعادة معادلة “سين-سين”.

وبغض النظر عما إذا كان ذلك وهماً متخيلاً أم يمكنه أن يكون واقعاً، إلا أن السياسة اللبنانية ستتأثر به وبمجرياته. وهو ما سيفرض مزيداً من الانتظار، مع الإشارة إلى أن تجربة السين السين في بيروت بين العامين 2009 و2010 انتهت بانقلاب إيراني قضى على كل مقوماتها.. وقلب الأمور في لبنان رأساً على عقب. ومن يعود إلى أسباب الغضب العربي والخليجي تحديداً من لبنان، والإنفكاء عنه، سيعرف أن الإنقلاب على معادلة السين سين كان الفيصل في ذلك.

الانقسام اللبناني

يندفع لبنان إلى مراقبة تطورات الوضع السوري أكثر فأكثر، بعد تهديدات أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله للأميركيين والإسرائيليين بالحرب لمواجهة أي فوضى يسعون إلى تعميمها في لبنان. موقف نصرالله لا بد أن يؤشر إلى مسار من إثنين، إما التصعيد لتجنب الحرب وإبقاء الأمور في سياقها السياسي، أو أن التهديدات جدية وقد تمهد لتصعيد يشمل المنطقة ككل. وأياً كانت النتيجة، فإن ذلك سيؤدي إلى تكريس الانقسام اللبناني أكثر، كما هو الحال بالنسبة إلى التعاطي مع الزيارات المتوالية إلى دمشق.

انقسام قائم بين محورين سياسيين، ولكنه أيضاً يتمدد ليشمل أهل البيت الواحد، كما هو الحال بالنسبة إلى العلاقة بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله، والتي أصبحت بحكم المنتهية، خصوصاً بعد مواقف رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، والذي لجأ إلى استحضار “الدبابة الإسرائيلية”، ومواجهة الغرب والفوضى في معرض تمايزه عن حزب الله أو هجومه على الحزب.

موقف باسيل ذات السقف المرتفع تجاه الحزب يستهدف ترشيح سليمان فرنجية. إلا أن الرجل ذهب بعيداً في موقفه. إذ يتعاطى مع الحزب وكأنه في حالة ضعف. بالنسبة إلى حارة حريك، فإن هذا النوع من التعاطي يندرج في خانة المحرمات. إذ أن ما ينطبق في مضمون كلامه على الغرب الذي يسعى إلى إشعال الفوضى في لبنان، واستهداف بيئة المقاومة من خلال التضييق مالياً ومعيشياً، قد يلقى رداً تصعيدياً يصل إلى حدود الحرب، لا بد له أن يتطابق أيضاً بمعرض الردّ على باسيل. لكن السؤال الأساسي يبقى هو كيف سيكون هذا الردّ؟

المدن

———————————–

في حاجتنا إلى أنجلينا جولي/ عمر قدور

ربما كان اختيار تاريخ الرابع عشر من شباط “عيد الفالنتاين” متعمداً من قبل وكالات أنباء وصحف تناقلت خبر تجميد جنود أوكران حيواناتهم المنوية، كي تُستخدم في الإخصاب إذا قُتلوا في المعركة. على سبيل المثال، تناقلت تلك المواقع حالة الجندي الأوكراني فيتالي خرونيوك الذي قال أنه في مواجهة الموت شعر بالندم على شيء واحد فقط، أنه ليس لديه طفل. يضيف هذا الجندي، وهو حتى الآن من بين أكثر من مئة جندي قاموا بتجميد حيواناتهم المنوية: الموت ليس مخيفاً، لكن المخيف ألا تترك أحداً وراءك. يٌذكر أن روسيا أعلنت في نهاية العام الفائت عن تقديم الخدمة ذاتها مجاناً، لجنودها المقاتلين في أوكرانيا حصراً.

في توقيت نشر التقرير، بعد الصدمة الأولى للزلزال، كانت قد برزت سوريّاً مشكلة الأطفال السوريين الذين فقدوا عائلاتهم فيه، وعددهم غير معروف بدقة في انتظار إحصاء جميع المفقودين، أي أولئك الذين صاروا في حكم الضحايا تحت الأنقاض. يقتصر الحديث عن مشكلة الأطفال “فاقدي الأهالي جراء الزلزال” على أولئك الموجودين في تركيا، حيث كالمعتاد من الصعب العثور على معلومات مماثلة عنهم في الداخل السوري.

حسب أقوال ناشطين سوريين مقيمين في تركيا، بموجب القوانين هناك، يُؤخذ الأطفال ويوضعون في دور للأيتام. حسب هؤلاء، القوانين التركية “استناداً إلى الشرع الإسلامي” لا تسمح بالتبني، وعليه فإن مصير الأطفال هو البقاء في دور الأيتام حتى السن الذي يسمح لهم بالخروج منفردين. لكن لا نعلم مدى دقة هذه المعلومة، ففي بداية عام 2015 نجحت النجمة العالمية أنجلينا جولي في إنهاء المعاملات الخاصة بتبنيها الطفل السوري موسى، وكانت قبل شهور قد تعرفت عليه أثناء جولة على مخيمات اللاجئين في تركيا.

نجاح أنجلينا جولي في تبنّي الطفل موسى يمكن البناء عليه، فإذا كانت هناك مسارب قانونية للتبني فالراغبون فيه يستطيعون اقتفاء أثرها. وإذا كانت قد حصلت على التبني استثناءً، بدعم من سلطة نجوميتها، فهي قد قدّمت حالة تصلح للبناء عليها قانونياً. ونفترض أن السلطات التركية غير متشبثة بهؤلاء الأيتام الذين سيخرجون في النهاية بلا عوائل وبلا مجتمع يحتضنهم، وهذا الانقطاع التام قد يكون مناسباً لصناعة أنكشاريين، لا من أجل انطلاق شابات وشبان لا يُستبعد تلقيهم المزيد من الصدمات خارج أبواب الميتم.

ظهرت مبادرات سورية بهدف إنشاء دور أيتام من الأطفال الذين يتّمهم الزلزال، وهي مدفوعة بالاعتبارات الإنسانية، وبالحفاظ على سوريّة أولئك الأولاد المهدَّدة بالانقراض في المياتم التركية. لا يُعرف بعد مصير المبادرات الجديدة، وفي أحسن الأحوال تمنع العقلية السائدة تجاه التبنِّي مساهمات أفراد في التخفيف من أثر مشكلة موجودة قبل الزلزال وبعده، وموجودة في الداخل السوري تحت سيطرة الأسد أو خارجها، وفي مخيمات دول الجوار.

ثمة العائق المستند إلى الشرع الإسلامي، والالتفاف عليه حدث ويحدث سراً منذ زمن بعيد، أحياناً بالاتفاق مع دور أيتام، وأحياناً بالاتفاق مع أطباء في مستشفيات يعلمون بولادات غير مرغوب فيها. أي أن العائق الديني، المتمثل بالقوانين، يجري الالتفاف عليه، ليبقى العائق الاجتماعي الأوسع انتشاراً وتأثيراً. وهناك خشية متداوَلة من أن يفتح شيوع التبنّي أبواب تجارة الأطفال، إلا أن المتاجرين بهم في الظل سيجدون طرق أخرى لتجارتهم، ومنها التربّح من الأطفال تحت يافطة الدين بالحصول على تبرعات باسم جمعيات خيرية دينية، ثم لا تصل كما يجب إلى مستحقيها في دور الأيتام.

إذا توخينا الواقعية، نحن بحاجة إلى عدد كبير من أنجلينا جولي، من أجل مساعدة العدد المتزايد من الأطفال المحتاجين لأسر يعيشون في كنفها، أو المحتاجين لمساعدة ملحّة في أماكن تواجدهم. هذا الدور مناط بسوريات وسوريين يقيمون في الغرب، وقد يكون لدى البعض منهن ومنهم الرغبة في تبنّي طفل، والقدرة على تقديم حياة كريمة نسبياً له، أو لأكثر من طفل. يصحّ هذا على الأسر الراغبة، أو على النساء الراغبات حيث تسمح القوانين بوجود الأم العازبة.

من المستحسن بالطبع أن تتولى منظمات في سوريا ودول الجوار ومنظمات في أوربا تنسيق ذلك، مع حملة لدى السوريين ولدى الجهات الرسمية المعنية في كافة البلدان لتسويق مساعدة أولئك الأطفال وتغليب العامل الإنساني على العقبات الإدارية والقانونية. وستكون الجهود المبذولة من أجل هؤلاء الأيتام “أو اللقطاء في بعض الحالات” في خدمة التعريف بالأحوال المزرية التي يعيشها نظراؤهم من غير الأيتام، ولعل ذلك يجبر بعض الحكومات والمنظمات الدولية على إبداء قدر أكبر من الاهتمام بمعاناتهم.

قد ينقضي خلال أيام التعاطف الحالي تجاه مأساة هؤلاء الأطفال على خلفية الزلزال، ووحده العمل المنظم الممأسس يُبقي قضيتهم في إطار ما تستحق. الاستمرار يعني أيضاً في حالتنا مواصلة العمل في الغرب وفي دول الجوار، ما يُخرج العلاقة بين الجانبين من إطارها الموسمي، خاصة لدى سوريين لم تبق لهم أية صلات عائلية بالداخل السوري.

مشروع من هذا النوع لن يكون سهلاً، وسيُواجَه بمختلف العقبات، لذا يمكن الاستئناس بدايةً بتجارب التبنّي عن بعد، وهو يُستَهلّ بالشقّ المالي، يليه تدرّج حسب ما تسمح به الظروف. في هذا النوع يمكن أن يتبنى شخص في أوروبا “مثلاً” طفلاً في الداخل السوري أو في لبنان أو تركيا أو الأردن، من خلال جمعية أو منظمة تتولى التنسيق، وتحقق معايير الشفافية على الجانبين. ذلك قد يبدأ بتقديم معلومات موثوقة لكل طرف عن الطرف الآخر، وبعد مدة كافية من الالتزام يتم التعارف عبر وسائل الاتصال، ليزيد التواصل المباشر من منسوب الالتزام والثقة، وليفتح أمام بناء المشاعر على الجانبين.

في ظل الشكوك التي تُثار حول غالبية منظمات الإغاثة السورية، سيقدّم هذا النوع من المساعدات طمأنة للمتبرّع، فهو يعلم بالضبط كم ولمن تذهب أمواله، وقادر مباشرةً على التأكد من ذلك. ويمكن توسيع مجال وساطة المنظمات لتشمل أطفالاً محتاجين يعيشون في كنف الأبوين أو أحدهما، وبدل علاقة التبني يمكن اختراع قرابات أخرى تمنح العملية طابعاً إنسانياً حميماً، والسوريون أصلاً يستخدمون تعابير مثل “عمة، عم، خالة، خال…” في الكثير من الأحيان بدون وجود قرابة دم.

لا يلزم من أجل ما سبق أن يكون للمتبرّع ثراء أنجلينا جولي، وما نقترحه قد يعمّق الفائدة على الجانبين، إذ يمنح المتبرّع مقابلاً عاطفياً أو معنوياً له عنوان واضح. أما ما بدأنا به المقال عن تجميد الأوكران نطاف الجنود فهو من أجل الشريحة التي تحرف هذا النقاش عادةً في اتجاه لوم مَن ينجبون الأطفال في ظروف سيئة، متجاهلين أن هذا هو الوحيد المتاح لدى البعض كأثر لهم في الحياة.

المدن

———————-

في حضرة الزلزال.. فصل من يوم القيامة السوري/ بشير البكر

كأنها قنبلة ذرية، بل قُل قنابل. أكثر من واحدة سقطت في الوقت نفسه، وبعد أقل من دقيقة تبعتها قنابل أخرى. لا تشبه قنابل القصف الجوي الروسي. اهتزت الأرض وصدر من أحشائها صوت غريب لم يسمع الناس له مثيلاً من قبل. صوت يشبه صوت الغول في أفلام الخيال العلمي. أصوات متداخلة، غول، ديناصور، وحيوانات صارت برسم الخيال، وتحررت جميعها فجأة وأخذت تصرخ معاً.

ضجة عالية أسرع من السمع، وضغط هائل، كأن السماء فرغت من الهواء، وأطبقت على الأرض، فارتطم الكون على بعضه، وطفر دم من الأنوف والأفواه والآذان. عصف هوائي، حمل الناس، وطار بهم بعيداً، مثل بساط من ريح، انتشل الأطفال من أحضان أمهاتهم، وتطايرت الأحلام بين البيوت الاسمنتية التي هبطت كأنها تكوينات كرتونية، لم تهتز ذات اليمين أو ذات اليسار.

رعد في البداية كما لو أنها العاصفة التي كانت تأتي من جبال طوروس، لم يدم أكثر من ثلاث ثوان، ثم زلزلت الأرض، وسمع الناس صوت زفير هائل، كما لو كانت لحظة القيامة. وخامر الناس أحساس بأنها هذه المرة قيامة حقيقية، وليست تلك التي كانت تولدها القاذفات الروسية، التي ترمي قنابل نابالم بوزن نصف طن.

تناطحت جبال طوروس، وهي ترسل الغيوم والرياح والعواصف، فدوت أصوات هائلة، خرج منها الغول الأسود المخيف في ومضة خاطفة، وبضربة واحدة بعثَر الأبنية والخيام والبشر. وخلال ثوان معدودة، تزلزل كل شيء فوق كل شيء، فانفجر من انفجر، وانكسر من انكسر، وبلعته الأرض، ليصبح تحت ركام الاسمنت.

صدمة أولى، تلتها ثانية بعد دقائق، ثم أخذت الأرض تتمرغ على نفسها مثل حيوان أسطوري تلقى طعنات في جسده. كانت الأرض تتقلب وهي تصدر أصوات ألم كأنها تشكو، وتريد أن تفرغ ما في جوفها.

لم تعد الأرض آمنة. المخاطر ليست فقط في الأجواء، والمحيطات، والبحار، والأنهار. بل على هذا الكوكب. هناك مناطق مهددة بأن تتشقق وتزلزل أو تطلق حمماً من داخلها. لا مساحات آمنة على الدوام، وليس الزلزال وحده مصدر الخطر المفاجئ. هناك مناطق غادرها أهلها بصورة نهائية، خوفاً من أن تهتز من جديد. كل مَن عليها يحس بأن هذه الجغرافيا باتت منكوبة، عنف فوق الأرض وتحتها. أرض غاضبة تهتز، تحتج، تصرخ، تبتلع من فوقها. كأنها قدر ملعون وكأنها عقاب وألم وخوف. توجه الإنذار تلو الآخر. كأنها صرخة شمشون في لحظة اليأس الأخير.

لاجئون هنا، ضائعون، لا يعرفون أي الجهات هجمت نحو الأخرى، من الذي رمى قنبلة ذرية في هذا الفجر. كان بوسعه أن ينتظر شروق الشمس حتى يخرج الناس من المنازل. باغتهم فجراً وهم نيام، كان يستطيع أن ينتظرهم ساعة أخرى ويضربهم بعد أن يكونوا قد غسلوا نعاسهم، شربوا قليلاً من الشاي، وأكلوا بعض خبز الأمم المتحدة المرّ، وألقوا على بعضهم البعض تحية الصباح، وذهب الأطفال إلى مدارس الخيام والكهوف.

رياح الشمال تهب نحو حارم أرض الكرز السماوي، جنديرس، سلقين، إلى جنوب الزلزال، انطاكيا طريق بطرس الرسول، الأرض التي مشى عليها تاريخ سوريا منذ روما. تتقدم إلى شقيقة حلب التي اهتزت كأنها تحاول أن تمسك بغازي عنتاب (عين الطاب)، الأيادي متشابكة، تعانق “كهرمان مرعش” في زفرة الوحش الأولى، أورفه ذات الشأن تميل برأسها ليمر الغبار الإلهي. كل مكان هنا له حكاية، الكل يتحدّث، ولا أحد يسمع، سيتكلمون طويلاً ولن تنتهي الحكايات. سيجف الدم ويبقى سيل الدمع ينقّط فوق حاضر مقلوب تسكنه مخيمات اللاجئين.

هؤلاء هم الانتظاريون، يتحلقون حول المباني المهدمة، يشعلون النيران ليلاً كي يستدفئ الأقارب تحت الأنقاض، يسمعون أصواتهم، تصل أنفاسهم، ويتسرّب دمهم من بين الشقوق. والأهل ينتظرون ولا يملكون سوى الدمع والدعاء، فربما يأتي كلب دولي مدرّب لينبح فوق الركام.

هناك بعض أغراض المطبخ، كتب مدرسية، ألعاب أطفال، نباتات، أحذية، أياد تمتد، بعضها يتحرك، وآخر يابس توقف فيه النبض. رسائل تصل من تحت الانقاض عبر “واتساب” تسجل لحظات الموت، وأخرى ترسل طلب استغاثة تقرنه بالمكان.

عند معبر باب الهوى، لم يدخل في ذلك النهار الشاحب سوى الهواء البارد محملاً بروائح الثلج الذي يغطي الجبال القريبة. لا يأتي أحد ولا يذهب. قوافل المساعدات، توقفت ولم يصل منها شيء. لا أحد يريد طعاماً ومعجون أسنان وورق تواليت. يطلب الناس ماء، لقد جفت حلوقهم من أثر الصراخ في ذلك الفجر. كانوا يركضون وهم يصرخون. يركضون في كل الجهات بلا هدف. ويصرخون ولا أحد يرد عليهم من أي مكان، رغم ان الصراخ كان عالياً وقوياً.

معبر باب الهوى رجال بكوفيات حُمر، ينتظرون، وفي اليوم الثالث تبدأ الجثث بالوصول. عائدون من جنوب تركيا، من انطاكيا وغازي عنتاب وأورفه ومرعش. جثث الذين تم انتشالهم في اليومين الأولين. هؤلاء الذين هربوا إلى هناك من أجل حياة أخرى، بعدما شردهم بشار الأسد وروسيا وإيران التي استقدمت مليشيات من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان من أجل طرد السوريين من بيوتهم وأراضيهم في درعا وريف دمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور والرقة.

أكياس سوداء تدخل تباعاً من باب الهوى، وتبقى أكياس أخرى على أرصفة الشوارع في انطاكيا، بعدما فاضت المشافي وبرادات حفظ الجثث. جثث ترافقها روائح الموت، ولن يكون في وسع أحد أن يودّع هؤلاء، الذين ستصبح لهم قبور معروفة وحالفهم الحظ أنهم وجدوا من يتعرف عليهم، ولم تبلعهم القبور الجماعية.

خيام، في كل مكان في جنوب تركيا وشمال غربي سوريا. والعدد لا يكفي، تحولت السيارة إلى مأوى، وصار الحصول على الخيمة رفاهية في البرد الشديد، ومن لا يملك سيارة، نام في العراء. لم يكن في وسع الإغاثة مساعدة الأعداد الكبيرة من المشردين في الأسبوع الأول على الأقل.

الدفاع المدني السوري- الخوذ البيضاء، هو ما بقي للسوريين الذين شردهم الأسد وبوتين وحكام إيران. هذه المنظمة وحدها كانت موجودة حين اهتزت الأرض تحتهم. وهذه ليست المرة الأولى التي يثبت فيها هؤلاء المتطوعون أنهم قادرون على مساعدة المنكوبين. وفي هذه المناسبة تيقن السوريون أن الدفاع المدني حالة تعبر عن الإصرار على مواجهة الكارثة التي حلت بهم منذ أكثر من عشر سنوات. وهذا درس مجاني لجميع السورين في كل مكان، من أجل التفكير في بناء أجسام سورية مماثلة، تحمل عبء قضيتهم الكبير، التي لن يساعدهم أحد في إيجاد حل لها، إلا إذا توحدوا من أجل هذا الهدف.

زلزال وليس قنبلة ذرية. زلزال وليس غولاً خرج من بطن الأرض. زلزال وليس يوم القيامة. زلزال بأكثر من هزة ارتدادية، ورغم الأهوال الكبيرة، يظل أهون على السوريين من زلزال بشار الأسد الذي دمر سوريا وشرد شعبها. زلزال كأنه ولد من خاصرة زلزال الأسد، وقد رأى العالم ظله في عيون الأسد حين زار حلب، وهو يبتسم اثناء تفقد الآثار. لم يراوده أي إحساس بالحزن على الضحايا، حتى الذين وقعوا في الجغرافيا التي يسيطر عليها، ولم يعلن الحداد دقيقة واحدة.

وترجع إيلاف ياسين وحدها، لم تفلح بعد أسبوع من الانتظار، في اخراج شقيقها وزوجته من تحت أنقاض المبنى، الذي انهار فوقهم في انطاكيا، وليس على لسانها سوى مرثية أخرى للسوريين، الذين يجمعهم هدف واحد وميتات كثيرة.

المدن

———————————–

إدلب:استجابة الأمم المتحدة للزلزال كارثية..والمساعدات بدائية/ محمد كساح

تتفاقم الكارثة في مناطق سيطرة المعارضة السورية شمالي غرب البلاد بسبب حزمة من التأثيرات تتراوح بين شحّ المساعدات الأممية وعدم ملاءمتها لاحتياجات المنكوبين، وحالة الفوضى التي تطاول الاستجابة الطارئة لبعض المناطق الأكثر تضرراً.

وفيما أدخلت الأمم المتحدة 143 شاحنة من معبري باب الهوى وباب السلام منذ 9 شباط/فبراير؛ تقول منظمة “الخوذ البيضاء” إن أغلب المساعدات التي دخلت المنطقة هي مساعدات إغاثية متعلقة بالاستجابة الطارئة للمدنيين مثل المواد الغذائية وبعض اللوازم الطبية والمساعدات المتعلقة بالإيواء، وهي شحنات لا توازي أبداً حجم الكارثة.

مساعدات مجدولة

ويؤكد نائب مدير الدفاع المدني منير المصطفى ل”المدن”، أن غالبية المساعدات التي تدخل عن طريق الأمم المتحدة مجدولة وهي متعلقة بسكان المخيمات وقد بدأت بالدخول منذ اليوم الخامس للزلزال. ويضيف أن فريقه نسّق لاستلام مساعدات تتعلق بعمليات الإنقاذ لأول مرة الجمعة، مصدرها “الوكالة الأمريكية للتنمية”.

ومن الواضح -بحسب المصطفى- أن المنظمة الأممية لا تتعامل مع الحادثة ككارثة بل هي تقدم مساعدات بالحد الأدنى ولم تمرر أي مساعدات تتعلق بالبحث والإنقاذ، بالرغم من امتلاكها آليتي الاستجابة للكوارث وفرق الإنقاذ. وقال: “استُخدمت الآليتان في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وهو أمر ضروري، لكن ينبغي تفعيلهما  في مناطق المعارضة (شمال غربي سوريا) أيضاً، وتجنب ما نلمسه من تسييس وانحياز واضحين لدخول المساعدات من قبل الأمم المتحدة”.

ويلمح المصطفى إلى أن “احتياجات الشمال متفاقمة كون المنطقة هشة وتعيش في حالة حرب منذ 12 سنة، ولدينا أزمة تتمثل بإقامة جزء كبير من السكان في منازلهم الآيلة للسقوط لعدم وجود سكن بديل. المساعدات لا تزال خجولة ولا يوجد أي مبرر في تعامل الأمم المتحدة الذي يتهاون ويستهتر بأرواح السوريين”.

ويتابع أن أهم احتياجات الشمال في الوقت الراهن تتراوح بين خدمات المياه والعلاجات لتلافي حدوث الأمراض المترتبة عن الكوارث الطبيعية إضافة للمساكن المؤقتة (خيام، كرفانات).

فوضى واحتياجات مفقودة

وتعاني المناطق المنكوبة من بعض الفوضى في توزيع المساعدات وإيواء المنكوبين وفقاً لمصادر أهلية تحدثت ل”المدن”، وتتجلى الفوضى وحالة غياب التنسيق بين المنظمات والعاملين الإغاثيين في جنديرس بشكل أكبر، حيث يمكن ملاحظة عدم انتظام توزيع المساعدات وتفاوت حجم الإغاثة بين مخيم وآخر.

وتتحدث المصادر عن غياب آلية لتحديد الأشخاص المستحقين للإغاثة العاجلة من سواهم، و”يمكن لأي شخص الحصول على مساعدات عينية وسلات غذائية دون رقابة”.

ولا تتوفر إحصائيات دقيقة حول المتضررين ما يجعل توزيع المنظمات مقتصراً على المخيمات المنظمة، بينما يعاني أصحاب الخيم العشوائية وهم عائلات تهدمت منازلهم ولجؤوا إلى نصب الخيام المنفردة في العراء من ضعف الاستجابة.

و معظم المخيمات المؤقتة بحاجة إلى مراحيض ولوازم شخصية للمسنين ولوازم طاقة شمسية للإنارة وشحن الأجهزة، وخزانات كبيرة للماء، مع أدوات منزلية ومطبخية.

ويعزو المستشار الاقتصادي أسامة قاضي غياب الإحصائيات الدقيقة حول حجم الأضرار التي خلفها الزلزال في مناطق المعارضة إلى كون المنطقة منكوبة أصلا بعد أكثر من عقد على الحرب.

ويضيف ل”المدن”، أن الأمم المتحدة “مسؤولة عن جانب من الكارثة بسبب تلكوئها وتقصيرها في تمرير المساعدات الإسعافية وفشلها في الاستجابة السريعة للكارثة”. ويتابع أن هناك عشرات آلاف المشردين بسبب الزلزال كانوا مشردين أصلاً بسبب القصف والحروب، ومبانيهم كانت آيلة للسقوط، مقدراً حجم إعادة إعمار المنطقة لإسكان هؤلاء “المشردين” فقط ب10 مليار دولار.

المدن

—————————–

الأسد حوّل المساعدات الأممية إلى سلاح..بتواطؤ الأمم المتحدة

اعتبرت صحيفة “فاينانشال تايمز” أن تأخر الأمم المتحدة في استجابتها لمساعدة ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا، يُظهر مدى إذعانها لنظام “الديكتاتور بشار الأسد” الذي حوّل المساعدات إلى سلاح برفقة حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وقالت الصحيفة في تقرير الاثنين، إن الأمين العام للأمم المتحدة تحدث عن بطء في الاستجابة لضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا، لكن تلك الحقيقة لم يعترف بها سوى مسؤول الإغاثة الأممي مارتن غريفيث عندما قال: “لقد خذلنا الشعب في شمال غربي سوريا، ويحق لهؤلاء أن يشعروا بأن الجميع تخلى عنهم، وهم ينتظرون المساعدات الأممية التي لم تصل”.

بيد أن ذلك الاعتراف، سرعان ما اتضح بأنه سطحي، عقب توقف زملاء غريفيث عن عبور الحدود التركية إلى سوريا بأمر من غوتيريش، بحسب الصحيفة.

وأضافت أن موقف غوتيريش يظهر “مدى إذعان الأمم المتحدة للديكتاتور بشار الأسد الذي حوّل المساعدات الأممية إلى سلاح رفقة حليفة الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب سعيه لتدمير البنية التحتية في تلك المنطقة عبر القصف الممنهج للمشافي ما ضاعف الأضرار المرعبة للزلزال”.

واعتبرت أن غوتيريش الذي أعلن عن موافقة الأسد على فتح معبرين حدوديين مع تركيا، من أجل تسريع عملية تسليم المساعدات، أضاع فرصة ذهبية قبل الإعلان بأيام، مات خلالها الآلاف تحت الأنقاض، وفق ما ترجم موقع “تلفزيون سوريا”.

لكن الصحيفة البريطانية تساءلت هنا: “هل من واجب الأمم المتحدة عند حدوث مأساة بشرية بهذا الحجم أن تحترم سيادة الدولة وحقوق الديكتاتور وأن تقدمها على أمن النساء والأطفال الذين يموتون تحت الأنقاض”؟

كما اعتبرت أن الطريقة التي يفسر بها غوتيريش القانون الدولي، تعطي انطباعاً بأن “هذا القانون صمم خصيصاً لحماية مجرمي الحرب من أمثال الأسد لا لحماية المدنيين” قائلةً: “وإلا كيف يمكن للمرء أن يفسر فشله في عدم فتح ممرات إنسانية عبر تركيا على الفور”؟

وبحسب رسالة وجهها محامون دوليون قبل أيام، فإن محكمة العدل الدولية تعتبر عملية تقديم مساعدات إنسانية خالصة لأشخاص أو قوات متواجدة في دولة أخرى، بغض النظر عن ولاءاتهم السياسية وانتماءاتهم وأهدافهم السياسية، لا تعتبر عملية مخالفة للقانون كما لا تنتهك القانون الدولي.

——————————-

أين ذهبت “دولارات الزلزال” في سوريا؟/ إياد الجعفري

كحال المحروقات، التي ارتفعت أسعارها الرسمية، بنسبة 80%، رغم دخول 23 صهريج وقود كإغاثة من العراق لدعم المتضررين من الزلزال، وكحال أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت بنسبة 20% على الأقل، رغم وصول 150 طائرة إغاثة إلى مطارات دمشق وحلب واللاذقية، كذلك اختفى أثر الحوالات الخارجية الاستثنائية التي هرع السوريون في الخارج لتمريرها إلى أهاليهم في الداخل، ولم يستمر ذاك الأثر أكثر من ثلاثة أيام، رغم تعليق جانبٍ من العقوبات الأمريكية الذي يطاول الحوالات تحديداً، ليعود سعر صرف الليرة السورية إلى مستوياته التي كان عندها، قبل الزلزال.

وإذا كان من المتاح تفهّم امتصاص السوق السورية العطشى للـ 720 ألف ليتر وقود، التي أدخلها العراق، نظراً لأنها لا تغطي حاجة البلاد، لأكثر من أربعة أيام –(الحاجة اليومية تتجاوز 180 ألف برميل في مناطق سيطرة النظام)، إلا أنه من غير المفهوم، لماذا اختارت حكومة النظام هذا التوقيت بالذات، كي تقرر توحيد أسعار بيع المشتقات النفطية باختلاف مصادرها، بما أدى إلى رفعها، فيما تُلمّ الفاجعة بشريحة واسعة من السوريين. التبرير الرسمي كان منع الإتجار بالمادة في السوق المحلية، نتيجة اختلاف الأسعار. لكن المصادر الرسمية لم تُفسّر سرّ التوقيت الذي اختارته لتنفيذ إجرائها هذا، رغم أن ظاهرة الإتجار بالمادة نتيجة اختلاف الأسعار، تعود لأشهر سابقة.

أما في حالة ارتفاع أسعار السلع الغذائية، فاتسع “الفتق” على قدرة الترقيع الرسمي، الذي أنكر الارتفاع من أصله. وفيما استلمت سلطات النظام أطناناً من المساعدات، يغلب عليها المكوّن الغذائي، ارتفعت الأسعار بصورة غير مفهومة في الأسواق. وفيما ألقى بعض المحللين الموالين المسؤولية على كاهل التجار “الجشعين”، ألقاها آخرون على زيادة الطلب على الغذائيات نتيجة لجهود الإغاثة وإعانة المتضررين، من دون أن يأخذ هؤلاء أطنان الغذائيات القادمة من الخارج، بعين الاعتبار.

وانسحب الحال نفسه على سعر الصرف، الذي شكّل لغزاً أكثر تعقيداً بالنسبة للكثيرين. فبعد أن هوى الدولار أكثر من 650 ليرة، إثر رفع جانب من العقوبات الأمريكية، عاد ليرتفع بصورة دراماتيكية. وأرجع أحد التفسيرات ذلك، إلى أن الإعفاء من العقوبات الأمريكية لم ينعكس على إجراءات البنوك وشركات تحويل الأموال العالمية، التي بقيت تتحوط من العقوبات، نظراً لأن الإعفاء قصير الأمد، وغير واضح بشكل كافٍ، كي تطمئن تلك المؤسسات الى أنها لن تتعرض للمساءلة لاحقاً بتهمة استغلال الإعفاء لدعم كيانات مُعاقبة.

لكن هذا التفسير تجاهل تماماً، أن قنوات التحويل إلى سوريا، قبل الإعفاء الأخير، وحتى قبل الزلزال، كانت قادرة على رفع حجم الحوالات الداخلة إلى البلاد، في مناسبات، مثل رمضان وعيدَي الفطر والأضحى، إذ كانت الحوالات الداخلية تتضاعف، ولم يكن هناك أي عوائق تمنع زيادة حجم تلك الحوالات. وكان ذلك ينعكس على سعر الصرف، بصورة أطول زمنياً، من تلك التي حدثت بعيد كارثة الزلزال، مما يطرح تساؤلات حول مصير الحوالات الاستثنائية المُضاعفة التي أرسلها السوريون في الأيام القليلة الفائتة.

أحد أبرز التفسيرات التي يمكن الحصول عليها من عاملين في قطاع الصرافة السوري، أن سوق العملة امتصت دفق القطع الأجنبي الذي حصل، نظراً للحاجة الماسة التي كانت تعانيها هذه السوق، سابقاً. لذا كان أثر الزيادة في حجم الحوالات محدوداً للغاية. ويمكن أن يقول لك أحد الصرّافين، عن سرّ ما حدث من انهيار كبير للدولار، قبل أسبوع، أنه كان لعبة لجني الأرباح، إذ تم تخفيض الدولار من جانب الصرّافين لشراء دولار الحوالات من مُستلميها، بسعر منخفض، قبل رفع الدولار مجدداً. وقد يخبرك صرّاف آخر، أن شركات ومكاتب الصرافة المقرّبة من النظام، من أبرز المساهمين في تلك اللعبة. ويصعب إيجاد دلائل تدعم دقة هذا التفسير.

تفسير آخر، ربط ما حدث بارتفاع الدولار الكبير في لبنان. وتحدث محللون عن التوجه نحو الأسواق السورية لتلبية الطلب على الدولار في لبنان.

 لكن مصادر الإعلام الموالي ذاتها، تقدم رواية مختلفة، على لسان التجار. إذ لم ينعكس ازدياد حجم القطع الأجنبي الداخل إلى البلاد، على دولار “تمويل المستوردات”. بل ارتفع الأخير، حسب عضو في مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، ليصبح ما بين 7200 و7350 ليرة سورية.

ولتوضيح معنى ذلك، تجب الإشارة إلى أن مصرف سورية المركزي التابع للنظام، يستفيد من الدولار المتأتي من الحوالات في تمويل المستوردين، من خلال شركات ومكاتب الصرافة التي تُسلّم الحوالات لأصحابها بالليرة، وتعطي الدولار للمستوردين، بموجب آلية مقررة من المركزي. وحينما لا تعطي شركات الصرافة المستوردين ما يكفي من قطع أجنبي لتمويل صفقاتهم الخارجية، يضطرون للجوء إلى السوق السوداء، مما يخلق طلباً على الدولار، يؤدي إلى ارتفاعه.

هذه المعادلة، تكررت حتى بعيد الزلزال، ومع حجم حوالات أكبر بكثير من المعتاد. وفي ظروف، في أقل التقديرات، تشابه مواسم رمضان والأعياد. أي كان من المفترض أن ينعكس الدولار القادم من الخارج، على تمويل المستوردات، وهو ما لم يحدث. مما يدفع للتساؤل: هل رمّم المركزي خزينته من القطع الأجنبي على حساب المتضررين من الزلزال في سوريا؟

المدن

——————————

لبنان_سوريا:الهزة الارتدادية الأعنف/ ساطع نور الدين

الهزات الارتدادية لزلزال الاناضول المدمّر لم تهدأ، ولعلها أعنفها حتى الآن تلك التي خرقت جدار الحصار على نظام الرئيس السوري بشار الاسد، بدوافع انسانية ونوايا سياسية، من دول عربية وأجنبية متعددة..سبقها لبنان وتقدم عليها في كسر الحواجز النفسية مع دمشق، متجاهلاً التحذيرات الاميركية الملتوية شبه اليومية..

لا جدال في حقيقة أن الاسهام اللبناني والشعبي في إغاثة منكوبي الزلزال في سوريا (وتركيا أيضا) يسمو على أي خصومات أو خلافات، ويحفظ للبنان رصيده كدولة ذات معايير أخلاقية معقولة، لا سيما تجاه اشقائها وجيرانها الاقرب، الذين قد تحتاجهم يوماً ما في مواجهة كارثة طبيعية ما. وهي لذلك لم تكن بحاجة الى التردد أو التريث أو طلب الاذن من الاميركيين او سواهم..ولا كانت بحاجة ربما الى البحث بالتوجه نحو مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، (وعن معايير الثورة أيضا)، برغم ان تلك المناطق منيت بأكبر الخسائر البشرية والمادية.. مع أن الخيار ما زال متاحاً لإرسال مساعدات الى الجمعيات الاهلية السورية العاملة على نجدة منكوبي الزلزال في ذلك الجزء من الشمال السوري، من دون المرور طبعا عبر جبهات “تحرير الشام” و”احرار الشام” وفرق “العمشات” و”الحمزات” وغيرها من الميليشيات السورية القاضية على مستقبل سوريا وشعبها.

مع ذلك، فإن المبادرة اللبنانية تجاه الاشقاء السوريين اينما كانوا، هي خطوة تستحق التقدير، والتحذير من مغبة أن يبالغ لبنان في قراءة القرارات العربية والاجنبية بالانفتاح على نظام الاسد، وان يحتفظ لنفسه بهامش خاص لتصحيح أي خطأ يمكن ان يرتكب في هذا السياق، فلا يتسرع ولا يتحدى، بل يدرس بهدوء وموضوعية، كيف يمكن ان يحقق الحد الاقصى من المكاسب نتيجة رفع مستوى التواصل والتفاهم مع دمشق، من دون أن يعيد الى الاذهان الفترة المشؤومة التي سادت العلاقات اللبنانية السورية على مدى العقود الخمسة الماضية، والتي لا تزال عواقبها ظاهرة على جانبي الحدود بين الدولتين والشعبين.

لا يمكن لأحد أن يُنِكر تلك المشاعر المتضاربة بين اللبنانيين إزاء أي زيارة لبنانية، رسمية او خاصة، علنية او سرية، الى دمشق. من جهة، ثمة خوفٌ لا شك فيه من ان تستعاد تلك الصلات القديمة البائسة، يقابله ابتهاج لا نقاش فيه بأن الامور، على خط بيروت دمشق، عادت أو هي في طريق العودة الى أصلها الطبيعي، ولن يصح إلا الصحيح الذي يتمناه كل ماروني مرشح لرئاسة الجمهورية وكل شيعي مرشح لرئاسة مجلس النواب وكل سني مرشح لرئاسة الحكومة.. والموسم في ذروته الآن، وقد بدأ قبل الزلزال، عندما جرى استحضار دور سوري ما من قبل بعض المرشحين، كبديل أخير، عن أدوار عربية وأجنبية توسلها اللبنانيون طويلاً، ومن دون نجاح يذكر حتى الآن.

الانفتاح اللبناني على النظام في دمشق شرعي وضروري ولا يخضع لتوقيت خاص، لا سيما وأنه لم يعد هناك أثرٌ للمعارضة السورية الشرعية والضرورية والحقيقية، سوى في الشتات. صحيح أن لبنان لا يستطيع ان يطمح الى إعتماد السيناريو التركي في مقاربة العلاقة مع النظام السوري، حيث ترتبط خطوات التقارب(والتطبيع) بين انقرة ودمشق بالوقائع على أرض الشمال السوري، وبما تقدمه سوريا من ضمانات أمنية وعسكرية وبما تستعيده من نازحين سوريين. فكرة تحويل قضية النازحين السوريين من عقدة الى فرصة لبنانية سورية جديدة، جديرة بان تحظى بالاولوية المطلقة، بحيث تسحب من التداول عناصر الاشتباك اللبناني غير المجدي وغير الواقعي مع الهيئات الدولية الداعمة للنازحين، بحجة أنها تمنع عودتهم الى أراضيهم وبيوتهم، ويجري التركيز على الدخول في تفاوض جدي مع النظام في دمشق حول واجباته ومسؤولياته عن استعادة هؤلاء المهجرين، كمدخل رئيسي لتطوير العلاقات الثنائية بين دولتين وشعبين تربطهما الكثير من القيود التاريخية والعُقد النفسية التي ليس لها علاجات سهلة وسريعة.

المدن

————————————

زلزال في الشمال وقصف في الجنوب… لا هدنة لموت السوريين!/ ورد بيك

المأساة السورية ممتدة من أقصى مدينة في الشمال حتى آخر بقعة في الجنوب، يعلو صراخ السوريين من تحت الركام والقذائف، بينما تتلاشى أحلامهم يوماً بعد يوم.

انقطع الاتصال فجأة وأنا أتحدث مع صديقي الذي يسكن في دمشق، تمام الساعة 00:22 دقيقة من فجر الأحد (19 شباط/ فبراير)، ظننته انقطاعاً روتينياً في شبكة الانترنت كما جرت العادة في سوريا، لكنني لا أخطئ أصوات القصف، أعرف تلك الأصوات جيداً وهي رافقت لحظات انقطاع الاتصال.

محاولات عدة للاطمئنان أو الاستفسار عما حصل،  انتهت برسالة صوتية من صديقي قال فيها: “أنا منيح بس في ناس ماتت”.

مرة أخرى سوريا تحت نار ما، وهذه المرة أتت على شكل قصف إسرائيلي، بعد أيام من الزلزال المدمّر في الشمال، وكأن الموت بأسوأ أشكاله لا يتوقف في سوريا ولو للحظة واحدة.

لا استراحة بين القصف والزلزال

المأساة السورية ممتدة من أقصى مدينة في الشمال حتى آخر بقعة في الجنوب، يعلو صراخ السوريين من تحت الركام والقذائف، بينما تتلاشى أحلامهم يوماً بعد يوم. إنها البلاد التي تُقصفُ بدم بارد ولا يكترث لقهرها أحد، وكأن الزلزال ليس كافياً لوقف القصف والقتل والألم ولو لشهر، لسنة، وإن كان الزلزال عاجزاً عن منح الأطراف المتصارعة برهة للاستراحة، فما الذي سيوقفهم إذاً؟

استهدف الهجوم إسرائيلي من اتجاه الجولان السوري بعض النقاط في مدينة دمشق ومحيطها، من ضمنها أحياء سكنية مأهولة بالمدنيين إضافة إلى موقع في مدينة السويداء.

أتى الهجوم الاسرائيلي بعد ساعات من استهداف صواريخ مهبط الطائرات في  حقل العمر في دير الزور والذي يعتبر من أكبر القواعد العسكرية الأميركية في سوريا، وبرغم عدم تبني أي جهة العملية، إلا أن أصابع الاتهام تشير إلى إيران.

تختلط الأمور والحوادث في سوريا، لدرجة لا يمكن فهمها أو مجاراتها، لكن الشي المؤكد الوحيد أن السوري هو الخاسر في النهاية.

وبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، استهدفت الصواريخ الإسرائيلية مواقع تابعة لميليشيات إيرانية و”حزب الله” اللبناني، في منطقة واقعة ما بين السيدة زينب والديابية في ريف دمشق، ما أدى إلى حرائق وانفجارات في الأماكن المستهدفة، إضافة إلى استهداف منطقة ومدرسة إيرانية في كفر سوسة، ما أسفر عن تدمير مبنى وسقوط خسائر بشرية. كما سقط صاروخ عند دوار المزرعة، وتحدثت معلومات عن مقتل امرأة. ووثق المرصد مقتل 15 شخصاً، من بينهم مدنيون وهي الحصيلة الأعلى في دمشق نتيجة قصف مماثل للمنطقة.

 تقول ريم (اسم مستعار): “بس صار يهز البيت حملت غراضي وركضت بعدين اكتشفت انو هي مضادات بالسما، احترت ساعتها ارجع فوت على البيت الي عم يهز او اهرب لبرا الي عم ينقصف؟”.

 يحار السوريون بأنفسهم، هل يراقبون اهتزاز الأرض طوال الوقت أم يحملون أغراضهم ويهربون من المنازل؟ أم يهرعون لفتح النوافذ كيلا تحطمها الانفجارات؟ في أي اتجاه سيهربون، إن كان القصف أمامهم والزلزال من خلفهم؟

النجاة في سوريا باتت أمراً مرهوناً بالحظ، فللموت أشكال وأحجام وأوقات مختلفة لا يمكن توقعها، الجوع، القهر، القتل، الكارثة، القصف الإسرائيلي… فبينما يهرب السوريون من الزلازل في الشمال، تتلقاهم القذائف في الجنوب. السخرية أن الكثير من سكان مدن اللاذقية وحلب وحماة فرّوا إلى دمشق بسبب تصدع منازلهم، ولم تمضِ أيام حتى اختبروا هلعاً جديداً.

طائرات المساعدات تهرب بعيداً

منذ بداية الحرب يقف العالم مكتوف الأيدي دون محاولة جديّة لمساعدة السوريين، وكانت القرارات اللوجستية والسياسية وما تحمله من عقوبات مبرراً لعجز معظم الدول عن مد يد العون.

وبعد زلزال 6 شباط/ فبراير، تحركت بعض الدول  بمساعدات خجولة بعد مناشدات  السوريين المنكوبين، كما رفعت بعض العقوبات لمدة ستة أشهر وهي تشمل بشكل أساسي تحويل الأموال. كما توجهت عشرات الطائرات نحو سوريا، وبالتحديد نحو المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، بينما بقيت مناطق المعارضة تعاني تحت وطأة العزلة، وفيما يحاول السوريين الوقوف على أقدامهم، وجدوا أنفسهم تحت قصف صواريخ إسرائيلية، تهاوت فوق رؤوسهم ليكتمل مشهد الدمار السوري. وتبعاً لمصادر برامج تتبع الطيران، فقد تم إخلاء الأجواء السورية من كل الطائرات بعد الهجوم الإسرائيلي بساعات، وهو ما سيؤثر قطعاً وبشكل كبير في مسألة إمداد سوريا بالمساعدات وتحديداً المناطق المتضررة من الزلزال أو سيؤجلها في أفضل الأحوال.

قلعة دمشق مستهدفة أيضاً

هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل مناطق داخل دمشق منذ فترة طويلة، إذ كانت غالبية هجماتها تسقط في محيط العاصمة، ويرجح السبب إلى وجود أهداف عسكرية داخل المنطقة. وليست دمشق وحدها المستهدفة، ففي مدينة السويداء قُصف موقع رادار تابع للجيش السوري في تل المسيح قرب مدينة شهبا، ما أدى إلى دماره بشكل كلي، وفق المعلومات المتوفرة.

لكن الصادم والجديد هو استهداف قلعة دمشق تحديداً، وتحدثت أنباء عن أضرار كبيرة في القلعة، لا يعرف للآن حجمها، إذ قال المدير العام للآثار والمتاحف في دمشق، نظير عوض، إن أحد صواريخ العدوان الإسرائيلي فجر الأحد، استهدف قلعة دمشق، وأدى إلى أضرار كبيرة في المكان. وبحسب عوض لا تمتلك القلعة أي وظيفة عسكرية، وهي مكان أثري تعليمي ثقافي. وتسبب الصاروخ في تهدم المعهد المتوسط للفنون التطبيقية، الذي يعتبر مؤسسة تعليمية تدرس طلاب الفنون نهاراً، وقد دُمر كل ما في المعهد من أثاث وأجهزة مسح وحواسيب وعدة التصوير السينمائي. لكن حتى الآن لا يمكن الجزم بأن الصاروخ الذي استهدف القلعة هو إسرائيلي، إذ تحدثت مصادر عن فشل في إطلاق صواريخ الدفاع السورية أو انفجارها، ما تسبب في سقوط شظايا على أماكن سكنية.

في كل الأحوال، قلعة دمشق تعتبر من أهم الآثار السورية والدمشقية، وتحطيمها جزء من عملية محو التاريخ السوري بكل ما فيه من بشر وحجر، وبينما تضررت قلعة حلب في الشمال بسبب الزلزال، فقد تضررت قلعة دمشق في الجنوب بسبب القصف.

حين عاود صديقي الاتصال بي كي يطمئنني، كان صوته خافتاً، وقد سمعت صوت سيارات الإسعاف وصراخ الناس في الشوارع، قال: “عن شو كنا عم نحكي؟”، صمتنا بعدها مدة طويلة ولم نستطع تذكر حديثنا السابق، لكننا على يقين من أنه كان بعيداً من قصص الموت في هذه البلاد التعيسة، قريباً من وجهة الحلم…

درج

—————————–

“إجازة” في سوريا… ناجون من الزلزال التركي في زيارة مشروطة إلى قراهم/ جهان حاج بكري

في أقرب نقطة على الحدود السورية- التركية وتحديداً عند معبر باب السلامة، جلست صالحة ناصيف على كرسيها المتحرك، تنتظر لساعات طويلة مع زوجها وأحد أبنائها، العبور نحو الجانب السوري، هاربة من الزلزال المدمر الذي وقع في تركيا.

عشرات الأسر تجمعت عند المعابر الحدودية، للنزوح من المناطق المنكوبة، مع بعض الأمتعة والكثير من الحزن، وفق الإجازة المشروطة التي سمحت بها السلطات التركية عقب الزلزال.

وقفتُ من بعيد أراقبهم، اقتربت نحو صالحة الستينية وجلست على الأرض بالقرب من كرسيها، رفعت رأسي وقبل أن انطق بأي كلمة، بدأت هي حديثها بعينين ملأتهما الدموع. حدثتني عن معاناتها مع السكر والضغط و”الديسك” وعن عجزها عن الحركة، وعن العملية التي أجرتها قبل أربعة أشهر في ظهرها لعلها تتحسن، إلا أن الزلزال حال دون ذلك فقد أصيبت في أماكن عدة من جسدها.

صالحة كانت هربت إلى تركيا قبل 8 سنوات من مدينتها عندان بريف حلب، استقرت وأصبحت لها حياة وجيران وأصدقاء.

سألتها، إلى أين تذهبين؟ لم تكن تعرف الوجهة الصحيحة أو حتى منزلاً يمكن أن يأويها داخل تلك البلاد المدمرة أيضاً. صمتت قليلاً وقالت إن لديها صبياً وبنتاً هناك يعيشان في أحد مخيمات إعزاز في ريف حلب، وسوف تذهب إليهما.

تروي أنها “بقيت عشرة أيام في العراء خارج منزلي في ولاية كهرمان مرعش بعد حدوث الزلزال. كانت لحظات مرعبة عشتها، تركت هنا ابني وعائلته لديه خمسة أطفال وقد رفض العودة معنا”. تختم حديثها: “إلنا الله يا بنتي يلي خلقنا ما بينسانا، شو بدنا نعمل. العالم ماتت بمرعش، الله لطف فينا كيف طلعنا من البيت عايشين”.

عشرات الأسر تجمعت عند المعابر الحدودية، للنزوح من المناطق المنكوبة، مع بعض الأمتعة والكثير من الحزن، وفق الإجازة المشروطة التي سمحت بها السلطات التركية عقب الزلزال.

الجميع هنا غير مهتم بموضوع مدة الإجازة التي أعلن عنها والإشاعات التي تقول بأن جميع الداخلين الى سوريا سوف يمنعون من العودة إلى تركيا مجدداً وسيتم إلغاء قيودهم، إنهم يحلمون فقط بالراحة لأيام عند أقاربهم.

منذ اليوم الأول لموعد فتح الإجازة المشروطة إلى سوريا، عاد مئات السوريين عبر معبر “تل أبيض”، ومع سماح العديد من المعابر الإضافية بعبورهم نحو الشمال، ارتفعت الأعداد لتتجاوز الآلاف.

وكانت معابر “باب الهوى” و”تل أبيض” و”باب السلامة” الحدودية مع تركيا، أعلنت السماح لجميع السوريين المقيمين في جميع الولايات التركية من حملة “بطاقة الحماية المؤقتة” (الكملك) بالزيارة الموقتة إلى سوريا، وفق شروط، على أن تكون أقل مدة لبقائهم شهراً واحداً من تاريخ الدخول، (ثلاثة أشهر عبر معبر باب الهوى فقط)، وألا تتجاوز فترة وجودهم ضمن الأراضي السورية مدة 6 أشهر على الأكثر.

وعبر هذه المعابر، يُسمح فقط للسوريين المقيمين في ولايات غازي عينتاب، كلّس، كهرمان مرعش، هاتاي، العثمانية، أديامان، أورفا، ديار بكر، ملاطيا، أضنة، إيلازيغ (ولاية إيلازيغ باستثناء باب الهوى) من حاملي “بطاقة الحماية الموقتة” من الولايات المنكوبة فقط بالدخول إلى سوريا.

أسباب العودة

يعتبر السبب الأساسي في اختيار عدد كبير من الأسر السورية العودة هو عدم تأمين مأوى لهم في تركيا وعدم امتلاك كثر منهم أقارب في الولايات الأخرى للجوء إليهم، فضلاً عن غلاء الأسعار والعجز عن استئجار منزل في ولاية ثانية وغياب فرص العمل، وضعف المساعدات المقدمة لهم.

على مقربة من صالحة كانت سيدة أخرى تحمل رضيعها في حضنها. أتت  من ولاية هاتاي وتحديداً من مدينة اسكندرون، بعدما خسرت منزلها واستقرارها. قالت ليلى إنها ذاهبة نحو مدينة إلى إدلب حيث يعيش أهلها، مع أولادها الخمسة، “لا أعرف ما الذي ينتظرني، وإن كنت سأعود إلى تركيا أم لا”.

بقينا حتى الساعة الرابعة ونصف من ذلك اليوم، إنما لم يسمح للنازحين بالدخول ليخرج بعدها أحد العاملين بالمعبر وبلغة عربية بالكاد مفهومة ويصرخ بصوت مرتفع، “اليوم خالصين ما بقا في حدا يدخل ارجعوا ليوم الاثنين”. هكذا كان على النازحين أن ينتظروا، علماً أن كثراً منهم لا يملك ملجأ ولا مأوى.

درج

————————-

كيف تدخل المساعدات إلى شمال سوريا؟

بعد أن “خذلت” الأمم المتحدة الناس في شمال غرب البلاد

 أ. ف. ب.

بيروت: بعد وقوع الزلزال المدمر، تدخل المساعدات الإنسانية الدولية ببطء وبكميات ضئيلة إلى مناطق منكوبة في شمال غرب سوريا، ما جعل الأمم المتحدة خصوصاً عرضة لانتقادات سكان استنفدهم أساساً نزاع دام.

يقطن في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق (شمال غرب) أكثر من أربعة ملايين شخص، نحو نصفهم من النازحين، يعتمد تسعون في المئة منهم على المساعدات الإنسانية.

فكيف تدخل المساعدات إلى تلك المناطق التي دمرها الزلزال الذي أودى بأكثر من 44 الف شخص في تركيا وسوريا؟

مساعدات إلى سوريا

تدخل مساعدات الأمم المتحدة إلى تلك المناطق عبر طريقين فقط: معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا بموجب قرار صادر من مجلس الأمن الدولي (2672)، ومن مناطق سيطرة الحكومة.

في العام 2014، وفيما كان النزاع السوري في أشده، سمح مجلس الأمن الدوليّ بعبور مساعدات الأمم المتحدة إلى سوريا من دون الحصول على إذن من الحكومة عبر أربع نقاط حدودية هي باب الهوى (شمال إدلب) وباب السلامة (شمال حلب) الحدوديان مع تركيا، اليعربية (أقصى الشرق – حدود العراق)، ومعبر الرمثا الحدودي مع الأردن (جنوب).

لكنه ما لبث أن قلّصها تدريجياً إلى معبر باب الهوى فقط، بضغوط من موسكو، حليفة دمشق، والتي تسعى منذ سنوات لاختصار مساعدات الأمم المتحدة بتلك الآتية من مناطق سيطرة الحكومة.

استخدام معابر

ضرب الزلزال تركيا وسوريا فجر السادس من شباط/فبراير، لكن مساعدات الأمم المتحدة عبر باب الهوى لم تدخل سوى في التاسع منه وكانت عبارة عن معدات خيم مجهزة منذ ما قبل الزلزال وتكفي لخمسة آلاف شخص فقط.

أخرت أسباب عدة دخول المساعدات، بينها تضرر الطرق والأضرار التي لحقت حتى بطواقم الإغاثة في تركيا وسوريا.

أثار تأخر الأمم المتحدة ومحدودية المساعدات انتقادات سكان ومنظمات محلية على رأسها “الخوذ البيضاء”، الدفاع المدني في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، والتي وصفت الأمر بـ”الجريمة”.

وفي 12 شباط/فبراير، أقرّ منسّق الأمم المتحدة للإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث بأنّ الأمم المتحدة “خذلت حتى الآن الناس في شمال غرب سوريا”.

وبموجب القرار الدولي، لا تحتاج الأمم المتحدة لإذن من دمشق لاستخدام معبر باب الهوى.

ولكن من أجل استخدام معابر أخرى، تطلب الأمم المتحدة موافقة دمشق.

وعلى وقع المناشدات والانتقادات، أعلنت الأمم المتحدة فتح معبري باب السلامة والراعي الحدوديين مع تركيا أمام مساعداتها لمدة ثلاثة أشهر بعدما حصلت على موافقة دمشق.

مساعدات ضئيلة

لكن المساعدات لا تزال ضئيلة، ولا تنسجم حتى مع حجمها قبل الزلزال.

وأرسلت الأمم المتحدة بعد الزلزال حوالى مئتي شاحنة إلى شمال غرب سوريا، مقارنة مع معدل 145 شاحنة أسبوعياً في 2022، بحسب منظمة أطباء بلا حدود.

بإمكان المنظمات الإنسانية الدولية ألا تستخدم آلية الأمم المتحدة. وإن كانت تعتمد بشكل أساسي على معبر باب الهوى، لكنها تستخدم أيضاً معابر أخرى.

بعدما استنفدت مخزونها في إدلب، أرسلت منظمة أطباء بلا حدود الأحد قافلة محملة بالخيم عبر معبر الحمام في منطقة عفرين.

وتؤمن المنظمات الدولية المساعدات أيضاً عبر شركاء محليين.

وتقول المديرة الإقليمية لمنظمة “آكشن إيد” رشا ناصرالدين إن منظمات دولية عدة تؤمن لشركاء محليين “التمويل لشراء ما يلزم من السوق المحلية أو من تركيا”.

بعد وقوع الزلزال، استخدمت منظمة بنفسج المدعومة من “آكشن إيد”، “مخزونها من خيم وأغطية ومواد غذائية جاهزة للأكل”.

وتضيف ناصرالدين “ثم أرسلنا اليهم دعماً مالياً لشراء مواد إضافية من السوق المحلية التي ارتفعت الأسعار فيها بسرعة وبشكل كبير”.

منذ الزلزال يشكو سكان المنطقة تخلي المجتمع الدولي عنهم، فيما تدفقت فرق الإغاثة الدولية وطائرات المساعدات إلى تركيا، كما وصلت عشرات الطائرات إلى مناطق الحكومة السورية خصوصاً من دول حليفة لها.

بإمكان الأمم المتحدة إدخال المساعدات من مناطق سيطرة الحكومة السورية التي نادراً ما تمنح الأذونات. وقد دخلت آخر قافلة من مناطق دمشق قبل ثلاثة أسابيع من الزلزال.

رفض دخول المساعدات

وفي 10 شباط/فبراير، أعلنت دمشق موافقتها على إرسال المساعدات إلى شمال غرب سوريا، الذي تتقاسمه سلطتان: هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في شمال إدلب، وفصائل سورية موالية لأنقرة في شمال محافظة حلب.

ويقطن نحو ثلاثة ملايين شخص، غالبيتهم من النازحين، مناطق تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، بينما يقيم 1,1 مليون في مناطق الفصائل الموالية لأنقرة.

تتولى هيئة تحرير الشام عبر مؤسسات مدنية واجهتها ما يُسمى “حكومة الإنقاذ”، وأجهزة أمنية وقضائية خاصة بها، تنظيم شؤون إدلب.

وبعد نحو أسبوع على وقوع الزلزال، رفض زعيم الهيئة أبو محمّد الجولاني دخول مساعدات من مناطق سيطرة الحكومة.

وأعلنت منظمة الصحة العالمية أنها حصلت على موافقة دمشق لكنها تنتظر الضوء الأخضر من “الجانب الآخر”.

أما مناطق شمال حلب، فتتولى إدارتها مجالس محلية تتبع للمحافظات التركية القريبة مثل غازي عنتاب وكيليس وشانلي أورفا. وتنتشر في تلك المنطقة قوات تركية، ويتقاسم حوالى 30 فصيلاً موالياً السيطرة عليها.

بعد الزلزال، أرسلت الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق البلاد، أحد أبرز خصوم تلك الفصائل، قافلة مساعدات باتجاه شمال حلب. لكن القافلة عادت أدراجها بعد انتظارها أكثر من أسبوع عند معبر يفصل بين المنطقتين لعدم حصولها على إذن الفصائل بالعبور، وفق الإدارة الذاتية.

——————————-

السياسة العربية والكوارث الطبيعية/ مأمون فندي

رغم المساعدات التي قُدّمت من دول المنطقة استجابة لكارثة الزلزال الأخيرة التي ضَربت كلاً من تركيا وسوريا، فإنَّ الكارثة كشفت القصور الذي يجب على دول الإقليم تداركه لمواجهة أزمات شبيهة بسرعة أكبر وكفاءة أعلى. وهذا يتطلب ورشَ عملٍ جادة داخل الدول والمنظمات الإقليمية والدولية. وفي مثل هذا العمل لا يمكننا التعامل مع القضايا الإنسانية فحسب، ولكن ينبغي أيضاً تحسين آليات التنسيق بين دول الإقليم على مستوى علاقاتها الدولية.

سياسة الكوارث أو القضايا الأدنى في العلاقات الدولية لديها القدرة على المحافظة على الكيانات السياسية القائمة، حتى لو تعرضت لهزات عنيفة. فمثلاً عندما حدثت مقاطعة قطر من قبل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كان كيان مجلس التعاون كله مهدداً بالانهيار.

وفي حديث مع رئيس الوزراء الكويتي السابق الشيخ صباح الخالد، وهو دبلوماسي مخضرم عمل سفيراً في المملكة العربية السعودية، ثم الأمم المتحدة، ثم تسلم وزارة الخارجية في بلاده لفترة غير قصيرة، قال لي إن مهمته في هذه المرحلة هي الحفاظ على كيان مجلس التعاون.

ولا بد من استمرار اللقاءات على مستوى السفراء، أو وزراء الخارجية، أو ما دون ذلك، حول قضايا ليست ملتهبة كقضايا البيئة والمناخ… وغيرهما، فهذه اللقاءات تحافظ على بقاء الكيان رغم الاختلافات القائمة، وبالفعل نجح مجلس التعاون الخليجي في تجاوز الأزمة التي كادت تعصف به.

النقطة الأساسية هنا هي أن التنسيق على مستوى القضايا الإنسانية والكوارث واحد منها، لا يهدف فقط إلى التصدي لأزمة قائمة، ولكن أيضاً يحافظ على البنى السياسية القائمة؛ مثل جامعة الدول العربية، أو منظمة العمل الإسلامي، أو مجلس التعاون الخليجي.

ومن هنا يأتي سؤالي: هل مستوى التنسيق بين دول منطقتنا يحتاج إلى نقاش جاد للوصول به إلى المستوى المنشود، رغم ما قامت به بلدان مثل المملكة العربية السعودية من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة، وما قامت به الإمارات والكويت؟ لقد كان واضحاً مثلاً غياب دور الجامعة العربية في إغاثة سوريا، فهل هذا يتطلب إضافة ذراع لجامعة الدول العربية تشبه المنسق العام للإغاثة، وهو موقع تحت السكرتير العام للأمم المتحدة يقوده الآن السيد مارتن غريفث؟ وهل يمكن لدولنا العربية أن تطمح إلى أداء أفضل من أداء أذرع الأمم المتحدة في التعامل مع الكوارث في منطقتنا؟ هذه الأسئلة تتطلب جهداً قبل الإجابة عنها.

عام 2006-2007 دعا الاتحاد الدولي للاستجابة للكوارث لمؤتمر ينظم إرشادات التعامل مع الكوارث الإنسانية على المستويات المحلية والدولية والإقليمية، شارك فيه الهلال الأحمر، وكذلك الصليب الأحمر، ومؤسسات دولية أخرى غير حكومية مثل أوكسفام، وكان ذلك في إطار تقييم الأداء بعد كارثة التسونامي الذي ضرب آسيا عام 2004، وأدى إلى وفاة ما يقرب من ربع مليون شخص (224000) حسب إحصاءات المؤسسات الدولية. قدمت بعدها هذه المؤسسات إرشادات للتعامل مع الكوارث التي تشبه زلزال كل من سوريا وتركيا.

ومع ذلك رأينا درجة الفشل التي شاهدناها في عمليات الإنقاذ، رغم الجهود المشكورة لمختلف الدول، كل واحدة على حدة.

الفكرة ليست أن يقال إنَّ الدولة كذا ساعدت، وإن غيرها لم تساعد، الفكرة هي وجود بنية إقليمية تجعل عمليات التنسيق ممكنة؛ وذلك لأنه في حالات الكوارث الطبيعة كل دقيقة أو ساعة تفرق كثيراً في وجود شخص على قيد الحياة من عدمه.

لنقل مثلا إن مؤسسة مثل مركز الملك سلمان للإغاثة يمكن أن تكون نواة لتنسيق إقليمي أوسع، خصوصاً أن المملكة العربية السعودية اليوم تطمح، ولديها الإمكانات، لدور القيادة الإقليمية، فلماذا لا نفعل مثل ذلك؟ الأمر يستحق، والزلزال لن يكون الأزمة الأخيرة في منطقتنا.

لدينا مؤسسات كثيرة، ولكنها للأسف متفرقة كحبات المسبحة المتناثرة، وكل المطلوب هو أن تجمع واحدة من القيادات الإقليمية حبات المسبحة هذه في خيط واحد، لتصبح مسبحة صالحة للتسبيح، وليس مجرد خرز متناثر.

المنطقة أيضاً بها أموال كثيرة، فهناك دول غنية، ورجال وأسر تجارية غنية، ومع ذلك فاستجابتنا للكوارث بشكل منظم ينقصها الكثير.

وكما ذكرت في بداية المقال، فإنَّ الحديث عن القضايا الإنسانية فرصة للحفاظ على كيان مؤسسة جامعة مثل جامعة الدول العربية، رغم الاختلافات القائمة، وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي… وغيرهما من المؤسسات.

الحديث السياسي حول ما يعرف بالـ issue areas أو القضايا الجانبية، يساعدنا على تناول القضايا الجوهرية العالقة بين الدول.

كارثة الزلزال كشفت أننا نحتاج إلى الكثير فيما يخص التنسيق بين دولنا ومؤسساتنا العابرة للحدود. أرجو أن يؤخذ الأمر بجدية هذه المرة، لنكون مستعدين لأي خطر أو كارثة.

الشرق الأوسط

——————–

زلزال تركيا وسوريا وإعادة التفكير في الدولة/ هشام جعفر

تضع الجوائح والكوارث الطبيعية يوما بعد آخر الدولة -أيًّا كان شكل النظام السياسي بها ديمقراطيا أم تسلطيا- أمام تحديات صعبة وتفرض عليها التحول الدائم والمستمر، والأهم أنها تثير أسئلة كثيرة حول قدرتها على مواجهة هذه التحديات وطبيعة أدوارها ووظائفها، خاصة أنها قدمت في عالمنا على أنها المطلق/المقدس الذي يجب المراهنة عليه بتقديم فروض الطاعة والولاء، وقد ثبت في مواجهة كورونا والتغير المناخي والأعاصير والزلزال… إلخ أنها وإن كانت مهمة لإدارة الجهود وتنسيقها للتعامل مع هذه التحديات؛ فإنها وحدها خلق من خلق البشر يجري عليها ما يجري على البشر من عجز وتقلبات وتغيرات.

ففي كورونا تمدّدت الدولة باستخدام التكنولوجيا في مساحات كثيرة؛ إذ تطلّب التعامل مع الجائحة فرض الرقابة على المواطنين، وتقييد حريتهم في الحركة والتنقل، وإعادة تنظيم العمل، وإلزامية التطعيم… إلخ، وكلها إجراءات تحدّ من حرية المواطنين وتكاد تلغي الاختلاف بين نظم تسلطية شمولية كالصين ونظم ديمقراطية تحترم الحريات الشخصية وإرادة المواطنين كالولايات المتحدة وأوروبا.

هنا ملاحظة جديرة بالاعتبار وهي أن ذروة الإجراءات التي اتخذتها الدولة المعاصرة قامت بها الصين التي رفعت شعار صفر كورونا واستمر منذ الجائحة في فبراير/شباط ومارس/آذار 2020 حتى تراجعت عنه أخيرا أوائل هذا العام تحت ضغط شعبي، وهو مثل من أمثلة عديدة على أن الدولة المعاصرة مهما أوتيت من جبروت يظل سلطانها مقيدا.

ولمعالجة تداعيات كورونا الاقتصادية تدخلت الدول بأشكال كثيرة من الدعم المالي والاقتصادي لأصحاب الأعمال والعاملين الذين تضرروا من الإغلاق الذي فرضته السلطات العامة، واستمر هذا الدعم أيضا لمعالجة تداعيات العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا.

كانت ذروة هذا التدخل بالدعم في الدول الرأسمالية الغربية حيث استخدمت الاقتراض الحكومي لدعم الاستهلاك بما يجعل الانقسام التقليدي بين دول رأسمالية -تعتمد آليات السوق- في مواجهة اشتراكية -تعتمد تدخل الدولة- يتلاشى ويجعلنا أمام دولة تختفي معها أو تكاد الثنائيات المتعارضة التي حكمت تفكيرنا منذ عقود طويلة، مثل الانقسام بين دولة رأسمالية وأخرى اشتراكية أو شيوعية.

إن سلاسل التوريد التي أخذت قوة دفعها الأساسي بعد الحرب الباردة من العولمة؛ أسهمت إعادة صياغتها نتيجة جائحة كورونا -التي خلقت مشاكل في التداعي والتدفق الحر للمنتجات بسبب الإغلاق- في قيام الدول المختلفة بضرورة ضمان هذا التدفق.

وكان من ضمن السياسات المتبعة نقل كثير من مكوناتها إلى داخل الدولة ذاتها أو قريبا منها لضمان السيطرة والتحكم فيها بما يعيدنا مرة أخرى إلى مفهوم الدولة القومية بالمعنى التقليدي وما يرتبط بها من مفاهيم السيادة -سيادة الدولة- في مواجهة سيادة ناعمة فرضتها مقتضيات العولمة وتصاعد أدوار الفاعلين من غير الدول.

شكّل “كوفيد-19” تحديا هائلا لقدرة الدولة -أيا كانت طبيعتها- على التعامل مع الاضطراب البشري والاقتصادي الناجم عن الفيروس. ونظرًا لنطاقه العالمي، حفز الوباء التعاون الدولي في بعض الحالات، ومع ذلك فقد ولّد أيضًا ديناميكيات تنافسية بين الدول، لكنها لم تصل إلى حد القطيعة على غرار الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتاج عوامل التداخل الاقتصادي والثقافي والمعلوماتي إلا إذا وقع اعتداء على أراضي الدولة القومية كما في الحرب الأوكرانية.

شكّلت خطابات التدخل الإنساني مثل مسؤولية الحماية تهديدًا واضحًا لسيادة الدولة، وأضرّت بعلاقات الجهات الفاعلة الإنسانية مع الأنظمة الاستبدادية في العديد من القضايا البارزة. في دارفور -على سبيل المثال- دفعت جهود المحكمة الجنائية الدولية لإدانة الرئيس البشير إلى اتخاذ قرار بطرد 13 منظمة غير حكومية دولية في عام 2009، كما فرض نظام بشار الأسد قيودا على جهود الإغاثة الدولية للمناطق التي لا تقع تحت سيطرته.

السياسة التشاركية

رغم ما يبدو من خلاف بين الحالة التركية وتلك السورية في التعامل مع الزلزال الحالي؛ فالأولى توجد بها سلطة مركزية تستند إلى هياكل الدولة التقليدية، في حين أن المناطق التي تضررت في سوريا تخلو من سلطات الدولة منذ سنين طويلة بل في حالة عداء معها. وعلى الرغم مما يبدو من خلاف ظاهر بين الحالتين، فإننا يجب أن نلحظ الدور الذي تقوم به ما أطلقت عليه بعض الدراسات الهياكل الأساسية غير المادية من أدوار في التعامل مع الكوارث الطبيعية.

تقع هذه الهياكل في المجتمع المحلي وتجد جذورها في شبكاته الاجتماعية والثقافية، هذه الشبكات الاجتماعية والمعلومات والمعارف التي يتبادلونها فيما بينهم هي ما يسمى “الهياكل الأساسية غير المادية”. ويمثل هذا المفهوم نقيض “الهياكل الأساسية المادية” أي المنظمات، والقواعد التنظيمية، ونظم المراقبة والموارد المادية، والطرق، وخطوط الأنابيب التي تهدف إلى الحد من المخاطر.

تطرح كل من الحالتين التركية وتلك السورية سؤالا مهما وإن كان من منظور مختلف: ما حدود قدرة الدولة على التعامل مع المستجدات الطارئة؟ وما الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها المجتمع المحلي سواء في حال غيابها بالكلية كحالة سوريا أو حضورها كحالة تركيا؟

تثبت الدولة يوما بعد آخر أن قدرتها محدودة، لكن في الوقت نفسه لا يمكن الاستغناء عنها، ولكن تدخلها لا بد أن يرتبط بالشبكات والإمكانات المحلية وتنميتها أيضا أو يرتبط بالهياكل غير المادية التي عادة ما يمتلكها المجتمع المحلي.

نقول: إن الهياكل الأساسية غير المادية هي التي تذلّل الصعاب بالفعل، وإنه يتعين على المؤسسات الوطنية والدولية وصانعي القرار في مجال الحد من مخاطر الكوارث أخذ هذا الأمر على محمل الجد. يتفاعل ما يوصف كثيرا “بالمجتمعات المحلية التقليدية” مع بيئته الطبيعية ويعمل على تكييف التنظيم الاجتماعي والثقافة مع الاختلافات القائمة في ديناميات الطبيعة.

تشكل هذه المعارف قدرة معزَّزة على تحمل آثار الكوارث، فعندما انهارت -على سبيل المثال- شرايين النقل الرئيسة في بنغلاديش في مواجهة فيضان كبير حدث في عام 2006 تكفلت الشبكات الاجتماعية غير الرسمية بإيصال الأغذية إلى المدينة، وصناعة الخبز في الأحياء العشوائية ونقله إلى المناطق الأغنى بواسطة الباعة المتجولين.

وبصرف النظر عن احتمال عدم القبول بالشبكات الاجتماعية غير الرسمية من منظور حكومي، فإن مسألة الوصول إلى الموقع تظل أيضا على المحك. لا تعمل الشبكات والمعارف في هذه المجتمعات بوصفها رأس مال اجتماعي وثقافي فحسب، بل ربما أيضا بوصفها رأس المال الوحيد الذي بحوزتها، كما تتصل فيما بينها من خلال الشبكات الاجتماعية التي تنتشر عبر القارات.

في هذا السياق، يمكن أن نشير إلى حالة التضامن العربي الواسعة مع ضحايا الزلزال والتي ترجمت إلى مساندة مالية كبيرة وأدوار للمتطوعين. تشكلت مجتمعات محلية جديدة على شبكة الإنترنت بصورة افتراضية، وتطورت المجتمعات التقليدية من خلال وسائط الاتصال الافتراضي ووسائط التواصل الاجتماعي، وهنا نلحظ التضامن الذي وجد من مجتمعات الشتات السورية مع المناطق المنكوبة في الوطن الأم.

وفي حين أن الشبكات المحلية ظاهرة معقدة ودينامية، فإنها تشكل رصيدا قيِّما في الاستجابة لحالات الكوارث، ويجري تشكيلها وامتدادها بصيغ جديدة. ورغم الخطاب الذي يشجع على إشراك الناس في التخطيط للتأهب والحد من المخاطر، فقلّما يتمكن أفراد المجتمع المحلي بالفعل من تحمل هذه المسؤولية، خاصة إذا تعرض للإنهاك المستمر كما في سوريا، كما أن السلطات لا تقبل دائما ما هو قائم محليا من رأس مال اجتماعي ومعارف ثقافية ولا تجيز الأخذ به وقد تدخل في عداء معه إن لم تسيطر عليه.

وتتمثل إحدى المشاكل في الفجوة القائمة في الاتصالات والمعارف والتفاعل بين السلطات المسؤولة عن الاضطلاع بجهود الحد من مخاطر الكوارث والإنعاش وبين أفراد المجتمع المحلي. إن هذه الفجوة سائدة، وفي الوقت نفسه تتوقع السلطات بشكل متزايد أن يتحمل المواطنون فرادى والمجتمعات المحلية مسؤوليات الحد من مخاطر الكوارث تحت مسمى “القدرة المحلية على التحمل”.

وفي المناطق المعرضة للخطر، تكون المعارف المحلية بشأن المخاطر وكيفية التصدي لها قائمة عموما على الذاكرة الجماعية والتاريخ. وحيثما تشكل الكوارث ظواهر متكررة، تعلم الناس من التجربة قراءة علامات الخطر وتقييم حدّته، ووضعوا مرجعا للتصدي له.

الدولة عندما تحل محل الأفراد أو تضعف المجتمعات المحلية فإنها تضعف قدرتهم على التعامل مع الكوارث الطبيعية أيضا. فعلى سبيل المثال، ذاع صيت سكان جزيرة سايميلو الإندونيسية إثر نجاتهم من كارثة تسونامي بفرارهم إلى أعلى نقطة جغرافية. ورغم أن المنطقة لم تشهد تسونامي على مدى أكثر من قرن من الزمان، فقد أبقت الحكايات والأغاني الشعبية الذاكرة الثقافية للكوارث السابقة حية.

وفي مدينة سانتافي (الأرجنتين) يحتفظ سكان الضواحي بمعارف تتعلق بالفيضانات عبر الأجيال عن طريق الممارسات الاجتماعية المتعددة المتصلة بتلك البيئة النهرية تحديدا، وما هذه إلا بضعة أمثلة توضح أن أفراد المجتمع لا يتعلمون على حدة فحسب، وإنما أيضا بشكل جماعي. وكثيرا ما يتم تجاهل المجتمعات المحلية والشبكات الاجتماعية غير الرسمية في الأزمات، في حين أنها ضرورية في واقع الأمر لإنعاش المناطق المتضررة، ورغم أن إسهام المتطوعين في حالات الكوارث أساسي ويبعث على الإعجاب كخدمات الإنقاذ التي يقدمونها، فينبغي لنا ألا نستخف بذلك الإسهام.

سيتمكن القسم الأكبر من ضحايا الكوارث من النجاة بفضل الأقارب والجيران والأصدقاء والمارّة، لأنهم موجودون بالفعل في الموقع، على نحو ما شهدته معظم الحالات. ويمكن لخطاب الاعتماد على الذات أن يلهم المجتمعات المحلية للتركيز على الحل الجماعي للمشكلات مع عزل أنفسهم عن سياسات الدولة كما في حالة سوريا، أو يمكن أن يدفع المجتمعات إلى الاشتراك في المطالبة بمعايير للمجتمع والحكم كما في الحالة التركية التي ساءلت أردوغان ونظامه عن مصير ضريبة الكوارث التي جمعت على مدار السنوات السابقة وفي أعقاب زلزال 2008.

الكوارث ابتلاء للدولة؟

ففي أعقاب الكوارث المفاجئة، تكثر التحديات العاجلة التي ينبغي التصدي لها؛ تشهد الدولة تحوّلًا بالغ الأهمية من البنى والنظم إلى شكل من أشكال الشبكات بحكم عوامل كثيرة. تحللت كثير من هياكل الدولة -خاصة تلك التي لها احتكاك كبير بالسوق أو المجتمع أو ظواهر العولمة وأدواتها- لتتحرك متفاعلة مع ذلك كله، ليس باعتبارها هياكل وبنى متماسكة ولكنها تتحلل إلى عدد من الشبكات التي لا يجمعها في أحيان كثيرة رابط الهيكل، وإنما ما يمكن أن نطلق عليه أصحاب المصلحة.

هنا أنا أتحدث عن التفاعل الطبيعي والمحكوم بالقواعد بين هياكل الدولة وأصحاب المصلحة في السوق والمجتمع والعالم، ولا أشير إلى اختراق هياكل الدولة بالفساد وضعف قدرتها على فرض القواعد والقوانين كما حدث في تجاوزات المقاولين في الحالة التركية. يرتبط التحدي الرئيس الذي تثيره الحوكمة بالحاجة إلى إشراك أنواع مختلفة جدًّا من أصحاب المصلحة، مثل السكان والسلطات العامة بتنوعها، والمشغلين الخاصين، والمشغلين من مختلف القطاعات، ووسائل الإعلام… إلخ.

يُعبّر عن هذه الحاجة في مفهوم حوكمة الشبكة الذي اقترحه أحد الباحثين، فلكل مجموعة من أصحاب المصلحة مصالحها الخاصة، ومن ثم فهمها لما يعنيه تحقيق المرونة وبناء المقاومة والصمود لمواجهة الكوارث. قد تنشأ التضاربات المحتملة -على سبيل المثال- عندما لا تتوافق المصالح التجارية مع الأمن العام، ويتغير دور الدولة فيما يتعلق بمؤسسات الاستثمار عندما يحدث التحرير أو الخصخصة، فلم يعد بإمكانها التأثير المباشر على تكوين وإدارة نظام التعامل مع الكوارث، بل عليها التركيز على وضع شروط إطارية لعمليات الإنتاج والأسواق ومن ثم التنظيم بما يتطلبه من المفاوضات بين مختلف أصحاب المصلحة.

قضية أخرى هي مساءلة الدولة والسلطة المركزية؛ ففي غيابها كما في سوريا لا يمكن أن تسائلها إلا من مدخل أخلاقي قيمي فقط، وتؤدي الكوارث بشكل متزايد إلى إثارة مطالبات عامة بمساءلة الخبراء وصانعي القرار بالإضافة إلى السلطات العامة. ثمة سؤالان تلوح نذرهما في بيئة ما بعد الكوارث هما: لماذا لم تكن تعلم أن الكارثة ستقع؟ أو لماذا لم تعمل على منع وقوعها؟! ويضاف إليهما سؤال ثالث: كيف كان أداء أصحاب المصلحة في الكارثة واستجابتهم لها؟

سُمعت بالفعل صرخات احتجاج قوية تتعلق بعدم تعزيز قوانين البناء السارية لمكافحة الزلازل في تركيا. وفي حالات كثيرة مماثلة، يبدو للوهلة الأولى على الأقل، أن التكيف أو التعلم من التجارب السابقة كان ضئيلا. وتساءل السوريون في المناطق المتضررة عن التأخر في تقديم العون من المنظمات الدولية والدول الأخرى.

الجزيرة نت

———————-

الإنذار المبكر للزلازل.. حتمية غائبة/ ممدوح الولي

في السادس من الشهر الحالي أشار بيان لمجلس الوزراء المصري إلى تكليف رئيس المجلس مصطفى مدبولي لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء بإجراء مشروع بحثي لصياغة السيناريوهات وبدائل السياسات اللازمة لتعامل الاقتصاد المصري مع الوضع العالمي خلال عامي 2023 و2024؛ بعد إعلان رئيس الوزراء توقعه لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية العام الحالي وربما العام المقبل أيضا.

أعقب ذلك قيام مركز المعلومات بتحديد 15 موضوعا لمناقشتها من قبل الخبراء والمختصين، ورفع التوصيات بشكل فوري عقب انتهاء كل جلسة إلى رئيس الوزراء، وحتى الآن عقدت 5 جلسات حول آفاق النمو الاقتصادي وتحديات أمن الطاقة وتحديات الأمن الغذائي ومستقبل سلاسل الإمداد وأثرها على مصر واتجاهات قطاع الزراعة.

قال رئيس مركز المعلومات إن هذه الجلسات تهدف إلى استشراف المستقبل ورسم السياسات وتقديم بدائل الحلول من خلال آراء ومقترحات الخبراء كأفضل الأساليب وأقصرها وقتا للوصول إلى رسم التصورات والاتجاهات المستقبلية.

أصابتني الدهشة حين قرأت عن تكليف رئيس الوزراء الذي يعني أنه كان يعمل من دون تصورات مستقبلية موضوعة له من قبل الخبراء للتعامل مع المتغيرات العالمية رغم تكرار المشاكل الدولية من وباء كورونا، إلى أزمة سلاسل الإمداد العالمي، وارتفاع التضخم عالميا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع الفائدة في البنوك المركزية بالعالم.

ارتباك حكومي في مواجهة ارتفاع الأسعار

حضرت في شهر يوليو/تموز 2000 ندوة بمركز معلومات مجلس الوزراء لعمل نظام إنذار مبكر ضد الصدمات الاقتصادية وتم بعده تكليف فريق بحثي يشرف عليه الاقتصادي الراحل الدكتور محمود عبد الفضيل لإنجاز المهمة، وبعد مرور عام وفي نهاية يوليو/تموز 2001 حضر الفريق البحثي للإعلان عن التوصل إلى نظام للإنذار المبكر للقطاع المالي المصري في ندوة حضرها رئيس الوزراء حينذاك الدكتور عاطف عبيد وتم الإعلان عن ورش مكملة لنظام الإنذار المبكر حول عدد من القضايا الاقتصادية داخل مركز المعلومات.

ولهذا تصورت أن هذا النظام للإنذار المبكر الذي تبنّاه المركز وقتئذ ما زال يمارس نشاطه، إلى جانب أن رئيس الوزراء شريف إسماعيل قد شكّل لجنة قومية لإدارة الأزمات والكوارث والحد من المخاطر بمجلس الوزراء في ديسمبر/كانون الأول 2016، وهي اللجنة التي يرأسها رئيس مركز معلومات مجلس الوزراء وتضم 80 جهة ما بين الوزارات والمحافظات وجهات أخرى حكومية وأهلية والتي عقدت اجتماعها الأول في يوليو/تموز 2017 وشهد اجتماعها الذي حضره رئيس الوزراء إطلاق الإستراتيجية الوطنية لإدارة الأزمات والكوارث.

لكنني كنت واهما وكان يجب أن ألاحظ الارتباك الذي تعيشه الحكومة مع كل أزمة داخلية أو خارجية والذي يعني سيرها بدون وضع سيناريوهات مسبقة للمشاكل، ومن ذلك قرارها بتحديد سعر الأرز الذي تسبّب في اختفاء الأرز من الأسواق وارتفاع سعره، وإصرارها على القرار لبضعة أشهر حتى اضطرت أخيرا إلى إلغاء القرار، بعد استفحال مشكلة نقص الأرز وزيادة سعره إلى مستويات غير مسبوقة دفعتها إلى الإعلان عن اللجوء إلى استيراده رغم كفاية الإنتاج المحلي للاستهلاك ومنع تصديره.

وتكرر الارتباك مع ارتفاع أسعار السلع عقب خفض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، رغم أن السيناريو نفسه سبق حدوثه مع تعويم عام 2016. كذلك الحديث عن اللجوء إلى نظام الأسعار الاسترشادية عدة مرات دون تنفيذ وهو ما كان أيضا مع الحديث عن طرح خبز خارج البطاقات التموينية وتحديد أكثر من موعد للطرح والذي لم يتحقق أيضا حتى الآن.

مخاوف توقع حدوث زلزال بمصر

كنت أتصور أنه حتى لو وُجدت وحدة لإدارة الأزمات بمركز معلومات مجلس الوزراء أن تكون هناك استعانة بمركز دعم القرار والدراسات المستقبلية في كلية الحاسبات بجامعة القاهرة، الذي يعمل في مجال الإنذار المبكر بالمجالات الإدارية والاقتصادية والإنتاجية أو بوحدة إدارة الأزمات بكلية التجارة في جامعة عين شمس أو باللجنة القومية للأزمات بأكاديمية البحث العلمي أو غيرها من الجهات التي تعمل في مجال إدارة الأزمات.

ربما يقول البعض أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، لكن الأسلوب الذي تدار به جلسات الحوار للتوصل إلى حلول مستقبلية لا ينمّ عن تعامل علمي مع قضية الإنذار المبكر الذي يتطلب تحديد المشاكل والأزمات وتحديد السيناريوهات المختلفة للتعامل معها عند حدوثها من قبل متخصصين، وما يحدث مجرد اقتراحات متناثرة ولا يوجد ضمان لشمولها لكل جوانب القضية المثارة، إلى جانب استضافة أعضاء بالبرلمان وبمجلس الشيوخ ومن الأحزاب الموالية ومسؤولين بالوزارات ممن حوّلوا الحوار إلى دفاع عن السياسات الحكومية رغم إخفاقها.

هنا تزداد مخاوفي من تحقق توقعات الباحث الهولندي المتخصص بالزلازل فرانك هو غيربيتس الذي توقع حدوث زلزال تركيا قبل وقوعه بـ3 أيام وحدد مكانه، فقد توقع أيضًا حدوث زلزال كبير في لبنان وربما مصر  لكنه لا يعرف متى سيحدث. فعلى حد قوله، ربما يحدث خلال أسابيع أو خلال سنوات. رد رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر عليه بعدم توقع حدوث زلازل بمصر وأكد قدرة الدولة على التعامل مع أي أزمات أو طوارئ محتملة.

هذا يجعلني أتذكر أنه في سبتمبر/أيلول 1990 استضافت مصر المؤتمر الدولي لإدارة الكوارث الذي يعقد كل عامين في إحدى الدول ويستمر 4 أيام، والذي كشف عن وجود خطة مصرية لمجابهة ومنع وإدارة  الكوارث منذ مارس/آذار 1988، وتعددت أوراقه المقدمة من باحثين مصريين وعرب وأجانب عن أنواع الأزمات كالسيول والجفاف والتصحر والزلازل.

ومن بين أوراق موضوع الزلازل دراسة بعنوان مكامن الخطورة الزلزالية بمصر، رصدت بيانات الزلازل التي حدثت بمصر منذ عام 2200 قبل الميلاد حتى عام 1984، ودراسة أخرى عن الدروس المستفادة من زلزال “كلاماتا” الذي حدث في عام 1986، ودراسة عن مساكن الإيواء العاجل، وحتى دراسة عن تغذية الأطفال أثناء الكوارث، وأخرى عن النواحي النفسية والاجتماعية عند الطفل أثناء الكوارث.

افتقاد الحكومة لقاعدة بيانات عن الخبراء

وبعد عامين من المؤتمر، حدث زلزال أكتوبر/تشرين الأول 1992 بقوة 5.9 درجات على مقياس ريختر، أي بقوة تدمير متوسطة، ومع ذلك أسفر عن 439 وفاة و2036 إصابة وانهيار وتصدع مئات المنازل والمدارس والأبنية الحكومية، ولم أر تطبيقا عمليا للكلام الذي قيل بالمؤتمر من قبل الجهات الحكومية المختلفة، خاصة الدفاع المدني، عن استعدادها لمواجهة الكوارث.

حينئذ جاء التدخل الحكومي بطيئا ومتأخرا، بينما كانت لجنة الإغاثة في نقابة الأطباء بجانب المتضررين بعده مباشرة تقدم لهم المساعدات، وفي يوم الزلزال الذي وقع عصرا كان هناك حفل بفندق سميراميس احتفاء بشركة أجنبية تبيع أجهزة الكمبيوتر، وحضر الحفل رئيس مركز معلومات مجلس الوزراء والذي لم ينصرف إلا بعد انتهاء الحفل بما ينم عن عدم وجود معلومات لديه عن المتضررين من الزلازل بالمحافظات رغم وجود فرع لمركز المعلومات في كل محافظة.

أذكر أيضا عندما كُلّف الدكتور عاطف عبيد بتشكيل الوزارة في أكتوبر/تشرين الأول 1999، اتصل بي الدكتور مختار خطاب الذي أُعلن عن ترشيحه وزيرا لقطاع الأعمال طالبا مني استعارة موسوعة مصرية تضم أسماء الخبراء والشخصيات المصرية المهمة من مكتبة جريدة الأهرام للاستعانة بها في اختيار الوزراء الجدد، فقلت له مدهوشا، خاصة وأن الدكتور عاطف عبيد كان وزيرا للتنمية الإدارية، “وهل الحكومة ليس لديها قاعدة بيانات للخبراء؟!”.

بعد بضع سنوات كان هناك بحث عن وزير للمالية، وطلب مني صديق على صلة بملف التعديل الوزاري البحث عن شخص يصلح للمنصب، وتذكرت أستاذا للمالية العامة بإحدى المحافظات الساحلية كان يحضر المحاضرات التي ألقيها بنقابة التجاريين في تلك المحافظة ويشارك بآراء جيدة، فرشحته له وكانت الوزارة من نصيبه، لأتأكد أن الحكومة ما زالت مفتقدة لقاعدة بيانات عن الخبرات والخبراء المصريين.

وفي أغسطس/آب الماضي جرى تعديل بوزارة مصطفى مدبولي، ورشحوا الدكتور أحمد عيسى الأستاذ بكلية الآثار لمنصب وزير السياحة والآثار، لكن المسؤول عن الاتصالات بالمرشحين اتصل بأحمد عيسى رئيس قطاع التجزئة المصرفية بالبنك التجاري الدولي، والذي تقلد المنصب من دون أي صلة سابقة بمجالي السياحة أو الآثار، لأتأكد مرة أخرى أن الحكومة ما زالت تفتقد لقاعدة بيانات عن الخبراء!

الجزيرة نت

—————————

“غبار ومياه ملوثة”.. خطر من نوع آخر يهدد المنكوبين في مناطق الزلزال

بعد الدمار الهائل الذي خلفه زلزال تركيا وسوريا، تسود مخاوف من انتشار أمراض معدية وتنفسية وجراثيم، في المناطق المنكوبة، وخصوصا في المخيمات المكتظة، والتي ربما تنتشر خارجها أيضا جراء دخول الفرق الإنسانية.

وسبق أن صرح وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة، السبت، أنه على رغم الزيادة في حالات المرض المرتبطة بالمعدة والجهاز التنفسي العلوي إلا أن الأعداد لا تشكل تهديدا خطيرا على الصحة العامة، مضيفا أنه اتخذت إجراءات لمراقبة الأمراض المحتملة والوقاية منها.

وأضاف الوزير في مؤتمر صحفي في إقليم هاتاي: “أولويتنا الآن هي التعامل مع الحالات التي يمكن أن تهدد الصحة العامة والوقاية من الأمراض المعدية”، حسب رويترز.

وفي حين حذرت منظمات صحية في تركيا من إمكانية انتشار الأوبئة في كهرمان مرعش التي ضربها الزلزال، وذلك جراء وجود عشرات الآلاف من الأشخاص في المخيمات التي تغيب عنها الكهرباء وإجراءات النظافة اللازمة والمياه الصحية، ما يزيد من احتمالية انتشار الأمراض والأوبئة كالكوليرا والأمراض التنفسية.

وعبرت منظمات إنسانية عن قلقها من انتشار وباء الكوليرا الذي ظهر مؤخرا في سوريا، وفقا لفرانس برس.

وضمن الإطار، تشير رئيسة الجمعية اللبنانية للأمراض الجرثومية مادونا مطر في حديث لموقع “الحرة” إلى أنه “بالأساس هناك انتشار للكوليرا ليأتي هذا الدمار كي يزيد المأساة”، مؤكدة أنه من المهم في هذه المناطق هو الانتباه للمياه، ومن مصدرها، ومن نظافة الطعام وكل ما له علاقة بالجراثيم التي تتسبب بالإسهال والحرارة، أكان الكوليرا أو التيفوئيد”.

وتشدد مطر على أن “الأمراض التنفسية تنتشر، خصوصا في ظل الاكتظاظ بالمخيمات، وبعد ما حصل من دمار، إضافة إلى ما تسببه هبوط المنازل من غبار، فالهواء الملوث يسبب الفطر والحساسية والأمراض التنفسية”.

وتلفت إلى أنه “هذا فضلا عن أن الناس تهجرت، والآن باتت تعيش في مخيمات مكتظة، فالفيروسات تصبح قابلة للانتقال بسرعة والتفشي”.

وتعرضت آلاف المباني للتدمير كليا وجزئيا نتيجة الزلزال، فيما تضررت البنية التحتية لشبكات المياه والصرف الصحي في المناطق المنكوبة، وهو ما يزيد من خطر انتشار الأوبئة والأمراض المعدية مثل الكوليرا.

الناجون من الزلزال معرضون لعدة أمراض

زلزال تركيا وسوريا.. أمراض جسدية ومشكلات نفسية قد تلاحق الناجين

بعد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا الأسبوع الماضي، وخلف عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، تتزايد المخاوف من انتشار الأوبئة والأمراض المعدية في المناطق المنكوبة، في وقت تطرح فيه تساؤلات عن الصحة الجسدية والنفسية للناجين، والعناية والمتابعة التي يحتاجها ضحايا الزلزال.

وحسب تقرير سابق لفرانس برس، فإن القطاع الطبي التركي يعتبر من الأكثر تضررا بسبب اعتماده على الواردات مع انهيار العملة الوطنية.

وأصبحت مجموعة كاملة من الأدوية المخصصة لعلاج أمراض مثل السكري والسرطان أو حتى نزلات البرد غير متوفرة في 27 ألف صيدلية في تركيا. وفقدت الليرة التركية أكثر من نصف قيمتها منذ بداية العام أمام الدولار. بل تراجعت بشكل حاد منذ إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان “حرب الاستقلال الاقتصادي”.

وسبق أن قال وزير البيئة التركي، مراد كوروم، أن أكثر من 84 ألف مبنى انهارت أو يتعين هدمها بسرعة أو تضرّرت بشدة في الزلزال. وفي أنطاكية التي تشكل ملتقى حضارات عدة وتعد واحدة من المناطق الأكثر تضرراً بالزلزال. وشهدت المدينة زلازل عدة – زلزال واحد كل نحو مئة عام – وإعادة بنائها ليست أمرا غريبا، حسب فرانس برس.

الحرة / خاص – دبي

الحرة

————————

شهادات عن الزلزال والخوف في جسر الشغور/ ياسر محمد

«صوت الزلزال، وانهيار المباني وتَحرُّكها كأرجوحة، مشاهدُ لن تنمحي من ذاكرتنا»، يتكرر هذا التعليق لدى سكان المناطق التي تضرّرت بفعل الزلزال فجر يوم الإثنين السادس من شهر شباط (فبراير). اليوم، يعاني الناجون والناجيات في الشمال السوري من الخوف والقلق والتوتر من الهزات الارتدادية والأصوات القوية، فضلاً عن أعراض ما بعد الصدمة وشرود الذهن والصداع المتواصل والدوار والإرهاق الجسدي، في حين يتواصل شكلٌ آخر من المعاناة النفسية المتصلة بتواجدهم في مناطق منكوبة ومشاهدتهم لجثث ضحايا الزلزال المنتشلة أمام أعينهم.

يسكن غسان الشامي مع عائلته وعائلة شقيقه ووالدهما في منزلٍ طيني الجدران وأسمنتي السطح في ريف جسر الشغور، قدّمه لهم الأحد الأقارب دون مقابلٍ مالي بعد أن هجّرهم نظام الأسد من ريف دمشق. يقول الشامي إن منزله قد تصدّع وتشقّق سطحه الأسمنتي نتيجة الهزات الأرضية، مما عطل نظام تصريف مياه الأمطار التي تهطل على السطح، فصارت المياه تسقط على الجدران الطينية لتجعل البيت مهدداً بالسقوط في حال استمرار هطول مياه الأمطار دون إيجاد حلٍّ لتصريفها، لا سميا أن الملحق العلوي من البيت قد انهارت جدرانه عندما ظل مهجوراً لسنواتٍ قبل أن يسكنوه.

ويبلغ عدد أفراد عائلة الشامي ووالده وعائلة شقيقه المقيمين في المنزل 10 أشخاص، يعيشون حياةً ريفيةً بسيطة ويحصلون على المياه من بئرٍ في المنزل المنزل، كما أنهم يزرعون حقلاً صغيراً لتأمين مصاريفهم، بالإضافة إلى العمل في طلاء المنازل. ويقول غسان إن أحوالهم المادية لا تسمح لهم بالانتقال من البيت المتصدع، إذ سيضطرون شهرياً لدفع الإيجار وتكاليف نقل المياه فضلاً عن المصاريف الأخرى.

جانب من الدمار في بلدة الملند في ريف جسر الشغور / علي الدالاتي – الجمهورية.نت

الأمان في الخيام

«الخيمة أصبحت أكثر أمانا من المنازل»، هذا ما قالته أم عبيدة المُهجرة هي الأخرى من دمشق إلى جسر الشغور. ونتيجة خوفها من الزلزال الذي هزّ منزلها القريب من مجرى نهر العاصي، لم تعد أم عبيدة قادرةً على اتخاذ قرار العودة إلى منزلها في الطابق الثاني من المبنى خوفاً على حياة أسرتها، وانتقلت إلى منزلِ أرضي على أطراف مدينة جسر الشغور بداخله فيه فسحةٌ سماويةٌ، حصلت عليه مؤقتاً من أحد أقربائها دون مقابل، وذلك بعد أن أبلغت فرق الدفاع المدني بعض الأهالي بضرورة إخلاء منازلهم خوفاً من احتمالية فيضان نهر العاصي بعد فتح النظام السوري لسد الرستن خوفاً من حدوث تصدعاتٍ في السد نتيجة الزلزال. ما سهل عليها إيجاد مأوىً مؤقت هو وجود العديد من البيوت الفارغة في جسر الشغور وريفها، وذلك لأن المنطقة قريبةٌ من مناطق سيطرة النظام السوري، وبالتالي يخشى الكثير من الأهالي السكنَ فيها.

تقول أم عبيدة: «فقدت والدي قبل أيامٍ من حدوث الزلزال، ولم أعد أحتمل فقدان عزيزٍ آخر من عائلتي، وأكبر مخاوفي أن يصاب أحد أفراد عائلتي بمكروه، خصوصاً أني أتابع أخباراً كثيرةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتنبأ بوقوع زلازل وشيكة بقوى مختلفة».

بالفعل، حظيت الإشاعات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بمتابعةٍ واسعة، وجرى تناقلها على الألسن، مما زاد من الخوف والضغط النفسي لدى السكان. وقد امتلأ الفيسبوك السوري بعد الزلزالين الأول والثاني بتنبؤات عن حدوث زلازل أخرى، في حين وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن الزلازل «ستتواصل إلى حين انفصال القارات عن بعضها»، مما أثار الرعب في نفوس الأهالي وأجبرهم على اتخاذ تدابير وقائية، مثل النزوح إلى المخيمات القريبة أو نحو أقارب يسكنون في بيوت غير طابقية، وذلك رغم عدم تضرّر منازلهم أو تصدعها.

تأثّر أدوات العمل

يعمل محمود الفواز من ريف جسر الشغور الشرقي في صيد الأسماك منذ حوالي سنتين، ولكي يشتري معدات الصيد والشباك والقارب باع مصاغ زوجته واستدان من أحد أصدقائه باقي المبلغ. تعرضت شباك الفواز للجرف بعد الزلزال نتيجة فيضان نهر العاصي ليلاً، ولم يستطع إنقاذ أيٍّ من معداته التي اعتاد على نصبها في الليل وجني الصيد في ساعات الصباح الباكر. يقول الفواز: «فقدت بعد الزلزال معداتٍ بقيمة ألف دولار أميركي، وحتى الآن لم أفِ ديوني لزوجتي وصديقي». فقد الفواز مصدر رزقه الوحيد، والذي كان يجني من خلاله شهرياً قرابة 200 دولار أميركي.

يشير الفواز في حديثه للجمهورية.نت أنه لم يعد بإمكانه شراء شباكٍ جديدة، فقد كان يعمل ويصرف ثمن ما يبيعه لشراء احتياجات المعيشة: «لا يوجد من أستدين منه مبلغاً من المال حتى أجدد شباكي ومعدات الصيد، لذلك سيقتصر عملي على الصيد بالصنارة وشبكة قديمة تحتاج إلى إصلاح»، يضيف الفواز.

حال الفواز لا يختلف عن حال عديدين من أهالي منطقة جسر الشغور، فقد تضررت محلاتٌ تجارية ومستودعات ومحاصيل زراعية وأعلاف في المدينة وريفها بسبب الزلزال وفيضان نهر العاصي، وبذلك تكون أعدادٌ من الأسر قد فقدت مصدر رزقها الوحيد وليس لديها القدرة على تدارك الخسارة أو تعويضها.

أولويات قطاع الصحة

تلا الكارثة إعلان حالة الطوارئ في الشمال السوري من قبل فرق الإنقاذ والمؤسسات الصحية والمستشفيات، وجرى تأجيل مواعيد عملياتٍ جراحية وتوقّف خروج الحالات المرضية الطارئة إلى تركيا، مما تسبب بتزايد المخاوف بما يتعلق بالحالات الإسعافية المستعجلة. أم نور سيدةٌ عشرينيةٌ من جسر الشغور كانت ولادتها وشيكةً بالتزامن مع وقوع الزلزال، وصادف موعد ولادتها يوم حدوثه. تقول: «ذهبت إلى المستشفى مع زوجي، لكن الكوادر الطبية لم تستقبلنا بسبب إعلان حالة الطوارئ، وبعد تنقّلي بين عدة مشافٍ فقدتُ أمل الولادة في مستشفى مجهز بخدمات طبية». عادت أم نور إلى بيتها وأجرت عملية الولادة بمساعدة قابلةٍ قانونية، وحالة مولودها الصحية جيدة. تضيف واصفةً حالها يوم الزلزال: «كنت متوترةً للغاية، وهو ما عسّر ولادتي وجعلها تمتد لساعات».

أم محمد هي الأخرى وضعت مولودها الثاني قبل ساعاتٍ من حدوث الزلزال، ولكنها اضطُرت للنزول إلى الشارع مع رضيعها في ظل البرد والعاصفة المطرية التي ضربت المنطقة يوم الزلزال، وقضيا ساعاتٍ طويلة في الساحة العامة بمدينة جسر الشغور. تقول: «كنت أحمل رضيعي بيد ولوازمه باليد الأخرى، ورغم حالتي الصحية السيئة، فإن هول ما حدث جعلني لا أشعر بأي ألمٍ حين غادرت المنزل مع أولادي. تضرّر منزلي بشكلٍ جزئي، ولم أتمكن من العودة إليه حتى اليوم». تخاف أم محمد أن تكون العودة إلى منزلها غير ممكنة، وتخاف أن تسكن خيمةً تفقد فيها راحتها واستقلاليتها.

تتواصل الحياة والكوارث

حدّدت سارة وخطيبها الذان يعيشان في ريف جسر الشغور الغربي موعد زفافهما في السادس من شباط، وجهّزوا كل متطلبات الاحتفال بهذا اليوم الذي لن يتكرّر. ولكن بعد حدوث الزلزال فجر يوم العرس، أُلغيت الحفلة واقتصر الزفاف على انتقال العروس والعريس من منازل عوائلهم إلى بيت الزوجية، ودون أي مظهرٍ من مظاهر الاحتفال. لا تخفي سارة حزنها من تزامن الحدثين: «تصادف يوم عرسنا مع نكبةٍ كبيرة. لم أكن سعيدةً في يوم فرحي الذي كان فاجعةً لأناسٍ آخرين. كانت أسماء الضحايا تتالي، وتُنعى أسرٌ كاملة».

يحاول أهالي جسر الشغور الانتقال إلى منازل أرضية وغير طابقية خوفاً على حياتهم وحياة أطفالهم، ويفضلون الانتقال من منازلهم التي تصدعت خوفاً من هزاتٍ ارتدادية تأتي على كامل هذه المنازل، خصوصاً بعد أن عاينوا كيف تعجز فرق الإنقاذ قليلة العدد في الشمال السوري عن إخراج جميع العائلات المتضررة دفعةً واحدة، ويدركون تماماً أن لا أمل بتدخلٍ خارجي للإنقاذ.

دمر الزلزال منزل أم شذى في قرية الملند بريف جسر الشغور الشمالي، وقد خرجت بأعجوبةٍ، كما تقول، مع زوجها وطفلتها ذات السنوات الأربع من المبنى وهو ينهار. تقول: «أصيبت طفلتي بأزمةٍ نفسية، وصارت دائمة الصمت وتحاول الانتباه إلى كل حركة وتسأل عما يحدث. عندما تهتز الأرض بالهزات الارتدادية نصمت ولا نخبرها، لكنها تشعر وتسألنا: ‘ما هذا؟’، فلا نجد أمامنا سوى احتضانها وإشعارها بأن كل شيءٍ بخير».

تسكن أسرة أم شذى اليوم لدى أقارب للعائلة ريثما يجدون منزلاً غير طابقي أو بأساساتٍ متينةٍ قادرةٍ على احتمال الهزات، خصوصاً أن خوفهم قد تضاعف بعد موت جميع أفراد العائلة التي كانت تسكن معهم في المبنى ذاته».

وحين تحدثنا إلى السيدة أم عروة (65 عاماً)، أخبرتنا أنها، ومنذ حدوث الزلزال، فقدت التواصل مع ابنها الذي يعيش في الجنوب التركي ويتكفّل بإعالتها، وهي تخاف أن يصلها نبأ موته في أي لحظة، وكلّها أملٌ بأن يرد على رسائلها ويطمئنها. كانت أم عروة تتجاهل ما يُعرض على مواقع التواصل، خصوصاً عندما يخبرها من حولها أن بعض فرق الإنقاذ التركية ترفض انتشال السوريين ويتكفل سوريون آخرون بتشكيل فرق تطوعية لإخراج بعضهم البعض. تدعو أم عروة اللهَ أن يهيئ لابنها من يُخرجه في حال كان تحت الأنقاض، وأن يحميه لها في غربته إذا كان قد نجا.

يوم الجمعة، السابع عشر من شباط (فبراير)، أُذيع نبأ موت ابنها ووصل جثمانه إلى جسر الشغور مع اثنين من أقاربه.

موقع الجمهورية

————————-

أبـلــه أم خـبـيــث؟/ رشيد الحاج صالح

كثيرا ما يصف السوريون رئيسهم بشار الأسد بالأبله، وذلك لكثرة ابتساماته التي تبدو على محياه على الرغم مما يعانيه السوريون خلال السنوات العشر الماضية بسبب سياساته التدميرية. وإن كان السوريون قد تعودوا على ابتساماته البلهاء منذ وقت طويل إلا أن ابتساماته التي بدت على وجهه وهو يزور الأماكن المنكوبة بالزلزال الأخير استفزتهم بشكل واضح. 

تبين غالبية الدراسات النفسية والأخلاقية الحديثة التي تتناول بالتحليل شخصية الدكتاتور وصفاته النفسية أن الدكتاتور ذكي ولديه قدرات عقلية عالية، ولكن المشكلة هي في تكوينه النفسي وقيمه الأخلاقية. فهو شخص حقود وخبيث ومتعجرف ويميل للإجرام والانتقام، بل إنه على وعي تام أن مثل تلك الصفات هي التي تثير الخوف في نفوس الآخرين، وأنه بمجرد أن يتخلى عنها سينتهي أمره.

ومن أشهر من تناول شخصية الدكتاتور في الثقافة العربي هناك الكواكبي الذي يرى أن أهم صفات في الدكتاتور أنه جبان وغدّار وحقود، وأن كل سياساته وأفعاله تُفسَّر بهذه الصفات الثلاث. فهو يخفي جبنه بالإجرام، ودائم الغدر بمن يحيطون به لأنه لا يأمن جانبهم (وهذا ما يفسر كثرة الاغتيالات في سوريا منذ اغتيال الحريري عام 2005) أما حقده فيجعله مولع بتفريق الناس، لأنه على قناعة بأنه لا استمرار لحكمه بدون تخويف بعض الناس من بعضهم الآخر وتحريضهم  بعضهم على الآخر. كما أنه يتعامل مع شعبه بوصفهم كلابا لا خيول، فالخيول لا تخدم صاحبها إذا جاعت بعكس الكلاب التي تلحق صاحبها إذا جاعت.

أما إريك فروم فيذهب إلى أن أهم الصفات النفسية للطاغية أنه سادي (التلذذ بألم الآخرين). ومشكلة السادي أنه يسعى لتدمير كل من يحيط به. وهو يحب أن يرى الدمار في كل مكان لأن الدمار بالنسبة إليه يعني، بكل بساطة، أن الآخرين أصبحوا أكثر حاجة إليه، وأضعف من أن يفكروا في مواجهته، ولعل هذا هو السر في ابتسامات بشار التي أصبحت تثير استغراب المؤيد قبل المعارض.

والدكتاتور العدواني (النكروفيلي كما يسميه فروم) يميل أكثر إلى حب إدارة الناس وكأنهم أشياء وموضوع للتملك عندما ينتابه شهور بالعجز وعدم القدرة على التأثير فيهم. لدرجة أن هذا السلوك العدواني يستحوذ على شخصيته ويتحول إلى أحد ركائزها الأساسية. 

وعلى العموم فإن الشخصيات الدكتاتورية هي شخصيات تملكيّة وليست شخصيات وجوديّة. والفرق بين الشخصيتين أن التملكية تحب تملك كل شيء وتعتقد أن التملك هو أساس الحياة، وأن الأملاك هي من يعطيها القيمة، ولذلك فإنها تتخذ من العدوان والتسلط والقوة طرق أساسية في الحياة من أجل الحصول على مزيد من التملك لتنتهي إلى “التملك من أجل التملك”. أما الشخصية الوجودية فهي شخصية سوية ومنتجة، تسعى لكي تثبت شخصيتها، وتفرض احترامها على المجتمع عبر الإنتاج وتقديم ما تعتقد أنه يفيد المجتمع ويحقق الكفاف لذاتها. ولذلك تعتقد الشخصية الوجودية أنها أهم من الأملاك التي يمكن أن يحوز عليها الفرد في حياته. (بحسب عبد الحليم خدام فإن بشار الأسد كان يشرف شخصيًا على أملاكه وامواله ويراجع الحسابات بشكل أسبوعي).

وتعود مشكلة السلوك العدواني عند الطاغية، وميله إلى قتل كل من يشكل خطرا عليه، إلى أنه سلوك ينمو بـ “التعزيز”؛ أي يميل الطاغية إلى هذا السلوك كلما جلبت له الاغتيالات والتدمير مزيدا من السيطرة، بحيث يتحول ذلك السلوك إلى وسيلته المفضلة لحل المشكلات. لا سيما أن بشار الأسد يعرف تماما أنه ليس له “حضور كارزمي” يجعل السوريين مقتنعين به، وهذا ما يدفعه إلى مزيد من السادية تجاه الآخرين.

درج الناس على تسمية مرض السرطان بـ “الخبيث”. وتعود هذه التسمية إلى أن هذا المرض يسري في الجسم بشكل خفي ويدمر الخلايا تدريجيا إلى أن ينال من الجسم، ولا يتم اكتشافه إلا بعد فوات الأوان، كما أنه يسبب آلامًا مبرحة في مراحله الأخيرة. ويفيد وصف الطاغية بأنه خبيث لا سيما أن اللغة العربية تقول إن الخبيث هو من: يقوم بمختلف الأفعال المستقبحة، وبالأفعال المحرمة والمذمومة، وبأفعال ظاهرها صادق ولكن باطنها كذب. والابتسامة الخبيثة هي التي تعبر عن مكنونات النفس من حقد ولؤم وتشفي.

تلفزيون سوريا

———————-

التغطية الإعلامية الغربية للكوارث الطبيعية/ سليمان الطعان

غالبا ما ينتاب أغلبنا شعور بالمظلومية حين نرى التغطية الإخبارية الغربية للكوارث تتعامل مع الأمر من زاوية جامدة تخلو في كثير من الأحيان من الحس الإنساني. توجد في الحقيقة مبادئ صحفية عامة تتحكم بالطرق التي يقيّم بها حراس البوابة الأحداث التي تستحق التغطية من سواها. ولكن هذه المبادئ في كثير من الأحيان متحيزة في نظرتها التي تنطلق من أفق غربي، ولا سيما فيما يتصل بتغطية الإعلام الغربي للكوارث البشرية في أرجاء العالم الأخرى، ولا سيما العالم الثالث منه. وهذا هو سبب نفورنا من تعاملها مع الضحايا بلغة الأرقام الجافة.

لا تفرق الكوارث الطبيعية، الزلازل والبراكين والأعاصير، بين الدول الغنية والفقيرة، ولكن التقارير تشير إلى أن 98 بالمئة من الذين يقتلون أو يتأثرون بالكوارث كل سنة هم من سكان العالم الثالث، إذ يبلغ متوسط عدد الضحايا بسبب أي كارثة تضرب بلدان العالم الثالث أكثر من ألف إنسان، ولكن المتوسط يبلغ ثلاثة وعشرين شخصا في الدول الغنية.

إذا كان تأثير الكارثة غير عادل، فإن التغطية الإعلامية هي أيضا متحيزة وغير منصف، وكمثال على ذلك، ما زلنا نذكر إعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة في عام 2005م، والذي تسبب بمقتل أكثر من ألف إنسان، وأدى إلى دمار واسع في مدينة نيو أورليانز الأميركية، ولكننا لا نذكر  تقريبا إعصارا مماثلا هو  إعصار ستانلي الذي ضرب غواتيمالا بعد أسابيع من إعصار كاترينا، وتسبب بدمار مماثل، وخسائر مماثلة في الأرواح. وهذا التفاوت في حجم حضور الكارثة في الإعلام والوعي العام ناجم عن التغطية المنحازة التي كرست جهدا أكبر لإعصار كاترينا.

مثل هذا الانحياز أو عدم التوازن لا يثير الدهشة أصلا، فثمة انحياز ومعايير غير إنسانية تتحكم بالتغطية الإعلامية للكوارث الطبيعية، في حين أن عامل المعاناة الإنسانية لا يحظى بالكثير من الأهمية، ولا سيما بعد الأيام الأولى للكارثة التي تدفع وسائل الإعلام لتغطيتها من زاوية الأهمية في المقام الأول. بعد ذلك يقوم الصحفيون والمحررون بدور حراس البوابة حيال الأحداث فيحددون المدة الزمنية التي يجب أن تستمر فيها الكارثة على الصفحة الأولى أو في مقدمة النشرة الإخبارية، وكذلك زاوية التغطية التي يمكن التعامل بها مع الحدث. بعد ذلك ينزاح الحدث أو الكارثة إلى الصفحات الداخلية أو إلى منتصف النشرات الإخبارية ثم يختفي كليا.

يأتي العامل الاقتصادي في مقدمة العوامل التي تسهم في بقاء التغطية الإعلامية مدة طويلة من الزمن، فعلى سبيل المثال، ما زال وباء كورونا متداولا في الصحف والمواقع الإخبارية، لا من ناحية عدد الضحايا الذين خلفهم الوباء، بل من زاوية الآثار الاقتصادية التي خلفها وراءه، فأعداد الضحايا والمعاناة الإنسانية اختفت كليا ولم تعد تذكر بل حين تذكر التقارير ونشرات الأخبار ضحايا الوباء فإن الحيادية هي العنصر الأساس في الحديث عنهم، إذ ترد الأرقام فقط، في حين تسهب الصحف والمواقع الإخبارية في الكلام على المشكلات الاقتصادية التي تسبب بها للدول المختلفة. وثمة مثال آخر هو الحرب الروسية على أوكرانيا، فبعد الأسابيع الأولى لأزمة اللجوء التي أدت إلى نزوح أكثر من سبعة ملايين أوكراني إلى الدول الأوروبية، تراجع الحديث عنها في وسائل الإعلام، ولكنها ظلت حاضرة لسببين سياسي واقتصادي، حيث كانت أزمة الحبوب العالمية إحدى العوامل التي أبقت الكارثة متداولة في وسائل الإعلام.

يحتل العامل الجغرافي حيزا مهما في تغطية الكوارث في الإعلام الغربي، وهو ما ينعكس أيضا على الإعلام العالمي الذي يتلقى الكثير من معلوماته من وكالات الأنباء وقنوات الأخبار والصحف الغربي، فالمسافة بين مكان الكارثة وموقع الصحيفة أو قناة الأخبار عامل حاسم في بقاء التغطية الإعلامية ونوعيتها، وهو ما يتسق مع العبارة الإنجليزية التي تطفح بالمركزية الأوروبية والغرور الإنجليزي معا: “إن موت رجل بريطاني واحد يعادل موت خمسة فرنسيين، وعشرين مصريا، وخمس مئة هندي، وألف صيني”. وتظهر مراجعة الدراسات التي تتناول تغطية الإعلام الغربي للضحايا في البلدان المختلفة المدى البعيد لتطبيق هذا القول، وعلى سبيل المثال، فالفيضانات التي ضربت الصين في عام 2010م والتي أثرت في حياة أكثر من 230 مليون شخص، واستمرت أربعة أشهر لا تكاد تذكر في وسائل الإعلام، إلا لأنها حدثت في بلد يعد بلدا هامشيا من الناحية الجغرافية.

العوامل الأخرى كالعوامل الثقافية حاضرة أيضا، فحراس البوابة هم في المقام الأول عناصر ثقافية يمتلكون سلطة ترجمة الأحداث والكوارث والظواهر وتقديمها، وهو ما يؤثر تاليا في الكيفية التي يتفاعل معها الآخرون مع الحدث، ومن ثم حجم المساعدات التي تصل إلى المنطقة المنكوبة، فالكوارث التي لا تحظى بتغطية إعلامية لا تتلقى إلا القليل من المساعدات. إن الزلزال المدمر الذي ضرب هاييتي عام 2010م، والذي خلف أكثر من 220 ألف قتيل، وأكثر من مليون ونصف مليون مشرد، لا يكاد يجد حيزا في الذاكرة مقابل كوارث أخرى أقل شأنا في الدول الغربية، أما المساعدات الإنسانية فكانت شحيحة للمنكوبين. وكل هذا التجاهل أو الإهمال نابع من عوامل ثقافية يأتي في مقدمتها الانتماء العرقي للمتضررين.

تبدو التغطية الإعلامية لكارثة الزلزال الذي ضرب مناطق الثورة محصلة لكل تلك العوامل، إضافة إلى العامل السياسي، فسوريا هي أزمة يود العالم نسيانها وعدم تذكيره بها، وربما لو اقتصر الزلزال على المناطق الشمالية الغربية من سوريا فلن يلتفت إلى الكارثة أحد، وهو ما حدث أصلا من خلال تجاهل الأمم المتحدة والدول الأخرى تقديم المساعدات الضرورية لتلك المناطق. أما التغطية الإعلامية فقد كانت في مجملها مخصصة للحديث عن المناطق التركية التي تأثرت بالزلزال بينما كانت الكارثة في مناطق الشمال الغربي ترد في ذيل الأخبار أو تتمة للحديث عن الوضع في تركيا.

إن التغطية الإعلامية الغربية في انحيازها لمعايير باردة لا تبدو مهتمة بالضعف الإنساني المشترك حين يواجه ما يهدد الحياة، ولا تستثير مشاعر التعاطف من المشاهدين. يفترض أن لا تخضع الكوارث الطبيعية للمعايير التي يتم بها تقييم الأهمية، لأن سبب الكوارث الطبيعية لا يرتبط بالسياسة، ولأن الموت والألم والفقد المرتبط بهذه الكوارث غير محصور بعرق معين أو بجماعة سياسية أو إيديولوجية معينة، ولكن كل هذا يبدو حلما عزيز المنال في عالم يزداد قسوة وتوحشا.

تلفزيون سوريا

————————

تركيا: أولويات ما بعد الزلزال/ سمير صالحة

سيُحدث زلزال 6 شباط الحالي في جنوب تركيا، تحوّلاً في كثير من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان الداخل التركي يناقشها قبل الكارثة. حيث حوّل الأنظار باتجاه كيفية التعاطي مع النكبة، وسبل معالجة آثارها، رغم أن التقديرات الرسمية بشأن حجم الأضرار وخطط السلطات السياسية المتعلقة بشكل خارطة الطريق لم يعلن عن كافة تفاصيلها بعد.

الرد الاستباقي هو من أهم مميزات سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وهو لا يتردد، عند اللزوم أيضاً، باللجوء إلى أسلوب الدفاع في قلب ساحة الهجوم، لمحاصرة خصومه السياسيين وقطع الطريق عليهم خلال محاولة نقل الكرة إلى أمام مربع مرماه، لكن ارتدادات الزلزال قابلة للتحول إلى حالات سياسية عاصفة تقود إلى تغيير قواعد اللعبة بين الحكم والمعارضة في تركيا.

أولى المواجهات بعد رفع الأنقاض ستكون في مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث ينتظر حزب “العدالة والتنمية” معركة صناديق مصيرية، بعدما شرعت أصوات وأقلام في الحزب الحاكم، أو محسوبة عليه، في الحديث عن صعوبة إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري المعلن قبل نهاية حزيران المقبل، نتيجة الزلزال الذي ضرب 10 مدن تركية في جنوب البلاد.

صحيح أن المادة 78 من الدستور وقانون الانتخابات يتحدثان عن إرجاء مرتبط بحالة الحرب فقط. وأن قوى المعارضة التركية تقول إنها لن تدعم أي إقتراح أو طلب يأتي باتجاه تعديل المادة الدستورية، وإنها متمسكة بالذهاب إلى الصناديق بين أيار وحزيران على أبعد تقدير، فالانتخابات “لا تؤجل، وينبغي تحديد تاريخها فوراً، لأن الدولة بأكملها ستعاني من ارتدادات قرار من هذا النوع”، كما يقول زعيم حزب “الشعب الجمهوري” كمال كليتشدار أوغلو، إلا أن الأنظار ستكون مشدودة نحو اللجنة العليا للانتخابات لتحسم الموقف.

هناك تسريبات إعلامية تقول إن اللجنة ستحاول رمي الكرة في ساحة الأحزاب والقوى السياسية الكبرى، لتطالبها بالتفاهم فيما بينها وحسم النقاشات سواء في موضوع طريقة إجراء الانتخابات، فأكثر من 4 ملايين ناخب يبدل مكان إقامته بسبب كارثة الزلزال، أو لناحية التفاهم بشأن حسم موضوع تأجيل موعدها المرتبط بخطوة تعديل الدستور، وشرعية بقاء أردوغان على رأس السلطة حتى الموعد الجديد للانتخابات.

بانتظار ما سيجري لا يمكن إغفال حقيقة أن احتمال تراجع أصوات شعبية ” تحالف الجمهور”، الذي يقود المشهد السياسي في تركيا منذ عقدين، قائم طبعاً بعد كارثة الزلزال. لكن احتمال ولادة معارضة سياسية جديدة مختلفة غير التي هي قائمة اليوم بين السيناريوهات أيضا. وهذا ما يعني فرصة سياسية بالغة الأهمية لأردوغان وحزبه للبقاء على رأس السلطة لحقبة جديدة. كل شيء وارد والصورة ستتضح أكثر عندما ينجلي غبار ركام وأنقاض 3 خطوط زلازل هي بازارجيك وامانوس وسورغو، حركت بعضها بعضا وتسببت بهذه الكارثة. وعندما تبدأ القيادات السياسية باختيار الأماكن الجديدة للشروع في عمليات الإعمار والكشف عن الأموال التي تحتاجها وطرق تأمينها.

هدف البعض هو الخروج السريع من أجواء النكبة، والانتقال من مرحلة رفع الأنقاض، والتوجه نحو مساعدة المنكوبين وتجهيز خرائط مشاريع الإعمار الجديدة، للشروع في تنفيذ وعد أردوغان بتسليم المنازل الجديدة لأصحابها خلال عام، فيما هدف آخرين هو التريث وعدم رفع الركام قبل التأكد من تحرك مجموعات الإدعاء العام التركي باتجاه إنجاز تحقيقاتهم الميدانية بالتنسيق مع الخبراء والفنيين المتخصصين في الإعمار وتوثيق المشهد الميداني.

يريد حزب “العدالة والتنمية” الخروج سريعاً من ارتدادات الكارثة، عبر تحريك عجلة الانتقال إلى المرحلة الثانية في التعامل مع الأزمة، وهي إخلاء المناطق المهدمة ورفع الأنقاض والشروع في بناء المدن الجديدة. لكن المعارضة تستعد لمواجهة أردوغان بملفات عديدة غير ذلك، بينها المساءلة القانونية والسياسية حول من سيتحمل مسؤولية انهيار المباني الجديدة قبل القديمة، ومصير الأموال التي جمعت في إطار ضريبة الزلزال، والتي وصلت إلى عشرات المليارات، أين وكيف صرفت؟

ثم كيف تستعد السلطة السياسية للتعامل مع موضوع زلزال مدينة إسطنبول، الذي يُناقش منذ سنوات، والذي يقول الخبراء أن موعده يقترب يوما بعد يوم؟

“لو نتحدث عن زلزال إسطنبول بدلاً من الحديث عن مشروع قناة إسطنبول سيكون أفضل للجميع”، هذا ما يقوله، ويطالب به، رئيس بلدية المدينة، أكرم إمام أوغلو.

ما سيقلق قيادات الحزب الحاكم أيضاً هو استعدادات العديد من هيئات وجمعيات في صفوف المجتمع المدني لتفعيل موضوع المساءلة، خصوصاً أن أرقام الأضرار قد تصل إلى 10 بالمئة من الناتج القومي، أي نحو 84 مليار دولار، بالإضافة إلى أن آخر قوانين الإعفاء للأبنية المخالفة عام 2018 شمل أكثر من 3 ملايين مستفيد تمكنوا من تسوية أوضاعهم، كما يقال.

كلما انجلى غبار الزلزال سيتزايد عدد الأسئلة الموجهة الى حزب “العدالة والتنمية” وقياداته في الحكم. الزلزال، الكارثة، المساءلة، الإعمار، الدرس والمسؤولية، من بين الكلمات الأكثر تداولاً في تركيا اليوم، لكن الحكم يريد أن يرد سريعاً عبر تفعيل دور مثلث السلطة السياسية وهيئة الإغاثة “آفاد” ومؤسسة الإعمار الرسمية “توكي”، فلمن ستكون الغلبة؟

يريد البعض الإسراع في عملية لملمة ما تبعثر وتضميد الجراح. هذا ممكن طبعاً. لكن استخلاص الدروس والعبر وتحميل المسؤوليات قبل الانتقال إلى صباح اليوم التالي لا بد أن يكتمل أيضاً.

قبل العمل بصمت لا بد من إنهاء المساءلة بصوت مرتفع، وإلا فإن الكارثة قد تتكرر ويأتي صوتها أكبر، كما تردد قيادات المعارضة.

تقول الهيئة العليا للإغاثة التركية إن أكثر من 50 ألف متطوع وعامل في مجال الإنقاذ من داخل تركيا وخارجها شارك في عمليات انتشال المنكوبين ومعالجتهم ونقلهم إلى خارج المدن المتضررة. وإن 38 محافظاً، و12 سفيراً، و160 موظفاً حكومياً من الفئة الأولى، و121 مروحية، و78 طائرة مدنية وعسكرية، و26 سفينة حربية، ساهمت في عمليات الإنقاذ، وتأمين وصول المساعدات، وتوفير إحتياجات الملايين في المناطق المنكوبة. لكن هناك من يردد أيضاً أن حقوق 40 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى، وسقوط آلاف الأبنية، وعشرات المليارات من الخسائر، لا بد أن يواكبها الكثير من تحديد المسؤوليات، ومعاقبة المتسببين في ارتفاع أرقام الضحايا والخسائر، وذلك قبل الحديث عن المسامحة ونسيان ما حدث.

يعلن السفير الأميركي في تركيا، جيفري فليك، خلال تفقده المناطق المنكوبة في الجنوب، عن تعازيه للشعب التركي في ضحايا الزلزال، مشيراً إلى أن تركيا لطالما كانت تهرع لتقديم المساعدات إثر الكوارث والمآسي في القارات الخمس، وأنه حان وقت رد الجميل. لكن هناك في أميركا أيضاً من يردد، مثل المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايكل روبن، وهو أبرز المنتقدين لسياسات حكومة “العدالة والتنمية”، أن على واشنطن “دعم الأكراد المنكوبين في تركيا بشكل مباشر في حال رفضت السلطات المحلية مساعدتهم”! نوع آخر من الوقوف إلى جانب تركيا في محنتها!

امتحان صعب ينتظر حزب “العدالة والتنمية” على أكثر من جبهة في الداخل، أما الخارج فهو حديث آخر.

تلفزيون سوريا

——————————

التهافت العربي على غسيل سمعة الأسد/ عمر كوش

اتخذت عدة أنظمة عربية كارثة الزلزال، الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا، ذريعة كي تعيد تواصلها مع نظام الأسد، في محاولة لكسر عزلته الدولية، وإعادة تأهيله وتلميعه على الرغم من معرفتها الدقيقة بطبيعته العدوانية، وسجله الإجرامي بحق الشعب السوري، بوصفه المسؤول الأول عن تدمير معظم المدن والبلدات في سوريا، وتشريد أكثر من نصف سكانها بين لاجئ ونازح، فضلاً عن استقدامه التدخل العسكري الروسي والإيراني وميليشيات طائفية، من أجل محاربة السوريين وقتلهم، دفاعاً عن نظامه الديكتاتوري، وعن سلطة يسعى للبقاء فيها إلى الأبد. واتخذت عملية إعادة التواصل العربي مع الأسد أشكالاً مختلفة، فبعض الرؤساء العرب اتصل ببشار الأسد لأول مرة منذ توليه الحكم، أو منذ قطع علاقات بلاده أو تجميدها مع النظام، على خلفية تعامل النظام الوحشي مع الثورة السورية، التي اندلعت منتصف آذار/ مارس 2011، وبعضها الآخر لم يكتف بالاتصال الهاتفي وإرسال المساعدات وفرق الإغاثة، بل أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا، في حين أوفدت كل من الإمارات والأردن وزيري خارجيتهما إلى دمشق، واجتمعا بالأسد ووزير خارجيته.

أقل ما يمكن قوله، في هذا السياق، هو إن الرؤساء العرب الذين اتصلوا بالأسد، أو أرسلوا إليه برقيات تعزية، وشحنات مساعدة وإغاثة، حاولوا غسيل سمعته الكريهة، وإظهاره بمظهر المسؤول عن إغاثة المنكوبين السوريين وتضميد جراحهم، بينما يعون جيداً أن الكارثة الطبيعية التي سببها الزلزال للسوريين في مناطق الشمال الغربي، فاقمتها كارثة نظامه التي تراكمت على مدى 12 عاماً، وجلبت ويلات مأساة هائلة لغالبية السوريين.

لا تحتاج الأنظمة العربية إلى التحقق مما إذا كان نظام الأسد يصلح بالفعل لتلقي المساعدات الإنسانية، لأن وقائع وأحوال السوريين داخل مناطق سيطرته وخارجها، تشير إلى أنه لا يصلح مطلقاً لمثل هذه المهمة الإنسانية، بالنظر إلى الفظائع والجرائم التي ارتكبها بحقهم على مدى سنوات عديدة، فالمجرم ليس من طبعه أو عاداته تقديم مساعدات إغاثة لضحاياه، لذلك لن يستطيع الذين تهافتوا على غسيل سمعة الأسد التلاعب بعواطف ومشاعر ملايين السوريين، ومحاولة العبث بذاكرتهم وتشتيتها، من باب المساعدات الإنسانية والإغاثية لكارثة الزلزال الطبيعية، وذلك على حساب الكارثة المأساوية المستمرة التي سببها نظام الأسد لسوريا والسوريين.

ما يثير الاستغراب ليس استخدام المساعدة والإغاثة من طرف غالبية الأنظمة العربية ذريعة، لإعادة تواصلها وعلاقاتها مع نظام الأسد، فهي لا تفترق كثيراً عنه في العديد من الممارسات والسياسات، إنما المستغرب هو أن بعض الأنظمة، خاصة الأردن، اشتكى في أكثر من مناسبة من سلوك النظام العدواني، وتحدث بعض مسؤوليه عن حرب مخدرات يشنها على الحدود ضد بلادهم، ومع ذلك لم يكتف ملك الأردن عبد الله الثاني بإرسال برقية تعزية لبشار الأسد، بل أوفد وزير خارجيته، أيمن الصفدي، إلى دمشق من أجل تعزية الأسد والإعراب عن تضامنه معه في مواجهة تبعات الزلزال، وليس مع أجل التضامن مع الشعب السوري ومساعدته في محنته، كما ادعى في تصريحاته الصحفية.

ليس خافياً الاستثمار السياسي لمعظم الأنظمة العربية في كارثة الزلزال، وتوظيفها جهودا من أجل الانفتاح السياسي على النظام، والمتاجرة بآلام السوريين، تحت ذريعة التضامن العربي، وضرورة المسارعة إلى تقديم المساعدات الإغاثية إليهم. ولم يتأخر نظام الأسد الموغل في التوحش والبربرية، عن استغلال كارثة الزلزال، كي يجيرها لمصلحته ولفائدة شبيحته وأتباعه، لذلك لم يتورع عن عدم توزيع المساعدات، المرسلة إليه من طرف الدول العربية والأمم المتحدة وسواها، على المتضررين من الزلزال، لأنه لا يكترث بمصابهم، ولا يتأثر بتفاقم عذاباتهم ووجعهم.

لقد وجد النظام في التهافت العربي عليه فرصة، كي يسارع إلى الاحتفال بالاتصالات التي تلقاها بشار الأسد، وبالزيارات والمساعدات، والدعوات إلى رفع العقوبات المفروضة عليه و”فكّ الحصار” عن سوريا، وذهب إلى حدّ اشترط فيه على جميع الدول والمنظمات أنه الجهة الوحيدة المخولة باستقبال وتوزيع المساعدات على المتضررين السوريين، وذلك من أجل أن يستخدمها وسيلة جديدة للنهب والسرقة والفساد، أو للتمييز بين السوريين، فيما خرج رأس النظام وزوجته، بعد أربعة أيام من الكارثة، في زيارة إلى مدينة حلب التي أنهكها قصف جيشه، كي يتصور مع شبيحته ومخابراته، ويوّزع الابتسامات الخرقاء والبلهاء على ركام ما خلفه الزلزال من دمار في المناطق المنكوبة.

لم يستخدم من اتصلوا بالأسد أو من زاروه عبارة النظام السوري، التي كانوا يستخدمونها بدلاً من “الحكومة السورية”، وكانوا يتعرضون لهجمات من طرف أزلام النظام وأبواقه، فقد تغيرت توجهاتهم، وتبدلت معها لهجاتهم ولغاتهم، وباتت مقابلة الأسد مطلوبة، والاجتماع به يمثل “لفتة سياسية” من طرف أنظمتهم، مع أن من مدّوا يدهم لمصافحة الأسد، يعلمون تماماً أنهم كانوا يصافحون مجرماً، أقرّت تقارير أممية وحقوقية عديدة بارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكان الأجدى بالوزير الأردني مساءلة الأسد عن سبب حرب المخدرات التي يشنها ضد بلاده، وعن مصير مئات المعتقلين الأردنيين في معتقلات وزنازين نظام الأسد، وعن قوائم الأردنيين المطلوبين لدى اجهزته، لكنه عوضاً عن ذلك كله، أراد الإيهام بأن زيارته، كانت تهدف إلى مناقشة “جهود التوصل لحل سياسي للأزمة السورية”، عبر تناول “حل يحفظ وحدة سوريا، وتماسكها، وسيادتها، ويعيد لها أمنها، واستقرارها، ودورها، ويهيئ الظروف التي تسمح بالعودة الطوعية للاجئين، ويخلص سوريا من الإرهاب الذي يشكل خطراً علينا جميعاً”.

هناك من العرب من يريد غسيل سمعة نظام الأسد القذرة، وإعادته إلى حضن النظام العربي، وقد وجدت الأنظمة العربية في كارثة الزلزال مدخلاً لذلك، فراحت تعيد التواصل معه، وبما يتجاوز الطابع الإنساني إلى التوظيف السياسي، لكن محاولتها لن تثمر شيئاً، حيث إن كل مبادرات التطبيع وإعادة العلاقات مع نظام الأسد لم تجده نفعاً، إذ لا يزال هذا النظام مجرماً بنظر القوى الفاعلة والحية في المجتمع الدولي، والخطوط الفاصلة بين الإنساني والسياسي واضحة للجميع، بالرغم من تعامي بعض الأنظمة العربية، كما أنه من غير الممكن التغاضي عن استبداديته وإجرامه ولا أخلاقيته، ودوره في المآسي التي سببها لملايين السوريين، الذين كانوا دوماً ضحاياه، قبل كارثة الزلزال وبعدها.

تلفزيون سوريا

————————

زلزال “إعادة تأهيل” الأسد/ رضوان زيادة

يتوقع الأسد أن يحصد “إيجابيات” الزلزال كما ذكر في خطابه عبر إعادة تأهيله عربيا ودوليا، فهو يفكر اليوم كيف يمكن تحويل التعاطف العربي والدولي مع سوريا إلى تطبيع مع الأسد ونظامه، يعتبر نفسه ممثل سوريا في الأمم المتحدة، وبالتالي يجب أن تصرف الأموال له وأن يتقبل التعازي هو شخصيا باسم الذين قتلوا من الزلزال، ولو كان الذين قتلهم عبر البراميل المتفجرة والتعذيب يفوق أعداد قتلى الزلزال بأضعاف.

استقبل الأسد مكالمة السيسي رئيس مصر واستقبل وزير خارجية الأردن، ويستطرد إعلامه بالحديث عن البرقيات التي تصله بشكل يومي في إشارة إلى إعادة الاعتبار لشرعيته وفي محاولة بائسة لتثبيت نظامه، لكن اقول له أن كل هذه المحاولات ستفشل مجدداً.

فقد اكتشف العالم بعد خمسة أيام من الزلزال أن الضحايا الأكثر عددا هم في الشمال السوري في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام بل يمنع وصول المساعدات إليها، وهو لذلك عمدا تجنب ذكر إدلب في تعداده للمناطق المتضررة، وبالتالي إذا كان الهدف مساعدة السوريين في نكبتهم فمن الأفضل إرسال المساعدات فورا إلى الشمال السوري وبالتنسيق مع تركيا دون الحاجة بالمرور عبر الأسد في دمشق.

ولذلك تحول التركيز الإعلامي عل تلك المناطق التي فقدت الغالي والنفيس بعد عقد من اللجوء والتهجير وكان المصير الموت بالزلزال وبدأ الإعلام العربي والدولي يركز على تلك المناطق أكثر بوصفها الأكثر تضرراً من الزلزال، وهي بأشد الحاجة للمساعدة وإعادة الإعمار.

لذلك ستفشل محاولات بعض الأنظمة العربية في محاولة إظهار الود والتعاطف أو إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع النظام السوري، بالرغم من أن بعضها اتخذ علنياً موقفاً حاداً من نظام الأسد وجرائمه بحق الشعب السوري مع بدء الثورة السورية عام 2011، بل وحتى شارك في دعم المعارضة السورية السياسية منها أو العسكرية مثل الإمارات التي تقود اليوم قاطرة التطبيع مع نظام ألأسد على المستوى العربي.

وإذا حافظ الموقف السعودي والقطري على صموده فهو سيمنع نظام الأسد من العودة إلى جامعة الدول العربية بكل تأكيد، فقد جمدت جامعة الدول العربية عضوية عدد من الدول العربية خلال تاريخها والأشهر في هذا الإطار كان تعليق عضوية مصر بعد معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، وبالتالي فتعليق عضوية النظام السوري في عام 2012 لم تكن جديدة في هذا الإطار وكان سبقها تعليق عضوية نظام القذافي في ليبيا مع بدء الربيع العربي، كلتا الحالتين كانت تقوم على العنف الأقسى الذي مارسه النظامان الليبي والسوري بحق شعبيهما مع بدء المظاهرات السلمية في عام 2011 والتي تطالب بإدخال إصلاحات سياسية جذرية على شكل النظام السياسي بما فيها الحق في تغيير الرئيس وانتخابه شعبياً.

وطالما أن نظام الأسد لم يقم بتطبيق القرار 2254 فليس هناك مبرر سياسي في عودته للجامعة، فالزلزال ليس مبررا للأسد للتطبيع معه على جثث وضحايا السوريين.

ربما هناك بعض الدول العربية التي تتحين الفرصة من أجل التطبيع مع الأسد مثل مصر حتى تعلن تغييراً كاملاً في موقفها السياسي بناء على موقفها الجديد وتحفظاتها القديمة ضد الربيع العربي وثوراته وهو ما وجدناه في مكالمة السيسي مع الأسد مما يكشف أن المحور المتشكل ضد الربيع العربي اتخذ خطوة أبعد بضم بشار الأسد إلى هذا المحور بعد أن كان متحفظاً بسبب الرأي العام العربي داخل الدول العربية على المجازر العلنية التي ارتكبها الأسد بحق الشعب السوري ونقلت عبر الأثير العربي وعلى قنوات التلفزة العربية بشكل مباشر وآني مما خلق انطباعاً شعبياً عربياً بفظاعة ما ارتكبه الأسد وصعوبة قبوله أو تأهيله مجدداً. رغم عدم وجود محكمة إقليمية عربية وعدم وجود ولاية قضائية لمحكمة الجنايات الدولية لمحاكمته وإدانته قانونياً.

لا يمكن التكهن بالمستقبل، بمعنى أن لا أحد يضمن عملياً عدم ارتفاع أصوات غربية تنادي بالحوار مع الأسد في المستقبل لا سيما بعد الزلزال، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في تكلفة أو الثمن السياسي لهذا الحوار، فالأسد اليوم بعيون المجتمع الدولي – ربما باستثناء الرئيس بوتين – هو مجرم حرب بعد كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها ضد الشعب السوري، وهو ما وثق في مئات التقارير من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والجمعية العامة للأمم المتحدة ولجنة التحقيق الدولية المستقلة وغيرها الكثير الكثير من المنظمات الدولية، وبالتالي تكلفة أي دعوة للقاء بالأسد أو مساعدته ستكون مكلفة للرأي العام الغربي، وبالمقابل ليس هناك ضمانات أنه سيحصل على أي شيء مفيد بالمقابل من الأسد.

وبالتالي قدرة روسيا على  إعادة تأهيل النظام السوري تصطدم بعقبة رئيسية وهي الرأي العام الغربي الذي لن يتقبل أية محاولة لتعويم “مجرم حرب” أضحت جرائمه في كل بيت وعلى كل هاتف (بسبب ثورة التواصل الاجتماعي) وخلف ذلك بالطبع تقف مجموعة من التشريعات والقوانين في البرلمانات والكونغرس الأميركي التي تجعل قضية أي اتصال مع حكومة الأسد أو حتى رفع العقوبات عنه من المستحيلات في الوقت الحالي.

ولذلك عندما طرح الرئيس الروسي بوتين على الرئيس الأميركي ترامب خطته لإعادة الاستقرار في سوريا بدا ترامب غير مشجع في أحسن الأحوال وبدت أولوياته مختلفة ولذلك ما أعلن في المؤتمر الصحفي أنهما اتفقا على “أمن إسرائيل”[1] فحسب، ولذلك عندما أرسل قائد القوات الروسية رسالة إلى رئيس هيئة الأركان الأميركية رسالة تدعوه فيها للمشاركة في عملية إعادة الإعمار في سوريا لم تجد الرسالة إلا رداً فاتراً[2].

المقترح الروسي كان يشير بواقعية إلى أن النظام السوري ” يفتقر إلى المعدات والوقود والمواد الأخرى والتمويل اللازم لإعادة بناء البلاد من أجل قبول عودة اللاجئين”. فكان الرد الأميركي غير المباشر على لسان المتحدثة باسم الخارجية “لن تدعم الولايات المتحدة عودة اللاجئين إلا عندما تكون آمنة وطوعية وكريمة”. وهو ما تدركه روسيا اليوم أن ملايين اللاجئين السوريين لن يعودوا وبالحقيقة ليس لهم بيوت ليعودوا إليها بعد أن دمر الأسد بيوتهم ومنازلهم وقراهم ومدنهم، ولذلك يبدو الموقف الأميركي والأوربي صلباً حتى الآن وأن إعادة الإعمار وعودة اللاجئين إنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالانتقال السياسي، وطالما أنه ليس هناك انتقال سياسي فلن تساهم الدول الغربية في دفع “أرباح جرائم الحرب” التي اقترفها الأسد ضد شعبه.

[1] Yury Barmin

, What does the Helsinki summit mean for Syria?, Aljazeera, 17 Jul 2018, see the link at https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/helsinki-summit-syria-180717132946181.html

[2] Arshad Mohammed and Phil Stewart, Despite tensions, Russia seeks U.S. help to rebuild Syria, Reuters, AUGUST 3, 2018, see the link at https://www.reuters.com/article/us-usa-russia-syria-exclusive/exclusive-despite-tensions-russia-seeks-u-s-help-to-rebuild-syria-idUSKBN1KO2JP

تلفزيون سوريا

———————–

الجنون: إعادة المحاولة مع الأسد/ محمد فواز

سنوات وسنوات حتى أصبحت حياة السوري مرادفة للألم. لم تنطلق مأساة الشعب السوري مع توحش الأسد الابن بعد الثورة ولكنها انطلقت منذ عقود مع تسلم الأسد الأب لرئاسة البلاد.

وصل حافظ الأسد للحكم بعد صفقة الجولان الشهيرة وهو درس فقهه الأسد وعائلته وجهله معارضوه. الدرس يقول بأن القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ومن أمامها مؤسسات الأمم المتحدة تخضع لمنطق الصفقات وكذلك الابتزاز وإن بدت من الخارج مهنية صلبة شفافة إنسانية.

لا ينكر أحد توجه الأمم المتحدة الإنساني وإسهاماتها الإيجابية في مساعدة عدد كبير من الدول والشعوب، إلا أنه في الوقت نفسه من الضروري الوعي بآليات عملها وما يحكمها وكيف تتحرك ومن الضروري عدم تعليق الآمال الكبرى عليها سياسياً وإنسانياً وإيجاد آليات استجابة بديلة للأزمات وتقديم المساعدات.

منذ اللحظة الأولى للزلزال المرعب توجّه كل طاقم الدعم الإعلامي لسوريا باتجاه واحد وهو التركيز على “رفع العقوبات عن الأسد” وبأن هذه العقوبات هي الحائل بين نجدة السوريين العالقين تحت الركام والآخرين العالقين تحت وطأة مخلفات الزلزال الاقتصادية والمعيشية والطبية وبين وصول هذه النجدة إليهم. لم يهتم أحد منهم بالمتضررين والمصابين بل سارعوا إلى الاستفادة السياسية.

السذاجة انطلقت من بعض المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الناشطين غير السياسيين في سوريا وخارجها بالرضوخ لمثل هذه الحملة وتأييدها ودعم الشعارات المؤيدة لرفع العقوبات، تحت قاعدة أن المتضرر هو الشعب ويجب نصرته بأي شكل وأن هذا المطلب إنساني غير سياسي بغض النظر عن النظام واستفادته.

نسي هؤلاء أن روسيا حليفة الأسد هي التي ضيّقت، ولسنوات مستمرة، على مساعدات الأمم المتحدة وغيرها لخنق المناطق المحررة وتأكيد سيادة الأسد على كل الأراضي السورية. نسي هؤلاء فضائح نظام الأسد التي لا تنتهي في سرقة المساعدات حتى وصلت النسبة بحسب عدد من الأبحاث لـ96% من المساعدات فيحولها الأسد في الاتجاه العسكري أو يبيعها بالسوق السوداء.

إضافة إلى ذلك، فإن نحو نصف مشتريات الأمم المتحدة تذهب لجيوب مؤسسات وأفراد مقربين من الأسد أصبحوا معروفين للجميع، كل ذلك بتواطؤ من عاملين في الأمم المتحدة ومؤسساتها. هذه الطفرة الإنسانية لآل الأسد مرتبطة بتمويل الأمم المتحدة لمؤسسات تابعة لأسماء الأسد وأحد قادة ميليشيات الأسد فادي أحمد ومحمد حمشو المعروف بقربه من ماهر الأسد، وبلال النعال عضو البرلمان الأسدي ونزهت المملوك كأبواب مزعومة للعمل الإنساني.

لا نتكلم هنا عن حصص متواضعة بل عن عشرات ملايين الدولارات التي شفطها الأسد ومعاونوه قبل وصولها للشعب. إذا، فمساعدات الأمم المتحدة عادة ما تنزلق في جيب الأسد أو يمنعها الأخير عن الشمال السوري عبر الفيتو الروسي. ناهيك عن النسبة العالية التي يأخذها العاملون مع الأمم المتحدة من أفراد ومؤسسات والتي تصل لنحو الـ40% من المساعدات؛ هذه في حال اللافساد.

هذا الابتزاز الاقتصادي الذي أتقنه الأسد. أمام السياسي، لم يكن أقل خبثاً، لم يكن الالتفات في أي يوم من الأيام للشعب وهو ما ظهر جليا في زيارة الأسد إلى بعض الأحياء والتي بدا فيها مبتهجاً لأنه استفاد من الزلزال وحقّق أهدافاً سياسية في مشوار التأهيل الطويل، فقد هرولت الدول التي تريد إعادة تأهيله لتسويقه والاندفاع باتجاهه في هذه اللحظة، انطلاقاً من الإمارات وعدم الانتهاء بمصر.

في المقابل، الأمم المتحدة لم تستجب إلى نداءات الشمال السوري ولم تتصدَ للكارثة وكانت مساعداتها محدودة جداً تحت ذرائع الصعوبات اللوجستية والبيروقراطية، ولكن الحقيقة التي وثقتها منظمات سورية، هي مسببات سياسية قبل كل شيء تحول دون وصول المساعدات، وأنه لو توافرت الإرادة السياسية لمساعدة الشمال السوري لكانت الأمور البيروقراطية واللوجستية حلحلت سريعاً.

يؤشر ذلك بشكل واضح إلى غياب الإرادة السياسية الأممية الحقيقية عن دعم الشمال السوري الذي وجد نفسه محاصراً من الأسد من جهة ومن قسد من جهة ثانية ومن الجهات الدولية من جهة ثالثة، ومحاصراً بالزلزال في تركيا الذي شغل الأتراك من جهة رابعة.

إذا، فإن الدرس الذي طبقه بحرفية حافظ الأسد قديماً، أعاده بشار اليوم وهو ابتزاز ومقايضة القوى الكبرى بما يحقق المصلحة الشخصية، بغض النظر عن مصير البلاد والعباد الذي لا يدخل ضمن أولويات النظام حتى.

على المقلب الآخر، فإن العوامل الخارجية لم تكن المسؤول الوحيد عن ضعف المساعدات الخارجية للشمال السوري، بل إن ضعف القيادة المحلية أضعف إمكانية المساعدة، الأزمات تفضح الواقع على الأرض، فقد أظهر الشمال السوري مثالاً واضحاً للشيء وضده، فقد ظهر على سبيل المثال فريق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، التي دأب الأسد على قصفها، بشكل أكثر من ممتاز وأظهر تنظيماً واستعداداً وامتصاصاً للصدمة الأولى بحسب حجمه وهو ما جعله محط أنظار وآمال الجميع.

في المقابل غابت قيادة المعارضة السياسية المسؤولة عن صياغة خطاب إعلامي وترويجه وصياغة آلية محددة للمساعدات والاحتياجات والتنسيق والاستعداد لاستقبال الوفود والتواصل العالمي وغيرها من المسؤوليات القيادية في الأزمات. كل ذلك أثر بشكل مباشر على إمكانية نجدة الشمال السوري وهو ما سيكون له ما بعده بالتأكيد.

من الضروري الوعي بطبيعة نظام الأسد وبثباته على أهدافه الشخصية وأدواته الإجرامية وضرورة الوعي بأولويات القوى الكبرى وحقيقتها. التنظيم والإعداد على أشكاله في وقت الهدنة يظهر جلياً في وقت اشتداد الأزمات، وبالتالي ينكشف بوضوح مَن أعدّ ومَن كان دون ذلك المستوى، وبالتالي وجب التصحيح أم الاستبدال.

تلفزيون سوريا

———————————-

زلزال جنوبي تركيا والهزات الارتدادية الاقتصادية/ مخلص الناظر

في حزيران 2022، كان الاقتصاد  التركي على حافة الهاوية، وكانت تركيا تواجه أزمة ميزان مدفوعات محتملة، مما يعني أنها لن تكون قادرة على سداد ديون العملات الأجنبية ودفع فواتير البضائع المستوردة، كان  مؤشر مقايضة التخلّف عن السداد، الذي يُدفع سنوياً لضمان استرداد سندات “اليورو-بوند” المقومة بالدولار لمدة خمس سنوات، يحوم قرب 900 نقطة، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المصرفية، عام 2001.

وكانت التصنيفات الائتمانية السيادية للقروض الخارجية في أدنى مستوى لها خلال 20 سنة، في الأشهر التي تلت ذلك، بدأت الأمور تتحسن ببطء حيث استفادت تركيا من ظروف اقتصادية عالمية أقوى إلى جانب قيود جديدة على رأس مال الشركات المحلية، وتدفقات نقدية غير رسمية من الخارج، وطقس شتوي أفضل من المتوقع، وكلها وفّرت فترة راحة مؤقتة من المشكلات الاقتصادية الطويلة الأمد في البلاد.

لكن بعد ذلك في السادس من شباط حدث الأسوأ، تعرّضت تركيا وسوريا المجاورة لزلازل هائلة بلغت قوتها 7.8 و7.5 بفارق ساعات فقط، تجاوز عدد الضحايا في تركيا حتى تاريخه الـ40 ألفاً وأصيب عشرات الآلاف، ودُمرت آلاف المباني، ويقدر إجمالي الأضرار المادية وخسائر النمو المستقبلي بعشرات المليارات من الدولارات.

ثلاثة عوامل أساسية أسهمت في استقرار الاقتصاد التركي خلال النصف الثاني من 2022:

    العامل الأول: قيود رأس مال الشركات، كان هذا هو أشد قيود رأس المال صرامة منذ عام 2001، وأجبر الشركات على بيع ممتلكاتهم النقدية من العملات الأجنبية والودائع أو تحويلها إلى حسابات ودائع محمية بالعملات الأجنبية.

القروض مع معدلات فائدة نحو 10-15% من البنوك الحكومية جذابة جداً حيث تتجاوز توقعات التضخم 30%، لم تتردد العديد من الشركات في تحويل ودائع العملات الأجنبية الخاصة بها إلى حسابات الودائع المحمية بالعملات الأجنبية، حيث يحتفظ كلاهما بقيمة من حيث العملة الصعبة.

كان إدخال حسابات الودائع المحمية بالعملات الأجنبية أواخر 2021 قد أوقف الدولرة بالفعل، بدأت هذه اللائحة الجديدة عملية إزالة الدولار وسحب البنك المركزي التركي معظم ودائع العملات الأجنبية لدعم احتياطيات العملات الأجنبية الضعيفة. ومع ذلك فإن كلفة هذه الأداة مرتفعة، فقد دفعت وزارة الخزانة 92.5 مليار ليرة (4.92 مليارات دولار) لأصحاب الودائع حتى الآن.

    العامل الثاني (المهم): التدفقات النقدية غير الرسمية الواردة من الخارج، خارج نطاق السلطة التنظيمية للحكومة وأدوات السياسة النقدية.

تلقت الحكومة التركية أموالاً من الخارج من خلال تعزيز علاقاتها الثنائية، ولا سيما مع روسيا.. التدفقات النقدية الخارجية التي لم تُسجّل كجزء من أي معاملات مالية أو تجارية كانت منذ فترة طويلة وسيلة لتعويض العجز في الحساب الجاري، ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبحت هذه التدفقات من مصدر غير معروف مصدراً رئيسياً للتمويل.

وخلال فترة ارتفاع أسعار الطاقة التي دفعت عجز الحساب الجاري إلى 48.8 مليار دولار، تلقت تركيا 24.2 مليار دولار من الأموال غير الرسمية، مما يجعلها ثاني أكبر مصدر للعملات الأجنبية بعد صناعة السياحة، كما يوضخ المخطط أدناه:

    العامل الثالث (المهم): تحسّن الطقس ساعد الاقتصاد أيضاً، بسبب الظروف الجوية التي كانت أفضل بكثير من المتوسطات الموسمية.

تغيرت التوقعات بالنسبة للاقتصاد العالمي بشكل كبير في الأشهر الستة الماضية، وتمكنت الاقتصادات الأوروبية – أي شركاء تركيا التجاريين الخارجيين الرئيسيين – حتى الآن من تجنب ركود عميق ناجم عن تقنين الطاقة.

لم يؤد الطقس الشتوي الدافئ إلى خفض أسعار الغاز في القارة فحسب، بل أدى أيضاً إلى انخفاض الطلب، مما أدى إلى انخفاض كبير في فاتورة الطاقة في تركيا، كذلك أسهم بذلك انخفاض مدفوعات الغاز للمستوردين، وحجم الصادرات الأقوى من المتوقع إلى أوروبا، بإجمالي أكثر من 10 مليارات دولار.

تمكنت الحكومة من الهروب من أزمة العملة التي تلوح في الأفق من خلال هذه السياسات والتغيرات في البيئة الدولية، ومع ذلك لم تتم معالجة المشكلات الأساسية التي تواجه الاقتصاد التركي أو حتى تأخيرها، بالتأكيد ما يزال الاقتصاد شديد التأثر بالصدمات المالية الخارجية أو تدهور التوقعات المحلية، ومن المرجح أن تؤدي الزلازل الأخيرة إلى تفاقم هذه القضايا.

من غير الواضح ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ستستمر في منتصف شهر أيار/ مايو كما هو مقرر، ولكن من المرجح أن تبذل وزارة الخزانة والبنك المركزي في تركيا، قصارى جهدهما لتهيئة الظروف المناسبة لانتصار الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية. فضلاً عن تعزيز النشاط الاقتصادي ودعم القوة الشرائية للعائلات، والحفاظ على الاستقرار المالي.

الكلفة الإجمالية للدمار الناجم عن الزلازل ما تزال غير واضحة، لكنها لن تقل عن 10 مليارات دولار ويمكن أن تكون أكثر من ذلك بكثير – ما يصل إلى 84 مليار دولار، وفقاً لأحد تقديرات مجموعة الأعمال، أو نحو 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

فانهيار أكثر من 8000 مبنى سكني وتجاري، سيحتاج إلى إعادة بناء والعديد غيرها سيتعين إصلاحها أو استبدالها إذا تم تشديد معايير البناء، فقد تعرضت المباني العامة مثل المدارس والمشافي والمكاتب الحكومية لأضرار جسيمة، كما يجب إصلاح خطوط الغاز والنفط والكهرباء بين المدن، وتعرضت لأضرار متوسطة، بعض البنية التحتية الاستراتيجية مثل: طريق طرسوس-عنتاب السريع، وميناء إسكندرون، ومطار هاتاي.

لم يُفصح عن أي معلومات حتى الآن بشأن تضرّر أنابيب النفط ومصانع الصلب ومحطات الطاقة الحيوية، وتوضح الخريطة المرفقة أهمية المنطقة المتضررة لصناعة الصلب التركية.

بالإضافة إلى إعادة الاعمار، هناك تكاليف أخرى أيضاً مثل: نفقات المعيشة لمئات آلاف الأشخاص المتضررين من الزلازل، إجمالي عدد سكّان المنطقة المتضرّرة هو 13.4 مليوناً، معظمهم آمنون، ومع ذلك ستتغير ظروف عملهم، سيحتاج ما لا يقل عن نصف مليون منهم إلى دعم الدولة لتلبية احتياجاتهم الأساسية – الطعام والسكن والتدفئة، يجب أن تؤخذ النفقات الطبية والتعليمية في الاعتبار أيضاً، كما ستؤثر الزلازل على قدرتهم على العمل والاستهلاك.. حتى الآن خصّصت الحكومة التركية مبلغاً أولياً قدره 5.3 مليارات دولار للإغاثة في حالات الكوارث.

كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد التركي بنحو 3-3.5% في عام 2023، بما يتماشى مع معدل النمو الطبيعي، وتعتبر المنطقة المتضررة من أهم المناطق الاقتصادية في البلاد بعد المناطق المحيطة بإسطنبول.

سيكون الانتعاش تدريجياً ولن يحدث قبل عام 2024، علاوة على ذلك، فإن مناطق تركيا المختلفة مندمجة بشكل كبير ، مما يعني أن النشاط الاقتصادي على المستوى الوطني سيتباطأ أيضاً، لذلك من الممكن خسارة 2.0-2.5% من النمو، مما يعني أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا سينمو بمعدل 0.0-1.0% فقط في عام 2023، وهذا أقل من متوسط معدل النمو السكاني، وهو 1.5%، باستثناء المهاجرين واللاجئين وبالتالي فإن الزلزال سيؤدي إلى انخفاض طفيف في نصيب الفرد من الدخل القومي.

الانتخابات المقبلة ما تزال مصدراً رئيسياً لعدم اليقين، الاحتجاجات الاجتماعية ممكنة وقد يؤدي الاستقطاب السياسي إلى نشوب صراعات خطيرة، حتى الآن، لم يطرأ أي تغيير على النموذج الاقتصادي المطبق، ولكن من دون تغيير في السياسة ستظل سيولة العملات الأجنبية نقطة ضعف بالنسبة لتركيا.

على الرغم من حالة عدم اليقين والعوامل المختلفة التي تلعبها، مثل الظروف الاقتصادية العالمية والتوقعات السياسية الداخلية، فمن المرجح أن يشهد الاقتصاد التركي حالة من الركود أو النمو دون معدله الطبيعي، سيتجاوز التضخم التوقعات، وعلى الرغم من استمرار انخفاض أسعار الطاقة سيظل العجز الخارجي مرتفعاً مع انخفاض الطاقة الإنتاجية ومستويات التصدير.

من الممكن حدوث انخفاض كبير في العمالة، يبدو أن على الحكومة تغيير أو على الأقل مراجعة نموذجها الاقتصادي، المزيد من الدعم المالي من قطر والمملكة العربية السعودية وروسيا ما يزال محتملاً.، من غير المتوقع الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي ولن تغطي أي إغاثة دولية سوى الاحتياجات الأساسية للأشخاص في المنطقة المتضررة من الزلازل، المساعدة المالية من بنوك التنمية الدولية ضرورية، لكن مساهمتهم ستكون محدودة بسبب العلاقات السيئة للحكومة مع الغرب، وستكون تدريجية.. التحديات التي تواجه الاقتصاد التركي لا تعد ولا تحصى وبغض النظر عن كيفية سير الانتخابات المقبلة، يبدو أن الطريق أمام تركيا وعر وصعب.

تلفزيون سوريا

————————–

كنّتنا الشيعية/ حسام جزماتي

قبل أن تلقى مصرعها بأسبوعين، كتبت دلال زين الدين على صفحتها في “فيس بوك” منشوراً لاقى رواجاً واسعاً، استعادت فيه ذكرى عاشوراء في قريتها بجنوبي لبنان، عندما ارتدى الأطفال، حتى الرضّع منهم، الملابس السوداء، ولفّوا على رؤوسهم العصبات، وطلب منها أصغر أبنائها أن يلبس كالآخرين لكنها رفضت.

ألبست الأم الشيعية اللبنانية طفلها، السنّي الحمصي، لباساً شامياً تقليدياً دون أن تشرح له السبب بأكثر من جملة: “أنت لست مثلهم”، فيما كانت تفكر في أنها لن ترسله إلى الحسينية حيث يحتفل القتلة بتحرير مدينته من أبنائها، وأنها لا تريد له أن يسألها عن الخامنئي ونصر الله ومن أسهموا في تهجيره. وختمت منشورها بالقول: “أكره أن يسألني ابني عن الشهادة، أنا التي هربت به من حي إلى حي، ومن مدينة إلى أخرى ومن دولة لدولة كي يبقى حياً.. كي يبقى سورياً”.

من المؤسف أن فجر، الذي بلغ الثالثة عشرة، سيستشهد دون أن يسأل أمه التي باغتها الزلزال الذي ضرب مدينة أنطاكيا التركية، حيث سكنت العائلة منذ سنوات، فكانت دلال من أولى ضحاياه، قبل أن يلحق بها ولدان شابان كانا تحت الأنقاض، وحفيد رضيع، وأخيراً الابن الأصغر الذي قضى بعد إسعافه إلى المشفى بساعة.

دلال زين الدين

ترجع عائلة زين الدين إلى إحدى قرى بنت جبيل. ونتيجة الفقر والرحيل المبكر للأب أودعت الأم أبناءها في ميتم ليتمكنوا من متابعة تعليمهم. في الضاحية الجنوبية لبيروت تزوجت دلال شاباً حمصياً كان يقيم هناك ثم عاد بها إلى مدينته قبيل الثورة السورية بسنوات قليلة، فشهدت اندلاعها في حمص، وسنتها الأولى التي بكّرت عليها المجازر هناك، يوم كان حسن نصر الله يقول: “ما في شي بحمص”!

وكانت هذه المرأة، التي لم تتخل عن مذهبها الشيعي، تشاهد المجازر وتعيش حصار الجوع والعطش وتستشعر الظلم فعلاً، لا عبر تشجيع الرادود على البكاء في مجالس العزاء، فتساءلت عن الحسين؛ أهو معنا أم معهم؟ لتصل إلى أن “حمص هي كربلاء هذا العصر”.

في إحدى المقالات القليلة التي كتبتها بيّنت دلال أنها قرّرت في البداية الوقوف في صف الأسد، فخورة بالدفاع عنه وكأنها تدافع عن الجنوب وعن المفاهيم الخمينية التي تلقتها. لكن الحاجز الذي نصبته قوات النظام في أول الزقاق الذي كانت تقيم فيه تكفّل بتغيير قناعاتها، فقد كانت تشهد قنص أي ساكن يحاول المرور عبره. وهكذا، جثة بعد جثة، اقتنعت أن القنّاص والذين يقفون وراءه لا يمكن أن يتصفوا بالإنسانية.

خشيت الأم على ابنها، الذي كان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية، من عدوى الإجرام فأقنعته بالانشقاق عن جيش الأسد وانضم إلى الجيش الحر في ريف حمص، في حين وردها اتصال مفاجئ من ابن أخيها يخبرها أنه سيزورها خلال أيام، بمجرد أن تسمح له بذلك “المهمة الجهادية” التي أتى بها إلى سوريا، دفاعاً عن المقامات وحرباً على المندسين. دون كلام تخاطب العمة ابن أخيها: “عد وأخبر سيدك أن حمص ليست تل أبيب وأن أهلها ليسوا هم من قتلوا الحسين”.

بعد زيادة التوتر في حمص وتعرّض منزلها للخطر غادرت الأسرة إلى جنوبي لبنان وأخفت ميولها السياسية حتى طلب حزب الله من الأبناء أن يصوتوا لبشار الأسد في الانتخابات الرئاسية 2014، بما أنهم سوريون، وهنا تولت الأم إعلان الموقف وتحمل تبعاته حتى الهجرة إلى تركيا التي لم تكن معيشتها فيها سهلة واضطرت إلى أعمال يدوية.

لكن دلال زين الدين استعادت، بالتوازي مع مراجعاتها العامة، ميولاً أدبية كانت قد ظهرت لديها أيام الدراسة. فشرعت في كتابة شهادة بعنوان “ألف يوم مع السنّة في سوريا”، لعل مسوداتها الآن بين ركام منزلها، ورواية صدرت في منتصف العام 2022 باسم “عمامة وجسد”.

عمامة وجسد

وترصد الرواية بداية ترسخ النفوذ الإيراني بين الشيعة اللبنانيين، مع ما حمله من قيم فارسية وتقاليد غير مألوفة تماماً لدى المجتمع الأهلي. ومنها، حسب المؤلفة، زواج المتعة الذي انتشر في الجنوب اللبناني كظاهرة صدّرتها إيران على طبق شرعي بواسطة حزب الله. تحتل هذه المسألة صلب الحكاية التي تنشأ بين ليلى، الصبية/الطفلة ابنة السادسة عشرة، وبين الشيخ علي، الرجل النافذ دينياً وسياسياً وعسكرياً في المنطقة. لم يخدع الشيخ المراهقة التي أغرمت به لكنه استغل فارق العمر والمكانة والثروة ليبني معها علاقة غير متوازنة تقوم على تمتعه بجسدها لوقت محدد يجددانه كل مرة، بمقابل غير معلن هو دعم أسرتها البائسة براتب شهري من أموال الخمس.

استمرت هذه العلاقة عاماً نضجت خلاله ليلى وتعلمت الكثير على خلفية معارك من بقايا الحرب الأهلية اللبنانية، وصراع الشقيقين حزب الله وحركة أمل داخل البيت الشيعي، والعمليات ضد إسرائيل. ووسط كل ذلك تفقد ليلى شقيقها المفضّل الشاب عباس، وتشعر بمهانة الحب الذي يقودها إلى الشيخ علي كل مرة، فتقرر الانفصال عنه نهائياً وتتزوج بعد أشهر قليلة بشكل تقليدي.

ربع قرن مر قبل أن تصادف ليلى عشيقها القديم على “فيس بوك”، وتعلم أنه ما زال يدفع الآخرين إلى الموت، لكن في سوريا هذه المرة، بعد أن أصبح أحد مهندسي المعارك ضد الثورة هناك، في حين أنها كانت تؤيد حراك الربيع العربي. يتبادل زوجا المتعة السابقان مراسلات عديدة، ويحاول الشيخ استعادة العلاقة، لكن ما أصابها من شروخ حال دون ذلك في نهاية الأمر.

في هذه الرواية الوحيدة التي أسعفها الحظ بنشرها كتبت (كنّتنا أم عمر)، وهو اللقب الذي أحبته في سنواتها الأخيرة، أن “الموت مخادع كبير، يستكثر علينا الرحيل عن هذه الحياة بطريقة ديمقراطية، طريقة نختارها نحن”. وهو ما حدث مع زين الدين التي فاجأتها دمدمة الأرض ذات فجر، لتدفن إلى جانب السوريين الذين شاركتهم الحياة والموت.

تلفزيون سوريا

—————————-

الزلزال السوري يحرّك «أوراق التطبيع» العربي… والأوروبي/ إبراهيم حميدي

اتصالات لتمديد فتح المعابر التركية وتجميد العقوبات الأميركية… والأسد إلى عُمان قريباً

الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا قبل أسبوعين وأودى بحياة عشرات آلاف الضحايا ودمر الكثير من المنازل والبنية التحتية في البلدين، طرح أسئلة وتحديات أساسية في العواصم العربية والغربية إزاء كيفية الاستجابة للكارثة، وإمكانية التمييز بين «سوريا» و«النظام». كما أنه حرّك «أوراق التطبيع» العربي والغربي مع دمشق.

رد الفعل الأولي لمعظم الدول، كان التعاطف مع الشعبين السوري والتركي أمام هذه الكارثة الإنسانية. وكان صعباً على أي عاصمة أن تأخذ موقفاً متعاطفاً مع أنقرة في شكل منعزل عن موقفها من دمشق. الكارثة إنسانية وليست سياسية. زلزال وليس حرباً أهلية. الإشكالية كانت أن الاعتراف السياسي الدولي الموجود إزاء الحكومة التركية، ليس موجوداً بالقدر نفسه إزاء الحكومة السورية. صحيح أن الأخيرة لا تزال تمثل البلاد في المؤسسات الأممية وصحيح أن الخطاب السياسي الخارجي بات يستعمل «حكومة» وليس «نظاماً»، لكن هذه الحكومة لا تزال خارج إطار الجامعة العربية، وهناك قطيعة من عواصم عربية وغربية رئيسية مع دمشق، إضافة إلى وجود قائمة طويلة من العقوبات الاقتصادية والمساءلات والتقارير والاتهامات ضد مؤسسات وشخصيات سورية وقائمة قصيرة من سفارات دول كبرى وعربية وإقليمية في العاصمة السورية، على خلفية كيفية تعاطي دمشق مع الأزمة والسنوات اللاحقة لبدء الاحتجاجات في 2011، إضافة إلى أن المناطق التي تعرضت للزلزال في ريفي حلب وإدلب شمال سوريا أكثر من غيرها، غير خاضعة لسيطرة الحكومة السورية، مع أن هذه الكارثة أصابت أيضاً مناطق الحكومة في حلب وحماة واللاذقية.

– سوريا المنكوبة… والمنسية

منذ بدء الحرب في أوكرانيا قبل سنة، أصبحت سوريا منسية ومتروكة وغابت أو انخفضت في سلم الأولويات الإقليمية والدولية. كارثة الزلزال حركت الجمود. بالفعل، انطلقت سلسلة من الاتصالات السياسية بين الدول المعنية العربية وغير العربية. كما تلقى الرئيس السوري بشار الأسد سلسلة اتصالات هاتفية بعضها غير مسبوق في العقد الأخير، أبرزها من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اضافة الى زيارة وزير الخارجية الاردني ايمن الصفدي لدمشق لاول مرة منذ سنوات.

في البداية، كان هناك انقسام دبلوماسي: دول غربية نادت بقرار أممي جديد يدعو لفتح معابر حدودية من تركيا إلى مناطق المعارضة في الشمال. موسكو، بداية، فكرت في مقايضة تتضمن الموافقة على ذلك مقابل رفع حصة التمويل الغربي في مشروعات «التعافي المبكر» وفق القرار الدولي الخاص بالمساعدات.

لكن الاتصالات العربية والدولية مع دمشق، أنجزت صفقة – مقايضة غير مباشرة أخرى: الأسد يتمسك بـ «السيادة السورية على جميع الاراضي»، ويوافق على فتح معبرين حدوديين إضافيين من تركيا إلى شمال سوريا لثلاثة أشهر، ويوافق على نقل المساعدات من مناطق سيطرة الحكومة إلى إدلب، ثم تعلق واشنطن بعض العقوبات على التحويلات المصرفية لستة أشهر، بما لا يضر المساعدات الإنسانية، وفق أولويات إدارة جو بايدن منذ تسلمها.

وبعد البطء الرسمي السوري في التعاطي مع آثار الزلزال، فإن الاتصالات والزيارات الرسمية العربية مع الأسد أسفرت أيضاً عن مرونة إضافية، تمثلت بخطوات إجرائية وقبول مساعدات وطائرات إغاثة واتصالات من دول عدة دون تدقيق وتشكيك، وصولاً إلى زيارات ميدانية إلى مناطق الزلزال وإلقاء خطاب رسمي جديد شكلاً ومضموناً. حضر في النص المكتوب والملقى أمام الكاميرا، الحديث عن مواساة السوريين والحوار وشكر «الأشقاء العرب والأصدقاء». وغابت عنه إدلب من لائحة المحافظات التي ضربها الزلزال مع حماة وحلب واللاذقية، وغابت أيضاً أي إشارة إلى «الحلفاء»، أي إيران وروسيا أو «الاحتلال» الأميركي أو التركي.

– التطبيع

الزلزال حرك الجمود. دول عربية كانت مطبعة أو تريد التطبيع، وجدت في الكارثة منصة لتسريع خطواتها عبر اتصالات هاتفية وزيارات، ستتضمن قيام الأسد في الساعات المقبلة بزيارة إلى عمان وعاصمتها مسقط ثم إلى الإمارات.في المقابل، لاتزال دول عربية متمسكة بموقفها الذي يزاوج بين تقديم المساعدة الانسانية والعمل على توفير شروط عودة اللاجئين وحل الازمة السورية، مع ملاحظة تذكير ايراني باستمرار «الحلف» مع دمشق التي تمثلت بزيارة قائد «فيلق القدس» في «الحرس» الايراني اسماعيل قاآني الى حلب بعد الزلزال قبل اي مسؤول سوري.ينطبق الأمر ذاته على الدول الأوروبية ووحدة موقف الاتحاد الأوروبي، ذلك أن الدول التي كانت تنادي بـ«قبول الأمر الواقع» في السنوات الماضية مثل إيطاليا واليونان وقبرص والنمسا، تعتقد أنها باتت في موقف أقوى في مطالبها، وهي تدعو إلى مراجعة «اللاءات الأوروبية» الثلاث: لا للتطبيع، لا للإعمار، لا لرفع العقوبات، قبل تحقيق تقدم بالعملية السياسية.الدول الأوروبية الأخرى وأميركا عقدت في الأيام الأخيرة اجتماعات تنسيقية للقيام بهجوم مضاد، مفاده: صحيح أن هناك كارثة إنسانية وتجب الاستجابة لها في تركيا وسوريا، عبر تقديم مساعدات وإغاثة والمساهمة في إعمار المرافق الطبية، لكن هذا لا يعني التخلي عن «اللاءات الثلاث» ولا التخلي عن العملية السياسية.

هذا الانقسام الأوروبي برز أيضاً في الموقف من مؤتمر الإعمار الذي دعا إليه الاتحاد الأوروبي لسوريا وتركيا آخر الشهر المقبل، إذ إن دولاً «مطبعة» تدعو إلى دعوة الحكومة السورية إلى المؤتمر وإسقاط الأجندة السياسية عنه، وتدعو أيضاً إلى إلغاء مؤتمر المانحين المقرر في بروكسل في يونيو (حزيران) المقبل لاتخاذ «خطوات واقعية» في سوريا، وهي تلوح بالقيام بخطوات انفرادية مباشرة مع دمشق بعيداً عن الإجماع الأوروبي. عوامل كثيرة، سترجح فريقاً عربياً على آخر وفريقاً غربياً على آخر، تخص توازنات داخلية وتحالفات. لكن أحدها، سيكون سلوك دمشق والعواصم الأخرى في المرحلة المقبلة، إزاء التعاطي مع المساعدات والإغاثة وأموالها وكيفية إيصالها إلى المناطق المنكوبة الأخرى ومدى التزام الوعود التي قيلت في غرف مغلقة، خصوصاً أن الأسابيع والأشهر المقبلة ستكشف حجم الكارثة الفعلية من الزلزال.

لا شك أن بقاء المعابر من تركيا والممرات عبر خطوط التماس مفتوحة، يفتح الطريق أمام تمديد الاستثناءات الأميركية من العقوبات لأشهر إضافية بعد 180 يوماً، بل يشجع دولاً أوروبية على رفع بعض العقوبات ودولاً عربية على مزيد من التطبيع ويعزز المسار التطبيعي بين انقرة ودمشق. والعكس صحيح، بل ان دولاً غربية لاتزال تلوح بـ «شرعنة» المعابر التركية بقرار دولي وليس قراراً سورياً. دمشق تراقب سلوك الآخرين، والآخرون يراقبون سلوك دمشق، وسوريون في العراء أو بين الركام أو العتمة.

الشرق الأوسط

————————-

المنظمات الأهلية وغير الحكومية والمأساة السورية/ حيّان جابر

انقسم السوريون بشأن الموقف من المنظمات الأهلية وغير الحكومية الناشطة في الشأن السوري، بين اعتبارها مؤسّسات فاسدة من ناحية، ورافضي تعميم تهم الفساد على مجملها. أخذ الخلاف أبعاداً كثيرةً وعديدةً، بحكم الظرف الراهن، الذي فرضه الزلزال المدمّر على مدن سورية عديدة، ملحقاً دماراً كبيراً وخسائر بشرية ضخمة، يصعب (يستحيل) التعامل معه وفق قدرات السوريين المحدودة اليوم، خصوصاً بعد الكوارث التي فرضتها سياسة النظام الأمنية والعسكرية تجاه ثورة الشعب السوري، وبحكم التدخلات/ الاحتلالات الخارجية المدمّرة، ونتيجة غياب المؤسسات الإدارية والاجتماعية والسياسية الموثوقة والفاعلة على كامل الجغرافية السورية، من نظام الأسد إلى قوى الأمر الواقع المتعددة.

من ناحية تعريفية، يصعب اعتبار هذه المنظّمات أهلية من ناحية بناها الإدارية ومرجعيتها، كما يصعب اعتبارها منظمات غير حكومية بمعنى فواعل فوق الدولة أو مستقلة عنها، إذ تتسم هذه المنظمات والمؤسّسات بصفة مشوهة ومركّبة يصعب معها تصنيفها. إذ لا تخضع هذه المنظمات لتقييم ومحاسبة وإدارة الوسط الاجتماعي السوري الكامل، أو حتى قسم منه، كما في حالة النقابات المهنية والعمّالية مثلاً، كما لا تخضع لقانون وطني واضح ومحدّد، بل تدار وفق أهواء الجهة الداعمة ومصالحها أولاً، والجهة المؤسّسة ثانياً؛ حزبية كانت أو دولة خارجية أو النظام أو أفراداً.

في البداية، يجب التنويه بدور هذه المنظمات المهم والمحوري سورياً، داخل مناطق سيطرة النظام وخارجها، بعد انكفاء الدولة السورية عن ممارسة دورها الاجتماعي والخدمي، لصالح تنامي دورها الأمني والعسكري أولاً، ونتيجة ترهّل قوى المعارضة السياسية وتبعيتها الخارجية، واقتصار دورها على الجانب الإعلامي فقط، مع بعض الأدوار السياسية المرسومة لها من داعميها ثانياً، الأمر الذي حمّل المنظمات الأهلية وغير الحكومية مسؤوليات الدولة الاجتماعية والخدمية كاملةً، من الطبابة إلى التعليم، مروراً بالإغاثة وتأمين السكن.

كذلك تعاني سورية من انهيار اقتصادي شبه كامل، نتيجة سياسات النظام الأمنية تجاه ثورة الشعب السوري أولاً، وبحكم التدخلات والاحتلالات المتعدّدة في سورية ثانياً، وحصيلة هروب رأس المال البشري والمادي السوري إلى خارج سورية ثالثاً، الأمر الذي أدّى إلى ندرة فرص العمل، وارتفاع معدلات البطالة والفقر. في ظل ذلك، باتت المنظمات الأهلية وغير الحكومية في سورية مؤسّسات اقتصادية نسبياً، بمعنى أصبحت مصدر العمل شبه الوحيد للغالبية العظمى من السوريين. الأمر الذي ساهم في تضخّم كادرها الوظيفي، وتراجع حجم كادرها التطوعي؛ باستثناء فترات الكوارث، وازداد تنافس السوريين على نيل وظيفة في إحداها، ما عزّز ظاهرة المحسوبيات، والفساد الإداري، والانتقائية.

ساهم الوضع السوري بتعقيداته الكثيرة في صناعة ظرف مشوّه، أدى بدوره إلى إيجاد منظومات مشوّهة، منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يعرف اليوم بالمنظمات الأهلية أو غير الحكومية، ذلك كله يُضاف إلى مشكلات العمل الأهلي السابقة في سورية، ومشكلات المنظمات غير الحكومية المتعدّدة، المعروفة سلفاً، من بيروقراطيتها إلى فسادها العابر للقارّات، فضلاً عن أجنداتها غير المواتية لجميع الظروف والمجتمعات، بالحد الأدنى، التي لا تأخُذ بالاعتبار العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحلية، وسياقات التطور والحداثة ومتطلباتها.

إذاً، لم تعد المنظمات الأهلية وغير الحكومية السورية الفاعلة في سورية بنى داعمة للدولة ومساندة لها، بل أضحت هي الدولة من ناحية دورها الاجتماعي والخدمي، ونسبياً الاقتصادي، الأمر الذي حملها أمراض الدولة ذاتها، من فسادها المالي والإداري وسوء إدارتها، كما حملها مسؤولياتها، لكن مع فارق بسيط؛ لكنه جوهري، يكمن في اعتبارها من نماذج العمل الأهلي التطوعي، وإنْ تقلصت المشاركة التطوعية، الأمر الذي يجعل مهامها غير إلزامية، على عكس الدولة التي تتحمّل مسؤولية مجتمعها المحلي كاملاً، وإن أنكرت أو تنكرت لها.

بناءً عليه، يتحمّل النظام السوري مسؤولية البيئة المشوّهة السورية وظروفها، على اعتباره ممثل الدولة السورية الرسمي حتى الآن، فضلاً عن دوره المحوري في فرض التشوه بسياساته الأمنية والإجرامية، كما تتحملها أجسام المعارضة الرسمية كذلك لقصور دورها وتبعيتها، تليهما قوى الاحتلالات والقوى الفاعلة في سورية، والمجتمع الدولي ومنظماته ومؤسساته المختلفة، وصولاً إلى مسؤولية المنظمات الأهلية وغير الحكومية الفاعلة بسورية، أو بالأصح مسؤولية غالبيتها.

في الحالة السورية الراهنة، لا يمكن الاستغناء عن دور هذه المنظمات، رغم كل سلبياتها ومظاهر الفساد الإداري والمالي المنتشرة فيها، نظراً إلى غياب دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي يحيلنا على جذر الأزمة السورية السياسي، الذي يتطلب إعادة الاعتبار للعمل السياسي في الأوساط الشعبية، انطلاقاً من أولوية التحرير الكامل والشامل والتغيير السياسي والاقتصادي الجذري.

سورياً، فشل الرهان على قدرة العمل الأهلي التغييرية، في غياب العمل السياسي المنظّم الحزبي، وغياب البرامج السياسية الشاملة والمتكاملة اقتصادياً واجتماعياً، فقدرة العمل الأهلي على صنع التغيير المحدود أو الشامل مشروطٌ بتوافر ظرف سياسي وقانوني، دستوري، يمكّنه من لعب دورٍ بارزٍ في تحديد مصير الأوطان، وهو ظرفٌ غائبٌ عن سورية تاريخياً، أي من قبل الثورة.

تعتبر حرية التعبير والاهتمام بالشأن العام من أهم مكاسب الثورة السورية، التي تتجلى في إبداء السوريين آراءهم في كل صغيرة وكبيرة تخصّ بلدهم وشعبها، أحياناً لا تخصّ سورية. هذه الحالة النقدية صحية وضرورية، رغم عدم توافر مقوماتها الرئيسية، خصوصاً في ما يتعلق بسهولة الوصول إلى المعلومات، وشفافية البنى الإدارية والتمثيلية، أهلية كانت أو سياسية أو حتى إعلامية وقضائية، فجميع قوى الأمر الواقع في سورية، في مقدمتها النظام، وجميع المنظمات والهيئات والمؤسسات الفاعلة داخل الأراضي السورية تحجب القسم الأكبر والأهم من المعلومات الضرورية للمحاسبة والنقد والمراقبة، الأمر الذي يحمّلها مسؤولية شحّ المعلومات، وانتشار النقد المبنيّ على التحليل بدلاً من النقد العلمي المستند إلى الحقائق والمؤشّرات الموثوقة والدقيقة.

في الختام، يجب الإقرار بدور العمل التطوعي السوري في الحد من آثار الكوارث الطبيعية والبشرية وتبعاتها التي حلت بسورية منذ اندلاع الثورة الشعبية السورية، كما لا بد من الاستمرار في نقد المظاهر السلبية المنتشرة والمعمّمة فيه، إذ قد يساهم هذا النقد في الحد من تأثير المظاهر السلبية؛ ولو مؤقتاً، كما قد يساهم في استعادة الدور السياسي للشعب السوري، الذي نجح النظام والاحتلالات وقوى الأمر الواقع في حجبه عنه.

العربي الجديدة

———————-

غسان هيتو لـ”أمريكا اليوم”: الزلزال فاقم كارثة الشمال السوري والأمم المتحدة متقاعسة

فاقم الزلزال المُدمر الذي ضرب عدة مدن في جنوبي تركيا، مأساة ملايين السكان في مناطق شمال غرب سورية، التي تعيش أساساً منذ سنوات، تحت الضربات العسكرية لقوات الأسد وروسيا.

وفي الوقت نفسه أظهرت الأمم المتحدة تقاعسها في تقديم المساعدة الفورية والعاجلة إلى متضرري الزلزال في الشمال، إذ دخلت أول قافلة تتكون من ست شاحنات فقط بعد ثلاثة أيام من وقوع الزلزال.

ووصف الرئيس التنفيذي لـ”المنتدى السوري” غسان هينو، خلال حديثه لصحيفة “أمريكا اليوم-usatoday” الأوضاع في شمال غرب سورية، بأنها شديدة المأساوية والكارثية، حيث مئات السكان فقدوا حياتها، إضافة لآلاف الجرحى وتشريد مئات الآلاف، بعد أن دمّر الزلزال مئات المباني السكنية.

وأضاف هيتو الذي تواجد في مناطق شمال غرب سورية بعد الزلزال بساعات، أن الكارثة أدت إلى إخراج أربعة مستشفيات عن الخدمة، والمستشفيات المتبقية غير قادرة على تلبية الطلب الهائل والاستجابة العاجلة لضحايا الزلزال.

وأكد أن الزلزال أظهر بوضوح ضعف البنية التحتية الطبية في المنطقة، وأنها غير كافية، وهو ما أثبته سابقاً “فيروس كورونا”.

وتحدث الرئيس التنفيذي لـ”المنتدى السوري”، عن أن الدمار الحاصل في الشمال السوري بفعل الزلزال، تمت رؤيته سابقاً من خلال الضربات الجوية التي كان يشنها “نظام وحشي مارق وحلفاءه الأقوياء”.

واعتبر أن الأهالي في الشمال السوري يخشون إلى جانب الهزات الارتدادية، هجمات محتملة لقوات الأسد وحلفائه في المنطقة.

وطالب بوضع خطة تدخل إنساني شاملة وفورية على أعلى مستويات التعاون الدولي، للحد من “زيادة التعقيد لأكبر الأزمات الإنسانية على كوكب الأرض في القرن الحالي”.

تقاعس الأمم المتحدة

وانتقد هيتو سياسة الأمم المتحدة في سورية، إذ اعتبر أنها اختبأت خلف “القانون الإنساني الدولي والأعراف الدبلوماسية” لتبرير عدم تحركها لتقديم المساعدات في شمال غربي سورية.

وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، أقر بفشل الأمم المتحدة في مساعدة عشرات آلاف المدنيين في شمال غربي سورية.

وقال المسؤول الأممي عبر حسابه في “تويتر”:”لقد خذلنا حتى الآن الناس في شمال غرب سورية، إنهم محقون في شعورهم بالتخلي عنهم”.

ويقول هيتو في حوراره مع الصحيفة الأمريكية، إن “المجتمع الدولي تخلى عن السوريين عندما كانوا في أمس الحاجة إلى المساعدة”.

وتابع أن “كون الشعب السوري، وكذلك الأمم المتحدة، محتجزون بشكل علني كرهائن من قبل نظام قاتل- وحلفائه في مجلس الأمن وغيره من منصات العلاقات الدبلوماسية- قد يُعتبر أحد أكثر العيوب المخزية للتقاعس عن العمل”.

وفيما أكد على أن مأساة السوريين في شمال غرب البلاد، لم تبدأ مع الزلزال، بل أنها مستمرة منذ عشر سنوات من قصف النظام وحلفائه للمنطقة، فقد طالب المجتمع الدولي بالنظر إلى السكان في هذه المناطق المنكوبة، على أنهم “مثل كل البشر في أي منطقة حول العالم، حيث يجب أن يحظون بالمساعدة أيام الكوارث الطبيعة أو تلك المآسي التي يصنعها الإنسان(القصف المدفعي والجوي).

وفيما اعتبر المواقف الكلامية والإدانة وحدها غير كافية، فقد ختم خديثه للصحيفة الأمريكية بالتأكيد على أنه “إذا استمرت الأمم المتحدة في تطبيع نظام الأسد وممثليه في جميع أنحاء العالم كدبلوماسيين شرعيين وحتى زملاء، بينما في نفس الوقت تطالب بعباءة العمل الإنساني ، فأنا لست إنسانياً”.

—————————————

مشروع قانون أمريكي بشأن سورية لمراقبة تدفق “المساعدات الإنسانية

طرح عدد من النواب الأمريكيين، مشروع قانون جديد بشأن سورية، بعد الزلزال الذي ضربها، قبل أسبوعين، يتعلق بمراقبة إيصال المساعدات وإعاقة جهود نظام الأسد برفع العقوبات.

وأعلن مسؤول السياسات في المجلس السوري الأمريكي، محمد علاء غانم، عبر حسابه في “فيس بوك”، أن 30 عضواً من أعضاء الكونغرس الأمريكي تقدموا بالمشروع.

ويتضمن المشروع عدة بنود، أولها “إنشاء آلية رسمية لمراقبة المعونات المقدمة من الولايات المتحدة لسورية لضمان وصول المساعدات لمن يستحقّها، وعدم سرقة نظام الأسد لها واستفادته منها”.

ويطلب مشروع القانون الإدارة الأمريكية، باستخدام كل الوسائل الدبلوماسية لفتح جميع المعابر بين سورية وتركيا، وإيصال المساعدات للمنطقة المنكوبة في شمال غربي سورية.

كما يطلب من الإدارة الأمريكية “الالتزام بحماية الشعب السوري عن طريق تطبيق قانون قيصر”، خاصة بعد تعليق الإدارة الأمريكية بعض العقوبات لمدة ستة أشهر عن النظام.

 أما البند الرابع “يندّد بمحاولات الأسد لاستغلال الكارثة للإفلات من الحساب ومن الضغط الدولي، وبعرقلته لإدخال المساعدات من كافّة المعابر”.

 وحسب غانم فإن مشروع القانون الجديد يتضمن أيضاً بنود إضافية، منها الحداد على ضحايا الزلزال، والثني على جهود المسعفين والمنقذين وإمكانية دعمهم، خاصة “الخوذ البيضاء”.

وأكد غانم أن مشروع القانون يحتاج إلى تأييد أكبر عدد ممكن من أعضاء الكونغرس، حتى يُقر في مجلس النواب ويُرسل لمجلس الشيوخ.

وكان زلزال ضرب تركيا وسورية، في السادس من الشهر الحالي، أدى إلى دمار واسع في شمال غربي سورية، وأودى بحياة الآلاف.

واستغل نظام الأسد الزلزال للترويج على فكرة أن العقوبات المفروضة عليه تعرقل عمليات الإغاثة في البلاد.

إلا أن واشنطن نفت ذلك عبر وزارة خارجيتها، وقالت إن العقوبات تتضمن استثناءات لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية وغيرها للشعب السوري، مشيرة إلى أنها لن تمنع أي دولة من تقديم ذلك الدعم.

كما أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية إعفاء أية معاملات متعلّقة بجهود إغاثة ضحايا الزّلزال في سورية من العقوبات، وذلك لمدة 180 يوماً، وحتى تاريع الثامن من أغسطس/آب المقبل.

وكان  السيناتور الجمهوري جيم ريتش، قال عبر حسابه في “تويتر”، إنه “لأمر مثير للاشمئزاز أن الأسد يستخدم مأساة الزلزال في سورية كفرصة لإعادة الانضمام إلى المجتمع الدولي”.

ووصف السيناتور الأمريكي الأسد بأنه “مجرم حرب ولا يزال السوريون يعانون تحت رعايته”.

ودعا لعدم تخفيف العقوبات على النظام السوري لأن “المساعدة الإنسانية معفاة بالفعل”.

—————————–

لم تبقَ للحيطان آذان في جبلة… “لماذا يرحل هؤلاء ويبقى أولاد القحبة”؟/ كمال شاهين

7 شباط/ فبراير 2023. إنه اليوم الثاني لزلزال مدمّر ضرب تركيا وسوريا، وأودى بحياة قرابة أربعين ألف إنسان وكائنات أخرى لم تُحسب في القائمة البشرية، من شجر ونبات وحيوانات وينابيع. قرابة أربع وعشرين ساعةً مضت، النوم طيف بعيد. الجندي الطيب شيفيكو (أنا)، يجلس على الكنبة بكامل استعداده للقفز إلى الشارع. بناتي الثلاث وأمهم بجواري يسرقون نوماً قلقاً، نوم العصافير كما تسمّيه حماتي. نترقب أدنى اهتزاز لكأس ماء وضعناه أمامنا على طاولة مرتفعة عن اﻷرض؛ هذا مقياس “ريختر” الخاص بزلازلنا هنا.

يرن هاتفي في توقيت غير معتاد، لا يظهر اسم المتصل، الرقم على الشاشة من دولة عربية، أردّ، فيسألني المتصل، وهو مدير البرامج في محطة تلفزيونية عربية شهيرة: هل تسمح أن تكون موفداً من المحطة وتغطّي لنا “وقائع الزلزال” في مدينة جبلة واللاذقية؟ هكذا بحيادية ومهنية يقولها، وكأنه يتحدث عن وقائع مباراة كرة قدم أو خطاب سياسي أو حتى وقائع أقلّ اعتياديةً مثل الاستيقاظ من نومٍ بعد سكرة.

من حقه هذا، لا وقت للعواطف على الشاشات، ربما العواطف نفسها تصبح وقائعاً رقميةً. البكاء “وقائع” مثل الضحك بفارق طفيف هو الوقت؛ “لتكن البداية من جبلة حيث الضرر كبير في البشر والحجر”. فعلياً أسمع اسم المحطة خطأً، وأتصور أنها محطة أخرى. أوافق.

أكمل السيد: “ستكون عربة البث الفضائي معك بعد عشر دقائق”. تنظر عائلتي إليّ شذراً: من غير الممكن أن تذهب في هذا الوضع، هناك احتمال لهزات ارتدادية قوية مثلما حصل أمس. أطمئنهم، ليذهبوا إلى بيت الجد، هناك تجتمع العائلة في بناء يحتوي ملجأً مبنياً من زمن بعيد سيكون آمناً لهم أكثر من بيتنا.

عشر دقائق تكفيني ﻷحلق ذقني وأصفف شعري وأفطر وأضع أغراضي في حقيبة ظهر معتادة على السفر بين البلدان. لا أفعل أياً مما سبق: “لا نفْس ﻷي شيء”، أكتفي بالماء، عشر دقائق تنطلق السيارة إلى جبلة.

قليل من أسمائها الحسنى

لجبلة، المدينة الصغيرة الحجم والسكان (ربع مليون)، أسماؤها الحسنى الكثيرة، لكنها أقلّ من مئة. لا يجوز للمدن أن تنسى أنها مدن وأنّ اﻵلهة وحدها يحق لها أن تنمو إلى اﻷبدية. يوماً ما كانت أسماء جبلة “گَبْلَه وغَبْلَه وجِبلِه وجَبَلَه وجَبْله وگَبَله وگَبَلا وگابْلا وگيبِلُّم، ومن تعريبات اسمها قبلة وقبالة”، ووفق مؤرخ محب لها، مؤنس البخاري، فإنّ “أوّل ذكر لهذه المدينة ورد في النقوش الأوگاريتية نحو 3200 سنة، يذكرها باسم ‘أدَد گِ-بَ لا’ وتعريبها ‘أداد گِبَلّا’ ومعناه ببساطة ‘تقدمة أداد’، وأداد (هو حدد كذلك) إله معروف في التاريخ السوري عُبد ألفي عام في الإمبراطورية الآشورية وما تلاها وبقي في نصفها الغربي (أي سوريا)”.

من غير المعقول أن كثيرين منّا لا يزالون يطالبون بأبسط حقوقهم. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا.

ادعمونا

لاحقاً، حاول العرب المسلمون بعد وصولهم إلى هنا، أن يضيفوا سبباً لاسمها غير الغريب عليهم، فكانت قصة “جبلة بن اﻷيهم”، غريم الخليفة الراشدي الثاني والهارب منه إلى جبلة. لاحقاً أيضاً، حضرت حكاية أخرى في تبرير لصق اسم جبلة اﻷدهمية بها، فكانت قصة السلطان المتصوف ابراهيم بن اﻷدهم القادم من بلخ (شمال شرق إيران)، إليها متصوفاً زاهداً، حيث ينام اليوم في قلب المدينة في جامع يحمل اسمه ويزوره كل أبناء المدينة وريفها.

السلطان إبراهيم حضر أحد أشد الزلازل التي ضربت جبلة أواخر القرن الثاني عشر. آنذاك، لم يبقَ من جبلة سوى المرفأ القديم، وهو نفسه مرفأ أوغاريت التي فضّلت البحر على البر، وبحارة أوغاريت المنطلقين من جبلة سمّوا مدناً أخرى على اسم مدينتهم، واحدة منها في اليمن، والثانية في أذربيجان (محافظة قَبَلَه) وهي أقدم مدن تلك البلاد. بحارة جبلة اﻷشداء تركوا كذلك أسرةً جبلاويةً باسم “گَبَلاس” Γαβαλάς في اليونان، كان منها ملوك حكموا جزيرة رودس وجميع الجزر الإيجية نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، ولم تزل هذه اﻷسرة هناك حتى اليوم (من مؤنس البخاري أيضاً).

على بوابات جبلة غير المرئية

الوقت اختراع بشري، لعله كذبة. لا يمكن التأكد من أنّ هناك وقتاً لمجرد النظر إلى الساعة. على البشريّ أن ينظر في وجه البشري كي يرى “أثر الوقت”، لا الوقت.

ننهب الطريق القصير بين اللاذقية وجبلة (25 كلم) في أقلّ من ربع ساعة، ولا أثر واضحاً للزلزال على الطريق الدولي بين المدينتين، ولا حركة سير ولا ناس على طريق كان مزدحماً دائماً. شائعات كثيرة في الجو يلقيها السائق والتقني والمصوّر الذين يرافقونني في سيارة الـSNG، أي عربة البث الفضائي: “هناك مئات الضحايا بالقرب من مفرق ‘الجوبة’ على بعد كيلومترات عدة في قرية ‘أسطامو’ حيث سقط فيها ستة عشر بناءً على رؤوس أصحابها، وقتلت خمسين من الأحلام”.

نسرع لأجل ما لا أعرف، لا أبحث عن سبق “إعلامي”، لا أهتم بأي “تراند”. في الكوارث هناك تراندات. ستكون المحطة سعيدةً إذا ما قدّمت لها وجبةً وأصبحت ترانداً، ولكن ليس في رأسي أياً من هذا. ندخل جبلة من جهة الشمال، من مدخلها الأشهر “جسر حميميم”. الشمال جهة غير مؤكدة هنا، فهنا على بعد خطوات من الجسر تقبع القاعدة الروسية اﻷشهر في العالم: “خميميم” (اللفظ الروسي لاسم القرية التي تصدع عدد من بيوتها).

على بعد خطوات من الجسر عشرات السيارات الروسية وسيارات اﻷسعاف والناس المتجمعون في منطقة “العسيلية”، نسبة إلى بساتين التين “العسيلي” التي كانت هنا قبل سنوات قليلة. التين العسيلي من أطيب أنواع التين هنا. لكن لم يبقَ تين ولا عسل، التهمته البنايات بكامل شهيتها. البنايات نفسها التي أكلت التينات كلها أكلها الزلزال فوق رؤوس أناس وعائلات لم يذوقوا التين العسيلي هنا.

هذه البنايات نبتت زمن الحرب حيث المال والسلطة والعسكر يمشون معاً دائماً إلى حيث تقبع مقابرنا نحن اﻷحياء السوريين. أكثر من عشر بنايات قررت أن ترتاح فوق جثثنا. لا تُدرك البنايات أنّ الزلازل لا تفهم في الهندسة اﻹنشائية ولا في عدد قضبان الحديد التي يجب وضعها في اﻷعمدة كي لا تتغازل بعنف مع الزلازل.

عدد الضحايا مرتفع في هذه المنطقة. البنايات التي أخليت من سكّانها كثيرة. أقف فوق بناء محطّم كلياً انتهت أعمال اﻹنقاذ فيه، وأحمل المايك ويثبت التقني الكاميرا على وجهي. في ذروة البث تصرخ بي صبية ثلاثينية بهسيتريا تخترق كل كياني: “انزل من عندك، هون قبر بيي”. لا أنزل إلى حيث الزفت يغطي الطريق. أنزل إلى حيث ينام الرجل بجوار اﻷبدية؛ “نحن واﻷبدية سكّان هذا البلد”.

حيث اﻷطباء يربّون الغزالات

نمضي إلى المدينة وسط زحام شديد، يوقفنا شرطيّ متجهم الوجه. ممنوع أن تعبروا بهذا الاتجاه هناك أعمال إنقاذ في مبنى اﻷطباء على أمل أن يكون هناك ناجون.

قبل أن نصل إلى البناء المتهدم بطريقة غرائبية، نعبر قرب بناية باتت مشهورةً، بناية الريحاوي حيث خرج شاب وأمه من تحت اﻷنقاض بعد أكثر من أربعين ساعةً تحت أنقاضها. صديق آخر أعرفه خرج كذلك حياً من بناية التهمت “شقا عمره”. يهجس أمامي: “هل سمعت صوت اﻷرض؟ أنا سمعته بعيني وأذني وصوت أمّي الهاربة أمامي وأنا أدفعها كي لا تسقط على الطريق المهتز. نجونا… ولم ننجُ”.

لا يبتعد المصوّر عني كثيراً، نمشي ونترك السيارة الفضائية في مكان قريب. نقف قرب مبنى المالية، إلى جواره أنقاض بناء اﻷطباء، وفيما يتجمهر الناس متأملين خروج أحد ما على قيد الحياة، تستمر عمليات التنقيب عن الحياة في قلب جثة المبنى، لا أطباء ينفعون اﻵن والكلمة للحظ الحسن والأمنيات واﻵيات والتراتيل المتدفقة فوق كتلة استراحت زيادةً عن حدّها.

لا أحد يخرج حتى اﻵن، يمضي الوقت ساعات فساعات، ينتهي النهار وتشتعل أضواء المنقذين في ليل المدينة المعتم جداً. لا أحد يصرخ من هناك، لا أحد يدخل هناك ولا أحد يخرج. في ساعة متأخرة يحصل المسعفون على مشهد لرجل وامرأة متعانقَين. تكفي كلمة “متعانقَين” لندرك حجم الحب الذي قرضه الزلزال من هذه المدينة.

تتردد الكلمات في الأجواء بسرعة: “إنهما الدكتور فايز عطاف (الطبيب والجراح) والدكتورة هالة سعيد (أوّل طبية مختصة بمرضي الزهايمر والباركنسون في البلاد وقت تخرجها)”.

أنتم من تقرأون هذا الحديث لا تعرفونهما. ولو عرفتوهما، لبكيتم معنا خسارتنا الفادحة حقاً. لم يكونا طبيبين حقيقيين عارفين بشؤون مهنتهما فقط، كانا مقصد كل فقراء المدينة إلى درجة أن الدرج المؤدي إلى عيادتهما لم يفرغ يوماً حتى في أيام العطلات. دائماً ما سهرا إلى أن ينتهيا من زوارهما من المرضى والمحبين.

في جنازتهما مشت المدينة كلها تردد عبارةً واحدةً: “الله معك يا حكيم”، سنعرف لاحقاً أنّ الدكتور محمد بكري، جارهم في العيادة قد قضى وحيداً تحت اﻷنقاض. سنعرف لاحقاً أنّ اثنين وثلاثين خسارةً ترقد تحت أنقاض ذلك المبنى. اثنان وثلاثون طبيباً وطبيبةً خسرتهم المدينة كما البلاد في جملة خسارات لم تتوقف منذ عقد فأكثر. يا إله الأشياء والسماوات والكواكب وكل الكل: لماذا يرحل هؤلاء ويبقى الحكام السفلة والسياسيون الكذبة وأبناء “اﻷحبّة”؟.

العبور إلى الفيض

أهرب من ظلّي، ومن حزني المكابر على خسارة ثلة من اﻷصدقاء فقدتها في جبلة، إلى بقعة أخرى طالها الزلزال. يتردد في فضاء المدينة صوت سيارات إسعاف وأصوات وصراخ. تصل فرق إنقاذ عربية إلى المكان القريب مني. لا يمتلك الدفاع المدني السوري تقنيات حديثةً تتيح تتبّع ما إذا كان هناك أحياء عالقون تحت اﻷنقاض. وحدها الصدفة قد تنقذ شخصاً في تلك العتمة القارصة، والحذر كذلك.

هنا سقط على الأقل سبع من الضحايا.

هنا وهناك نطل على شوارع تنهض من ركامها بهدوء وتمضي إلى “الفيض”.

تفيض وتفيض وتفيض لتغطي وطناً بحجم قهر… و”لماذا يغرد طائر القفص؟”.

رصيف 22

————————————–

==================

تحديث 17 شباط 2023

—————————-

أحمد والزلزال!/ أكرم البني

وسط الغبار والحجارة المتناثرة، ركض أحمد لاهثاً من حيث كان يعمل… دار كالممسوس حول ركام منزله المدمَّر كأنه لا يصدق ما حصل… راح يهرع نحو ما يراه من كوى صغيرة تخترق الأعمدة الإسمنتية المتهالكة، يحشر أذنيه فيها تباعاً لعله يسمع صوتاً أو استغاثة، يصغي مطولاً قبل أن يرفع رأسه إلى السماء راجياً، ثم يقحم وجهه في إحدى تلك الكوى صارخاً بنداء مكلوم على زوجته وطفلته: سميرة، خولة… ويعاود الإصغاء، لعل صوتاً يأتي.

كان قد سمى ابنته خولة على اسم والدته التي قضت منذ سنوات، وللمصادفة، تحت أنقاض بيتهم المدمر بمدينة المعضمية، قرب دمشق، غدا المنزل ركاماً، برمشة عين، بفعل أحد «البراميل السلطوية المتفجرة»… ربما كان يمكن إنقاذها لو تمكن أحد، على وجه السرعة، من الوصول إليها، لكن كان لا بد من الانتظار حتى حلول الليل والتحرك تحت جنح الظلام، لتجنب رصاص القناصين الذين كانوا يترصدون بالقتل كل مَن يقع تحت أعينهم… الرصاص الذي قتل أخاه خالد، وبقيت جثته في وسط الشارع تحت الشمس الحارقة، إلى أن حل الليل وتمكنوا من سحبها.

بين البراميل المتفجرة والزلزال، لا تزال الصور ذاتها تحفر عميقاً في قلبه وروحه… انسحاق البيوت الصغيرة، والانهيارات المرعبة لأبنية مرتفعة كانت منذ لحظات موضع تهيب… الطرق المتشققة كرغيف خبز مرّ تحت مبضع سكين… رعب الناس الراكضين على غير هدى وفي كل اتجاه… مشاهد رفع الركام وانتشال الجثث… الفرح والتهليل والتكبير عند العثور على أحد الناجين بين الأنقاض.

لم يكن يرغب في ترك مدينته، لكنه أُجبر على الانتقال إلى الشمال السوري بعدما شُملت المدينة بما سُمي «المصالحة»… خيروا أهلها المحاصرين بين البقاء تحت «رحمتهم» والرحيل… لم يكن الحصار فقط هو الذي أنهكهم، بل ربما رؤية رفاقهم الجرحى وهم يتلوون ألماً ويحتضرون، والأطفال وهم يتضورون جوعاً، والفتيات وهن يجمعن ما تعطيه الأرض من الحشائش لتحولها أمهاتهن إلى ما يشبه الغذاء، والأهم تراجع فرص الصمود، مع تمكن عنف النظام وحلفائه من فرض «تسويات ومصالحات» على أحياء ومناطق كانوا يستمدون منها العزم، وأحياناً ما تيسر من الدعم.

كيف تبقى، هل جننت؟ سأله صديقه بغضب، عندما استشعر رغبته في البقاء، بذريعة أنه لم يحمل سلاحاً ولم يقاتل… وأضاف الصديق حانقاً: «أسماؤنا مدرجة عندهم كإرهابيين… إنك تغامر بحياتك وحياة زوجتك… هل الذين قُتلوا أو اعتُقلوا وعُذبوا وغُيبوا كانوا يحملون السلاح أو يقاتلون؟ هل ميز (الكيماوي) بين حامل السلاح والأعزل؟ هل حمل ناشطو الإغاثة أو الأطباء والمسعفون السلاح؟ وماذا عن قصف أطفال المدارس، وعن أولئك العزَّل الذي قُتلوا أمام أفران الخبز وفي الأسواق وهم يحاولون شراء قوت يومهم؟». صمت وأطرق رأسه؛ فكل ما ذكره صديقه يعرفه جيداً، ولم يغب عن ذهنه لحظة، لكن ربما ما أقنعه أكثر بالرحيل، زوجته الحامل، و«رعبه» مما قد يحل بها وبوليدها إن انفجر الحقد السلطوي عليهما.

بين التوتر واللهفة كان يحض المنقذين الذين لبوا النداء على الإسراع في إخراج العالقين تحت أنقاض منزله: «هم نحو 20 شخصاً، 4 عائلات في طابقين»… كان يشرح لهم: «أكثر من 10 أطفال، ابنتي منهم». أضاف بلهفة… وبين اللهفة والخوف، كان يبتهل ألا تزيد الهزات الارتدادية الوضع سوءاً، كان يركض صوب أحد المنقذين، يمسك يده برفق، ويلتمس منه الحفر بهدوء، خوفاً من أن يكتسح الغبار فسح الهواء التي كان يعتقد أن مَن هم تحت الركام يتنفسون منها… وبين الخوف والأمل كان يترك ركام بيته، وينضم إلى المهللين لاستقبال أي ناجٍ… أمل انتعش مع إنقاذ طفل من تحت أنقاض البناء المجاور بعد 5 أيام من الزلزال، لكنه بات وحيداً، وفقد أهله وكل إخوته.

لم يسعفه البكاء حين استشعر من حديث المنقذين أن لا صوت يُسمع تحت أنقاض المبنى الذي يسكنه، وأن المساعدات الخارجية وما يحتاجون إليه من أدوات متطورة لم يأتِ إلى الآن، مال برأسه نحوهم، وبعيون تائهة تفيض حزناً استجداهم الاستمرار بالبحث… ربما ينجو أحد أو تصل المساعدات، قال لهم مشجعاً… لكنه كان يدرك في سريرة نفسه ومِن تجاربه المريرة أن المساعدات، عادة، لا تأتي بالوقت المناسب… كيف لا، وهو الذي خبر مع رفاقه بطء عمل المنظمات الأممية وتلكؤها في مد يد العون للمنكوبين السوريين في غير مكان ومحلة، وكم حز في نفوسهم تفضيلها وسهولة تعاطيها مع مؤسسات النظام، بذريعة أنه صاحب «الشرعية»! كيف لا، وهم خبروا أيضاً سلبية المجتمع الدولي الذي لم يحرك ساكناً طيلة سنوات لوقف ما تعرض له السوريون من التدمير والقتل والاعتقال والتشريد؟! بل سمحوا لإيران وميليشياتها بزيادة الجرعة وبتسعير نار الحقد لتنهش لحمهم، وتأكل الأخضر واليابس من عمرانهم وثرواتهم!

غاب، في اليوم السادس، الأمل في نجاة مَن بقي تحت الأنقاض. شعر بمرارة عميقة وبألم يمزق أحشاءه حين أعلنت لجان البحث انتهاء مرحلة الإنقاذ وبدء إزالة الأنقاض وانتشال الجثث… اكتملت مشاعر اليأس والحزن لديه مع زمجرة الجرافات وهي ترفع الركام للوصول إلى جثامين الضحايا… بعد ساعات تعرف على جثتي زوجته وطفلته، لم يكن ثمة تشويه أصابهما، ربما ماتتا اختناقاً حين عجزت الوسائل المتواضعة عن الوصول إليهما وإنقاذهما.

بعد دفن موتاه، لم يعِ لماذا قادته قدماه إلى لجنة توثيق الأطفال اليتامى، التقط أنفاسه، وراح يسأل بحمية عن جاره الطفل ذي الأعوام الخمسة الذي نجا وفقد أهله جميعهم، شعر بأن أفقاً يُفتح أمامه حين وافقت اللجنة بصعوبة على منحه حق رعايته مؤقتاً، فربما لديه أقارب هم الأولى… وقَّع الأوراق الضرورية، ونقل الطفل مدثراً بالأغطية إلى الخيمة التي مُنِحت له. كان الصغير نائماً، وضعه في الفراش وأعاد ترتيب الأغطية لتدفئته، ركع قربه بخشوع، وشعر لأول مرة بحاجته لتفريغ حزنه وألمه، وربما لنوم عميق جافاه منذ وقوع الزلزال، وما إن أخرج الصغير النائم كفه النحيلة خارج الغطاء، حتى سارع لضمها بين خده ويديه المرتجفتين، وأجهش بالبكاء!

الشرق الأوسط

———————–

إيكونوميست: بشار الأسد لا يريد أن تفوته مصيبة جديدة حلت بشعبه

إبراهيم درويش

نشرت مجلة “ايكونوميست” مقالا قالت فيه إن التوقيت مهم جدا بعد وقوع الكارثة.

فبالنسبة لعمال الإنقاذ، فإن أول 72 ساعة حاسمة. وبعد هذه النقطة، تنخفض احتمالات إنقاذهم بشكل حاد، لأن الإصابات والعطش والظروف الجوية تتعاون كلها لقتل الناجين.

 أما المستبدون الذين يأملون أن تخفف الكارثة من عزلتهم الدولية، فإن التوقيت يظل مريحا لهم بعض الشيء.

وأضافت المجلة أن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا تضررت بشدة من كارثة الهزة الأرضية هذا الشهر.

وقالت الأمم المتحدة في 13 شباط / فبراير إن بشار الأسد وافق على تسهيل مرور المساعدات إلى المنطقة. وجاء قراره بعد أسبوع كامل من الزلزال، أي بعد فوات الأوان بالنسبة لأولئك المحاصرين تحت الأنقاض بسبب نقص الوقود والمعدات الثقيلة: لقد ماتوا بالفعل.

وتقول المجلة إن مساعدتهم لم تكن حقا الهدف. فالأسد بدأ بالخروج فعلا من عقد من الزمان من العزلة الدبلوماسية، حيث أصبحت الدول العربية تتقبل فكرة بقائه في السلطة. ويرى الآن أن لديه فرصة لجذب الغرب أيضا – ولا شك أنه يأمل أن تساعده لفتة تجاه مناطق المعارضة.

 وتضيف أن الزلازل قتلت حوالي 6000 شخص في سوريا، سواء في الشمال الغربي أو في المدن التي يسيطر عليها النظام مثل حلب واللاذقية. ومن المؤكد أن هذا الرقم سيرتفع، حيث تعتقد الأمم المتحدة أن ما يصل إلى 5 ملايين سوري قد تشردوا وستكون مساعدتهم مهمة ضخمة.

وبعد عقد من الحرب، تم تقطيع أوصال سوريا إلى مجموعة غريبة من الدويلات، الفقيرة، ومعزولة بدرجات متفاوتة عن بقية العالم. يسيطر المتمردون الإسلاميون على الشمال الغربي، وبعضهم ينتمي إلى فرع سابق للقاعدة في سوريا. وبحسب رواية الأسد، المنطقة هي خلية نحل من الإرهابيين. في الحقيقة، فإن معظم سكانها البالغ عددهم 4 ملايين هم من المدنيين الفقراء الذين نزحوا مرارا من أجزاء أخرى من سوريا.

كانت حكومة المعارضة حذرة بشأن قبول المساعدة من مناطق النظام. كما أعادت قافلة نظمتها السلطات في شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة إدارة يقودها الأكراد.

وترى المجلة أن الخوف بعد عقد من الحرب، ربما يكون مفهوما، وبخاصة أن النظام له سجل بالموافقة على مرور قوافل المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، فقط لإعادتها في اللحظة الأخيرة أو نهبها. وبدلا من ذلك، تريد المعارضة وصول المساعدات عبر تركيا، التي يتدفق من خلالها الغذاء والدواء والضروريات الأخرى لسنوات.

وتعلق المجلة أن الأسد لا يسيطر على هذا الجزء من الحدود، لكنه يتخذ مواقف بشأن السيادة ويرفض الموافقة على عمليات التسليم. وهكذا تصل المساعدات بموجب قرار مجلس الأمن الذي تم تمريره لأول مرة في عام 2014. وقد سعت روسيا، حليفة الأسد في المجلس، لسنوات لتقليص أو حتى إيقاف الشحنات.

ومنذ عام 2020، اقتصر استخدام الأمم المتحدة على معبر حدودي واحد هو باب الهوا. لكن الزلازل أضرت بالطرق السريعة في تركيا المؤدية إلى المعبر، مع ارتفاع الطلب على المساعدات. ومن هنا وافق الأسد الآن على تدفقها عبر معبرين حدوديين إضافيين.

وتقول المجلة إن دوافع النظام ليست خيرية. فهو يكافح من أجل التعامل مع الدمار في مناطقه، وقد حاول إلقاء اللوم على كبش فداء مناسب: الغرب.

وقالت بثينة شعبان المستشارة الرئاسية بعد الكارثة الزلزالية: “كل ما نريده من أوروبا والولايات المتحدة الآن هو رفع العقوبات. إذا رفعوا العقوبات، فسيكون المغتربون السوريون والشعب السوري قادرين على الاعتناء ببلدهم”. وخلافا لكلامها فعشرات الطائرات المحملة بالمساعدات هبطت في مطار دمشق منذ الكارثة. ويضم المانحون شركاء أمريكيين مقربين مثل مصر والأردن والإمارات. ولم تمنعهم العقوبات من إرسال المساعدة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام.

وترى المجلة أن العقوبات يمكن أن تعرقل المساعدات على الهامش. فقد وجد بعض الأجانب من ذوي النوايا الحسنة الذين حاولوا تنظيم جهود تمويل جماعي أن حملاتهم تم رفضها لأن إرسال الأموال إلى سوريا قد يكون مخاطرة قانونية. ولهذه الغاية، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية في 9 شباط/ فبراير تنازلا واسع النطاق يغطي “جميع المعاملات المتعلقة بالإغاثة من الزلزال”. وسيبقى في مكانه لمدة ستة أشهر ويتوقع الدبلوماسيون أن يتم تمديده.

 ومن هنا، يأمل الأسد أن يرى المزيد من هذا. منذ الزلازل تلقى مكالمات الدعم من معظم القادة العرب.

وقد أثار بعض المحللين الغربيين أسئلة أوسع حول العقوبات: حتى لو لم تعرقل الإغاثة في حالات الكوارث، فإنهم يعرقلون الدولة السورية، الأمر الذي سيكون له عواقب على المدنيين. ويستهدف قانون قيصر، وهو رزمة من العقوبات الأمريكية على سوريا وتحولت لقانون في 2019، بشكل صريح، قطاعي الطاقة والبناء، في بلد يعاني من انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع وأضرار جسيمة بالإسكان والبنية التحتية.

 وتعتقد المجلة أن من يريدون تخفيف معاناة السوريين يواجهون معضلة مروعة. فلن يضمن تخفيف العقوبات حصول السوريين على الكهرباء على مدار 24 ساعة ومنازل جديدة. ومع ذلك، فإن إبقاءها قائمة يضمن أن لا يفعلوا. الحكومات الغربية مترددة في تحويل الأموال إلى الأسد لمساعدته في إعادة البناء. كما أن الغرب حريص على تجنب عرقلة عملية إعادة البناء هذه بالكامل.

وتختم المجلة بالقول إنه في أثناء البحث عن طرق لمساعدة الناس الذين يعيشون وسط الدمار في سوريا من جهة وتجنب إعادة تأهيل نظام ملطخ بالدماء من جهة أخرى، لا توجد هناك إجابات سهلة.

———————————-

خيانة الضمير/ بشير البكر

لم يكن أحد من السوريين ينتظر أن يتحرّك المجتمع الدولي لإيجاد حلٍّ سياسيٍّ، ينهي الوضع الاستثنائي الذي يعيشونه منذ عشر سنوات، ومات لديهم كل أمل، أو تعويل على مبادرة وازنة تضع حدّا لتهجير الملايين، وتسمح لهم بالعودة إلى الحياة في بيوتهم، التي أجبرتهم حروب رئيس النظام بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين على تركها. ومنذ أن تراجع الرئيس الأميركي الأسبق، بارك أوباما، عن الخط الأحمر، بعد مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، التي ارتكبها الأسد في أغسطس/ آب 2013، بات السوريون يدركون أن الطرف الدولي الوحيد القادر على تغيير المعادلة، وهو الولايات المتحدة، قد سحب نفسه من الملف السوري، وتركه لروسيا التي لا ترى حلا بلا إعادة تأهيل الأسد، ليحكُم من جديد. وعلى هذا الأساس، ركبّت “عملية أستانة” واللجنة الدستورية لإضاعة الوقت، وتمكين النظام من بسط سيطرته على مناطق حيوية خسرها قبل 2014، من ريف دمشق وحلب وحمص ودرعا وحماه وإدلب. وفي غضون ذلك، لم تظهر موسكو عجالة، بل استمرّت تعمل ببطء من أجل تمكين الأسد، بمشاركة ودعم من طهران. وبدأت في الفترة الأخيرة تحقق بعض التقدّم على المستويين العربي والدولي، رغم كل ما تعانيه من عقوبات وعزلة ومقاطعة دولية بسبب حربها على أوكرانيا. واللافت هنا أن الدول الغربية، التي كانت أمامها فرصة متاحة للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سورية، لم تغتنمها للتأثير في الوضع السوري، بعد أن بدأ موقف روسيا بالضعف، بسبب خسائرها الكبيرة في أوكرانيا، واضطرارها لسحب أغلبية قواتها إلى هناك، ولم تبق في سورية سوى وحدات رمزية لحماية القواعد الروسية.

لا تريد واشنطن وحلفاؤها من الغربيين أن تُزعج بوتين في سورية، لأنها لم تعد معنيةً بالمسألة السورية نهائيا، منذ أن تنازلت عنها لروسيا ضمن صفقة الكيماوي، وكان يجب أن تحصل كارثة الزلزال في السادس من فبراير/ شباط الحالي، حتى تظهر المواقف الأميركية والغربية على حقيقتها، حيث إن رد فعل واشنطن لم يكن حتى في الحد الأدنى، ولم ترسل حتى فريق إنقاذ ومساعدات إغاثة إلى منطقة شمال غرب سورية، وقد كان في وسعها أن تقوم بذلك، فلديها كل الإمكانات من أجل التصرّف بسرعة، وحاولت بعد أسبوع أن ترمي المسؤولية على الأمم المتحدة، وكأنها لم تتجاوز المنظمة الدولية قبل ذلك، وتدوس قراراتها في العراق وفلسطين وليبيا وسورية. ومع أن مسؤولين أميركيين أبدوا خشيةً من أن تأخذ المساعدات صبغة سياسية، جمّدت واشنطن عقوبات “قانون قيصر” على نظام الأسد ثلاثة أشهر، وتركت منظمات الأمم المتحدة توجّه مساعداتها له.

كان قطاع واسع من السوريين يعتقد أن المسألة السورية لم تعد سياسية، وتحوّلت إلى قضية إنسانية. وعلى هذا الأساس، ستتحمّل المجموعة الدولية مسؤولية مساعدة المهجّرين حتى يحصل الحل السياسي. ولكن الزلزال برهن لهم أن المجتمع الدولي عاجزٌ عن تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الخاصة بالكوارث، وتركهم يواجهون أهوال الزلزال عدة أيام، ولم تُحرجه صور الضحايا وهم ينتظرون من يُخرجهم من تحت الأنقاض، ولا عشرات الآلاف من المشرّدين الذين باتوا بلا مأوى، ولا يشكّل الموقف الأميركي انسحابا من واجبٍ أخلاقي فقط، بل خيانة لكل ما هو إنساني، وإهانة للضحايا، ولن يلحق عار هذا التهاون بأميركا وحدها، وقادتها وسياسييها، بل بالقيم الإنسانية على مستوى الكون، وستكون له عواقب كبيرة ليس على مستوى سورية فقط، بل على كل الشعوب المنكوبة في العالم، والتي تعاني من سياسات الكيل بمكيالين والتمييز والاحتلال. ومن الآن، لن يبقى هناك أي اعتبار للتضامن الإنساني. وما ينتظر السوريين أكثر قسوةً مما مرّ عليهم.

العربي الجديد

————————–

تسييس المساعدات الإنسانية على المستوى الدولي: الشعب السوري يدفع الثمن/ عبد الحميد صيام

نحن نعيش في عالم يسيّس كل شيء، من الرياضة إلى السياحة، ومن الأوبئة والأمراض إلى توزيع الأمصال والأدوية، ومن استقبال اللاجئين إلى منح التأشيرات. كل شيء يخضع لاعتبارات المصالح والعلاقات والمواقف السياسية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية التي أحيانا لا مفرّ من تقديمها وإلا فالعواقب تكون وخيمة. فمن يعتقد أن المساعدات تقدم بوازع إنساني فحسب فهو مخطئ لا محالة. وكانت كارثة الزلزال الأخير المدمر الذي وقع في المنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا، والطريقة التي قدمت فيها المساعدات الإنسانية لكل من البلدين تكشف عن تقصير وخذلان يقترب من المؤامرة على الشعب السوري نفسه. بريطانيا مثلا قدمت لأوكرانيا 2.7 مليار دولار، بينما قدمت لتركيا ستة ملايين. السخاء نراه في أوكرانيا لا في أفغانستان ولا سوريا ولا الصومال ولا وكالة الأونروا.

وسنحاول أن نرصد بعض العوائق الموضوعية من جهة لتأخر وصول المساعدات للمنطقة المنكوبة في شمال سوريا، وتلك التي من صنع الإنسان وتكشف عن زيف كبير في مسلكية المجتمع الدولي إزاء تلك الكارثة الإنسانية التي تعتبر أكبر كارثة إنسانية من صنع الطبيعة منذ قرن.

الأسباب الموضوعية

هناك مجموعة عوامل خارجة عن سيطرة الإنسان تضافرت لتفاقم المأساة الإنسانية الناتجة عن الزلزال، خاصة على الجانب السوري.

– قوة الزلزال الأول 7.8 درجة والثاني الذي لحق به مباشرة 7.6 حيث استغرق الزلزالان مدة دقيقتين كاملتين، وهو أمر غير مألوف في الزلازل جعل قوتهما تعادل مئات القنابل الذرية من النوع الذي ضرب على هيروشيما. أضف إلى هذا أن الزلزال ضرب عموديا وأفقيا في الوقت نفسه، على مساحة واسعة ما جعل منطقة الدمار واسعة جدا.

– لسوء الحظ أيضا أن الزلزال ضرب الساعة الثالثة صباحا والناس نيام، فحتى لو كانت هناك مؤشرات لاقتراب الزلزال بذبذبات أرضية لم تكن هناك فرصة للهرب حيث أخذوا على بغتة لم تعطِ أحداً فرصة للهرب.

– منطقة الشمال السوري أصلا تعاني من الدمار بعد 12 سنة من الحرب الداخلية. فلا مناطق المعارضة محصنة ولا أحد يعيرها اهتماما أصلا ولا المدن التي استعادها النظام رممت. فكثير من مباني حلب مثلا متصدعة أصلا ولا أحد يميز بين دمار سببه الزلزال، وآثار الحرب، حيث اختلطت الأمور لكثرة ما تعرض سكان الشمال السوري من دمار وخراب قبل الزلزال، فكيف لهذه المباني المتهاوية أصلا تحمل مثل هذه الهزة الأرضية التي «دكت الأرض دكا».

– تتعرض سوريا كلها لحالة حصار من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بعد إقرار قانون قيصر في يونيو 2020. تبعات هذا الحصار طالت الشعب السوري بأكمله، إلا النظام والمقربين منه. فابن سوريا في الولايات المتحدة، أو كندا/ أو ألمانيا لم يعد يستطيع أن يحول فلسا لأهله في أي مكان في سوريا. العقوبات الغربية ضاعفت من مأساة الناس العاديين حيث انزلق سعر الدولار إلى نحو 7000 ليرة سورية، فمن الذي يدفع الثمن؟

– أغلقت المنافذ جميعها على الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة، إلا من معبر باب الهوى. وقد حاول مرارا أعضاء مجلس الأمن أن يوسعوا عدد المعابر إلا أنهم جوبهوا بالفيتو الروسي، باعتبار أن ذلك ينتهك السيادة السورية، وأن النظام في دمشق قادر على استلام المساعدات وتوزيعها على المحتاجين كافة، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وهو ما لم يقنع أحدا خارج إطار النظام وأعوانه.

– سوريا الدولة العميقة أصلا غير مستعدة لمواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية، حتى من قبل النزاع داخل البلاد والحصار، مثلها في ذلك مثل كثير من دول العالم النامي التي لا تحتفظ بمعدات ثقيلة للطوارئ، ولا بمخازن غذائية وأجهزة بحث وتنقيب وكلاب مدربة لاستخدامها عند الحاجة، فما بالك عندما تكون البلاد في حالة وهن عميق بسبب الحروب والحصار والتدخلات الخارجية.

هذه الأسباب الموضوعية لتعميق جراح الشعب السوري، خاصة في الشمال قبل الزلزال فكيف مع وقوع الزلزال؟

المنظمات الإنسانية ودورها

هناك العديد من المنظمات الدولية التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة في الميادين الإنسانية، ومن المفروض ألا تتدخل في السياسة، مهماتها محصورة في مجال اختصاصها. جميع هذه المنظمات تعتمد على التبرعات، وقد تكون هناك «ميزانية برنامجية» صغيرة جدا. من بين هذه المنظمات منظمة رعاية الطفولة (يونسيف) ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الأغذية والزراعة والمفوضية العليا للاجئين وغيرها. وقد أنشأت الأمم المتحدة مكتبا في مقرها الدائم، يرأسه وكيل أمين عام يدعى مكتب منسق الشؤون الإنسانية وإغاثة الطوارئ، للتنسيق بين المنظمات المتعددة لتجنب التكرار. ولدى مكتب المنسق «صندوق لمساعدات الطوارئ»، بميزانية صغيرة ربما لا تتجاوز الـ300 مليون دولار، لتقديم مساعدات فورية للتعامل مع نتائج كارثة طبيعية أو حركة لجوء أو تشرد نتيجة الحروب. يقوم المكتب بتخصيص مبلغ متواضع إلى أن يتم عقد مؤتمر خاص للدول المانحة لجمع المبلغ المطلوب، الذي قد يصل إلى مليارات عدة كما هو الحال في أفغانستان وسوريا (قبل الزلزال) واليمن والصومال والكونغو وهايتي ومالي وفلسطين ولبنان والسودان وجنوب السودان. ففي حالة سوريا ما بعد الزلزال أعلن مارتن غريفيثس، منسق الشؤون الإنسانية، عن تخصيص مبلغ 50 مليون دولار من هذا الصندوق لإغاثة الطوارئ في سوريا، وخصص برنامج الأغذية العالمي مبلغ 24 مليون للغرض نفسه في ما يتعلق بالغذاء، هكذا تعمل الأمم المتحدة في المجال الإنساني.

أين التقصير في حق الشعب السوري؟

نستطيع أن نقول إن تحرك المجتمع الدولي بدأ فقط يوم الاثنين 13 فبراير أي بعد أسبوع من الكارثة. أسبوع كامل لم يجتمع مجلس الأمن للمشاورات. اجتمع فقط بعد أن التقى منسق الشؤون الإنسانية مارتن غريفيثس، بعد أسبوع من الكارثة بالرئيس السوري بشار الأسد، وضمن موافقته على فتح معبرين إضافيين هما باب السلام وباب الراعي، وكلاهما يقعان تحت سيطرة المعارضة. كان الأمريكيون والبريطانيون يجسون نبض المجلس لاستصدار قرار جديد يشرعن فتح المعبرين، لكنهما وجدا موقفا صلبا من روسيا برفض مثل هذا التوجه، ولذلك تم التوافق وبدأت الشاحنات تعبر من أكثر من معبر بداية من يوم الثلاثاء أي بعد تسعة أيام.

تسعة ايام ثقيلة والمساعدات تتدفق على الجانب التركي، والقلة القليلة وصلت للشمال السوري. لقد تأخرت المساعدات الإنسانية كثيرا لتبدأ بعد أسبوع في الوصول إلى المناطق المدمرة في الشمال السوري. الأوروبيون لم يتحركوا إلا ببطء شديد وكأن الأمر لا يعنيهم، والولايات المتحدة تثاقلت كثيرا قبل أن تخفف من موضوع العقوبات لتسهيل التحويلات للشعب السوري، كانت المناطق المتضررة بحاجة أولا إلى معدات ثقيلة وأجهزة تنقيب وتنصت وبحث في الركام وهو متوفر لدى الدول الغربية أساسا، وليس لدى الأمم المتحدة. ويبدو أن روسيا، عندما يتعلق الأمر بالإنقاذ والمعدات الثقيلة والبحث في الركام تنزلق إلى مستوى دولة من العالم النامي. ولم نسمع أو نشاهد إقامة جسر جوي بين موسكو وحلب لتقديم المساعدات الطارئة والمساهمة في البحث والتنقيب في الركام، كما فعلت الجزائر وتونس في يوم الزلزال نفسه، اللتان لم تنتظرا اجتماعا لمجلس الأمن، بل تحركتا فورا إلى المناطق المنكوبة بما لديهما من أجهزة ومعدات وطواقم مدربة على عمليات الإنقاذ.

لقد خذلت الأنظمة العربية الشعب السوري، حيث تأخرت كثيرا في إرسال المساعدات الفورية وطواقم الإنقاذ والمواد المنقذة للحياة، صحيح أن المبادرات الفردية من لبنان والأردن وفلسطين والعراق بدأت فورا، بعدما تبين للجميع حجم الكارثة إلا أن الجسور الجوية كانت تتجه أولا نحو جنوب تركيا ثم يحول بعضها إلى شمال سوريا كما فعلت السعودية وقطر والإمارات، ما استغرق أياما كان من الممكن اختصارها لو توجهت المساعدات مباشرة إلى المنكوبين. لقد خذل المجتمع الدولي الشعب السوري، وخذله الأوروبيون وخذلته الغالبية الساحقة من الحكومات العربية، التي في غالبيتها لم تفصل بين مقاطعتها للنظام ومد يد العون للشعب السوري العريق والمضياف، وهو في أمس الحاجة إلى تلك المساعدات في الأيام الأولى بعد الزلزال. وقد أشاد الأمين العام غوتيريش بالشعب السوري عندما أطلق صباح الثلاثاء نداء لجمع مبلغ 397 مليون دولار للمساعدات العاجلة، حيث وصفه «بالسخاء والإنسانية حيث استقبل العديد من اللاجئين من دول مجاورة ووفر لهم الحماية وشارك معهم موارده المحدودة». أليس من حق الشعب السوري علينا أن نسدد ديونه التي في رقابنا جميعا؟

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بزولاية نيوجرسي

القدس العربي

——————————

«خذلنا العالم!»: هل تقدّم الأخلاقية المفرطة أجوبة عن معاناة السوريين؟/ محمد سامي الكيال

بيّنت الاستجابة الثقافية للزلزال، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، تصدّر مقولتين أساسيتين في التعاطي مع المسألة السورية عموماً: الأولى ما يمكن تسميته بـ«مشكلة الشر»، أي مدى استبدادية وإجرام ولا أخلاقية النظام السوري، وعدم مبالاته بمعاناة ملايين البشر، الذين كانوا دوماً ضحاياه، قبل الزلزال وبعده؛ والثانية مأساة «خذلان العالم»، أو عدم حساسيته لآلام السوريين، وتقاعسه عن تقديم مساعدات جديّة وحاسمة، سواء لإغاثة الناس، أو حتى تخليصهم من النظام الاستبدادي الذي أوصلهم لهذه الحال.

وبعيداً عن ردود الفعل المباشرة والمتوقّعة أمام الكوارث الطبيعية، وما تثيره من أحاسيس حول عبثية أو هشاشة الوجود الإنساني، وغياب معنى يمكن إدراكه للكون والطبيعة، فإن استخدام ألفاظ مثل «الشر» و«الخذلان» و«الحساسية» و«الاستبداد» و«العالم» في معالجة حالة بتعقيد المسألة السورية لا يبدو مفيداً لفهم أو تفسير وقائعها المركّبة والمتشابكة، المتعلّقة بعمق البنى الاجتماعية والسياسية للبلد، وعلاقات القوة المحلية والإقليمية، وطبيعة النظام الدولي الحالي؛ كما أنه قد لا يكون صالحاً حتى للتأمّل الفلسفي والأخلاقي، الذي لا يمكن أن يتعامل مع تلك الألفاظ بوصفها مجرد مفردات تكتسب المعنى من ذاتها، بل مفاهيم إشكالية، لا بد من بحثها وتحليلها وإظهار تناقضاتها. لماذا يبدو التعاطي مع «مأساة السوريين»، وقضاياهم السياسية والحياتية المختلفة، أقرب لشعر رديء، لا يسائل حتى لغته، أو يعمل عليها؟

يمكن إلى حد ما تعميم الحالة عربياً، خاصة في دول «الربيع العربي»، التي اعتبرت ثوراتها أن المشكلة مع «الاستبداد»، أي مع نظام من الفاسدين والطغاة، يُنكر حقوقاً بديهية للمحكومين، وما على الثوّار إلا السعي لإزاحته كي تعود الحقوق، بشكل طبيعي ودون وسيط سياسي أو صراع اجتماعي ربما. أدى ذلك للتقاعس عن تقديم تحليلات جديّة عن الواقع، والقوى والمؤثرات الفاعلة فيه، ربما باستثناء «فضح» سوء الأنظمة، وتوثيق مظالمها وانتهاكاتها. هذا المفهوم للحقوق، المستند إلى طرح أخلاقي واثق بنفسه ومكتفٍ بذاته، قد يكون مساهماً بدوره في «المأساة»، بقدر حجمه وتأثيره السياسي في السنوات الماضية طبعاً. ربما يكون الأجدى، بدلاً من الاسترسال في هجاء وعي وخطاب كثير من المعنيين بقضايا الشأن العام العربية المعاصرة، التساؤل حول مصدر وطبيعة مفاهيمهم نفسها، سواءً «الأخلاق» و«الحقوق»، أو «العالم» الذي يخذلهم دائماً، ويلومونه دائماً: لماذا يبدو «الحق» واضحاً وبديهياً بالنسبة لهم لهذه الدرجة؟ أي «عالم» تخلّى عنهم تاركاً لهم كل تلك المرارة؟ لماذا تختفي السياسة والمجتمع والتاريخ من منظوراتهم؟

فجر الأخلاق

يمكن اعتبار منظور «الحق» المجرّد عن سياقات سياسية واجتماعية، سواء كانت عينية وتجريبية، أو قائمة على التجريد النظري، نمطاً من «الأخلاق المفرطة» Hypermoral ، وهو مفهوم يعود للفيلسوف والأنثروبولوجي الألماني أرنولد غيلين، خاصة في كتابه «الأخلاق والأخلاق المفرطة» الصادر عام 1969، والذي تتم استعادته حالياً بقوة في النقاشات السياسية الدائرة في الفضاء الأوروبي.

ما كان يعني غيلين أساساً هو بحث وإثبات تعددية المصادر الأنثروبولوجية للأخلاق، وهي، حسبه، الانعكاسات الغريزية، التي يمكن تفسيرها فيزيولوجياً، مثل التعاطف والاشمئزاز؛ المبادئ العابرة للثقافات، المُفسّرة بالطبيعية التواصلية للغات الإنسانية، وعلى رأسها مبدأ «المعاملة بالمثل»؛ السلوك الأخلاقي المتعيّن ثقافياً عبر التنشئة الاجتماعية في الأسر والجماعات الأهلية؛ وصولاً للمؤسسات الأكثر تعقيداً، مثل الكنائس والقضاء والتعليم، وبمرحلة أعلى الأمة والدولة، ودورها في إنتاج القيم الأخلاقية وتنظيم حياة البشر. لم يكن هناك في ما مضى مبدأ أخلاقي مستقل عن بقية الأنظمة الاجتماعية، إلا في أعمال الفلاسفة، وكانت الأخلاق تابعة ومُفسَّرة دوماً بأنظمة أخرى أكثر شمولاً، مثل الدين أو السياسة أو العرف الاجتماعي، إلا أنه منذ مطلع عصر التنوير باتت الأخلاق نظاماً مستقلاً، معتمداً على مبدأ عقلاني موحّد ومجرّد، يُنكر تعددية وتنوّع المصادر الأخلاقية، ويسعى إلى تحقيق نوع من الهندسة الاجتماعية لجعل كل الأنظمة الأخرى متوافقة معه، رغم أنه لا يمكن تنظيم كل المجالات، حسب المبدأ الأخلاقي وحده. تبتلع «الأخلاق المفرطة» كل مناحي الحياة، وتفتت الجماعات الإنسانية و«روح» المؤسسات والدولة، وتؤدي إلى «أخلقة» السياسة والدين والمجتمع، أي حرمانهم من استقلاليتهم وآليات اشتغالهم الخاصة لحساب الأخلاق. كما أن قمع «الفضيلة السياسية للروح المؤسساتية الجماعية»، حسب تعبير المفكر الألماني، يجعل موطن الأخلاق المفرطة في المصالح المخصخصة للذات الفردية.

وإذا كان غيلين يُنسب غالباً إلى تقليد «الثورة المحافظة» الألمانية، سيئة السمعة في السياق الأوروبي، ومنشغلاً بنقد التنوير والنزعة الإنسانية، فإن المهتمين بفكره حالياً ينتمون لمشارب مختلفة، واهتمامهم الأساسي هو تحليل تراجع كل ما هو سياسي واجتماعي لحساب الأخلاقوية الفردية، التي تسعى لتأييد طروحاتها من خلال الإثبات البلاغي لمدى أخلاقية خطابها، بدلاً من تقديم حجج وبراهين متماسكة، تعالج المشكلات الواقعية في مجالاتها المتعددة، التي لا يمكن اختزالها في الأخلاق «الصحيحة» بالتأكيد. هذا التغيير عرفته المجتمعات الغربية في عصر «ما بعد الأيديولوجيا»، عقب تفكك معظم أشكال الذاتية السياسية الجمعية، مثل الوطنية والحزبية والطبقية؛ وحلول الإدارة البيروقراطية/التكنوقراطية محل السياسة، ما أدى لبروز أفراد غير منخرطين بشكل واعٍ في أي منظومة، ولا التزام سياسي أو ديني أو مجتمعي لهم، اللهم إلا شعورهم الأخلاقي المتضخّم، وتعيينهم المبالغ فيه لحقوقهم الفردية ضمن مساحاتهم الخاصة. هكذا تصبح النزعة الأخلاقية والحقوقية المفرطة بديلاً عن الممارسة السياسية، والفعل والتواصل ضمن منظومات المجتمع المتعددة، وهو تحوّل استشفّه غيلين، حسب كثير من دارسيه، منذ اندلاع الثورات الطلابية والشبابية في أواخر الستينيات.

ولكن إذا كان هذا «الارتداد» للخطاب الأخلاقي والحقوقي المبالغ فيه ملازماً لتحولات بنيوية في مجتمعات توصف بـ«ما بعد صناعية»، بات من الصعب أن تشهد نضالاً سياسياً جمعياً، بل «ناشطية»Activism  فردية فقط، فكيف أمكن أن ينتقل إلى المجتمعات العربية وناشطيها، رغم أنها لم تعش ظروفاً مشابهة، وما زالت بناها الجمعية موجودة، ودولها القومية القمعية قائمة ومسيطرة، على رثاثتها؟ ربما يجب التفكير هنا في منظور الناشطية العربية لـ»العالم» دائم الخذلان.

تراوما «العالم»

يبدو «العالم» في خطاب كثير من الناشطين والمثقفين العرب أشبه بذات واعية بنفسها، تمتلك القيم والقدرة وشرعية التسمية وإطلاق الأحكام. ليس المقصود هنا بالطبع كل «العالم»، فلا أحد يعني بهذا اللفظ جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية مثلاً، بل «الغرب» بالتحديد، أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. يبدو ذاك «العالم» أقرب لأب أو أم، ربما «آخر كبير»، إذا استعرنا من مصطلحات عالم النفس الفرنسي جاك لاكان، أي النسق اللغوي/الرمزي الذي يعطي المعنى للأنا والآخر. أما المعنى الذي تستقيه الناشطية العربية لذاتها من ذلك «الكبير» فليس أكثر من تكرار صيغ أخلاقية وحقوقية مفرطة، اعتُبرت «طبيعية». قد يكون أحد العوامل المساهمة في تكوّن هذا «الوعي» تقدّم أيديولوجيا العولمة والمنظمات «غير الحكومية»، التي أنتجت جيلاً جديداً من الناشطين، أو استقطبت معارضين قدماء، ظنوا أن «رياح التغيير» انتصرت منذ الثمانينيات، فلا معنى للتحليل السياسي أو الخطاب الأيديولوجي، بل فقط الإدانة الأخلاقية والحقوقية. هكذا يكفي أن تُنعت الأنظمة الحاكمة بـ«الاستبداد»، دون أي محاولة جديّة لتحليل بنيتها السياسية أو قواعدها الاجتماعية أو شرطها الاقتصادي وموقعها في النظام الدولي. ويصبح «النشاط» الأساسي لمقاومة «الاستبداد» توثيق انتهاكاته ورفعها لـ«العالم»، الذي يجب أن يستجيب. وإذا كانت الأخلاقية المفرطة تعمل على مستوى الوعي الفردي، فربما لا يكون لها أي نفع على صعيد السعي للتغيير الاجتماعي والسياسي الجدّي. صُدمت الناشطية العربية بأن أخلاق «العالم» ليست مفرطة للدرجة التي كانت تتخيلها، ولا تشبه كثيراً أخلاقيات مثلها الأعلى من ناشطين غربيين أفراد.

هل الأنظمة شريرة؟

من الصعب تحديد أي معنى لنعت الأنظمة العربية بـ»الشر» إلا من منظور الأخلاق المفرطة لمعارضيها من الناشطين. خارج هذا المنظور قد تبدو المسائل أعقد بكثير، وستبرز أسئلة صعبة، منها مثلاً سبب دفاع فئات اجتماعية كثيرة عن «الاستبداد»، وعدم ثقتها بـ»التغيير»، بل قلة اكتراثها أصلاً بالمبادئ الأخلاقية والحقوقية لـ»العالم». تحليل البنى الاجتماعية والسياسية وعوامل الصراع الاجتماعي أجدى بالتأكيد من الشعور الدائم بالصدمة والخذلان، ولكنه لن يكون ممكناً إلا إذا تخلّت الناشطية العربية عن الفهم المبسّط للأخلاق والحقوق بوصفها بديهيات أو مبادئ متعالية. ربما الأفضل التخلّي عن الناشطية العربية نفسها.

توجد «حقوق» باتت كونية تدريجياً منذ مطلع الحداثة (وتعرّضت دائما للنقد وإعادة النظر) إلا أنها لم تتحقق يوماً إلا ضمن قنوات السياسة والصراع الاجتماعي والطبقي، وعبر أيديولوجيات متنوّعة ومتنازعة، وكثير من الوقائع العنيفة والدموية. اعتبار الأخلاق بديلاً عن كل هذا لن ينتج إلا ناشطين أيتاماً، يتذمّرون على موائد لئام «العالم».

كاتب سوري

القدس العربي

———————–

ليسوا سواء: تسييس المساعدات الإنسانية للسوريين/ نجيب الغضبان

منذ شيوع خبر الزلزال والكارثة الإنسانية التي أعقبته، كان الأمل أن تكون الاستجابة لهذه الكارثة الطبيعية إنسانية بحتة، لا تميّز بين الضحايا بسبب دينهم أو عرقهم أو لغتهم أو جنسيتهم أو مكان وجودهم، لكن طبائع البشر أبت إلا أن تغلب، فقد أظهرت هذه الكارثة أفضل ما لدى البشر، من خلال العمل التطوّعي المبهر، وأسوأ ما فيهم، بمحاولة استغلال المأساة من الطغاة المتحكّمين وتجّار الكوارث. حجم الكارثة على الشعبين التركي والسوري أكبر من طاقاتهما، الأمر الذي استدعى تدفق المساعدات الخارجية، من الدول والمنظمات الإنسانية والدولية. ومنذ الساعة الأولى للكارثة، تبدّى الفارق في الاستجابة للزلزال في الحالتين التركية والسورية. ففي الأولى، تمّت تعبئة كل إمكانات الدولة على المستويين، الرسمي والشعبي، بينما كشفت الحالة السورية عن عمق المأساة للمتضرّرين، سواء كانوا داخل مناطق سيطرة النظام أم خارج سيطرته في الشمال الغربي.

وبالتركيز على الحالة السورية، بدا التعاطف الشامل للسوريين والسوريات مع الضحايا، وتجلّى باستجابات متفاوتة، حسب إمكاناتهم والقيود المفروضة في أماكن وجودهم. ومع أنّ الأغلبية العظمى من السوريين كانوا يأملون عدم تسييس المساعدات الإنسانية، إلا أنّ التسييس وقع منذ اللحظات الأولى، وفاحت رائحته مع تزايد أعداد الذين قضوا تحت الأنقاض والناجين والمشرّدين بفعل التباطؤ في التعاطي مع الكارثة. ولعل الصورة الفاقعة للتسييس، بدأت بمحاولة النظام السوري استجداء العطف، والقيام بحملة علاقات عامة لما سمّيت ضرورة “رفع العقوبات والحصار” المفروضين على البلاد، لأنه يعيق محاولات الإغاثة. أما الصورة الثانية للتسييس، فتجلّت في عدم وصول أي نوع من المساعدات للشمال الغربي في الأيام الأربعة الأولى، وهي الأيام الحاسمة في إنقاذ الناجين من الزلازل. وهنا، كان التسييس بفعل مجتمع دولي ومنظمة دولية (الأمم المتحدة) رهينا بسياسة روسيا البوتينية التي نجحت في فرض شرط عبور المساعدات الإنسانية إلى أكثر من أربعة ملايين سوري من خلال معبر واحد، وبتهديد دوري بتعطيل هذا المسار كلّ ستة أشهر. وقد وقع عدم وصول أي معونات تُذكر إلى الشمال الغربي، في ظرف كارثي للجار التركي الذي تمركز الزلزال في منطقة شاسعة من أراضيه الجنوبية، وفي أجواء انتخابية لا تسمح للحكومة بإظهار أنها تقدّم معاملة تفضيلية للسوريين على حساب مواطنيها.

كان نتيجة التسييس هذه أن نجح النظام في الحصول على مساعدات سريعة، من دول ومنظمات لم تقطع علاقاتها معه أو من جهاتٍ صدّقت ادّعاء النظام أنه مستعد لمساعدة الضحايا من دون تسييس. لكن التغطية الإعلامية المركزة، خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي، كشفت، ومن داخل دائرة المؤيدين له، أنه سرق أكثرية المواد الإغاثية من المعونات المقدّمة، بينما لم يصل إلى الضحايا إلا النذر اليسير. كانت نتيجة التسييس في الشمال الغربي من البلاد واضحة في حرمان العاملين في تلك المناطق، مثل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، والمنظمات الإنسانية والطبية والإغاثية المحلية العاملة على الأرض من الأدوات الضرورية لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، ومساعدة الناجين من الكارثة. وفي الحالتين، كان الشعب السوري المكلوم هو الضحية.

نجح النظام في إقناع بعضهم بأنّ المؤامرة الكونية، وخصوصا العقوبات والحصار المفروضين عليه، هما المسؤولان عن معاناة السوريين، خصوصا الذين يعيشون في مناطق سيطرته، بما في ذلك الاستجابة الهزيلة في التعاطي مع الكارثة. وبدأت تظهر بعض الأصوات المنادية بضرورة مؤازرة النظام في حملته لرفع العقوبات عنه، وأخرى تُحمّل الجهات الفاعلة (قوى الأمر الواقع) في الشمال الغربي، مسؤولية متوازية ومتساوية لمسؤولية النظام عمّا آلت إليه حال البلاد. ولسنا هنا في وارد الدفاع أو التبرير للقوى المتطرّفة أو بعض الفصائل العسكرية أو التشكيلات السياسية في الشمال الغربي، أيّاً من ممارساتها المجحفة بحق السوريين هناك. لكن تحميل هذه الجهات مسؤولية مماثلة للنظام هو إساءة إضافية للشعب السوري المنكوب، وتبرئة لنظام ارتكب كلّ موبقات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومع تصدّي بعضهم لهذا الموضوع، من الهام جداً، خصوصا من منطق التفكير المستقبلي لإخراج البلاد من مآسيها، وضع الأمر في سياقه الصحيح، والتذكير بالحقائق التالية:

أولاً، النظام هو من هجّر 90% من سكان الشمال الغربي، وكلّ السوريين الذين يقطنون الجنوب التركي الذين وقعت عليهم الكارثة الطبيعية.

ثانياً، المدن التي خرجت عن سيطرة النظام عوقبت بتدميرها بشكل كامل أو جزئي، وكأن زلازل متعاقبة حلّت عليها، بفعل القصف الوحشي، خصوصا بالبراميل المتفجّرة، التي لا يملكها إلا النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون.

ثالثاً، لقد استخدم النظام سلاح التجويع ضد كثيرين من المناطق التي حاصرها، لأنها خرجت عن سيطرته، ومنع عنها المساعدات الدولية والإغاثية كسلاح حرب لإجبارهم على مغادرة ديارهم، وهذا ما يعتبر جريمة ضد الإنسانية.

رابعاً، لقد أثبتت التحقيقات الأممية استخدام السلاح الكيميائي من النظام ضد المهجّرين الذين فرّوا بحياتهم، أو تمّ تهجيرهم إلى الشمال الغربي. آخر هذه الإدانات كانت قبل الكارثة بأسبوع.

خامساً، يتحمّل الاحتلال الروسي، والإيراني أيضاً، مسؤولية مباشرة في تدمير منشآت البنى التحتية، من مدارس ومستشفيات وأفران في مناطق كثيرة خرجت عن سيطرة النظام، خصوصا في حلب والشمال الغربي. لقد ذكر بعض العارفين بأحوال مدينة حلب، على سبيل المثال، أنّ مباني كثيرة سقطت في الزلزال الأخير الذي أصاب المدينة، كان قد مرّ عليها أكثر من 200 نوع من القنابل والأسلحة الروسية، كما افتخر بذلك بوتين ووزير دفاعه.

سادساً، إنّ تمرير قرارات مجلس الأمن لتزويد السوريين بمساعدات إنسانية، من دون موافقة النظام، جاء نتيجة ممارساته في نهب المساعدات الدولية وتوزيعها على مؤيديه، وبيعها في الأسواق، وحرمان المحتاجين لها. لكن روسيا أصرّت على تقييد مرور تلك المساعدات من خلال معبر واحد، وهي بالكاد تكفي الاحتياجات الأساسية للنازحين في أنحاء سورية، خصوصا القاطنين في الشمال الغربي. وكانت هذه الحسابات السياسية الحساسة أحد الأعذار في التأخّر بتمرير المساعدات الإغاثية الملحة في الأيام الأولى للكارثة.

سابعاً، رغم العقوبات التي فرضت على أفراد من النظام (أولئك الذين لهم علاقة بآلة الحرب والقمع ضد الشعب السوري)، من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، استثنت هذه العقوبات بشكل صريح الغذاء والدواء والاحتياجات الإنسانية، ولم تمنع أي جهة من تزويد مناطق النظام بما تحتاجه، كما أنها لم تكن عائقاً من إرسال معونة مباشرة بعيد الكارثة الأخيرة.

ثامناً، تحوّل النظام في أيامه الأخيرة، إضافة إلى استمراره في السلب والنهب والتعفيش المنهجي للسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرته، ومن قبل ذويهم في الخارج، إلى الاستثمار في تصنيع وتوريد “الكبتاغون”، وذلك كأولوية استراتيجية للحصول على موارد إضافية للصرف على أجهزته القمعية وابتزاز دول الجوار.

وأخيراً، توقّع أن يترفّع النظام الذي قتل ما يقرب من المليون إنسان، وشرّد نصف الشعب السوري، واعتقل ما يزيد عن 150 ألف سوري، عذّب وقتل تحت التعذيب كثير منهم، واستخدم الأسلحة المحرّمة دولياً، وعاقب المعارضين بمنع المساعدات الإنسانية عنهم، لذا فإن توقع أن يقف هذا النظام موقفاً إنسانياً تجاه من يعتبرهم “إرهابيين” (كما سمّاهم وزير خارجيته) هو الوهم بعينه. كما أنّ تزويد النظام بوسائل الاستمرار والتمكين وإعادة التأهيل هو موافقة ومشاركة في سجل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (أي أنها ارتكبت بحق كل من يقيم وزناً للإنسانية).

خرج رأس النظام، بعد أربعة أيام من الكارثة، وهو يوّزع الابتسامات البلهاء خلال زيارة مشاف في المناطق المنكوبة، ليقدّم بذلك صورة صارخة عن طريقة تفكيره وتدبيره وإنسانيته. لقد ظهر وهو مسلّح بعدّة مكالمات تلقاها من مسؤولين عرب ودوليين، وبمزيد من المساعدات التي ذهب أكثر من 90% منها إلى مؤيديه المسؤولين عن الحالة المأساوية للسوريين، وبحلم بأنه قادر (كأبيه) على حكم سورية إلى الأبد.

يعلم السوريون أنّ الطرف الآخر المسؤول عن معاناتهم هو المجتمع الدولي، بشقّيه الداعم للنظام، والمتخاذل عن وضع حد لجرائم النظام، بمن فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية والإسلامية. هذا المجتمع الدولي يمكن له أن يكفّر عن بعض خطاياه بالاستماع إلى صوت أغلبية السوريين، بأنّ نقطة البداية في مساعدتهم تكمن في الإصرار على رحيل المسؤول الأول عن الدمار الذي لحق بالبلاد والعباد، وذلك أول الغوث.

العربي الجديد

——————————-

الزلزال والهم السوري/ عبد القادر لطرش

زلزال سورية وتركيا أو زلزال تركيا وسورية الذي وقع يوم الاثنين 6 فبراير/ شباط 2023، وضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سورية، مخلفاً أضرارًا بشرية ومادية جد جسيمة في كِلا البلدين، ضرب دولتين يجمعهما التاريخ والجغرافية بكل تحدّياتهما وفرصهما ومشكلاتهما. لتضاف بذلك لحظة الزلزال إلى بنية (وتركيبة) العلاقات الثنائية التي تجمع البلدين والشعبين.

وتجمع بين سورية وتركيا علاقات مزدوجة، تشمل التوترات السياسية والخلافات الحدودية، بالإضافة إلى مشكلة المياه من جهة، والتقارب المجتمعي المتواصل من خلال التعايش المستر بين الشعبين في المناطق الحدودية والتبادل التجاري والاستعمالات المشتركة للغتين العربية والتركية في المدن والقرى الحدودية، يضاف إلى ذلك توسّع المصاهرات بين الشعبين على مر العقود، من جهة أخرى. ولعل ما زاد من تطور العلاقات بين الشعبين فتح تركيا أبوابها للاجئين السوريين بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية، حيث تستقبل تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين في العالم اليوم، (3,6 ملايين). ويتميز هذا الوجود بتمركز اللاجئين السوريين في المحافظات والمدن القريبة من الحدود السورية، التي ضريها الزلزال أخيرا، حيث يعيش في غازي عنتاب 463 ألف لاجئ سوري، و434 الفاً في هاتاي، و430 ألفاً في شانلي أورفة و96 ألفاً في كهرمان مرعش … ليمثل السوريون أحد المكوّنات البشرية الأساسية في هذه المحافظات. لهذا، يتمايز زلزال سورية وتركيا أو زلزال تركيا وسورية عن بقية الكوارث، حيث إنه ضرب شعبين تجمعها الجغرافية والتاريخ والعلاقات الإنسانية.

ولم ينج اللاجئون السوريون، على غرار إخوانهم الأتراك المقيمين في المحافظات الجنوبية، من قوة الزلزال، ليضاف هؤلاء الشهداء إلى آلاف من السوريين لقوا حتفهم في الزلزال الذي ضرب الأراضي السورية في الوقت نفسه، لينتج عن هذا الزلزال الموت المزدوج للسوريين، سواء من الذين يقيمون في الداخل السوري أم في المحافظات التركية الحدودية في بلد اللجوء.

مخلفات الزلزال وبالإضافة إلى ارتفاع عدد الشهداء وركام الأبنية المحطّمة ومن هم من دون مأوى تخفي ماساة غير مرئية ثلاثية الأبعاد بالنسبة للسوريين، حيث يستحضر السوريون مجدّدا، خلال لحظة الزلزال، مشاهد سنوات الحرب الأهلية في بلدهم، واللجوء إلى تركيا، وصولا إلى وفاة آلاف منهم، وتشرّد بعض منهم مجدّدا في بلد اللجوء، ليعيد الزلزال إنتاج الملامح نفسها التي أنتجت اللجوء السوري إلى تركيا، لتتراكم بعد أكثر من عقد محن السوريين، من دون بروز أي انفراج أو حل سياسي ينهي معاناتهم.

وفي ظل هذا المشهد المروّع، تعد حملات التضامن المحلية والدولية ومختلف المبادرات التضامنية الوجه الإيجابي والمشرف للإنسانية في مد يد المساعدة للمتضرّرين من الزلزال، رغم كل التحديات اللوجستية والعراقيل هنا وهناك. ليتأكّد مجدّدا أن التضامن الدولي العفوي خلال الكوارث الطبيعية يبقى سلوكاً إنسانياً ثابتاً، بغض النظر عن طبيعة العلاقات بين الدول، وبعيدا عن أية انتماءات وطنية أو عرقية أو دينية، بل وحتى اجتماعية.

لكن هذا لا يعني أن حجم المساعدات وطبيعتها تتساوى بين سورية وتركيا، بل بالعكس، تلقت تركيا عروض مساعدات من 70 دولة و14 منظمة دولية. أما سورية، فإنها تلقت مساعدات دولية أقل من تركيا. ولا يعود هذ التباين إلى تقصير دولي، بل بالدرجة الأولى إلى صعوبة إيصال المساعدات إلى مناطق سورية عديدة متضررة من الزلزال، بحكم الانقسام، بعضها إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية وبعضها الآخر إلى مناطق تابعة لقوات المعارضة والأخرى مناطق تابعة إلى جماعات مسلحة، ناهيك عن عدم جاهزية المطارات السورية من جرّاء الحصار. يضاف إلى ذلك غياب فرق إنقاذ مؤهلة في الأراضي السورية. أما في ما يخص تركيا، ففيها فرق إنقاذ مؤهلة، ولديها خبرات محلية ودولية، حيث انضمت تركيا منذ سنة 2000 إلى إجراءات الأمن والطوارئ التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي. يضاف إلى ذلك تعدّد سبل إيصال المعونات ومختلف المعدّات إلى المناطق المتضرّرة من الكوارث الطبيعية، وخصوصا الزلزال.

ولعل من معجزات الكوارث الطبيعية أن لحظة الكوارث الطبيعية تنجح في تجميد الخلافات السياسية بين الدول، بل إنها تعطّل حتى العقوبات الدولية، كما هي الحال في سورية اليوم، حيث سمحت أميركا بوصول المساعدات إلى سورية مؤقتا كاستثناء لقانون قيصر. لتبرز بذلك لحظة الكوارث الطبيعية كلحظة فريدة ومؤقتة يجرى خلالها تجاوز الصراعات، لتحل محلّ الصراعات والعداوات لحظة يطغى عليها الجانب الإنساني، بل وحتى القيمي.

إعادة إعمار ما دمره الزلزال عملية تسارع إليها كل الدول المتضرّرة من الكوارث، وتعدّ من عمليات استرجاع سلطة الدولة وهيبتها على أرض الميدان، وذلك للحد من المنافسة التي تتعرّض لها مؤسسات الدولة من المبادرات المجتمعية أو من الجمعيات غير الحكومية أو من الخارج، لأن لحظة الزلزال أو بعده ترى فيهما الدولة كما لو جرت إطاحتها. يضاف إلى ذلك أن عملية الإعمار تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي تصدّع من جرّاء الزلزال. وليست لعملية إعمار ما دمره زلزال 6 فبراير في تركيا وسورية المضامين والدلالات نفسها، وذلك لتباين الوضع السياسي في الدولتين، وخصوصا التباين في مستوى بسط نفوذ الدولة ومؤسّساتها. يضاف إلى ذلك تباين في الإمكانات التقنية واللوجستية، ناهيك عن محدودية الإمكانات المالية، ودور العقوبات الدولية والحصار على مختلف الجوانب الحيوية التي تساهم في تفعيل عملية الإعمار وتنشيطها على مدار السنوات الخمس المقبلة.

تتطلّب عملية إعادة الإعمار توفير بيئة سياسية وإدارية واقتصادية، بل وحتى مؤسّساتية نشطة وفعالة ومبتكرة، لأن إعمار ما دمّره الزلزال يتطلب ابتكار خطط عمرانية جديدة وفقا لتقنيات جديدة، فإذا كانت بعض هذه الظروف يتوفّر في تركيا اليوم، والبعض الآخر يجب العمل على إيجاده، فإن تداعيات الحرب الأهلية على مدار 12 عاما على السياسة والاقتصاد والمؤسسات، بل وحتى على القدرات البشرية في سورية، ترهن عملية الإعمار في السنوات المقبلة.

العربي الجديد

———————————-

مأساة السوريين القادمين من تركيا تتعمق لعدم وجود معبر في “شرق الفرات”/ أمين العاصي

تقطّعت السبل بعدد كبير من السوريين الذين دخلوا إلى بلادهم من معبر “تل أبيض” الحدودي مستفيدين من الإجازة التي منحتها الحكومة التركية لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة (كيملك)، والحاصلين على الجنسية التركية، بعد وقوع الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي فجر السادس من الشهر الجاري.

وقال أحمد الإبراهيم، الذي دخل مع عائلته من مدينة أورفة التركية إلى بلدة تل أبيض قبل يومين، إنّ “السبل تقطّعت بنا بسبب عدم وجود معبر نظامي بين مناطق سيطرة الجيش الوطني (المعارض) وقوات سورية الديمقراطية (قسد)”.

وأضاف الإبراهيم، في حديث مع “العربي الجديد”: “هناك طرق للتهريب بين المنطقتين ولكنها باهظة التكاليف، المهربون يطلبون منا 150 دولاراً أميركياً مقابل كل عائلة تريد الذهاب من تل أبيض إلى محافظة الرقة، أو إلى محافظة الحسكة، وهذا مبلغ كبير لا تستطيع أغلب العائلات دفعه”.

ودخل آلاف السوريين الحاملين لبطاقة “الحماية المؤقتة” عبر معبر تل أبيض الحدودي، منذ أن أقرت الحكومة التركية منح السوريين إجازات طويلة للدخول إلى بلادهم، بعد أيام من الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي فجر السادس من فبراير/ شباط الجاري، وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من السوريين والأتراك.

وقال فايز القاطع، مدير معبر تل أبيض، لـ”العربي الجديد”: “دخل إلى سورية منذ إقرار الإجازة من قبل الجانب التركي وحتى يوم الخميس 1060 ممن يحملون الجنسية التركية و5070 من الحاملين لهوية الحماية المؤقتة”.

وأشار القاطع إلى أن القادمين من الأراضي التركية إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني في منطقة شرقي نهر الفرات “يعانون من عدم وجود معابر مع مناطق سيطرة قوات “قسد””. وأوضح أن إدارة معبر تل أبيض أقامت مراكز إقامة مؤقتة داخل حرم المعبر لاستقبال أي عائلة أو شخص لا يملك مكاناً للإقامة في المنطقة، فيما قوات “قسد” حتى اللحظة ترفض فتح الطرق أمام الراغبين بالذهاب إلى مناطق سيطرتها.

وفي السياق، ذكرت مصادر محلية لـ “العربي الجديد”، أن هناك محاولات “من قبل وجهاء لفتح معبر نظامي بين منطقتي الجيش الوطني و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، للسماح للقادمين من تركيا بالوصول إلى قراهم وبلداتهم”.

ويقطن في الجنوب التركي، وخاصة في مدينة أورفة، عدد كبير من اللاجئين السوريين القادمين من محافظات الرقة ودير الزور والحسكة.

ويسيطر الجيش الوطني المعارض على منطقتي تل أبيض في ريف الرقة الشمالي ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي في الشمال الشرقي من سورية، أو ما بات يُعرف بـ “شرقي الفرات”، منذ أواخر عام 2019، بينما تسيطر قوات “قسد” على جلّ الحسكة ومناطق واسعة من الرقة ودير الزور.

ولم يفتح الجانبان أي معبر نظامي بين المنطقتين، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام عمليات تهريب البشر مقابل مبالغ كبيرة. 

ويقول يقول المواطن سعدون. ع: “كنت أستعد للدخول إلى سورية بعد أن صدر القرار بمنح السوريين إجازة طويلة، ولكن عدم وجود معبر نظامي منعني عن ذلك”، مضيفاً، في حديث مع “العربي الجديد”: “أعيش في أورفة منذ نحو 8 سنوات وأريد الوصول إلى أهلي في مدينة الرقة، الزلزال أوقف عملي، وأعيش الآن ظروفاً صعبة، والدخول إلى سورية حيث أهلي يخفف المعاناة التي أعيشها مع عائلتي”.

وأشار إلى أن عدداً كبيراً من السوريين الذين ذهبوا إلى سورية “ربما لن يعودوا”، مضيفاً: “أوضاع السوريين تدهورت في الآونة الأخيرة، وجاء الزلزال فزاد من معاناتنا”.

وعاد سعدون إلى بيته الكائن في منطقة شعبية على أطراف أورفة، لكنه لا يستطيع أن يخفي خوفه، فـ”ما زلت خائفاً، عشنا تجربة مريرة، كان الأطفال أكبر المتضررين نفسيا منها”.

وبيّن المتحدث ذاته أن هناك جمعيات تركية وسورية تقدم مساعدات للسوريين المتضررين في أورفة، إلا أن عددا من العائلات التي تضررت بيوتها أو خائفة من الزلزال مازالت تقيم في الخيام المنتشرة في الأماكن العامة داخل المدينة.

من جانبه، يبدي المواطن أبو فواز أسفه لأن السوري “بات غريبا في بلاده”، مضيفا: “أنا ابن ريف الرقة الغربي ولا يمكنني الذهاب إلى قريتي التي لا تبعد سوى نصف ساعة بالسيارة عن تل أبيض. هذا واقع مؤسف”. 

العربي الجديد

———————–

تجديد الرحيل… حظ عاثر لآمال سوريين بعد زلزال تركيا/ جابر عمر

لجوء بعد لجوء، هذه حال كثير من السوريين في تركيا الذين يواجهون اليوم تحديات ما بعد الزلزال المدمر في 6 فبراير/ شباط الجاري، باعتبار أن الدمار الأكبر شمل ولايات تركية يتواجد السوريون بكثافة فيها، ما ضاعف آلامهم، وأعادهم فعلياً إلى نقطة الصفر.

الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وجعل جزءاً كبيراً من منازلها ومبانيها غير صالح للسكن، دفع عدداً من السوريين إلى البحث عن رحلة لجوء جديدة داخل تركيا وربما خارجها، خاصة أولئك في ولاية هاتاي التي تعد بين أكبر الولايات التي يتواجد فيها سوريون بنى بعضهم حياة جديدة فيها قبل سنوات، ونفذوا أعمالاً تجارية بالتزامن مع استقرار أبنائهم في مدارس وجامعات.

وتتطلب هذه الحياة الجديدة أيضاً تخطي الناجين من الزلزال الصدمات المتكررة، واستجماع ما يتيسّر من القوة للانطلاق في رحلة تجديد الاستقرار، لتكون رحلة من لجوء إلى لجوء.

وفي ولاية هاتاي تؤكد المشاهد التي تنقلها محطات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي أن منازلها باتت غير صالحة للسكن، ما يجعل مئات آلاف من سكانها، بينهم سوريون، مجبرين على المغادرة إلى أماكن أكثر أمناً، علماً أن الجرحى والمصابين نقلوا أيضاً إلى ولايات أخرى، في حين انهارت البنى التحتية وجميع مقومات الحياة في الولاية، فلا ماء ولا كهرباء ولا متاجر.

ويتحدث عدد من السوريين في هاتاي لـ”العربي الجديد” عن استعدادهم لتنفيذ رحلة لجوء جديدة إلى مناطق أخرى، بعدما باتت مناطق المدينة غير صالحة للسكن، علماً أنهم أقاموا سنوات طويلة فيها بسبب شعورهم بأنها قريبة من بلدهم، وقدرتهم على التحدث بأريحية مع أهلها الذين يجيدون اللغة العربية. وبالنسبة إلى بعضهم كانت هاتاي محطة ثانية أو ربما ثالثة لآخرين نزحوا من مناطقهم وقراهم وبلداتهم بسبب الحرب في سورية.

بالتأكيد بعيداً عن الجنوب

يخبر يحيى الشغري (58 عاماً) “العربي الجديد” أنه ينوي الرحيل إلى ولاية جديدة في تركيا بعدما مكث 7 سنوات في أنطاكيا، ويقول لـ”العربي الجديد”: “نجينا بأعجوبة من الزلزال. خلال لحظات كنت في الشارع حافياً وبلباس النوم. وبعدما تلقيت الصدمة عدت إلى المنزل وارتديت ما منحني الدفء تلك الليلة وحماني من المطر، وقد وضعت حذائي بلا جوارب، وجلبت بعض الأموال من المنزل، وبقيت مع زوجتي وابنتي في السيارة خلال اليومين التاليين، ثم تعبنا وشعرنا ببرد شديد فانتقلنا إلى بلدة يايلاداغي الجبلية الحدودية مع سورية حيث يعيش بعض معارفنا، علماً أن هذه البلدة استهدفها الزلزال بقوة لكنها لم تشهد دماراً كما في أنطاكيا، وقد استطعنا العثور على بعض الراحة فيها والنوم والتقاط الأنفاس، في وقت استعدنا فيه ذكريات آلام تلك الليلة التي عشنا تجربة قاسية فيها لا يمكن أن ننساها بسهولة وسرعة. وحالياً نحاول وضع خطة جديدة للرحيل”.

يتابع: “حين امتدت الحرب إلى منطقتنا في سورية، لجأنا إلى تركيا واستقرينا مع أقرباء لنا في أنطاكيا، وأطلقنا حياتنا من جديد، وكانت أمورنا وأعمالنا مستقرة، وشعرنا بسعادة في أنطاكيا التي تشبه سورية ويتكلم أهلها اللغة العربية ما سهل أمورنا، لكن بعدما باتت المدينة غير قابلة للسكن أصبح الرحيل أحد الخيارات المرّة، ونحن نفكر في الانتقال إلى إسطنبول، ونحاول إقناع باقي أقاربنا بالذهاب وبدء حياتنا وإعادة تأسيس أعمالنا من موقع جديد سيكون بالتأكيد بعيداً عن الجنوب”.

وكانت السلطات التركية سمحت بعد الزلازل بانتقال السوريين إلى ولايات أخرى من دون الحصول على إذن للسفر بخلاف ما يطلب من السوريين في الحالات العادية. واستثنى هذا القرار ولاية إسطنبول، لكن يمكن أن ينتقل حاملو الجنسية التركية إلى أي مكان من دون نيل إذن سفر.

وأمرت الحكومة الخطوط الجوية التركية التابعة لها بنقل الناس مجاناً من المناطق المنكوبة وإليها من أجل تسهيل وتسريع عملية الخروج من هذه المناطق من جهة، ومن جهة أخرى تأمين انتقال المتطوعين والفرق.

بدوره، يؤكد اللاجئ السوري عمر أبو الحسن (53 عاماً)، في حديثه لـ”العربي الجديد”، رغبته في الانتقال إلى منطقة أخرى وتنفيذ رحلة لجوء جديدة داخل تركيا، ويقول: “دهمنا الزلزال حين كنا نخلد للنوم فهربت مع زوجتي وأولادي إلى الشارع حين كان يهطل المطر في شكل غزير، ثم تنقلنا مثل التائهين في المدينة قبل أن ننتقل إلى مكان آمن ليلاً. وعندما التقطنا شيئاً من أنفاسنا بدأنا نفكر بما حصل كأنه خيال أو عالم أحلام”.

يضيف: “تحركنا بعد يومين وسط مجموعة من الأسئلة الصعبة بينها ما الحل وأين المفر؟ فالواقع فرض علينا وضع خطة للتعامل مع الواقع الجديد فما قبل الزلزال ليس كما بعده. توقف الزمن وبدأ زمن جديد يتطلب رحيلاً جديداً بعد 10 سنوات من اللجوء والإقامة في ولاية هاتاي، لكن إلى أين”.

ويشدد على أن “عملية اللجوء الجديدة لن تكون سهلة، خاصة بعدما أسسنا حياة جديدة واستقر أبنائي في المدرسة، لكن مدينة أنطاكيا لم تعد صالحة للسكن، ولا بديل إلا الرحيل، لذا نبحث عن الخيارات الأفضل لنا، واحتمال الانتقال إلى ولاية قريبة أم بعيدة. حان وقت تنفيذ لجوء جديد، ودقت ساعة الرحيل، وقد يكون اللجوء إلى دولة أخرى بين الخيارات المطروحة”.

وفي مؤتمر صحافي عقده الجمعة الماضي، أعلن نائب الرئيس التركي فؤاد أوكطاي أن الحكومة تحث المواطنين على الخروج من مناطق الزلازل بأسرع وقت من أجل استكمال عمليات الإنقاذ من جهة، ومن جهة أخرى لتهيئة الظروف الملائمة لتنفيذ مراحل لاحقة تشمل تخطيط مناطق المدن المنكوبة مجدداً وعمليات البناء”. ولفت إلى أن نحو 200 ألف شخص غادروا مناطق الزلازل حتى الآن.

أيضاً أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجمعة الماضي أن “الحكومة ستتكفل بدفع أجور سنة كاملة لأي منزل يرغب السكان المنكوبين في استئجاره بولايات أخرى حتى إنجاز إعادة إعمار مناطق الزلازل، كما ستدفع أجور وتكاليف الانتقال”. وتعهد باستكمال المساكن الجديدة خلال عام واحد، على أن تكون على شكل مبانٍ ذات هندسة عمرانية أفقية وليست عمودية، أي مبانٍ ذات طوابق قليلة تناسب طبيعة المنطقة الزلزالية، وقد أعطيت تعليمات للوزارات المعنية بالاستعداد لتنفيذ هذه المشاريع”.

وتدل تصريحات المسؤولين الأتراك بوضوح على أن الخطة المنشودة ستشمل إجلاء جميع المقيمين من المناطق المنكوبة تمهيداً لإطلاق عمليات إعادة الإعمار، ما يشكل اعترافاً ضمنياً بأن المدن المنكوبة باتت غير صالحة للسكن.

ويؤكد محمد العلي (33 عاماً) الذي يقيم في أنطاكيا منذ 9 سنوات ويعمل في التجارة، قبل أن ينهار منزله بسبب الزلزال وينتقل إلى الإقامة في سيارته لـ”العربي الجديد” أنه محتار من أمره، وما زال يتجوّل بسيارته ليقضي بعض الأعمال ويجلب احتياجات، وينام مع زوجته وأولاده داخلها في أماكن بين أنطاكيا وبلدة يايلاداغي. ويقول: “عشنا تجربة قاسية جداً جعلتنا نحمد حالنا كثيراً باعتبارنا بقينا أحياء، علماً أننا فقدنا عدداً من أقاربنا، وقد أجرينا مراسم دفن بعضهم في حين ما زلنا لا نعرف مصير آخرين. حالياً نريد الخروج من كابوس الزلزال في أسرع وقت، ونخطط يضيف: “ما يؤخر خروجي وجود أقارب لي تحت الأنقاض، وأنا أنتظر استكمال رفعها لتحديد مصيرهم، لكنني اتخذت قرار تنفيذ رحلة لجوء جديدة لأنه لا يمكن أن أعيش في هذه المدينة بمشاعر متناقضة، فبعدما مرّ عقد على العمل والإقامة فيها، أضرّت كارثة الزلزال بنا في شكل كبير، ما يجعلنا نرغب في تجاوزها وبدء حياة جديدة”.

ويبدو أن الحظ العاثر ما زال يلاحق عدداً كبيراً من السوريين، فبعدما هربوا من ويلات الحرب في بلدهم وأسسوا حياة جديدة ضربتهم كارثة زلزال اعتبر بين الأكبر في المنطقة والعالم، لذا من الواضح أن رحلة اللجوء إلى الجنوب التركي لم تكن الأخيرة بالنسبة إليهم، بل محطة على درب الاستقرار النهائي.

العربي الجديد

———————–

إلى أين يذهب السوريون من أقدارهم؟/ جهاد بزي

لم يكن قد بقي إلا الزلزال ليقول السوريون إنهم رأوا كل شيء. زلزال يبدأ في سوريا وتركيا، ويتمدد لتموج الأرض بهم حيث هم، في كل قارات لجوئهم.

كانوا، كلما أمطرت السماء عليهم صواريخ وبراميل، يصرخون إلا أحد لهم إلا الله. وانتهوا كذلك، لا أحد لهم إلا الله وأنفسهم. لم يتخلَّ الله عنهم، وليس يجرّبهم، فقد اكتفوا من التجربة. لكنه، في عليائه، صامت يفضل عدم التدخل في شؤون الكوكب السياسية والطبيعية. هي الأرض بذاتها هذه المرة، تساهم في المذبحة المروّعة لا لكي تعطيهم درساً، فقد اكتفوا أيضاً من الدروس. لا تتدخل لتعظهم. جميعنا، غرباً وشرقاً، ساهم، كلٌّ على طريقته، في وعظهم وقتلهم وإهمالهم والتمييز ضدهم وإنكارهم وطردهم وتجريدهم من أقل حقوقهم. جميعنا تطوع في إيذائهم. لكنها أمّنا الأرض، فهل يفيدهم أن يعتبوا عليها إذا تختارهم لتجتثهم بشراً وحاضراً ومستقبلاً من جديد؟ تتطوع ضدهم بعنف توراتي يجعلهم يقفون محنيين كعلامة استفهام هائلة تمتد من التراب إلى السماء: لماذا؟ ماذا بعد؟

كان ينقصهم فقط كارثة طبيعية في وطنهم وبلد لجوئهم، كي تصل إلى منتهاها، كل هذه القسوة في العيون التي رأت. إيلاف حكت عن الفوضى العارمة في عمليات الانقاذ وعن التفريق بين جثث “مهمة” وأخرى “عادية” تحت الركام. عن طبقية حتى في التعاطي مع تلال من فتات الباطون والحديد. قالت كثيراً في الفيديوهات التي راحت تبثها مباشرة، وهي تبحث عن شقيقها أبان وزوجته شهد. يجهد السوريون في تسمية أولادهم. أبان وإيلاف وشهد. إيلاف التي تجمّع الأسوَدُ تحت أظفارها طلبت من السوريين ألا يتأملوا كثيراً، فالمأساة أعظم من آمالهم. لا يقلل من حجمها المعجزات الصغيرة المتفرقة التي تصورها الكاميرات. إيلاف ستنعى لاحقاً شهد وأبان شقيقها الذي هو وحيدها وسندها وعائلتها.. في عيني إيلاف مرارة ستبقى عالقة هناك، في الهواء الباقي فوق الزلزال وفوق سوريا. في عينيها سؤال عن هذا الظلم العبثي لن يجرؤ على الإجابة عليه أحد، إلا بحمد لله الذي قدّر وما شاء فعل..

المأساة هائلة. هي نفسها على الأتراك كما على السوريين. لكن وطأها على السوريين أقسى. وطؤها أقسى على زيد الآتي من واشنطن بعد ساعات على الزلزال ليبحث عن أمه، وليساعد ما استطاع في النبش عن ناجين بأكثر ما يستطيع. نجت شقيقته صدفة. وزيد الذي قُتل أبوه وشقيقه قبل أعوام في قصف النظام على بيت العائلة في سوريا، وقبلهما قتلت داعش شقيقاً آخر له، سيكتب بعد أيام من الانتظار، أنه حاول أن يهيل التراب برقّة على جسد أمه في المقبرة الجماعية للغرباء، في الأرض الغريبة.

وطؤه أقسى الزلزال على عائلات ماتت بكامل ناسها، فلم يعد لديها من يتعرف عليها ليدفنها. وطؤه أقسى على الجرحى والمشردين الجدد في البلد الغريب، وبيتهم الثاني يسقط، ولا يعرفون كيف يداوون جروحهم ويبدأون من جديد. وطؤه أقسى على السوريين لأنهم الغرباء، ولأنهم المشردون في أطراف الأرض، ولأنهم تشتتوا. وطؤه أقسى على الغريب حين تنهار سماء غريبة على رأسه لتدفنه في أرض غريبة.

والشتات أكثر ما يشبه الأرض الرخوة، يغوص فيها ناسه بين بلاد إقامتهم، حيث لا اللغة لغتهم، ولا الأمكنة تحمل ذكرياتهم. الأرض رخوة حيث الأحلام تختلط فيها أرصفة المدن الجديدة بحارات وروائح ووجوه وجدران عتيقة. والأحلام قد تكون عزاء مؤقتاً لكنها لا تدمل الشروخ العميقة في القلوب. الأرض رخوة، حيث الذي يصنع حياة جديدة في البلد البعيد، لديه غريب آخر، يعيش في بلد آخر، ولديه غريب ثالث، ما زال في البلد الأم، مسقط الرأس، سجين أو مفقود، أو مجرد اسم على لائحة انتظار. لديه عائلة صغيرة من المستحيل لمّ شملها، ومن المستحيل قطع حبال السرّة معها. لديه عائلة لا يفهم الغرب البارد أنه قد لا يحتاج في ليالي صقيعه غيرها، ولو في أحلامه. وطؤه أقسى على من لا يجد مفراً مما هو فيه.

هكذا يأتي الزلزال على السوري، ليس كقدر فحسب، بل كقدر فوق قدر فوق قدر. كطبقات مبنى وقد انهار. إلى أين يفر السوري من قدره إذاً، وهو ما انفك يعاود المجيء بلؤم كل مرة أشد؟ أين ينتهي اغترابهم، ومتى؟ إلى أين يفر السوريون من أقدارهم وقد اجتمعت أقدارهم عليهم؟ أين يذهبون؟ كيف يطيبون خاطرهم المكسور؟

المدن

———————-

الأسد “ينسى” إدلب في خطابه… فهل ستوزّع المساعدات بعدالة على المنكوبين؟/ كارمن كريم

فيما خسر الآلاف كل شيء في الحرب ثم في زلزال 6 شباط، لا ينفك النظام يفتّش عن أساليب لنهب الشعب السوري وتكريس الانقسامات والاستنسابية والانقضاض على المساعدات، حتى في ذروة المأساة.

لم يذكر رئيس النظام السوري بشار الأسد مدينة إدلب في خطابه الأخير، الذي وجهه للسوريين حول تداعيات زلزال 6 شباط/ فبراير. قال الأسد متحدّثاً عن تكافل السوريين خلال الكارثة: “هذه الهبّةُ الهائلة لحماية وإنقاذ ومساعدة أخوتِهم المكلومين في حلب واللاذقية وحماة، لم يكن المشهد الوطني والإنساني غريباً عن أي منا”. وبذلك “نسي” الأسد أو تناسى أو لو تخطر في باله إدلب، المحسوبة على مناطق المعارضة، برغم أن حجم الخسائر البشرية والمادية هناك، كان يستحق أن ينظر النظام بعين الإنسانية والتعاطف، ولو لمرة واحدة.

ليس هذا وحسب، فقد تجاهل الأسد أن السوريين في مناطق المعارضة وفي مناطق النظام تكافلوا وحاولوا أن يتعاونوا لتأمين المساعدة والإغاثة وتحييد السياسة والاختلافات عن مشهد الكارثة. إلا أن بشار مرة أخرى عاد ليؤكد الاستنسابية والانقسام، حتى في أحلك ظرف وأصعب لحظة.

كان فصل الواقع السياسي عن الأزمة التي فرضها الزلزال في سوريا احتمالاً بعيداً من الحقيقة، في بلد يحكمها النظام الحالي ويعاني من الانقسام والتعقيد واستمرار الصراع. وعلى رغم إبداء نظام الأسد استعداده لتقديم المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرته، إلا أنه لا مفرّ من أسئلة مشروعة في كل أزمة وفي كل وقت وبخاصة بعد خطاب بشار الأخير، هل حقاً يريد النظام مساعدة السوريين؟ ومن يجب أن يتولى توزيع المساعدات؟ وهل تصل إلى محتاجيها بالفعل؟

يبدو أن النظام السوري يحاول التحكم بكلّ منافذ التبرعات واحتكار توزيعها، بخاصة في ظل تنامي المساعدات الآتية من المجتمع المدني.

أين الخلل في توزيع المساعدات؟

قد يقول قائل: ليس الوقت مناسباً للحديث السياسي، فالملحّ الآن هو تأمين المساعدات، بغض النظر عن الأطراف والنزاعات، لكن حين تمرّ المساعدات من خلال نظام الأسد، فالأمر لا يبدو بهذه البساطة.

كشفت دراسة سابقة أن الحكومة السورية تسحب ملايين الدولارات من المساعدات الخارجية، من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على استخدام سعر صرف أقل من سعر السوق السوداء، وهي استراتيجية مطابقة لما استخدمته مع الحوالات الخارجية التي أرسلها السوريون الى عائلاتهم في الداخل. حلل الباحثون مئات العقود العائدة الى الأمم المتحدة لشراء السلع والخدمات للأشخاص الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا، حيث يعيش أكثر من 90 في المئة من السكان في فقر مدقع. وبينت الدراسة انتهاج النظام طريقة مدروسة للالتفاف على العقوبات والحصول على القطع الأجنبي بأسعار قليلة، وبدل أن تذهب المساعدات بنسبة مئة في المئة الى السوريين، كان النظام يسرق نصفها حرفياً منذ  لحظة وصولها. وبحسب التقرير، فإن كان الهدف من العقوبات هو حرمان النظام من الموارد اللازمة لارتكاب أعمال عنف ضد المدنيين، وإن كان الهدف من المساعدات الإنسانية هو الوصول إلى المحتاجين، فللأسف تمكّن النظام من استغلال المساعدات في تمويل حربه وشخصيات تابعة له. ووفق الدراسة، فإن تم تضمين الرواتب وبرامج المساعدات النقدية وتدفقات التمويل الأخرى التي لم يتم الإعلان عنها، قد يحقق البنك المركزي مئات الملايين من الدولارات.

لماذا ما زال السوريون يعانون؟

بحسب الدراسة ذاتها، فإن محمد حمشو، رجل الأعمال المقرب من الفرقة الرابعة، التابعة لماهر الأسد شقيق رأس النظام السوري، فاز بعقود مشتريات أممية لجمع المعادن في المناطق التي استعادتها الحكومة، وإعادة إنتاجها لتعيد شركة خاصة بيعها.

وهكذا تواصل حكومة الأسد بطريقة أو بأخرى استخدام المساعدات كمكافأة لحلفائها ومعاقبة معارضيها، بالتالي تؤدي الجهود العالمية لدعم الشعب السوري إلى دعم النظام السوري سياسياً ومالياً.

الأرقام المقدمة تشير إلى خلل هائل في آلية توزيع المساعدات، إذ فاقت قيمة مساهمات الحكومات الغربية المانحة الـ38 مليار دولار منذ عام 2011، منها 25 مليون دولار من الاتحاد الأوروبي و13.5 مليار دولار من الولايات المتحدة، كما تعهدت كندا بتقديم 3.5 مليار دولار لسوريا والمنطقة بين عامي 2016 و2021. على رغم ذلك، فإن أزمة الجوع والمعاناة ما زالت في أوجّها في كل بقعة في سوريا.

هذه الأموال كان يمكن أن تحلّ جزءاً كبيراً من الأزمة لو أنها وصلت الى محتاجيها، وهو ما يحتّم علينا أن نطرح سؤال النزاهة والجدية في توزيع المساعدات بعد وقوع الزلزال، فالنظام ما زال واحداً، وفساده لم يتغيّر.

موافقات أمنية لوصول المساعدات

على أرض الواقع، يبدو أن النظام السوري يحاول التحكم بكلّ منافذ التبرعات واحتكار توزيعها، بخاصة في ظل تنامي المساعدات الآتية من المجتمع المدني، الذي حاول النظام التحكم فيه، وتقييد عمل الجمعيات غير الحكومية التي لا تبغي الربح.

“الأمانة السورية للتنمية” هي المنظمة غير الحكومية وغير الربحية شبه الوحيدة في سوريا، لكن يصدف أنها متصلة بشكل مباشر بأسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوري، وهي تحتضن كل الفعاليات والجمعيات المدنية الأخرى. إذاً وبشكل أتوماتيكي، أوجد النظام السوري طريقة للتحكم حتى في المجتمع المدني. وهو ما ينعكس على عمل أي جهة تطوعية مدنية اليوم، في حال لم تكن تحت مظلة “الأمانة السورية للتنمية”. تروي إحدى المتطوعات لـ”درج”، خلال توزيع التبرعات العينية التي قدمها الأهالي، أن هناك انتشاراً كثيفاً لرجال الأمن في المناطق المنكوبة، “وحين نقول رجال الأمن لا نقصد المنقذين أو من يشاركون في عمليات الإغاثة، إنما أولئك الذين يراقبون الناس ويحدّون حركتهم ويمنعون التصوير، إذ اعتقلت دورية الشاب معين علي في مدينة اللاذقية خلال توزيعه المساعدات، بسبب فيديو نشره يطالب فيه بإيصال المساعدات بيده، خوفاً من سرقتها، رافضاً إجباره على تقديم تقرير أمني وتسليم المساعدات إلى محافظة اللاذقية لتقوم هي بتسليمها. أُطلق سراح معين لاحقاً. كما اعتُقل محمد غزال، رئيس مشجعي نادي أهلي حلب (الاتحاد) لأسباب مشابهة”.

راما (اسم مستعار) تعمل مع فريق تطوعي لإيصال المساعدات من السلمية إلى حلب، إلا أنها فوجئت هي وفريقها بأن عليهم الاستحصال على موافقات أمنية، “لم يتوقف الأمر هنا”، تقول راما: “حين وصلنا لم يسمحوا لنا بتوزيع المساعدات، وطلبوا منا وضعها في مراكز معينة لتتسلم الجهات الرسمية توزيعها”. للأسف، بعد تواصل الفريق مع الناس الذين كان يُفترض أن تصلهم المساعدات، اكتشف عدم وصول أي مساعدات إليهم، وبعض هؤلاء كانوا ما زالوا ينامون في الحدائق.

على رغم حجم الكارثة الكبير ومناشدة السوريين التوقف عن الفساد وإيصال المساعدات إلى مستحقيها، غير أن ما يحدث على الأرض يعكس فساداً وفوضى، حتى إن بعض المساعدات معروض للبيع في الأسواق، وفق صور وفيديوات نشرها سوريون توثّق ذلك.

العقوبات الاقتصادية كذبة النظام المفضّلة

منذ إقرار  الاتحاد الأوروبي وقانون قيصر العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، دأب الأخير وإعلامه على نشر رواية الحصار، متعللاً بأن العقوبات هي سبب معاناة السوريين. وبالعودة إلى الوراء، يتبيّن أن النظام هو المتسبّب الأول في هذه العقوبات، إذ لم يُقَرّ قانون قيصر إلا بعد تسريب صور المتوفين من المعتقلين، ولم تُفرض العقوبات الاقتصادية إلا بعد سلسلة من الأحداث والمجازر التي أثبتت مسؤولية النظام فيها.

لم تترك بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية والسياسية لبشار الأسد، فرصة إلا وأخبرت فيها العالم أن العقوبات الاقتصادية هي التي تمنع السوريين في الخارج من تحويل الأموال الى سوريا. لكن على أرض الواقع، هناك حكاية تقول إن السوريين عانوا لسنوات من احتكار النظام للقطع الأجنبي، وتحديد سعر الصرف الرسمي بأقل من نصف سعر السوق السوداء، وإجبار السوريين على التوجه إلى مكاتب التحويل الرسمية بعد إصدار سلسلة من القرارات التي تجرّم التعامل بغير الليرة السورية، ما دفع السوريين إلى التوجه إلى قنوات تحويل غير مباشرة، منها مكاتب غير رسمية وعبر وسطاء، لكنّ سوريين كثراً يضطرون للتحويل عبر مكاتب أو شركات متخصصة، ما يعني خسارة نصف المبلغ المُرسل أحياناً.

حاولت حكومة النظام تصدير حكاية ملفّقة عن أن القانون يمنع السوريين المنتشرين حول العالم من إرسال الأموال، وهذا الكلام لو بدا في جزء منه صحيحاً، إلا أن الصورة غير كاملة، كما يريدها النظام أن تبدو، إذ تمنع الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبيّة، تحويل الأموال إلى سوريا بسبب العقوبات المفروضة عليها، وذلك للحد من احتكار البنك المركزي السوري للعملات الأجنبية ومنع استخدامها في عمليات القمع.

فيما خسر الآلاف كل شيء في الحرب ثم في زلزال 6 شباط، لا ينفك النظام يفتّش عن أساليب لنهب الشعب السوري وتكريس الانقسامات والاستنسابية والانقضاض على المساعدات، حتى في ذروة المأساة.

درج

——————————————

إدلب المنكوبة… لا أجهزة طبية ولا مساعدات كافية!/ مصعب الياسين

تعتمد إدلب حتى الآن على المبادرات الفردية والمدنية، إذ تبدو منسية ومهمشة في حسابات النظام السوري، وهو ما أعلن عنه صراحة رئيسه بشار الأسد في خطابه الأخير.

أنهتْ منار امتحاناتها في جامعة حلب، كلية العلوم، وعادت فرحةً إلى أهلها بعد غياب شهر ونصف الشهر. بدا كل شيء حالماً وهانئاً، فالصورة التي رسمتها عن مستقبلها شبه مكتملة، لكن لم يخطر في بالها أن الكارثة ستكون بانتظارها.

“ذهبت الأحلام الوردية التي كنت أتطلع إليها بهزة أرضية أخذت أغلى ما أملك، بعد 3 سنوات من الدراسة والتفوق والشغف الذي لم  ينطفئ، جاء زلزال في  6 شباط/ فبراير، وبدد كل شيء. ذهب بقدمي اليسرى بعد 3 أيام فقط من عودتي إلى منزل أسرتي في مدينة حارم شمال غربي سوريا”.

تقول منار:  “قبل لحظة الزلزال بنحو 7 ساعات، اجتمع أقاربي في منزلنا بدعوة من أبي لتناول الكنافة التي أعددتها..كنا بالفعل سعداء”.

انصرف الجميع عند الساعة 12 ليلاً، ودخل أفراد الأسرة إلى النوم، كل إلى غرفته، تصف منار ما حصل قائلةً: “استيقظت بسبب ضربة شديدة على قدمي، لم أستطع حتى النظر إلى ما حدث، كنت مستلقية على بطني وشيء ثقيل جاثم على ساقي، ودخان أبيض يملأ المكان وأصوات أهلي تتعالى، ليهرع أبي  وأشخاص آخرون إلى غرفتي وسط ظلام شديد، رفعوا الركام عن قدمي، لكن أن الألم لم يتوقف. دخلت في غيبوبة، صحوت منها في مستشفى حيث كان العشرات أيضاً ممدين على الأرض والدماء تسيل من أجسادهم”، سألت منار أحد المصابين عما حصل، فأخبرها أن زلزالاً وقع وخلف الكثير من الضحايا.

تجاوز عدد المصابين في محافظة إدلب شمال سوريا الـ11  ألفاً، جراء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا،  وتجاوز عدد الوفيات الـ2400، إضافة إلى الكثير من المفقودين، حسب ما أوضح مدير صحة إدلب الدكتور زهير قراط.

يؤكد قرّاط أن مستشفيات محافظة ادلب استهلكت معظم ما تمتلكه من الأدوية والمعدات والأجهزة الطبية والمخبرية، جراء عدد المصابين الكبير في المستشفيات التي أنشئت في بقعة تعاني من الحرب لأكثر من 11 عاماً، إذ كانت الحرب كفيلة بإنهاك مخزون الأدوية في ظل الدعم الدولي الشحيح على مر السنوات والتهديد المستمر بإغلاق المعابر الإنسانية.

استنُزفت مستشفيات إدلب وغيرها من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام مخزونها الطبي، ولم تصل إليها أي مساعدات. على سبيل المثال، فتحت “منظمة أطباء بلا حدود” مستودعاتها الطبية بشكل كامل، دون معرفة الوقت الذي قد تصل فيه المساعدات الأممية لتغطية العجز الكبير، ما يعني تهديد لحياة المصابين الذين يقبع كثر منهم بين الحياة والموت.

أدى الزلزال إلى تساقط المباني على رؤوس ساكنيها وهم نيام، فكانت نسبة الكسور العظمية والبتر عالية بين المصابين، كحال منار التي بقيت في المستشفى بمفردها نحو 6 ساعات حتى وصلت عائلتها بدون شقيقها الأصغر مروان، وحين سألت: “هل مات؟”، أخبرتها والدتها أنه كسر يده لكنه بخير.

حاولت منار النهوض لتعانق والدتها على وقع الخبر، لكنها شعرت بأمر غريب في جسدها، تقول، “سألت نفسي لماذا لم أتمكن من الوقوف على قدمي؟ أين ساقي بالأساس؟ وبدون تردد سحبت الغطاء من فوق جسدي لأرى أنني أصبحت بدون ساق”.

منار واحدة من آلاف السوريين الذين فقدوا أحد أطرافهم منذ بداية الحرب السورية عام 2011، وفي حين كانت الأمراض الاعتيادية كمرض السكري وغيره تتسبب في قطع الأطراف بما فيها الأقدام بعد الحرب، أتى الزلزال اليوم على أقدام كثيرة لن تسير بعد الآن، وأيدٍ لن تُرفع للتحية. المأساة تزداد في ظل الفقر وشح الأطراف الصناعية في جميع أنحاء سوريا وارتفاع أسعارها.

تعتمد إدلب حتى الآن على المبادرات الفردية والمدنية، إذ تبدو منسية ومهمشة في حسابات النظام السوري، وهو ما أعلن عنه صراحة رئيسه بشار الأسد في خطابه الأخير، حين ذكر المناطق المتضررة من الزلزال، من دون أن يشير إلى إدلب. والأخيرة تحتاج في هذه الظروف إلى كل شيء، وتحديداً المساعدات الغذائية والطبية وتسهيل وصولها إلى المتضررين وأهاليهم.

درج

————————

السلطة السورية في “خطاب الزلزال”: عاجزة..لكن حذار “تشويه بطولاتها”/ وليد بركسية

بدت كلمة الرئيس السوري بشار الأسد، بعد 10 أيام كاملة على الزلزال الذي خلف آلاف الضحايا في سوريا وتركيا، باردة، وأقرب للتهديد منها للطمأنة. فإلى جانب خلوها من أي تعاطف مع الضحايا والمنكوبين، مقابل القول أن ما جرى قدر من الله يجب تقبله من الشعب السوري المؤمن، سواء كان مسيحياً أم مسلماً، فإنها اعتمدت على الزلزال نفسه للتمهيد لسنوات مقبلة من المشاكل الاقتصادية والخدمية الموجودة أصلاً في البلاد التي تزعم قيادتها السياسية أنها انتصرت على المؤامرة الكونية.

إعلامياً، حاول الأسد تحسين صورة الدولة السورية ككل، بعد الأداء الحكومي السيئ إثر الزلزال. فتمت مصادرة جهود الأفراد الذين قدموا المساعدة لبعضهم البعض، ونُسب ذلك إلى السلطة التي باتت تشمل المجتمع المدني. وظهر الأسد في الخطاب كما يظهر رؤساء في دول أخرى، بالأسلوب نفسه القائم على البث المباشر، كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان خلال جائحة كورونا مثلاً دائم الظهور لتقديم إجراءات حكومته وتقديم حزم الدعم وغيرها. الأسد في المقابل ركز على التبريرات التي تمنع تحويل نواياه إلى أفعال.

والأسد الذي التزم النص المكتوب، من دون إضافات من خارجه كما جرت عادته، كان صريحاً بالقول أنه لا شيء يمكن أن توفره الدولة السورية، حتى بعد سنوات من الكارثة، وصولاً إلى التهديد الضمني لمن “يشوه صورة البطولة لمؤسساتنا الوطنية المدنية والعسكرية”، أي من ينتقد أداء الجهات الحكومية ويتحدث عن الفساد والتقصير وحوادث التعفيش الموثقة خلال الأيام العشرة الماضية.

والحال إن “الكلمة المتلفزة”، المبثوثة من غرفة مغلقة بلا جمهور يصفق ولا هاتفين “بالروح بالدم”، ارتكز على عنصرين اثنين. الأول هو امتلاك السلطة، مهما بدا ظهورها ضمن الخطاب نفسه بمظهر العجز عن أداء مهماتها، باستثناء قمع من ينتقدها. والثاني هو “الأخلاق” المتمتعة بها سوريا والتي يحاربها العالم ككل بسبب امتلاكها لتلك الصفات النبيلة من التعاضد والغيرية والإنسانية.

والحديث عن تلك الأخلاق يحيل حتماً إلى تعريفها وماهيتها، حيث يقدم النظام السوري نفسه أمام البيئة المحلية المحافظة كحامٍ للقيم والتقاليد والأخلاق المجتمعية، التي لا تعني بالضرورة صفات حميدة أو عصرية في القرن الحادي والعشرين. ولهذا بات الأسد يركز في كل خطاب له، خلال السنوات الأخيرة، على أن السوريين مؤمنون بالله وبأنهم حصراً مسيحيون أو مسلمون، وصولاً لتقديم خطابات رسمية من المساجد أو خلال زيارات الكنائس والأديرة في المناسبات الدينية. ويتضافر ذلك مع خطاب مواز حول حماية النظام لمواطنيه من “الانفلات والتحرر” اللذين “تسببهما” مواقع التواصل الاجتماعي تحديداً.

وفي هذا الإطار، فرد الأسد قسماً من خطابه الذي استمر 13 دقيقة، للحديث عن الإعلام ومواقع التواصل. وفي تلك الفقرات، ضمنياً، يصبح منتقدو أداء النظام السوري خلال الزلزال أشخاصاً فاقدين للأخلاق وقليلي التربية، ما يوجب تأديبهم، حفاظاً على المظاهر المجتمعية “اللائقة” وتكريس مفاهيم الحياة “النبيلة”، ويصبح “المساس بسمعة المجتمع السوري” تهمة جديدة تضاف إلى عشرات التهم التي تلاحق السوريين مثل “النيل من هيبة الدولة” و”إضعاف الشعور القومي”.

واللافت أن السلوك النبيل الذي يشير له الأسد هنا، هو “الاندفاع الشعبي العفَوي لدعم المنكوبين بطوفان من الخير، حجب عنهم العَوَزَ والسؤال”، حيث كان السوريون، كأفراد لا كسلطة، حاضرين لمساعدة بعضهم البعض، رغم الظروف الاقتصادية والخدمية السيئة التي يعيشونها جميعاً. ومن نافل القول أن ذلك السلوك التعاضدي الذي يفتخر به النظام وإعلامه الرسمي، يفترض ألا يكون مديحاً للسلطة، لأنه، رغم دفئه وإنسانيته، ما كان ليحضر بهذا الزخم لو كانت السلطة تقوم بواجباتها ولا تستغل المأساة نفسها لتلميع صورتها أو فرض مزيد من القيود، أو اتخاذ موقع المتفرج على السرقة والتعفيش.

يعيد ذلك السامعين إلى الشق المتعلق بالسلطة في الكلمة. فـ”القيادة الحكيمة” هي التي تقرر مكمن المشكلة، وما هي الشائعة التي يجب مكافحتها حتى لا تطغى على “الصورة ناصعة البياض التي رسمناها لدى الآخرين”. وتصبح الأخبار الإيجابية، لا السلبية، مطلوبة، مثلما كانت وزارة الإعلام السورية توجه العاملين فيها منذ لحظة حدوث الزلزال. وذلك “الوعي” الذي تحدث عنه الأسد، كشرط لمعالجة الظواهر السلبية، يحصر المعرفة بالسلطة، دوناً عن الأفراد الذين يمكن التأثير فيهم بسهولة… لولا توجهيات القيادة لإيصالهم إلى بر الأمان.

وفي خطاباته السابقة، قال الأسد بشكل صريح، في معرض شرحه للعقد الاجتماعي الذي يحدد ماهية السلطة في سوريا، أن الشخص الخارج عن العقيدة المجتمعية السائدة هو “حيوان” وخائن أو مغرر به. أما من ينتقد تلك السياسة ويطالب بالإصلاح السياسي، فهو إما ساذج وجاهل وبحاجة إلى النصيحة، أو خائن وعميل وبحاجة للملاحقة والعقاب.

لكن اللافت أن التفاعل في الشبكات الاجتماعية مع الكلمة المتلفزة الأخيرة، بدا محدوداً، على الأرجح بسبب اليأس الكامل. إذ يبدو أن السوريين، في الداخل تحديداً، ما عادوا يهتمون حتى بمواجهة الدولة بتقصيرها.. على طريقة: كيف تقرّع كياناً غير موجود؟

المدن

——————————–

الشمال السوري يطالب بالمزيد من المساعدات..لتهدئة غضب السكان

أفادت تقارير أن المساعدات التي وجهت لشمال غربي سوريا ودخلت عن طريق معبر باب الهوى تقدر بنحو 106 شاحنات أممية تضمنت سلالاً غذائية، بالإضافة إلى مواد طبية وطحين ومياه.

وتشمل الاحتياجات الطارئة شمال غربي البلاد، تأمين متطلبات الدفاع المدني من آليات ثقيلة ومعدات لإخراج العالقين تحت الأنقاض، ونقل الإصابات الحرجة إلى تركيا، ودعم المستشفيات ومراكز التبرع بالدم لإسعاف الجرحى وإنقاذ الأرواح.

كما تشمل الاحتياجات أيضاً تأمين عيادات متنقلة، حيث تعاني معظم المستشفيات من الاكتظاظ، وكذلك الحاجة لأكثر من 15 ألف خيمة للعائلات التي فقدت منازلها، وتأمين 152 ألف مرتبة وبطانية ولباس شتوي.

وبحسب مراقبين، هناك حاجة أيضاً لتأمين نحو 55 ألف وجبة غذاء بشكل يومي للمتضررين، ونحو 4.5 ملايين لتر من المازوت أو الديزل، من أجل التدفئة لشهر واحد.

من جانبه، أعلن متحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 119 شاحنة -تابعة للمنظمة- نقلت مساعدات لمناطق الشمال السوري من خلال معبري باب الهوى وباب السلامة منذ وقوع الزلزال.

وأضاف المتحدث الأممي لوكالة “رويترز” أن الشاحنات نقلت مساعدات غذائية وإغاثية وأدوية أساسية وخياماً، إضافة إلى اختبارات لفحص مرض الكوليرا الذي لا يزال يتفشى في المنطقة.

وفي السياق، نشرت صحيفة “الغارديان” تقريراً  أشارت فيه إلى الغضب الذي يسود الشمال السوري، بسبب عدم الاستجابة السريعة للزلزال.

وأوضحت الصحيفة أن أهالي جنديرس، عانوا من عدم الاستجابة السريعة لإنقاذ المواطنين من تحت الأنقاض، أو توفير المأوى والطعام في ظروف الشتاء القاسية.

وعندما سافر رؤساء المؤسسات الإنسانية إلى دمشق وحلب الخاضعتين لسيطرة النظام، تحول اليأس في شمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة إلى غضب ثم حزن. ونقلت الصحيفة عن رقية محمد مصطفى قولها: “لقد أدركنا أنه لن يأتي شيء لنا.. لقد أخرجنا الجثث بأيدينا. أولئك الذين لم نتمكن من الوصول إليهم ماتوا”.

وتضيف الصحيفة أنه مع عدم وجود أي شخص على قيد الحياة الآن تحت الدمار في جنديرس، يجري التدافع للحصول على إمدادات منقذة للحياة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها سكان شمال سوريا بأنهم منسيون، من عالم اعتاد على معاناتهم بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، ومن قبل هيئات عالمية غير مستجيبة تذعن للعملية السياسية.

وأثار إعلان الأمم المتحدة الاثنين، عن حصولها على موافقة رئيس النظام بشار الأسد، على فتح معابر حدودية إلى الشمال الغربي الذي تسيطر عليه المعارضة، ازدراء خاصاً.

وعبرت أول قافلة مساعدات غير مجدولة الحدود من معبر باب السلامة الثلاثاء، محملة بالخيام والأدوية والبطانيات، وهي لا تشكل نقطة في الاحتياجات الجماعية لمحافظة عانت من معاناة خلال العقد الماضي أكثر من معظم الأماكن الأخرى في الشرق الأوسط.

وفي المستشفيات، الأدوية والمعنويات آخذة في الانخفاض بحسب الصحيفة. واستقبل مستشفى عفرين، أحد أكبر المستشفيات في المنطقة 750 مريضاً، كثير منهم إصابات خطيرة أو في حالة وفاة، في الساعات التي تلت الزلزال. كان العديد منهم من الأطفال، وتطلب ما يصل إلى 15 منهم عمليات بتر الأعضاء.

وتنقل الصحيفة عن أحد سكان جنديرس ويدعى عامر: “الدول التي تدعي الحقوق الإنسانية مهمة جدا، أين هي؟ ينتهي بهم الأمر إلى استغلال معاناتنا. ولكن يبدو أنهم يهتمون بحقوق الحيوان أكثر من حقوق الإنسان”.

وأضاف: “هذا الزلزال سيتكشف عن المزيد من الجثث، عندما نتمكن من الوصول إليهم. لكن هذا النظام لديه الكثير من الأسرار التي يجب الكشف عنها. قام الروس باختبار 400 سلاح علينا وحولونا إلى فئران تجارب. إنه بؤس فوق المعاناة. يجب على العالم أن يساعدنا في إعادة البناء ويحتاج إلى تعلم دروس التاريخ. الأسد ليس صديقكم”.

—————————–

شمال سوريا:المنكوبون يبيتون بالعراء..أين تذهب المساعدات؟/ خالد الخطيب

تشكو مئات العائلات المتضررة من الزلزال المدمر في مناطق المعارضة شمال غرب سوريا، من نقص المساعدات الإنسانية بسبب عشوائية عمليات التوزيع والفساد والمحسوبية وغياب الرقابة. فرغم تدفق كميات ضخمة من المساعدات المتنوعة عبر المعابر الحدودية والداخلية، وجمع الفرق التطوعية لملايين الدولارات، إلا أن أعداداً كبيرة من العائلات لا تزال تفترش الأراضي الزراعية وعلى أطراف المدن والبلدات المنكوبة من دون خيام ومواد تدفئة ومواد تموينية أساسية.

المساعدات تدخل وتختفي

ودخلت مئات الشاحنات المحملة بالمواد الإغاثية والخيام إلى مناطق سيطرة الفصائل المعارضة عبر ثلاثة معابر، وهي السلامة والحمام والراعي بالإضافة إلى القوافل التي وصلت الى المنطقة قادمة من مناطق سيطرة قسد مروراً بمعبر الحمران (معبر المحروقات). كما دخل عبر معبر باب الهوى شمال إدلب أكثر من 200 شاحنة محملة بالمواد الاغاثية، بالإضافة إلى ما جُمع من مواد إغاثية خلال الحملات الشعبية لجمع التبرعات والتي شهدتها مناطق شمال غرب سوريا عموماً.

وقال مصدر محلي في جنديرس شمال حلب ل”المدن”، إن “عمليات توزيع المساعدات غير عادلة، وتتم بأساليب مهينة وتسودها الفوضى”، مضيفاً ان “قوافل المساعدات والمبالغ المالية الضخمة سمعنا عنها فقط في مواقع التواصل الاجتماعي”. وقال: “مئات العائلات المتضررة لم تحصل على المساعدة اللازمة، ومعظمهم يفترش الأراضي المحيطة بمخيمات الإيواء وبين بساتين الزيتون من دون خيام ومواد تدفئة”.

وأضاف “لا يهم الجهات المسؤولة عن التوزيع إن وصلت المساعدات العينية والمالية إلى العائلات المستحقة بالفعل، ما يهمهم هو التقاط الصور والتسجيلات المصورة التي لا تعكس حقيقة الواقع”. وأوضح أن “بعض مندوبي الجمعيات والمنظمات والجهات الرسمية المحلية فاسدون، ويوزعون السلال الإغاثية والخيام على أقاربهم ومعارفهم”.

وتعرضت واحدة من القوافل الإغاثية للسرقة مؤخراً وسط مدينة جنديرس بعدما دخل مسؤولو القافلة إلى مبنى المجلس المحلي للتنسيق مع المسؤولين بخصوص عمليات التوزيع، وعندما خرجوا وجدوا الشاحنات شبه فارغة.

فوضى وسرقة

وليست جنديرس وحدها التي تنتشر في محيطها العائلات المتضررة من دون مساعدات وخيام، هناك العديد من القرى الواقعة في ريف نواحي المعبطلي وراجو وبلبل وغيرها في منطقة عفرين تهدم قسم كبير من منازلها وتضرر قسم آخر، ما أجبر معظم العائلات على ترك منازلها المهدمة والمدمرة جزئياً ليبيت أفرادها في بساتين الزيتون التي يملكونها.

ولأن الأضواء والقوافل الاغاثية ووفود الحكومة المؤقتة وقادة الفصائل وفرق الإنقاذ كانت متجهة إلى جنديرس منذ وقوع الزلزال، بإعتبارها الأكثر تضرراً، حُرمت العائلات في باقي القرى من المساعدات، وكانت منازلهم أيضاً تعرضت لعمليات السرقة المنظمة التي شهدتها المنطقة على يد مجموعات تتبع للفصائل، بينها فصيل فرقة سليمان شاه بزعامة محمد الجاسم (أبو عمشة) الذي التقط له أنصاره عشرات الصور مؤخراً أثناء توزيعه للمساعدات على متضرري الزلزال.

وتبدو الفوضى والسرقة العلنية للمساعدات أقل في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب ومحيطها، لكن الهيئة متهمة باحتكار العمل الإغاثي عبر مديرية شؤون متضرري الزلزال التي أحدثتها مؤخراً، والتي تجبر الجمعيات والفرق التطوعية على إعطائها قسماً كبيراً من المساعدات، وأي جهة تمتنع عن إعطاء الحصة المفترضة يتم منعها، وهذا ما حدث مع فرق ومجموعات تطوعية حاولت توزيع مبالغ مالية وسلال إغاثية على المتضررين في سلقين وحارم وعزمارين وغيرها.

المدن

————————

منكوبو الزلزال في سوريا مشردون بين سيارات ومراكز إيواء مؤقتة

«لا نفكر بالمستقبل… ما نريده الآن خيمة أو خيمتين»

منذ أن دمّر الزلزال منزلها في شمال غربي سوريا، تقطن المدرّسة سوزان العبد الله مع 9 من أفراد عائلتها داخل شاحنة صغيرة في الحي ذاته، بعدما ضاقت سبل العيش بهم على غرار ملايين السوريين جراء الكارثة.

وقضى أكثر من 40 ألف شخص في تركيا وسوريا جراء الزلزال المدمّر الذي ضرب البلدين في السادس من فبراير (شباط) الحالي، والذي قد يكون شرّد قرابة 5.3 مليون سوري، وفق الأمم المتحدة.

وتقول العبد الله (42 عاماً) في مدينة جنديرس الحدودية مع تركيا، لوكالة الصحافة الفرنسية: «العيش في السيارة صعب، ونحن عائلتان من 10 أفراد. ننام ونحن جالسون».

تحوّلت الشاحنة الصغيرة التي يملكها والد زوج العبد الله منزلاً يؤوي ابنيه وعائلتيهما، وتغطي سقفها فرش وبطانيات وحصيرة. داخلها، يتناول 7 أطفال طعام الفطور بينما علّقت العبد الله غطاء شتوياً في سقف الشاحنة جعلت منه أرجوحة لرضيعها.

وتوضح بينما ترتدي معطفاً فوق عباءة شتوية خضراء، وتغطي رأسها بقبعة ووشاح في ظل برد قارس: «الوضع صعب، خصوصاً أن لديّ طفلاً رضيعاً»، مضيفة: «عندما استيقظنا هذا الصباح، كانت يده باردة للغاية. وضعته تحت الشمس ليتدفأ». وتضيف: «نريد مأوى، ليساعدونا من أجل الأطفال الصغار».

في الشارع، حيث الشاحنة مركونة، لم ينج مبنى من آثار الزلزال. وانتشل متطوعو «الخوذ البيضاء» أكثر من 500 جثة من تحت أنقاض الأبنية والمنازل، وأسعفوا 830 آخرين.

وتعد جنديرس من المدن والبلدات المنكوبة في سوريا، وبين الأشدّ تضرراً جراء الزلزال الذي أودى بحياة أكثر من 3600 شخص في أنحاء البلاد.

وتضرّرت 5 محافظات بشكل رئيسي في سوريا؛ أبرزها إدلب وحلب المحاذيتان لتركيا. وشاهد مراسلون لوكالة الصحافة الفرنسية في المناطق المتضررة، أبنية سويت بالأرض تماماً، وعائلات افترشت المدارس والمساجد والساحات وحقول الزيتون، وحتى مخيمات النازحين التي بقيت بمنأى عن تداعيات الزلزال. في ناحية أخرى من جنديرس، نصب الموظّف المتقاعد عبد الرحمن حاجي أحمد (47 عاماً) مع جيرانه خيمة في وسط شارعهم المهدّم، ينام فيها الأطفال والنساء ليلاً، بينما يبقى هو مع رجال آخرين من الحي في الشارع.

ويقول، وخلفه منزله المهدم الذي بقيت منه حصيرة ملونة وغطاء شتوي ملقى فوق الركام: «لا كهرباء ولا مياه ولا نظافة»، موضحاً أن الوضع في عموم المدينة «مأساوي».

ويضيف: «حياة العائلات كلّها مأساوية». ولحقت أضرار بالغة بالبنى التحتية المتداعية أساساً بسبب الحرب المتواصلة في سوريا منذ أكثر من 10 سنوات؛ من مياه وكهرباء وصرف صحي، في المناطق التي أصابها الزلزال والواقعة في جزء منها تحت سيطرة فصائل معارضة للنظام السوري في شمال وشمال غربي سوريا.

وأفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بأن من بين الأولويات الفورية «توفير إمكانية الحصول على مياه شرب مأمونة، وخدمات صرف صحي ضرورية لمنع انتشار الأمراض»، على غرار «الكوليرا» التي تسجّل انتشاراً منذ أشهر في المنطقة.

داخل الخيمة التي بُنيت على عجل من شوادر وأغطية في زقاق يغطيه الركام ولا تزال ترتفع فيه جدران متصدّعة، يحضن حاجي أحمد طفلته. ويجلس قربه عدد من أطفال الحي. يخرج بعدها إلى الشارع حيث يتجمع الجيران ويتبادلون أطراف الحديث… لا يبدو الرجل واثقاً مما قد تحمله الأيام المقبلة. ويقول: «نحن الآن لا نفكّر بالمستقبل؛ لأن الوضع الذي نعيشه لا يفسح لنا مجالاً لنفكّر بالمستقبل».

ويوضح: «المستقبل الذي نريده حالياً هو شادر أو اثنان لوضع خيمتين لإسكان العائلات (…) بعدها نرى ماذا نفعل، لكن هذا هو المطلوب حالياً».

وتبدو احتياجات المناطق المنكوبة والمتضررة هائلة بعد الزلزال وانتهاء أعمال البحث عن ناجين. ووفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، فإن تأمين «مأوى آمن هو من بين الاحتياجات الرئيسية في أعقاب الزلزال».

ولجأت كوثر الشقيع (63 عاماً) مع ابنتها وأحفادها بعدما شرّدهم الزلزال، إلى مركز إيواء مؤقت عند أطراف جنديرس. وتقول السيدة التي سبق لها أن نزحت بسبب الحرب من مسقط رأسها في مدينة حمص (وسط): «لجأنا إلى المخيم حيث يمكن أن نجد خيمة تأوينا». وتضيف: «ليس بمقدورنا أن نشتري زجاجة مياه أو لباس… إذا أردنا التوجه إلى المدينة فليس لدينا وسيلة نقل أو مال».

يفترش أحفاد الشقيع الخيمة حيناً، ويلهون خارجها حيناً آخر، مستغلين أشعة الشمس التي تبعث دفئاً وسط جو بارد للغاية.

لا تبرّد قهقهة الأطفال قلب الجدة التي حفر الزمن في معالم وجهها المتعب. تقول: «الأوضاع هنا لم تعد تُحتمل، ولا نعرف ماذا نفعل بالأطفال… ها نحن نجلس وسط البرد بعدما بقينا لنحو 4 أيام في الشارع».

وتضيف: «ليس لنا إلا رحمة ربّ العالمين».

الشرق الأوسط

————————-

«غوغل» تدعم رقمياً إغاثة المتضررين من زلزال سوريا وتركيا

جدة: خلدون غسان سعيد

كرّست «غوغل» مواردها المتاحة من خلال منتجاتها وخدماتها وحملات التمويل للمساهمة في جهود إغاثة عشرات الآلاف من العائلات النازحة والمتضررة جرَّاء الزلازل التي حدثت في سوريا وتركيا، مقدمة دعماً مادياً للإغاثة ومِنحاً إعلانية رقمية للمنظمات غير الحكومية وإشعارات الطوارئ على محرك البحث «غوغل» ومنصة «يوتيوب» وتنبيهات على نظام التشغيل «آندرويد».

وساهم برنامج «غوغل دوت أورغ» Google.org، الذراع الخيري لـ«غوغل»، وموظفو الشركة بتقديم منحة قدرها 5 ملايين دولار أميركي للمنظمات غير الحكومية، التي تشارك بالمساعدات وجهود الإغاثة في المناطق التي تعرضت للزلازل في سوريا وتركيا. وستوفر الشركة منحاً إعلانية للمنظمات غير الحكومية لدعم حملاتهم في البلدين ومساعدتهم في الوصول لجمهور أكبر.

وبهدف إيصال المعلومات والمراجع الموثوق منها لأكبر عدد من الأفراد خلال فترة الأزمة، عرضت الشركة في الأسبوع الأول من حدوث الزلازل رمز شريط أسود في محرك البحث والصفحة الرئيسية لـ«يوتيوب» لتنقل الأفراد إلى إشعارات الطوارئ والرسائل التحذيرية باللغات العربية والتركية والإنجليزية. وتشمل تلك الرسائل أرقام الطوارئ والمواقع الإلكترونية الهامة والخرائط، وغيرها من المعلومات التي تقدمها الهيئات الرسمية في وقت الأزمات والكوارث لمساعدة المتضررين من الزلازل وأقاربهم.

كما أُرسلت ملايين التنبيهات على شكل رسائل لمستخدمي نظام التشغيل «آندرويد» من خلال نظام «تنبيهات عن الزلازل» في «آندرويد» الذي يتعرف على اكتشاف العلامات المبكرة للزلازل باستخدام مقياس التسارع في الهواتف. واستمرت الشركة في البحث عن الإعلانات الاحتيالية المخالفة لسياسات الشركة بهدف تجنب الاحتيال المالي في جمع التبرعات والحفاظ على أمان المستخدمين، خصوصاً في وقت الكوارث. وأكدت «غوغل» في مدونتها أنها ستستمر في متابعة الوضع الإنساني في فترة ما بعد الزلزال وتوفير الدعم من خلال منتجاتها وخدماتها.

————————————-

هل ينجح بشار الأسد في العودة للساحة الدولية عبر استغلال كارثة الزلزال؟

ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) في تقرير لها أن رئيس النظام السوري بشار الأسد يحاول استغلال الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة في البلاد للعودة إلى الساحة الدولية وكسر المقاطعة التي فرضت عليه بسبب ما جرى في سوريا بعد اندلاع ثورة 2011.

وأضاف التقرير أن بعض القادة العرب الذين نبذوا بشار الأسد لسنوات بدؤوا يتواصلون معه لبحث المساعدات مثلما تواصلت معه قيادات أممية للسبب نفسه، واُلتقطت صور له برفقة مسؤولين عرب.

ونقلت الصحيفة عن إيميل هوكايم محلل شؤون الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن قوله إن الزلزال كان “نعمة” بالنسبة لبشار الأسد يحاول التشبث بها، لأنه “لا أحد يريد إدارة هذه الفوضى”.

خطر

وتابع التقرير أن الزلزال كشف عن حالة الخطر التي تعيشها سوريا في عهد الأسد، إذ إنه رغم استعادة النظام السيطرة على جزء كبير من الأراضي السورية بفضل الأساليب القاسية وكذلك المساعدة الهائلة من حلفاء مثل روسيا وإيران وجد رئيس النظام السوري نفسه على رأس دولة مفلسة مدمرة ومقسمة تخضع لحكمه جزئيا فقط، فيما تعج بالمجموعات المسلحة والقوات الأجنبية المختلفة.

وصرحت دارين خليفة خبيرة الشؤون السورية في المعهد الدولي للأزمات للصحيفة بأنه لا يمكن توقع وصول دعم حقيقي لسوريا من طرف حليفيها الروسي والإيراني، وهذان “يقدمان فقط في حالات الصراعات المسلحة، أما عندما يحتاجهما المواطن السوري العادي للدعم وقت الأزمات الكبرى فلا يكادان يظهران”.

أما الولايات المتحدة وأوروبا فأوضح التقرير أنه لا توجد إشارات قوية بشأن احتمال تخفيف العقوبات المفروضة على الأسد والدائرة المقربة منه، لكن بالمقابل، خففت واشنطن -مؤقتا- بعض القيود للسماح بوصول المساعدات إلى المناطق المنكوبة بشكل أسهل.

منبوذ

لذلك، ترى دارين خليفة أنه رغم جهود نظام بشار الأسد لمحاولة العودة إلى الساحة العالمية فإن وضعه كنظام “منبوذ” لا يمكن أن يتغير بشكل كامل.

علما -يؤكد تقرير نيويورك تايمز- أن الأسد يواجه مشكلة داخلية كبرى، إذ إن الشعب السوري تعب من طول المعاناة لسنوات طويلة، والتداعيات الخطيرة التي خلفها الزلزال بشريا وعمرانيا قد تخلق له متاعب جديدة تهدد استقرار حكمه.

ومن ثم، فهو يجد نفسه في حاجة لإدارة شؤون البلاد بأسلوب آخر غير أسلوب العنف القاسي، في مواجهة شعب يائس متعب.

وتجاوزت حصيلة قتلى الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا فجر السادس من فبراير/شباط الجاري 43 ألف شخص.

وقال مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون إن الأمم المتحدة تعمل على تقديم مزيد من الدعم للسوريين، مؤكدا على ضرورة عدم تسييس الاستجابة للطوارئ.

وأعلن المنسق الإنساني الأممي في سوريا الحاجة إلى 4 مليارات دولار لمساعدة الشعب السوري بعد الزلزال، وقال للجزيرة “نواجه تحديات جمة في إغاثة المنكوبين، ونقص التمويل أكبر عائق يواجهنا”.

المصدر : نيويورك تايمز

—————————————

نازحو الزلزال إلى دمشق/ زينة يعقوب

لم يُعلن الحداد، ولم تُنكس الأعلام، وحدها صورةٌ مُدرجةٌ في لوحة الإعلانات المتحركة وسط ساحة الأمويين تُكرّر كل عشر ثوانٍ جملة: «حداد على أرواح ضحايا الزلزال الذي ضرب سوريا»، وتلتف حولها ببلادة سيارات شرطة المرور وعناصر آمرية الطيران. تحتاج أن تقطع تلك الساحة، ومن بعدها ساحة الروضة، موغلاً في طريقك نحو العفيف حيث يتجمهر شبّان وشابات فريق عقمها التطوعي، يجهّزون كلّ ما يخطر على البال من مساهمات أهالي دمشق لنقلها وتوزيعها على منكوبي حلب واللاذقية وحماة. بعدها بإمكانك التوجه نزولاً نحو الجسر الأبيض حيث أُغلقت الكثير من المحال التجارية حتى تدرك الحداد. هناك ستجد الحزانى.

بعد مرور أكثر من أسبوعٍ على الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، بدأت الحياة تأخذ مجرىً طبيعياً في دمشق، تزامناً مع بدء عمليات الكشف على السلامة الهيكلية للمباني بعد هلع الأهالي إثر انهيار بناءٍ سكني في حرستا بريف دمشق، الواقعة على بعد 5 كيلومترات من مركز العاصمة.

إلى ذلك، تستمر حملات جمع التبرعات العينية عن طريق المبادرات الأهلية -مثل فريق عقّمها التطوعي- والمؤسسات الحكومية التي تعمل من خلال مكتب المحافظة، ومقرات حزب البعث التي لا تعد حكوميةً وفقاً للدستور، لكنها لا تنفصل عنها فعلياً.

الاستجابة الأهلية تُنقذ العائلات

وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا، يوم الإثنين 13 شباط (فبراير) الجاري، نزوح نحو 100 عائلة من حلب واللاذقية إلى محافظتي دمشق وريف دمشق الملتصقتين جغرافياً. وعلى الرغم من توّقع تضاعف الأعداد في الأيام المقبلة، لم تفعّل كلتا المحافظتين أيّة استجابةٍ تُذكر حتى الآن. وقال متطوعٌ من جماهير نادي الوحدة الرياضي الدمشقي للجمهورية.نت: «بعد كل جهودنا لتأمين مركز إيواءٍ ضمن نادي الوحدة الرياضي بدمشق والشروع باستقبال العائلات، رفضتْ المحافظة السماح بافتتاحه دون شرح الأسباب، على مبدأ دبروا حالكم لحالكم».

بعد أكثر من عقدٍ على اشتداد وطأة الأوضاع الإنسانية في سوريا، ومواقف مُخجلة لحكومة النظام السوري، كان آخرها عدم إعلان الحداد، بات متوقعاً عدم تقديم حلولٍ لأي مشكلةٍ تُذكر، حتى لو كانت لضحايا من خارج إطار «الصراع» ونتيجة كارثةٍ طبيعيةٍ ستشرّد ملايين السوريين. وهذا ما دفع مئات العائلات للمساعدة، فهي تعرف مُسبقاً أن لا أمل يُرجى سوى عبر التكافل الاجتماعي. ولحسن الحظ، بعد أعوامٍ على نكباتٍ متلاحقة حلّت بالمجتمع الأهلي السوري، ما يزال يحاول المساعدة.

من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، استطاعت الشبكات الأهلية المتُشكلة تلقائياً والمتوزّعة بين الأراضي السورية والشتات، تأسيس خارطة تواصلٍ فورية وتفعيل استجابة فعّالة، وذلك من خلال نشر نقاط تجمّع العائلات المشردة في الشوارع بحثاً عن مأوى في أحياء التضامن والزاهرة ودف الشوك وجسر فيكتوريا، فضلاً عن مناطق تابعة لريف دمشق مثل أشرفية صحنايا وجرمانا.

ويجري النشر بمساعدة أحد المتطوعين-ات على الأرض، إذ يرافق العائلة وينشر تفاصيل الحالة مع رقم جواله إلى حين تأمين المساعدة المطلوبة، بعدها يُحذف المنشور أو يُكتب أعلاه «تمّ تأمين الحالة»، لتتوالى التعليقات المُهنّئة والداعمة. وبالكثافة نفسها، انتشرت إعلاناتٌ لثلاثة فنادق في المرجة فتحت أبوابها للمتضررين، كما فتح سكان دمشق وريفها أبواب بيوتهم للاستضافة، أو عرضوا بيوتاً فارغةً وقابلةً للسكن، حتى إن أحد الناشطين طلب المساعدة في تنظيف بيتٍ في ركن الدين قبل استضافة عائلة، فلبّاه الأصدقاء خلال ساعات قليلة.

تضافرت جهود المبادرات الفردية مع فريق عقّمها الذي أعلن من خلال مؤسِّسه عن استعداد الفريق لتأمين احتياجات العائلات الواصلة إلى دمشق، وكتب على فيسبوك: «نحن بدأنا المرحلة الثانية من الاستجابة، أي أشخاص أو عائلات وصلت للشام ومحيطها، من أهلنا المتضررين بالمحافظات، في خط ساخن لاستقبال حالاتهم».

أعاق انتشار العديد من الإعلانات الكاذبة عن بيوت مفتوحة للسكن مجاناً عمل المتطوعين، لكنّ إمكانية التضامن الجمعي التي حقّقتها مواقع التواصل اقترحت حلولاً لتحسين جهود الإغاثة، فتطوع مجموعةٌ من الناشطين في الداخل السوري وفي الشتات للاتصال والتأكد من موثوقية إعلانات الاستضافة قبل تداولها.

من جهتها، قابلت الحكومة السورية الجهود الشعبية بالفُتات، فضمن ما أسمته «الاستجابة الفورية لكارثة الزلزال وتأمين المسكن للمتضررين في المحافظات المنكوبة»، دعا وزير الأشغال العامة والإسكان سهيل عبد اللطيف الشركات الإنشائية إلى التجهيز الفوري لـ300 وحدة سكنية مُسبقة الصنع بهدف إيواء عشرات ألوف المشردين. في حين تجعل أذرع السلطة المتمثلة بحزب البعث العمل مستحيلاً. في أشرفية صحنايا، ولضمان وصول التبرعات والمساعدات إلى مقر الحزب والتصرف بها وفق مزاجهم، تكدّست هذه الكميات مدة أسبوعٍ كامل وتم استهلاك جزءٍ منها، وذلك بحسب شهادات متطوعين تحدثوا إلى الجمهورية.نت.

وفي سبيل ذلك، اعتمد الحزب على تشويه سمعة القائمين على جمع التبرعات وإظهارهم بهيئة فاسدين، أو عمدَ إلى إخافتهم من خلال أشخاص مُقربين من الحزب. يقول أحد الشبان: «بيكفي يجيبو شب يخوفوه بكلمتين لحتى كلنا نسمع»

ويتابع المتطوعون في دمشق عملهم بطرق تتحايل على المعوقات المفروضة بفضل شبكة الأصدقاء والمعارف الموثوقة، ومن استقبال اتصالات مباشرة من النازحين بعد أن نشروا أرقام هواتفهم.، لكن أقصى ما أمكنهم توفيره للنازحين حتى الآن سلة غذائية، أو حليب للأطفال، وبعض الاحتياجات اليومية، بمساهمات من الأهالي.

بكرا منرجع على بيوتنا

تشير الإحصائيات الأممية إلى وجود 6.7 مليون نازح داخلياً في الوقت الراهن في جميع أنحاء البلاد، وهذا الرقم مرشحٌ للتضاعف مع تقدير عدد الأشخاص المحتاجين للمأوى جرّاء الزلزال بأكثر من 5 ملايين شخص.

لجأ بعض النازحين الحلبيين إلى بيوت أقاربهم من المُهجرين السابقين الذين أُرغموا على البقاء لأنّ منازلهم قد دُمرت خلال قصف النظام على حلب، ويعيش قسمٌ منهم في جرمانا والهامة والكسوة داخل بيوتٍ غير مكسوّة (على العظم) وغير صالحة للسكن البشري، ويقتات أغلبهم على الحد الأدنى الذي توفّره سللٌ غذائية تقدّمها المنظمات الإنسانية.

وتتكدس عائلاتٌ أخرى في غرفةٍ واحدةٍ بعد وصول أسعار الإيجارات في دمشق لأرقام خيالية، تعدّت في ضواحي دمشق نصف مليون ليرة سورية للشقق الصغيرة غير المفروشة، وتصل إلى قرابة مليوني ليرة سورية في مركز العاصمة، وتتجاوز خمسة ملايين ليرة في الأحياء «الراقية».

خزّنت موجات النزوح الجماعية في ذاكرة السوريين مرارة مراكز الإيواء، وعجزوا عن نسيان أن العودة إلى المنزل بعد الاقتلاع منه قد تتعذّر، لذلك نزحت مئات العائلات ممن شردهم الزلزال إلى المحافظات الأكثر استقراراً، بحثاً عن منزلٍ يصون الكرامة.

وفي حين أن الأولوية القصوى هي لتأمين السكن ومستلزماته، تغرق الشوارع بالمساعدات الآنية المعدة للاستهلاك، ومَن دفع كل مدخراته مقابل غرفةٍ على هامش المدينة، وجد نفسه أمام عقبة تأثيثٍ جديد.

على هامش المدينة، تنتظر أم أحمد أختَها وأولادها الخمسة الناجين من الزلزال، لتستقبلهم في غرفةٍ أسمنتية بإحدى ضواحي العاصمة. تجمع الثياب القديمة من التبرعات وتخيط بعضها لسد فتحات الجدران، وتربط قسما ثانياً ببعض الأغصان الخشبية لتشعل النار عند وصولهم: «ما بعرف شو بدّي طعميهم بكرة، بس عالقليلة يدفوا».

موقع الجمهورية

————————————

الزلزال الذي عبرَ الحدود/ محمد كتّوب

لم يأخذ الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا فجر السادس من شباط بعين الاعتبار الأبعاد الجيوسياسية للصراع في سوريا. لم يفهم ديناميكيات الصراع داخل الحدود، ولم يعرف أن السوريين في تركيا يحتاجون تصريحاً ليزوروا بلدهم، ولا أن السوريين في سوريا يُقتَلون على يد الجندرما التركية وهُم يحاولون عبور الحدود. لم يأبه الزلزال بأن المساعدات الأممية تحتاج تفويضاً من مجلس الأمن لتحديد أي معبرٍ ستسلك إلى المتضررين. لم يقل أحدٌ للزلزال إن جثث ضحاياه ستعبر الحدود قبل أدوات البحث والإنقاذ، وإن رئيس البلاد سينتظر ثمانية أيام حتى يسمح للمساعدات بالدخول لمساعدة المتضررين من هزّاته، كما لم يعرف أن رئيس حكومة المعارضة لا يجرؤ على استقبال المساعدات دون إذن حاضنيه الأتراك.

على طرفي الحدود، في شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا، يقبع نموذج استجابة إنسانية فريد من نوعه، ومن الأكثر تعقيداً في العالم. تُغطَّى منطقة شمال سوريا عملياتياً وبرامجياً من تركيا، وتنفيذياً وحوكمياً من الفرق المحلية في سوريا، بينما يُقاد من دمشق شكلٌ معقدٌ من الاستجابة لم تخلقه الحدود بل أدوات النظام في الإفساد والسيطرة على المساعدات، وعلى رأسها الهيئة العليا للإغاثة التي يمر عبرها كل شيء مثلما يمر كل شيء عبر المعابر الحدودية في الشمال.

في الخامس من شباط، قبل الزلزال بيوم، لم يكن وضع الاستجابة الإنسانية داعياً للتفاؤل: 90 بالمئة من سكان شمال غرب سوريا مُعتمَدون على المساعدات الإنسانية؛ لم يتجاوز حجم المساعدات 60 بالمئة من احتياجات قطاع الغذاء خلال العام المنصرم؛ بينما لم يحصل القطاع الصحي على أكثر من 26 بالمئة من احتياجاته.

لم يكن الوضع قبل الزلزال مستقراً إذاً، بل على العكس.. المنطقة منهكة إثرَ عقد من الحرب وتسييس المساعدات. خلال الساعات الأولى بعد الزلزال كانت تلك التعقيدات غائبة عنا خلال بحثنا عن أخبار الأصدقاء والزملاء في المنطقة المتضررة، ولكن سرعان ما اتّضحَ أن بإمكان الزلزال تجاوزَ الحدود وخطوط الصراع عندما يريد، عكس معدات الإنقاذ وفِرَقه.

كانت مدينتا غازي عِنتاب وأنطاكيا التركيتان، حيث تدير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الاستجابة للشمال السوري، من أكثر المدن تأثُّراً بالزلزال، ما جعل الكوادر الإنسانية سواء الأممية أو الدولية أو الوطنية غير قادرة على التعامل مع الكارثة، وبالتالي كان لا بدّ لقيادة الأمم المتحدة أن تستخدم صلاحياتها لتوظيف كافة الآليات للتعامل مع الكارثة، لكنها لم تفعل.

من بين الأشياء التي كان بإمكان قيادة الأمم المتحدة، سواء القيادة الإقليمية أو الأمين العام ونائبه لشؤون الاستجابة في حالات الطوارئ، أن تقوم بها تفعيلُ آلية تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC، التي تسمح بتفعيل فِرَق على الأرض خلال 12 ساعة من الكارثة. كذلك كان من الممكن استخدام قدرات المجموعة الاستشارية الدولية لفرق البحث والإنقاذ INSARAG، ويُذكر أنه تم تفعيل هاتين الآليتين في تركيا، التي ورغم أنها تملك قدرات بحث وإنقاذ وإغاثة عالية جداً، إلّا أن حجم الكارثة استدعى تَدُخَّلَ كل الفرق الممكنة فيها. يتم تفعيل هذه الآليات إما بناء على طلب حكومة البلد الذي ضربته الكارثة، أو بناء على طلب من ممثل الأمم المتحدة المقيم في البلد. وتسمح هذه الآلية بوصول فرق ومعدات خلال 12 إلى 48 ساعة على أرض البلد المتضرر، وباستخدام كافة المعابر الممكنة للوصول إلى المتضررين من الكارثة. هذا ما فعلته تركيا بالفعل، ولكن سوريا لم تفعل. كما أنه كان من الواجب على الأمم المتحدة تفعيل فريق استثنائي لمساندة الفرق المتضررة.

يُصرِّحُ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث عبر حسابه على تويتر عن تيسير وصول 4948 خبير بحث وإنقاذ، خلال أقل من 72 ساعة للاستجابة للزلزال في تركيا وسوريا، وذلك من خلال آلية تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC. لم يصل أي منهم إلى سوريا في كافة مناطق السيطرة فيها، في حين وصلت إلى مناطق النظام 8 فرق بحث وإنقاذ و3 فرق طبية من الدول الصديقة للنظام السوري، التي فَعَّلَت جسوراً جوية من بلدانها أوصلت ما يزيد عن 132 طائرة إغاثة من 25 دولة.

يَظهر بوضوح أن ذروة وصول هذه الطائرات كانت خلال الساعات الثماني والأربعين الأولى بعد الزلزال، وهي النافذة الزمنية المُنقِذة للحياة. وتشير مصادر محلية منخرطة في العمل الإنساني أن اللجنة العليا للإغاثة لم ترفع أياً من الإجراءات الأمنية التي تفرضها على عمليات الإغاثة في مناطق سيطرة النظام، ما يجعل المستفيد الحقيقي من هذه المساعدات هو مخازن النظام.

الدفاع المدني السوري أَكَّدَ بدوره عدم تلقيه أية معدات بحث وإنقاذ لدعم فِرَقه، التي لم تتوقف منذ الساعات الأولى عن عمليات البحث والإنقاذ، حيث تجاوز عدد الناجين الذين تم إنقاذهم على يدها 2950 شخصاً. في حين دخل إلى سوريا فريقان متطوعان، أحدهما من الجالية المصرية في تركيا، والثاني من فريق متطوعين إسباني وصل عبر منظمة إغاثية محلية. وفي اليوم الرابع للزلزال دخلت ست شاحنات أممية مجدولة مسبقاً قبل الزلزال، لتبدأ بعدها بعض الدول بإيصال المساعدات عبر المعابر الحدودية، لم يكن أيٌّ منها منقذاً للحياة حتى اليوم الثامن، بعد فوات الأوان، حين دخلت بضع مواد من منظمة الصحة العالمية. لقد فاقم الزلزال الوضع الإنساني على الأرض، حيث سُجِّلَت 57000 حركة نزوح جديدة، وأعلنت مديرية الصحة في إدلب عن استقبال ما يزيد عن 12000 إصابة خلال الأيام الأولى بعد الزلزال.

ثمة ثلاث إشكاليات جعلت الاستجابة أكثر كارثية: الأولى أن الوكالات الأممية خَفَّضت مخزونها في مستودعات شركائها في شمال غرب سوريا منذ بضعة أشهر؛ والثانية أنها كانت قد أوقفت إحدى آليات جمع المعلومات في المنطقة في بداية العام، وبالتالي كان لديها ضعفٌ حتى في الوصول للمعلومات أثناء الكارثة؛ أما الثالثة والأكبر فهي أن منّصة عِنتاب، التي كانت مقرَّ نائب المدير الإقليمي للأمم المتحدة، كانت دون قيادة، إذ بقي هذا المنصب شاغراً منذ ما قبل شهرين وحتى الثالث عشر من شباط، أي بعد الزلزال بأسبوع.

بقراءة بسيطة لتقارير التحديثات اليومية للأمم المتحدة عن استجابتها بين مناطق النظام ومناطق شمال غرب سوريا، نرى أن الأمم المتحدة قد وظَّفَت قدرات أعلى بكثير في مناطق سيطرة النظام، وقد يكون سبب ذلك أن دمشق، مركز قيادة العمليات الإنسانية لمناطق النظام، لم تتضرّر بالزلزال. لكن كانت البدائل لشمال غرب سوريا متاحة لدى الأمين العام للأمم المتحدة ونائبه.

معركة المعابر الحدودية للمساعدات الإنسانية كانت جليّة ومُتعمَّدة. تذرّعت الأمم المتحدة على مدار الأيام الأولى للزلزال بحالة الطرقات المتضررة بالزلزال، على الرغم من أن قطاع اللوجستيات في غازي عنتاب أطلق خريطة تفاعلية كانت تُظهِر بوضوح عدم وجود عراقيل لوصول المساعدات من موقع مستودعات الأمم المتحدة قرب الريحانية التركية، على بعد 5 كم من الحدود السورية. محاولات الأمم المتحدة المتكررة للتبرير بمعوقات قانونية أو لوجستية باءت بالفشل، وظهر بشكل واضح أن تأخُّر المساعدات متعمد ومُسيّس.

تَجلَّتْ هذه المعركة بأوضح صورها حين أعاد نائب الأمين العام للأمم المتحدة للأسد امتياز فتح المعابر وإغلاقها حين طلب منه ذلك، بينما كان مجلس الأمن قد فرض منذ 9 سنوات، عام 2014، مرورَ المساعدات عبر الحدود بغض النظر عن موافقة الحكومة السورية من خلال القرار 2139 وما تلاه من نسخ متعددة من القرارات. وبدل أن يستخدم الأمين العام للأمم المتحدة صلاحياته بتفعيل كافة المعابر الممكنة، انتظر ثمانية أيام حتى أعطى الأسد موافقته على استخدام معبرين آخرين إضافيين إلى باب الهوى، وهما معبرا الراعي و باب السلامة اللذين تسمح الحكومة التركية باستخدامهما أمام القوافل الإغاثية أساساً قبل هذا التصريح. يُذكَر أن مجموعة من الخبراء القانونيين حول العالم كانوا قد وقَّعوا رسالة تؤكد عدم الحاجة لتفويض مجلس الأمن، أو أي جهة أخرى، لمرور المساعدات.

تملك كلٌّ من تركيا والولايات المتحدة قوات على الأرض، كما تملك الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى قدرات إمداد عالية في المنطقة. يفرض القانون الدولي الإنساني على هذه الدول تنفيذ، أو على الأقل تيسير، وصول مساعدات منقذة لحياة للمتضررين. كان بإمكان الولايات المتحدة أن تتدخل بكل تأكيد.

في النهاية، تُرِك السوريون وحيدين في مواجهة واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية منذ عقود. ستنجلي هذه الكارثة عن أرقام ضخمة تفوق التصريحات الحالية حين تستعيد المؤسسات قدرتها على الإحصاء وجمع البيانات، وستتشعب إلى مشاكل قانونية واجتماعية حول المفقودين والأيتام وتشتت العائلات وغيرها الكثير.

الزلزال الذي عبرَ الحدود وخطوط الصراع لم ينجح في اختراق تسييس الاستجابة الإنسانية، بل على العكس، إذ حصل النظام السوري من خلاله على مكاسب سياسية، أقلّها رفع العقوبات جزئياً وبشكل مؤقت من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ومن ضمنها أيضاً استعادة القرار بشأن فتح المعابر أمام العمليات الأممية، وتهافت عدة دول للتواصل لعرض المساعدة، بينها السعودية والدنمارك وإيطاليا.

من أنقذ السوريين هم السوريون أنفسهم، بقدراتهم المحلية وحركتهم المرنة التي لم تُوقِفْها الحدود ولا خطوط الصراع. وكما عبرَ الزلزال، عَبرَت الحركةُ والقدرات لمدّ يد العون. لذلك يجب الدفع لتعزيز هذه القدرات، لأن الاستجابة للزلزال ما زالت في مرحلة الصدمة، وثمة ضرورة لأن يكون هناك تخطيط على المدى المتوسط و الطويل. لا يمكن لأي مجموعة بشرية أن تقف وحيدة في مواجهة هكذا كارثة، ولا يمكن أن تُحرَمَ منطقة منكوبة من حقها في وقوف البشرية إلى جانبها بسبب خطوط الصراع أو الخلفية السياسية أو الحدود بين البلدان. يجب أن تتحمل قيادة الأمم المتحدة في نيويورك وفي الإقليم مسؤولياتها عن الإهمال المتعمد الذي أزهق أرواحاً. لا بد من فتح تحقيق دولي للسعي من أجل حقوق الضحايا.

د. محمد كتّوب: مدير مشاريع في منظمة إمباكت، خبير في الاستجابة الإنسانية وحماية العاملين في القطاع الإنساني.

موقع الجمهورية

—————————–

هاتف بشار الأسد مشغول/ قاسم البصري

ظل بشار الأسد منبوذاً من المجتمع الدولي لسنواتٍ كان يرتكب خلالها المجزرة تلو المجزرة، ويقتصر بريد هاتفه المُعلن على مكالماتٍ من روسيا وإيران وأبخازيا ودولٍ صغيرة روسية التبعية. حتى حين زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأراضي السورية لم يتوجه إلى قصره كما تقتضي الأعراف، إنما إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية قرب اللاذقية، لتخرج من هذه الزيارة صورٌ مهينةٌ للأسد وتعبّر عن تبعية أجيرٍ محلي للاعبٍ دولي.

أما بالنسبة للواصلين إلى قصره، فقد كانت زيارة رئيس أبخازيا غينادي غاغوليا وبالاً عليه، إذ أودى بحياته حادثٌ مروري فور عودته إلى بلاده. عمر البشير هو الآخر فقد منصبه وصار إلى السجن بعد زيارةٍ لهذا القصر بغية إعادة العلاقات مع ساكنيه. لا يبدو ما حدث للرجلين مُشجعاً على زيارة الأسد بعدها، على أن هذا لم يمنع وزير الخارجية الإماراتي من القدوم، ومن دعوة بشار لزيارة الإمارات أيضاً. على أنّ نظام الإمارات الذي لم يجد بأساً في التطبيع مع إسرائيل، وبالشروط التي فرضتها عليه، لن يغصّ بنظام بشار الأسد الذي كان يؤوي منذ بداية الثورة السورية أهم لصوصه ومحاسيبه وعوائلهم.

سبق ذلك عناقٌ حار بين وزير الخارجية السابق وليد المعلم ووزير خارجية البحرين في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي العام الماضي حاولت الجزائر تعويم الأسد من خلال دعوته إلى القمة العربية التي عُقدت على أراضيها تحت ذريعة «توحيد الصف العربي»، لكنّ مسعاها انتهى إلى الفشل. وبهذا المصير أيضاً انتهى العهد القوي لميشيل عون في لبنان بعد آمالٍ ووعودٍ بزيارة سوريا ولقاء الأسد. على أن الأشهر الماضية قد شهدت نقلاتٍ نوعيةً في هذا الإطار، فالعاهل الأردني حاول التقارب مع النظام السوري بشكلٍ معلن فواجه رفضاً أميركياً تصعب مواجهة تبعات الالتفاف عليه، ثمّ تعقّدت المسألة أكثر مع نشاط الاتجار بالمخدرات من قبل النظام السوري عبر الأردن نحو دول الخليج. أخيراً جاء الدور على تركيا التي التقى وزير خارجيتها بوزير خارجية النظام في روسيا، وخرجت تصريحاتٌ عن لقاءٍ وشيكٍ يجري ترتيبه بين أردوغان والأسد، ثم أتى الزلزال الرهيب الذي ضرب البلدين.

إذاً، وحتى وقوع الزلزال، لم تنقطع المساعي على مدى عامين للتقارب مع بشار الأسد من أنظمة دولٍ عديدةٍ استطاعت تجاهل ما فعله بالسوريين من أجل مصالحها. وما أن وقع الزلزال حتى تفرّغت رئاسة الجمهورية السورية للاحتفاء بزياراتٍ ومكالماتٍ وبرقياتٍ تلقّاها الرئيس الذي كان منبوذاً حتى ساعاتٍ قليلةٍ مضت، ولم يسبق لهذا الدفق العاطفي الرسمي أن حمل هذا الزخم منذ العام 2011. كانت أولى الاتصالات من فلاديمير بوتين ومن رئيس دولة الإمارات، ثم كان لافتاً ورود اتصالاتٍ مصرية وأردنية وتونسية وفلسطينية وعراقية علنية على مستوى حكام هذه الدول، فضلاً عن وصول وزير خارجية الأردن إلى دمشق، ووفد لبناني برئاسة وزير الخارجية يرافقه عددٌ من الوزراء في زيارةٍ أثارت جدلاً داخلياً لبنانياً. أما السعودية، فكانت حريصةً على الابتعاد عن أي تواصلٍ معلنٍ ومباشرٍ مع النظام، حتى إن المساعدات التي قررت إرسالها جرى نقلُها عبر طائراتٍ إماراتية.

بمتابعة هذه المكالمات والزيارات ونوعيتها، يتضح أن رئاسة الجمهورية السورية حاولت تقديمها كما لو أن بشار الأسد يُعاد تعويمه على مستوى العالم، على أنها لا تحمل أي جديد. جميع قيادات هذه الدول كانت على اتصالٍ ببشار الأسد، ويتسرب أو يُعلن بين حينٍ وآخر عن الجزء المخابراتي من الاتصالات. ما استجد فعلياً هو أن الزلزال منح هذه الدول جرأة التصريح عن اتصالاتها بالأسد تحت مبررات «الإخوّة والعروبة في ظل هذه الفاجعة»، وهو ما قد يجعلها مبررةً أمام الدول التي ما زالت تصرّ على عدم القبول بتطبيع العلاقات مع الأسد. لذا لا قيمة فعلية لهذه الاتصالات، وكانت تحدث وستحدث على كل حال، غير إنّ الزلزال سمح لها أن تتكثّف خلال أيامٍ قصيرة، لتشكل مع بعضها خزياناً جماعياً لأنظمة هذه الدول.

أما المهم والمُخزي حقاً على المستوى السياسي، فهو الشكر الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة لبشار الأسد ونظامه على «السماح» للهيئات الأممية باستخدام معبري باب السلامة والراعي لمدة ثلاثة أشهر بعد هذه السنوات من أعمال الإبادة، وأن يأتي الشكر من أعلى هرم المؤسسة التي أصدرت هيئاتها عشرات التقارير الموثقة عن أبشع الجرائم التي ارتكبها بشار ونظامه.

التطور اللافت الآخر هو الرفع الأميركي الجزئي للعقوبات المفروضة على النظام لمدة ستة أشهر، ولربما كان الاتحاد الأوروبي سيخطو الخطوة نفسها لولا حسابات مرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا. لم تحقّق العقوبات الأميركية والغربية هدفها بإضعاف النظام بقدر ما أضعفت الشعب. هذا ما نعاينه يومياً من خلال متابعة أحوال أهلنا، على أن الرفع المتعجّل لها بطريقةٍ غير مدروسة يُظهر كيف أن الأسد وروسيا استطاعا ابتزاز الولايات المتحدة وتحميلها جزءاً كبيراً من فشل النظام في الاستجابة للكارثة، وذلك من خلال جعل الشعب المنكوب والمحتاج للمساعدة رهينةً لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية للنظام. إن شهور العفو الأميركي الستة المقبلة ستكون نافذةً للنظام لإعادة بناء قوته الاقتصادية وإحكام قبضته على السوريين، ولن تُفيد السوريين المحتاجين في شيء، ذلك أن النظام لن يضع معاشهم اليومي وتحسينه على رأس أولوياته خلالها. وهكذا، كما كانت العقوبات غير مدروسة النتائج، جاء رفعها المؤقت بطريقةٍ مماثلة. يالحظ بشار الأسد

موقع الجمهورية

——————————

بعد 12 يوماً على كارثة الزلزال.. كيف هو الوضع الإنساني في شمال غربي سوريا؟

أصدر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” تقريراً عن التطورات في شمال غربي سوريا ومنطقة رأس العين وتل أبيض، عقب كارثة الزلزال الذي ضرب مدن جنوبي تركيا وشمالي سوريا، وفق بيانات جمعها فريق من الباحثين الميدانيين.

ووفق التقرير، فإنه تم الإبلاغ عن أكثر من 4400 حالة وفاة و8100 إصابة في شمال غربي سوريا من جراء الزلزال، حتى تاريخ 13 شباط، في حين تم تدمير أكثر من 9000 مبنى كلياً أو جزئياً في شمال غربي سوريا بسبب الزلزال، حتى تاريخ 14 شباط، مما أدى إلى تشريد ما لا يقل عن 11 ألف شخص.

ضحايا الزلزال شمالي سوريا

وأشار التقرير إلى أن أكبر عدد من القتلى والجرحى من جراء الزلزال، حتى تاريخ 14 شباط، كان في حارم، تليها عفرين وجبل سمعان، حيث بلغ عدد الإصابات في منطقة حارم وحدها أكثر من 5300 إصابة.

وحتى يوم أمس الخميس 16 شباط، عبر ما مجموعه 142 شاحنة محملة بالمساعدات الأممية، مقدمة من ست وكالات تابعة للأمم المتحدة إلى شمال غربي سوريا منذ الزلزال.

ووفقاً لتقييم احتياجات سريع أجرته منظمة “ريتش”، شمل 604 تجمعات في شمال غربي سوريا، تم تحديد احتياجات المأوى كأولوية قصوى بين السكان النازحين، حيث انهار العديد من المنازل في أعقاب الزلزال، وشملت الأولويات القصوى للسكان النازحين احتياجات الشتاء والاحتياجات النقدية متعددة الأغراض.

وأضاف التقييم أن 76 % من 604 تجمعات تم تقييمها تأثرت بشكل مباشر بالزلزال من حيث الأضرار وانقطاع الخدمة.

وعن الاحتياجات الإنسانية، قال التقرير إن الاحتياجات ذات الأولوية هي الآليات الثقيلة لإزالة الحطام، والإمدادات الطبية، بما في ذلك سيارات الإسعاف والأدوية، والمأوى والمواد غير الغذائية، بما في ذلك التدفئة، والغذاء في حالات الطوارئ والمساعدة في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الشخصية.

المساعدات الإنسانية

“أرقام كارثية غير مسبوقة”.. ما هي الاحتياجات الإنسانية في سوريا؟

القطاع الصحي وصل إلى نقطة الانهيار

ووفق تقديرات الأمم المتحدة، تضرر نحو 6.1 ملايين شخص من الزلزال، كما تأثر النظام الصحي، الذي وصل بالفعل إلى نقطة الانهيار بشدة، مع تضرر العديد من البنى التحتية الطبية أو تعطيلها، فضلاً عن تدمير الإمدادات الطبية والصحية الأساسية، مما ترك مقدمي الرعاية الصحية مرهقين وغير قادرين على إدارة الظروف التي تهدد الحياة”.

وفي وقت سابق، أكد فريق “منسقو استجابة سوريا” أن التقارير الأممية الصادرة مؤخراً تُظهر وجود “أرقام كارثية وغير مسبوقة” وصلت إليها الاحتياجات الإنسانية في سوريا خلال العام الماضي.

وأوضح الفريق، في بيان له، أن أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية ارتفعت إلى 15.3 مليون نسمة، في نسبة هي الأعلى منذ العام 2011، بزيادة 700 ألف نسمة عن العام الماضي، حيث تظهر الأرقام وجود 50.8 % من المحتاجين بدرجة شديدة، و18.2 % منهم بدرجة شديدة للغاية، و0.5 % بدرجة كارثية.

—————————–

إخفاق أممي برسم القتل/صبا مدور

في صيف عام 1995 هاجمت قوات صربية مدينة سربرنيتشا البوسنية،، وقتلت نحو عشرة آلاف رجل وامرأة وطفل في مجزرة مروعة تحت عين الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بحماية البلدة. ظلت تلك المجزرة مثالا تاريخيا صارخا على عجز وتخاذل وفشل المنظمة الدولية، حتى جاء التعامل المخزي للمنظمة الأممية مع الزلزال المدمر في شمال غربي سوريا، ليضيف فصلا آخر من الفشل إلى سجل المنظمة الأممية.

مشكلة الأمم المتحدة لم تكن بسبب قلة الموارد، أو ضعف الإمكانيات، بل في غياب الرؤية، والتجاهل المروع لأوضاع السوريين، والأخطر من ذلك ذهاب هذه المنظمة إلى مقاربات أكثر إيلاما من الزلزال ذاته بدعوى إغاثة المنكوبين، فعمد المسؤولون الأمميون بعد نحو أسبوع كامل من المماطلة، واختلاق الذرائع، ليضعوا إمكانية الحلول بيد نظام دمشق، دون أي اعتبار لمسؤوليته المباشرة عن الجرائم والأوضاع التي جعلت من الزلزال بهذا التأثير المأساوي.

لقد كشفت التداعيات الإنسانية للزلزال عن الوضع الشاذ للقضية السورية على الأجندة الدولية، فهي رغم فداحة ما تسببه من خسائر وأوضاع كارثية للملايين، غابت عن الاهتمام الدولي منذ سنوات، بل ولم تعد أصلا جزءا من عناوين الأخبار، ولا من انشغالات رجال الإعلام، حتى جاءت الكارثة الحالية، لتعيد إنتاج مشاهد تسبب بها قصف قوات النظام أو القوات الروسية أو الإيرانية.

جاءت مشاهد الدمار التي أحدثها الزلزال، ليست بعيدة عن نفس الأثر الذي كان يحدثه قصف المدن الثائرة، سواء بالأبنية المهدمة، أو دفن الأحياء تحت الأنقاض، أو صعوبات الإنقاذ وانتشال أحياء من تحت الركام، بل إن مئات الهزات الارتدادية التي أعاقت عمليات الإنقاذ، أو دمرت ما تصدع من الزلزال، كانت تشبه بدورها، عمليات القصف التي كانت تستهدف المنقذين، كي لا يكونوا موجودين في المرات التالية، فيزيد عدد الضحايا، وتنهار معنويات الناس.

ووسط هذا التماثل المروع بين قسوة الطبيعة، وجرائم النظام، بدا عجز العالم، أو ربما تكاسله، عنصر الشبه الأكثر إيلاما، فهو كان بطيئا بشكل مستفز في التعامل مع كارثة الزلزال، فتدرجت الأمم المتحدة في أعذارها من محاولة (تقييم الوضع) إلى (تهيئة الموارد) قبل أن تقف أمام تدمير الطريق المؤدي إلى معبر باب الهوى على الحدود مع تركيا، لتتذرع بانتظار إصلاح الطريق، وهي تدرك أن تركيا المنشغلة بكل طاقتها في إغاثة الملايين من سكانها، قد لا تكون في وارد التعامل مع ذلك الأمر بالسرعة الكافية.

كانت الأمم المتحدة مخيبة للآمال، وفشلت في إمداد المنقذين في شمال غربي سوريا حتى بالمعاول، لم تقدم أي مساعدة خلال الأيام الأولى الحاسمة، وحينما دخلت المساعدات أخيرا، تبين أنها كانت جزءا من مواد المساعدات المقررة والمجدولة سابقا بموجب القرار 2642 وكانت محتجزة في تركيا بسبب الزلزال، وليست مواد إغاثية عاجلة، ولم تتضمن أيا مما تتطلبه عمليات الإنقاذ، أو الاحتياجات الطارئة للسكان بسبب الزلزال.

الأخطر من ذلك، أن الموظفين الأمميين الذين زاروا سوريا تعمدوا البدء من المناطق الخاضعة للنظام، ورهنوا زيارة المناطق المحررة وإدخال المساعدات لها بموافقة رئيس النظام، وهم بذلك لم يضيعوا فقط وقتا ثمينا تسبب بوفاة مزيد من العالقين تحت الركام، بل إنهم منحوا نظاما مارقا ومعزولا بموجب القرارات الدولية، فرصة لم يكن يحلم بها، لادعاء الشرعية والتباهي بالسيطرة، والظهور بمظهر من يمنح ويمنع، ليبدو وكأنه يوفر تسهيلات لمساعدة من هم أصلا من بين ضحاياه، وقد اقترف بحقهم أضعاف ما سببه الزلزال من جرائم متعمدة.

هذا السلوك الأممي جاء أكثر إيلاما من العجز والفشل عن المسارعة في الإغاثة، ولولا مواقف بعض الدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، ربما لصدر من مجلس الأمن ما ينتهك به قراراته السابقة التي تدين الأسد ونظامه بجرائم ضد السوريين.

وحسنا فعلت منظمات الإغاثة على الأرض حينما أصدرت بيانا يرفض أي مساعدات ترد إلى المناطق المحررة من بوابات يسيطر عليها النظام، أو يوافق عليها، فتلك ستكون مساعدات مضرجة بالإذلال، والتشفي، وهو ما رفضه الشعب السوري من قبل، ودفع من أجله تكاليف وتضحيات أكبر بكثير من تداعيات زلزال مدمر.

الأمر الآخر الجدير بالاهتمام أن جزءا ملموسا من الدمار الذي حاق بالمدن المحررة، وحجم الخسائر البشرية فيها، ناجم عن انعدام الاهتمام الدولي بالقضية السورية منذ سنوات، وعدم محاولة تخطي الفشل في إيجاد حل سياسي ناجز وعادل، أو تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، والاكتفاء بالتعامل مع الأزمة السورية على أنها مجرد قضية لاجئين يمكن حلها بإيصال مساعدات غذائية تكفي لمنع المجاعة وتداعياتها على المنطقة والغرب، حتى جاء الزلزال ليكشف أن الامر أكبر بكثير من ذلك.

تلك البنية التحتية المتهالكة والمتصدعة أصلا في شمال غربي سوريا بسبب القصف، والكثافة السكانية الضخمة في مناطق جاءها النازحون من كل أنحاء سوريا، من غير أفق لعودتهم سالمين لمدنهم وقراهم في سياق حل دائم للأمة، وتعايش الأمم المتحدة ومؤسساتها مع وضع يعيش فيه ملايين السكان في سجن كبير، جعل آثار الزلزال قاسية ومدمرة وترك الناس بلا قدرة على إنقاذ أهاليهم أو توفير الرعاية للناجين.

ما يحتاج له المنكوبون اليوم، لم يعد الغذاء والدواء أو معدات الإنقاذ فقط، بل التوقف فورا عن التواصل مع النظام، وتعزيز آليات عزله، ومراجعة أوضاع المناطق المحررة من خلال المعارضة وممثليها. بل البدء بمراجعة الإخفاق في حل القضية السورية، وإيجاد مناخ لحياة طبيعية لهذا البلد، حيث يمكن لشعبه أن يتوفر على حياة كريمة وقدرة على دعم نفسه وتلقي العون حيث يتطلب الأمر دون ذرائع كل هدفها تغطية الفشل.

صبا مدور

تلفزيون سوريا

——————————–

استثمار الزلزال سياسياً/ فواز حداد

دار في الأسبوع الماضي جدل بعد مطالبة النظام برفع العقوبات، لتسهيل عمليات دعم المنكوبين وعمليات الإنفاذ، الناجمة عن كارثة الزلزال. لم تكن سلسلة العقوبات الدولية التي بدأت عقب حدث ٢٠١١ إلا للحد من قدرة النظام على تمويل الجيش العقائدي ورديفه من ميليشيات الشبيحة، المتورطين في قمع المظاهرات بالقناصة والأسلحة الثقيلة، ولم يقصروا بالمجازر. وإذا كانت روسيا وإيران دعموا النظام، فقد كان تركيزهم أيضاً على عدم تحميله المسؤولية عن التدهور الاقتصادي المطرد، وذلك بإحالتها إلى تأثير العقوبات، وبحسب تعبيرهم، كانت العامل الوحيد في سوء أحوال السوريين المعاشية.

ليس صحيحا أن العقوبات لم تحرز تأثيرا على البلد والناس، فقد أدت إلى الانهيار المتواصل لليرة السورية، ولعبت دورا في التراجع الحثيث عن الإنفاق الحكومي إلى حد توقفه، لكن المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة لم تتوقف في مناطق النظام، الذي احتكر توزيعها، وكان انتقائياً ومجحفاً، ومنع وصولها إلى المناطق الخاضعة لسلطة المعارضة، مع ملاحظة عمليات فساد موثقة داخل عمليات شراء المواد المطلوبة.

في أزمة كارثة الزلزال، كان الانطباع الغالب، لدى معظم السوريين في مناطق النظام، عدم الثقة بالمسؤولين عن توزيع المساعدات، كانت مناصبهم تخولهم سرقتها، فتقتطع منها القسم الأكبر ليباع في الأسواق، هذا بعد اقتطاع النظام القسم الأعظم منها، ما عرّض المساعدات لسلسلة متواصلة من النهب.

في كارثة الزلزال، نشط الأفراد ودعوا إلى تنظيم مبادرات أهلية تعمل على جمع المعونات وتوزيعها. وكان في تدفق المساعدات بكميات كبيرة، ما يعِدُ بحصول المتضررين على قدر منها يكفل مساعدتهم على العيش، لكن إلى متى، في حال الأزمة المعيشية أصلا كانت لا تحتمل؟

أظهر السوريون في الداخل والخارج تعاضدا وتماسكا، وقدرا من التضحية والإنسانية يفوق التصور والأمثلة كثيرة، فالمتطوعون في عمليات الإنقاذ، يعملون في اليوم أكثر من ١٢ ساعة، لا يتوقفون إلا ليأخذوا سويعات من الراحة، أو ليشربوا الماء، ويأكلوا ما يسد الرمق، لكن غالبا ليمسحوا دموعهم. عادت الكارثة تجمع بين أغلبية السوريين، على الضد من العصابة الحاكمة التي خشيت من سعي الناس إلى ما يوحدهم.

على مدار الأيام الأولى للكارثة، كانت الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي في تصاعد من يوم إلى يوم، مع التشكيك بأهلية النظام، تأكدت لدى زيارة الرئيس إلى حلب والتقاط صور تذكارية مع ركام ما خلفه الزلزال من خراب، وكانت جولة للتشفي بالمنكوبين، أشفعها بالضحك وتوزيع الابتسامات، وتصفيق رجال المخابرات حوله.

ما أوصل الناس إلى اليقين في عدم الثقة بالنظام، أنه في حال رفعت العقوبات ألا ترتد عليهم إلا بالعنف، فالمنكوبون كانوا من ضحاياه، كيف يمد يده لأناس حاول إبادتهم بمختلف أنواع الأسلحة حتى بالكيماوي؟ أما الذين في الداخل فبالتضييق على وسائل عيشهم. كان هذا انطباع جهات دولية، فلم يكن هناك تأييد لرفع العقوبات. 

بيد أن نهاية هذا الجدل الذي لم يكتمل، كان في الإعلان المفاجئ لمدير منظمة الصحة العالمية عن أن الأسد، أبدى استعداداً للنظر في فتح مزيد من المعابر الحدودية لإيصال المساعدة إلى ضحايا الزلزال في شمال غربي سوريا الواقع تحت سيطرة المعارضة. كان هذا الإعلان تحت ضغط الأميركان وكثير من الدول الأعضاء في مجلس الأمن من أجل اتخاذ قرار يسمح بفتح مزيد من المعابر على الحدود التركية – السورية، لإيصال قوافل المعونات الملحة لملايين السوريين المنكوبين. كان الضغط الروسي قد أفلح في إجبار الاسد على السماح بفتح المعابر، ولم يكن من أجل السوريين ولا لدوافع إنسانية، بل لئلا تتعرض روسيا إلى انتقادات دولية، في حال مانعت القرار في مجلس الأمن.

لم يتأخر النظام عن استغلال فتح المعابر في الاستفادة من الأزمة لكسر حالة العزلة، وبلغ به التبجح حد مطالبة الأمم المتحدة بإعادة إعمار ما دمرته براميله المتفجرة وصواريخه من دون محاسبة.

لا يمكن تصور حجم الكارثة، طالما في كل يوم ينكشف قدر كبير من الدمار والضحايا، المواقع المتضررة كانت أكثر من أن تحصى، فغازي عنتاب التي احتوت على أكبر نسبة من السوريين غدت مدينة أشباح، آلاف البنايات مدمرة، ومن دون كهرباء، الباقون من سكانها، ينامون رغم البرد الشديد، في السيارات والمدارس والحدائق. في بلدة جيندريس المدمرة تماما، تم انتشال 850 جثة على الأقل خلال يومين، وما زال المئات في عداد المفقودين، وهناك تحت الركام من يمكن إنقاذه. وليس حال غيرهما من المدن التركية والسورية بأفضل، وربما كان أسوأ.

بعد أكثر من أسبوع، وعلى الرغم من الاستمرار بإنقاذ ناجين، تجاوزت حصيلة القتلى 37 ألفاً حتى كتابة هذا المقال، فالرقم مرشح للزيادة. كما أن أكثر من 5 ملايين تشرّدوا في سوريا، “وهو رقم ضخم لدى شعب يعاني أساساً من نزوح جماعي” بحسب تصريح ممثلة مفوضية الأمم المتحدة للاجئين خلال مؤتمر صحفي عقد في جنيف.

يصعب مقارنة وضع اللاجئين السوريين، فالنظام ما زال يطاردهم حتى في محنتهم، ولا يتورع إذا سنحت له الفرصة على الانقضاض عليهم، ولم يخف ارتياحه من الزلزال المدمر الذي وفر عليه وعلى شركائه الروسي والإيراني، قتل السوريين بالآلاف وتشريد خمسة ملايين. هذا عدا ما عاناه السوريون في تركيا من ضغوط بسبب موجة العداء ضدهم، والتعهد بترحيلهم طوعيا إلى بلادهم، بينما يجري ترحيلهم بالقوة. أما السوريون الذين نجحوا في عبور الحدود، بحسب مراقبين، فهم الذين أعيدوا إلى عائلاتهم جثثا هامدة.

تلفزيون سوريا

——————————

الكائن السوري بمناسبة الزلزال/ أحمد البرهو

على مستويات الوجود الإنساني الثلاثة: “الطبيعيّة والمدنيّة والسياسيّة” جرى بناء الدول الحديثة والأفكار والمفاهيم والقيم اللاحقة، وفي حين لا تهمل الدول الديمقراطية سيادة الأرض؛ لكنها تميل إلى سيادة الإنسان أكثر فيما تميل الدول والثقافات الأخرى إلى سيادة الأرض وتشترك الأنظمة الاستبداديّة بمزاودتها تجاه سيادة غير الإنسان كأرض الوطن، أو القضيّة المُقدّسة!

وفيما تقوم الدول والثقافات الليبراليّة على جملة حقوق إنسانيّة طبيعيّة تم تطويرها لتكون “حقوقاً مدنيّة” يمكن حتى لأعتى محاربي حقوق الإنسان التمتع بها ما إن ينال جنسيّة تلك الدّول؛ ظل الإنسان الشرق أوسطي -ما عدا تركيا- مواطناً قيد اختبار مواطنته من قبل الأنظمة أو إنساناً مشكوكاً بمدنيّته بحسب تصورات المستشرقين!

عند الحديث عن “حق” لابد دائما من تصور جهة ما يترتب عليها “واجب” وفي حين أن الحق الإنساني يتطور إلى حق مدني فإنّ مهمة الدولة -في الدول الديمقراطيّة- تتجسّد في تلبية ذلك الحق كواجب على الدولة؛ والدولة تنتمي بطبيعة الحال إلى المنظومة العالميّة مدنيّا ثمّ سياسيّا.

تحمي المنظومة السياسيّة العالميّة الإنسان بصفته مواطناً لدولة ما عضو في الأمم المتحدة؛ وتحمي منظمات حقوق الإنسان ذلك المواطن في حال تعرضت حقوقه المدنيّة للإساءة حتى من قبل دولته؛ وفي حال انهارت خدمات الدولة ولم تعد قادرة على تلبية تلك الحقوق المدنيّة لمواطنيها فإنّ منظمات حقوق الإنسان العالميّة تسعى لتقديم الحدّ الأدنى من تلك الحقوق المدنيّة بوصفها “حقوق إنسان”!

منذ اليوم الأول لحلول كارثة “زلزال الشمال والساحل السوري وجنوب تركيا” خرج الرئيس التركي ليطلب المساعدة الإنسانيّة من كل الدول بغض النظر عن الحالة السياسيّة، وحين يطالب رئيس منتخب لدولة ديمقراطيّة بالمساعدة فهو لا يستجدي، بل يطلب حقّا إنسانيّا لمجموع مواطنيه؛ وفي السياق ذاته فقد زار وزير خارجيّة -مؤخّرا- اليونان تركيا وأعرب عن الوقوف بجانب الحكومة التركيّة لمساعدة المنكوبين رغم “خصومة البلدين”.

رغم تسميّة الصفائح التكتونيّة بالعربيّة والأناضوليّة فإنّ الزّلزال كارثة طبيعيّة لا تميّز بين مواطن تركي وبين سوريين مقيمين؛ كما لا تميّز بين حدود وسيادات الدول الحديثة؛ وفيما أنّ مصاب المواطن التركي أليم ويستحق كلّ التعاطف الإنساني والرّسمي معه فإنّ مصاب الكائن السوريين مضاعف!

في تركيا نسمي أنفسنا -نحن السوريين- لاجئين؛ وفئة من الإخوة الأتراك الذين لديهم تصور معين تجاه التراث يسمّونا “مجازا” بالمهاجرين في إشارة إلى العلاقة بين “المهاجرين والأنصار” في التراث الديني؛ إلّا أنّ مفاهيم الدولة التركيّة الوطنيّة الحديثة تعرّف المهاجر بطريقة أخرى!

 بحسب دراسة منشورة عام 2021 لمركز استشاري قانوني “عرسان شن” فإنّ مفاهيم المدنيّة التركيّة الحديثة تستند إلى مصدرين لتعريف المهاجر:

1- تاريخ الدولة الحديثة وارتباط مفهوم المهاجر بالأتراك المنتمين عِرقا ولغة إلى تركيا لكنّهم يقيمون في بلد آخر، ومنهم السكّان الأتراك الذين تم تبادلهم مع اليونان إبّان ترسيم الحدود بين البلدين عام 1923.

2- الاتفاقيات الدوليّة الخاصّة باللجوء والتي وقّعت عليها الحكومة التركيّة حيث تعترف باللاجئ القادم من جهة الغرب فقط!

أما اللّاجئ المشروط الذي ينتظر إعادة توطينه في دولة ثالثة فهو الذي يلجأ بصفة فرديّة وهذا لا ينطبق مرّة أخرى على تدفّقنا الجماعي كسوريين إلى تركيا؛ ورغم صدور قانون الحماية المؤقّتة فإنّ مفهوم “المؤقّت” يعني أنّ على السوريين العودة لأنّ “الحرب الأهليّة” انتهت بحسب نصائح المركز الاستشاري ذاته للدولة التركيّة!

ليس من اللائق الحديث هنا عن الفرق بين ثورة ومعارضة ونظام؛ لكن تكفي الإشارة إلى أنّ انزياح المفاهيم العالمية تجاه ثورة السوريين إلى اعتبارها “حربا أهليّة” أفرز خللا مضاعفا: إذ أتاح للنظام القاتل إمكانيّة تزوير تمثيل الدولة السوريّة الغائبة عن أي تأثير إيجابي تجاه حقوق السوريين؛ كما منح قوى الأمر الواقع كذلك بعض الشرعيّة باعتبارهم “ممثلي” الحرب الأهليّة!

حتى المناكفات السياسيّة في تركيا بين حكومة العدالة والتنمية وبين الأحزاب المعارضة يمكن أن تصب في مجملها في صالح التنافس على تلبية الحقوق المدنيّة لمجموع المواطنين الأتراك؛ أو الحقوق الإنسانيّة على أقل تقدير للمصابين والمتضرّرين جراء كارثة الزّلزال ومن ثمّ كسب مشروعيّة تمثيله السّياسي؛ بالمقابل فإنّ تعدد المعارضات السوريّة المقابلة لحكومة بشار الأسد لا يمنح السوريين المعنى ذاته!

عوضا عن الحكومة التركيّة الواحدة يمكننا الحديث عن أربع حكومات سوريّة تحتلّ التمثيل السّياسي للسوريين، ويمكننا فهم مدى شرعيّة أي من تلك الحكومات بتسليط الضوء على توجه العمل السياسي لتلك الحكومات وهل يصبّ في الدفاع عن الحقوق المدنيّة للسوريين أو حتّى لفئة منهم؟!

ثمّ وفي حال حدوث كارثة إنسانيّة: هل النداءات الإنسانيّة لطلب المعونة قائمة على اعتراف محلّي بحقوق الإنسان؟!

إن كان الجواب: “نعم” فإنّ السوريين -في الداخل خاصّة- ينعمون في ظلّ أربعة أنظمة ديمقراطيّة؛ وإن كان: “لا” فلعلّنا كسوريين منكوبين جرّاء الزلزال سنشترك مع نداء مبعوث الاتحاد الأوروبي لحكومة نظام الأسد -ولسواها بالمناسبة- بالقول: لقد سلبتمونا تمثيلنا السياسي ولم تعترفوا بحقوقنا المدنيّة فنطلب إليكم أخيرا “عدم تسييس قضيّة المساعدات” لأنّها إنسانيّة!.

من قبل الزلزال وبذريعة “السيادة الوطنيّة” تبتز حكومة نظام الأسد المجتمع الدولي لجني مكاسب سياسيّة على حساب حقوق الإنسان السوري، وما الحملة التي يشنّها أتباعه لرفع العقوبات عن النظام إلّا استثمار في المنحى ذاته!

حكومة أو “إدارة” شرق الفرات تمارس السياسة أيضا بإرسال مساعدات باسمها كجهة شرعيّة فيما عينها على إدانة تركيا أكثر من عينها على إمكانيّة وصول المساعدات؛ أمّا حكومة عبد الرحمن مصطفى فترفض المساعدات بنصف الفم وتطمئن العالم إلى أنّ الحدود التركيّة مفتوحة لإيصال المساعدات بنصف الفم الآخر؛ فيما حكومة الإنقاذ تستقبل وفدا أمميا لبّى “دعوة من إدارة الشؤون السّياسيّة” في اليوم الثامن لكارثة الزلزال لتنسيق العمل الإنساني خلال الأيام القادمة؛ وفي سعير الحراك السياسي، غير المجدي للسوريين، ظل السوريون يقاومون كارثتي الزلزال والبرد بأنفسهم!

للإنسان التركي المنكوب -هوّن الله عليه- دولة تعمل بكامل طاقتها للتخفيف عنه إنّ لم يكن على مستوى الحقوق المدنيّة فعلى مستوى الحقوق الإنسانيّة؛ بالمقابل يظل الإنسان السوري غير المواطن في بلده وغير اللاجئ في دول الجوار وغير المعترف بإنسانيّته حتّى اللحظة صاحب الألم الحي مضاعفاً مرّات عديدة!

ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ البرد ليس “أساس كلّ علّة” كما يقول المثل الشّعبي بل إنّ كارثتنا كسوريين قبل الزلزال وفي أثنائه تتمحور حول عدم وجودنا السياسي والقانوني، ولعلّنا لا نبالغ أيضاً إذا زعمنا أنّ كارثة الزلزال على فجاعتها هي كارثة طبيعيّة يمكن أن تحدث لأي شعب لكنّ كارثة غياب صوت شعب كامل ما يزال ينفرد بها السوريّون دون غيرهم!

وحدت كارثة الزلزال بين ألم السوريين والأتراك من جهة؛ لكنّها كشفت الفارق الكبير بين أن تكون مواطنا وبين أن لا يكون لك وطن؛ وكشفت أيضا عن تضامن شعب سوري قادر على إثبات طبيعته سوريّة خيّرة ما تزال تنبض بالحياة تحت أنقاض الشعارات السياسيّة التي تخدم قوى الأمر الواقع والدول الداعمة لها لكنّها لا تخدم السوريين لا في حقوقهم المدنيّة ولا حتّى الإنسانيّة!

تلفزيون سوريا

————————–

دبلوماسية الزلازل.. هل تعيد تأهيل الأسد؟/ عبدالجبار جواش

في السادس من شباط الحالي استفاق السكان في جنوب تركيا وشمال سوريا على زلزالين عنيفين خلفا كارثة وصفها خبراء بأنها الأكبر في المنطقة منذ قرن، ومع حجم الدمار العمراني الهائل الذي خلف مئات الألوف من القتلى والمصابين والمشردين يمكننا القول بأننا أمام نكبة سيمتد تأثيرها اجتماعيا واقتصاديا ربما لعشرات السنين القادمة.

في الجانب السياسي لهذه الكارثة.. فغالبا ما تفتح أزمات كهذه المجال لنشاط إنساني محمل بأبعاد سياسية تكون بمثابة إعادة برمجة للعلاقات البينية المتوترة بين الدول، فالعامل العاطفي والإنساني هنا يتكثف مجمدا خلافات الماضي وفاتحا الباب لانتهاز الفرص وتدفئة الأجواء السياسية، وهذا ما بدا واضحا في الموقف اليوناني من تركيا عقب الزلزال، والذي قابلته أنقرة بالكثير من الإيجابية والرغبة بردم الهوة بين الجارين إذ اتسمت علاقتهما في الماضي بالتوتر المستمر، بسبب الكثير من القضايا الخلافية التي وصلت في بعض الأوقات إلى ما يشبه التحشيد العسكري وإعلان الحرب بين الطرفين.

هذا ما يكون عليه الحال في الدول الطبيعية ذات الأنظمة السياسية المتسقة والمقبولة دوليا، ولكن في الحيز السوري مما أصابه الزلزال فنحن اليوم أمام نظام سياسي منبوذ ومقاطع دوليا ومعاقب اقتصاديا، جعل بعض الدول تخفي رغبتها في إعادة تطبيع العلاقات معه أو تكتفي بالمحاولات الخجولة في وصله خوفا من أن تتأثر سلبا بحكم العقوبات المفروضة عليه.

لكن حدوث الزلزال وما خلفه من دمار في الأنفس والعمران كان بمثابة مدخل لتلك الدول لتتجرأ ومن باب الإنسانية على مد يدها للأسد عبر زيارات دبلوماسية، عنوانها التضامن والعزاء وهذا حال دولة الإمارات والتي دائما ما تظهر ودها للأسد في كل الكوارث التي تحل بسوريا، في محاولة غير مفهومة سياسيا منها للسباحة عكس التيار الدولي، والإصرار على التطبيع مع الأسد، لتأتي كارثة الزلزال المدمر اليوم جالبة معها كارثة سياسية لا تقل أهمية عن كوارثه البشرية والاجتماعية، والتي تتمثل بوصول عبد الله بن زايد وزير الخارجية الإمارتي إلى دمشق ولقائه بشار الأسد في زيارة عنونت بالإنسانية، لكنها تخفي رغبة أبو ظبي المتكررة في تعويم الأسد وإعادته إلى محيطه العربي، مغلقة بذلك الباب بشكل نهائي على آخر ما تبقى من ثورات الربيع العربي، مما لا شك فيه فإن خطوة الإمارات هذه غير مفاجئة خصوصا أن الوزير ذاته زار الأسد أكثر من مرة على مدار أقل من عام.

زيارة بن زايد يبدو أنها فتحت شهية دول أخرى كانت تخفي رغبتها بمصافحة الأسد، وهنا نقصد المملكة الأردنية التي اكتفت فيما مضى، وعلى مدار أكثر من عام بسياسة الاتصالات الخجولة بين رأسي النظامين، في محاولة للمملكة لإعادة علاقتها بنظام الأسد والتي كانت غالبا ما يكبحها الموقف الغربي الصارم من نظام الأسد، وبعض المواقف العربية التي باتت معروفة كالموقف السعودي والقطري، حتى أتى الزلزال كما أسلفنا سابقا لتحط طائرة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بنفس سيناريو وعنوان سلفه ونظيره الإماراتي.

في سوريا.. الزلازل لا تهدم البيوت وتقتل الآلاف وتشرد الملايين فقط، بل إنها تبني أيضا، لكن هنا ميدانها السياسة حيث يبدو أن كارثة الزلزال بدأت بإعادة بناء علاقات نظام الأسد مع جواره العربي، ممن رأوا في الزلزال خير مناسبة لمصافحة الأسد، حتى باتت طائرات وزراء الخارجية تشغل مدارج مطار دمشق بدلا من طائرات السلاح والميليشيات من كل حدب وصوب، فكيف ستتطور الأمور في دمشق وهل ستتمكن المشاعر الإنسانية والتضامن من كسر قيود الأسد المدان بجرائم ضد الإنسانية؟ وهل سيتمكن الزلزال الهادم من إعادة إعمار نظام الأسد سياسيا   أما السؤال الأهم فهو من سيكون الزائر التالي؟

تلفزيون سوريا

————————-

كيف يستغل النظام السوري مأساة الزلزال سياسياً واقتصادياً؟/ حسن الشاغل

ضرب زلزال مزدوج في 6 فبراير/ شباط الجاري عدداً من المدن التركية ومناطق شمال غرب سوريا (حلب، إدلب، واللاذقية)، وبلغت قوة الأول 7.7 درجات، بينما بلغت قوة الثاني 7.6 درجات، إضافة إلى مئات الهزات الارتدادية العنيفة ما خلف خسائر كبيرة بالأرواح والممتلكات في البلدين، ومنذ وقوع الزلزال توالت المساعدات الدولية لمساندة تركيا، وأرسلت أكثر من 99 دولة حول العالم المساعدات العينية، كما أرسلت بعض الدول فرق إنقاذ للمساهمة في عمليات الإنقاذ في المناطق التي ضربها الزلزال. أما في سوريا فقد وصلت المساعدات  التي أرسلتها كل من (الإمارات العربية المتحدة، السودان، ليبيا، العراق، إيران، مصر، سلطنة عمان، البحرين، الجزائر، تونس، الاردن، السعودية) إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام السوري في دمشق، ولم يصل أي منها في الأيام الست الأولى إلى المناطق الأكثر تضرراً والتي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية، حتى دخلت في اليوم السابع مساعدات قادمة من المملكة العربية السعودية ودولة قطر، وكان لتأخر المساعدات أثر كبير في عدم القدرة على متابعة عمليات البحث والإنقاذ بسبب عدم توفر الامكانيات، إلا أن فرق “الخوذ البيضاء” بإمكانياتها المتواضعة قامت بمجهودات جبارة في سبيل إنقاذ الناس لما تمتلكه من خبرة في هذا المجال بحكم خبرتها في التعامل مع عمليات القصف التي طالت المدنيين والتي مارسها النظام على مناطق المعارضة منذ أكثر من عشر سنوات.

أما النظام السوري فقد عمل على استغلال حادثة الزلزال طمعا في تحقيق مكاسب على الصعيد السياسي والاقتصادي مستغلاً عدداً من العوامل التي نناقشها في سطور هذه المقالة.

على الصعيد السياسي

قدم النظام في دمشق طلب المساعدات رسمياً من دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة تداعيات الزلزال كما يدعي، على الرغم من أن المناطق التي تحت سيطرته أقل تضرراً من تداعيات الزلزال من مناطق سيطرة المعارضة.

وقد توالت الاتصالات مع النظام السوري للتعزية بضحايا الزلزال، فبالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة والجزائر اللتين تصنفا من أصدقاء النظام، قام الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” بالاتصال لأول مرة منذ توليه الحكم ببشار الأسد لتعزيته بضحايا الزلزال فضلا عن إرسال المساعدات، ويعد هذا الاتصال أول خرق في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 2011. كما أعلن الرئيس التونسي “قيس سعيد” بعد إرساله المساعدات إلى النظام عن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا. وتلقى الأسد اتصالا من ملك البحرين “حمد بن عيسى آل خليفة”، وهو أول اتصال منذ عام 2011 بين البلدين، كما أرسلت المملكة العربية السعودية مساعدات طبية إلى مطار حلب الدولي في بادرة هي الأولى من نوعها منذ عام 2011، وأخيراً قام وزير الخارجية الأردني بزيارة رسمية للنظام السوري، كما قام عدد من رؤساء المنظمات الدولية بزيارة إلى سوريا للاطلاع على الأضرار التي خلفها الزلزال.

سيعمل النظام على استغلال أزمة الزلزال في سبيل تحقيق أكبر فائدة للخروج من العزلة الدولية، عبر فتح طرق دبلوماسية من شأنها أن تسرع من عملية تطبيع بعض الدول لعلاقاتهم معه مثل مصر وتونس والبحرين الذين كانوا ينتظرون الفرصة المواتية. وسيحاول النظام المحافظة على قنوات التواصل الدبلوماسية مفتوحة مع الدول العربية المحيطة بفتح قنوات التعاون على الصعيد الإنساني طمعاً منه في تحقيق تطور في المستقبل القريب، وموافقة النظام على طلب الأمم المتحدة في فتح معبر باب السلامة ومعبر الراعي والموافقة على استقبال المساعدات السعودية في مطار حلب الدولي هي جزء من استراتيجية استغلال الأزمة، حيث يحاول التظاهر أمام دول المنطقة بإحداث نوع من التغيير الإيجابي في سياساته تجاه الشعب السوري بأنه يسعى لإيصال المساعدات إلى السوريين في مناطق المعارضة رغم خلافه معهم، كما يريد أن يوصل رسالة للنظام الدولي بأنه الجهة الأكثر موثوقية لإدارة ملف المساعدات الإنسانية في سوريا، وكل ذلك في سبيل الضغط على المجتمع الدولي لرفع العقوبات المفروضة عليه بحجة مواجهة تداعيات الزلزال في كل مناطق سوريا.

على الصعيد الاقتصادي

يعاني النظام السوري في الأشهر الأخيرة من أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل كبير، فضلاً عن أزمة محروقات خانقة عطلت البلاد. وقد تشكل المساعدات الدولية المقدمة للنظام فرصة مواتية لدعم نفوذه وتمكين قبضته وتحسين الوضع الاقتصادي.

قُدمت المساعدات الدولية على طريقتين للنظام السوري، الأول بشكل مباشر، حيث أرسلت الإمارات العربية المتحدة مساعدات مالية بلغت قيمتها 50 مليار دولار، وأرسل العراق قافلة من مشتقات النفط، وأعلنت الجزائر عن تقديمها 30 مليون دولار، فضلاً عن العديد من المساعدات الطبية والغذائية التي قدمتها العديد من الدول. أما الثاني فعبر المساعدات الأممية، وهنا يحاول النظام الضغط على المنظمات الدولية لإدخال كل المساعدات العينية والمالية عن طريقه، حيث يفرض على المنظمات الدولية أن يقوم هو بإدارة ملف المساعدات عبر منظمات سورية يسيطر عليها، فضلاً عن إجبارهم على تصريف الدولار في البنك المركزي وبسعر مخفض عن السعر الحقيقي للسوق، وقد أعلنت الأمم المتحدة عن تقديم 25 مليون دولار، بينما قدم الاتحاد الأوروبي 7 ملايين دولار، وهذه المساعدات تصنف كدعم إضافي للمساعدات التي توفرها المنظمات الدولية لسوريا والتي ترسل بشكل دوري. كما رفعت الولايات المتحدة الأميركية العقوبات لمدة 6 أشهر عن كل ما يتعلق بإرسال المساعدات (المالية والعينية) المتعلقة بأضرار الزلزال إلى سوريا، وهذا القرار من شأنه أن يسمح للعديد من داعمي النظام بإرسال الأموال له بادعاء أنها مساعدات.

بعد دخول المساعدات المالية إلى سوريا قد نشهد تحسناً في أداء الاقتصاد السوري على مستوى تحسن قيمة سعر صرف الليرة بفضل دخول النقد الأجنبي إلى البنك المركزي، فضلا عن حل جزء من مشكلة تأمين المحروقات بعد دخول قوافل من مشتقات النفط ومن المحتمل أن يستمر دخول مثل هذه القوافل على المدى القريب.

في النتيجة يطمح النظام السوري لتحقيق أكبر فائدة ممكنة من أحداث الزلزال، من أجل تسريع مسارات التطبيع مع دول المحيط العربي، ولابد من الإشارة إلى أنه ليست كل الدول التي ساعدت النظام قد تذهب إلى تطبيع العلاقات معه مثل السعودية. كما يسعى النظام لاستغلال أزمة الزلزال عبر الضغط على المجتمع الدولي من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليه، سيحقق النظام مكاسب اقتصادية بعد استحواذه على المساعدات الدولية المالية والعينية مما قد يحسن من مؤشرات الأداء الاقتصادي للبلاد.

تلفزيون سوريا

———————————–

المعابر تحت رحمة النظام السوري: استغلال لتحقيق مكاسب سياسية/ عدنان أحمد

بعد إعلان الأمم المتحدة موافقة النظام السوري على إدخال مساعدات إنسانية عبر معبرين حدوديين مع تركيا إضافة إلى معبر باب الهوى، دخلت أول قافلة مساعدات أممية إلى سورية من معبر باب السلامة صباح الأول من أمس الأربعاء، لمساعدة متضرري الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا.

ويأتي ذلك بعد انتقادات وجهتها جهات عدة لتباطؤ الأمم المتحدة في مساعدة المتضررين من الزلزال في الشمال السوري، وهو ما أثار الجدل مجدداً حول المعابر التي تربط الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة مع تركيا، وسعي نظام بشار الأسد المحموم للسيطرة عليها أو إغلاقها.

وتعد هذه القافلة هي الأولى من نوعها التي تدخل من غير معبر باب الهوى منذ ثلاث سنوات، وذلك نتيجة تعطيل روسيا إدخال مساعدات دولية من المعابر الأخرى في مجلس الأمن، بغية الضغط على المجتمع الدولي لتوجيه أي مساعدات إلى سورية عبر مناطق سيطرة النظام، ليكون هو المتحكّم في توزيعها.

وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت، الاثنين الماضي، أنه بات من الممكن إيصال المساعدات إلى شمال غربي سورية عبر معبرين حدوديين إضافيين مع تركيا، بعد إبلاغها موافقة نظام الأسد على فتح هذين المعبرين لمدة ثلاثة أشهر فقط. والمعبران المقصودان هما باب السلامة والراعي بريف حلب، علماً أن النظام لا يسيطر على هذين المعبرين، ويقعان تحت سيطرة المعارضة السورية، التي تدير أغلب المعابر على الحدود السورية- التركية.

وعقد مجلس الأمن الدولي، الاثنين الماضي، جلسة خاصة لمناقشة تسريع تقديم المساعدات للمناطق المنكوبة في شمال غرب سورية، بينما زار وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، مدينة حلب لتقييم أضرار الزلزال في سورية، قبل أن يلتقي رئيس النظام بشار الأسد.

وخلال جلسة مجلس الأمن، رفض مندوبا روسيا والنظام السوري جهود بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لاستصدار قرار من المجلس يقضي بفتح دائم لمعبري باب السلامة والراعي لدخول المساعدات الإنسانية، ووافقا فقط على فتح مؤقت لثلاثة أشهر.

استهجان لسلوك الأمم المتحدة

وانتقد مدير منظمة الدفاع المدني السورية (الخوذ البيضاء) التي تتولى عمليات الإنقاذ في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، رائد الصالح، قرار الأمم المتحدة الذي منح الأسد حق الموافقة على إيصال المساعدات عبر المعابر الحدودية مع تركيا، واعتبر أنه قدّم له “مكاسب سياسية مجانية”.

وقال الصالح لوكالة “رويترز” إنّ “هذا أمر صادم ونحن في حيرة من تصرفات الأمم المتحدة”. وأعلن أن شحنات كبيرة من المساعدات من قطر والسعودية بدأت بالوصول إلى شمال غربي سورية قبل وصول مساعدات الأمم المتحدة، وقال إن تلك المساعدات “ستحدث فرقاً كبيراً لأنها تدخل مباشرة”.

كما رأى الأمين العام للائتلاف الوطني السوري هيثم رحمة أن الخطوات التي تسير بها الأمم المتحدة لإيصال المساعدات إلى سورية “تثبت انحيازها إلى نظام الأسد من دون الاكتراث بأرواح ضحايا الزلزال”. وأضاف في بيان نقله موقع الائتلاف أن “انتظار موافقة مجرم الحرب بشار الأسد لدخول المساعدات إلى منطقة منكوبة لا يسيطر عليها يعد استغلالاً سياسياً للمساعدات الإنسانية في سبيل إعادة تدوير مجرم الكيماوي والبراميل المتفجرة”.

وقال رحمة: “في الوقت الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة فتح المعابر لـ3 أشهر، فقد أعلنا أن المعابر التي نسيطر عليها مفتوحة بشكل دائم”، معتبراً أن “انتظار الإذن من مجرم الحرب حتى تدخل المساعدات إلى المناطق المحررة يعدّ خطأ قانونياً، لأن مناطق المعابر تحت سيطرة قوى الثورة والمعارضة، وهي المخولة في القرار لا نظام الأسد”.

من الناحية القانونية، رأت “هيئة القانونيين السوريين” أن نظام الأسد “يستغل كارثة الزلزال للحصول على مكاسب سياسية ومادية على أشلاء السوريين، تسانده في ذلك الأمم المتحدة والدول الداعمة للنظام منذ بداية الثورة السورية”. وقالت الهيئة في بيانٍ لها إن “القانون الدولي العام والإنساني يحظر حرمان السكان من الحصول على الإمدادات الضرورية لحياتهم، ويضمن حقهم في تلقي المساعدات الإنسانية والمواد الطبية والغذائية والملابس”.

تعطيل المعابر من جانب روسيا والنظام

وكانت الأمم المتحدة قد اعتمدت عام 2014 آلية لتوزيع المساعدات التي تقدّمها جهات ومنظمات دولية إلى السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام عبر 4 معابر، تشرف المنظمة الدولية على عملية توزيع المساعدات التي تدخل من خلالها عبر مكتبها لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).

وهذه المعابر هي: باب الهوى، وباب السلامة، ونقطة الرمثا عبر الأردن، ونقطة اليعربية عبر العراق. ولكن روسيا والصين أحبطتا الجهود الدولية لإدخال المساعدات من خلال هذه المعابر في أوقات متتابعة، إذ استخدمتا حق النقض في مجلس الأمن منتصف العام الماضي ضد مشروع قرار بتمديد التفويض الدولي للأمم المتحدة بإدخال المساعدات إلى سورية من دون إذن النظام عبر معبر باب السلامة، آخر المعابر التي ظلت مفتوحة إلى جانب معبر باب الهوى. وبقي باب الهوى الوحيد المفتوح قبل الزلزال، ويجرى التصويت دورياً كل 6 أشهر لتمديد فتحه.

كما يرتبط الشمال السوري بمعابر أخرى، مثل الحمام الذي افتتحته تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018 بعد انتزاعها السيطرة على منطقة عفرين من قبضة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومعبر الراعي الذي افتتحته “الحكومة السورية المؤقتة” المدعومة من تركيا في ديسمبر/كانون الأول 2017 أمام المدنيين وحركة التجارة، بعد أسابيع من تسلمها إدارة معبر باب السلامة من فصائل المعارضة.

وهذان المعبران لم يُستخدما في عمليات الأمم المتحدة الإنسانية عبر الحدود منذ عام 2020، عندما استخدمت كل من روسيا والصين حق الفيتو ضد مساعي الأمم المتحدة الرامية إلى إبقاء المعبرين مفتوحين لتوصيل المعونات الإنسانية.

وتحاول موسكو استخدام ورقة المعابر في الشمال السوري لتعزيز موقف نظام الأسد السياسي، ودعمه اقتصادياً، وتُقدَّر قيمة الأموال المتدفقة عبر المساعدات بمئات ملايين الدولارات سنوياً، ويريد النظام الاستحواذ عليها، بدعوى “حقه السيادي” في السيطرة على كل المعابر، وإغلاق ما يعتبره معابر غير شرعية تسيطر عليها فصائل المعارضة أو القوى الأخرى مثل “قسد”.

وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد ذكرت، في تقرير سابق لها، أن النظام السوري وضع “إطاراً سياسياً وقانونياً يسمح له باستغلال المساعدات الإنسانية وتمويل إعادة الإعمار لخدمة مصالحه، ومعاقبة من ينظر إليهم على أنهم معارضون، وإفادة الموالين”. وأكدت المنظمة تلاعب النظام بتوزيع المساعدات الإنسانية بطريقة تصبّ في مصلحته مباشرة، وليس إيصالها للسوريين المحتاجين.

المساعدات عبر الخطوط

ومقابل مقاومة الجهود الدولية لتثبيت فتح أكثر من معبر في الشمال السوري، تدفع روسيا والنظام السوري لتسويق دخول المساعدات “عبر الخطوط”، أي من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سورية، بالسعي لافتتاح المعابر بين المنطقتين وفق الاقتراح الذي كانت تقدمت به روسيا منذ مارس/آذار الماضي، والذي قضى بفتح معابر في مناطق سراقب وميزنار شرقي إدلب، ومعبر أبو الزندين شمالي حلب.

ويقع معبر ميزناز معارة النعسان في بلدة معارة النعسان في الأجزاء الشمالية من محافظة إدلب، ويربط مناطق سيطرة النظام مع المناطق التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، وهو مغلق اليوم. وكذلك معبر سراقب الذي يقع في الأجزاء الجنوبية-الشرقية من إدلب، بالقرب من طريق حلب-اللاذقية الدولي “إم 4” ذي الأهمية الاستراتيجية. أما معبر أبو الزندين فيقع إلى الشرق من مدينة الباب في الجزء الشرقي من محافظة حلب، ويعد معبراً تجارياً ومعبراً تمر خلاله المعونات الإنسانية بين مناطق النظام والمعارضة.

وقال الباحث الاقتصادي في مركز “جسور” للدراسات خالد تركاوي، في حديث مع “العربي الجديد”، إن النظام السوري يستفيد اقتصادياً بشكل كبير من فتح المعابر مع مناطق سيطرة المعارضة، إذ تساعده على توفير السلع باعتبار أنها ترتبط جغرافياً مع تركيا.

وأشار إلى أن الحركة التجارية بين مناطق الشمال السوري والجانب التركي تجاوزت قيمتها ملياري دولار، ويصل كثير من تلك السلع إلى مناطق سيطرة النظام الذي يضطر لاستيراد السلع من أماكن بعيدة عنه، مثل روسيا أو الصين أو إيران، ما يرفع تكلفتها كثيراً. وأضاف أن فتح المعابر يتيح إدخال السلع إلى مناطق النظام، خصوصاً القمح والزيوت والخضار، فضلاً عن الفوائد السياسية من وراء فتح هذه المعابر.

وكان النظام قد أعلن منذ الأيام الأولى للزلزال عزمه إدخال مساعدات عبر الخطوط من معبر سراقب في إدلب، لكن “هيئة تحرير الشام” رفضت التعاون في ذلك، ما دعا إلى إلغاء هذه العملية.

———————————-

معركة الأسد اليائسة: الزّلزال وسيلة لرفع العقوبات/ عبدالوهاب بدرخان

كل الكوارث الطبيعية تضع العالم في اختبارات عدّة، منها التحدّي العلمي لتشخيص ما يحصل واكتشاف أي وسيلة لاستباقه، ومنها الواجب الإنساني المباشر الذي يحاول أن يلبّيه بحسب الاحتياجات المعلنة من جانب البلد المنكوب، ومن دون أي اعتبارات سياسية. هذا ما حصل في الإقبال على مساعدة تركيا رغم الجدل الذي تثيره شخصية رجب طيب أردوغان وسياساته، فالمعيار الأساسي للحظة هو المساهمة في إنقاذ الأرواح وتأكيد التضامن الدولي. لكن الأمر اختلف مع سوريا، بسبب بشار الأسد وأداء نظامه، من لحظة الزلزال وخلال الأيام التي تلته.

كان الفارق كبيراً بين وجود أردوغان في مناطق مركز الزلزال بعد يوم من حدوثه، إذ بدا واجماً مهموماً محاولاً الإجابة عما يتوقعه مواطنوه منه، وزيارة رئيس النظام لحلب إحدى المناطق الأكثر تضرّراً، إذ كان الأسد ضاحكاً ومقبلاً على التقاط صور “السيلفي” مع المحتشدين كما لو أنه في رحلة سياحية، وكان جاهزاً لثرثرته المعتادة عن “الصمود والمواجهة والتمسّك بالقيم والمبادئ والسيادة” وليس عن واجبات “دولته” في مواجهة الكارثة. وعلى ذكر “السيادة” فقد سبقه “والي حلب” الإيراني إسماعيل قآني إلى تفقّد المنطقة.

لا بد أن أردوغان استشعر مع الزلزال اهتزاز عهده وربما نهايته، مع اقتراب انتخابات حرجة له ولحزبه، فالصدمة والأحزان وتشرّد ملايين الناس يمكن أن تغيّر أمزجة الناخبين تجاهه حتى لو لم يكن له أو لحزبه ذنب في غضب الأرض. ولا يستطيع الرئيس التركي الحالي نسيان أن زلزالاً في 1999 تسبّب، بين عناصر أخرى، بإنهاء عهد رئيس سابق هو بولنت أجاويد. ومع ذلك كان واضحاً لدى أردوغان وأركان حكومته، منذ اللحظة الأولى، أن الأولوية الراهنة هي لتجنيد كل الإمكانات في مواجهة الكارثة وانعكاساتها على اقتصاد كان مترنّحاً، ومن ثمّ التهيّؤ لتحديات ما بعدها، فحتى لو سلّموا بأن “قدريةً” ما ضربت تركيا وعطّلت جانباً كبيراً من البنية التحتية الضرورية لعمليات الإنقاذ والإغاثة، تبقى هناك واجبات على الدولة وينبغي أن تكون على مستواها. لكنها، مع ذلك، في حاجة إلى مساعدات خارجية.

في سوريا كانت هناك ثلاث مشكلات رئيسية في التعامل مع الكارثة: نقص الإمكانات اللوجستية، نقص الإرادة عند النظام، ونقص/ أو بالأحرى انعدام الوسائل في مناطق المعارضة. ولما كانت الأيام الأولى بعد الزلزال هي المحكّ في إنقاذ الأرواح، فإن الوضع الإنساني واجه حقيقة أن البلد بشطريه وظّف كل شيء في الاقتتال وكان واقعياً في كارثة، ثم وجد أن عليه أن يتعامل مع كارثة مستجدّة بهذه الضخامة. في مناطق النظام تساءل المواطنون خصوصاً عن ضعف الاستجابة للحدث، فهناك معدّات لدى قوات النظام لم تظهر، وهناك هيئات، مثل “مؤسسة العرين” التي تشرف عليها أسماء الأسد (حلّت محل “مؤسسة البستان” لرامي مخلوف)، أبلغت المراجعين في جبلة وريف حماة واللاذقية (مناطق علوية متضرّرة) أن ليس لديها ما تقدّمه “بسبب العقوبات”. أما في مناطق المعارضة التي حرص الطيران الروسي والنظامي طوال أعوام على تدمير مستشفياتها ومراكزها الطبّية، فلم يترك لـ”الخوذ البيضاء” سوى أيدي مسعفيها وجهدهم البشري بلا أي معدّات مساعدة في انتشال العالقين تحت الأنقاض.

اهتم إعلام النظام بإبراز الاتصالات العربية التي تلقاها الأسد للتعزية والإبلاغ عن مساعدات آتية، أكثر مما سلّط الضوء على معاناة الناس. لم تعنِ التعزية شيئاً للأسد، ولا المساعدات، إذ كان يترقّب اتصالات أخرى من دول تعزّز “شرعيته”. لم يعلن الحداد، لم يرَ لزاماً أن عليه (أو حتى على مستشارته ذاتها) أن يخرج بخطاب مختلف، ولم يؤذن للحكومة إلا بعد أيام بإصدار بيان عن وجود “مناطق منكوبة”، إذ كان المنطق السائد أن البلد منكوب أصلاً ولو من دون اعتراف النظام، وأن موت الآلاف تحت الأنقاض إنما يضاف إلى قائمة الموت المتزايدة منذ اثني عشر عاماً، وأن الناس “تعوّدوا”، بل إن العالم اعتاد على أن سوريا أرض للموت.

لم يُضِع النظام وقته بل بنت حلقته الضيقة، منذ اللحظات الأولى، خطة لاستغلال الزلزال كـ”فرصة ذهبية” للتخلّص من العقوبات، فالحجّة الجاهزة، والمحقّة (؟)، أن الكارثة تجبّ ما قبلها، وأن الزلزال قدرٌ لكن العقوبات سلاح سياسي يجب أن يُرفع وإلا فإن فارضيها يصبحون مسؤولين عن تفاقم الكارثة. تناسى النظام الأسباب التي فرضت العقوبات لأجلها، أما المجتمع الدولي فلم ينسَ. حاول إعلام النظام، بمؤازرة من هيئات كنسية مسيحية، وبيانات لدكاكين سياسية لبنانية تابعة له مباشرة أو للمحور الإيراني، تكبير صورة مفادها أن العقوبات تمنعه من إنقاذ الأرواح وإغاثة المتضرّرين. أيقن المعنيون في الخارج سريعاً أن نظام الأسد مصممٌ على تسييس الزلزال، لكنهم كانوا يعلمون أيضاً أنه من جهة لم يبذل قدراته كما فعلت أنقرة، ومن جهة أخرى يضغط لإعادة تعويم نفسه. هذا لم يمنع الاتحاد الأوروبي ثم الإدارة الأميركية من إصدار تذكير بأن العقوبات تتضمّن استثناءات تسهّل التعامل مع الأوضاع الإنسانية ولو بشروط.

بكثير من الصعوبة وبعد مفاوضات طويلة وافق النظام على أن يتولّى الصليب الأحمر الدولي مع الهلال الأحمر السوري تنسيق أعمال الإغاثة للمناطق السورية كافة، ريثما تتمكن منظمات الأمم المتحدة من استكمال بناء قدراتها. غير أن ما أراده الأسد فعلاً جاء في تصريحات رجل الأعمال رئيس الهلال الأحمر خالد حبوباتي الذي عرض زيارة لندن وواشنطن للتعاقد على مساعدات وفتح صفحة جديدة خارج العقوبات. لم تُستجب هذه المبادرة بل إن وسائل التواصل الاجتماعي المحلية كانت لاذعة في التذكير بأن “الهلال” مؤسسة تابعة للنظام، كما في انتقاده رئيسها ودعوته إلى أن يتهيّب الحدث الجلل وأن يبادر مثلاً إلى إلغاء احتفالات “عيد فالنتين” في فندقه الدمشقي المعروف.

لم تتأخر أجهزة النظام بإعلان “الانتصار” و”كسر العقوبات” بعد  صدور الاستثناءات الأميركية والأوروبية التي كانت قبل الزلزال وبعده تتيح شراء كل ما يلزم لأعمال الإغاثة والطبابة، إلا أنها تمنع إقحام أشخاص أو كيانات واقعة تحت العقوبات من إبرام أي عقود. لكن الخارجية السورية ما لبثت أن أعلنت أن هذه الاستثناءات “مضلّلة”، ورغم أن وزيرها اعترف سابقاً بأن العقوبات لا تشمل معالجة الأوضاع الإنسانية، إلا أن التعليمات كانت تقضي بالتركيز على رفع العقوبات لإنعاش النظام. لم يتحقق هذا الهدف، ولو أن النظام انتهز المصاب الزلزالي لتغيير خطابه وسلوكه لأمكن التفكير في مراجعة العقوبات. ما حصل هو العكس، إذ النظام أظهر حقيقته. 

النهار العربي

—————————

آثار كارثة الزلزال على السوريين في كلّ من سورية وتركيا

مقدمة:

فجر الاثنين 6 شباط/ فبراير 2023، ضرب زلزالان شديدان متتابعان مناطق جنوب تركيا وشمال غربي سورية، كان مركز أشدّهما في ولاية قهرمان مرعش التركية، على عمق 12 كيلومترًا، وبلغت شدّته 7.8 درجة على مقياس ريختر، وكان الثاني أخفّ منه قليلًا وضرب ولاية غازي عينتاب، وقد تبعهما هزات ارتدادية كثيرة تتفاوت درجاتها، ممّا خلّف دمارًا هائلًا طال في تركيا عشر ولايات، ودمّر عشرات آلاف المنازل. وطال أربع محافظات سورية، وتسبب في دمار آلاف المنازل فيها أيضًا. أما على مستوى الضحايا البشرية، فقد بلغ عددهم حتى الآن (15 شباط/ فبراير 2023)، في حصيلة غير نهائية، قرابة 38 ألفًا، أكثر من 36 ألفًا منهم في تركيا، بينهم 3841 لاجئًا سوريًا في تركيا، إضافة إلى 2157 ضحية في مناطق سيطرة الجيش الوطني، شمال غربي سورية، و321 ضحية في مناطق سيطرة النظام، في حلب واللاذقية، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان[1]، وخلّف الزلزالان عشرات آلاف الجرحى، وهذه الحصائل مرشّحة للازدياد.

ما يمكن الوقوف عنده هو ضعف الاستجابة الأممية والدولية، لتقديم المساعدات الضرورية لمثل هذه الحالات في وقتها المناسب، والأولوية القصوى للاحتياجات إلى المعدّات والتقنيات والخبرات اللازمة لانتشال الأحياء من تحت الأنقاض في الأيام الأولى، وكذلك الفرق المتخصصة والفرق الطبية، ثم تأتي بقية المستلزمات الأخرى في مجال الإيواء والصحة والغذاء. وفي حالة نادرة، إزاء الكوارث الطبيعية التي لم يخلُ منها تاريخ دولة، وحيال كارثة تعدّ واحدة من أكبر الكوارث منذ قرن، نظرًا لحجم المآسي التي خلفتها، كان الأسوأ أن تخضع مآسي البشر ونكباتهم لعمليات تسييس وتصفية حسابات سياسية، أو تحقيق مكاسب سياسية، من دون أن يعبأ ممارسوها بحياة البشر ومآسيهم، وكثيرة هي الأطراف التي سيّست هذه الكارثة، ولكلٍّ أهدافه، ولعلّ الخوض في هذه الممارسات يكشف النقاب عن التقاعس الذي مورس على حساب الضحايا، لغايات مختلفة.

1-الأمم المتحدة

عندما يُصرّح مسؤول العمليات الأممية للشؤون الإنسانية مارتن غريفث، بالقول: “لقد خذلْنا الناس في شمال غرب سورية، حتى إنهم يشعرون بأنهم متروكون لوحدهم حين لاتصل إليهم المساعدات، وينبغي تصحيح هذا الإخفاق في أسرع وقت”[2]، فإنّ هذا يكثّف موقف المجتمع الدولي من القضية السورية، نتيجة تضارب مصالح وسياسات الدول الخمس المتحكمة في قرارات مجلس الأمن، وبخاصة الموقفين الروسي والصيني، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ فعالية المنظمة الدولية تُحددها توافقات الفاعلين فيها، وتفشي حالة البيروقراطية والفساد التي باتت تشوب سلوك وعمل موظفيها، وتعقيدات الوضع السوري، وكثرة الدول المتدخّلة، مما يُربك العمل الميداني لفرق المنظمة، وكذلك افتقار الأمم المتحدة إلى جهاز تنفيذي، متخصص بالمساعدة في مواجهة الكوارث، ووجود العديد من الكوارث التي قصّرت تجاهها الأمم المتحدة، كهايتي وراوندا وغيرهما، إلا أنّ ما يميز كارثة الزلزال الأخير أنه خضع لعملية تسييس سيّئة، مارستها الأمم المتحدة بشكل غير مباشر، نزولًا عند إرادة الدول الفاعلة فيها؛ فمجلس الأمن لم يجتمع إلا بعد اليوم الثامن للكارثة، ولم يخرج بنتيجة، وقد برّرت ذلك سفيرة مالطا، رئيسة مجلس الأمن لهذا الشهر، بالقول: “إننا نقوم بعملنا، ولا معنى لاجتماعنا من دون الحصول على المعلومات الميدانية”، وهذا يعني أنّ حجم التقصير بلغ درجة لا تُبرره تعقيدات الوضع القائم، وإنّ اكتفاء الأمين العام ومندوبيه بتوجيه الدعوات إلى كل الأطراف، من أجل تسهيل عمل فرق المنظمة، من دون أن تسمية تلك الأطراف، لهو أوضح تعبير عن العجز والتراخي.

تقول المنظمة إن المعابر كانت مغلقة، ومنها معبر (باب الهوى) المخصّص بقرار أممي لإدخال المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حتى اليوم الرابع للزلزال، وتركت المنطقة أيامًا لمصيرها، باستثناء المبادرات الأهلية المحلية أو الفردية، بدعوى تضرّر الطرق العامة، أو عدم حصولها على التصاريح اللازمة من الدول المتحكمة، أو سلطات الأمر الواقع: (روسيا، تركيا، النظام السوري، هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على معبر باب الهوى، أو المعابر من جهة النظام في محافظة إدلب)، أو أن مخازنها في الريحانية لا تكفي لما يفي بالغرض، الأمر الذي يستدعي السؤال: لماذا هي لا تفي بالغرض، ما دامت المساعدات مجدولة لمدة ستة أشهر، بغض النظر عن الزلزال؟

2-النظام

عمد النظام، منذ اللحظة الأولى للكارثة، إلى رسم الخطط لاستغلال الكارثة من أجل رفع العقوبات، كي تكون معبرًا لخروجه من حالة العزلة، فتوجّهَ إعلامه وإعلام بعض الجهات المتعاطفة معه خارج سورية، بتكثيف حملة دعائية واسعة للترويج بأنّ العقوبات تمنعه من إنقاذ الأرواح وإغاثة المنكوبين في المناطق المتضررة، وأن الولايات المتحدة ودول الغرب تستخدم العقوبات كسلاح سياسي يجب أن يُرفع، وإلا فإن الدول التي فرضتها تتحمل المسؤولية عن تفاقم الكارثة، وأن من يريد أن يساعد يجب أن يرفع العقوبات أولًا، وإلا فلا معنى لمساعدته، متعمّدًا الخلط ببين العقوبات والحصار. ومن جانب آخر، حاول الاستحواذَ على كل المساعدات القادمة عبر بواباته، بدعوى أنه الجهة الشرعية المسؤولة عن المناطق السورية كافة، وأنه سيقوم بإيصال المساعدات إلى مستحقيها، لكنه لم يفلح بذلك، وثمة شكاوى كثيرة من السوريين بسبب التقصير، ومع الأخذ بعين الاعتبار ضعف إمكانات النظام اللوجستية، التي زادت ضعفًا بفعل حربه على الشعب السوري، فإن كثيرًا من المناطق المتضررة الواقعة تحت سيطرته لم يصل إليها إلا بعد أيام، ولم تشاهد آلياته وفرقه تُسهم في عمليات الإنقاذ في الأيام الأولى، ويكفي الاستشهاد بموقفه من قافلة مساعدات (قسد) التي توجهت إلى حلب، على رمزيتها، بغض النظر عن دوافع (قسد) المسيسة، أنه اشترط تسليمه 80% منها له، مقابل أن يسمح لها بتوزيع 20%، في حيّ الشيخ مقصود ذي الغالبية الكردية في حلب.

وعلى العكس مما قام به الرئيس التركي من المتابعة المستمرة في المناطق المنكوبة، والوعد بإعادة إعمار ما تهدّم خلال عام واحد، فإن رأس النظام لم يتحرّك، ولم يُلقِ كلمة، ولم يُواسِ الضحايا، ولم يزر منطقة منكوبة، واكتفى بزيارة إلى مشفى في حلب لالتقاط بعض الصور، ولم يعلن النظام عن المناطق المنكوبة إلا بعد أربعة أيام من وقوع الزلزال، وانصبّت جهود النظام وداعميه نحو استغلال كارثة الزلزال، لتحقيق مكاسب سياسية، وخاصة في رفع العقوبات وتطبيع العلاقات معه، وقد حقّق بعض غاياته، وخاصة قرار الرئيس الأميركي بايدن تعليق بعض العقوبات لمدة ستة أشهر.

3-تركيا

تركيا هي الدولة المنكوبة التي وقع على أراضيها الجزءُ الأكبر من الدمار والضحايا، وهي التي تلقّت القسط الأكبر من المساعدات من أكثر من ثمانين دولة وهيئة، ووصل إليه تسعون فريق إنقاذ متخصص مع الفرق الطبية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ تركيا دولة ذات إمكانات كبيرة، وأن استعداداتها أكبر لمواجهة كوارث كهذه، بخاصّة أنها دولة تقع جيولوجيًا عل فالق زلزالي طالما عانت منه تركيا، وكان كثيرٌ من الضحايا في المناطق التركية المنكوبة من السوريين، إذ بلغ عددهم حتى الآن 3841 قتيلًا، وهناك عشرات آلاف الجرحى وأعداد كبيرة من المشردين، ذلك أن عدد السوريين في الولايات التركية المنكوبة يُقدّر بنحو 1.7 مليون. ولا تبدو المبرّرات التركية، في إبقاء المعابر من تركيا إلى مناطق الشمال السوري التي ضربها الزلزال مغلقة لمدة أربعة أيام، وهي الأيام الحرجة في عمليات الإنقاذ، مفهومةً بدعوى تضرّر الطرق العامة بسبب الزلزال، حيث كانت السيارات تصل محمّلة بجثامين القتلى السوريين في الزلزال، عبر هذه المعابر من الأراضي التركية، إلى داخل الشمال السوري، ويضاف إلى ذلك أن العديد من السوريين الذين شرّدهم الزلزال يشكون من أن ثمة تمييزًا ضدّهم في تقديم الإيواء للمشردين منهم، وخاصة في بعض الولايات.

ويذهب معظم المتابعين والمحللين -مع ملاحظة حالة الإرباك التي أصابت المؤسسات التركية في مواجهة الكارثة- إلى أن الحسابات الانتخابية الوشيكة كانت بوصلة تحرّك كلّ من الحكومة التركية والرئيس التركي، فهو على ما يبدو لا يريد أن يعطي فرصة للمعارضة التركية، باتهامه بأنه اهتم بالسوريين على حساب الأتراك، في حين ترى المعارضة أن من مصلحتها أن يبرز للعيان فشل الحكومة في إدارة الأزمة، وذلك لحسابات انتخابية أيضًا. وقد سجّل سوريون كثر صورًا من التعامل السلبي تجاه السوريين، في بعض البلديات التي تسيطر عليها المعارضة التركية.

في المقابل، انصبّ غضب عدد كبير من السوريين على ما يُسمى “مؤسسات المعارضة السورية”، سواء الحكومة المؤقتة أو الائتلاف الوطني السوري، بأن المؤسستين غائبتان عن كارثة الزلزال، ولم يكن لهما أيّ دور، فالمؤسستان لا تملكان إمكانيات للتدخل والمساعدة، ويؤخذ عليهما أنهما باتتا خاضعتين للإرادة التركية، ولا تختلف فصائل ما يسمى “الجيش الوطني” عن هاتين المؤسستين، حيث لم تجرؤ جميعها على إعطاء رأي بقبول أو رفض المعونات الواردة من منطقة (قسد)، على رمزيتها، والتبرير أنّ (قسد) اشترطت التصوير، وعقد مؤتمر صحفي في مكان تسليم المساعدات، بهدف الاستثمار السياسي، وأن الحكومة المؤقتة تقبل مساعدات من العشائر في منطقة (قسد)، وقد تدفقت قوافل المساعدات فعلًا من أهالي مناطق شرق الفرات في الحسكة ودير الزور والرقة.

يواجه السوريون في الولايات التركية المنكوبة، ولا سيما الذين فقدوا سكنهم، صعوبات كثيرة، وعلى الرغم من السماح لهم بالانتقال إلى ولايات أخرى للإقامة في مناطق إيواء، أو لدى أقاربهم، فإنهم يواجهون صعوبات جمّة، فحتى لو تم تأمين مساكن لهم، فهم يحتاجون إلى الدخل، بعد أن فقدوا عملهم السابق بعد انتقالهم، خاصة مع ارتفاع إيجارات المنازل نتيجة للزلزال، ويحتاجون إلى العلاج الطبي، ويحتاج أبناؤهم إلى الذهاب الى المدارس، ويحتاجون إلى معالجة مشكلة فقد وثائقهم وغيرها من جوانب حياتية، وكل هذا ما زال غير واضح كيف سيُعالج. وقد سمحت لهم الحكومة التركية بالانتقال إلى الشمال السوري لمدة ستة أشهر، ولكن السوريين متشككون في إمكانية عودة من يدخل إلى الشمال السوري، ويقيم هناك لمدة ستة أشهر.

4- الولايات المتحدة الأميركية

منذ الساعات الأولى لكارثة الزلزال، لم تتوقف التصريحات الأميركية، بأنها مستعدّة لتقديم المساعدات للمناطق المتضررة كافة، في كلٍّ من تركيا وسورية، وفعلًا وصلت بواكير المساعدات إلى قاعدة إنجرليك التركية، بزمن قياسي، ومن ضمنها فرقة إطفاء مجهزة ومتخصصة بالتعامل مع الكوارث الطبيعية، ومع تأكيدها أن كل المناطق السورية المتضررة سوف تقدّم لها المساعدات، بناءً على تقييم الاحتياجات، وأن الإدارة لن تتعامل مع حكومة الأسد، وسترسل مساعداتها إلى المدن المنكوبة في مناطق سيطرة النظام عن طريق الأمم المتحدة، وأن العقوبات لا تشمل المواد الغذائية والصحية؛ فعلى ما يبدو أنّ الإدارة الأميركية قد خضعت لضغوط النظام، أو الأطراف الموالية له كروسيا وغيرها، أو ربما لضغط لوبيات داخل أميركا، فعمدت إلى إصدار قرارها تعليق العقوبات عن النظام لمدة ستة أشهر، وتشمل الموارد المتعلقة بكارثة الزلزال، حتى حركة تحويل الأموال، وقد دفع ذلك الأمر السيناتورين الجمهوريين عضوي الكونغرس الأميركي، مايكل ماكول وجيمس ريش، إلى إصدار بيانٍ انتقدا فيه خطوة الرئيس بايدن برفع العقوبات، قالا فيه: “إن السماح بمباشرة معاملات مع نظام الأسد، باسم الإغاثة الإنسانية، كان قرارًا خاطئًا”، ووصفا الأمر بأنه “أقرب للصفعة على الوجه تم توجيهها للشعب السوري”[3]، وأضاف البيان: “إن السماح للحكومة السورية بالوصول إلى موارد، لدعم أنشطتها العسكرية، سوف يرسل رسالة سلبية للمجتمع الدولي وللسوريين، بأن رفع العقوبات يعني تراجع اجتماع المجتمع الدولي لمحاسبة حكومة دمشق، على انتهاكاتها لحقوق الإنسان والجرائم التي ارتكبتها”، ومع أن رفع العقوبات على هذا النحو لا يخدم في حالات الكوارث كثيرًا، فإن الأمر يحمل رسائل سياسية -بما أنه صدر عن الدولة القادرة على التأثير في الملف السوري- سوف تشكّل مبررًا للدول المتحمسة لإعادة التطبيع مع النظام، وإعادته إلى جامعة الدول العربية، وطيّ صفحة جرائمه بحق الشعب السوري، مما سيضيف وصمة عار إضافية إلى سجل المجتمع الدولي، الذي تجاهل مأساة الشعب السوري على مدى سنوات الصراع.

5-إيران

كانت إيران أوّلَ دولةٍ أعلنت نيّتها إرسال مساعدات إلى سورية، وفعلًا وصلت طائرتان إيرانيتان إلى مطار حلب، في اليوم الثاني للزلزال، كانتا محملتين بمساعدات غذائية وطبية، وربما تكون إيران قد استأجرت معدّات في مدينة حلب للمساعدة في إزالة الأنقاض، وترافق ذلك مع استعراضٍ دعائي حاولَت من خلاله تبيين تعاطفها مع شعبٍ، قتلَت منه ميليشياتها عشرات الآلاف من المدنيين العزّل، ودمّرَت على امتداد الجغرافيا السورية، بالاشتراك مع الروس والنظام، أضعافَ ما دمّره الزلزال، حيث كانت الكاميرات وصور قاسم سليماني تلاحق التوزيع، مع إظهار المعدّات التي ألصقت عليها الصور، والمقابلات التي نشرت وتمدح الجهد الإيراني، لكن الأسوأ هو ما توارد عن قيام الميليشيات الإيرانية، التي تسيطر على مطار حلب، بالاستيلاء على المساعدات التي قدّمتها دول أخرى، ووصلت إلى مطار حلب، كالجزائر ودولة الإمارات، ثم توزيع قسم منها على أنها إيرانية، وبيع القسم الآخر في الأسواق. وكذلك افتتحت القنصلية الإيرانية في حلب، كجزء من عمل دعائي، بضعة مراكز إيواء في الجوامع والحسينات الشيعية، وقد ظهرت صور لإسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وهو يتفقّد المناطق المنكوبة في حلب واللاذقية، حتى قبل الرئيس السوري، في رسالةٍ تقول إننا موجودون هنا، وإننا أصحاب قرار.

6- روسيا

مارست روسيا ضغوطًا هائلة، لمنع وصول المساعدات إلى المناطق المتضررة الخارجة عن سيطرة النظام عن طريق المعابر على الحدو التركية، طالبة تسليم المساعدات إلى النظام، كي يقوم هو بإيصالها إلى مستحقيها، ساعية بذلك إلى محاولة تعويم النظام من الباب الإنساني، بعد أن فشلت محاولاتها من الباب السياسي، وتدّعي روسيا أن ما تسمّيه “المنظمات الإرهابية”، التي تسيطر على الشمال السوري، قد تستخدم المعابر لأغراضها الخاصة، وقد منعت مجلس الأمن من إصدار أي قرار ليلة انعقاده حيال الكارثة، ولم تقبل بتجاوز آلية إيصال المساعدات بالسماح بفتح مزيد من المعابر مع تركيا، إلا بموافقة نظام الأسد، وهو الأمر الذي لجأت إليه الأمم المتحدة فعلًا.

7- هيئة تحرير الشام:

يضاف إلى الجهات الدولية والنظام في سياق تسييس الكارثة، هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على إدلب، وعلى قسم من ريف حلب الشمالي الخارج عن سيطرة النظام، حيث تبيّن أنها تمتلك إمكانات لوجستية، ومعدات ثقيلة على قدر كبير، استخدمتها في عمليات الإنقاذ على نطاق واسع، في المناطق التي تسيطر عليها، وتديرها باسم “حكومة الإنقاذ”، من دون أن تنسّق مع الحكومة المؤقتة، التي وقفت عاجزة عن تقديم أي شيء، سوى نداءات الاستغاثة، وقد حاول الجولاني أن يقدّم نفسه للعالم، من خلال استعراضاته الكثيرة في المناطق المنكوبة التي قامت حكومته في عمليات الإنقاذ فيها، على أنّه رجل مسؤول وعلى قدر المسؤولية، تجاه الناس الذين يعتبرهم شعبه، وقد صدرت تصريحات غير رسمية، عن عناصر مسؤولة في هيئته، بأنّه لن يسمح بمرور أية قوافل مساعدات، أيًّا كانت الجهة التي أرسلتها، والدخول عبر المعابر مع مناطق النظام، بدعوى أنه “لن يسمح للنظام بالاستفادة من الكارثة، سياسيًا”.

8- التداعيات السياسية للزلزال على القضية السورية

يبدو أن حجم الكارثة التي خلّفها زلزال السادس من شباط قد يترك تداعياته على الملفّ السوري، سواء لجهة الدول المتدخلة أو المجتمع الدولي، أو لجهة التفاعلات الداخلية للشعب السوري، في شقّيه الإنساني والسياسي، وفي محاولة للبحث في إطار عمومي لتمظهر تلك التداعيات مستقبلًا، يمكن توقّع الآتي:

أ-على المستوى الإنساني

تأخرت المساهمات الأممية والدولية والتركية، من ناحية وصولها في الوقت الحرج، لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض، وهنا تكون الساعات مهمّة، أو لتقديم بقية الخدمات اللوجستية، حيث تُرك الناس لمصيرهم، خلا المبادرات المحلية والفردية، وهذا سوف يترك ندوبًا عميقة في نفوس السوريين عمومًا، وسكان المناطق المنكوبة على وجه الخصوص، لقد حُشِر ملايين الناس الذين هُجّروا من مناطق “خفض التصعيد” في تلك المناطق، لحكمةٍ لا يستوعبها إلا النظام وداعموه الروس، ممّا ضاعف الخسائر البشرية والمادية بشكل كبير. ولذلك يُتوقع أن ينال السوريون تعاطفًا واسعًا من بقية دول العالم، وسوف تزيد المساعدات، بمختلف أنواعها، إلى المناطق المتضررة، ممّا قد يُخفّف من مشاقّ الحياة عند الناجين من الكارثة، على ألا  يتولى النظام إيصالها وتوزيعها دون رقابة ومتابعة من الجهات المانحة، بما عُرف عنه من ضعف كفاءة وفساد مؤسساته وتوجيه استخدام المساعدات إلى غير مستحقيها، بما يرجّح ضرورة توجّه المانحين إلى عقد شراكات مع منظمات محلية من المجتمع المدني، في مختلف المناطق السورية، وأن تكون الجهات المانحة على دراية بتوزيع المساعدات وإيصالها إلى مستحقيها. وسيكون هذا تحديًا أمام الشعب السوري، بأن يقدّم تنظيمات مدنية قادرة على كسب ثقة الدول المانحة.

إن حجم الكارثة كبير والتعامل مع آثارها سيدوم زمنًا طويلًا، وإنّ حجم المساعدات التي قُدّمت، أو سوف تُقدّم، سيكون كبيرًا أيضًا، وهناك وعد بدعوة لمؤتمر مانحين، لمساعدة كلٍّ من تركيا وسورية في مواجهة آثار الكارثة.

وثمة نقطة مهمة برزت في هذه الكارثة، وهي تقارب السوريين وتعاطفهم المشترك في المناطق كافة، لدرجة خفّت معها حدة الاستقطابات التي باعدت بينهم، بفعل الصراع على مدى السنوات الماضية، وهذا شيء مهمّ، يمكن أن يشكل أرضيّة واعدة، يمكن البناء عليها، ولو بشكل أوّلي، وتوجيهها نحو بناء حالة وطنية مستقرة مستقبلًا، فقد برز تعاطف شعبي سوري في مختلف المناطق، مع جميع المنكوبين بمختلف المناطق، بما يتجاوز حدود مناطق السيطرة وحواجزها. وقد قُدمت مساعدات إغاثية من أهالي المناطق الشرقية إلى المناطق المنكوبة شمال غرب سورية، وقدّمت مساعدات إغاثية أيضًا من السوريين في مناطق سيطرة النظام إلى المناطق المنكوبة في حلب واللاذقية.

وقدّم الزلزال الكارثي، على ضعف فاعلية منظمات المجتمع المدني، دليلًا آخر على حيوية وروح المبادرة والتعاون لدى الشعب السوري، ذلك أن معظم عمليات الإنقاذ، في الأيام الأربعة الأولى، تمّت بمبادرات فردية، وبأدوات بدائية، أسهمت في إنقاذ مئات الناس من تحت الأنقاض، وإيصال الجرحى إلى المستشفيات، وتقديم المواد الإغاثية حسب قدرة الناس، وهنا يبرز النموذج المشرّف والمهمّ، الذي قدّمته منظمة (الخوذ البيضاء)، التي تحمّلت العبء الأكبر والمجدي، بحكم خبراتها السابقة في عمليات الإنقاذ والإغاثة والتوثيق، وروح الإقدام التي يتميز به العاملون فيها.

ب-على المستوى السياسي

عقد مجلس الأمن الدولي، مساء 13 شباط/ فبراير 2023، جلسة مغلقة، لبحث الوضع الذي نجم عن الزلزال في كل من تركيا وسورية، وفشلت الجلسة في إصدار حتى بيان تضامن، بسبب الرفض الروسي للاقتراح الفرنسي ، بحسب ما تسّرب، بأن يُصدر المجلس قرارًا تحت البند السابع، لكيفية التعامل الأممي مع الأطراف، التي تعرقل وصول المساعدات إلى المناطق المنكوبة في سورية، وفتح معابر إضافية لإيصال المساعدات الأممية، مهدّدًا باستخدام حقّ النقض، بدعوى أن هذا إجراء سيادي من حق الدولة السورية، ولا داعي لإصدار مثل هذا القرار، مما يبيّن أن موسكو ما زالت عند موقفها بتعطيل مجلس الأمن تجاه ما يخص القضية السورية، بهدف إرغام المجتمع الدولي على التعامل مع النظام السوري، وفتح بوابات التطبيع معه. ويشير حضور إسماعيل قاآني في سورية، وجولته لتفقد المناطق المنكوبة في حلب واللاذقية، إلى أنّ إيران ما زالت على موقفها، بل إنها تشدد من قبضتها على الوضع السوري، وهذا ما دعا إسرائيل إلى التهديد بأنها سوف تضرب أية قوافل تنقل أسلحة إيرانية إلى سورية تحت يافطة قوافل إغاثية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ تركيا غرقت في معالجة تداعيات كارثتها إلى أمد بعيد، مما يعني بداهة تأجيل مسار التطبيع مع النظام السوريّ، إن لم يكن قد تمّ طيّه نهائيًا، إضافة إلى موقف الولايات المتحدة وقرارها برفع العقوبات لمدة ستة أشهر، أيًا كانت دوافع ذلك القرار؛ فإننا نكون أمام حالة تدلّ على أن المواقف الدولية ومواقف الدول المتدخلة باقية على ما كانت عليه، مع إصرارها على إنفاذ استراتيجيتها في سورية، وأنّ المعادلات الحاكمة للصراع عند هذه العتبة باقية، ولم تُغيّر فيها الكارثة كثيرًا، ولذلك يُستبعد، في هذه المرحلة، توقع توفر رافعة دولية، لمبادرات تجاه الحل في سورية، أو تفعيل قرارات مجلس الأمن الدولي.

[1] ) موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان https://2u.pw/xx96TA

[2] ) موقع الجزيرة https://2u.pw/beZHRJ

[3] ) قناة الحرة https://2u.pw/HhRJJT

مركز حرمون

—————————–

“لا أحد يأتي لمساعدتنا”.. مأساة الناجين من الزلزال في جنديرس السورية

الحرة / ترجمات – دبي

دقائق بعد الزلزال، تمكن علي العيد من الخروج من منزله المنهار في بلدة جنديرس السورية التي تسيطر عليها المعارضة، لينضم إلى آلاف الناجين الآخرين الذين كانوا ينتظرون بالشوارع المليئة بالركام، وصول مساعدات لم تأت.

في الأيام الموالية، نام علي وعائلته في البرد القارس وسط أنقاض ما كان ذات يوم مسجدا، قبل أن يتمكن من تأمين إحدى الخيام القليلة من إحدى الجمعيات الخيرية المحلية، مقابل 150 دولارا دفعها إلى أحد السكان المحليين الذي يتهم من طرف عدد من قاطني البلدة بتخزين الإمدادات النادرة التي وصلت المنطقة.

واستجاب المجتمع الدولي على الفور لزلزال 6 فبراير، وأرسل مئات الملايين من الدولارات في شكل إمدادات وفرق إنقاذ متخصصة إلى جنوب تركيا المنكوبة، على بعد ساعة بالسيارة شمال جنديريس.

لكن هذه البقعة “المتخلى عنها”، لم تصلها أي مساعدات دولية لما يقرب من أسبوع بحسب الفاينانشيال تايمز، مما ترك المصابين والناجين أمام الأمر الواقع ليدبروا الوضع بأنفسهم، الأمر الذي اعتادوا فعله مرارا وتكرارا، على مدار 12 عاما الماضية، بحسب شهاداتهم.

يقول عيد: “كان يجب أن أعرف أنه لا أحد سيأتي لمساعدتنا”، “لا أحد قام بذلك على الإطلاق”.

وحوصر ما يقرب من 4 ملايين شخصا، شمال غرب محافظة إدلب، فيما يعيش حوالي مليوني شخص في مناطق خاضعة للسيطرة التركية وتعتمد بشكل كبير على دعم أنقرة، بما في ذلك سكان جنديرس، الذين يعتمدون أساسا على المساعدات الخارجية للبقاء على قيد الحياة.

واعترف مارتن غريفيث، منسق الأمم المتحدة للمساعدات، بأن المنظمة فشلت في شمال غرب سوريا، مضيفا أن من واجبه إصلاح ذلك. لكن يبقى من غير الواضح كيف يمكن أن يحدث ذلك على نطاق واسع أو بالسرعة الكافية، بحسب الفاينانشيال تايمز.

وتشير الصحيفة ذاتها إلى أن عمليات تسليم المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تعرضت لـ”التسييس” منذ بداية الحرب، ولا سيما من قبل الأسد وحليفته روسيا في مجلس الأمن.

وتابعت أن الطرفين قاما معا بتقييد تدفقات المساعدات تدريجيا، ونادرا ما أعربت الأمم المتحدة، التي تعمل في المناطق التي يسيطر عليها النظام والمعارضة، عن رفضها للوضع، والذي يقول متابعون إن ذلك ما ساعدها في الحفاظ على الوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام على حساب السكان اليائسين في الشمال الغربي.

وتمكنت صحيفة الفاينانشيال تايمز من “وصول نادر” إلى المنطقة كجزء من رحلة سهّلتها الحكومة التركية التي تسيطر على المنطقة، كاشفة أنها وجدت “الناس يتصارعون مع خسارتهم الفادحة” بعد الزلزال.

وأقام الناجون خيما في كل مكان، وسط صفوف المباني المنهارة وفي بساتين الزيتون المنتشرة في المنطقة، فيما لجأ آخرون إلى أقاربهم في مستوطنات الخيام القديمة، حيث عاشوا لسنوات.

وأشارت الصحيفة إلى أن ملابس السكان رثة بالأوساخ والغبار الذي علق بملابسهم منذ أن هرعوا إلى خارج منازلهم في الساعات الأولى من يوم 6 فبراير بعد الزلزال المدمر.

يقول محمد من حمص إنه اقترض 50 دولارا لشراء ملابس وطعام لنفسه ولرضيعه، مضيفا “ربما نُعاقب لأننا نجونا من الحرب”.. ويسأل قبل أن يبتعد “هل لديك أي حليب للأطفال؟”.

ولمدة أربعة أيام، توقفت معظم المساعدات التي تصل المناطق بسبب الأضرار التي لحقت بالمعبر بسبب الزلزال، وتحت الضغوط الدولية المكثفة، قالت الأمم المتحدة، الاثنين، إن دمشق ستفتح معبرين حدوديين آخرين، مما يسمح لعدة شاحنات بالمرور يوم الثلاثاء.

لكن سرعان ما شجب عمال الدفاع المدني في شمال غرب سوريا هذه الخطوة، واعتبروا أن الأمم المتحدة قدمت “مكسبا سياسيا مجانيا” لنظام الأسد. وفي غضون ذلك، وجدت قوافل الأمم المتحدة المرسلة عبر خطوط النظام باتجاه الشمال الغربي نفسها محاصرة من قبل مسلحي فرع سابق للقاعدة.

وكانت معظم مساعدات الأمم المتحدة التي تم إرسالها منذ الزلزال مخططة مسبقا، ولم تشمل معدات الإغاثة أو الإنقاذ في حالات الطوارئ، بحسب الصحيفة.

وشهدت فاينانشيال تايمز، جمعيات خيرية محلية توزع مساعدات، تزامنا مع بدء وصول شاحنات من إقليم كردستان العراق والسعودية وقطر، كما أرسلت وكالة الإغاثة في حالات الكوارث التركية مساعدات أيضا.

غير أن الأمور تبقى بالبلدة “فوضوية بقدر ما هي يائسة”، ويخشى السكان المحليون، من أن استمرار هذه الأوضاع يعني عدم حصولهم على ما يحتاجون من أساسيات.

وتقول ديما أبوش، التي كانت تحتمي في مكان قريب من منزلها المنهار: “يجب أن تأتي المجموعات الدولية وتوزع المساعدات”، “وإلا ، فإن الجميع هنا سيقاتلون بعضهم البعض حتى الموت للحصول على مخلفات الأغذية”.

من جانبه، يقول مقاتل لم يذكر اسمه: “ماذا تتوقع بعد 12 عاما بدون دولة؟ لقد تُركنا هنا لنتعفن إلى جانب جثث الموتى”.

الحرة

—————————–

كيف سيؤثر زلزال تركيا على الدورة الانتخابية الحالية؟/ سونر چاغاپتاي

تحليل موجز

عندما تتخطى أنقرة التحدي الأولي المتمثل في تحديد موعد للانتخابات في ظل مأساة إنسانية تفوق التصور، فستواجه موسم حملات تهيمن عليه النقاشات المتعلقة بسير جهود الإغاثة ومستوى مسؤولية الحكومة عن حصيلة القتلى المتزايدة.

سيتم تذكّر الزلزال الذي ضرب عشر مقاطعات في جنوب تركيا في 6 شباط/فبراير كأسوأ كارثة إنسانية شهدتها البلاد في التاريخ الحديث. فقد لقي أكثر من 31000 شخص حتفهم في تركيا حتى 13 شباط/فبراير، بينما أصيب ما لا يقل عن 80000 شخصاً بجراح وربما أصبح الملايين بلا مأوى، بالإضافة إلى وقوع العديد من الضحايا في سوريا المجاورة.

ويتمثل التحدي الأكثر إلحاحاً في البلاد في توفير الإغاثة لأكثر من 13 مليون مواطن يعيشون في المناطق التي تأثرت بشكل مباشر بالهزات الأرضية. ومع ذلك، ففي سياق هذه الجهود، ستواجه أنقرة تحدياً سياسياً عملياً أيضاً يتمثل بتحديد ما إذا كانت ستجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لهذا العام، ومتى ستجريها، علماً أنه يلزم إجراؤها قانوناً في 18 حزيران/يونيو أو قبل ذلك وفقاً لدستور البلاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيحاول الرئيس رجب طيب أردوغان تأجيل الانتخابات حتى هذا الموعد النهائي أو ما بعده، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي تداعيات ذلك على الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التركية؟

التحديات اللوجستية أمام إجراء الانتخابات

في 21 كانون الثاني/يناير، أي قبل أسبوعين فقط من وقوع الزلزال، أشار أردوغان إلى إمكانية إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مزدوجة في 14 أيار/مايو. ولكن الحجم الهائل للكارثة اللاحقة سيجعل من الصعب للغاية التحضير لاقتراع وطني في أقل من تسعين يوماً، حتى بغض النظر عن المعوقات الشخصية والعاطفية أمام التعامل مع المسائل الانتخابية وسط هذه المأساة.

يعيش أكثر من 15 في المائة من سكان تركيا البالغ عددهم 85 مليون نسمة في منطقة الزلزال المباشرة، حيث انهار حوالي 7000 مبنى وأصبحت عشرات آلاف المباني الأخرى غير صالحة للسكن. وينتقل العديد من الناجين إلى ملاجئ مؤقتة ومدن مؤلفة من الخيم/الحاويات وسيعاد نقلهم إلى أماكن أخرى في النهاية، بينما يغادر العديد من الآخرين المنطقة إلى أجل غير مسمى. وستخلق كل هذه الحركة والفوضى تعقيدات للمجالس الانتخابية عند إصدار بطاقات الاقتراع، من بين صعوبات أخرى. كما دمر الزلزال البنية التحتية الرئيسية في العديد من المدن الجنوبية، لا سيما أنطاكيا وكهرمان ماراس، مما يجعل من غير المحتمل عودة الحياة إلى طبيعتها في هذه المناطق لشهور، إن لم يكن لسنوات قادمة.

سيناريوهات التأجيل

وفقاً للدستور التركي، يجب إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في موعد لا يتجاوز خمس سنوات بعد الانتخابات السابقة التي أجريت في حزيران/يونيو 2018، مما أدى إلى تحديد الموعد النهائي لهذا العام في 18 حزيران/يونيو. وبما أن تاريخ 14 أيار/مايو الذي اقترحه أردوغان لم يتم تحديده رسمياً قط ونظراً لحجم أعمال الإغاثة والاستعدادات الانتخابية التي يتعين القيام بها في جنوب البلاد، فقد توافق الأحزاب السياسية على إجراء الانتخابات في وقت متأخر بقدر الإمكان، أي 18 حزيران/يونيو أو ما قبل ذلك بقليل. وهذا من شأنه أن يمنح البلاد ما يقارب 120 يوماً للاستعداد، على الرغم من أن العديد من العقبات المذكورة أعلاه ستظل قائمة.

ويسمح الدستور للحكومة مبدئياً بتأجيل الانتخابات لمدة تصل إلى عام في ظلّ ظرف واحد وهو إذا كانت البلاد في حالة حرب. ولكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح على الإطلاق في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أن علاقات أنقرة مع بعض جيرانها (خاصة اليونان) كانت متوترة في السنوات الأخيرة، إلا أن المساعدة السخية التي قدمتها هذه الدول بعد الزلازل من جميع أنحاء العالم تقريباً تُغير وجهات نظر الشعب التركي بشكل كبير. وحتى أرمينيا، التي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع أنقرة، قدمت مساعدات كبيرة.

ومن الممكن تصوّر محاولة أردوغان تأجيل الانتخابات إلى ما بعد الموعد النهائي باستخدام قبضته على المؤسسات الرئيسية مثل “المجلس الأعلى للانتخابات”، وهو الهيئة الوطنية للإشراف على الانتخابات. ففي آذار/مارس 2019، أمر أردوغان هذا المجلس بإلغاء انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي خسرها مرشحه. ووسط ضجة كبيرة، فاز مرشح المعارضة في الانتخابات التالية في حزيران/يونيو من ذلك العام، ولكن هذه المرة بهامش أوسع. ومن المؤكد أن “المجلس الأعلى للانتخابات” ليس مخولاً دستورياً بتأجيل الانتخابات الوطنية إلى ما بعد 18 حزيران/يونيو، وقد يتردد أردوغان الآن في السعي بقوة وراء هذا الخيار نظراً للمعارضة العامة الشرسة التي برزت عندما طرح حليف سابق له الفكرة في 13 شباط/فبراير. وحتى لو تجاوز الدستور بطريقة ما، فقد يكون الناخبون غاضبين بما يكفي من تحركاته المناهضة للديمقراطية لإذلاله مجدداً، كما فعلوا في حزيران/يونيو 2019.

أردوغان قد يمدد، بل قد يوسع، حالة الطوارئ

في 7 شباط/فبراير، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في المقاطعات العشر التي ضربها الزلزال، فعلّقت العديد من الحقوق والحريات من أجل تسهيل جهود الإنقاذ/الإغاثة وتمكين وكالات إنفاذ القانون من مكافحة النهب. وستنتهي حالة الطوارئ في 7 أيار/مايو، أي قبل انتخابات حزيران/يونيو المحتملة. ولكن تطورات الأيام المقبلة قد تشجع أردوغان على تمديدها.

وتشير التقارير الحالية إلى احتمال طمر عشرات الآلاف من الضحايا الإضافيين تحت الركام. ولوضع الأرقام في نصابها الصحيح، من المرجح أن تتجاوز الحصيلة النهائية للقتلى بكثير حصيلة القتلى في حرب الاستقلال التركية قبل قرن من الزمن، عندما فقد أكثر من 37000 شخص حياتهم. وعند انتهاء جهود الإنقاذ رسمياً أو بشكل أساسي في الأيام القليلة المقبلة، ستكون الحصيلة قد ارتفعت بشكل كبير، مما يترك للجمهور التركي والمجتمع الدولي الأوسع المهمة الجسيمة المتمثلة باستيعاب التداعيات الكاملة للكارثة.

وفي تلك المرحلة، سيخضع أردوغان للمزيد من التدقيق على خلفية استجابة حكومته البطيئة وغير المنسقة للزلزال. كما سيواجه انتقادات بشأن طفرة البناء الوطنية التي طبعت فترة حكمه الطويلة. فقد ظهرت العديد من الصور المقلقة من الجنوب الشرقي من البلاد منذ وقوع الكارثة، مثل تلك التي تُظهر مبانٍ سليمة تقف بجانب مبانٍ سكنية منهارة بالكامل. ولا شك في أن هذه الصور ستدفع العديد من المواطنين الأتراك إلى إثارة تساؤلات حول التقارير المنتشرة على نطاق واسع حول مخالفات قوانين البناء وانتهاكات تقسيم المناطق الحضرية المرتبطة بالفساد، فضلاً عن العلاقات الحكومية المشبوهة مع شركات البناء.

ورداً على هذه الضغوط، سيلجأ أردوغان على الأرجح إلى رواية “القوة القاهرة”، مستخدماً سيطرته على ما يقدر بـ 90 بالمائة من وسائل الإعلام التركية لإقناع المواطنين بأنه لم يكن ممكناً تجنب حصيلة القتلى المرتفعة نظراً لحجم الزلزال. وبدلاً من ذلك، أو بالإضافة إلى ذلك، قد يحاول إلقاء اللوم على شركات البناء الصغيرة، مشدداً على الإهمال الفردي لإعفاء حكومته من المسؤولية الكبرى. ففي 12 شباط/فبراير، على سبيل المثال، ألقت الشرطة القبض على العديد من المشتبه بهم “الذين تم تحديدهم كمسؤولين عن انهيار بضع آلاف من المباني”.

وقد يجد أردوغان أيضاً أنه من المناسب تمديد حالة الطوارئ في المقاطعات المتضررة من الزلزال خلال فترة الانتخابات، مما يحد بشكل كبير من حرية التجمع وتكوين الجمعيات والتعبير والإعلام لما يقرب من سدس سكان البلاد. وبالإضافة إلى القيود الوطنية المفروضة على الحرية والتي كانت حكومته قد فرضتها أساساً قبل الكارثة، فمن شأن حالة الطوارئ أن تجعل الحملة غير حرة وغير عادلة بوضوح في تلك المقاطعات العشر، مما يمنحه أفضلية في صندوق الاقتراع. وفي الأسابيع السابقة، أظهرت استطلاعات الرأي أن كتلة المعارضة المعروفة بـ “طاولة الستة” تتنافس بقوة شبه متوازية مع تحالف أردوغان، وبالتالي قد يميل أردوغان بشدة إلى قلب التوازن من خلال حالة الطوارئ. وإذا اندلعت اضطرابات أو احتجاجات على المستوى الوطني، فقد يوسع حتى حالة الطوارئ لتشمل الدولة بأكملها.

تركيا تدخل في المجهول

في الوقت الحالي، من السابق لأوانه تقييم المسار السياسي المحتمل لتركيا بعد الزلزال، نظراً لأن النطاق الكامل للدمار وعواقبه لن تتضح لبعض الوقت. ومع ذلك، إذا زاد عدد القتلى المعلن بشكل كبير في الأيام المقبلة، فقد يقلب الديناميكيات المحلية وينقل البلاد إلى مضمار سياسي مجهول. وحتى الآن، لم يعترف أردوغان علناً بهذا الخطر، بل استخدم العديد من خطاباته بعد الزلزال لتوبيخ المواطنين على خلفية نشرهم “أخبار مزيفة وتحريفات”. وفي المقابل، أصر كمال كيليتشدار أوغلو، زعيم “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، على رأيه، حيث اعترف بالمصيبة ككارثة وطنية ووعد بإنهاء الفساد الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا. وبالتالي، من المرجح أن تهيمن على الفترة التي تسبق الانتخابات نقاشات متعلقة بسير جهود الإغاثة من الزلزال، وسرد دقيق للدمار وحصيلة القتلى، ومستوى مسؤولية الحكومة عن هذه الخسائر، مع تصدي أردوغان بقوة لأي انتقاد.

سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير “برنامج الأبحاث التركية” في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب “سلطان في الخريف: أردوغان يواجه قوى لا يمكن احتواؤها في تركيا”.

—————————-

بعد الكارثة، حان دور السياسة/ مارك بييريني

ستستمر تداعيات الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية على مدى الأشهر المقبلة

في 6 شباط/فبراير، تسبّبت سلسلة من الهزّات الأرضية بالدمار والأسى لسكان سورية وتركيا، إذ لقي آلاف الأشخاص مصرعهم (فبحلول منتصف يوم 7 شباط/فبراير، قُدِّرت حصيلة القتلى بأكثر من 5,000 شخص) وساهم الدمار الواسع والطقس البارد في إحباط معنويات الناجين على نحو متزايد. ليس مفاجئًا إذًا أن ذلك كلّه زاد من احتمالات تقدّم السياسة قريبًا إلى الواجهة.

كان ردّ الفعل الأوّل تقييم مدى القوة الهائلة لهذا الزلزال. سُجِّل وقوع أضرار من شمال شرق قبرص وصولًا إلى أرضروم في شمال شرق الأناضول، وطالت الأضرار أيضًا شمال غرب سورية. يبلغ مجموع السكان في هذه المنطقة نحو 19 مليون نسمة. ومع خروج بعض المطارات من الخدمة، وتضرّر عدد كبير من الطرقات، ودمار خطوط التيار الكهربائي، وتدفّق الطلبات على خدمات الدولة والمنظمات المدنية، ووصول المساعدات الخارجية على وجه السرعة، كان محتومًا أن تتبع الكارثة فترةٌ تسودها حالةٌ قريبة من الفوضى، تفاقم أسى السكان المنكوبين ومعاناتهم. كان أمرًا جيّدًا مع ذلك أن تركيا وسورية طلبتا مساعدات خارجية، وكان من المريح رؤية الأعداد الكبيرة من فرق الإنقاذ التي وصلت للمساعدة أو هي في طريقها إلى هناك. ولكن، للأسف، سيعيش السكان على جانبَي الحدود التركية السورية مرحلةً من المشقّات المستمرة خلال الأشهر المقبلة.

مما لا شكّ فيه أن الصعوبة مضاعفةٌ في مواجهة زلزال ضرب منطقة ترزح أصلًا تحت وطأة النزاعات العسكرية. لذلك يُتوقَّع من جميع القوات العسكرية في المنطقة – الجيوش الروسية والسورية والتركية، بالإضافة إلى القوات الكردية والمناهضة للأسد – تطبيق وقف فوري لإطلاق النار بحكم الأمر الواقع، على أن يستمر طوال المدّة التي تستغرقها عمليات الإنقاذ. وينبغي أيضًا تكثيف العمليات الإنسانية عبر الحدود من تركيا إلى سورية، والتي يُسمَح بها أساسًا بموجب تفاهم برعاية الأمم المتحدة. وينبغي فتح ميناء اللاذقية ومطارها أمام العمليات الإنسانية تحت إشراف الأمم المتحدة. ولكن ذلك يتطلب مرونة من جهة الحكومتَين في دمشق وموسكو.

يقود ذلك إلى ملاحظة ثالثة عن الغُبن المحتمل في معاملة الجهات المانحة الدولية لسورية مقارنةً مع معاملتها لتركيا. فالمخاطر الناجمة عن العمليات العسكرية التي يشنّها الكثير من الأفرقاء، والأضرار التي سبق أن لحقت بالبنى التحتية الخاصة بالمواصلات وأنظمة الصرف الصحي في شمال سورية، وممارسات النظام السوري بحق شعبه على مدى اثنَي عشر عامًا من النزاع، قد تؤدّي مجتمعةً إلى تدفّق المساعدات إلى البلاد بكميات أقل من المطلوب. التمست السلطات السورية المساعدة فور وقوع الزلزال، ولكن عليها أن تتعهد الآن رسميًا بالتعاون الكامل والشفّاف مع الجهات المانحة للمساعدات، فيما ينبغي على الأمم المتحدة أن تؤدّي دور الضامن لمرور المساعدات الإنسانية بشكل آمن وتوزيعها بطريقة فعّالة.

ثمة قاسمٌ مشترك بين الدمار في سورية وتركيا. فالقواعد والمعايير المضادة للزلازل، سواءً كانت موضوعة أم لا، والتي تفرض التقيّد بمقتضيات معيّنة للحصول على تراخيص البناء، لا تُطبَّق في معظم الأحيان بسبب الفساد المستشري، والمصالح الشخصية، والمضاربات العقارية. لقد تسبب انهيار آلاف المباني، ومنها مستشفى حكومي في تركيا، بنشوب خلافٍ سياسي. وسيستغرق صنّاع السياسات وقتًا لاستخلاص العبَر وصياغة توصيات ناجعة، لكن في المدى المتوسط لن تنجو القيادة التركية على الأرجح من وابل الانتقادات الشديدة من المعارضة السياسية في البلاد ومن الجمهور العريض. يُشار إلى أن التوسّع السريع في مشاريع البنى التحتية كان في صُلب أولويات حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان طوال عشرين عامًا، وشملت هذه المشاريع بناء الكثير من الطرقات السريعة الجديدة والمطارات والمستشفيات، وترافق ذلك مع طفرة في المشاريع السكنية في المدن. لكن قد يؤدّي ذلك إلى ارتدادات عكسية تلقي بظلالها على الحزب، إذ ستُثار تساؤلات حول مدى تطبيق معايير البناء المضادة للزلازل، أو سيُشتبه بأن العقود العامة قد مُنحت إلى شبكات المحسوبية السياسية التابعة للنظام، فشيّدت مشاريع إسكان اجتماعية لا ترقى إلى المستوى المطلوب.

على ضوء ذلك، بات موعد الانتخابات التركية موضع تكهّن قد يرسم معالم المشهد السياسي التركي في الأيام المقبلة. نظرًا إلى أن الزلزال ألحق الضرر بنحو 16 مليون نسمة من أصل مجموع السكان البالغ عددهم 86 مليون نسمة، ويُرجَّح أن عشرات الآلاف باتوا الآن من دون مأوى وتبعثرت ممتلكاتهم تحت الأنقاض، بما في ذلك أوراقهم الثبوتية، فيما طال الدمار الكثير من المباني الإدارية، فهل سيكون من الممكن تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية عادلة في 14 أيار/مايو المقبل، كما هو متوقع؟

يبقى هذا السؤال مطروحًا. والأولوية هي الآن للتضامن الدولي والاستجابة الإنسانية الطارئة. لكن الهزات الارتدادية الناجمة عن الزلزال ستواصل التأثير في المشهد السياسي التركي على مدى الأشهر المقبلة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

————————————-

على هامش الإغاثة… حديث في السياسة/ سميح صعب

بديهي أن تترافق كل خطوة من الخطوات الإغاثية التي تتخذها دول عربية وأوروبية في مجال مساعدة تركيا وسوريا على التعاطي مع آثار الزلزال المدمر، مع تأويلات كثيرة تتعدى النطاق الإنساني البحت، إلى النطاق السياسي في كلا البلدين.

والأمثلة على ذلك كثيرة. نبدأ من تركيا التي ليس غريباً عليها تلقي الدعم الغربي، فإن البارز كان زيارة وزيري الخارجية اليوناني والأرميني أنقرة والحديث الذي ترافق عن ضرورة بناء السلام وتطبيع العلاقات. وللمرة الأولى منذ عام 1988 فتحت أرمينيا معبراً برياً مع تركيا لنقل المساعدات.

في سوريا، على هامش المساعدات الإغاثية، زار وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان دمشق. وإذا كانت زيارة الوزير الإماراتي ليست الأولى لسوريا، فإن زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي هي الأولى لسوريا منذ عام 2011.

وهناك الاتصال الهاتفي الأول الذي يجريه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالرئيس السوري بشار الأسد. وهناك هبوط طائرة مساعدات سعودية في مطار حلب للمرة الأولى منذ عشرة أعوام. وفي السياق ذاته قيل أن الأسد اتخذ قراراً بفتح معبرين حدوديين آخرين لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرة المعارضة للمرة الأولى أيضاً.

وتصب في هذا الاتجاه زيارة الوفد الوزاري اللبناني العاصمة السورية. تضاف إلى ذلك زيارة وفود أممية عدة دمشق بهذه الكثافة منذ اندلاع الحرب الأهلية، ناهيك بالاتصالات الهاتفية من ملوك ورؤساء عرب تلقاها الأسد للتعزية بضحايا الزلزال.

هذه الخطوات التي تندرج في الإطار البروتوكولي وتحت السقف الإنساني، تؤشر إلى بعض التحول في المواقف، وإن كان لا يزال من المبكر الحكم على المدى الذي يمكن أن تبلغه، في ضوء الفيتو الأميركي المعلن على كل تواصل سياسي من أي طرف مع دمشق.

وفي الوقت ذاته، وكي لا تظهر الولايات المتحدة بمظهر اللامبالي بأزمة إنسانية بهذا الاتساع، عمدت وزارة الخزانة إلى الإعلان عن استثناءات من العقوبات الأميركية على بعض المواد الإغاثية المرسلة إلى سوريا. الموقف الأميركي هو موقف شكلي ولم يذهب أبعد من ذلك. واللفتة الوحيدة التي أطلقتها أميركا، كانت تعليق الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس على تقارير أفادت بأن الأسد أعطى موافقته على فتح معبرين حدوديين آخرين، عندما قال إنه إذا صحت هذه الأنباء، فإن ذلك سيكون خطوة “في مصلحة الشعب السوري”.

يهم الولايات المتحدة أن لا ترفع الضغوط عن دمشق تحت أي مسوغ، ولكن يهمها في الوقت نفسه أن تتخذ وضعية المواكب للخطوات التي تتعلق بالأمور الإنسانية وأن تقيم فصلاً بين حصر الجهود بالإغاثة وليس بالانفتاح السياسي على النظام في سوريا.

وتخشى واشنطن أن تتطور الجهود الإغاثية إلى تواصل يتجاوز الطابع الإنساني إلى الحديث في السياسة. وصحيح أن أميركا لا يمكنها الاعتراض علناً على المكالمة الهاتفية بين السيسي والأسد لأنها أتت في ظرف استثنائي، لكنها تذكّر في كل مناسبة بمعارضتها التطبيع العربي مع سوريا.

حتى الآن، وقفت الولايات المتحدة بحزم ضد توجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأشهر الأخيرة، نحو إجراء مصالحة مع الأسد. وحاولت أن تغري أنقرة بصفقة مقاتلات “إف-16″ من أجل العدول عن الذهاب حتى النهاية في التطبيع مع سوريا. وهي خطوة تنظر إليها واشنطن على أنها تضعف نظام العقوبات المعروف بـ”قانون قيصر” لأنها توفر لدمشق متنفساً اقتصادياً.

والجميع يذكر كيف أحبطت واشنطن مساعي الجزائر العام الماضي، عندما سعت إلى طرح موضوع عودة سوريا إلى الجامعة العربية خلال القمة العربية، التي عقدت في العاصمة الجزائرية في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر).

الزلزال الكارثي، أربك الموقف الأميركي الذي لم يستطع القفز فوق هول المأساة، فإذا به يرسم الخطوط الحمر بين الإنساني والسياسي.

ومع ذلك، لا بد من التوقف ملياً أمام التغييرات التي طرأت على مواقف دول عربية كانت تحاذر حتى الأمس القريب التواصل مع دمشق لا من قريب أو من بعيد، خشية إثارة حفيظة الولايات المتحدة.

تنبع اللفتات الإنسانية التي اتخذتها دول عربية حيال دمشق بعد الزلزال، من كونها تحصل للمرة الأولى منذ أكثر من عقد. أما القول بأنه يمكن البناء عليها من أجل تطوير الاتصالات العربية – السورية، فربما ذاك استنتاج سابق لأوانه.

النهار العربي

—————————-

==================

16 شباط 2023

عن خُوَذٍ ناصعة البياض/ مالك داغستاني

امرأة ترتدي زي الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، تشقُّ طريقها بين مئات الرجال المدنيين الذين يراقبون ويتابعون بلهفةٍ حالة استجابةٍ، لإنقاذ وانتشال أحياء من تحت أنقاض الدمار، الذي خلّفه زلزال السادس من شباط/فبراير في شمال غربي سوريا. تتسلّم جسد طفل من زميلها المنقذ. تحضنه بين يديها وتلتفّ عائدة إلى سيارة الإسعاف، للمباشرة بعلاجه.

بدت الصورة غير مألوفة بعد سنوات طويلة من محاولات إقصاء المرأة عن العمل العام. محاولات مارستها الكثير من قوى الأمر الواقع التي تناوبت على المنطقة. لكن في حالتنا هنا، لم نلحظ أن أياً من الرجال الموجودين قد استنكر وجود هذه المرأة المتطوّعة، وسط هذا الحشد من الرجال. لم يتساءل أي أحد، ما الذي تفعله تلك المرأة هنا؟ والأغرب من ذلك أنه بدت على ملامحهم إشارات توحي بالإعجاب، وربما الفخر بشجاعتها وقوتها، لتوجد في هذا المكان خلال لحظات الخطر.

لم تكن تلك الصورة الوحيدة لمتطوعات “الخوذ البيضاء” خلال الأيام الماضية، فقد تكرر ظهور المتطوعات النساء في أكثر من مكان، مما يوحي بأن “الخوذ البيضاء” قد استعادت ووطّدت مساحة أمان لدور وعمل المرأة. ولم يكن أمراً بلا دلالة، أن نرى إحدى المتطوعات في صدر المشهد، تقف إلى جانب رائد الصالح مدير الدفاع المدني، وهو يتلو بيانه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في بلدة سرمدا، شمال غربي سوريا يوم العاشر من شباط/ فبراير، بعد أكثر من مئة ساعة على وقوع الكارثة.

وجود المرأة في مواقع الإنقاذ وفي المؤتمر الصحفي، بدا وكأنه تأكيد جديد أن منظمة “الخوذ البيضاء” أبقت على مسافة واقعية بينها وبين سلطات الأمر الواقع، ولم ترضخ لضغط المناخ العام التي حاولت تلك الجهات فرضه على النساء. والحقيقة أن المنظمة، لمن يعرفها من الداخل جيداً، وأنا ممن يدّعون ذلك، أبقت على مسافة حتى مع الجهات الداعمة، وحافظت على استقلالها، فلم تخضع لشروط أحد، سوى مدوّنة السلوك التي أقرّتها والتزمت بها منذ بداية تأسيسها عام 2013.

تؤكد المدونة على اشتراط عدم انتساب متطوعيها لأي جهة سياسية، وحين كانت تكتشف عكس ذلك، كانت تتخذ الإجراء الإداري الواجب. وإضافة إلى مراعاة المدونة لكل القوانين الدولية التي لا تجيز الانحياز في عمليات الاستجابة والإنقاذ، على أي أساس عرقي أو قومي أو ديني، فهي تؤكد على عدم استغلال مهام الإنقاذ لدعم موقف سياسي بعينه، والتأكيد على عدم العمل كأداة لأي طرف سياسي، أو لصالح أي أجندة لا تتماشى مع مهمة إنقاذ المدنيين. تعرضت المنظمة بسبب ذلك لحملات طويلة من التشويه، ليس من قبل نظام الأسد وروسيا فحسب، وهما من ذهبا إلى حد اتهام المنظمة بالإرهاب، وبالتبعية لتنظيم القاعدة، لكن أيضاً من الجهات العسكرية والسياسية السورية عندما لم تتناغم المنظمة مع توجهات تلك القوى.

خلال المؤتمر الصحفي في سرمدا بدا رائد الصالح “رجل دولة” في أقل توصيف ممكن. “أقدم اعتذاري وأسفي لكل من لم نستطع الوصول إلى أهله وذويه على قيد الحياة، في كل أنحاء سوريا. إن الألم يعتصر قلوبنا لمجرد التفكير في ذلك..” قال الرجل، ولم يستثنِ في بيانه المناطق المتضررة الخاضعة لنظام الأسد. “كنا نقاتل العجز ونحارب الزمن للوصول إليهم أحياء.. ولكننا نقسم لكم أننا عملنا وبذلنا قصارى جهدنا..”. تلا الصالح بيانه بصوت يوحي بأن كل غصص الأرض كانت تتزاحم في حنجرته. صاغ كلمته بطريقة مسؤولة وبدون أية خفّةٍ، فبدا أن البيان صادر عن جهة جديرة بالتقدير فعلاً. لم يكن هذا بسبب شخصيته المميزة فقط، بل لأنه كان يمثل وينتمي لمنظمة كانت على قدر طموح السوريين وآمالهم.

لم يدّع البيان أية بطولات زائفة، بل وأكثر من ذلك، توجه بالشكر للسوريين والمجتمعات المحلية على دعم عمل “الخوذ البيضاء” بالمال والمعدات، وحتى بالمحروقات التي قطعوها عن عوائلهم،  لتتمكن الآليات من الاستمرار بعمليات الإنقاذ. وكانت الكثير من التقارير الإخبارية تناولت مبادرة تقديم الآليات والمركبات الخاصة بدون مقابل للمساهمة في عمليات الإنقاذ. والأهم أن استمرار عمل المتطوعين في تلك الظروف الحساسة، مع نقص كبير في التمويل طال عموم منطقة شمال غربي سوريا في السنوات الأخيرة، كان منوطاً بالتبرعات الفردية والشخصية من سوريين وأفراد من مختلف أنحاء العالم خلال الكارثة.

مع قليل من التأمل في الأمر، يشعر المراقب أن فجيعة الزلزال قد كشفت عن كارثة أخرى كانت حاضرة خلال كل السنوات السابقة. فالاحترام والاحتضان الذي حازته “الخوذ البيضاء” في الأيام القليلة الماضية من السوريين، ومن دول العالم التي قدمت وعوداً بدعم مالي عاجل، كان بسبب أنها فعلت ما يمليه الضمير، وليس ما يمليه الداعم. والسؤال المرير هنا، ماذا لو أن الكيانات السياسية والعسكرية حافظت هي أيضاً، على تلك المسافة مع الداعمين، لتحوز قرارها وتبقى مستقلة تنفذ ما يمليه عليها الضمير السوري، وليس الدول المتحكّمة كما هو واقع الحال. لو فعلت ذلك، لما كنا اليوم في مكان ووضع أفضل فحسب، بل كنا رأينا العديد من الأمثلة عن مؤسسات وطنية سياسية أو عسكرية مستقلة، تدعو للفخر، وتحوز احترام بل ومحبة السوريين.

اللافت أيضاً، أن ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية مسح وقوّض كل الجهد الإعلامي الذي عمل عليه أعداء السوريين. هنا أقصد نظام الأسد وروسيا تحديداً. حملاتٌ ممولة قادتها روسيا عبر الإعلام العالمي وعبر كتاب تدفع لهم، لتقول بأن “الخوذ البيضاء” منظمة إرهابية، وأنها من نفذت بالتعاون مع جهات خارجية، الهجومات الكيماوية في سوريا. قام نظام الأسد بذات الفعل، ولكن باحترافية أقل وابتذال أكثر. بلغ به الأمر أن وظّف الدراما للقول بأن الصور عن جهود الدفاع المدني وهم ينتشلون ضحايا قصفه مع شركائه، إنما هي مجرد حالات تمثيل وخداع. ضاع كل هذا الجهد للنظام وروسيا خلال أسبوع واحد فقط، مع الصورة ناصعة البياض التي ظهرت عليه المنظمة خلال سواد وقتامة مشهد الزلزال الكارثة.

بقدر ما جاءت كارثة الزلزال كنكبة إضافية للسوريين، إلا أنها في جزء منها أظهرت حالة تعاطف عابرة لخطوط المواجهة. وأكثر من ذلك، ولجهة الخوذ البيضاء، فقد كان اختباراً نهائياً وحاسماً، لتبيان طبيعة المنظمة. “إن أنين الضحايا والعالقين تحت الأنقاض سيبقى في مسامعنا ما حيينا، لقد كان الضحايا يتلون وصاياهم لنا، ويرسلون مشاعر الفقد إلى ذويهم، وهم تحت الأنقاض قبل وفاتهم. إن هذه الرسائل ستبقى أمانة في أعناقنا”. كانت تلك الكلمات المؤثرة ختام بيان الدفاع المدني، لتعلن المنظمة بعدها بأيام، الحداد الرسمي في كل أنحاء سوريا، الأمر الذي لم يقم به لا نظام الأسد ولا أي من هياكل المعارضة الكسيحة، مع قرار بتنكيس الأعلام في كافة مراكزه ونقاطه لمدة أسبوع، إضافة لإعلانه يوم السادس من شباط من كل عام يوم حداد وطني لتخليد ذكرى ضحايا الزلزال.

استحقت تلك الخوذ ناصعة البياض هذا الاحتفاء المبهر بها، في لحظة إجماع سوريٍّ تكاد تكون نادرة. صور المتطوعين تنتشر بكثافة عالية على وسائل التواصل والمواقع. ليس أولها صورة المتطوع حسن الطلفاح وهو يساهم في الإنقاذ، مع قدمه الصناعية، بعد أن فقد ساقه بانفجار قنبلة عنقودية أثناء تنفيذه لعملية إزالة الذخائر غير المنفجرة قبل سنوات، ولا آخرها صورة مجموعة من المتطوعات وهنَّ يقفن أمام قبر زميلتهنَّ المتطوعة فاطمة الحسن التي قضت مع عائلتها تحت الهدم في بلدة جنديرس، ويعتذرن لها عن تأخرهن بسبب الانشغال بإنقاذ ضحايا الكارثة. صورٌ تحاول أن ترمم الصدع الذي نعيش فوقه وفيهِ منذ سنوات طويلة.

أما أنا، فتحضرني اليوم صورة محببة لي شخصياً، أود أن أشارككم بها. صورةٌ مضى عليها عشر سنوات تماماً. متطوعون من الأوائل، قادمون من أنحاء سوريا إلى مدينة أضنة التركية، لحضور دورة تدريبية على مبادئ الإنقاذ الاحترافي. كان من بين أولئك فتاة وشاب تزوجا قبل أيام. حسب تعبيرهما الطريف، اعتبرا الدورة إجازة من القصف والدمار، لتكون بمثابة شهر عسل. في نهاية كل يوم كانا ينهيان التدريب معفري الوجه والثياب، يكسوهما التراب من رأسهما إلى أخمص القدمين. رغم ذلك، كانا يبتسمان للكاميرا ليخلدا ذكرى أغرب شهر عسل يمكن لعروسين أن يقضياه.

تلفزيون سوريا

—————————-

صدمات/ نهلة الشهال

كُبراهنّ بالطبع هي الصدمة بالحدَث العظيم نفسه، بسقوط البنايات وكأنها من ورق، بانشقاق الأرض تدفن عشرات ألوف البشر أحياء الى أن يموتوا بالسحق أو من البرد. مأساة لا يقوى على مشاهدة صورها إلا البلداء بلادة أصيلة. بالحزن العميق على كل هؤلاء، نساء ورجالاً واطفالاً، وعلى خسارات من “نجا” وهو لم ينجُ إلا كجسد… على الدمار المريع الذي أصاب ما يملكه الناس بينما لا يرضى واحدنا أن يفقد حتى قطعة نقود صغيرة تقع من جيبه، ويعتبر كل ما بحوزته من الأشياء ثميناً غالياً على قلبه.

وفيما يثرثر بشار الاسد مبتسماً عن تضامن سوريا التاريخي مع الجزائر، في شكر فريق الإنقاذ الجزائري الذي “صادفه” في حلب – وقد وصلها بعد ستة أيام على الكارثة، بعدما “ضمنتْ” مخابراته المحيط وهندست كل اللقاءات – تسأل نفسك عما إذا كان الرجل يتعمد البلاهة، أم هو يتشفَّى – وهذا سيكون أفضل لأنه على الأقل موقف، لا إنساني صحيح، كما وصف هو نفسه الغرب، وإنما موقف محسوب. لماذا لا يُمثّل؟ لماذا لا يرتدي قناع التفجع او الأسى على الأقل؟ ولمن يظن أن في ذلك مجرد انحياز مذهبي، نستدعي مدينة جبلة الصغيرة والمختلطة مذهبياً، على الرغم من أن معظم ضحاياها من العلويين (مع الاعتذار عن هذه الفجاجة في التعبير)، وهو لم يجد ما يوجب عليه زيارتها، أو زيارة اللاذقية التي تعرضت هي الأخرى لأذى الزلزال مع انهيار بناية هائلة سُمح لمتعهدها ببنائها في العام الماضي على أرضٍ زراعية بالغة الرطوبة في “المشروع العاشر”. هو مجرم صحيح، قال في معرض جوابه على تشريد نصف الشعب السوري، أن من بقي هو “سوريا النافعة”، في محاكاة مخجلة تماماً لقولٍ سبقه إليه الجنرال الفرنسي ليوتي، المستعمِر الذي غزا المغرب، هذا إذا لم نذكر الأرقام المهولة لضحايا القصف التدميري الذي قام به هو وحلفاؤه لمدن سوريا وقراها، ومئات ألوف المعتقلين الذين تعرض قسم كبير منهم إلى تعذيب يفوق الخيال، وصولاً إلى الموت. لكن ذلك كان في إطار الصراع السياسي، وأما الزلزال فشأن آخر.

الصدمة الكبيرة الثالثة تخص بعض الضحايا، وبالأخص احتفاء بعض الناس بهؤلاء: يتكرر أنها لم ترضَ أن تخرج من تحت الانقاض بلا منديل “يستر” شعرها، لم ترضَ أن يمسها رجال الإنقاذ وأشارت إليهم بأنها بخير، طلب الرجل المسن ماء للوضوء وهو ما زال بين الأنقاض… وهكذا. ماذا أيها القوم المحتفِلون بهذه الظواهر، هل تدفعون الناس إلى الكفر؟ هل تظنون أنها تقوى تثير الاعجاب؟ لعله سيكون صادماً القول: إنما هو استدعاء لعري في غير محله، للخيال البورنوغرافي، الشائع كثيراً في العالم وفي بقاعنا كذلك، وربما بشدة أكبر (بحيث أن النصوص التي تحكي عن الجنس مثلا تحصد قراءات بأرقام مذهلة)!

الصدمة الرابعة تخص هؤلاء الذين يُحمّلون الله تبعات الزلزال. عقوبة أو تذكيراً بالآخرة، متعاملين معه وكأنه عز وجل، بشرٌ مثلهم، بجنوحاتهم وقسوتهم وانتقاماتهم، متّبعين مفهوماً بدائياً للإيمان، على مقاس عقولهم، وكأن المسألة أذان وقداديس وطقوس لعلها أُهملت، وليست أن غاية الدين المعاملة أي الارتقاء بالإنسان وبعلاقته بأخيه، سلوكاً وأحاسيس، ذاك الذي سجدت له الملائكة إلا إبليس.

وأما ما لا يمكن تجنب الكلام عنه، ولو هو يمثل صدمة صغيرة ولكنها كبيرة الدلالة ومتسعة المجال في تجسيد الذاتية المريضة – الداء بالغ الشيوع هو الآخر – فتخص هؤلاء الناس الذي حكوا لنا في العلن، على وسائط التواصل الاجتماعي – وليس فقط للأقارب والجيران – كيف اهتز سريرهم، وما كان شعورهم ساعتها، وماذا فعلوا.. بتفصيل ممل لا يقل بلادة عن البصّاصين على صور الأشلاء. والأنكى منهم هؤلاء الآخرون الذين يعبّرون عن خوفهم بينما هم في أماكن بعيدة وآمنة ودافئة: وماذا لو حدثت هزات أخرى؟ أي نعم، يمكن أن تحدث هي وسواها من كوارث جماعية، فماذا؟

ويبقى التآمريون الذين يرون في ذلك الزلزال المريع تدبيراً بشرياً غامضاً، وهؤلاء فالج لا تعالج!

السفير العربي

————————–

حين يستثمر الأسد الكارثة للتكسّب والربح/ غازي دحمان

سلّم نظام الأسد مهمة إنقاذ السوريين وإغاثتهم للأصدقاء والحلفاء، وتفرّغ لتوظيف الكارثة لإعادة شرعنة حكمه. وفي الأثناء، يجلس بشار الأسد في قصر الشعب لتلقي مكالمات التعزية بسكان العشوائيات التي ساهم قصفُه لها بجعل تأثيرات الزلزال كارثية ومدمّرة.

وفي الأثناء أيضا، تشتغل طواقم النظام الدبلوماسية والإعلامية، بالهجوم على المعارضة والطلب من جميع الدول ألا يرسلوا إلى مناطقهم المساعدات، بل إلى دمشق، التي أكدت تقارير أممية أن النظام عادة ما يسرق حوالي ثلثي المساعدات المقدّمة من المنظّمات الدولية، ويوزّعها مكافأة على مليشياته وأجهزته.

لا تعرف عصابة الأسد الكلل في كره السوريين، ففي حين كان المفترض أن تشغلهم الكارثة عن مكايدة السوريين، وربما تعمل على تحسين سلوكهم، ولو مؤقتا، على الأقل استثمار فرصة إثبات أنهم رجال دولة، وأنهم لا يميزون بين سوري وآخر، في الوقت الذي يراقب العالم الاستجابات ونمط ردود الفعل والمواقف، كان بإمكانهم تسجيل موقف “محترم”، ولو شكلياً، لكنهم أثبتوا أن الطبع غلاب، ولا يستطيع المجرم وتاجر المخدّرات ارتداء ثوب الحكمة والإنسانية، حتى ولو مجرّد تمثيل وادّعاء.

لا يعني أن نظام الأسد سلم مهمًة إغاثة السوريين للأصدقاء أنه سيترك المساعدات تصل إلى من تضرّروا بالفعل من الزلزال، الحقيقة ليست كذلك، بل سيشرف على توزيع كل حبة غذاء ودواء، فهل يؤتمن من لم يترُك وسيلة لعقاب شعبه على غذائه؟ والحقيقة أيضا أن المتضرّرين الذين ضرب الزلزال أحياءهم هم في الغالب من الأحياء والمناطق التي ثارت على الأسد، في حلب الشرقية وحي الأربعين في حماة وحي الرمل في اللاذقية ومناطق في بانياس والحفّة وجبلة. لن تصل المساعدات إلى هؤلاء، ستجري سرقة الكميات الأكبر منها وتسريب القليل لهؤلاء المنكوبين، فقط لزوم الصورة التي ستبثها وسائل إعلامه.

بكل صفاقة، يخرج وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد على إحدى الفضائيات المؤيدة لنظامه، ليطالب بعدم إرسال المساعدات إلى الشمال السوري، بذريعة أن القوى المسيطرة في تلك المناطق تسرق المساعدات وتبيعها للمواطنين، كما يشترط مندوب الأسد في الأمم المتحدة عبور المساعدات عن طريق دمشق حصرا! ومن هم سكّان الشمال؟ أليسوا هم سكان أحياء دمشق وحلب ودرعا وحمص الذين خيًرهم إما بالهجرة عن مناطقهم أو الموت في السجون؟

لكن وعلى الرغم من أن لا أحد ينكر وجود فسادٍ في مناطق المعارضة، هناك أيضا مجتمع مدني يراقب ويتابع ويرفع الصوت عاليا، قد لا يستطيع المحاسبة، لأنه يفتقر للقوة القهرية، لكنه يستطيع حساب كل شيء يدخل إلى مناطق المعارضة وفضح أي محاولة للسرقة، وخصوصا فيما يتعلق بالمساعدات الخارجية، فأين يوجد مثل ذلك في مناطق سيطرة عصابة الأسد؟

كانت الكارثة، رغم هولها، ستصير فرصة لرتق نسيج المجتمع السوري وبداية للبحث عن مقاربات جديدة تلطّف على الأقل المناخات المشبعة بالعدائية، وتفتح المجال لرؤية الواقع بمناظير جديدة، بمعنى التفاعل مع الحدث وطنيا ووضع الحسابات الصغيرة جانبا، أو أقله احترام الدماء التي تنزف تحت الركام، والنساء والأطفال الذين يتلقفون بصعوبة الأنفاس بانتظار الفرج، والصمت إزاء هذ الكارثة، وهذا أقلّ الممكن في هذه الظروف. ولكن ممن نطلب الاحترام! ممن قتل شعبه بالكيماوي والبراميل واغتصب النساء في سجونه، أم من تاجر مخدّرات أغرق المنطقة بسمومه في حرب إبادةٍ مكشوفةٍ ضد أجيال بكاملها؟

المشكلة أن نظام الأسد الذي استنفر متسوّلا للمساعدات الإقليمية والدولية، ولم يفعل ذلك شفقة على السوريين، بل لاعتقاده أنه أمام فرصةٍ يمكن استثمارها لتحطيم العقوبات عليه، بمعنى أن مخيلته السطحية أوحت له أن نداءاته واستغاثته سينتج عنها سيل متدفق من الاستجابات الدولية، والتي ستكون بمثابة تسونامي لا يُلغي العقوبات وحسب، بل وينظّف صفحته من جرائم الكيماوي والكبتاغون ومجازر قيصر، ويثبته حاكما أبديا على بلادٍ حطّمتها طائراته ومدافعه وشعب استدعى الأسد كل عصابات الإجرام في العالم، فاغنر والحرس الثوري الإيرني وغيرهما، للتنكيل به.

تعتقد عصابة النظام المستجدية أن أي مسعىً إلى التصالح مع السوريين قد يتم تسجيله في خانة الضعف، وبمثابة تنازل سياسي، فالكارثة في نظرهم يجب ألا تنسيهم أنهم في صراع وجودي مع الجزء الأكبر من السوريين، وما لم يستطيعوا تحصيله بالتمرّد يجب ألا يحصّلوه بسبب الكارثة. وإذا كان من حقّ أحد تحصيل مكاسب من الكارثة فالعصابة وحدها التي تحتكر كل شيء في سورية، وحدها من يحقّ لها التمتع بالمكاسب التي ستجلبها المساعدات والمنح، والعطاءات الإقليمية والدولية.

ضاعف الزلزال من نكبة السوريين على طرفي البلاد، وستكون له تداعيات خطيرة على حياتهم، لكن نكبتهم الحقيقة في دوام حكم العصابة واستمرارها، وهي التي لا تعرف كيفية إدارة الكوارث، مثلما لا تفهم بإدارة الأزمات السياسية. وإذا كان المدفع والدبابة هما آليات إدارة الأزمة السياسية، فإن المساعدات الإغاثية الإقليمية والدولية لن تدوم إلى الأبد. وبالتالي، تفقد صلاحيتها آلية لإدارة الكارثة، وليس أمام السوريين جميعهم سوى طريقٍ واحد للخروج من هذا الوضع الكارثي، الطريق الذي يوصلهم إلى قصر الشعب، لقذف الأسد وعصابته من أعلى قمّة في جبل قاسيون.

العربي الجديد

————————

مأساة السوريين وملهاة الأسد/ حسان الأسود

لم تتفاجأ الغالبية العظمى من السوريين بإطلالة بشار الأسد المسرحية في أحياء حلب المدمّرة، فالأمر بات معروفًا حتى لدى أنصاره ومؤيديه، وليس فقط في أوساط معارضيه والثائرين عليه، إنّه مريضٌ نفسيّ يشعرُ بالدونيّة واحتقار الذات، لذلك تراه يبالغ في إظهار الحكمة والعظمة والثقة بالنفس، كما تراه يحاول جاهدًا إحاطة نفسه بالمطبّلين والمزمّرين ليقنع ذاته المهزوزة بالتفوّق والسيادة. لا يدخل أيضًا في باب الشتيمة وصفه بما يستحق من ألفاظٍ عندما خرج ضاحكًا على أنقاض البيوت التي دمرها جيشه من قبل، أو عندما استعرض فوق الجثث المطمورة تحت الأنقاض تأييد محبيه وشبّيحته، ممن جمعهم له حرسُه بعناية فائقة وفحصٍ أمني صارم، والذين لم يكن أكبر همّهم سوى التقاط الصور معه، فهذا أبعد من الشتيمة، إنّه حكمُ قيمة أخلاقيّ على تصرّفِ شخصٍ تجرّد من كل خُلقٍ ومن كل قيمةٍ ومن كلّ فضيلة، بل تجرّد من كل النوازع الإنسانية.

في مقارنةٍ بين إطلالة الرئيس التركي أردوغان عند زيارته بعض المناطق المنكوبة، أو في مواساة الرئيس الفرنسي لهدّاف منتخبه الوطني لكرة القدم، كيليان مبابي، عندما خسر نهائي كأس العالم في الدوحة قبل أقل من شهرين، أو في إطلالات الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي أمام عدسات الكاميرات أو أمام مواطنيه وجنوده، وهؤلاء جميعًا يعتصرهم الألم والحزن، ويظهرون أكبر قدرٍ من المواساة والإحساس بالمسؤولية، ويحاولون التبسّط أمام أحزان مواطنيهم، بسلوك بشار الأسد خلال سنوات الحرب التي شنها على الشعب وخلال كارثة الزلزال، فإنّ المرء لا يجد سوى حالةِ نشوةٍ وحبورٍ تخفي شماتةً وحقدًا لا مثيل لهما في التاريخ. لم يمرّ على البشرية من يستمتع بتدمير مدن البلد التي يحكمها أبدًا، وحتى تلك الشائعات المتداولة عن قيام نيرون بحرق روما هي محض افتراء. قد يكون الوحيد الذي يشبه الأسد في بعض جوانب سلوكه هو القائد النازي هتلر، الذي أمر بحرق بيوت اليهود ومتاجرهم ثم أمر بتصفيتهم وحرقهم في أفران الغاز الشهيرة، ورغم ذلك لم يكن يظهر مبتسمًا أبدًا، فحتى هذا المجرم كان لديه بعض التقدير والاحترام لجلالة الموت ورهبته.

ثمّة حلقة مفقودة في مأساة السوريين المقيمة منذ عقدٍ ونيّف، إنها حلقة التضامن الإنساني، وهذه الحلقة أكثر ما يفتقدها المرء عند الأشقاء العرب، فلم يصادف أن خرج المواطنون في أيّ دولة عربية للتظاهر تضامنًا مع أشقائهم السوريين، ولم يعتصم حتى الناشطون منهم أمام سفارات نظام الأسد أو روسيا أو إيران احتجاجًا على استخدام العنف المفرط الذي وصل حدّ استخدام الأسلحة الكيماوية عشرات المرّات ضدّ المدنيين. في البحث عن هذه الحلقة المفقودة يجد المرء قصورًا واضحًا في الفهم، وعجزًا كبيرًا عن إيجاد الحقيقة، واستسلامًا رخيصًا لترّهات بروباغاندا حلف المقاومة والممانعة للإمبريالية والصهيونية. ثمّة عماء سياسي عند الأحزاب القومية العربية، وثمّة استرخاصٌ للدم السوري عند النخب العربية التي تدّعي الثقافة والانحياز لقضايا الأمّة، ثمة تخاذلٌ وتخلٍّ عن أبسط واجبات هذه النخب تجاه الشعوب، فلم تكلّف نفسها عناء الغوص في بنية نظام الحكم الديكتاتوري الطائفي القائم في سوريا لتكشفه وتعرّيه، بل اكتفت بشعارات خُلّبية زائفة لتواري سوأتها أمام ذاتها وأمام الجمهور الذي يأخذ عنها.

لا تعويل بطبيعة الحال على مواقف أنظمة الحكم، فهذه كانت تخشى انتصار النموذج الشعبي الثوري في التغيير السياسي والمجتمعي، أي كسر حلقة الاستبداد بإرادةٍ جمعيةٍ من خارج الحلقات المسيطرة على السلطة، أو بتعبيرٍ آخر باستخدام أدواتٍ غير الانقلابات التي كانت تغيّر الوجوه دون مساسٍ بالجوهر. وجزءٌ منها، أي الأنظمة، سواءٌ تلك التي دعمت ثورات شعوب الربيع العربي أو التي وقفت ضدّها، كانت لها مصالح خاصّة دفعتها للانحياز للحكام أو للمحكومين الثائرين. فحتى تلك التي وقفت مع الشعوب الثائرة لم تستطع أن تفهم جوهر ثوراتها حقًّا، فاستخدمت إمكانياتها لدعم تياراتٍ أو أحزابًا من ميلٍ عقديٍّ معين يتناسب وهواها، فلم تستطع أن تدرك طبيعة هذه الثورات التي سعى أهلها لامتلاك فضائهم العمومي، من خلال تأميم السياسة وتأميم بلادهم التي خصخصتها أنظمة الحكم وحوّلتها مزارع لفئات محدودة من المستفيدين، وحمت سلطتها بالحديد والنار.

فاقم هذا كلّه حالةً الاستقطاب الداخلي في المجتمع السوري، فلم يكن السوريون بأي يومٍ من الأيام موحدين خلف هُويّةٍ تجمعهم، أو مؤمنين بأمّة واحدة ينتمون إليها، ولم تسنح لهم مئة عامٍ ونيّفٍ من الاستقلال عن فكرة التبعيّة للإمبراطورية العثمانية بخلق كيانٍ رمزي يجمعهم. لقد عجز السوريون عن بناء الدولة الحديثة التي هي الوعاء الأوّل لتشكيل الأمّة، فجزءٌ منهم ما زال يحنّ لفكرة الخلافة، ويعتقدُ بأنّه لا قيامة للسوريين إلا من خلال أمّة إسلامية كبيرة جامعة. وجزءٌ آخر منهم لا يزال مؤمنًا بالقوميّة العربية بتعريفها الإيديولوجي، وينظر للأمّة السورية على أنها تقسيم للأمّة الكبرى المنشودة. وهذا كلّه جعل من الطبيعي أن تتفتح التطلّعات القوميّة عند الأكراد السوريين، وربّما يلحقهم في ذلك التركمان السوريين وغيرهم أيضًا. أمّا الطامّة الكبرى فكانت في الانشقاق الطائفي الذي تعزز مع سلوك النظام هذا النهج للحفاظ على سلطته، فاستقدام العون من إيران والتعويل كثيرًا على حزب الله، بكل ما حمله هذا من حمولات طائفية لم يُخفِ أصحابها مضامينها، جعل الحال السوريّة بركانًا دائم الثوران وإن خمد برهة هنا وهنيهة هناك.

بدأت مأساةُ السوريين منذ مئة عامٍ بتحطيم حلمهم ببناء الأمّة السورية على يد الفرنسيين، هؤلاء هم الذين حطموا سوريا الكبرى، وهدموا معها حلمًا راود أهلها ردحًا من الزمن. ثم تتالت فصول الكارثة مع فشل الديمقراطية بالنموّ في أجواءٍ محمومةٍ من انقلابات العسكر، وتأكّدت مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة بشكل نهائي، حيث استطاع قضم الدولة ودمجها بالنظام ثم بشخصه. وأتت حرب وريثه لتهدم ما تبقى من أسس المجتمع الأهلي الذي حاول النجاة من قبضة السلطة، فكان الدمارُ بالبنى المجتمعية أخطر من دمار المدن بكثير. وما نراه الآن من رقصٍ على جثث السوريين العالقين تحت أنقاض ما دمّره الزلزال، ليس أكثر من فصلٍ جديد من فصول المأساة المتجددة المتكررة، ولن تنكسر حلقاتها الصلبة إلا بالتغيير السياسي، وهذا ما يبدو حتى الآن صعب المنال لعدم توفر شروط تحققه، وتبقى مأساة السوريين وتتمدّد، بينما يمرح الأسد بملهاته السوداء ويتجدد.

تلفزيون سوريا

———————-

فاكهة الشر الأسدي/ علي سفر

في لحظةٍ قاسيةٍ كهذه، حين يأتي الموت هادراً عنيفاً، يلتفت الناس إلى أرواحهم، ويتشبثون بها كي لا تفلت من أجسادهم، ويتمسك البشري بأخيه، وتتراصّ الجموع، لأن في ذلك بعض النجاة من الكارثة. الدرس الذي يتوفّر دائماً بعد كل مأساة، لا يختصّ بفكرة التضامن فقط، بل يتجاوز ذلك إلى الأخلاقيات، التي تصبح معياراً لكل تفصيلٍ يمرّ مع المرء، وهو يرى الحدث، وردود الفعل عليه، إذ لا تجيز وجوه الضحايا المعفّرة بتراب الركام لأحد أن يتربّح مما آلت إليه مصائرهم، كما أنه ليس من المسموح لأي جهة أن تقوم بفعل يُخرج عن الأولويات شديدة الأهمية، وهي هنا إنقاذ حيوات من أصابتهم الكارثة أولاً.

وحده النظام السوري يخرج عن الأعراف، وعن القواعد، وعن الفطرة الإنسانية، فيحوّل زلزال السادس من شباط/ فبراير، الذي خلّف واقعاً غير مسبوق في مأساويته، إلى “بازار” للتكسّب والنجاة مما أوصلته إليه جرائمه على مر السنين. فمنذ الساعات الأولى للحدث، خرج كثيرون ممن مارسوا التقيّة في تأييد الأسد عن عادتهم، ليطالبوا المجتمع الدولي بإلغاء العقوبات المفروضة على نظامه، بحجة أنها تعيق عمليات الإنقاذ، وأنها تمنع وصول الدواء للمرضى، وأنها لا تتيح وصول الوقود لسيّارات الإسعاف.

في لحظة مأساوية كهذه، تجرّ معها فيضاً عالياً من التعاطف والرغبة في المساندة، سيذهب كثيرٌ من بسطاء السوريين والعرب، ومعهم جمع أفراد في العالم إلى تبنّي هذه الدعوة، وسينبري كل هؤلاء إلى الدفع بهذا الاتجاه، من دون التمحيص في الأسباب، والحقائق، حول هذه القضية.

المؤيدون التقليديون لنظام الكيماوي من قومجيين ويساريين ويمينيين متطرّفين، سيجدون في ذلك فرصتهم المأمولة للمساهمة في إنشاء حملات لجمع التواقيع، من الأفراد والشخصيات السياسية والثقافية والفنية، والمنظمّات والأحزاب، بهدف فكّ الحصار عن النظام، مع الدأب على إيجاد فضاء ضبابي، قوامه خلط المواقف السياسية، وتزويقها، للتعمية على الأسباب التي أدّت إلى فرض العقوبات، وأولها قتل النظام المنتفضين ضده في الشوارع، وفي المعتقلات، وقصفهم بالسلاح الكيماوي، وبالبراميل المتفجرة، ورفضه الدخول في أي مسار سياسي، يفضي إلى حل الأزمة السورية المستمرّة منذ عام 2011.

قلب الحقائق حول التفاصيل، ولا سيما العجز الكبير في القدرات، وعدم توفّر إمكانات التعاطي مع مثل هذه الكوارث لدى النظام، الذي وضع كل جهده طوال 12 سنة من أجل إبادة الثائرين ضده. ومع قليلٍ من التمويه والتضليل، سيؤدي ببساطة إلى تحميل قرارات المجتمع الدولي، التي حاولت إنصاف ضحاياه، المسؤولية عن كل شيء!

وسيشكل الزلزال فرصة كبيرة لكسر المحظور علناً، بعد أن كان يمارس سرّاً، حيث تواصل بعض القادة العرب وغيرهم مع الأسد بحجّة إبداء التعاطف مع المتضرّرين، كما توجهت طائرات عربية تحمل بعض المساعدات إلى مناطق سيطرة النظام.

وبينما كانت حوادث سرقة الإمدادات هناك تكشف عن أن شيئاً لم ولن يتغير في الطبيعة اللصوصية للنظام وشبّيحته، حتى في أسوأ اللحظات الإنسانية، كان بعض مسؤوليه يخرجون على بعض الشاشات الإخبارية ليطالبوا المجتمع الدولي بإلغاء العقوبات!

ادّعاء أن المحظورات الدولية تعيق وصول المساعدات كذب فاضح، فكل ما يختصّ بالغذاء والدواء والإغاثة والإسعافات الأولية غير مشمول في قانون قيصر، بالإضافة إلى أن مؤسّسات الأمم المتحدة المختصة حاضرة في دمشق، وتعمل من خلال مكاتبها الرسمية. وقد نشرت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سورية رداً على حملة التضليل الراهنة، ولا سيما ادّعاء إن عقوباته تمنع إيصال المساعدات الإنسانية، فذكرت بأنها لا تؤثر على المساعدات الإنسانية، ولا تنطبق على إيصال المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية والإسعافات الأولية للاستجابة الأولى للزلزال.

إصرار حليف النظام الروسي، طوال السنوات الماضية، على جعل الأسد يسيطر على إمدادات المساعدات، وجعلها تمرّ من خلاله، ولا سيما منها الموجهة إلى المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال الغربي تحديداً، حيث يعيش أكثر من أربعة ملايين نازح، يفضح مسؤوليه وإعلامه، ويزيح الغطاء عن طبخةٍ فاسدة وراء هذه الهمروجة، فالقصة مبنيةٌ على وجود المساعدات التي تصل إلى البلاد، ويريد أن يسيطر على توزيعها، ليستفيد مادّياً وسياسياً وميدانياً منها، وجعلها أداة ضغط وتجويع للمعارضين، وليست مبنية على عدم توفرها.

أي عقل شيطاني هذا الذي يعمل في دمشق، فيجعل من كل شيء، ومن أي حدث، سبيلاً للاستفادة على المستويات كافة؟ النظام الذي ارتكب جرائم غير مسبوقة في التاريخ البشري ضد شعبه، والذي يفعل كل الممكن من أجل التربّح، حتى بيع جثامين من يقتلهم في المعتقلات إلى أهاليهم، الذين يريدون دفنهم بطريقةٍ لائقة، ويفلت من العقاب، بقرار المجتمع الدولي، أو بعجزه، على حد سواء، يدّعي أمام الشعب المنكوب بوجوده حاكماً منذ ستين سنة، لا يمكن أن تكون السيالة العصبية التي تجري في دماغه ذات طبيعة إنسانية!

إنها نسغ شيطاني، يلتهم ضحاياه، ويريد من طائفة السذّج، وأيضاً ممن يشتركون معه في هذا التكوين، أن يساعدوه ليحصل على الثمرة الكاملة. لقد دمّر البلاد وأفنى العباد، وعلى العالم التراجع عن أفعاله، وأن يأتي إليه معتذراً، وربما بعد ذلك يصفح عن معاقبيه!

العربي الجديد

————————

سوريّة المحطّمة في مواجهة الزلزال/ عمار ديوب

كان السوريون يئنون من النقص في كل الحاجيات، قبل وقوع الزلزال، في فجر يوم 6 فبراير/ شباط الجاري، الذي مركزه تركيا، وسورية بعد تركيا الأكثر تأثراً به، بينما تأثيره شمل كل الدول المحيطة بتركيا. قوّة الزلزال 7،8 بمقياس ريختر، وقد تسبّب بانهيار أحياء بأكملها، وفي سورية كانت الأحياء التي تعرّضت للضربات الجويّة على مدار السنوات السابقة الأكثر تهدّماً، وتلتها المباني المشادة بشكل عشوائيٍّ، وغير النظامية، وعبر فساد الإدارات المحليّة والنظام بأكمله. ولهذا جاءت أعداد المباني المنهارة وأعداد القتلى كبيرة، وبدءاً بحلب ومناطق في إدلب، وفي اللاذقية، وجبلة، وحماه. وأمّا دمشق وأريافها وحمص، فاقتصر تأثير الزلزال على تشقّقاتٍ بسيطة في الجدران. أمّا الهلع والرعب والخوف، فقد عشناه جميعنا، وحتى ملايين اللاجئين السوريين في العالم، وإن كان لأهل حلب وإدلب واللاذقية نصيب الأسد منها.

كثرة المباني المهدّمة، وأعداد القتلى في تركيا، والتي تعرّضت منذ سنواتٍ لزلازلٍ كبيرة توضح أن هذا البلد لم ينفذ خطة لإعادة ترميم المنازل لتكون في مواجهة الزلازل، وربما قام بذلك فقط بما يخصّ المباني الحديثة. وفي سورية، هذا الموضوع خارج أيّة خطة حكومية، حيث لم يعمل النظام، وقد استعاد حلب 2016، على أيِّ عملية ترميم أو إشادة فعليّة للأبنية المتضرّرة بفعل البراميل والضربات الجوية والمدفعية. ويخص الأمر كل المناطق التي كانت بيد الفصائل المسلحة، واستعادها النظام بفضل إيران وروسيا، والأمر ذاته، في المناطق التي لم تتعرّض للقصف، حيث أغلبية أعمال البناء في سورية غير مصمّمة لمواجهة الزلازل، وأغلبيتها عشوائية وتضاعفت بعد 2011، وليست ضمن المخطّط التنظيمي للمدن، وليس هناك أيّ مخطط عمرانيٍّ في البلدات والأرياف، ولا تخضع لأيّة رقابة هندسية دقيقة. أعمال البناء في سورية خاضعة وبشكل منهجي لآليات الفساد، وبما يؤدّي إلى نهب المواطنين لصالح الدوائر المسيطرة على الدولة، ولا تستفيد منها خزينة وزارة المالية. وبالتالي، هي أبنية غير مصمّمة لمواجهة عاصفة مطرية قويّة، فكيف بالزلازل أو البراكين أو الأعاصير.

ما زال النظام يشنّ العمليات العسكرية، ويحاول تأديب المواطنين الذين كانوا تحت سيطرة الفصائل رغم الانسحاب منها منذ 2018 وفي حلب 2016، وكذلك يقوم بعمليات عسكريّة على إدلب او أرياف حلب، أو الحسكة، ولم يعمل شيئاً من أجل الإعمار أو إعادة اللاجئين، أو إقامة المشاريع الإنتاجية. الأدقّ أنّه يفعل العكس تماماً. وضمن هذا السياق، ليس من مصلحة النظام التطبيع مع تركيا وإعادة اللاجئين، حيث ليس بمقدوره تأمين احتياجاتهم، وهم غير قادرين على العمل من دون خطّة دوليّةٍ لإعادة بناء منازلهم المدمّرة أو إصلاح مشاريعهم للعمل من جديد، أو ضمان سلامتهم. سيستغل النظام الآن مأساة الناس ليطلب إعادة تعويمه وشرعنته دولياً، وأن تأتي المساعدات عن طريقه، وسيحاول تقييد يد الدول والمنظمّات الرافضة مجيء المساعدات عن طريقه، حيث ستبدو كأنّها ضد الإنسانيّة وبلا أخلاق، وكذلك ستحاول الدول التي تؤيّد شرعنة النظام، كالجزائر والعراق ولبنان والإمارات، استغلال الكارثة وإرسال المساعدات لدفع الرافضين شرعنته، ومن دون أيّة شروطٍ أو مبادراتٍ نحو المناطق الخارجة عن سيطرته.

ستعمل الدول التي ترفض أيّ تطبيعٍ مع النظام وتعويمه على إرسال المساعدات عبر تركيا، وستكون دقيقة تجاه الأمر، ولكن حجم الكارثة كبير للغاية، ويحتاج إلى تدخلٍ دوليٍّ إنسانيٍّ، وتنظيم هذه العملية بشكلٍ دقيق بحيث تصل المساعدات فعليّاً إلى مناطق سيطرة الفصائل وإدلب والحسكة، وأيضاً مناطق سيطرة النظام، بعيداً عن شروط الأخير عليها. المشكلة أنَّ النظام، وحتى منظمات كثيرة في مناطق الفصائل وإدلب و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تلاحقها ملفات الفساد وغير موثوقة، وأوضاع الناس تحت سيطرتها في غاية السوء. ولهذا، يجب أن تتولّى منظمات تابعة للأمم المتحدة مباشرة تقديم المساعدات وإيصال الفرق الطبيّة والإنقاذيّة لإخراج الأحياء أو الجثث من تحت الأنقاض، وما يعقّد الأمر أن هناك شكاوى كثيرة ضد منظمات الأمم ذاتها التي تتعامل مع أغلبية المنظمات السوّرية بالشأن الإنساني. المشكلة الآن أنّ مأساة الزلزال تتلاقى مع عاصفةٍ ثلجية شديدة، وهناك الخوف من ارتداداتٍ جديدةٍ للزلزال، وهناك ملايين السكان خرجوا من منازلهم إلى العراء، وهذا ما يقلّص من القدرة على المواجهة.

نقص المحروقات يؤخّر، وربما يعطّل، أعمال الإنقاذ، والانهيار الاقتصادي الكبير، والسابق للزلزال، يحدُّ من قدرة المواطنين على المساعدة، وتشكّل آليات الفساد الممنهجة للنظام السوري ومؤسّساته السبب الأكبر في تأخر عمليات الإنقاذ، حيث تصل إلينا الفيديوهات التي تؤكد توقف وسائل الحفر والإنقاذ بسبب نقص المحروقات وضعف المساعدات للفرق العاملة في المناطق المنكوبة. في هذا الوقت العصيب، نقرأ عن هجماتٍ للنظام على هذه المنطقة أو تلك في أرياف حلب أو إدلب؛ وهذه أفعال أسوأ من الزلزال نفسه، وبالطبع، تُعطِّل عمليات الإنقاذ؛ فبينما يفترض أن يقود النظام مبادرة وطنية، وفتح كل الممرّات للمساعدات، ولكافة المنظمات الإنسانية والطبية، ومن وإلى المناطق الخارجة عن سيطرته، وكذلك السماح للأهالي باللجوء إلى المناطق الأقل تضرّراً، وأينما كانت، فلا نقرأ عن ذلك شيئاً في الاجتماع الوزاري الذي عقدته الحكومة في دمشق، يوم الزلزال، برئاسة بشار الأسد.

كان يمكن لهذه المأساة أن تكون فرصة لطرح مبادرة وطنية، تتجاوز الثرثرة التافهة عن ضرورة رفع العقوبات عن النظام، لمواجهة المأساة، وابتزاز العالم، وهو ما لا يمكن أن يحدُث؛ وأن تهيِّئ المبادرة الأجواء الإيجابية لفتح حوارٍ جادّ بين النظام والنظام الدولي والسوريين، من أجل مواجهة أثر المأساة، وكذلك البدء بالحل السياسي وفقاً للقرارات الدولية، لا سيما أن النظام يواجه حالياً ملفاتٍ قاسية، وستطيحه لاحقاً، كقانون مكافحة الكبتاغون أو تحميله المسؤولية عن هجمات الكيميائي في الغوطة الشرقية، وهناك قانون قيصر، وقوانين بالجملة تُحمِّله المسؤولية الأوّلى عما حدث في سورية.

الآن، وفي غياب أيّة مرجعيّة أخلاقيّة أو مبادرةٍ وطنيّة لدى النظام، تقع مواجهة آثار الزلزال على عاتق المنظمّات الدولية، ودول الجوار، والنظام العالمي، وأيضاً على السوريين، أينما كانوا، لا سيما في أوروبا، تنظيم مبادرات للمساعدة متعدّدة الأوجه، وضمن عملية مخطّطة تمنع تسلّل الفاسدين إليها، وبما يؤسّس للمتابعة المستقبلية لآثار الزلزال وللأوضاع شديدة السوء للمواطنين، إذ لن تتعافى سورية، وبالطبع تركيا، قريباً من حجم الكارثة، والتي لم تتوضح حتى هذه الساعة؛ فعدّد قتلى الزلزال تجاوز في تركيا 3400، وفي سورية 1500، وليست هناك أيّة إحصائيات عن حجم دمار المباني أو الجرحى أو المباني القابلة للترميم؛ هي مأساة كبرى، وتتلاقى مع سورية المحطّمة منذ 2011، والتي لا يبدو أن هناك حلّاً سياسيّاً قريباً يضعها على سكّة الإنقاذ من كل الكوارث البشرية، والطبيعية التي حلّت بها وجديدها الزلزال المدمّر، والذي قد يتجدّد.

العربي الجديد

————————

العقوبات الأميركية وضرورة آلية دولية للمساعدات/ عمار ديوب

تعود العقوبات على النظام السوري إلى 1979، حينها صُنِّفت سورية دولةً راعية للإرهاب، بسبب دعمها بعض الفصائل الفلسطينية، والنظام الإيراني، وفُرِضت عقوبات جديدة في عام 2003، ضمن قانون محاسبة سورية وتحرير لبنان، وبسبب دعم النظام الجهاديين في العراق. لم يغيّر النظام من ممارساته ليزيلها عنه، واستمر بالسياسات ذاتها؛ دعم إيران والتدخّل في لبنان والعراق والاستمرار في انتهاج الشمولية ضد الشعب السوري. لحقت العقوبات تلك عقوباتٌ متتالية، وشملت منع الطيران السوري من الهبوط في مطارات الولايات المتحدة، وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين بـ25 كيلومتراً، ومنع تصدير أيّ بضائع أميركية إلى سورية، باستثناء الطعام والأدوية، وكذلك تقييد أية تبرّعات مالية، وتجميد أصول مالية لأفراد ومؤسّسات تابعة للنظام السوري، وكان أبرز هؤلاء رامي مخلوف.

أضيفت بعد 2011 عقوبات، وتشدّدت الإدارة الأميركية ضد الاستثمار في سورية أو استيراد النفط منها، ومنعت الاتّجار به، وبالطبع عوقبت أسماء ومؤسّسات جديدة، تابعة وقريبة من النظام السوري. ومع قانون قيصر 2019، مُنِعَت كلّ عمليات الاستثمار في البناء، وجرى التشديد على السوق السورية مع قانون الكبتاغون في 2022، وسمّيت سورية دولة متاجرة بالمخدرات.

أتى الزلزال ليمنح النظام السوري وهم الخلاص من العقوبات، واشتغلت، بسعادة منقطعة النظير، الماكينة الإعلامية التابعة له، بفكرةٍ واحدة، رفع العقوبات الأميركية، الدولية، التي أنهكت السوريين وأفقرتهم، وأنّ مواجهة آثار الزلزال تنطلق من رفع العقوبات وليس رفع الأنقاض عن الأحياء وتأمين احتياجاتهم، وتوفير السكن البديل والطعام والملبس وحاجات الأطفال والمرضى، وهو ما لم يفعله. أصدرت الخزانة الأميركية توضيحاً بعد الزلزال، يقول برخصةٍ عامةٍ للمساعدات إلى سورية، واستندت إلى قانون محاسبة سورية، وليس إلى قانون قيصر أو الكبتاغون. صدرت الرخصة تلك كتشريعٍ لكلّ المؤسسات والأفراد الراغبين في المساعدة، لكنّها مؤقتة بستة أشهرٍ، وتشمل ليس فقط المساعدات الطبية والغذائية، والتي لم يكن عليها أيّ عقوبات من قبل، منذ 1979، بل السماح بإرسال الحوالات المالية عبر البنوك من سورية وإليها، ومن دون العودة إلى وزارة الخزانة الأميركية. الجديد هذا، يوقف تخوّفات البنوك الدولية في حال إرسال الأموال إلى سورية، كما كان من قبل. الجدير ذكره أنّ مجيء تلك الأموال انعكس فوراً تحسّناً في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، وهذا مهم لصالح النظام في حال أراد تحسين أوضاع السوريين، أو الأجور أو ضبط الأسعار، وحتى في دعم المتضررين من آثار الزلزال، لكن عبثاً؛ فقد شهدت المساعدات المالية والعينية، في الأيام السابقة، كلّ أنواع التعفيش والسرقة، وتُرِكَ الناس المتضرّرون للبرد القارس، وفقط المساعدات الأهلية قامت بكلّ ما تستطيع، وفي هذا تحرّكت المدن السورية والمهجّرون في أوروبا وسواها للإنقاذ؛ وجاء هذا ردّاً مباشراً على سياسات النظام أو المعارضة التفريقية بين “السوريات”.

إذا فشل النظام في رفع العقوبات؛ فالقوانين الصادرة بحقه، وهي كثيرة، وفي مقدّمتها محاسبة سورية، وقيصر، والكبتاغون، وهناك قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وكلّها تدينه، وتُفقده الشرعية جزئياً، واستعادتها كاملة غير ممكنة من دون تغيّرٍ في سياساته وممارساته، وبالتالي، شطب تلك العقوبات، وهذا يعدّ مستحيلاً، وبالتالي، العقوبات مستمرّة، والنظام وحده، كما أشرنا، من يستطيع رفعها عن كاهله.

سيُضاعف عدم قيام النظام بأيّ مبادرةٍ جادّة لمعالجة آثار الزلزال من حالات التذمّر الاجتماعي نحوه، وقد ظهرت أولاها، بإعلانٍ واضح من المواطنين بغياب الثقة بأيٍّ من مؤسساته، إذ حاول، بكل الطرق، الاستيلاء على المساعدات الأهلية، كما فعل مع المساعدات الدولية القادمة عبر مطاراته، وذكرت تقارير أن قنصل الجزائر قد احتجز في مطار حلب، وقد جاء ليرافق توزيع المساعدات، وحينما أُفرج عنه، قيل له إن المساعدات جرى توزيعها، أي نُهبت بكل بساطة. وفوجئ الوفد الأردني المرافق للمساعدات إلى حلب أيضاً بأنّ من يسيطر على حلب هو الحرس الثوري، وهو من سيقوم بالتوزيع، أي بسرقتها، وهكذا.

رغم أهوال آثار الزلزال، ومقتل الآلاف، وتشرّد ملايين السوريين، الذين أصبحوا بحاجةٍ ماسّة لمساعدات عاجلة، لم تستطع قوى الأمر الواقع في “السوريات الأربع” التفاهم، وتوحيد الجهود لمواجهة تلك الكوارث، وبعد مرور قرابة الأسبوع، يتحمّل النظام المسؤولية الأولى، وكذلك بقيّة تلك القوى. لم تصل أيّ مساعدات دولية إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الأيام الأولى لما بعد الزلزال. وبالتالي، ومجدّداً، تقع المسؤولية على النظام أولاً، وعلى تركيا وروسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي في عدم اعتبار المناطق المتضرّرة من الزلزال منطقة واحدة في تركيا وسورية، وإرسال المساعدات إليها بشكل عادل ومتوازن. وصلت في الأيام الأولى قوافل المنقذين إلى تركيا بينما لم يحصل ذلك في سورية.

حالياً، هناك ملايين تقطّعت بهم السبل، وهم بحاجة للمساعدات، لكنّ الممارسات الأولى لنهب المساعدات، أموالاً وبضائع، تقول بضرورة تشكيل آلية دولية، تشرف على إيصال المساعدات وتأمين احتياجات تلك الملايين المتضرّرة بشكل مباشر، وليس فقط للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتشكّل تبعيّته لكلّ من روسيا وإيران، بسبب آليات الفساد والنهب الناظمة لأعماله، سبباً وجيهاً لضرورة تلك الآلية؛ أيضاً، يجب أن يكون الدعم السوري من المهجّرين والمهاجرين خارج سورية ضمن صناديق ماليّة موحّدة، وتشرف عليها شخصياتٌ معروفة بنزاهتها، ويُفترض أن تخضع للمراقبة من مؤسّساتٍ معنية بذلك، لتُخمَد أيّ شبهات فسادٍ محتملة، وأن تكون وطنيّة النزعة، وليست خاصةً بهذه المدينة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك وسواه.

تنفّسَ النظام ولا شك، لكن حاجة إيران للدولارات، لا سيما بعد القرار الأميركي تقليص حصة العراق منها، في الأسابيع الأخيرة، ومراقبة حركة الأموال في سورية، ونهبها لصالح إيران، ستمنع استفادة النظام الفعلية منها، وقد يعاد توقيف التحويل المالي من سورية وإليها مجدّداً، لا سيما أنّ إجراءات التحويل صدرت من أجل معالجة آثار الزلزال على الأهالي. وبالتالي، وما لم يسارع النظام إلى فهم هذه الفكرة، فإنّ تلك الرخصة ستُلغى على الأغلب، والأموال التي تدفّقت في الأيام الأولى ستتقلّص تدريجياً.

لم تلغَ أيّ عقوبات على النظام؛ على الشخصيات الأساسية والمؤسسات التابعة له، والمُلحَقة به، وستظلُّ مشروطة بأيّ تحولاتٍ سياسية يقوم بها، كوقف إطلاق النار، أو الإفراج عن المعتقلين السياسيين أو تطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها 2254، وهو ما حاول النظام الالتفاف عليه مستغلاً الزلزال. هذا يعني أنَّ تلك الرخصة لا تعني في أي حالٍ رفع العقوبات أو الإعفاء منها؛ إن تصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين واضحة بهذا الخصوص، وحتى في ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، فهي تشترط لقدومها أن تكون عبر مؤسسات الأمم المتحدة أو منظمات غير حكومية. أوصلت الإمارات والجزائر وعُمان والعراق، بصفة خاصة، مساعداتها عبر النظام، وتجاهلت المناطق الخارجة عن سيطرته، بينما لا تتمتع دول العالم بقلة الضمير هذه، ستعمل على معالجة آثار ما بعد الزلزال في كلّ سورية. والمشكلة هنا أنّها ستصطدم بالنظام وإيران وروسيا، وبالتالي ستضطر إلى البحث عن آلية دولية، وهذا ما سيُجبرها على العودة إلى معبر باب الهوى أو فتح معابر جديدة عبر تركيا، وتقليص المساعدات عبر مطارات النظام.

هل سيتمكن النظام من تغيير سياساته وممارساته والاستفادة من الأجواء الدولية الراغبة في المساعدات والحل السياسي، وقد أصبحت سورية الحدث الأبرز عالمياً بعد تركيا، بالتأكيد لا. إذا ليس من جديد في الوضع السوري إلّا إذا أخذت الدول الكبرى زمام الأمر بين يديها، وهذا دونه حرب أوكرانيا والخلافات بين تركيا وأميركا والأخيرة وروسيا، وقضايا كثيرة غيرها.

————————-

أردوغان فاسد.. الأسد صامد/ عمر قدور

بينما حطّ بشار الأسد في حلب في اليوم الخامس على حدوث الزلزال، كانت قد توالت الاتهامات الداخلية الموجَّهة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، وتدرّجت بدءاً من البطء الحكومي في الاستجابة للكارثة، مروراً بالحديث عن إهمال حكومي وتمييز بين المناطق المنكوبة، وصولاً إلى الشروع في فتح ملفات مقاولات ضخمة حصل عليها فيما سيق مقرَّبون من أردوغان، وتأذّت تلك المنشآت بالزلزال على نحو يشجّع الاتهام بسوء التنفيذ والفساد. حرفيّاً لا مجازاً، راح أردوغان يقبّل أيادي منكوبات أو منكوبين، مما لا يتوقف عند أتيكيت تقبيل الأيادي التركي التقليدي الدالّ على التواضع، فيتعدّاه إلى الاعتذار.

نشدد على أن لا مأثرة تُسجَّل لأردوغان بتقبيله أيادي منكوبين، في حين راح بشار يلتقط الصور ضاحكاً في مدينة حلب المنكوبة. فعَل أردوغان ما هو عادي جداً، بحكم مسؤولياته، وبحكم التهم الموجَّهة إليه، وأيضاً لأنه يقبِّل الأيادي وعينه على الانتخابات القريبة التي سيخوضها. بعبارة أخرى، حضر التسييس في تركيا سريعاً ببدء توجيه الاتهامات من مناوئين للرئيس، وإن تلكأ زعماء المعارضة في المساهمة مباشرة فيها بداعي اللباقة، وهم سيستدركون تأخرهم قريباً جداً. نضيف أن هذا بالضبط ما ينبغي فعله؛ المحاسبة بوصفها فعلاً ديموقراطياً.

في حلب المنكوبة مرتين، خاطب بشار رجال الإنقاذ بالقول: (في الأيام الماضية حققتم بطولات إضافية، هذه هي الصورة الحقيقية لبلدنا، فالأزمات في سوريا أظهرت حقيقة المواطن السوري الذي لا يتخلى عن بلده، وأنتم أصبحتم مقاتلين مثلكم مثل أي محارب في المعركة). كسوريين، نفهم استغلاله الكارثة لتمرير الخطاب إياه عن سوريين خونة تخلوا عن بلدهم، هم الذين ثاروا ضده، وكلامه عن الصورة الحقيقية الذي يُراد به القول أن العالم يروّج صورة مزيّفة عن حكمه. كل ذلك معتاد، ويهون أمام مخاطبته رجال الإنقاذ “الذين يستحقون أكبر دعم وتكريم” بأنهم صاروا مثل مقاتليه، وكأنه يمنحهم وساماً بتشبيههم بقواته التي أبادت السوريين وهجّرتهم وسطت على أملاكهم.

في تصريح تلفزيوني، خلال تنقله في حلب، هاجم بشار الغرب متهماً إياه بالتسييس مع انعدام الجانب الإنساني الآن وفي الماضي، مضيفاً أن الاستعمار منذ 600 عام يقوم على قتل وسرقة ونهب الشعوب. لن نخوض في أفعال الاستعمار الشرير والحكم “الوطني” الخلوق الوادع، ما يهمنا في هذا السياق التناغم الذي أظهره سوريون مع زعم الأسد تغليب الإنساني على السياسي، بدعوتهم أيضاً إلى تنحية السياسة بسبب الكارثة التي توحّد السوريين بعد انقسام عميق وعنيف.

هناك فئة طالبت بعدم التسييس انطلاقاً من نوايا طيبة حقاً، وما يعنينا هنا فئات أخرى طالبت به، من دون أن تُلزم نفسها به، أو لم تقصّر في تسييس الحجر. نعني بأولئك مَن طالبوا بعدم التسييس وأعينهم “ضمناً أو علناً” على جني المكاسب السياسية لصالح الأسد، ونقصد بتسييس الحجر تلك الأصوات التي صدرت بالتزامن لتقول أن الأبنية المنهارة بفعل الزلزال يعود زمن بنائها إلى ما بعد آذار 2011، أو إلى زمن “الأزمة” بتعبير يكاد يكون مضحكاً لوصف ما حدث في البلد خلال دزينة من السنوات.

في أنزه أحواله، يلقي تعبير زمن الأزمة بالمسؤولية على المجهول، بينما في أغلبها يلقي بالمسؤولية على الذين ثاروا وتسببوا بها. هكذا يُقال على نحو ملتوٍ أن الذين ثاروا على الأسد مسؤولون عن كافة العواقب التي ألمّت بالبلد منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى انهيار المباني فوق ساكنيها في الزلزال. في أنزه الأحوال أيضاً، ينساق البعض عن قلة دراية وراء أمثلة منتقاة لدعم الفكرة، ومن خارج حلب الأكثر تضرراً ضمن المناطق التي يسيطر عليها الأسد، حيث توضّح صور المباني المنهارة فيها أن بناءها يعود إلى تاريخ أبعد، وقسم كبير منها في أحياء نشأت أو توسعت بدءاً من فورة السبعينات.

وإذا جارينا هؤلاء في مزاعمهم، فالحديث هو عن ألوف المباني منذ 2011 في مناطق سيطرة الأسد، ويريدون القول أنها بُنيت على عجل بسبب النزوح إليها، وبلا رقابة لأن رئيسهم منشغل بـ”الأزمة” عن متابعة تفاصيل من نوع سلامة الأبنية. ينبغي علينا الاقتناع بذلك، بل عدم التفكير أصلاً لئلا ننتبه إلى أن سلطة المخابرات القادرة على إحصاء أنفاس السوريين، حتى في وقت “الأزمة”، ينبغي أن تكون قادرة على منع إنشاء تلك المباني بلا ترخيص، وقادرة على ترهيب المقاولين كي لا يغشّوا بالمواصفات. ثم ينبغي علينا التحلّي بحسن الظن، فلا نفكر إطلاقاً في الشراكة بين سلطة المخابرات والمقاولين.

لا نحاجج هنا لتسجيل نقاط سياسية، فنحن نعلم جيداً أن الأسد مدعوم حتى الآن بقوى لا تكترث بمقتل بضعة ألوف من السوريين في زلزال، وإلا كانت اكترثت بمقتل مئات الألوف بشبيحته وبقواته التي أهان رجال الإنقاذ بتشبيههم بها. وليست المحاججة بهدف إقناع موالين ومَن في حكْمهم بتغيير مواقفهم السياسية، لأن هناك مبررات أقوى من الزلزال لو شاؤوا تغييرها. الأمر يتعلق بحيوات مهدَّدة بالخطر بسبب تسويق دعاوى سياسية غايتها تبرئة الأسد تحت يافطة “الأزمة”، مع التذكير بأن الأسد الابن ورث عن أبيه “المؤامرة الكونية” والأزمات الخانقة التي ينبغي أن يعيشها السوريون بسببها.

هي الحيوات المهدَّدة مع إنشاء أبنية جديدة لا تحقق شروط السلامة، بما أن مسؤولية سابقاتها تُلقى اليوم على المجهول أو على معارضي النظام. المصيبة هي في تسجيل نقاط سياسية بهذه الطريقة، وتالياً منع محاسبة المسؤولين الحقيقيين، سواء كانوا أشخاصاً أو قوانين أو طرائق بناء غير سليمة. العقاب ليس الهدف الأول للمحاسبة في النظم التي فيها قليل من احترام الإنسان، الغاية الأولى هي درء المخاطر وعدم تكرارها.

قد لا يُنجي تقبيلُ الأيادي أردوغان من خسارة الانتخابات المقبلة، ليضحك دائماً وأخيراً من لا انتخابات ولا خسارة لديه. في حلب المنكوبة تحدّث بشار عن الصمود، وظهر كما كان عليه دائماً. النكبة المقبلة تصنع اليوم، ولسان حال أربابها: الأسد صامد، فما همَّ إذا انهار ما تبقى من سوريا، وما سيُبنى بالطريقة إياها، فوق رؤوس أهلها.

المدن

——————————

المعاناة السورية…ليس لها عنوان/ إبراهيم حميدي

الزلزال حصل في شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا. هنا وهناك، حصد أرواح الآلاف. قضى على أحلام مئات الآلاف. دمر بيوت الملايين وخيامهم. الركام طمر الكثير من الآهات. الصمت لم يسعف بقايا الأنين.

المعاناة في تركيا وسوريا واحدة وهائلة. أوسع من الكلمات، وأقسى من المشاعر. لكن هناك فرقا كبيرا، اذا اتسعت الجروح والشقوق للحديث عن طيف وفرق، بين هذا الشمال وذاك الجنوب. الفرق يكمن في العنوان. في تركيا هناك عنوان، في سوريا لا عنوان للمعاناة. كيف؟

مذ تحركت الصفائح تحت البيوت وتهدمت السقوف فوق الأهالي، كان هناك عنوان واحد في أنقرة. حديث عن فساد ومشاكل في رخص الاعمار وتراخٍ في المساءلة وتحليلات عن تأثيرات الزلزال في الانتخابات المقبلة. “حزب العدالة والتنمية” الذي نبت مع الرئيس رجب طيب اردوغان، من ركام زلزال نهاية القرن، قد يكون مصيره السياسي محكوما بركام هذا الزلزال. قيل الكثير وسيقال الكثير قبل الانتخابات المقبلة في مايو/ايار اذا حصلت في موعدها. لكن، كان هناك مسؤولون في السياسية والعسكر والاقتصاد والخارجية ومؤسسات المجتمع المدني، عملوا ما في وسعهم، بعضهم وفق اجندات سياسية ومتناقضة، للتعاطي مع الزلزال، في أبعاده الانسانية والسياسية والاقتصادية والدولية.

المشهد كان مختلفا في سوريا. بداية، لا بد من قليل من التوصيف. الزلزال ضرب شمال غرب سوريا. هذه المنطقة، تضم نحوا من اربعة ملايين شخص. بعضهم كان نزح من ريف ادلب ومناطق سورية اخرى، الى الحدود التركية باعتبارها “آمنة”. منهم من بنى منزلا، ومنهم من عاش في خيمة. في الضفة الاخرى، هناك ايضا لاجئون. وهو التعبير الاخر، الذي يوصف به السوريون الذين هُجِّروا من بيوتهم. الجامع بين السوريين على جانبي الحدود، هو المعاناة. من كان قريبا من خط الحدود، لم يكن محظوظا، سواء أكان في سوريا ام في تركيا. نازحون ولاجئون هربوا من الخطر الاول، فدهمهم الزلزال في نومهم. دهم عائلات بأكملها، فأبيدت عن بكرة ابيها. كثير من الجثامين، لا عناوين لها. لم تجد طريقها الى المقابر.

كان يفترض ان توحد المعاناة السوريين. لكن ما حصل ان الزلزال أظهر خلافاتهم. اهل مناطق “الموالاة” تريثوا في تعاطفهم. وأهل مناطق “المعارضة” ركزوا على جروحهم. وعندما حاول اهالي شمال شرق سوريا اسعاف الجرحى والأيتام في شمال غربها، ظهر الفيتو التركي. انقرة، لم توافق  بسهولة وفوراً على وصول الاغاثات من “مناطق كردية” الى مناطق نفوذها.

معلوم ان المسؤولين السوريين تأخروا كثيرا في ادراك ما حصل في مناطقهم وامصارهم. تأخروا في الخروج من دمشق الى زيارتها. شرق حلب، إحدى هذه المناطق. اول من زار حلب “العاصمة الاقتصادية” لسوريا، لم يكن مسوؤلا آتيا من دمشق ولا امميا آتيا من نيويورك او جنيف، بل كان ايرانيا. انه اسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس” الايراني. زار وتجول وتصور و”أغاث” وأعلن.

ما هي الرسالة الايرانية من هذه الزيارة؟ معلوم ان هناك توترا ضمنيا بين “الحليفتين”، دمشق وطهران. الاخيرة تريد ثمنا لـ”انقاذ النظام” خلال العقد الاخير، عبر الحصول على “تنازلات سيادية” في الاقتصاد والسياسية. و الثانية، أي دمشق، متمسكة بالتحالف مع طهران، لكنها تبحث عن خيارات، في وقت باتت الغارات الاسرائيلية على مطار دمشق لـ”ضرب شحنات ايرانية”، امرا محرجا.

كارثة الزلزال، وفرت فرصة لإيران التي تؤمن بأن “كل محنة منحة”. ارادت القول ان “حلب محافظة ايرانية”. زيارة كهذه في زمن الحرب قبل سنوات، شيء. الآن هي شيء آخر. المشكلة فيها، انها جاءت في لحظة كانت دول عربية تريد استعجال التطبيع مع دمشق بعد الزلزال، واستغلال الازمة الانسانية لخطوات سياسية، ذلك ان الكثير من القادة العرب اتصلوا بالرئيس السوري بشار الاسد للتعاطف والبحث عن صفحة جديدة في القاموس السوري-العربي. لكن الزيارة الايرانية للمدينة، جاءت لتذكيرهم بواقع الحال، فتريثت دول في التطبيع وضغطت اخرى على “المطبّعين”.

فقدان العنوان ليس موجودا في هذا وحسب، بل هناك المساعدات الدولية. في تركيا، هناك عنوان وطرق يحددها هذا العنوان لمسارات المساعدات. لكن في سوريا، العناوين كثيرة والمسارات وعرة. دمشق وموسكو تريدان ان تأتي كل المساعدات عبر العاصمة السورية والحكومة السورية. الدول الغربية، تريد ان تأتي المساعدات من خلال معابر الحدود مع تركيا، وتريد توسيع هذه المعابر وزيادة عددها. عليه، جرت مقايضات: توسيع المساعدات الى مناطق المعارضة من المعابر التركية، مقابل توسيع المساعدات الى دمشق ومنها الى المناطق “الخارجة عن سيطرة الدولة”.

الدول الغربية وبعض الدول العربية، لا تريد الاعتراف بحكومة دمشق. ولا تريد التعامل مع ادلب وفصائلها او تعريض خبرائها ومسؤوليها الى “اخطار امنية”. دمشق لا تريد التعامل مع ادلب باعتبارها جزءا من سوريا. وانقرة تمنع “الادارة الكردية” شرق نهر الفرات من التعاطف مع مناطق غرب الفرات.

ايضا، جرت مزايدات. كل طرف سوري او حليف خارجي له، يحمّل في البيانات وفي اروقة مجلس الامن، الطرف الآخر مسؤولية تأخر وصول المساعدات.

امام هذا التعقيد كله، ليس مفاجئا، ان يسمى الزلزال بـ”الزلزال التركي”، وليس غريبا أن يُرفع العلم التركي في العالم او على منصات التواصل الاجتماعي، للتعاطف مع الثكالى والجرحى والضحايا في تركيا، ذلك ان في سوريا رايات كثيرة واعلاما كثيرة وعناوين كثيرة تفضي الى مرجعيات متناحرة ومعاناة متشابكة. لكن ليس فيها عنوان واحد للعزاء والحداد الوطني. ايضا، في المهجر لا عنوان واحدا لتقديم التعازي.

الخوف، ان يكون الزلزال غوصا عميقا في الجروح السورية. فيه كثير من المعاناة والخراب وقليل من “الزلازل السياسية”… في انتظار كارثة اخرى.

المجلة

—————————

تسيّس الإغاثة أم إغاثة السياسة/ تيسير الكريم

في عمليات الاستجابة للكوارث، لا تتحدد النتائج فقط في كميّة ونوعيّة المساعدات، ولكن أيضاً في توقيت وصول هذه المساعدات. إنّ تأخُّرَ المساعدات الدوليّة، خاصةً من الأمم المتحدّة، كلّف الكثير من الأرواح في الشمال الغربي من سوريا، كما إنّه أعاد للواجهة التساؤلات حول دور الأمم المتحدة وآليات عملها وفشلها المزمن في إدارة الأزمة الانسانيّة السوريّة. اليوم، مع الزلزال الذي هدّ جدران السوريين وقوّضَ الأسقفَ على عوائلهم وآمالهم على حد سواء، فإنّه يحق لهم أكثر من أيّ وقت مضى أن يحاكموا المنظمات الأمميّة، رمزياً فوق ركام بيوتهم وأمام جثث ضحاياهم، وعملياً بالطرق القانونيّة في المحاكم الدوليّة.

أحدثَ الزلزال الأخير في جنوب تركيا وشمال سوريا هزّة هائلة على الصعيد الإغاثي لمّا نستوعب أبعادها بعد، وعلى ما يبدو سيكون لهذه الكارثة ارتدادات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة قد تُغيّر ديناميكيات الصراع في/على سوريا، ناهيك عن تأثيراتها على قرابة 3.5 مليون لاجئ سوري يعيشون في تركيا، يُطحن الكثير منهم يومياً بين حجري رحى المعارضة والحكومة.

أظهر الزلزال بشكل خاص ضُعف وهشاشة الأوضاع الانسانيّة والمعيشيّة والقانونيّة للسوريين في تركيا وفي مناطق سيطرة المعارضة. فمن ناحية، تُركت هذه المناطق لتواجه الزلزال وحيدةً بمقدرات متواضعة جداً ومعابر مغلقة، حيث اختفت عائلات كاملة للأبد وتُركَ الناجون لغدٍ قاتم. ومن ناحية أخرى، يبدو أنّ التأخّر في عمليات إدخال المساعدات، سواءً من طرف الحكومة التركيّة – المنكوبة أيضاً على أيّ حال – أو من المنظمات الدوليّة وعلى رأسها الأمم المتحدّة، كان متعمّداً نتيجة الخضوع لحسابات سياسيّة أكثر منها إنسانيّة، مما قد يوحي بتغيّر في طريقة التعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في دمشق.

وفق الأرقام غير النهائيّة اليوم، سجّلت مناطق الشمال الغربي أكثر من 5000 وفاة و أكثر من 11000  إصابة، في حين وصل أكثر من 1300 جثمان لضحايا قضوا في تركيا كي يتم دفنهم في الشمال الغربي. من الضروري الإشارة إلى أنّه هذه الأرقام سترتفع في قادم الأيام مع انتشال المزيد من الضحايا من تحت الأنقاض، كما أنّه ليس جميع الناجين المقبولين حالياً في المشافي سيتمكنون من النجاة. من المتوقّع أيضاً أنّ أعداد الإعاقات قد تكون بالآلاف.

سنوات الإغاثة العجاف

تُعدّ سوريا واحدة من أعقد الأزمات الإنسانيّة في التاريخ الحديث، ساهمت فيها تشابكات سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، سواءً للقوى المحلية أو الخارجية. إنّ استمرارَ نظام الأسد في لعب دور المُتلقي «الشرعيّ»، وأحياناً الوحيد، للمساعدات المخصصة للشعب السوري، رغم أنّ الملايين منهم هم ضحايا هذا النظام نفسه، قد يكون أخطر عُقَدة في الكارثة الإنسانيّة السورية.

منذ بداية الثورة السورية في العام 2011، سَمِّها كما تشاء حرباً أو أزمةً أو كارثةً، لم تكن العمليات الإغاثيّة معزولةً عن التسيس والخداع والفساد للحصول على مكاسب سياسيّة وعسكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة. شكّلت أموال المساعدات، ما يزيد على 40 مليار دولار من الدول الغربية وحدها، مصدراً أساسياً لتمويل اقتصاد النظام وعملياته وأداةً لاستعادة شيءٍ من الشرعيّة وتنظيف ملفات جرائمه وانتهاكاته المشينة. تلك الجرائم التي، ولسخرية الأمم المتحدة من السوريين، تمّ توثيق جزء كبير منها عبر فرق الأمم المتحدة نفسها، حيث، على سبيل المثال، وثّقَ تقريرٌ للجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا بشكل جليّ أنّ «لدى اللجنة أسباباً معقولة للاعتقاد بأن الحكومة السوريّة تواصل ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في الاختفاء القسري والقتل والتعذيب والعنف الجنسي والسجن… وفي بعض الحالات قد تشكّل هذه الأفعال أيضاً جرائم حرب».

الأمم المتحدة في سوريا

بالعموم، تنخرط الأمم المتحدة في الاستجابة للكوارث الانسانيّة على الساحة الدوليّة «وفقاً لمبادئ الإنسانيّة والحياد والنزاهة». على أيّ حال، لم تستطع هذه المبادئ أن تمنع الفشل الذريع للمنظمات الأمميّة في سوريا، حيث انزاحت برامج الاستجابة عن هذه المبادئ بشكل كبير ومتكرر، ناهيك عن التوّرط أحياناً في قضايا فساد واحتيال ومحاباة للنظام، لم يكن آخرها فضيحة مديرة بعثة منظمة الصحة العالميّة في دمشق.

ليس الهدف هنا التشكيك في نزاهة الأمم المتحدة، ولكنه من الضروري انتقاد الفهم البيروقراطي الجامد والكسل المهنيّ والاخلاقيّ للأمم المتحدة في سوريا، والذي حوّلَ ملايين السوريين إلى ضحايا لهذه المساعدات، كما هم ضحايا للحرب.

كثيرةٌ هي الانتقادات لدور الأمم المتحدة وتفسيراتها لمبادئها الناظمة في السياق السوري. إلّا أنني سأركّز هنا على نقطتين أرى أنّهما أصل «الشرور» في الحالة السوريّة.

«احترام سيادة الدولة»

يشير قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 46/182 في العام 1991 بوضوح إلى «احترام سيادة الدول وسلامتها الاقليميّة ووحدتها الوطنيّة». بطبيعة الحال، لا يمكن -في الظروف الاعتياديّة- التدخّل في سيادة الدول ووحدة أراضيها، فهو في غالب الأحيان شأن سياديّ ووطني،  ولكن هذا المبدأ يحتاج إلى تفسير أكثر تخصصاً وواقعيّة في الحالة السوريّة بسبب توّرط النظام السوري في حرب دمويّة ضد المدنيين وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، ترقى في كثير من الأحيان لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة.

حسب هذا المبدأ، لا يمكن لوكالات الأمم المتحدة (وكذلك المنظمات الاغاثية الدوليّة) تقديم المساعدة للمتضررين إلا عبر التنسيق مع النظام وبموافقته، كما أنه لا يمكن لهذه المنظمات تقييم الاحتياجات أو زيارة المناطق المنكوبة أو تقرير نوعيّة وكميّة وتوقيت المساعدات دون إذنٍ مسبق من النظام. إنّ تفسير الأمم المتحدة لمبدأ احترام السيادة شكّل ببساطة غطاءً مناسباً لتشريع وقوننة نقل المساعدات إلى النظام بشكل شبه حصري، واضعاً الضحايا تحت رحمة جلّاديهم، وأموال الإغاثة في جيوب القتلة ومُنتهكي حقوق الإنسان.

بحكم دورها ونطاق تفويضها وعملها، فإنّ الأمم المتحدة على دراية بعمليات التسييس والاستغلال والفساد واسعة النطاق للمساعدات الدوليّة، حيث تدفقت مبالغُ هائلة من أموال الإغاثة إلى جيوب المتنفذّين من النظام، بمن فيهم عائلة الأسد نفسها. حسب دراسة في العام 2022، تبيّنََ أن النظام يحصل على 51% من كل دولار يدخل إلى سوريا كمساعدات دوليّة، وهذه المبالغ الهائلة يتم استعمالها في دعم اقتصاد الحرب وتعزيز قبضة النظام الأمنيّة من جديد.

في لحظة فارقة من الكارثة السوريّة، تبنّى مجلس الأمن في العام 2014 القرارين 2139 و2165 لتمرير المساعدات عبر الحدود دون موافقة مسبقة من النظام. رغم أنّ هذا القرار أمّنَ طُرُقاً قانونيّة ورسميّة لتمرير المساعدات، إلّا أنّه يمكن الجدل أنّ دور الأمم المتحدة لم يتغير بشكل يعوّل عليه.

على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على تدخّل الأمم المتحدة في سوريا، لم يُقدِّم مشرعوها وراسمو سياساتها إجابة معقولة لسؤال ملايين الهاربين من جحيم النظام: لماذا يجب احترام هذا المبدأ في الحالة السورية؟ وهل فعلاً يمكن تفسير مبدأ احترام سيادة الدول بالتعامل المباشر مع نظام متورط في حرب أهليّة ومتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانيّة؟

«تتحمّل كل دولة في المقام الأول مسؤولية الاعتناء بضحايا الكوارث الطبيعية والطوارئ الاخرى التي تقع على أراضيها»

من حيث المبدأ، لا شك أنّ الحكومات المتضررة هي في موقع أفضل لمواجهة الأزمات الإنسانيّة والكوارث الطبيعيّة على أراضيها، وهي أيضاً في موقع أفضل لطلب المساعدة من المجتمع الدوليّ وإعلان حالات الطوارئ أو المناطق المنكوبة أو الحداد على الضحايا، فهي تملك السلطة، والقدرات التشريعيّة والتنفيذيّة، وإمكانيات الوصول والانتشار والاستجابة والمتابعة التي لا تمتلكها أي مؤسسة أو منظمة خارجيّة. مرة أخرى، السؤال المهم في الحالة السورية، والذي يتجنب مشرّعو الأمم المتحدة وصانعو سياساتها الإجابة عنه: هل فعلاً يجب أن يُحترم هذا المبدأ في السياق السوري، بمعنى هل إنّ النظام السوري في موقع يخوّله قيادة العمليات الإغاثيّة لكامل الأراضي السوريّة، بما فيها المناطق التي لجأ إليها ضحاياه؟

على ما يبدو أنّ الأمم المتحدة تتجنّب حقيقة أن النظام في دمشق لاعبٌ أساسي في الحرب القائمة، بمعنى أنّه ليس طرفاً محايداً أو متأثراً بصراع خارجي، بل هو صانع لهذه الحرب ومتورط بها من ألِفها إلى يائها. تشير عشرات التقارير الحقوقية والقانونية الرصينة (بعضها صادر عن لجان وفرق تابعة للأمم المتحدة نفسها) إلى تورّط نظام الأسد من قمّته إلى قعره في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة، ومسؤوليته المباشرة عن استعمال السلاح الكيماوي والبراميل المتفجّرة ضد المدنيين وتدمير مدن بأكملها وقتل مئات الآلاف وإخفاء مئات الآلاف، من بين جرائم أخرى يطول تعدادها.

في السياق السوري، يكاد يكون هذا المبدأ ساقطاً قانونياً وأخلاقياً وعملياً، وبدلاً من اعتبار مفهوم سيادة الدولة «إلهاً» لا يمكن المساس به، يتوجّب على الأمم المتحدة أن تفسّر هذا المبدأ ضمن سياق حقوق الإنسان وحقيقة تورّط النظام في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وليس ضمن أيّ سياق آخر. 

من ناحية أخرى، ليس سرّاً أن الساحة السورية قد تقسّمت بشدة خلال سنيّ الحرب. يتنازع على الساحة السورية حالياً على الأقل أربعة أطراف، لكل منها بُناها الحوكميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وقوىً إقليمية ودولية تدعمها، والأهم مواقف متباينة تجاه النظام في دمشق: مناطق سيطرة النظام – مناطق سيطرة المعارضة – مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة – ومناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم تركياً. يضاف لها مناطق أصغر يُتنازع عليها بين مختلف الأطراف. في مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا، على سبيل المثال، يعيش عدّة ملايين، الغالبية الساحقة منهم هم ضحايا هذه «الدولة» ومهجّروها وجرحى عملياتها العسكريّة ضدهم. إن ربط المساعدات الأمميّة المقدّمة لهم بموافقة النظام تجعل من النظام هو الخصم وهو الحكَم في آن. سُئلتُ مرّة من قبل باحثين غربيين أن أشرح هذه النقطة بمثال، فخطر ببالي إنّ إدخال مساعدات الأمم المتحدة إلى شمال غرب سوريا عبر موافقة وتنسيق مسبق من نظام الأسد، يشبه تماماً تقديم المساعدات لضحايا الهولوكوست عبر موافقة وتنسيق مسبق من نظام هتلر.

في النهاية، لا يمكن إنكار أنّ النزاع المعقّد في سوريا -وبالتالي الكوارث الإنسانيّة الناجمة عنه- خلق معضلة عالميّة في عمليات الاستجابة، إلّا أن ذلك لا يمكن أن يُبرّر بأي حال من الأحوال تجاهل الأمم المتحدة للسجلّ الدموي لنظام الأسد في مجال حقوق الإنسان، وتورّطه بجرائم مروّعة بشكل ممنهج ضد المدنيين. إنّ جرائم النظام الموثّقة، حتى من قبل فِرق الأمم المتحدة نفسها، تضع سرديّة النظام حول مفهوم السيادة ودوره القيادي لعمليات الإغاثة في موقع المُساءلة والتجريم، وتحوّل الأمم المتحدة من مجرد شاهد إلى شريك. بعد أكثر من عشر سنوات من التدخّل في سوريا، يستحق السوريون تفسيراً نزيهاً من الأمم المتحدة يوضح لملايين الضحايا والمهجّرين لماذا تُركت مساعداتهم تحت رحمة جلاديهم.

د. تيسير الكريم هو طبيب وخبير في العمل الإغاثي في مناطق النزاعات المسلّحة والكوارث الإنسانيّة. زميل لمركز حقوق الإنسان والدراسات الإغاثية في جامعة براون– الولايات المتحدة؛ وزميل أول في مركز العلاقات الدوليّة في جامعة نيويورك. مقيم في باريس، فرنسا.

موقع الجمهورية

——————————-

خمسة ملايين سوريّ شرّدهم الزلزال/ قاسم البصري

بلغ عدد السوريات والسوريين الذين شرّدهم الزلزال في مناطق شمال غربي سوريا حتى أمس، الإثنين 13 شباط (فبراير) 2023، قرابة 150 ألف شخص، مع تواصل عمليات الإحصاء للوصول إلى الأعداد الكاملة، وذلك بحسب بيانٍ صادرٍ عن منسقو الاستجابة في سوريا. ويشير البيان أيضاً إلى أنّ عدد المباني التي تمّ توثيق تضرّرها بلغ أكثر من 12 ألف مسكن، مع إحصاء 8160 مسكناً ظهرت عليها التصدعات، وبالتالي تحتاج إلى الكشف عليها من فرقٍ هندسيةٍ لتقدير حجم الضرر وإمكانية إعادة استخدامها ومتطلبات ذلك. بدورها، قدرت الأمم المتحدة أعداد المتضررين بشكلٍ مباشر من الزلزال في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة النظام، حتى الآن، بقرابة 280 ألف شخص، مشيرةً إلى تأثير الفيضانات على ألف منزلٍ في قرية التلول بريف سلقين.

ونزح عددٌ من العوائل المشردة نحو مناطق أقل تضرراً بالزلزال في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، فيما بدأت عوائل أخرى بنصب الخيام الواصلة من السعودية وقطر وكردستان في المساحات الفارغة والأراضي الزراعية القريبة من المواقع المنكوبة، بينما لا تزال آلاف الأسر في العراء.

وفي مناطق سيطرة النظام، أدى الزلزال إلى تضرّر أكثر من 142 ألف شخص في اللاذقية، كما بلغ عدد الأبنية الطابقية المنهارة بشكلٍ كليّ 103، وهنالك 247 بناءً آيلاً للسقوط من المحتمل أن تُقدِم المحافظة على هدم معظمها خلال الأيام القادمة. وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الإدارة المحلية إلى افتتاح 275 مركزٍ للإيواء في مناطق سيطرة النظام: 235 منها في حلب، و32 في اللاذقية (47 وفق أرقام محافظة اللاذقية)، و5 في حماة، و2 في طرطوس، ومركزٍ واحدٍ في حمص. في حين قدّرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عدد الأشخاص المحتاجين للمأوى في سوريا جرّاء الزلزال بأكثر من 5 ملايين شخص.

وحتى الآن لم يتضح وجود آلياتٍ فعالة للتعامل مع تبعات هذه الكارثة على صعيد تأمين المنكوبين والمشردين وإيوائهم وتقديم الدعم الإغاثي الطارئ لهم. وذكرت مصادر محلية للجمهورية.نت أن الخيام قليلةٌ جداً في الشمال السوري حالياً، وقد ارتفعت أسعارها عقب حدوث الكارثة من 75 دولار أميركي إلى 300 دولار نتيجة جشع بعض التجار واستغلالهم للكارثة. ويعود سبب قلة الخيام في الأسواق إلى تراجع الطلب عليها بعد مرور سنوات على بدء النزوح السوري، وتوجه العديد من المنظمات المحلية إلى بناء مشاريع سكنية ونقل النازحين إليها لضمان حياة أكثر استقراراً وكرامة.

إن المشكلة الأساسية اليوم في التعامل مع الكارثة شمال غربي سوريا يتمثّل في نقص الخيام في ظل طقسٍ شديد البرودة، ونقص المحروقات والمواد الطبية. أما في مناطق سيطرة النظام، فمراكز الإيواء مؤقتةٌ جداً، كون معظمها من المدارس والمنشآت التي يُفترض أن تعاود ممارسة نشاطها خلال أيام، ولا وجود للمخيمات إطلاقاً، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان النظام سيقبل بإنشائها إلى حين التوّصل إلى حلولٍ أخرى.

معيقات الاستجابة

مما يعيق عمليات الاستجابة الإنسانية السريعة في مختلف المناطق المنكوبة؛ سعي الأطراف المسيطرة إلى حجز مكانٍ لها في العمليات، وبالتالي ليس فقط تعطيل إدخال المساعدات وربطها بتحقيق مكتسباتٍ سياسية ومادية، وإنما أن يكون لها تدخلٌ مباشرٌ حتى في عمل المنظمات المدنية. من ذلك ربط عمليات الإغاثة في مناطق سيطرة النظام بمكاتب المحافِظ وضرورة مرورها عبرها، والأنباء عن تدخلات من المجالس المحلية والهيئات السياسية في عمل المنظمات الإغاثية ضمن حدود شمال غربي سوريا الخارج عن سيطرة النظام. وبانتظار اتضاح الخطوات الإجرائية لتنسيق الجهود الأممية في عمليات الإغاثة في أعقاب اجتماع مجلس الأمن، تعترض عمليات نقل التبرعات الأهلية السورية حسابات سياسية للحكومات الأربع الموجودة حالياً في سوريا. قد تعطينا أزمة إدخال المحروقات والمواد الإغاثية إلى مناطق شمال غربي سوريا ومدينة حلب عبر خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية مثالاً جلياً على التعطيل السياسي للعمل الإغاثي على الصعيد المحلي.

وحتى من قبل المنظمات الإنسانية، تظهر حالة من الخلط بين ما هو سياسي وما هو إغاثي تقتضي المرحلة الراهنة التركيز عليه، إذ لا يبدو حكيماً من قبلها في هذه الساعات إصدار بيانات ذات طبيعة سياسية حول نوع المساعدات التي ينبغي السماح بدخولها وطرقات دخولها والمعابر التي يجب أن تدخل من خلالها. من ذلك أن الهلال الأحمر السوري العامل في مناطق سيطرة النظام سارع في أول بيان صحفي له بعد الزلزال للتركيز على الجوانب السياسية وأثر العقوبات الغربية على النظام السوري، كما أعلن فريق منسقو الاستجابة عن رفضه لدخول فريق الأمم المتحدة إلى شمال غربي سوريا. يبدو التصرف الأول منسجماً مع تبعية الهلال الأحمر للنظام السوري وانعدام استقلاليته، على أن الموقف الثاني، النابع من غضبٍ مفهوم يتشاركه عموم السوريين، يبدو تكراراً لما ينبغي تجنّبه في مثل هذه الأوقات العصيبة، إذ يتوجب دعم كل الجهود المفضية إلى تقديم العون للمنكوبين بالزلزال.

كما تظهر حالياً مشاكل غياب التنسيق بين الجهات الإغاثية والإنسانية العاملة على الأرض، وهذا واردٌ جداً بحكم هول الحدث وكارثيّته، على أنه من غير المقبول ألا تنسّق المنظمات المعنية، خصوصاً في شمال غربي سوريا، مع بعضها البعض بعد عشر سنوات من العمل الإنساني والإغاثي المتواصل، وذلك بغية تحسين ظروف الاستجابة من خلال مكاملة بياناتها ومقاطعتها والتحرك بشكلٍ منسّقٍ ومتّسق.

تشير مقابلاتٌ أجرتها الجمهورية.نت خلال اليومين الماضيين إلى أنّ غياب التنسيق يفضي حالياً إلى توزيعٍ متكررٍ للاحتياجات الإنسانية والإغاثية في النقاط نفسها من جانب منظماتٍ وفرقٍ إغاثية عديدة، مع إهمال نقاطٍ أخرى بسبب الفوضى وغياب التنسيق. لا بد من غرفة عملياتٍ مشتركة لتنسيق الاستجابة بين المنظمات المحلية والفرق الإغاثية، لا سيما التي وصلت من خارج سوريا، وكذلك مع آلية الاستجابة في شمال غربي سوريا التابعة للأمم المتحدة.

ترتيب الأولويات  

في تطورٍ جديد، سمح النظام السوري للأمانة السورية للتنمية بجمع التبرعات من داخل وخارج سوريا عبر بثٍّ مباشرٍ لإذاعة شام إف إم بالاشتراك مع مجموعةٍ من الفنانين و«المؤثرين». وفي تكرارٍ لحملةٍ سابقة حملت عنوان «حتى آخر خيمة»، قرّر فريق ملهم التطوعي تغيير طبيعة حملة التبرعات التي بدأها بعد الزلزال مباشرةً لتحمل عنوان «قادرون»، وأن يكون هدفها بناء بيوتٍ للمتضررين من الزلزال. لا يبدو أن هذه الاستجابة هي الأمثل من ناحية التوقيت، فإعادة إعمار البيوت المهدمة وإسكان الناجين من الزلزال يجب أن تكون بأموال مقدمة من دول، وهو ما ينبغي أن يكون مسؤولية المانحين الدوليين، لا سيما خلال مؤتمر بروكسل الذي أُعلن عن انعقاده في شهر آذار (مارس) المقبل. ولأن هذه الجهود من مسؤولية الدول وتقتضي تخصيص مبالغ كبيرة لا يمكن إلا للدول أن تقدمها، فلا بد من التركيز على إيواء عشرات ألوف المشردين في العراء حالياً بدلاً من التفكير بإسكانهم بعد عام من الآن. قد يكون السبب الدافع لتغيير مسار حملة فريق ملهم، من هدفه الأولي لإغاثة منكوبي الزلزال، إلى بناء المساكن، هو الخذلان المستمر للسوريين من الجهات الأممية والدول المانحة، إلا إن حالة التشريد الحالية مختلفة السياق وغير مرتبطة بالصراع السوري، وتأتي نتيجةً لكارثة طبيعية، ولذا من واجب جميع الدول أن تقدم الأموال والالتزامات في سوريا بالقدر نفسه الذي ستقوم به في تركيا، ووفق احتياجات المنكوبين ومقدار الأضرار في البلدين.

ثمة اليوم أيضاً، على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع، تحركٌ أهلي سوري بزخمٍ كبير لجمع التبرعات والمواد الإغاثية في دول الشتات ليُصار إلى إيصالها نحو مدن الداخل السوري المنكوبة. لا بد من وضع أولوياتٍ وخطةٍ واضحةٍ لتكون هذه الجهود مثمرةً كما ينبغي، ومن ذلك التفكير بما يمكن إيصاله إلى سوريا فعلياً، وأكلاف شحنه والجدوى من إرساله. ليس حصيفاً جمع تبرعاتٍ عينية بقيمة 10 آلاف دولار، يمكن تأمين ما يماثلها من دولٍ مجاورة ومن داخل سوريا بطرقٍ أفضل اقتصادياً ولوجستياً، ثم شحنها إلى تركيا بكلفة قد تصل إلى مبلغٍ مماثلٍ لكلفة الشحنة ومع إمكانية ألا تصل بحكم إشكالية المعابر الموجودة. إن 20 ألف دولار على الأرض أكثر فائدةً من ذلك بكثير.

ينبغي أيضاً الإشارة للمرة المليون إلى أن توظيف صور الأطفال في حملات جمع التبرعات، مع تحويل الدعوة للتبرع إلى صيغة أشبه بالتسول أمرٌ مشين وينزع الكرامة عن المنكوبين. معيبٌ أن يقع البعض بعد كل هذه السنوات السورية القاسية في هذا الخطأ المتكرر، إذ لا ضرورة لوضع صورة طفلةٍ سوريةٍ لحثّ الناس على التبرع بالحليب. هذه سفاهة. يكفي أن يضرب الزلزال مدناً بأكملها ويشرّد الملايين ليجعل المنكوبين بحاجة إلى كل شيء.

موقع الجمهورية

———————-

السوريون قتلى النظام واللجوء والزلزال… مَوتهم في كل مكان!/ ماجد كيالي

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

 ربما لا يوجد شعب اختبر الموت، أو اختبره الموت، بكل أشكاله، كما السوريين، ومن في حكمهم ككرد سوريين وكفلسطينيين سوريين، فقد قتل السوريون بالكيماوي، وبالبراميل المتفجرة، وبهراوات الشبيحة وسكاكينهم، ونتيجة أفانين التعذيب المهولة في المعتقلات الرهيبة، وبرصاص حرس الحدود.

ومات سوريون كثر غرقاً في البحر، فيما كانوا يطلبون عيشاً آمناً، وماتوا من الجوع في المناطق التي خضعت لحصار مشدد (وضمنها مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين)، وماتوا من الصقيع في مخيمات البؤس على الحدود التركية في الشمال السوري، والآن ماتوا من الزلزال الذي دفن آلافاً منهم في الجنوب التركي وفي الشمال السوري.

أغلق الموت الفظيع المنافذ أمام السوريين، مستخدماً كل أرصدته الفظيعة، والمؤلمة، والقاسية، وغير المسبوقة، إلى درجة يموت الكلام معها، أو يصبح غير قادر على مطابقة المعنى، في هذا الهول السوري الممتد منذ أكثر من 12 عاماً.

بيد أن الأشد هولاً، ربما، من كل تلك الفظائع هو الخذلان، أو التنكر، اللذان واجههما الشعب السوري، من قبل النظامين العربي والدولي. وجرائم النظام السوري الحاكم منذ أكثر من ربع قرن، لا تغطي عليها، ولا تخفف منها، العقوبات الدولية، ولا محاولات العزل الضعيفة تجدي مع نظام لا يهمه سوى بقائه سيداً على “التركة”.

التنكر والخذلان في الحالة السورية، تكثفا معاً في لحظة الزلزال، فتركيا، مثلاً، التي عانى شعبها من نكبة الزلزال، باتت حكومتها تطلب موافقة النظام السوري على فتح معابر، لإدخال مساعدات إنسانية الى الشمال السوري، كأنها نسيت، فجأة، أنها اجتاحت تلك المنطقة مراراً، أقله في ثلاث عمليات عسكرية (درع الفرات 2016، وغصن الزيتون 2018، ونبع السلام 2019)، وأن قواتها موجودة في أكثر من منطقة من دون إذن من أحد، وأن الفصائل المعارضة في تلك المنطقة طوع أمرها، كما تمثل ذلك في العمليات العسكرية المذكورة. وطبعاً، ففي كل ذلك تبدو تركيا كأنها نسيت توعدها، منذ عامين، باجتياح الشمال السوري بعمق 30 كلم، وهي ذاتها المنطقة التي استهدفها الزلزال، الذي زلزل كل شيء.

 هذا يشمل الولايات المتحدة الأميركية، التي باتت تطلب من مجلس الأمن الدولي التدخل لفتح معابر رسمية معترف بها، علما إنها مع ميلشيات “قسد” (الكردية) تسيطر على شرقي الفرات، وهي تقوم بين فترة وأخرى بعمليات عسكرية ولا ينقصها لا الآليات ولا الطائرات، لغوث المحتاجين ودعم فرق الإنقاذ في مناطق الشمال السوري الخارجة عن هيمنة النظام.

الغريب، أيضاً، أن الأمم المتحدة، التي كانت أوقفت عد ضحايا النظام، منذ سنوات بعدما تجاوزوا مئات الآلاف، تناست كل ذلك وباتت تطلب منه الإذن لفتح معابر، كأنها تطالبه بأن يرأف بالسوريين الذين هجّرهم، وقتل أهلهم، وطمرهم بالبراميل المتفجرة، في مشهد سريالي عجيب، فيما الرئيس ذاته يزور حلب، ويوزع ابتسامات لا معنى لها.

الحقيقة أن كل المشهد ينم عن “خيانة” السوريين، لآمالهم، ووجودهم، وحتى لإنسانيتهم، إذ تم التمييز في محاولات إنقاذ السوريين في تركيا، وتأخير وصول المساعدات الغذائية والإنسانية للمنكوبين في الشمال السوري، والحؤول دون وصول آليات للتمكن من رفع الأنقاض وإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى الشمال السوري؛ وهو دور حاولت منظمتا “الخوذ البيضاء” و”فريق ملهم” تغطية ما يمكن بإمكانياتهم المحدودة.

“الخيانة” تتمثل، أيضاً، في أن كل تلك الدول التي اعتبرت نفسها “صديقة” للشعب السوري، والتي كانت أخذته، أو استدرجته للعمل المسلح، قبل عشرة أعوام، بما استنزفه، وضيع طاقته الكفاحية، وقوض صورة ثورته، هي ذاتها الدول التي تخلت عنه في ما بعد، فتركيا ذهبت إلى التحالف مع روسيا وإيران (شريكي النظام!) في ما عرف بثلاثي استانة. أما الولايات المتحدة الأميركية، فعسكرت في شرق الفرات (كراعية لقوات قسد)، في حفاظ على معادلة قوامها عدم الحسم، أي إبقاء الوضع السوري من دون أي حل.

بيد إن “الخيانة” تبدو واضحة وجلية في حقيقة أن تلك الدول “الصديقة” التي أدخلت كل تلك الأسلحة والذخائر والجماعات المقاتلة، من هذا البلد أو ذاك، بدت لا تريد أن تفعل شيئاً لإدخال مواد غذائية، أو طبية، أو آليات للحفر ورفع الأنقاض.

الزلزال هو نكبة القرن الحادي والعشرين (للسوريين والأتراك)، إن في عدد ضحاياه، أو في دمار مدن، عمرها مئات أو آلاف السنين (انطاكية عمرها أكثر من ألفي عام)، لكن الكل يريد أن يهرب من الزلزال، أو يريد أن يختطفه، فالنظام الذي قتل شعبه وشرده، ودمر مدناً وقرى، يريد صك براءة، ويريد تعويم نفسه على الصعيد الدولي، كأنه يريد تصفير العداد، أو تبييض صفحته.

تركيا- أردوغان تريد فتح صفحة جديدة، نقيض ماضيها، لتجدد شرعيتها، فالانتخابات على الأبواب، والآن باتت تداعيات الزلزال تضاف إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد التركي منذ سنوات.

أما الولايات المتحدة فما زالت عند ترددها في حسم الصراع السوري، بأي اتجاه، مركزة على بقاء إسرائيل آمنة في بيئة عربية مضطربة، كمصلحة استراتيجية لها.

منذ مطلع عام 2011، بات السوري منذوراً للموت، لمجرد أنه يريد التحرر من الهامش والذهاب إلى المتن، لمجرد أنه يريد أن يخرج من الصورة، كي يدخل في التاريخ، كفاعل بشري، ضد نظام أصم، جمد الزمان والمكان والمعنى في ما يعرف بـ”سورية الأسد”.

لا أدرى ما الذي كان سيقوله محمود درويش في “فنون” الموت السوري، بكل فظائعه، وهو الذي قال: هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلادِ

الرافدين. مِسَلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ،

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتْكَ

وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك

الخُلُود…

         فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد.

درج

—————————

كيتش المساعدات الإنسانيّة: قراءة سيميائيّة في لحظة غير مناسبة/ عمّار المأمون

نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

مضى أكثر من أسبوع على الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، عدد الضحايا تجاوز الـ35 ألفاً، ولا نعرف عدد من هم تحت الحطام، المساعدات الإنسانيّة تتدفق من كل مكان، وتواجه صعوبات في الوصول إلى المناطق المنكوبة، وكلما توقفت شاحنة على حاجز أو معبر، تدفقت الاتهامات، النظام السوري يُسيس المساعدات ويمنع وصولها لمن هم خارج طاعته، تركيا تعرقل دخول بعض الشاحنات، أماكن المعارضة يشاع أنها ترفض المساعدات من “مناطق النظام”. نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

ضمن كل ما سبق، لا مكان للكتابة عن الكيتش، أو بصورة أخرى، ليست هذه اللحظة المناسبة، حرفياً ما زال الناس تحت الأنقاض، لكن، خاض الكثيرون سراً وعلناً، في غرف التحرير ووسائل التواصل الاجتماعي، نقاشات عن صور الأطفال الموتى، وعن صور الجثث، وبدأت تحليلات المهندسين عن الأبنية التي انهارت والتي لم تنهار، الصور لم تعد مجرد “وثائق”، هي أسلوب لمساءلة الإنسانيّة، حقوق الأفراد، الدعاية السياسية، وكل الكلام الذي نعرفه، لذا، أظن أنه يمكن الكتابة عن الكيتش.

لن نغوص في تعريفات الكيتش (الكلمة الألمانية ذات المعاني المتعددة لكنها في مجملها تقارب تعريف الابتذال)، لكن يمكن رصد معانيه حين تأمُّل صور شاحنات المساعدات التي تصل إلى سوريا، بصورة أدق اللافتات التي تعلق على مقدمة الشاحنة للتعريف بـ”هويتها”، ومصدرها ومن أرسلها وإلى من. الكيتش هنا، من موقف جماليّ – سياسي، رسالة شديدة الوضوح، لا حاجة الى النقاش حولها، تخدم غرضاً واحداً ودقيقاً، هذه الشاحنة من أ إلى ب،  فلا حاجة الى التفكير، كل شيء جاهز وواضح، كل العلامات السيميائيّة ذات معنى واحد، لا تأويل إلا خارج إطار اللافتة، مع ذلك، هناك داخل الإطار أحياناً، مفارقات من الصعب تجاهلها.

نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

شاحنة نهر البارد: “لبيكي يا أختاه… نحن خدامك”

أرسل سكان مخيم نهر البارد الفلسطيني في لبنان شاحنة مساعدات، اللافتة أمامها تحوي علم سوريا الرسمي يقابله علم فلسطين وتحته علم لبنان بصورة شفافة، لا نعلم إن كانت الشفافية خطأ في التصميم، لكن لها معنى، عدم إتقان التصميم هنا، يحيل إلى أن الشاحنة ذات هوية مختلطة “فلسطينيتها” أوضح من “لبنانيتها”.

صورة الفتاة والطفل تحت الأنقاض، تقابلها صورة الفدائيّة، الملثمة، ذات الكحل، هناك ما هو نسوي في هذه الرسالة، صورة الفدائية هنا في سياق الإنقاذ تشوّش معنى الصورة، الأطفال تحت الأنقاض بسبب الزلزال، لا بسبب العدوّ، ولا توجد أي علامة لهلال أحمر أو صليب أحمر أو أي شيء من علامات “الطب” المشهورة، هناك فدائيّة فقط.

شعار الحملة لافت “لبيكي يا أختاه…نحن خدامك”، إذاً نحن أمام واجب ديني من نوع ما، أطلقت الفتاة النداء، و “فزعت” الفدائية لإنقاذها. الفتاة نجت، لن نشير إلى اسمها أو مكان وجودها في سوريا، لن نسيس الموضوع، علماً أن الأعلام لوحدها تكشف الأمر.

الغريب في اللافتة، وجود أرقام هواتف مع أسماء أصحابها، لا نعلم الفائدة منها، هل نتصل بهم؟، هل نشكرهم ؟ هل نطلب المزيد؟، ناهيك بأنها موجودة في الخانة ذاتها التي تحوي عبارة “اليوم يقبل منا مثقال ذرةْ… وغداً لن يقبل منا ملء الأرض ذهباً”، لا نعلم بدقة مصدر العبارة، لكنها ترفق حين البحث عنها بآية “وافعلوا الخير لعلكم ترحمون”، أي نحن أمام واجب إلهي، هناك نوع من النجاة الذاتيّة، نقدم المساعدات، الآن، لأن غداً (يوم الحساب) لن يقبل منا شيء.

الفدائي إذاً يقوم بواجب إلهي لإنقاذ طفلة سوريّة عالقة تحت الأنقاض، وترك رقم هاتفه كي نتواصل معه لاحقاً.

شاحنة حزب الله: ” من الشعب اللبناني المقاوم…”

لافتة شاحنات الحزب التي توجّهت نحو سوريا مختصرة، لا حاجة الى الكثير من البهرجات حولها، حتى من دون كلمات، “علم الحزب” إلى “علم سوريا” وهنا المفارقة، لا يذكر اسم حزب الله الصريح، يظهر ضمن الشعار، فالمكتوب هو “من الشعب اللبناني المقاوم إلى الشعب السوري الشقيق”.

طبعاً، لا نعلم بدقة من هو “اللبناني المقاوم”، ولا “السوري الشقيق”، كلمات غامضة تلوّثها السياسة في حال شُرحت، لذا اكتفى الحزب بالعموميات، من علم إلى علم، من سيادة إلى سيادة أخرى، مع هاشتاغ صغير “سوريا­­_نحن_ حدك”، من نحن أيضاً، غامضة.

لا يستوجب الكيتش أي إجابة، هو بحد ذاته يعمل على المستوى الأول من المعاني، وهنا اللافت، لا يوجد علم لبنان على اللافتة، إذاً هي “مساعدات” من فئة محددة، إلى فئة محددة أخرى، لا يوجد ما يشير إلى لبنان سوى كلمة “لبناني ومقاوم”، غياب العلم هنا ذو معنى، أي هل اللبناني الذي لا يقاوم  غير مشمول؟.

قافلة عشائر دير الزور: أنقذوا الشمال السوريّ

حملة هنا سوريا التي تشكلت شرق البلاد، أرسلت عشرات الشاحنات التي أوقفت على المعابر، وتحمل هاشتاغ أنقذوا الشمال السوري، في إحالة إلى المناطق المحررة، حسب فيديو يطالب بفتح المعابر كي تصل الشاحنات إلى “منبج وغيرها”، لمساعدة “إخواننا المنكوبين”، يمر اسم مدينة جبلة في الفيديو، في النهاية الفزعة للكل لفظاً لا رمزاً لرصده على اللافتة.

الصورة على اللافتة من الدمار شمال سوريا، لا تحوي علم أي جهة أو منظمة، فهذه التبرعات من السكان، وليست من المنظمات حسب من يطالب بفتح المعبر، ويؤكد أنهم، أي القائمون على الحملة، لا علاقة لهم “لا بسين ولا بجيم”.

اسم “عشائر دير الزور” ذو حمولة تاريخية، لا تتعلق فقط بالثورة السورية، بل تسبقها نحو تاريخ من الصراعات مع نظام الأسد والمكونات السكانية في المنطقة، وهنا اللافت، هناك نوع من الحميّة في هذه اللافتة، لا مكان للأعلام ولا السيادات المتصارعة، سلطة العشيرة تظهر، عبر كلمة عشيرة نفسها.

قافة الإدارة الذاتية: لا شعار إلا الإدارة الذاتيّة

سهّلت الإدارة الذاتية مرور شاحنات المساعدات من مختلف المناطق، وقدمت شاحناتها الخاصة بالتعاون مع الهلال الأحمر الكردي، لكن اللافت في شاحنات المساعدات أن اللافتات الموضوعة عليها لا تحمل أي شعار سوى شعار الإدارة الذاتيّة، لا أعلام، لا عبارات طنانة، ولا أي شي يلفت الانتباه، لكن مكان توجه الشاحنات محدد، نحن أمام “قافلة المساعدات للمناطق المنكوبة في حلب”، وأخرى “شمال غربي سوريا” وكأننا رمزياً، أمام غياب الاعتراف بأي دولة أو جهة سوى الإدارة الذاتية ذاتها، التي إن أمعنا النظر في اللافتة، نتأكد من أنها لا تعترف إلا بأسماء المدن والجغرافيا بوصفها محط نزاع، لا سيادة رسمية عليها.

درج

—————————–

الزلزال عندما يفاقم كارثة السوريين/ عمر كوش

الزلزال المدمر، الذي ضرب عدة ولايات في جنوبي تركيا صباح الاثنين الماضي، ضرب أيضاً عدة محافظات في سورية، وتسبّب في فقدان أرواح آلاف الأتراك والسوريين، إضافة إلى الخراب الهائل الذي أصاب عشرات آلاف المساكن والمرافق العامة والخاصة في مناطق كانت مأهولةً بكثافة، وحوّلها الزلزال إلى مناطق منكوبة، ينتظر فيها الناس أن تُمدّ لهم يُد العون والمساعدة، المحلية والدولية، وذلك بعد أن فقد قسم كبير منازلهم وأماكن أرزاقهم، إذ أعلن وزير التطوير العمراني في تركيا، مراد كوروم، أن الزلزال أضرّ بصورة مباشرة بـ 13.5 مليون مواطن تركي، بينما تفيد تقديرات بأنه أضرّ بأكثر من ثلاثة ملايين سوري، خصوصا في شمال غربي سورية، وفاقم وضعهم الإنساني، بعد أن باتوا مشرّدين بلا مأوى، يصارعون من أجل البقاء في ظروفٍ جوية قاسية، نتيجة العاصفة الثلجية والمطرية الباردة جداً، التي تشهدها مناطقهم منذ أيام.

في الجانب التركي، استنفرت الحكومة فور وقوع الزلزال، وسارعت إلى تسخير إمكانات الدولة التركية وقدراتها، بما فيها وزارة الدفاع التي أرسلت فرقاً متخصّصة تضم آلاف الجنود، للمساعدة في التعامل مع آثاره وتداعياته، حيث لم تتأخّر فرق الإنقاذ المتخصّصة في الوصول إلى مناطق متضرّرة عديدة، وشرعت في العمل على إنقاذ الأحياء، وإسعاف الجرحى والمصابين، وانتشال الضحايا، فيما سافر معظم المسؤولين الحكوميين والحزبيين، بمن فيهم قادة أحزاب المعارضة، إلى المناطق المنكوبة، بغية تفقّد المناطق المتضرّرة، والإشراف على عمليات التعامل مع الكارثة.

وفي سورية، أضحت الكارثة مضاعفة، إذ لا توجد دولة ذات مؤسّسات متخصّصة، بل سلطات أمر واقع، لا تملك إمكانات ولا وسائل إنقاذ، ولم يكن في حسبانها التعامل مع أي كارثةٍ طبيعية تصيب الناس في مناطق سيطرتها. لذلك تركوهم لقدرهم تحت الأنقاض أو في العراء. واقتصر الأمر، في المناطق الخارجة على سيطرة النظام على جهود بعض الأهالي الذين نجوا من الزلزال، إلى جانب جهود فرق الدفاع المدني محدودة القدرات والإمكانات، كونها لا تملك معدّات تنقيب وبحث عن الأحياء، ولا مواد إغاثية أو طبية، وليس لديها فرق مدرّبة على التعامل مع الكوارث الطبيعية، إذ كانت تتعامل، طوال السنوات الماضية، مع تداعيات هجمات قوات نظام الأسد، والمليشيات الطائفية الإيرانية، وقصف طيران النظام الروسي. كما أن المناطق الخارجة على سيطرة نظام الأسد تفتقر إلى الموارد والمرافق اللازمة، وتتّسم بناها التحتية والخدمية بالضعف والهشاشة، بالنظر إلى أن الهجمات والغارات التي شنّتها قوات النظامين، السوري والروسي، على تلك المناطق، كانت تطاول على وجه الخصوص الأماكن السكنية والأسواق والمدارس والمستشفيات ومحطّات المياه والكهرباء. وبالتالي، جاء الزلزال كي يدمّر منازل أنهكتها غارات البراميل المتفجّرة، أو التي بُنيت على عجل كي تستوعب مئات آلاف المهجّرين قسرياً.

لا يختلف الوضع كثيراً في مناطق سيطرة نظام الأسد، وخصوصا في محافظتي حلب واللاذقية، لأن هذا النظام لا يكترث بما يصيب السوريين من كوارث طبيعية، تُضاف إلى الكارثة الكبرى التي سبّبها لهم، فهو غير معني بتقديم يد العون لهم، وكان مشغولاً منذ عام 2011 بالتدمير الممنهج لأغلب المناطق المدنية في سورية، وتهجير سكّانها، واقتياد مئات آلاف السوريين إلى زنازين وأقبية أجهزة مخابراته ومعتقلاته وسجونه، وتعذيبهم وتصفيتهم داخلها، وحرمان ذويهم من استلام جثثهم. وبالتالي، لا يعنيه ما يسبّبه الزلزال للسوريين، وأكثر ما يهمه يتمحور في كيفية استغلال كارثة الزلزال من أجل استثمارها، بوصفها فرصةً من أجل تلميع صورته، وتحميل دول الغرب مسؤولية الوضع الكارثي بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية عليه، وخصوصا التي ينصّ عليها قانون قيصر. وكعادته، سيلجأ النظام إلى الاستيلاء على المساعدات الإغاثية والطبية، التي سترسلها دول عربية وغربية ومنظمّات دولية، ويعلم الجميع أنها لن تصل إلى المتضرّرين من الزلزال، إلا في حال تولّت هيئات ومنظمات دولية مهمة إيصالها، وهو أمرٌ لا يوافق عليه نظام الأسد، ولن يسمح به.

لا تصمد ادّعاءات نظام الأسد أمام الواقع المرّ الذي يعيشه معظم السوريين أينما كانوا، فهو المسؤول عن وضعهم الكارثي. وعلى العكس مما تدّعي أبواقه الإعلامية، لا تستهدف العقوبات الأوروبية والأميركية المساعدات الإنسانية، إذ لا أحد يعترض على أي دولة، أو منظمّة، تريد إرسال الأغذية والأدوية ومواد الإغاثة إلى السوريين المنكوبين. كما أن لا أحد يعترض على إرسال فرق إنقاذ إلى كل المناطق المتضرّرة. المشكلة التي قد تعترض إيصال المساعدات إلى الشمال السوري هي في أن معبراً واحداً فقط مخصّص لإدخالها حسب قرار مجلس الأمن رقم 2671. ولذلك ثمّة وجاهة في الدعوات الدولية المطالبة بفتح كل المعابر الحدودية بين تركيا وسورية لدخول فرق الإنقاذ والمساعدات إلى الشمال السوري، وهو أمرٌ لن توافق عليه روسيا، كونها كانت وراء إغلاق باقي المعابر. وعلى الرغم من أن روسيا أبدت استعدادها لتقديم مساعداتٍ إلى السوريين، لكن ذلك لن يدفعها إلى الموافقة على فتح جميع المعابر الحدودية، من أجل إدخال المساعدات الإغاثية في أسرع وقت ممكن، وتسهيل وصول فرق الإنقاذ الدولية، فالتجارب السابقة أثبتت أنها تحاول باستمرار منع وصول المساعدات إلى مناطق الشمال السوري، بل قصفت قاذفاتها ومقاتلاتها قوافل المساعدات الأممية في أكثر من مرّة.

المفارقة أن رؤساء وقادة بعض الدول العربية سارعوا إلى الاتصال ببشار الأسد وتعزيته، بالرغم من أنهم يعون جيداً أنه المتسبّب في كل الكوارث التي ألمّت بسورية والسوريين. كما أنهم لم ينتظروا موافقة أحد عندما أرسلوا المساعدات الطبّية والإغاثية إلى سلطات نظامه. كان عليهم تعزية الشعب السوري، وتقديم المساعدات إلى المتضرّرين في كل مناطق سورية، وخصوصا في الشمال الغربي، وألا يرسلوها إلى نظامٍ لن يتوانى عن استغلالها، من أجل المضي في قتل مزيد من السوريين.

العربي الجديد

————————-

الزلزال بين السياسة والوجدان/ راتب شعبو

كنّا، في أواخر عام 1996، في سجن تدمر الفظيع الذي يجعلك تكرّر في نفسك “بأي ذنب”، كما تفعل الموؤودة، حين ضجرت الأرضُ من استقرارها وتحرّكت غير عابئةٍ بشيء. كان ذلك لقائي الجدّي الأول بهذا الرعب الذي يسمّى الزلزال. كانت المناشف المعلقة على الحبل الشيء الوحيد القابل للحركة في المهجع، بما يمكن أن يشير إلى زلزال، فلا رفوف أو خزن تسقط عنها مقتنيات، ولا مكتبات تنزلق منها الكتب، ولا أسرّة تتحرّك. لا شيء هناك سوى جدران صمّاء وكتل من اللحم البشري الحي المحروم الحياة. ولكن الحركة ليست هي التي أيقظتنا في ذلك الليل الرهيب، بل الأصوات. أصوات تشبه الرعد، ولكنها أكثر ثقلاً وديمومة، كأن هناك عدد غير محدود من الشاحنات المحمّلة بالحجارة والصخور تُفرغ حمولتها في وقت واحد في هاويةٍ لا قاع لها. كان هذا هو الصوت الغالب، يمتزج مع صوت الأبواب الحديدية للمهاجع، وهي ترتطم من دون توقّف بإطاراتها الحديدية، مع صوتٍ غريب آخر يشبه صوت قطعانٍ من الخيول تعدو على سطح المهجع. لم ندرك، للوهلة الأولى، ما يجري، إلى أن همس “يوشع” تلك الكلمة مرتين متلاحقتين: “زلزال، زلزال”. قال “يوشع” ذلك همساً، لأنه ينبغي أن لا يصدُر أي صوت عن تلك الكائنات البشرية المخزونة. حينها التقت الكلمة بمعناها أول مرة في ذهني. الحقيقة أنه لم يكن لهذه الكلمة المعنى نفسه في ذهني. حتى يمكنني أن أقول إنه لم يكن لهذه الكلمة، قبل ذلك، معنى في نفسي، كان لها ظلّ من المعنى، أو هيكلٌ فارغ لمعنى. أما حينها، فقد اكتظ الهيكل بالمعنى، أو تكشّف لي المعنى دفعة واحدة بكل ما فيه من رعب وهول. وفي لحظة اكتمال المعنى تلك، عصر روحي بقسوة ساحقة الحضور الكثيف لمعنى آخر، هو السجن. أنت سجين، وأمام هَول الزلزال ليس لك من مهرب، يبقى أن تستسلم وتكون شاهداً حياً مرعوباً على الدمار المادّي الذي يمكن أن تلحقه بك هذه القوى الجبّارة المنفلتة.

هكذا، عشنا ما يجعلنا نعرف جيداً ماذا يعني أن تجتمع عليك الأهوال، أن تهاجمك قوى الطبيعة الجبّارة وأنت سجينٌ معدوم الحيلة، وأن يتزاحم في قلبك خوفان، خوفٌ من بشر منظمّين مسلحين قساة، يختزلون علاقتهم بك إلى حدود أن تكون كائناً خاضعاً لسيطرتهم، وأن تكون مجرّد موضوع لتسلّطهم المبني على القوة فقط، وخوف آخر من هَول طبيعةٍ عمياء لا تدرك ذاتها.

استحضرت ذلك الشعور مع متابعة قصص الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسورية، وسماع تفاصيل معاناة وأحاسيس الأهالي المذعورين المحرومين النوم، وهم يمكثون في البرد والريح وتحت المطر، ولا يجرؤون على الاحتماء في بيوتهم، خشية أن تنهار عليهم. للزلزال في جبروته القاهر منطقه الخاص، فقد يعفّ عن نوع من البائسين ممن يسكنون الخيم، ولعله كشف الميزة الوحيدة لهؤلاء، فهو لا يملك قدرةً كبيرةً على من لا يعيشون في مساكن قابلة للانكسار والتحطّم، لكنه، في المقابل، يقسو على نوع آخر من البائسين ممن يعيشون في مساكن فقيرة المبنى وسريعة الاستجابة لنداء السقوط.

لا يفرّق الزلزال بين سوري وآخر، لا يقف على الحواجز، ولا يكترث بحدود اتفاقيات تهدئة معلنة أو مكتومة، ولا تعنيه قرارات مجلس الأمن بشيء، ولكن السؤال الذي يتكرّر طرحه انطلاقاً من أسبقية الإنساني على السياسي: هل تستطيع الطبيعة اللاتمييزية للزلزال أن تنتج قوة توحيدية قادرة على أن تجمع السوريين؟ هل تستطيع المأساة الطبيعية أن ترتق ما فتقته المأساة السياسية؟

الواقع أن ذلك لا يبدو ممكناً، لأن آليات المأساة السياسية ومحرّكاتها مستمرّة، وتسعى لتوظيف كل شيء، بما في ذلك الكوارث الطبيعية، في خدمة استمرارها. والواقع أنه منذ نشأت الدول والسلطات السياسية، لم يكن للإنساني أسبقية على السياسي. أسبقية الإنساني لا توجد إلا في قلوب المحكومين، وهؤلاء، في معظم الأحيان، لا يمتلكون القرار.

ولكن حتى قلوب المحكومين السوريين الذين تلاحقهم النكبات أينما حلّوا، لا تستطيع أن تتقبل “أسبقية الإنساني” إذا كان ذلك ينطوي على ما تسميه الصحافة “إعادة تأهيل نظام الأسد”. لا يستطيع هؤلاء أن يقبلوا، تحت تأثير كارثةٍ عابرةٍ مهما كبرت، فتح أذرعهم لكارثة دائمة خبروا دمارها المباشر على مدى يزيد على عقد. لا عجب في ذلك، بعد أن عانى السوريون ما عانوا من انقلاب “دولتهم” عليهم، في ما يشبه زلزالاً مستمرّاً يهدم ويقتل ويشرد على مدار الساعة. لا يتوقف هذا الشعور على السوريين خارج مناطق سيطرة طغمة الأسد، ولا على السوريين الذين يرفضون قلباً وقالباً (أو قلباً فقط) هذه الطغمة، بل يشارك به السوريون الذين يأخذون جانب النظام في هذا الصراع. يدرك هؤلاء أيضاً الفساد الفظيع للنظام، وعجزه عن مدّ يد العون إلى المنكوبين ولا مبالاته بهم، واستعداد زبائنه وأزلامه لسرقة المعونات كي يدعموا آلة استمراره واستمرارهم، ولو على حساب أرواح المنكوبين. هل يمكن لعاقلٍ، مهما يكن موقفه من الصراع السوري، أن يستوعب إصرار أجهزة النظام السوري على من يريد تقديم المساعدات إلى الأهالي المنكوبين في المشافي الحصول على تصريح أمني، أو أن يسلمها لمجلس المحافظة؟ المتعلقون بالنظام أنفسهم باتوا يعلنون قناعتهم بأن الهدف من ذلك سرقة المعونات. الشعور الأول أمام هذا الحال هو الخجل أو الخزي.

في الزلزال ما يشبه الاستبداد، في كليهما يصبح ما بنيتَه كي يحميك، أو ما تحتمي به عادة (البيت في حالة الزلزال، والدولة في حالة الاستبداد) هو ما يهلكك، وهو ما تفرّ منه. يصبح الخروج من البيت إلى العراء هو الملاذ من الهلاك للمنكوبين بالزلزال، ويصبح الخروج من “الدولة” هو ملاذ المنكوبين بالاستبداد. في الحالتين، يتعرّض البشر لخيانة. خيانة من الطبيعة “الأم”، وخيانة من أبناء نوعهم حين امتلكوا المقدرة. أما السوريون الذين قضوا أو أصيبوا في هذا الزلزال، فقد كانوا ضحايا خيانتين. حين تدبّروا أمر خيانة الاستبداد ونجوا بأنفسهم من الهلاك الذي تلاحقهم به “دولتهم”، اغتالتهم خيانة أخرى على أرض أخرى.

العربي الجديد

————————

في فنون تعفيش الزلزال/ عمر قدور

يوم الخميس، دخلت أول شحنة مساعدات دولية عبر “باب الهوى” إلى منكوبي الزلزال، وهي أصلاً من ضمن المساعدات الروتينية التي تقدِّمها الأمم المتحدة، وكان وصولها قد تأخر “حسب ما قيل” بسبب رداءة أحوال الطرق جراء الزلزال. من جهته، تفادى الرئيس التركي انتقادات كانت ستوجَّه إليه لاحقاً، فتجاهل كلياً مسؤولية بلاده السياسية والأخلاقية عن مناطق الشمال السوري الخاضعة لنفوذه، والتي كان ينبغي أن تنال حصة من أعمال الإنقاذ التي تقوم بها الطواقم التركية، أو على الأقل إرسال بعض آليات إزالة الأنقاض إلى طواقم الخوذ البيض السورية.

المعارضة التركية، على غرار ما تفعله المعارضة عادة في النظم الديموقراطية، كانت قد أعلنت يوم الاثنين أن الوقت هو لإظهار وحدة الأتراك، وهذا إعلان يحتمل من الوعيد أكثر من الصدق. ولو ذهب جزء من أعمال فرق الإنقاذ أو آلياته إلى الشمال السوري لكانت فرصتها لتنقضّ على غريمها أردوغان، خاصة مع دنو موعد الانتخابات حوالى منتصف أيار المقبل. هكذا، بتعبير سوري دارج، حرمَ أردوغان معارضيه من تعفيش الزلزال على الجهة السورية بأن سبقهم إلى ذلك.

كانت كلمة “تعفيش” قد صارت في حيز التداول عندما راحت قوات الأسد تسرق محتويات البيوت التي تداهمها بحثاً عن “مطلوبين”، ثم راحت لاحقاً تنهب محتويات مدن وبلدات بأكملها بعد اقتحامها. تطورت دلالة “التعفيش” سريعاً، فصار يُقصد به مختلف أنواع السطو المادي والمجازي الذي يقوم به أشخاص أو جهات على حساب أشخاص أو قضية، أو استغلال دنيء لمناسبة ما، لتتوزع تالياً حصيلة التعفيش فتكون المكاسب مادية أحياناً ومعنوية أحياناً أخرى.

في مثالنا السابق نفسه، من المرجَّح أن تتوالى محاولات التعفيش على حساب الأهالي المنكوبين في الشمال السوري، فالأسد سيسعى لتعفيش اللامبالاة التركية تجاههم ليطالب ببسط سيطرته على تلك المناطق. أما الحليف الروسي فسيأخذ “التقصير” التركي والأممي ذريعة لتعفيش المساعدات الدولية الروتينية لتلك المناطق، وسيطالب مع الصيف المقبل بوقف إرسالها عبر تركيا ومن ثم معبر “باب الهوى”، بهدف إرسال المساعدات بأكملها إلى سلطة الأسد، وهو مطلب قديم سيجد سنداً له الآن.

منذ تواردت الأخبار الأولى عن الزلزال، كان أول ما طالب به حلفاء الأسد هو رفع العقوبات عنه، بمعنى أن النية اتجهت فوراً إلى تحقيق مكسب لا علاقة له مباشرة بالكارثة. لم يتحلَّ هؤلاء بقليل من الكياسة ليطالبوا أولاً بمساعدات عاجلة وفرق إنقاذ، وقد أثبت وصول المساعدات من دول حليفة للأسد ودول عربية على قطيعة معه أن الشق الإنساني غير خاضع للعقوبات، بصرف النظر عن رأينا فيها من حيث المبدأ. لقد تفوقت نداءات أنصار الأسد في الداخل والخارج لرفع العقوبات على نداءات المستغيثين لرفع الأنقاض، بينما لم تقصّر حكومته “بلا ضوضاء” في طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي.

طلب المساعدة ليس معيباً بالطبع، وقد طلبها أردوغان من العالم لبلده منذ الساعات الأولى، وطلبها من قبل العديد من قادة الدول التي رغم وفرة إمكانياتها كانت غير كافية لمواجهة كوارث ضخمة. لم يفعلها بشار الأسد، باستثناء ما أشرنا إليه، وترك لمبادرات الحكومات الأجنبية أو العربية أن تكون أرأف بحال المنكوبين تحت سيطرته. من بينهم لا يُستبعد أن تكون تل أبيب قد حاولت تعفيش الزلزال للتطبيع مع جارها، بالحديث عن طلب مساعدة من الأسد، لينكر الأخيرالأمر مطالباً إسرائيل بمساعدة أصدقائها في داعش وغيره من “التنظيمات الإرهابية”، وكأنما لم يسبق للمسؤولين الإسرائيليين أن توالوا على التصريح بتفضيلهم بقاءه في الحكم.

من متابعتنا لصفحات موالية معروفة، كان هناك منذ البداية تسليم عام بأن المساعدات المرسلة للمنكوبين ستتعرض للتعفيش، ثم سرعان ما أتت الأخبار مع الصور والتسجيلات لتوثّق الوقائع المخزية. ربما يكون من الخير حقاً أن الجميع في الداخل والخارج مستسلم لفكرة السطو على قسم كبير من الإعانات، من باب أن ذلك يهون لقاء وصول ما يتيسر منها إلى المحتاجين، غير أننا لا نعرف إلى متى سيستمر تدفق المساعدات رغم أخبار تعفيشها.

جو التراحم والتكافل بين السوريين، الذي أعقب الزلزال، يُفترض أنه من الطبائع الإنسانية المعتادة وقت المحن، لكن هناك فئة أبت إلا أن تعفّش ما هو إنساني بتسييسه، لتعتبره ردّاً جامعاً مانعاً على أي حديث سابق عن انقسامات لأسباب إثنية أو طائفية، وكأن الانقسامات المذكورة هي فقط ما يسيطر على عقول وقلوب البشر طوال الوقت كما هو حال حضورها المقلوب في أذهانهم حتى في وقت الكارثة. أيضاً، يريد هؤلاء حصتهم من التعفيش بإثبات صوابهم السياسي، من خلال القفز على أكتاف سوريين متكافلين ضمن رؤيتهم لأولوياتهم، ولا ينتقص من تراحمهم اليوم أن يعودوا لاحقاً إلى الصراع لأسباب يخطئ من يختزلها بعامل وحيد.

من بين الروايات عن سرقة المعونات، اجتزأ البعض للتصويب عليها تلك المتعلقة بمشايخ، قيل أنهم سطوا على المساعدات الموجَّهة للاجئين في الجوامع التي يؤمّونها. غاية هذا البعض أيضاً تعفيش نقاط لصالحه في صراعه مع الدين، ولا يرى نفسه وهو ينطلق من لاوعي ينزّه هؤلاء المشايخ عن وجود فاسدين بينهم أسوة بفئات مجتمعية أخرى. وعندما ينطلق هؤلاء من موقع معارض فإنهم ينسون أن أولئك المشايخ معيَّنون في مناصبهم من قبل وزارة أوقاف الأسد، وثابروا خلال العقد الأخير على امتداح قواته التي قتلت من السوريين ما لا يقارَن مع حصيلة الزلزال.

لم يخلُ المشايخ أيضاً، في سوريا كما في غيرها، من فئة سعت إلى تعفيش الزلزال بدعوى أنه غضب من عند الله، والمكسب في ذلك أنهم يقدّمون أنفسهم وكلاء عن الله، ناطقين باسمه. أما المكسب المستدام المرتجى فهو ترسيخ مرجعيتهم كعارفين بما يغضب الله، ووجودهم كسلطة راسخة مستمرة على خرافه الضالة.

ربما ما زلنا، بعد مضي خمسة أيام، في مستهل ما ستتفتق عن الأذهان من أجل تعفيش الزلزال. نصادف تحذيرات تدلّ على ما وصلت إليه فنون السطو، ومنها مثلاً الطلب من المتبرعين أن يقوموا بفتح أغطية أو أغلفة المواد الغذائية، كضمانة لئلا تٌسرق وتُباع. بخلاف كل الإيجابيات التي أظهرها سوريون، يتوقع كثر أن تتوالى من سوريين آخرين فنون الفضيحة السورية لتحوّل المأساة إلى مهزلة دامية، وما زلنا في البداية؛ ربما يتشجع المترددون بضحكة الأسد في اليوم الخامس على أنقاض الزلزال في حلب.

المدن

———————

عندما يكشف الزلزال العلاقة المتصدّعة بين السياسة “والاعتبارات الإنسانيّة”/ غسان صليبي

طُرِحت بحدّة العلاقة بين السياسة “والاعتبارات الإنسانية”، بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، فعَلَت الأصوات بضرورة أن تخرق هذه “الاعتبارات الإنسانية” جدار السياسة بين تركيا وسوريا، أو بين لبنان وسوريا، أو بين الغرب وسوريا، وحتى بين المعارضة والنظام السوري.

المقصود بــ”الاعتبارات الإنسانية” هنا القتلى والجرحى والمفقودون والمشرّدون والدمار الذي خلّفه الزلزال، والحاجة إلى عمليّات إنقاذ يتعاون فيها “الجميع”، من دون اعتبار للعلاقات أو المواقف السياسيّة التي سبقت الزلزال.

في السنة الأخيرة دخلت “الاعتبارات الإنسانية” في الجدال السياسي في لبنان، على أثر قضيّة المطران الحاج الذي أوقفته السلطات الأمنيّة، بحجة قدومه من إسرائيل محمّلاً المال والمساعدات إلى لبنانيين، من أقرباء لهم هربوا إلى إسرئيل بعد تحرير الجنوب، لارتباطهم بالعدو الإسرائيلي إبّان احتلاله لبنان.

في حينه، صرّح البطريرك بشارة الراعي أن “ما قام به المطران عمل إنساني”، ولا دخل له بالسياسة ولا بالتطبيع مع إسرائيل، في الوقت الذي اعتبر فيه اللبنانيين في إسرائيل مبعدين وليسوا عملاء. وردّ عليه المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان بأن “القضايا الإنسانية شأن آخر، والربط بين الشأنين يضع لبنان أمام كابوس إسرائيلي جديد”. ويُمكن القول إن موقفَي المرجعيّتين الدينيّتين عكسا إلى حدّ كبير المواقف الشعبية، في كل من البيئتين المسيحية والشيعية.

تتكرّر هذه المواقف وهذه الاصطفافات عند طرح مسألة النزوح السوري في لبنان؛ فمعارضو النظام السوري الرافضون للتطبيع معه يتمسّكون بـ”الاعتبارات الإنسانية”، لرفض إعادة النازحين من دون رضاهم إلى بلادهم، في حين يبدأ حلفاء النظام السوري محاججتهم بضرورة “وضع الاعتبارات الإنسانية على جنب”، أو يتمسّكون بـ”الاعتبارات الإنسانية” المتعلّقة بأوضاع الشعب اللبناني غير القادر على تحمّل عبء النزوح السوري.

هذه الاصطفافات من موضوع “الاعتبارات الإنسانية” تتغيّر بحسب تغيّر الظروف السياسية. ففي الفترة الزمنية التي كان يحتاج فيها “حزب الله” إلى التهدئة، مع تركيزه على أن خلاصنا الوحيد هو في ثروتنا البحرية، أي من خلال ترسيم الحدود مع إسرائيل، كان لافتاً تأكيد نصرالله أن “على المعنيين أن يضعوا المشهد الإنساني أوّلاً قبل الاعتبارات السياسية”.

اصطفافات من نوع آخر، ولو متقاطعة مع الأخرى، شهدناها مع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا. المؤيّدون لأميركا و”الناتو” رفضوا الهجوم الروسيّ على أوكرانيا باعتباره احتلالاً لدولة مستقلّة، لكن أيضاً لـ”اعتبارات إنسانية”، ضد الحرب والقتل والتدمير. أمّا المؤيّدون لروسيا فدافعوا عن الهجوم لاعتبارات جيواستراتيجية متّصلة بعلاقات روسيا وأوكرانيا التاريخية، ولضرورة التوازن الدوليّ بوجه الأحاديّة الأميركيّة. ولم يهمل هؤلاء “الاعتبارات الإنسانية”، لكن في رفضهم للعقوبات الاقتصادية على روسيا وشعبها.

المواقف اليوم، بعد الزلزال في سوريا وتركيا، تحمل معها الخلفيّات والتناقضات نفسها، في ما يتعلّق بـ”الاعتبارات الإنسانية”، التي تحتّم على العالم أجمع ان يقدّم العون والمساعدة للمتضرّرين من الزلزال في سوريا.

أتوقف عند بعض المشاهدات اللافتة في لبنان.

الحكومة أرسلت وفداً وزارياً لزيارة سوريا والتعبير عن دعمها “الإنساني” لها، والوفد التقى الأسد المتّهم من الأمم المتحدة ومن قسم من شعبه بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”. تألّف الوفد من وزراء مسيحيين وشيعة يمثّلون “الثنائي الشيعي” و”التيار الوطني الحر”، وفي غياب وزير سنيّ، بالرغم من أنّ الوفد قدّم تعازيه ودعمه، باسم رئيس الحكومة السنيّ.

حول اللقاء مع الأسد، قال وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار لـ”النهار”: “سردنا تاريخيّاً كيف وقفت سوريا إلى جانب لبنان، وكيف وقف لبنان إلى جانبها خلال الحرب، واستقبل النازحين من دون شرط أو قيد”. هذا الوزير نفسه هو من الفريق السياسي الذي يضع اليوم شروطاً على بقاء النازحين السوريين في لبنان، والذي اعتبر في الأمس أن سوريا لم تقف إلى جانب لبنان، بل احتلّته وهيمنت عليه.

وأضاف حجّار أنّه “أكدنا للأسد أنّنا سنُكمل اليوم دعمنا لسوريا، فالشرق الأوسط مناطق لقاء، ومن هنا خرجت الديانات السماوية، وعلاقتنا كدول تتخطّى المصالح ومبنيّة على القيم”.

لا حاجة للتوقف عند الهلوسة السياسية التي تضمّنتها هذه الفقرة، والتي لا علاقة لها بالواقع، فلْنلاحظ فقط اعتبار الأديان وقيمها كمحدّدة للعلاقات بين الدول، في حين أن دوافع الزيارة هي “الاعتبارات الإنسانية”، التي تتخطّى الاعتبارات الدينية، وتتناقض معها في الكثير من الأحيان، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.

زيارة الوفد الرسمي دمشق لاقت انتقاداً من الجهات اللبنانية السياسية المعارضة تاريخياً للنظام السوري، التي رأت في “الاعتبارات الإنسانية” مجرّد حجّة للتطبيع مع النظام. والبعض منها أصدر بيانات تضامن مع الشعب السوري وليس مع النظام. حتى أن النائب في كتلة نواب التغيير إبراهيم منيمنة غرّد على “تويتر” متسائلاً: “هل زيارة الوفد الوزاري هي لتطبيع العلاقة مع نظام الأسد أم حرصاً على الشعب السوري ولإغاثته؟ وإن كان لإغاثته فما جدوى زيارة قصر المهاجرين؟ ألم يكن الأجدى إرسال المساعدات والدعم إلى المناطق المتضرّرة مباشرة؟ وهل هناك من يسعى لاستغلال معاناة الشعب السوري لأجندات سياسية إقليمية؟”.

بعض الجهات السياسية الأخرى، من مثل الحزب الشيوعي، حرصت على تقديم الدعم والمساعدات من خلال جمعية “النجدة الشعبية”، تحت شعار “من أجل الإنسان، من الشعب اللبناني إلى الشعب السوري الشقيق”. ففي “نداء إلى الشعب اللبناني والرأي العام العالمي وإلى مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الصديقة”، اعتبرت الجمعية أن الزلزال “نتج منه وضع كارثي يدفعنا، خصوصاً في ظلّ الحصار المفروض على سوريا ، إلى التدخل لمساعدة الشعب السوري المنكوب وكلّ المتضررين بكلّ ما يمكن القيام به”.

وأضاف البيان “إن التضامن مع المنكوبين عدا أنه واجب إنساني، هو، في الحقيقة، حق علينا وواجب تجاه الشعب السوري الشقيق وكلّ المتضررين والمصابين”. بالرغم من أن شعار “من أجل الإنسان” يتنزّه من كلّ اعتبار سياسيّ أو ديني، تجد في البيان ما يعيدك إلى الدوافع السياسية: فالمساعدة تتم “خصوصاً في ظلّ الحصار المفروض على سوريا”، والتضامن مع المنكوبين “عدا أنه واجب إنساني… هو حق علينا وواجب تجاه الشعب السوري الشقيق”. “الحصار” على سوريا وكون الشعب السوري “شقيقاً”، يكادان يجرّدان الاندفاعة نحو المساعدة والتضامن، من نزعتها الإنسانية الخالصة.

إن هذه المشاهدات والمواقف تشير إلى أمرين مترابطين: الأول أنّ العلاقة بين السياسة و”الاعتبارات الإنسانية” تُطرح كأن هناك تناقضاً أصليّاً بينهما، ولا بدّ من تجاوزه؛ والثاني أن المقصود بــ”الاعتبارات الإنسانية” يختلف معناه باختلاف الموقف السياسي للطرف الذي ينادي بها.

بالرغم من أن كلمة “سياسة” تعني اصطلاحاً “رعاية شؤون الدولة الداخليّة والخارجيّة”، بما تحمل كلمة “رعاية” من موقف إيجابي من مصالح الناس، أي إنها تفترض ضمناً احتراماً لـ”الاعتبارات الإنسانية”، إلّا أن مفهوم “السياسة” اختلف معناه عبر التاريخ وبحسب المفكّرين.

الرأي العام السائد في لبنان، وفي الكثير من البلدان، هو أن “السياسة” شيء بشع وظالم ومؤذٍ. “السياسة ما إلها ربّ” كما يقولون. لا شكّ في أن موقف الرأي العام من “السياسة” بُنيَ على التجربة، أي على الممارسة السياسيّة، في العالم وفي لبنان. وفي بلادنا هناك شبه إجماع على أن “السياسة” دمّرت البشر والحجر، وهي تدوس بأقدامها على “الاعتبارات الإنسانية”.

هذه النظرة البشعة إلى “السياسة” لا يحتكرها الرأي العام الشعبي، بل يتشاركها مع مفكّرين في العلوم السياسيّة، أبرزهم والأكثر صيتاً ماكيافيلي، الذي عكس في كتابه “الأمير” صورة عن الإنسان، تنتج منها ممارسة للسياسة لا تتوخّى إلّا السيطرة والتسلّط والربح والانتصار على الآخر، أي من دون اعتبار لــ”الاعتبارات الإنسانية”.

لا يمكن فصل فكر ماكيافيلي عن الوظيفة التي كان يتبوّأها، فكان ديبلوماسياً أوّل في بلاط الحاكم، ولا عن الظروف التي كتب فيها، وهي ما قبل نشوء الدولة الديموقراطيّة. لكن بالرغم من ذلك بقي فكر ماكيافيلي حيّاً في العلوم السياسيّة حتى أيامنا هذه، التي شهدت إعادة نظر في مفهوم “السياسة” على ضوء تطوّر المجتمعات نحو المزيد من الحرية والديموقراطيّة واحترام حقوق الإنسان.

من حيث المبدأ، لم يعد هناك تناقض بين “السياسة” و”الاعتبارات الإنسانية”، فعلى “السياسة” أن تستجيب لهذه “الاعتبارات الإنسانية” المعبّر عنها ديموقراطيّاً من خلال الاقتراع الحرّ واشتغال المؤسسات الدستوريّة في دولة القانون وحقوق الإنسان. هذه النظرة المثاليّة غير مطبّقة للأسف تماماً في الواقع، لكنّها تشكّل بمختلف عناصرها عقبات فعليّة أمام انحراف “السياسة” نحو ممارسات تخالف لا بل تتعدّى على “الاعتبارات الإنسانية”.

المأساة في البلدان العربيّة والشرق أوسطيّة أن “السياسة” لم تخرج بعد من مفهومها الماكيافيلي السابق لقيام النظام الديموقراطي، و”الاعتبارات الإنسانية”، ولم تعترف بعد بحقوق الإنسان، وفق ما نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والإعلانات المتّصلة؛ وهذه الحقوق لا تزال أسيرة النظرة الدينيّة التي تقسّم وتفرّق بين البشر على أساس الدين والمذهب، معمّمة فعلها التمييزي على الأعراق والأجناس والجندر والأجيال.

بعض أشكال هذا التمييز لا تنطبق فقط على مجتمعاتنا العربيّة والشرق أوسطيّة بل على الكثير من البلدان الأخرى وفي جميع القارات. تتعقّد مسألة علاقة السياسة بـ”الاعتبارات الإنسانية” عندما يتصل الأمر بالعلاقة بين الدول، حيث تجري التضحية في صراعاتها بــ”الاعتبارات الإنسانية” لصالح مصلحة الدول. الدول الأقوى، عسكرياً واقتصادياً، صاحبة الأنظمة الديموقراطيّة، وإضافة إلى دوسها على “الاعتبارات الإنسانية” في البلدان الأضعف، تلجأ أحياناً إلى التغاضي عن “الاعتبارات الإنسانية” عند شعوبها هي، بحجّة الحفاظ على مصلحة الدولة أو النظام ككل. أمّا في الدول الأضعف، فالحجة نفسها أي مصلحة الدولة (“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”) تُستخدم لتجاهل “الاعتبارات الإنسانية” في بلدانها، بل في مواجهتها الدولَ الأقوى بشعارات تتّهمها بأنّها لا تحترم حريّة الشعوب الأخرى ومصالحها ولا تتأثّر بمعاناتها.

لكن الكلام عن “الاعتبارات الإنسانية” اليوم له خصوصيته. ففي العادة يجري طرحها مقابل “السياسة” وصراعاتها، أي يُطلب من “السياسة” أخذ “الاعتبارات الإنسانية” في الاعتبار، ممّا يفترض تجاوز الخلافات السياسيّة لمصلحة “الاعتبارات الإنسانية”. في الأمثلة التي أعطيناها أعلاه، طُرِحت “الاعتبارات الإنسانية” في إطار العلاقة مع إسرائيل (المطران الحاج)، أو في إطار العلاقة مع النظام السوري (قضية النازحين)، أو في إطار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة. ما هو مطروح اليوم، مختلف تماماً. فلا “حجج سياسية” لها علاقة بالزلزال نفسه تحول دون مراعاة “الاعتبارات الإنسانية”، إذ إن الزلزال ذو طبيعة جيولوجيّة لا سياسيّة، كما أنه ضرب مناطق النظام والمعارضة في سوريا، مقلّصاً أكثر فأكثر القدرة على التمسّك بالحجج السياسيّة.

في غياب “الحجج السياسيّة” المتعلّقة بطبيعة الزلزال نفسه، يصعب على المتناحرين سياسيّاً التحجّج بالسياسة لرفض الخضوع لمستلزمات “الاعتبارات الإنسانية”. وهنا التحدّي الأكبر بوجه أصحاب “الحجج السياسيّة”، إذ يبدون عاجزين عن فصل “الاعتبارات الإنسانية” عن “الحجج السياسيّة” عبر إصرارهم على ضرورة “فكّ الحصار” أو ضرورة “عدم التطبيع مع النظام السوري”.

للأسف، لا تبدو مسألة التعاطف أو التضامن مع المآسي البشريّة منفصلة عن حججها السياسيّة، وخلفيّاتها المذهبيّة والطائفيّة والقوميّة. وهذا هو التصدّع الإنساني الأخطر الذي كشف عنه الزلزال: فنحن شعوب لا تعطي قيمة للحياة البشريّة إلا إذا ألحقت هذه القيمة بمتطلبات دينيّة أو سياسيّة.

النهار العربيّ

————————

حصة سوريا من الزلازل: تجارة الإشفاق وذرائع الأجندات/ صبحي حديدي

قبل أن يتكفل الزلزال الأخير بالقضاء على 3162 سورياً وإصابة 5685 حتى ساعة تحرير هذه السطور، في مختلف المناطق المنكوبة من سوريا؛ كانت أرقام أخرى تنطق عن الشقاء السوري غير الناجم عن الكوارث الطبيعية، تحت نير 53 سنة من نظام الاستبداد والفساد الذي أقامه آل الأسد، بينها 12 سنة من إشراف الوريث بشار الأسد على قمع الانتفاضة الشعبية عن طريق إزهاق أرواح مئات الآلاف، وتشريد الملايين، واعتماد خيارات الأرض المحروقة والتدمير الشامل والتطهير المناطقي، وتسليم البلاد إلى خمسة احتلالات، فضلاً عن عشرات الميليشيات المذهبية ومفارز المرتزقة.

إحصائيات الأمم المتحدة كانت تقول إنّ 70٪ من سكان سوريا هم في حاجة فعلية إلى العون بمختلف أشكاله، غذائياً وصحياً وإنسانياً؛ و«برنامج الغذاء العالمي» يكمل مشهد البؤس بالتحذير من أنّ الجوع بلغ معدلات قصوى لا أمثلة عليها في تاريخ سوريا، مع 2.9 مليون نسمة يقتربون من حافة المجاعة، و12 مليون لا يعرفون متى سيحصل أيّ منهم على وجبة طعام مقبلة. مكاتب أخرى أممية تشير إلى أنّ 90٪ من سكان سوريا الـ18 مليون نسمة يعيشون في حال من الفقر، ومعاناة الأوبئة والأمراض المتفشية ونقص الأدوية؛ وأمّا العملة الوطنية، التي كانت قبل 2011 سنة الانتفاضة تُصرف بـ50 ليرة أمام الدولار الأمريكي، فإنها قبيل الزلزال الأخير تُصرف بأكثر من 7.000…

الزلازل لم تفرّق، بالطبع، بين مناطق تحت سيطرة «المعارضة» أياً كانت إفادة هذه المفردة بين ميليشيات جهادية وحكومات إنقاذ كرتونية وائتلافات ومجالس وهيئات ومؤسسات صادقة النوايا أو كاذبة فاسدة ناهبة؛ ومناطق تابعة للنظام، أو تديرها بالشراكة معه جيوش محتلة، وميليشيات محلية أو خارجية تابعة، وعصابات نهب وتهريب وقرصنة وكبتاغون. واكتوى بلهيب الزلازل مواطنون من جنديريس وحارم والقامشلي، مع أبناء بلدهم في شمال حلب وجبلة وريف حماة، وحُرموا استطراداً من موجات الإشفاق العالمية التي تعالت واصطخبت؛ تارة لأنّ النظام مصرّ على تمرير المعونات عبر طرقاته ومعابره السيادية (أي تلك الكفيلة بإتاحة النهب المباشر وتحويل المساعدات إلى خزائن مافيات النظام) وتارة أخرى لأنّ السلطات التركية منشغلة بحصتها من الكارثة ولشعبها ومناطقها أولوية غير قابلة للتجزئة. الإنسانية من جانبها، وهي هنا ذلك الخليط العجيب من «العالم الحرّ» و«المجتمع الدولي» وعشرات المنظمات غير الحكومية، تعلن النوايا الأحسن وتعرب عن الاستعداد التامّ لتقديم العون، مكتوفة الأيدي أو تكاد إزاء وضع «قانوني» عالق في معبر مفتوح مثل باب الهوى، أو في معابر أخرى يُنتظر أن تفتح أبوابها معجزةٌ ما!

وفي المقابل لا يعدم الضحايا السوريون، أينما وقعت مآسيهم في كلّ شبر من سوريا الواحدة، جبهات نفاق وسوء استغلال وتشويه لا تضاعف الآلام والعذابات فحسب، بل تضيف الإهانة المباشرة على الجراح النازفة؛ كما حين تصحو من سبات عميق تلك الحملة الكاذبة الزائفة التي تطالب بـ«رفع الحصار عن سوريا» بينما المقصود الوحيد هو فكّ الخناق عن مافيات النظام وعصابات الكبتاغون. وسواء اتفق المرء مع العقوبات الاقتصادية الدولية عموماً والأمريكية منها خصوصاً، أو كان مناهضاً لها (كما هي حال هذه السطور) بسبب أنها لا تؤذي الأنظمة بمقدار إيذاء الشعوب والشرائح الأكثر فقراً ومعاناة؛ فإنّ جملة الحقائق الصلبة التي تتصل بالعقوبات الراهنة المفروضة على النظام السوري تؤكد أنها لا تحول، البتة، دون إيصال المساعدات الإنسانية، والغذائية والطبية منها على وجه الخصوص.

والضحايا أنفسهم لن يعدموا جوقة عداء صاخبة، لا تتورع عن اللجوء إلى أقصى مستويات البذاءة، في تأثيم متطوّعي «الخوذ البيضاء» الذين ينشغل نحو 3000 منهم في أعمال الإغاثة والإنقاذ وانتشال الأحياء والجثث من تحت الأنقاض؛ وقد أنجزوا في السنوات العشر الأخيرة، ويواصلون اليوم إنجاز، الكثير من المهامّ الصعبة أو شبه المستحيلة في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، تحت قصف مدفعية النظام وراجماته وحواماته وبراميله المتفجرة، وبمشاركة مباشرة من القاذفات الروسية. فإمّا أن يتهمهم «علماني» مزيف منافق بتمرير أجندات «إسلاموية» وفي هذا وقاحة صارخة لا حدود للسخافة فيها؛ أو أن يعيّرهم «ممانع» لا يقلّ زيفاً ونفاقاً، بأنهم ليسوا سوى استطالة للاستخبارات التركية.

وإذْ يصغي المرء إلى نيد برايس، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، وهو يشدد بإباء على أنّ الإدارة في ملفّ المعونات لن تتعامل مع النظام السوري الذي ارتكب الفظائع بحقّ الشعب السوري؛ فإنّ المرء ذاته لن يسمع من برايس مفردة واحدة تفيد بأنّ قسطاً من المعدات والمساعدات والأموال سوف يصل إلى أيّ من أولئك الـ3000 الذين يصارعون الزلازل ويسابقون الزمن في المناطق المنكوبة. وبالطبع، يندر لدى لائمي «الخوذ البيضاء» التوقف عند حقيقة أولى كبرى تقول إنهم، حتى إشعار آخر، وحدهم في ميادين الإغاثة تلك؛ وحقيقة أخرى تفيد بأنّ نحو 252 من متطوّعيهم استُشهدوا حتى الساعة، فوق الأنقاض أو تحتها.

وكما يحدث في كلّ مأساة من طراز مماثل لما شهدته مناطق تركية وسورية مؤخراً، يصحّ للمرء أن يتذكر تلك الإحصائية الطريفة السوداء التي اقترحها أحد الأذكياء، الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، ذات كارثة غير بعيدة: ساعة وقوع زلزال تسونامي في المحيط الهندي سنة 2004، كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد دخل في يومه الـ 656، وكانت واشنطن قد أنفقت حتى ذاك التاريخ قرابة 148 مليار دولار في تغطية نفقاته؛ وهذا عنى أنّ المبلغ الذي تبرّعت به واشنطن لإغاثة منكوبي جنوب شرق آسيا كان يعادل يوماً ونصف يوم فقط من مصروفات أمريكا! فوق هذا، جدير بالاستذكار مؤشر آخر كان يقول إنّ أرقام المساعدات الخارجية الأمريكية لا تُقارن البتة بما تنفقه واشنطن لخلق المزيد من، أو إدامة وتوسيع نطاق، عذابات الشعوب: إنها تقدّم سنوياً قرابة 16 مليار دولار (بينها ثلاثة مليارات لدولة الاحتلال الإسرائيلي وحدها!) تعادل تُسع إنفاق واشنطن في هذه السُبُل.

وذات يوم أيضاً، على سيرة التسابق المحموم لإغاثة مرابع تسونامي، كان لا بدّ لجهة ما أن تغرّد خارج سرب تماثل وتشابه وتوحّد حتى تسبّب في تشويش الآدمي طيّب القلب حسن النيّة، أو لعلّ الأحرى القول إنّ نغمة نشازاً مدروسة وهادفة كانت جديرة بأن تردّ الأمور إلى بعض نصابها. وهكذا صدر عن منظمة «أطباء بلا حدود» الفرنسية الدولية إعلان إلى الرأي العام يخرج عن الإجماع حقاً، لأنه قال ما معناه: لكم جزيل الشكر! لقد وصلتنا منكم تبرّعات سخيّة تكفي بل تزيد عن حاجة برنامجنا المخصص لإغاثة منكوبي تسونامي، وبذلك نرجوكم التوقف عن التبرّع لهذا البرنامج، وتحويل سخائكم إلى برامج مناطق أخرى من العالم ليست نكباتها الإنسانية أقلّ مأساوية وحاجة! كان الإعلان مفاجئاً بالطبع، وبعض الرأي السطحي بصدده سار هكذا: هل يعقل أن تطالب منظمة إنسانية بالتوقف عن التبرّع؟ والحال أنّ ذلك الطلب لم يكن يعقل إلا من منظمة نزيهة وعادلة في نظرتها إلى الكوارث الإنسانية، تقول ببساطة إنها تريد من الجمهور أن يواصل التبرّع، ولكن ليس إلى نكبة تلقّت أكثر ممّا تحتاج، بل إلى برامج إغاثة أخرى في حاجة ماسّة إلى التمويل.

والتعاطف العالمي مع المناطق المنكوبة في سوريا وتركيا ظاهر بالطبع، والكثير منه صادق ربما؛ ما يخفى، في المقابل، هو ذلك النهج الذي يُخضع الاتجار بالشفقة إلى اعتبارات خدمة الأجندات المبطنة، على اختلاف ذرائعها وأغراضها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

———————-

الزلزال… وارتداداته في سوريا وعليها!/ موفق نيربية

أكثر من ثلاثة أيام (72 ساعة) مرّت قبل أن يبدأ حديث تأخّر تنفيذه كثيراً، عن احتمال فتح معبر واحد للمساعدات الأممية القليلة والمبرمجة سابقاً، من دون فرق ووسائل الإنقاذ نحو مناطق شمال غرب سوريا، الأكثر تضرّرا وهشاشة في الوقت نفسه. كان هنالك الآلاف تحت الأنقاض، بعضهم قضى نحبه، والآخر ينتظر مرور الثواني الثقيلة. مثلهم كان أهلهم حول الأنقاض أو في بقاع الأرض التي ضربوا بها وبالبحر هرباً من الحرب والنظام الاستبدادي، أو من الخدمة في جيشه وهو يقتل شعبه.

في البدء نعزّي أهلنا السوريين في الشمال الغربي وفي الساحل وحماة وحلب بالضحايا، ونعزّي جيراننا في تركيا التي حضنت السوريين منذ البداية بأفضل مما فعل غيرها، وها هم قد شاركوا بدورهم في أنطاكيا وعينتاب وغيرهما الموتَ مع مضيفيهم. هو الزلزال الأكثر شدّة وفتكاً في هذه المنطقة في التاريخ الحديث. بلغت شدّته 7.8 على مقياس ريختر، الذي تُحتسب أرقامه بشكل لوغاريتمي، تزداد شدّته أضعافاً كلّما زادت بالأعشار. غطّت مناطق الكارثة ما بين أضنة غرباً ودياربكر شرقاً، ومن ملاطية شمالاً مروراً بإدلب وحلب وأنطاكيا وشمال غرب سوريا بمجمله والساحل السوري حتى حماة جنوباً.

يقيم في غازي عينتاب حالياً الكثير من اللاجئين السوريين، ما يشكّل أكثر من 40% من سكّانها، وفي هاتاي يبلغ عددهم أكثر من عشرين بالمئة من سكانها. حصد الزلزال الأتراك والسوريين معاً في تلك المناطق، وضمّت أعداد الضحايا الرسمية التركية عديد السوريين. سوف تزيد هذه الكارثة عمق محنة السوريين وآلامهم وتشتّت مصائرهم بالتأكيد، ولكنّها – في طريقها- أظهرت أمام عيوننا حقائق مختلفة قليلاً أو كثيراً عن استنتاجاتنا السابقة:

أظهرت عمق الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم، التي ستودي به إلى حالة فوضى جديدة، تجعل من مشكلة البيئة والفقر والخلل في التنمية، أو التأخّر مصادر أكثر تفجّراً في السنوات المقبلة. كانت قوى دولية هي الأكثر تأثيراً مهتمة خصوصاً بتوازناتها وصراعاتها، قبل أن تحدّد موقفاً أو سلوكاً تجاه الكارثة وضحاياها الأيتام، بل إن الكيان الوحيد الذي ما زال السوريون يتشبثون به – الأمم المتحدة – أظهر قصوراً واضحاً في اتّخاذ خطوات تساعد على الإنقاذ وتخفيف الخسائر. مجلس الأمن أيضاً لم يتحرّك إلّا بعد ستة أيام، ليس فقط بتأثير موقف روسيا والصين المخزي، بل غيرهما أيضاً. وربّما كان مفهوماً مستوى تلك الأزمة حين نتوقّف عند تلك الصراعات ومفاعيلها وحسب، لكنّه ينحدر بقوة تحت تأثير السياسات الانتخابية في كلّ مكان. هنا يبرز الموقف التركي، حيث تحتدم المعركة الانتخابية، حتى أدّت في الأشهر الماضية إلى انعطاف كبير نحو الحوار مع النظام السوري والمصالحة معه، بالتوازي مع إطباق اليد على خناق المعارضة الرسمية، التي تتّخذ من إسطنبول مقرّاً لها. يشبه هذا الانعطاف المفاجئ مواقف القيادات الشعبوية في أكثر من مكان، ويشبه مواقف ترامب وقيادته العالم عن طريق تويتر، لا يشبه السياسة التركية التي نعرفها جيداً، إلّا قليلاً. كانت الحدود مغلقة بإحكام في الأيام الحاسمة الأولى لتطوّر الكارثة، في عملية لا تساعد على إقناع الناخبين بالموقف الصامد العنيد في وجه السوريين وحسب، خصوصاً اللاجئين هناك، أو أولئك النازحين في الشمال الغربي مع مضيفيهم. كادت الإجراءات المتخذة تبدو وكأنّها تستفزّ وتستنبت المشاعر السلبية لدى السوريين، بحيث تسهم أيضاً في السياسات المحلية المأزومة، ولو بالضرب تحت الحزام، وخارج المنظومة التي طالما كان هناك التزام بمبادئها وقيمها.

كأنّ النظام الأسديّ أيضاً قد سُرّ بدوره بالكارثة – وظهرت في الإعلام ضحكات الأسد العريضة عند زيارته مؤخّراً لمواقع تأثّرت بالزلزال – وعرقل بقوة وصول المساعدات من المواطنين اللبنانيين أيضاً، كما منع بدوره – مع فصائل المعارضة المسلحة أيضاً – قوافل المساعدات المقبلة من مناطق الإدارة الذاتية نحو الشمال الغربي من المرور عبر مناطق سيطرته.. أخذ بشار بمراقبة تطوّرات الكارثة من قصر المهاجرين في الأيام الأولى، آملاً بالمساعدات الخارجية لتنقذ اقتصاده العصبوي المتهالك، ولتعطيه منصّة يطلب من خلالها رفع العقوبات الغربية والأممية عن كاهله. تأخّرت عمليات الإنقاذ كثيراً، وزادت أعداد الضحايا في محافظتي اللاذقية وحماة، وانعكس ذلك في آمال ضائعة بخروج من كانوا أحياءً، أحياء من تحت الأنقاض. وفي أوّل فرصة للنظام على الإعلام الخارجي، المدعوم من دولة خليجية مهندسة للانفتاح على النظام، قالت بثينة شعبان مستشارة بشار- ما غيرها- إنهم في دمشق منفتحون وجاهزون لتلقّي المساعدات من أي دولة كانت، واستدركت بطريقة استعراضية فاستثنت إسرائيل. أما الطرف الثالث المعنيّ هنا، فهو المعارضة الرسمية السورية، وربّما نضمّ لها المعارضة – شبه الرسمية – التي تحكم محافظة إدلب وبعض ريف حلب. غابت تلك المعارضات عن الصورة، ولم تعد إلّا في إعلام هيئة تحرير الشام – النصرة- التي ظهرت على التلفزيونات في جنديرس المنكوبة، قبل إطلالة «أبو محمد الجولاني» بنفسه يتفقّد الأوضاع. غابت «الحكومة المؤقتة» التابعة للائتلاف حتى جاءت مهمتها، وغابت» حكومة الإنقاذ» التابعة لهيئة تحرير الشام، حتى جاء وقت التزاحم على الظهور مع الأولى.

اختفت تلك المعارضة السياسية، واختفت معها المعارضة المسلّحة أيضاً، التي ربّما منعها من الإسهام بشكل إيجابي في الإنقاذ والمساعدة، عدم ورود الأوامر- ماكو أوامر- لم يظهر لها موقف إلّا حين وردت من شمال شرق سوريا قافلة شاحنات المساعدات الإنسانية والوقود تنشد المساعدة الإنسانية، فمنعت مرورها بعض الفصائل المسلّحة الشديدة الولاء، وادّعت أن هذه المعونات والنوايا استثمار للكارثة ينبغي منعه، ولو كان إسهاما في منع ضخامة الكارثة. كان ذلك متوقّعاً بعد أن قال الرئيس أردوغان نفسه منذ بدايات الموضوع، إنه لن يسمح لأحد – باستثمار الكارثة. وكان يعني غالباً مجلس سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، إضافة إلى خصومه في الانتخابات القريبة بالطبع. لسنا واثقين بعد من خلوّ الترخيص الجديد الذي صدر في الولايات المتحدة، من ثغرات ذات معنى سياسي كامن ومفاجئ، وهو القرار باستثناء المواد المتعلقة بالزلزال من العقوبات على النظام. محتوى القرار فضفاض كما ذكر بعض أهل الاختصاص، و»يمكن تطبيقه على أي مادة أو أي صفقة بحجة أنها «إنسانية» حتى استيراد المواد الكيميائية الدوائية التي لها استخدامات متعددة، يمكن ان يتم استيرادها بحجج إنسانية». تلك المواد يمكن توظيفها لتصنيع الأسلحة الكيماوية، وحتى الكبتاغون. قد يعطي ذلك ثغرة تنفّس لبارونات الحرب وتجارتها في النظام المُتهلهل، لا تنقصهم كثيراً. هؤلاء يتاجرون حتى بالمساعدات الإنسانية العينية نفسها، وقد فعلوا سابقاً، ويفعلون الآن. وعلى العموم، تبقى المسؤولية في العمق على عاتق النظام الأسدي الذي أوصل السوريين إلى حيث هم ليلة الزلزال وبعدها.

ليس الوقت مناسباً للتوسّع في مناقشة تلك المسائل، ولكن إثارة بعض العناوين ضروري، تنبيهاً على الأقلّ لمن يصرّ على مواقفه التي تستثمر في الكارثة قبل انجلاء غبار الأنقاض التي خلّفتها. يمكن ربّما لفت الأنظار إلى ظاهرة جديدة في مسألة «عودة اللاجئين»، تجلّت بعودة المئات من السوريين؛ الذين سيتعاظم عددهم للأسف في الأيام المقبلة؛ الذين قضوا في ملاجئهم في تركيا بأكفانهم إلى وطنهم في المناطق المنكوبة وراء الحدود، ليُدفنوا هناك، بعد أن توفّرت لهم «البيئة الآمنة» التي يتحدّث عنها القرار 2254. وليس ذلك وحده بمحلٍّ للملاحظة، بل إن «المعابر» التي بقيت في الساعات الحرجة مغلقة أمام فرق الإنقاذ وأدواته، انفتحت أمام أولئك الضحايا وحدهم من دون تلكّؤ.

وعلى نهج أهل السياسة الذين يبحثون عن بقعة ضوء في الجدار الحالك السواد يتشبثون به لرفع معنويات الناس، يمكن الجزم بأن الرؤية ازدادت وضوحاً لدى السوريين، وعزّزت من وحدتهم في كلّ المناطق المتنافرة، بل أظهرت الطيّب من الخبيث، بقوة الوقائع الملموسة التي لا يستطيع أحد إنكارها! وعلى النخب السورية كلّها حين تصل إلى هذا الاستنتاج أن تعيد النظر في قناعاتها ورؤيتها وثوابتها، وخصوصاً في عملها الذي زادت ضرورته والحاجة إليه!

أخيراً: تبدو آثار الزلزال محدودة على الجانب السوري مقارنة بالجانب التركي- والمصيبة واحدة ومشتركة- ولكن لا بدّ من ملاحظة نسبة من قضى نحبه بين الضحايا عموماً- القتلى والمصابين- وقد رأينا كيف كانت واحداً إلى أربعة في تركيا، وواحداً إلى اثنين أو أقلّ بين السوريين. ذلك يعكس العجز في شمال غرب البلاد، والقصور في مناطق النظام، وضعف فعالية عمليات الإنقاذ، يعكس أعداداً لمصابين من دون غوث.. وذلك من وجوه المأساة الراسخة.

كاتب سوري

القدس العربي

———————-

سوريا: الأسد الضاحك في البلد المنكوب!

رأي القدس

بعد أربعة أيام على حصول كارثة الزلزال الفظيع الذي ضرب مناطق واسعة من سوريا وتركيا وقتل وجرح وشرّد الآلاف على جانبي الحدود، قرّر رئيس النظام بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس أن ارتدادات الزلزال قد انتهت وأن الوقت حان للظهور في جولة علاقات عامّة في مدينة حلب التقطا فيها صورا وهما يتضاحكان وقد ظهرت على وجهيهما آثار النعمة والسرور الشديد!

بدا الأمر وكأن الزلزال، في المدينة التي أخضعها النظام وحلفاؤه الروس لسنوات من القمع والغارات التي استهدفت المشافي والأسواق والمناطق المأهولة بالسكان، كان مناسبة لاحتفال الرئيس السعيد بالاتصالات الهاتفية من زعماء عرب وأجانب، تعزّيه بالمصائب الجديدة التي انهالت على شعبه، وبدعوات «فك الحصار» عن سوريا، التي تعني، بالنسبة إليه، وقف العقوبات التي طالته وكبار المسؤولين عن قائمة الاتهامات بالقصف الكيميائي للمدنيين وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، كما تعني، إمكانية دخول المساعدات الإنسانية من بلدان العالم، واستخدامها كوسيلة جديدة للنهب، أو للتمييز في درجات وأهمية المستحقين، وهو ما كان موضوع شكوى وتذمر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الموالية.

تعود قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية على النظام إلى فترة طويلة تمتد من 1979 حين صنّف النظام كدولة راعية للإرهاب، ومحتلة للبنان، وتصاعدت تلك العقوبات بعد حملات القمع ضد المتظاهرين منذ عام 2011،، واستخدام السلطات العسكرية والأمنية في ارتكاب مذابح مروّعة ضد المدنيين، وكان الهدف منها حرمان النظام من القدرة على تمويل قواته القمعية، وحظر الشركات الأمريكية من استيراد النفط السوري، ومصادرة أملاك المسؤولين الكبار، وصولا إلى صدور «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا» عام 2019، والذي توسع لاستهداف الكيانات الأجنبية التي تقدم الدعم للنظام.

يكشف مقال رأي لمدير مؤسسة تدافع عن العرب والمسلمين في أمريكا، عن الخلط في فكرة ربط المساعدات الأممية والإنسانية بقضية العقوبات على النظام، مؤكدا أن لا تأثير للعقوبات على وصول المساعدات الإنسانية التي توزعها الأمم المتحدة في مناطق النظام، بل إن أمريكا نفسها ساهمت فيها بما يقدر بـ18 مليار دولار، وأن تلك المساعدات مستمرة رغم توثيق عمليات فساد، وعمل النظام على التأثير على مناطق توزيعها، ومنعها من دخول مناطق المعارضة، واستخدام روسيا، حليفة النظام، نفوذها في «مجلس الأمن» لتضييق المجال على دخول المساعدات الأممية إلى مناطق المعارضة عبر تركيا، وحصرها في معبر واحد، مع ابتزاز المنظومة الدولية بالعودة للاجتماع كل ستة أشهر لتجديد قرار دخول المساعدات.

توضّح الوقائع الآنفة أن العقوبات تستهدف النظام ومسؤوليه الكبار وتستهدف منع تمويل آليات الأمنية والعسكرية ضد السوريين، وأنها لا تمنع المساعدات بل تمنحه، بالأحرى، القدرة على ممارسة ما هو ناجح فيه، وهو تحويل الآليات الدولية للمساعدة، إلى مجال كبير للفساد، والذي كان من أمثلته البارزة، إعلان منظمة الصحة العالمية في تشرين أول/أكتوبر الماضي اتهامات كبيرة بالفساد لمديرة مكتبها في دمشق، التي قامت بتوزيع ملايين الدولارات على مسؤولي النظام السوري على شكل هدايا، بعد أن كشفت وكالة أنباء «أسوشييتدبرس» أكثر من 100 وثيقة عن تلك العمليات.

هناك أرشيف كبير يوثّق استهداف النظام لأي شكل من أشكال الدعم الطبي أو الغذائي أو الإنساني لأي منكوب أو جريح أو مصاب، وقد سجن وقتل وعذّب آلاف الناشطين لأنهم حاولوا تهريب معدات أو أدوات أو وسائل طبية، وقد تكرر عدة مرات قصف طائرات النظام وروسيا جزءا من قوافل المساعدات قادمة من تركيا باتجاه مناطق المعارضة.

ملخّص الأمر أن الحصار قائم، منذ أكثر من 10 سنوات، ضد المناطق المعارضة للنظام، التي يسكنها قرابة 4,5 مليون شخص، نصفهم من النازحين والهاربين من قمع النظام، وأن الرئيس الضاحك سيرى أن «رفع العقوبات» هو رخصة جديدة تعطى له لمتابعة قتل السوريين.

—————————-

الزلزال وغصّة الموت في الشمال السوري/ شفان إبراهيم

شعر سكّان الشرق الأوسط بالهزّة الأرضية التي تلت الزلزال القوي الذي ضرب المنطقة فجر يوم الاثنين 6 فبراير/ شباط 2023. وعاش سكان تركيا لحظة الخطر بدرجات أكبر وأقوى. أما قاطنو الشمال السوري، فإنهم من دفعوا ضريبة وصول الارتداد إليهم، فهي منطقة غير مهيأة لاستقبال أي درجة من الزلازل، فتركيا، بكل ما تملكه من إمكانات هائلة وبنية تحتية متماسكة ومتطورة، رفعت حالة الإنذار إلى المستوى الرابع، أي مستوى طلب المساعدات الدولية، فكيف يمكن وصف الشمال السوري، والذي لا يتجاوز وصفه سوى بالمناطق المنكوبة أصلاً، حتى قبل الزلزال؟

استقبل الشمال الشرقي لسورية ارتدادات الزلزال والهزّات بدرجاتها الدنيا، وإن سلمت من انهيار المباني، لكن المشاهدات في أثناء وصول تلك الارتدادات، إلى القامشلي وغيرها من المدن، تُذكّرنا بقول المتنبي “وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ / فَعَلَى أي جَانِبَيْكَ تَمِيلُ”، فالأهالي هربوا من منازلهم والمباني، خوفاً من سقطوها عليهم، إلى الساحات والشوارع، ومن قرص البرد والمطر والبرك المتشكّلة في الشوارع، عادوا إلى الوقوف تحت المباني. مع ذلك، لا يحتمل الخوف والقلق الذي اجتاح الشمال الشرقي أي أوجه للشبه مع الشمال الغربي لسورية، فلا يمكن كتابة وصف أو رقم دقيق للخسائر البشرية للسوريين في غرب الفرات، لأن أي رقم يُكتب يجب أن يُلحق بسؤال: هل هذا الرقم قبل أم بعد كتابته؟ نتيجة الزيادة في أعداد المفقودين والقتلى والجرحى بشكل مستمر. كما أن صرخات العالقين تحت الأنقاض في عموم الشمال السوري تتعالى، وإن كانت فرق الإنقاذ تحاول ما في وسعها، لكن الأيادي لا تتمكّن بمفردها من إزالة الحُطام أمام ضعف وقلة الآليات، وضعف التجهيزات لرفع الكتل الإسمنتية والتراب والرمل والإسمنت عن صدور العراة تحت الحجارة.

رُبما من حقّ السوريين المكلومين القول وتبنّي الاعتقاد الخاطئ بأن الزلزال تحالف مع الحرب في استهداف مجتمعهم المنقسم ما بين العيش في المخيمات العشوائية والنازحة إلى مختلف المناطق في تركيا والشمال الغربي لسورية، وما بين من بقي في بيته المتصدّع والآيل للسقوط جرّاء القصف خلال عقد، ومن لم يُدمّر منزله بالقصف دمّره الزلزال. وهي إضافاتٌ جديدة لمأساة السوريين، بعد فعل البشر خلال 12 عاماً، غدرت الطبيعة بمن بقي حالما بيوم جديد. مشاهد الدمار الحالي ليست جديدة على مخيلات السوريين وعقولهم، بل إنها عادت بالذاكرة إلى الأعوام الأخيرة من حياتهم، حيث التهجير والهجرة والموت والفناء. والجديد الوحيد في الموضوع أن أنقاضاً جديدة جاورت الأنقاض القديمة فحسب، ومشهد الزلزال مألوف، وكل تداعياته أيضاً مألوفة للأهالي، فالنتيجة والأضرار متشابهة مع مشهد آثار الصواريخ والحرب وتداعياتها على المدنيين، بل إن مأساة الزلزال فاقت مأساة الحرب، فإذا كانت الأعوام الـ12 دمرت سورية، فإن الـ40 ثانية التي استغرقها الزلزال علّمت السوريين درساً جديداً في المأساة والمظلومية، وأن الطبيعة أكثر قساوة من البشر إن غضبت. جاء الزلزال على مناطق واسعة من تركيا، وحصة سورية منه في محافظات اللاذقية وحلب وإدلب وحماه وأريافها، والغريب المميت أن المجتمع الدولي يهتم بتركيا ونكبتها، ويدير الظهر لكل تلك الأنقاض والجثث والموت في عموم سورية. والإعلام السوري الرسمي لم يقصّر أيضاً، فهو لم يأت على ذكر أن عفرين وحي شيخ مقصود وإدلب متضرّرة جداً، رُبما هي سورية التي تختصّ بفئات وشرائح معينة دون سواها، أو لا علاقة للإنسانية والحياد الإعلامي بمناطق لا تسيطر عليها الحكومة السورية، وتركيا وفرق الدفاع الوطني السوري المنتشرة في غرب الفرات لم تتعامل مع عفرين ونكبة جندريس بالسوية ذاتها. كان هذا واضحاً عبر صيحات النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأهالي والنازحين السوريين إلى عفرين، بضعف الإمكانات والحاجة لأعداد كبيرة من الآليات الثقيلة وفرق الإنقاذ، والنداءات لمساعدة أعزاز، عفرين، حارم، شرار، جنديرس، سرمدا، سلقين، شرار، مدينة إدلب، جسر الشغور، الرمادي، دركوش، فلا تزال الأنقاض على حالها.

لا يكفي وصف المشاهد ومقاطع الفيديو والصور الواردة والمنتشرة عبر “السوشيال ميديا” بـ”الصادمة”، وغالبيتها لأحياءٍ ما زالوا تحت الأنقاض منذ وقوع الزلزال، أو لأحياء أزيلت بالكامل، وتدوينات النعي لم تعد لأسماء أو لأشخاص نعرفهم، بل لأسر وعوائل كاملة لم يعد لها أثر. وتتوالى النداءات بعدم عودة الأهالي إلى منازلهم، وأي عودة تلك وغالبية الأبنية تتداعى للسقوط. حالة الإهمال/ التفضيل بينهم، وكأنها تحمل رسالة تجبر السوريين على التكيف تحت الأنقاض وقساوة رؤية الأبناء يموتون أمام أعين آبائهم، أو على من بقوا على قيد الحياة تحت ركام المنازل أن يعيشوا عزلتهم الاجتماعية، وليس لهم من معيل أو أمل سوى الصبر على مُصابهم، وبقائهم في زنزانة ضيقة خلال هذه الفترة.

لا تنتهي المأساة بانتشال الأحياء أو الجثث من تحت الأنقاض، فالكارثة التي تعقب الزلزال هي أين سيبيتون؟ وكيف سيعيشون؟ ومتى سيُعيدون بناء منازلهم؟ وكيف سيثبتون أنسابهم وثبوتياتهم؟ عدا عن أن اللحظات التي تعقب الزلزال تفتك بالأرواح التي لم يصل إليها غدر الزلزال نفسه من حرائق وانهيار مبانٍ بقيت صامدة. هل يمكن للسورين أو غيرهم الهرب من الزلزال؟ أكثر سؤال تتداوله الألسن، لكن المؤسف أن الجواب الأصحّ أنهم لا يستطيعون فعل ذلك، فرغم كل التقدّم والتكنولوجيا التي وصلت إليها البشرية لا يزال الإنسان عاجزاً أمام جبروت الطبيعة، ولا يمكن معرفة ما إذا كان الزلزال سيحدُث مجدّداً أم لا.

فضح الزلزال المسؤولين والتّجار ومتعهدي البناء، خصوصاً في الأحياء العشوائية، والتلاعب بنسب مواد البناء، حيث شهدت مبان تشقّقات كبيرة أو هبوطاً جزئياً أو كلياً، في مناطق بعيدة عن الزلزال، نتيجة قلة المواد المستخدمة من الإسمنت والحديد وغيرها في البناء.

السوريون محاصرون في كلّ مكان، ومطلوبون لكلّ شيء، للتجنيد، للحرب، للموت، والأكثر فجاعة أنّهم لا يموتون ميتة طبيعية، ما عمّق جراحهم المثخنة بأوجاع الحرب، فاقدين أي أملٍ ممزوجٍ بنصر قريب أو خلاص وشيك. إنهم فريسة لكل شيء، للحرب وتجريب أنواع الأسلحة عليهم، لـ”مناقصة” إعادة الإعمار، لتوافق الروس والأميركيين على تقاسم النفوذ في بلادهم، واتفاق الدول مع روسيا على تمديد تفويض إدخال المساعدات الإنسانية وغيرها الكثير، لذا لا خجل ولا استحياء بالقول إن السوريين يعيشون هول الزلزال، ويفكّرون بمصيبة ما بعده، فمع الانهيار الاقتصادي، والبنية التحتية المدمّرة، والخدمات المفقودة، زار الزلزال منازلهم ليقضي على خيط الأمل الأخير الذي أقنعوا أنفسهم بالتعلّق به، وأمام صيحات الأمهات على أبنائهن، وبحث الآباء عن أبنائهم تصرُخ الإنسانية أين المفرّ للسوريين؟

العربي الجديد

————————

أبطال الدفاع المدني السوري: مهمتنا إنقاذ الأرواح/ عبدالله البشير

“نسينا الخوف، وتجاهلنا الهزات الارتدادية لنخرج الناس من تحت الأنقاض”، هكذا يعبر المتطوع في الدفاع المدني السوري، زاهر السلمو، عن شعوره عند بدء العمل بعد وقوع الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري.

يخبر السلمو “العربي الجديد”: “كنا نشعر للحظات بالعجز عندما ينادينا شخص من تحت الأنقاض ليطالبنا بإنقاذه. كانت الألفاظ نفسها تتكرر: كرمال الله لا تتركني، طالعني. نخشى انهيار الأنقاض بسبب الهزات الارتدادية، لكن لهفتنا لإنقاذ روح تجبرنا على البقاء حتى إخراج الشخص بسلام، وإعادته إلى أهله سالماً. إخراج عالقين أحياء شعور لا يوصف”.

ويقول زميله رامي سويد (30 سنة) وهو متطوع منذ خمسة أعوام في الدفاع المدني: “هناك إصرار وتضحيات في مناطق العمل رغم المصاعب. العمل يظل مجدياً طالما أن هناك أنفاساً تحت الأنقاض، وقد أنقذنا أناساً في الساعات الأولى، وفي أيام لاحقة. بسبب القصف الذي تعرضنا له من قبل روسيا والنظام، أصبحت لدينا خبرة في الإنقاذ، وقد انتشلنا سابقاً كثيراً من الضحايا، وبعضهم مزق القصف أجسادهم، لكن حجم الأهوال بسبب الزلزال كبير جداً، وهو يفوق طاقاتنا وإمكانياتنا وقدراتنا. نبذل كل ما لدينا من جهد، وندعو الله ألا نكون قصّرنا بحق أي شخص، ونعتذر لمن لم نستطع إنقاذهم، فالكارثة كبيرة، وتعجز عنها دول”.

يضيف سويد: “الزلزال لا يشبه أي شيء جربناه سابقاً، عملنا كثيراً في إنقاذ ضحايا القصف في السابق، لكن الدمار الذي خلفه الزلزال كبير، ونعجز عن وصفه. وسائل التخفيف المتوفرة هي نوبات التبديل، والكلام المحفز بين بعضنا. عادة ما نردد عبارات مثل شدّوا الهمة يا شباب، وإن شاء الله سننقذه، أو هناك مكان ثان يجب أن ننتقل إليه، أو هناك أهالٍ بانتظار رؤية أولادهم”.

تطوع عبد الرزاق أصلان قبل 9 سنوات، ويقول لـ”العربي الجديد”: “انتشلنا خلال عملنا العديد من الضحايا، ولم نكن نشعر بالعجز، وقدّمنا كل ما نستطيع من دعم، وخلال عملنا، مرّت علينا لحظات صعبة، خصوصاً فترات الحديث مع الأشخاص العالقين تحت الأنقاض، وكنا ندعم بعضنا نفسياً بتكرار أن كل عالق سنخرجه على قيد الحياة، وقدمنا كل ما نملك لإخراج أكبر عدد من العالقين، فالتجارب السابقة خلال القصف أكسبتنا الخبرة، لكن حينها كان النظام وروسيا يقصفون حياً أو عدة منازل، بينما الوضع الحالي كارثي”.

بدوره، يوضح المتطوع حسام عز الدين، لـ”العربي الجديد”: “في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، عندما علمنا بوقوع الزلزال، رأينا الناس في الشوارع، وبدأت البنايات تنهار، وكنا نسمع صرخات الأطفال والنساء. كان المنظر مؤلماً جداً، لكننا كنا نركز على العمل. في أول منزل بدأنا العمل فيه، أنقذنا 7 أشخاص، أولهم طفل لم نعرف أهله، ونقلناه في سيارة الإسعاف، ثم بدأنا البحث عن أحياء بين الأنقاض، وخلال العمل، أتاني أحد الأشخاص يخبرني أن أباه وأمه على قيد الحياة تحت الأنقاض، قلت له إني قادم لإنقاذهم، لم أكن وقتها قادراً على ترك النقطة التي أعمل فيها، وكان فيها أحياء أحاول إخراجهم”.

يقول المتطوع عمر إبراهيم، لـ”العربي الجديد”، إنه كان مستيقظاً حين وقوع الزلزال بعد نوبة عمل روتينية استمرت حتى الواحدة صباحاً: “عند حدوث الهزة، سمعنا صرخات الأطفال والنساء، فالبناء المقابل انهار، اتجهت مع أفراد الزمرة المناوبة إلى البناء المنهار. كان المطر غزيراً والأوحال تطوق البناء، كان هناك شاب وفتاة وأمهما على السطح، وكان المنظر مرعباً، عمري 31 سنة، لكني لم أشاهد منظر كهذا سابقاً. المرأة العالقة أخرجها زوجها من بين الركام، وخلال الهزة الثانية تمايلت بناية قريبة، ثم سقطت، وبدأنا نسمع الصراخ مجدداً، فتوجهت مع زميلي مصطفى إليها بعد إخراج العائلة من البناية الأولى”.

للغة دور مهم في طمأنة العالقين تحت الأنقاض، ومنحهم أملاً في الخروج سالمين. يروي المتطوع من قرية ميدانكي في عفرين، عبد القادر عبد الرحمن، لـ”العربي الجديد”: “عمري 35 سنة، وتطوعت قبل 7 أشهر في الدفاع المدني، وكنت في السابق أعمل فنيَّ صيدلة، ما دفعني إلى التطوع لمساعدة الأبرياء. خلال عملنا في جنديرس، وصل إلينا خبر عن وجود عائلة تحت الأنقاض، فأخرجنا المعدات، وحاول الحارس إبعاد المدنيين. بحثنا عن أسرع طريقة إنقاذ، وبدأنا العمل. سمعت نداءات باللغة الكردية، وأنا أتكلم اللغة، فكنت أقول لهم إننا معهم، وسنساعدهم، وأطلب منهم ألا يخافوا”.

دمار في شمال غرب سورية من جراء زلزال فبراير 2023 (بكر قاسم/ الأناضول)

يتابع عبد الرحمن: “عندما تكلمت معهم بالكردية، شعروا بنوع من الراحة، وزادت رغبتهم في النجاة، وتمسكهم بالحياة. لا نعرف العجز في الدفاع المدني، ونحن جاهزون دائماً لإزالته عن أي شخص بحاجة للإنقاذ. نعمل بأي طريقة، حتى إننا نحفر بأيدينا أحياناً للوصول إلى الأشخاص تحت الأنقاض، وخلال العمل في البناء المنكوب، نحاول أن نخفف عن بعضنا”. ويضيف: “لا أنسى الطفل الذي كنت أحاول طمأنته بأنني سأخرجه، بينما يرد قائلا: أخرجني. أريد أن أعود إلى المدرسة. العمل وقت الكوارث خطير، ففي الحروب تكون الطائرات فوقنا، ويكون الوقت محدوداً لإنقاذ العالقين، وقد نتعرض للقصف، لكن في الكارثة الحالية، لم تكن لدينا ذرة خوف”.

تطوع سمير السليم (48 سنة) في الدفاع المدني منذ عام 2013، ويقول لـ”العربي الجديد”: “لبينا نداء الاستجابة فور وقوع الزلزال، وعند الوصول، كان هناك أطفال في الشوارع، وأناس تحت الأنقاض يرجون إخراجهم. نعمل كجسد واحد، وهدفنا واحد على كامل المساحة الجغرافية التي نعمل فيها. الدمار كبير، والمصابون في كل مكان، لكننا عملنا بكل طاقتنا لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأحياء”.

—————————-

4:17 فجراً/ بكر صدقي

استيقظت من نوم عميق على ارتجاج السرير تحتي وكأن أحداً يهزه بكل قوته. أدركت، في ثوان قليلة، أنه زلزال. اجتمعت العائلة عند عتبة الغرفة على الأرض. لم أرتعب كثيراً لأنني أعرف من «تجاربي السابقة!» أن مثل هذه الهزات تنتهي في ثوان. لكن البيت استمر في الارتجاج بلا نهاية، كأني بالزلزال «مصمم» على ألا يتوقف قبل التأكد من انهيار المبنى. سنعرف، لاحقاً، أن الزلزال قد استمر في «ضربته الأولى» هذه طوال 97 ثانية بدت لنا دهراً، تراوحت قوته، باختلاف المصادر، بين 7.7 و7.8 درجة على مقياس ريختر، وبعمق 7 كيلومترات تحت سطح الأرض، مركزه بلدة بازارجك في ولاية مرعش جنوب شرق تركيا.

انتظرنا حتى هدأ المبنى بعد انتهاء الارتجاج العنيف، ثم ارتدينا أحذيتنا ومعاطفنا وهبطنا الدرج بسرعة، وابتعدنا عن المباني السكنية باتجاه حديقة قريبة حيث بقينا بضع ساعات في البرد القارس إلى أن انتشر ضوء النهار.

عدنا إلى البناية وبقينا عند مدخلها لفترة إضافية، ثم صعدنا إلى بيوتنا. لكن هذه الهدنة لن تستمر طويلاً، ففي الواحدة وعشرين دقيقة ظهراً ارتج البناء مرة أخرى بعنف، فهبطنا الدرجات على الفور. وبدأ التشرد الذي سيطول في البرد القارس والثلج يغطي الشوارع. سنعرف لاحقاً أن الارتجاج الثاني لم يكن من الهزات الارتدادية المألوفة، بل زلزالاً ثانياً بقوة 6.7 ضرب بلدة «البستان» في ولاية مرعش أيضاً، وستمتد مفاعيله المدمرة جنوباً إلى لواء الإسكندرون والجانب الآخر من الحدود في سوريا وصولاً إلى مدينة جبلة على شاطئ المتوسط. في حين دمر الزلزال الأول مناطق في شمال حلب ومحيطها. أما في تركيا فقد شمل الدمار عشر محافظات بدرجات متفاوتة.

كان أمام الناجين من الموت رحلة أخرى من المعاناة بسبب التشرد في الشوارع في البرد القارس. نقاط التجمع المحددة من السلطات المحلية اكتظت بالناس، نحو مئتين شخص اجتمعنا في ملعب كرة سلة مغلق تابع لإحدى المدارس الخاصة في مدينة عنتاب، افترشوا ما استطاعوا إحضاره من بطانيات على أرض الملعب، يحاولون الحفاظ على دفء أجسامهم بالالتصاق بعضهم ببعض. كان ثمة أطفال في مختلف الأعمار، يبكي بعضهم من حين إلى آخر، وعجوز في كرسي متحرك إحدى يديه مشلولة، كأنه وجد هناك ليشعر الآخرون بأن مصابهم أخف وقابل للتحمل.

لم يكن أحد يفكر بالطعام، فالهم الأول هو كيف يمكن النوم على بطانية رقيقة في البرد وفي مساحة ضيقة جداً، والهم الثاني هو كيف يمكن قضاء الحاجات البدنية، والماء مقطوع عن كل المدينة بسبب التلوث الذي أصاب الأنابيب. لكن الهم الأكبر القابع في الخلفية هو المصير المجهول الذي يمتد أمامنا. فالهزات الارتدادية مستمرة كما لو أن الزلزال لم يكمل مهمته بعد ولم يكتف بما أحدثه من دمار وقتل. الهواتف المحمولة تنقل أخباراً مرعبة من مرعش وأنطاكية ونور داغ وعثمانية وأورفة وجنديرس والأتارب وحلب وغيرها على جانبي الحدود التركية – السورية، تلك المدن والبلدات التي سوّي بعضها بالأرض، وصوراً وفيديوهات عن أبنية انهارت في ثوان معدودات، وطرق برية تشققت.

اتصالات لا تتوقف من أصدقاء مقيمين في تركيا والدول الأوروبية وكندا يحاولون الاطمئنان على سلامتنا ويسألون كيف يمكنهم أن يساعدوا وهل نحن في حاجة لشيء. وحده هذا الاهتمام الذي لا يقدر بثمن كان كالبلسم على قلوبنا، فلا أحد يظهر هنا من السلطات المحلية أو المنظمات الإغاثية يمر علينا ليسأل عن احتياجاتنا أو يسعى لنقلنا إلى مكان آخر فيه دفء. فقط بضع بطانيات تم توزيعها على البعض، لا نعرف من أحضرها وهل سيتم إحضار المزيد أم لا. ثم وزعوا زجاجات ماء للشرب واختفوا من جديد. وفي اليوم التالي وزعوا كؤوس شورباء ساخنة مع قطعة خبز. سأعرف لاحقاً أنها كانت مبادرات أهلية بإمكانيات محدودة. أما الدولة فقد كانت غائبة تماماً خلال الأيام الثلاثة التي قضيناها في تلك الصالة الرياضية. كان البعض يعودون إلى بيوتهم في الليل لينالوا قسطاً من النوم مجازفين بانهيار المبنى عليهم، وآخرون ممن يملكون سيارات ينامون في سياراتهم مشغلين مكيفاتها. أما نحن فقد تناوبنا على التمدد على أمل الحصول على ساعة نوم. وفي الصباح نخرج للتجول في المناطق القريبة لنشتري الماء وبعض البسكويت من المتاجر القليلة المفتوحة، أو لقضاء الحاجة في محطات الوقود.

أمضت صديقة تركية مقيمة في اسطنبول يومين وهي تتصل بمعارفها من أجل تأمين وسيلة نقل نسافر بها إلى أنقرة، لكن محاولاتها فشلت. تصلنا أخبار عن تسيير بعض الرحلات البرية والجوية إلى مدن أخرى خارج المنطقة المنكوبة، لكن الطلب كبير والوسائل محدودة، يتطلب الأمر الوصول إلى محطة الحافلات وافتراش الأرض لأيام قبل الحصول على مقاعد في إحدى الحافلات.

ما العمل؟ لا شيء أصعب من شعورك بالعجز وأنت في موقع المسؤولية عن مصير عائلتك. يضغط الأولاد عليك لإيجاد حل لا تملكه، فتوصيهم بالصبر وتحاول إعطاءهم أملاً في خروج قريب. من يريدون مساعدتك بعيدون، في حين أن الدولة ـ الأب غائبة وعاجزة مثلك. يظهر الرئيس التركي وبعض أركان الحكم على وسائل الإعلام، يزورون المناطق المنكوبة، يؤكدون أن الدولة مستنفرة بكل إمكانياتها لمواجهة الكارثة، ويهاجمون المعارضة التي تعمل، في رأيهم، على تسييس الكارثة، وكذا أي صوت ينتقد الأداء الحكومي، «فهذا أوان الوحدة والتعاضد، لا الفرقة والسياسة». ويرد الآخرون بالقول إن كل دقيقة تمر تتسبب بمقتل مزيد من الضحايا تحت الأنقاض «إن لم نتحدث الآن فمتى نتحدث؟»

هذه مجرد شهادة شخصية لأحد الناجين من الزلزال المدمر. أما الحديث عن الجوانب الإدارية والسياسية فهو يحتاج إلى تناول مستقل.

كاتب سوري

الق\س العربي

——————————

ابتسامة الأسد وقبضة بن غفير/ سهيل كيوان

ما هو تفسير علماء النفس لابتسامة رئيس بلد ما أمام الكاميرات، بينما الآلاف من أبناء شعبه ما زالوا تحت الأنقاض، وما زال مئات الآلاف منهم دون حبّة دواء، وملايين منهم في العراء، ومئات ملايين من البشر في العالم يعربون عن ألمهم وحزنهم لما جرى! ألا يُفترض بقائد البلاد أن يبدو مهموماً أو محزوناً ولو تمثيلاً، على الأقل كي يبدو أمام شعبه المنكوب بأنه حزين لحزنه ومتألّمٌ لألمه، بل دعنا من الشعب فقد اعتاد على الكوارث، على الأقل ليقول للعالم بأنه مهموم وحزين لما جرى لأبناء شعبه، سواء كانوا من أنصاره أم من معارضيه، فهم سوريون في نهاية الأمر، بل دعنا من كونهم سوريين، فالمهم أنّهم بشر تعرضوا إلى كارثة، فليس كل معارض مقاتلا، فهنالك أطفال ونساء، وأناس ليسوا محاربين.

الابتسامة تقول إن الألم الطبيعي الإنساني الذي يفترض أن ينعكس من الداخل إلى الملامح لم يصل. إنها الابتسامة التي اعتادها وهندسها ليقول إنّه بخير والنظام مستقر، هي ابتسامة وظيفية وصلت بقوة الدفع، وهي رسالة إلى العالم الذي أبدى استعداده لإرسال مساعدات، بأن النظام ليس مستعجلاً، ولا يقلقه الوضع مهما ارتفع عدد الضحايا، وبإمكان الجميع أن ينتظروا.

هي ابتسامة تاجر، قالت إنَّ الفرصة مواتية للمساومة مع الجهات الدولية لتحقيق كسب سياسي، وهو ما حدث بعد أيام، إذ وصل المساعد للأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث إلى دمشق يوم الاثنين الأخير، وفاوض الرئيس، ثم أعلن عن موافقة النظام على فتح معبرَين إضافيين بين تركيا والشمال الغربي السوري لإدخال المساعدات الإنسانية، أما المكسب السياسي للأسد فهو تصريحٌ غامض جاء على لسان المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية، بأنه «إذا كان النظام جدّياً ويقرن القول بالعمل فهذا جيّد للشعب السوري». ابتسامة لا تعبِّر عما يجري في نفسه، كذلك يجب عدم استبعاد تناوله للحبوب المهدِّئة وحتى إدمانه عليها. الابتسامة تقول إنّه لا توجد رقابة ولا محاسبة للمسؤولين في هذا البلد، أقلها الانتقاد في الصحافة ووسائل الإعلام لهذا الظهور الاستفزازي. لقد عبّر عنها رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات، الذي سبق وأن كَسَّرت مخابرات النظام أصابعه في بداية الثورة السورية كتحذير له لأنّه رسم كاريكاتيرات منحازة إلى الثورة، بعدها خرج من سوريا وأخذ حرّيته في الإبداع، هكذا تمكّن من رسم الابتسامة التي نُشرت على صفحته في الفيسبوك. القائد الحقيقي لا يقبل بأن تكون الأمم المتحدة، أو أي جسم أجنبي آخر أكثر حرصاً منه على تقديم المساعدة لإنقاذ ضحايا من أبناء شعبه، جراء كارثة طبيعية، حتى لو كانوا من أعدائه. كان حريّا به أن يعلن منذ اللحظة الأولى فتح كل المعابر الممكنة لمن يستطيع أن يساعد وينقذ المنكوبين، فالوقت لا يسمح بالمناورات، لأن حياة الإنسان أهم ما نملك حقيقة وليس دعاية إنشائية، وحينئذ ربما كان سيستعيد شيئاً من الاحترام في عيون العالم وعيون شعبه نفسه، ولكنّها طبيعة النظام المتأصلة فيه.

من جهة أخرى أصبح عاديّاً ذكر الاحتلال كلما ذُكرت جرائم نظام ما في المنطقة، فالاحتلال كارثة متواصلة لها ضحاياها بصورة يومية، من هدم وقتل وسجن وتخريب. فقد أعلن وزير الأمن القومي بن غفير تسريع عمليات هدم البيوت في القدس والضفة الغربية، لدرجة استفزّت قائد الشرطة الذي تذمَّر لعدم وجود عدد كاف من القوى البشرية لتنفيذ هذه المهام في هذا الإيقاع السريع. كذلك أعلن بن غفير زيادة الحواجز في القدس وتشديد القبضة الحديدية على السّجناء الأمنيين، وسيحرمهم من أجهزة كهربائية يعدّون فيها الخبز، وقال «لا يُعقل أن يأكلوا خبزا طازجا كأنهم في مطعم»، وسيحدِّد المدّة الزمنية لاستخدام الحمام بأربع دقائق في اليوم فقط لكل سجين، وقرَّر تحديد وصول المياه في حمامات الأقسام، لساعة واحدة فقط في اليوم. ننصح بن غفير بأن يقرأ كتاب «القوقعة» لمصطفى خليفة، أو «يسمعون حسيسها» لأيمن العتوم، كي يدرس طرق تعذيب السُّجناء وإذلالهم على الأصول. ويخشى مراقبون إسرائيليون أن إجراءات بن غفير ستوحِّد الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها لمواجهة هذا التصعيد، الذي سيقابل بتصعيد معاكس.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

—————————–

الزلزال… حكايات عائدين من الموت!/ محمد جميح

زلزال تركيا وسوريا، مشهد من مشاهد يوم الدين، نهاية التاريخ وخراب الجغرافيا، وهول الزمن الذي كشر عن وجهه عندما زلزلت الأرض «زلزالاً عظيما». المباني تتمايل وتمد شرفاتها، كي تتساند على بعضها دون جدوى، والناس كنمل مر عليهم جند سليمان، أو كما يظهر في بعض أفلام الرعب، عندما يظهر كائن أسطوري يحطم المباني ويسحق الناس، ويحيل العمارات الشاهقة ركاماً مختلطاً بجثث الكبار والصغار، حيث الأقدار تهطل كمطر مصحوب بعواصف رعدية وصواعق مرعبة، وحيث يظهر الإنسان عاجزاً ضعيفاً أمام قوة جبارة تعصف بمحيطه كله، دون أن يستطيع مواجهتها، في مشاهد توراتية، أو كوارث خرجت من كتب الملاحم الإغريقية.

يصف أحد الناجين الأتراك الزلزال بأنه «جعل الأشجار تلمس الأرض وتعود لهيأتها الأولى مرة أخرى كما لو كانت راكعة» ولنا أن نتصور كيف ركَّع الزلزال الحديد والإسمنت، وأحال المباني إلى جثث هامدة، أو مقبرة جماعية دفن بها أكثر من 40 ألف إنسان، في الشوارع والميادين، حتى اليوم.

وفي خضم هذا اليوم الذي أطل على العالم من مشاهد القيامة سجلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مشاهد تحكي قصة الإنسان، الإنسان الأعزل من كل قوة أمام الزلزال، والإنسان الذي يواجه مصيره في ما يشبه معركة غير متكافئة، يظهر فيها الضعف الإنساني في أجلى معانيه، وتظهر قصص وحكايات للناجين من هول الكارثة: من المولودة التي نجت بعد أن وجدت معلقة بالحبل السري للأم التي ماتت، والرضيع الذي خرج من تحت الأنقاض مبتسماً بعد خمسة أيام تحت الركام، والطفلة الأخرى التي ما إن بان لها الضوء من تحت الركام حتى بادرت فريق الإنقاذ بتحيتها العفوية: «السلام عليكم، وكأنها قدمت للتو من مشوار صغير انتهى بظهور خصلات من شعرها لفريق الإنقاذ الذي صرخ أعضاؤه: وعليكم السلام، في فرحة غامرة بنجاتها، وطفلة أخرى خرجت من تحت جثة مبناها في اليوم السادس، وما إن خرجت حتى طلبت بعض العصائر التي تحب تناولها.

الناجون في اليوم الثامن (بعد 198 ساعة من وقوع الكارثة) حكاية أخرى، حكاية الأجل الذي حماهم بعد ثمانية أيام تحت الأنقاض، وهي حكاية تحتاج إلى تفسير، إذا كيف يكمن أن يعيش الإنسان مع قدر قليل من الهواء، وبلا ماء أو غذاء كل هذه المدة؟ وماذا جرى للعمليات البيولوجية في الجسم الذي صمد كل هذه الفترة؟ وهل قلص الجسم من نفقاته الحيوية ليظل على قيد الحياة، أم أنه جمّد بعض وظائفه ليبقي على ما يستطيع من مؤونة احتفظ بها لأيام ثمانية من الهول، وهل هناك تفسير علمي لمثل تلك الحالات؟

هناك لقطات مؤثرة لناجين خرجوا يرددون تسابيح ودعاء نم عن اتصال روحي عميق بالله، وهناك من خرج تالياً تسابيحه من القرآن الكريم، وظهرت صور لموتى وهم ممسكون بالمسابح، حيث كانت آخر لحظاتهم في الحياة اتصالا مباشرا بالملأ الأعلى، مع أسئلة مثيرة عن كيفية موت هؤلاء على هذه الشاكلة.

أما حكايات الذين قضوا تحت الركام، فهناك قرابة 40 ألف حكاية لم نتمكن من سماعها من قبل أصحابها الذي أطبق عليهم الموت من كل الجهات، وهي حكايات لو رويت لكانت أغرب ما سمعنا في حياتنا، حيث حوت تفاصيل عن لحظات مواجهة الموت، وماذا جرى من حوار روحي بينهم وبينه؟ وماذا رأوا من مشاهد يقال إن الموتى يرونها قبيل لحظات الفراق؟ وكيف كان يومهم الأول في عالمهم الجديد؟ وكيف كان استقبالهم هناك؟ وكيف رأوا الموت؟ ما لونه؟ ما شكله؟ كيف نفذ وظيفته معهم؟ وكيف حمل أرواحهم إلى المستقر الجديد؟ وما هو شكل العالم الآخر؟ ما صفته؟ ما حقيقته؟ وأين هو؟ وأسئلة أخرى لم نحصل على تفاصيل إجاباتها، لأن أحداً لم يرجع إلينا ليخبرنا كيف كانت المائدة الأخيرة التي تناولوا فيها الكأس مع الموت، رفيق رحلتهم الجديدة إلى العالم الآخر، ولو أن أحداً عاد ليخبرنا، لربما أفسد علينا متعة اللقاء الأول برفيق الرحلة الذي سيصحبنا جميعاً اثناء عبورنا النهر إلى الضفة الأخرى، حيث شاءت الأقدار أن تظل حياتنا محفوفة بالدهشة والغرابة، حتى ونحن ننتقل إلى العالم الآخر الذي لا نعرف عنه إلا بعض أوصاف جاءت بلغة دينية رمزية لا تحيل إليه بشكل مباشر.

يبدو أن الزلزال كان بروفة ليوم «العرض الأكبر» للزلزال الكبير الذي من المقرر أن يحدد نهاية العالم، إنه بلغة الفلسفة تمرين بسيط لتهيئة الأرض والإنسان للمصير المرتقب، المصير الذي عبر عنه أحد الناجين من «انتفاضة الأرض» عندما قال:

«ذهبت للنوم ونهضت لحظة خسوف الأرض بي وسقوط السقف علي…بدأت بالزحف نحو أماكن أكثر اتساعا كي أجد منفذا للخروج، وأمضيت في ذلك قرابة ساعتين، أصوات العالقين تحت الأنقاض تأتي من كل مكان وبشكل مرعب، المكان كان شديد العتمة، صرت أرى الجنة والنار، وقلت يا الله».

حدث الزلزال – إذن – والأرض تتهيأ لاستقبال يوم جديد، حيث قامت بحركة تشبه حركاتنا ونحن ننهض من السرير، ونحاول أن «نتمطى» بتحيرك بعض أجزاء الجسم لإبعاد بقايا النوم، يبدو أن الأرض كانت «تتمطى» لتبعد عنها بقايا النعاس، لكن حركة يديها وهي تنهض من سريرها كانت رهيبة، أودت بحياة عشرات الآلاف، أو ربما كان قلب الأرض قد ضاق بما فيه من طاقة غضب خرجت على طريقة «اتق غضبة الحليم».

مهما يكن من أمر فإن الزلزال الطبيعي ستتبعه زلازل نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية ستستمر لفترات قادمة طويلة، إذ يصعب على من قضى تحت الركام أياماً طويلة أن يمسح عن مرآته الداخلية آثار ما حدث، كما أن فقدان الأحبة وتمزق أواصر العائلات ودمار المدن سيؤدي إلى إعادة تركيب التوليفة المجتمعية واتخاذ أشكال أخرى من التعايش، ناهيك عن الآثار السياسية للزلزال الذي بدأت المعارضة التركية باكراً توظيفه ضد حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في سرعة قفزت على الآلام، لتحيل تلك الآلام إلى «كاش سياسي» تنتزعه من «محفظة» أردوغان التي راكمها خلال سنوات من العمل والمعارك والمكاسب على مجالات مختلفة.

بقيت الإشارة إلى أن الزلزال الذي راكم الجثث قد فجر ينابيع المواساة، حيث تواصلت الجسور الجوية، وعلى وجه الخصوص من الخليج العربي، حيث كانت المساعدات السعودية ومعها الخليجية الأخرى رائدة في المجال الإنساني في كل من تركيا وسوريا.

وتظل حكايات الزلزال مستمرة تضج بها الصحف والشاشات، وستظل ارتداداته على المستويات كافة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وستدخل تلك الحكايات صفحات التاريخ والأدب، كأعظم زلزال شهدته المنطقة خلال المائة عام الماضية.

كاتب يمني

القدس العربي

———————-

هشاشة العالم: تأمل في كارثة الزلزال/ عباس عبيد

يبقى غضب الطبيعة هو الأبرز من بين كل الموضوعات التي لا نمنحها وقتاً كافياً للتفكير، إلى أن تحل بساحتنا، كأننا نهرب من تخيل جموحها، نرتعب من قسوتها الهائلة حين تبطش في لحظات الكوارث، ربما لأنها ستكشف لنا عن ضعفنا الميتافيزيقي، عن حقيقة عالمنا كما لم نعرفه من قبل، تجعلنا ندرك مدى هشاشته، وكم هو فاقد للمعنى.

نحن البشر متشابهون في أشياء كثيرة، سواء أكنا من كهرمان مرعش التركية، حيث فتك الزلزال بكل ما على فوق الأرض، أم من حلب السورية التي أكمل فيها جبروت الطبيعة تدمير ما نسيته الحرب الأهلية، أو من بغداد، أو بيروت، أو حتى بورت/ برنس عاصمة هايتي، لا فرق أبداً. نطلب من مهندس البناء تدعيم أسس بيوتنا بمزيد من الحديد والخرسانة. نحلم بأن تصمد، وأن تبقى صالحة لسكن الأحفاد، إن أسوأ الكوابيس التي يمكن تخيلها هو أن تأتي لحظة غير متوقعه لتجعل فردوسنا الآمن جحيماً، أن يقوم زلزال ما بتحويل بيت طفولتنا الموروث من آبائنا، أو الذي لم ندخر جهداً ومالاً لتشييده بأنفسنا إلى قبر ينهار فوق رؤوس أحبتنا وهم أحياء.

ذلك الإنسان الذي كان خارج البيت لحظة انهياره هل نعتبره إنساناً محظوظاً أم سيئ الحظ للغاية؟ لنتخيل أن عائلته السعيدة طلبت منه أن يشتري لها من السوبر ماركت القريب خبزاً، أو بضع علب كوكاكولا، وحين عاد وجد أسرته تحت الأنقاض. لحظتها سيتمنى لو أنه لم يطلب تدعيم بيته بالإسمنت والحديد، بل سيتمنى لو لم يقم ببنائه أصلاً، لو كان البيت مجرد خيمة، كل ما يقوى عليه الزلزال هو أن يوقعها، خيمة بسيطة من قماش، لا يحتاج التعامل معها لفريق إنقاذ ولا معدات، يرفعها بنفسه، بيد واحدة فقط، ليجد أفراد عائلته بصحة، وأمان تامين. هل ما أكتبه هنا هو تأمل فلسفي؟ لا أعرف، فالفلسفة رغم تراثها الباذخ ذي المسحة الإعجازية تبقى هشَّة هي الأخرى، ولعل إحدى مآسيها هو في كونها غير قادرة على تعريف المأساة، ربما لأن معناها لا يحتاج إلى شرح أصلاً. المأساة فلسفة بحد ذاتها، فلسفة تهزأ – لفرط بساطتها – بتكهنات المثاليين والماديين. إنها مؤقتة مثل الزلزال، تباغت ثم تنسحب، لكنها مثله أيضاً تترك خلفها آثار الخراب، في النفوس، كما في المباني. نعم.. ستخلف لنا جوهرها، أو فحوى شعريتها، إن جاز لنا تذكر نماذج التراجيديا، تلك التي لم يعد لها مكان في أدب الحداثة، وما بعد الحداثة. ما استمر منها فقط هو جذرها الأكثر إيلاماً، الحزن الذي ينتاب الروح بين حين وآخر، حتى وهي في أوج لحظاتها سعادة وأمنا. مع ذلك. لا شيء مثل الكارثة يمنحك فرصة للتأمل.

بالمناسبة، لا يوجد أبطال فرديون في المآسي الناتجة عن كوارث الطبيعة، فهذه الأخيرة بخلاف نماذج الفن، غير عضوية، ولا مترابطة. التراجيديا الكونية لا تحاكي فعلاً نبيلاً، ليس فيها نبلاء، ولا سوقة. هناك آلاف، وأحياناً عشرات الآلاف من الضحايا فحسب. نحن، لحظتها، ولتعزية أرواحنا المستباحة سنقوم بالتفتيش عن بطل فردي، حتى لو لزم الأمر اختراعه، أو صنعه على عجل. وهنا، علينا أن نستبعد من تفكيرنا – ولو إلى حين- جميع نجومنا الأكثر شهرة: الساسة، رجال الدين، لاعبي كرة القدم، فناني السينما والغناء، صناع المحتوى في اليوتيوب والفيسبوك. نريد بطلاً يكون قريباً جداً من ركام ما نتج من خراب، أو خارجاً من أنقاضه/رماده بالأحرى.

لا أفضل من صور الصمود الاستثنائي لأحد الناجين، كمثال الطفل الرضيع الذي صمد 134 ساعة متواصلة تحت أنقاض مبنى كبير، انهار فوق جسده الصغير في مدينة هاتاي التركية، أو كمثال المتطوعين، وفرق الإنقاذ، وبعض منهم غامر بحياته لينقذ روحاً إنسانية، أو قطة، أو حتى كلباً دفنته الحجارة. ببساطة، كلما كان وقع المأساة ثقيلاً اشتدت حاجتنا لعزاء روحي، ليد رحيمة تربت على أكتافنا، لمصدر إلهام يقول لنا بصوت مليء بالثقة: يمكن إنقاذ المستقبل. كيف نبدأ من جديد؟ فما أكثر العواقب المحتملة لكارثة طبيعية بحجم ما حصل! آثارها تتعدى الحدود الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ستمس بالصميم حدود علاقة الذات بالكون، حتى إن لم ينتبه لذلك الضحايا لفرط ذهولهم، ستخترق كل ما يغذي سرديات الأخلاق، وخطاب الوعظ الديني، حيث تحقق الوعد بالخلاص يتوقف على ازدياد نسبة المآسي، وحيث الزلزال – كما سائر صور الكوارث الطبيعية – ليس سوى جندي من جنود الرب. جندي مرعب، مخيف، تقع تحت سيطرته أسلحة فتاكة تهزأ بأقوى القنابل النووية «فاق عدد ضحايا زلزال هايتي عام 2010 مئتي ألف ضحية»، سيطال فتكه كلاً من الإنسان الطيب والشرير. مع ذلك، فعدالة السماء لن تُمس. ثمة حل جاهز في متناول اليد دائماً: الزلزال عقاب للأشرار، واختبار/ ابتلاء للأخيار! لكن العوائل التي افترشت في أجواء البرد القارس ثلاثة كيلومترات من قارعة طريق في حلب، المرأة السورية المتشحة بالسواد تحديداً، تلك التي كانت تحتضن رضيعاً، وتلوذ بها ثلاث فتيات أكبرهن بحدود الثامنة من العمر لا تمتلك رفاهية لحظة التأمل، مثل التي نمتلكها نحن الآن، لا للإرث الفلسفي أو الديني، تعبت وبناتها طوال ما يزيد على عقد من تقاتل عشرات الآلاف من المحاربين، أولئك الذين أمعنوا في تدمير سوريا الجميلة، وكلهم يدّعون أنهم «جنود الرب» أيضاً. كانت قد بدأت بعد ليلتين باردتين انخفضت فيهما درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي بحرق بعض قطع الملابس في علبة صفيح، لتوفر الدفء لبناتها. لم يكن بقربها أي بديل آخر، لا حطب، ولا حتى نفايات. من المؤكد أيضاً أن المرأة الحلبية لم يسبق أن سمعت شيئاً عن التفسير الأسطوري لحدوث الزلازل كما يقدمه الفلكلور الياباني، ذاك الذي تروي حكاياته أن هناك سمكة سلور/ قرموط عملاقة، تعيش في جوف الأرض، وأن أدنى حركة مفاجئة لها ستتسبب بزلزال أرضي هائل. ربما لو كانت قد سمعت بالحكاية، ولو خطرت ببالها وهي ترقب حال بناتها جائعات مرتجفات، لكان التداعي قد قادها لتخيل السمكة وجبة غذاء تعدها لصغيراتها، حتى إن كانت بحجم سمكة الزينة التي نزين بها غرفة المعيشة، فهي قد ذكرت لمراسل إحدى الفضائيات الشهيرة، أن عائلتها لم تحصل طوال اليومين الماضيين إلا على «ربطة خبز» واحدة. وحين سألها إن كانت تريد أن تناشد الدول والمنظمات، قالت: أريد خيمة لبناتي فقط.

من جديد، تعود الخيمة لتصبح أمنية غالية، وقد كانت كذلك لآلاف وملايين المرات، كأننا عدنا بدائيين. السياسيون، سلطة ومعارضة، ومعهم المرابون، وتجار الأزمات لن يوفروا لأحد خيمة بالمجان. بابا نويل وحده هو من يهدينا في ليلة رأس السنة الباردة هي الأخرى هدايا بلا فواتير، أما منطق أولئك فهو يقوم على المقايضة المباشرة، على الخبث الانتهازي في أيام المأساة، كما في سواها. لا بأس أيتها السيدة الفاضلة، ستحصلين على ما صار حلماً. لن يعجز ضمير العالم عن تدبير خيمة لك، قبل أن تجبري على تدفئة بناتك بآخر قطعة ملابس، خيمة ترممين فيها هشاشة عالمك، عالمنا برمته، ريثما تعودين لتدعيم أساسات بيتك المهدم. السر الذي سيهبك القوة هو نفسه الذي لا يزال يدفع حتى الآن بنبلاء حقيقيين لمواصلة البحث عن ناجين، رغم مرور أيام على حصول الكارثة، بآخر ما تبقى في صندوق باندورا الذي انطلقت منه كل الشرور إلى العالم، بأقوى ما واجه به الإنسان كوارث الطبيعة، وتلك التي صنعها توحش الطغاة: الأمل.

أكاديمي وباحث من العراق

القدس العربي

———————–

الزلزال السوري: روايات إنسانية لن ينساها التاريخ/ مريم مشتاوي

كثيراً ما نعتقد أننا عرفنا أقسى الآلام، حتى جاء الزلزال المدمر، الذي ضرب تركيا وسوريا، وغيّر مفاهيم الكلمة وأبعادها. نعم عرفنا حروباً قاسية ومستمرة، وقد خلفت الكثير من الدمار عبر سنوات طويلة من الصراعات، لكننا لم نعرف لحظة مدمرة تختصر سنوات الحرب كلها، وتكون أكثر شراسة وحدة وموتاً من الموت نفسه. نعم عرفنا موت الأبناء والأمهات والآباء والأصدقاء، عبر مراحل مختلفة من حياتنا، ولكننا لم نشهد موت مدن كاملة في ثوان معدودة. لم نشهد بنايات تطبق على أصحابها، كما تطبق قطعة من البسكويت فوق قطعة أخرى لتخرج من بين القطعتين أشلاء وأصوات تطلب النجدة ولا طريق للوصول إليها. صورة البسكويت هي صورة حيّة نقلها لنا، وبالتحديد أحد المسعفين اللبنانيين بعد عودته من مهمته الانقاذية.

قال والدموع تتراكم في عينيه في لقاء مع الإعلامي اللبناني مالك مكتبي، بعد أن سأله عن أقسى لحظات عاشها خلال مهمته: «يا رب نجينا. في جبلة بسوريا. الشوفة مش متل الحكي. المنظر مش متل الحكي. مباني طابقة على بعضها. كيف البسكويت. السقوف هابطة فوق أصحابها. هبطت على الشهداء وهني نايمين بتخوتهم أو عم يحاولوا يطلعوا من الشقق. أطفال طاروا من أماكنهم وبقوا على قيد الحياة ومات أهاليهم. أب يركض ليجد عائلته كلها مستشهدة»!

ذلك المنقذ عاد إلى بيروت، ولكنه لم يستحم ولم يغير بدلته. وكأنه لم يرغب بالانفصال عن آلام الناس، الذين تركهم في سوريا. ولا يريد أن يبتعد عن أولئك الأطفال الذين تيتموا. وكأنه اعتنق الآلام ديناً والجروح هوية. عيناه تنطقان بألف قصيدة حزن وألف حرقة وألف جرح. عاد مثل الكثيرين من المسعفين بعد إنقاذ عدد من الأشخاص، لكنه ترك روحه عالقة مع أولئك الذين سمع أصواتهم، ولم يستطع الوصول إليهم، أو مع الذين لا صوت لهم، ولكن لديهم من ينتظرهم ومن يخلص لمحبتهم من أهل وأحباب. وقد يكون ذلك المخلص كلباً. نعم كلب. كيف نمحي من ذاكرتنا صورة ذلك الكلب، الذي رفض الابتعاد عن مكان صاحبه، حيث علق تحت الأنقاض. وقف جريحاً تائهاً عاجزاً ينتظر خروجه الذي تعثر على المسعفين.

إنها روايات من العذاب تجسدت في الأيام القليلة الأخيرة. روايات حارقة كان أبرزها قصة الأم التي نامت إلى جانب جثة ابنها. مشهد يلخص عظمة الأمومة. لحظة إنسانية لا تستطيع الكلمات أن تعطيها حقها. نامت إلى جانبه للمرة الأخيرة وهو ملفوف بكيس أسود. هل تذكرت في تلك اللحظة ساعة المخاض. هل عادت إليها كل اللحظات التي جمعتهما منذ ولادته. هل نامت وهي تأمل أن يستيقظ صباحاً ويخبرها أنه مجرد حلم بائس لا أهمية له ثم يعانقها بقوة؟

وفي مشهد آخر خرج أب من تحت الأنقاض، ولكنه رفض أن يترك يد ابنته. فالتقط المصور تلك اللحظة الإنسانية الآثرة. كان يجلس فوق أنقاض منزله، وهو يمسك بيدها. لم يتركها لساعات طويلة. ربما كان ينتظر معجزة أن تدب فيها الحياة من جديد. كان يحترق في مكانه وحيداً متشبثاً بها. تكلم معها كثيراً وأخبرها بأنه يحبها وأن تلك اليد ستبقى عالقة في قلبه.

من بين تلك القصص الحزينة نبت أبطال حقيقيون ليؤكدوا أن المحبة الحقيقة ممكنة وأن الأخوة بين الناس، مهما اختلفت هوياتهم ليست شعاراً عابراً. من بين هؤلاء الأبطال مسعفون لم يأبهوا بالموت، ولم يخشوا سقوط الركام عليهم، وهم يعملون ليل نهار لإخراج العالقين تحت الحجارة. كانوا يبتهجون ويفرحون مع خروج كل ضحية يجدونها على قيد الحياة. يرصدون أنفاس الناس ويعدونها. يحملون الأطفال الناجين برفق وحنان وفرح وكأنه ميلاد جديد، ويركضون بهم إلى سيارات الإسعاف. وحين يتعبون من الحفر والتنقيب ينامون في أماكنهم لثلاث ساعات فقط، ويعاودون العمل وهم في سباق مع الزمن.

لم يكن المسعفون وحدهم الذين أبهروا العالم بتفانيهم في تأدية مهامهم الإنسانية، بل أيضاً الممرضات. لقد رصدت الكاميرات في العديد من المستشفيات كيف هلعت إحدى الممرضات – حين ضرب الزلزال المدمر – لإنقاذ الأطفال المرضى الذين كانوا قابعين في المستشفى. هكذا حملت طفلة وركضت إلى الغرف المجاورة، بعد أن طلبت من العاملين معها إخراج الأطفال الآخرين من الغرف المجاورة. وفي مشهد مصور آخر، وفي مستشفى أخرى في «غازي عنتاب» بالقرب من مركز الزلزال، ركضت الممرضات إلى غرفة حديثي الولادة وأمسكن بالحاضنات كي لا يقعن على الأرض ولم يفكرن بالفرار والنجاة بأنفسهن. إنها الرحمة والمحبة والتفاني المطلق. صفات إنسانية نادرة في أيامنا هذه، ولكنها تصنع الفرق وقت الشدائد.

ولا يمكننا أن ننسى أولئك المراسلين، الذين ينقلون لنا الحدث ويستحيلون في معظم الأوقات إلى مسعفين للأهالي ويواسونهم في مصابهم. يبكون مع بكاء المنكوبين، وأحياناً يقفون عاجزين أمام هول الكارثة.

لم يبق أحد لديه، ولو القليل من الإنسانية إلا وتحرك لنجدة الأهالي. طوابير من المساعدات وصلت من خارج البلد وداخله إلى الناجين الذين أصبحوا في العراء. كان آخرها مواكب انطلقت أمس من دير الزور، ومن أهلها الطيبين لمساعدة المنكوبين في الشمال السوري. عندما كنت صغيرة كنت أسمعهم يقولون في مديحهم: «الدير ديرة الوفا». وقد أثبت الزمن أنهم فعلاً أهل الوفاء.

يصادفنا هذه الأيام عيد الحب، الذي ترجمه كل هؤلاء المتفانين بأفعالهم، ربما كي نؤمن أن الخير ما زال موجوداً، رغم صعوبة الأقدار وشراسة الأيام.

كاتبة لبنانية

القدس العربي

————————–

تاريخ سوريا: من هولاكو إلى الأسد/ رياض معسعس

في تاريخ سوريا أحداث جسام: دمار حلب واجتياح دمشق من قبل هولاكو قائد التتار الذي بعد سقوط بغداد في العام 1258 واصل طريقه إلى حلب ثم دمشق فعاث فيهما فسادا وقتلا وتنكيلا. ثم جاء بعده تيمور الأعرج قائد التتار في العام 1400 ليحرق دمشق ويسبي نساءها. يقول المقريزي: “حل بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وأجري عليهم أنواع العذاب من الضرب، والعصر، والإحراق بالنار، فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح ثم تعاد عليه العقوبة أنواعا، ومع هذا تؤخذ نساؤه، وبناته، وأولاده الذكور، فيشاهد الرجل المعذب إمرأته، أو ابنته، وهي توطأ، وولده وهو يلاط به، فيصرخ هو من ألم العذاب”.

دمار حماة

في العام1982 دمرت حماة وقتل من أهلها ما لايقل عن 30 ألفا واغتصبت نساء، وقتل أطفال، ونكل بشيوخ في مثل هذه الأيام من شهر شباط/فبراير من قبل نظام حافظ الأسد، هذه الأيام التي تشهد اليوم مأساة كبرى تعم سوريا من جراء الزلزال المدمر بما فيها مدينة حماة أيضا.

منذ العام 2011 وبعد انطلاقة الثورة السورية حل بالسوريين ما لم يحل بهم خلال تاريخ سوريا المديد فقد دمرت العديد من القرى والمدن وباتت خرابا، وقتل وأصيب من السوريين ما ينوف عن المليون، عشرات الآلاف منهم قتلوا تحت التعذيب الشديد، واغتصبت نساء، وحتى رجال، وسرقت أعضاء بشرية، وأحرقت جثث، ونهبت أموال، وهجر نصف الشعب السوري خارج وداخل البلاد.

لا يمكن بالطبع مقارنة هولاكو وتيمور لنك (الأعرج) مع بشار وأبيه حافظ الأسد، فالأول مغولي والثاني تتري، أما بشار ابن أبيه فهما سوريا الجنسية وما فعلاه يفوق ما فعله هولاكو وتيمور لنك بما لا يقدر ولا يوصف.

كارثة الزلزال

اليوم شاء قدر السوريين أن تأتيهم بعد جرائم بشار وأبيه، كارثة الزلزال التي أودت وأصابت عدة آلاف منهم، وهدمت مبانيهم، وفقدوا ممتلكاتهم.

هذه المأساة الإنسانية التي جاءت على السوريين والأتراك، لم يجد السوريون من يسعفهم سوى السوريين أنفسهم الذين هبوا لنجدة إخوانهم وكانت صورة هذا التضامن الرائعة هي صورة الإنسان السوري الحقيقية الذي يقف إلى جانب أخيه الإنسان في محنته لأن المصاب واحد على الجميع. أكان في سوريا أم في تركيا حيث يقطن عدة ملايين من السوريين في جميع أنحاء المدن التركية وأصابهم ما أصاب التركي. والشدائد هي التي تكشف معادن الرجال.

لم يعان شعب في عصرنا الحديث ما عاناه ويعانيه السوريون. نصف قرن ونيف لم يعرفوا خلالها سوى الظلم، والقهر، والكبت، والتفقير، والتجويع، والإجرام، والقتل لكل من تجرأ على نقد النظام الجاثم فوق الصدور. وهو اليوم لم يتوان عن استغلال كل الوسائل، وتجاوز كل الخطوط الحمراء ليبقى متمسكا بالسلطة التي تسلطت عليها العائلة الأسدية. وحتى استغلال مأساة الشعب السوري.

جني الفوائد من المصائب

ما أن حل بالسوريين ما حل بهم جراء الزلزال وباتوا في نكبة حقيقية، تفتق ذهن النظام الأسدي عن استغلال المأساة ليجيرها لصالحه في محاولة لفك الحصار عنه وإلغاء العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة لعدة أسباب بقانون “قيصر”(توثيق القتل تحت التعذيب لأحد عشر ألفا من المعتقلين في عشرات آلاف الصور، و”قانون كبتاغون” لصناعة وترويج المخدرات، وعقوبات أخرى منذ العام 2005 تتعلق بتهم إرهابية). فمن قتل مليون سوري، ودمر سوريا هل يأبه لموت عدة آلاف من السوريين، وتدمير أبنية لا تعادل 1 في المئة مما دمره؟

وزير الخارجية النظام السوري فيصل المقداد قال: “إن الحكومة مستعدة للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى جميع مناطق البلاد، شريطة ألا تصل إلى الإرهابيين” في إشارة إلى المعارضة السورية. وهؤلاء “الإرهابيون” هو من هجرهم من ديارهم وسلبهم أملاكهم.

المقداد طالب برفع العقوبات التي حسب قوله تزيد من صعوبة الكارثة. الهلال الأحمر السوري بدوره دعا إلى رفع العقوبات، وكذلك مستشارة بشار الأسد بثينة شعبان، وناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي طالبوا بدورهم بها، وكذلك فنانون موالون، وكأنها جوقة معدة سلفا أعطى المايسترو الإشارة لتبدأ عزفها. ويزور هو أطلال الزلزال ضاحكا سعيدا وكأن الزلزال جاءه هبة من السماء لفك الحصار عنه، وهذا ما حصل جزئيا.

مواقف عربية ودولية

في الوقت الذي أظهرت دول عربية تعاطفها مع النظام السوري وأرسلت مساعداتها حصريا إليه، وسعت بعضها لتطبيع علاقاتها معه، ومنها من كانت قد قطعت علاقاتها معه منذ زمن، لم تظهر القوى الغربية ما يفيد باستعدادها التعامل مع الأسد مرة أخرى، ورفع العقوبات عن نظامه، معتبرا أن النظام السوري عامل بوحشية الشعب السوري منذ اندلاع الثورة، وتحمله مسؤولية الجمود للوصول إلى حل سياسي على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 2254.

في تصريح للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس قال:”من المثير جدا للسخرية، إن لم يكن سيجلب نتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعانيها الشعب” وأكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن بلاده ترفض التعامل مع النظام السوري في ملف المساعدات، بقوله: “نحن مصممون على تقديم هذه المساعدة من أجل مساعدة الشعب السوري على تجاوز هذه المحنة.. هذه الأموال ستذهب بالطبع إلى الشعب السوري وليس إلى النظام”، لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن فاجأ الجميع وأعلن إعفاء أي معاملات متعلّقة بجهود إغاثة ضحايا الزّلزال في سوريا من العقوبات، وذلك لمدة 180 يوماً، وحتى تاريخ الثامن من أغسطس/آب المقبل، وهذا ما كان يبحث عنه الأسد ليستلم المعونات، ويفك عزلته، ويشجع الدول العربية للتطبيع معه، ودعمه في إعادة الإعمار، ودعم اقتصاده المنهار، والعملة المتدهورة، ويعزز حكمه، وكل هذا على حساب الشعب السوري.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

شرق المتوسط بعد الزلزال: تداعيات وتحوّلات تستوجب معالجات جذرية مشتركة/ عصام نعمان

لن تكون الدول في شرق المتوسط بعد الزلزال أبداً كما كانت قبله. على مدى البرزخ البري والبشري والحضاري بين شواطئ البحر المتوسط في الغرب وشواطئ الخليج العربي في الشرق، ستصبح الدول بعد الزلزال مغايرةً تماماً في كل مستوياتها. الزلزال الجيولوجي العنيف ضربها جميعاً وتسبّب في زلزالٍ اجتماعي وآخر سياسي لا يمكن حصر تداعياتهما في أمد قصير. من محور الزلزال الجيولوجي في كهرمان مرعش في جنوب تركيا، اندلعت ألوف الهزات والارتدادات على مدى ثلاثة أيام في عشر ولايات تركية في جنوب البلاد ووسطها، وفي شمال سوريا وغربها، وبوتيرةٍ أخفّ في شمال غرب العراق، كما في شمال لبنان وساحله الغربي، وفي شمال شرق فلسطين المحتلة أيضاً.

التفاوت في فعالية الزلزال أنتج تفاوتاً في تداعياته، لكنه أضحى هاجساً مقيماً في كل البلدان المشرقية التي ضربها، لاسيما تركيا وسوريا، حيث فعاليته كانت الأقوى والأسوأ، إذ بلغ عدد القتلى فيهما نحو 30 ألفاً والجرحى عشرات الآلاف والمتضررين أكثر من 25 مليوناً. في مجمل وجوه هذه المشهدية الزلزالية التي عصفت ببلدان شرق المتوسط، يمكن رصد الواقعات والتداعيات والتطورات الآتية:

ـ تدمير مظاهر ومرافق العمران وتهجير السكان على جانبي الحدود بين تركيا وسوريا.

ـ انسداد المعابر بين تركيا وسوريا، ما حمل المهجّرين الأتراك على التوجّه شمالاً في عمق البلاد، والمهجّرين السوريين على التوجّه جنوباً في عمق البلاد أيضاً، ما أدّى ويؤدي إلى مزيدٍ من تدفق المهجّرين السوريين إلى لبنان والجوار.

ـ تضييق عمليات الإنقاذ والإسعاف في مناطق «الحكم الذاتي» التي يديرها تنظيم «قسد» الكردي المناهض للحكومة المركزية في دمشق، وذلك بإيحاء من قيادة القوات الأمريكية المتمركزة في مناطق شرق الفرات، وتلك المسيطرة على مناطق آبار النفط في غرب محافظة دير الزور، كما في منطقة التنف على الحدود بين سوريا والعراق.

ـ امتناع الولايات المتحدة، بادئ الأمر، عن تخفيف العقوبات والقيود الاقتصادية التي تفرضها بموجب «قانون قيصر» على سوريا، كما على الأطراف التي تتعامل معها أعاق، بل عطّل أحياناً عمليات النجدة وإيصال المساعدات الإنسانية المرسلة إلى المناطق المتضررة.

ـ بعد اشتداد حملات الاستنكار العربية والإسلامية على الموقف الأمريكي العدائي وغير الإنساني، قامت واشنطن بإبداء بعض المرونة، بأن علّقت العقوبات والقيود المفروضة بموجب «قانون قيصر» لمدة 180 يوماً فقط، مع تأكيدها على استئناف العمل بها لاحقاً.

ـ قيام مؤسسات رسمية وشعبية في لبنان والعراق بتجاوز العقوبات والقيود الأمريكية المفروضة على سوريا، بإرسال شتى أنواع المساعدات الإنسانية واللوجستية إليها ما أدى إلى كسرٍ جزئي للحصار الأمريكي المفروض عليها، وأفسح المجال لتوسيع حجم الكسر بما يؤدي إلى تقليص مفعول العقوبات والحصار.

هذه التطورات والمبادرات الحاصلة والمرتقبة ستنتج بدورها تحوّلات وازنة على النحو الآتي:

أولاً: تعاظم مبادرة سياسية كانت أطلقتها الجزائر، ثم تبنّتها مصر وتدعمها تونس ويواكبها لبنان هدفها، رفع الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على سوريا منذ 12 عاماً بقرار من جامعة الدول العربية، اقترن لاحقاً بعقوباتٍ فرضتها الولايات المتحدة وشاطرتها في التنفيذ دول أطلسية في غرب أوروبا.

ثانياً: تسريع التعاون بين إيران والعراق دعماً لسوريا على الصعيدين الإنساني والاقتصادي.

ثالثاً: تصاعد دعوة صارخة أطلقتها قوى شعبية متعددة في العراق والأردن ولبنان وفلسطين، لدفع حكوماتها وسلطاتها إلى التواصل والتعاون بفعاليةٍ أكبر مع الحكومة المركزية في دمشق، بغية مواجهة تداعيات الزلزال على شتى المستويات.

رابعاً: انطلاق حملات شعبية ضاغطة على الحكومات العربية، مطالبةً بوجوب المبادرة إلى عقد مؤتمر للتعاون الاقتصادي والإنمائي، وإدارة الكوارث بين دول شرق المتوسط العربية، أي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر، وتنظيمات المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى تركيا أيضاً (بفعل ضغوط قوى المعارضة فيها) لمواجهة التحديات والتحوّلات الناجمة عن الزلازل، بما يضمن مواجهة تحدياتها المرتقبة.

خامساً: يُخشى، في المقابل، قيام الولايات المتحدة بتعزيز دعمها الشامل لـِ»إسرائيل» من جهة، ومن جهة أخرى للتنظيمات الإرهابية الناشطة ضد سوريا وحكومتها المركزية، كما ضد إيران وأطراف محور المقاومة بقصد إضعافها وتشتيت قواها.

سادساً: لا يُستبعد أن تؤدي هذه الجهود المعادية، سالفة الذكر، إلى وقف المساعي والمفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، تحوّطاً من أمريكا و»إسرائيل» لإمكانية قيام إيران، نتيجةَ رفع الحجز عن مليارات الدولارات من أموالها المجمّدة في الولايات المتحدة وحليفاتها، إلى استعمالها في تعزيز قدراتها الذاتية، كما في دعم سوريا مالياً وعسكرياً، وكذلك غيرها من أطراف محور المقاومة المناهضة لمخططات أمريكا وسائر دول حلف شمال الأطلسي (الناتو).

سابعاً: يُرجّح قيام روسيا بتطوير سياستها الخارجية ومخططاتها الاستراتيجية باتجاه المزيد من التعاون والدعم الاقتصادي والعسكري لأطراف محور الممانعة والمقاومة، خصوصاً في مواجهة مخططات الولايات المتحدة و»إسرائيل» في منطقة شرق المتوسط.

كل هذه التداعيات والتطورات والتحوّلات تشير إلى أن دول شرق المتوسط مُقبلة على توليف مشهدية مغايرة تماماً لما هي عليـه اليوم.

كاتب لبنان

————————-

كيف تقدمون العزاء للقاتل بضحايا الزلزال في سوريا؟/ د. فيصل القاسم

بينما كان مئات الألوف من السوريين إما تحت الأنقاض أو مشردين في أسوأ أحوال جوية في العراء شمال سوريا وداخل المناطق التركية التي تعرضت لواحد من أسوأ الزلازل منذ عقود، وفي استهتار صبياني معيب بمآسي وآلام وفواجع الملايين، واستخفاف لا يليق بفداحة الموقف وخسارة أرواح ملايين الناس، أطل ما يسمى بـ«الرئيس السوري» عبر مجلس وزرائه الصوري الهزلي، وليس بالتوجه مباشره للشعب الذي يأنف من التحدث والكلام له كعادته وعادة أبيه الديكتاتور المستبد، ولأول مرة منذ أشهر وهو يبتسم بشكل لافت، ودون أدنى مبالاة، وذلك أثناء ترؤسه لاجتماع ما تسمى بالحكومة. ولا أعتقد أن الصور التي تم توزيعها على وسائل الإعلام لطاغية الشام لم تكن مقصودة، بل إن القصر الجمهوري هو من اختارها ووزعها عمداً، وهي تكريس واستمرار لاستراتيجية ولنهج رئاسي من أيام المقبور بمعاملة الشعب بعنجهية وغطرسة وفوقية واستعلاء. فهل يعقل أن يظهر رئيس جمهورية وهو يبتسم بينما مئات الألوف من السوريين في تلك اللحظات كانوا يمرون بكارثة لم يسبق لها مثيل منذ عقود؟ إذاً العملية مقصودة، وهي بمثابة شماتة وتشف بالضحايا الذين إما قضوا تحت الركام أو يعانون أشد أنواع العذاب في ظروف جوية مرعبة بقساوتها. ولا نستبعد مطلقاً أن تكون ابتسامات طاغية الشام بشار محاولة لرش الملح على جروح ملايين السوريين الذين ثاروا ضده، ويقول لهم هذا هو جزاء من يعارضني، ووجدها، اليوم، فرصة سانحة للتشفي والشماتة بهم وهم يواجهون أسوأ زلزال تشهده سوريا في تاريخها. ومثل هذا الاستهتار والتصرف الوحشي ليس جديداً على ما يسمى الرئيس السوري، فقد قالها بعظمة لسانه ذات مرة أثناء أحد خطاباته الشهيرة إنه سعيد جداً بأن سوريا تخلصت من الملايين من شعبها لتصبح «مجتمعاً متجانساً». هكذا قالها بالحرف، فهو يعتبر ملايين السوريين الذين يعارضون نظام حكمه الطاغوتي غير مرغوب بهم في سوريا، ولا بأس أن تأكلهم الأسماك والحيتان في البحار أو أن يرحلوا عن الأراضي السورية غير مأسوف عليهم. هو قال ذلك علناً ولم يرمش له جفن. كما قال أيضاً: سوريا فقط لمن يدافع عن النظام ويؤيده حتى لو كانت ميليشيات أفغانية وباكستانية وإيرانية طائفية قذرة. لهذا لا عجب أبداً أن بدا بشار ضاحكاً وهو يعقد اجتماعاً مزعوماً لحكومته لتدارس وضع المنكوبين السوريين شمال سوريا وفي داخل تركيا.

لقد شعر ملايين السوريين أصلاً بكم هائل من القرف والغثيان وهم يرون بشار يترأس اجتماعاً من أجل المنكوبين. فعلاً إنها نكتة صارخة. لماذا؟ لأن الجميع يعلم علم اليقين أن كل ضحايا الزلزال في شمال سوريا وداخل تركيا هم بالأصل ضحايا النظام الفاشي، فمن الذي شردهم من بيوتهم بالملايين ودمر منازلهم بالبراميل المتفجرة غيره وغير طائرات بوتين التي لم تترك حتى المداجن والمشافي والمدارس والمساجد إلا وقصفتها بمئات الأنواع من الأسلحة الروسية الجديدة باعتراف وزير الدفاع الروسي نفسه. ولا ننسى مثلاً أن منطقة مرعش قهرمان التركية التي كانت مركز الهزة الأرضية الرهيبة يعيش فيها أكثر من مئين وخمسين ألف سوري في مخيمات بنتها تركيا عام ألفين واثني عشر بعد أن اضطر ملايين السوريين إلى ترك مدنهم وقراهم في الشمال هرباً من براميل بشار وعصابته.

ولا ننسى أيضاً مدينة غازي عينتاب التركية المنكوبة بالزلزال التي لا تبعد عن حلب سوى تسعين كيلو متراً وتحولت إلى مسكن لعشرات الألوف من السوريين الهاربين من المناطق السورية المجاورة من جحيم الأسد. وقد اعترفت الهيئات الإغاثية بأن حوالي نصف ضحايا الزلزال في شمال سوريا وتركيا هم أصلاً من السوريين الهاربين من جحيم الحرب. بعبارة أخرى، فإن الزلزال لم يصب مناطق النظام كما أصاب مناطق المعارضة والمناطق التركية التي يسكنها اللاجئون السوريون. وبالتالي: كيف يقدم بعض القادة العرب والأجانب واجب العزاء لرأس النظام السوري، وهو أصلاً المسؤول الأول والأخير عن محنة وكارثة السوريين في الشمال أو في المخيمات أو المدن التركية؟ مضحك جداً ومثير للسخرية في آن معاً أن يعزّوا بشار بالذين كان هو شخصياً وراء تهجيرهم وتدمير بيوتهم وتعفيش ممتلكاتهم في شمال سوريا، فاضطروا إلى اللجوء إلى المناطق المحررة أو دخلوا الأراضي التركية هرباً من براميل النظام التي دخلت التاريخ بوحشيتها وبشاعتها وفظاعتها.

لقد أرسلت بعض الدول كالجزائر مثلاً طائرات محملة بالمساعدات إلى مطار حلب الذي يسيطر عليه النظام الآن. والسؤال هل تتوقعون من العصابة الحاكمة أن ترسل المساعدات للسوريين في المناطق المحررة أو إلى السوريين المنكوبين داخل الأراضي التركية في ظل عجزه التام وتقصيره التاريخي وغياب أية آليات مهنية وخبرة لديه في المجال الإنساني والإغاثي وجل تخصصه بالقتل والإجرام وارتكاب الفظائع والإبادات الجماعية والمجازر الكيماوية فكيف سيتحول نظام مجرم قاتل إلى «ممرض» وملاك رحمة وحمامة سلام بين ليلة وضحاها؟ فعلاً عجيب. مستحيل طبعاً، فكيف تتوقعون ممن قتل السوريين وشردهم ودمر بيوتهم ونهب ممتلكاتهم أن يعطف عليهم في محنتهم الرهيبة؟ ولا ننسى أن النظام وعصابته كان يعبث أصلاً بالمساعدات الدولية التي تصل إليه كي يوزعها على مؤيديه، وقد ظهرت تقارير كثيرة تقول إن حيتان القصر البراميلي وسيدته كانوا يبيعون المساعدات الدولية بالسوق السوداء بدل توزيعها على ملايين السوريين المؤيدين الذي يعيشون اليوم تحت خط الفقر بمراحل. فإذا كانت العصابة الحاكمة لا ترأف بحال المؤيدين داخل سوريا الذين قدموا للنظام الغالي والنفيس وضحوا من أجله بفلذات أكبادهم، ثم وجدوا أنفسهم جائعين مقهورين منبوذين، فما بالك أن يرسل النظام المساعدات القادمة إلى مناطق المعارضة في الشمال وتركيا إلى مستحقيها؟ مستحيل. إن إرسال معونات للنظام كي يوزعها على مناطق المعارضة المنكوبة كمن يرسل معونات لإسرائيل كي توزعها على سكان غزة. لهذا فإن أي جهة أو دولة ترسل مساعدات للمنكوبين بالزلزال عبر النظام فهي تبذر أموالها وتهبها هباء، لأن النظام إما سيبيع المعونات ويقبض ثمنها لصالحه الخاص كما يفعل اليوم بالنفط ومشتقاته والكهرباء، أو أنه سيعطيها لعصابته ولن يصل منها شيء لا للمؤيدين المنكوبين أو المعارضين. والأهم من ذلك أن المناطق المنكوبة خارج سيطرة النظام أصلاً.

وزاد في الطنبور نغماً، وتعبيراً عن الحقد المتأصل في دواخل هذا النظام الدخيل على السوريين، أن وزير الخارجية، صرّح يوم الأربعاء، لإحدى القنوات التي تتاجر بالممانعة، وللغرابة ومحاكاة التابع للسيد، أنه كان، كمعلمه بشار، غاية بالانشراح والفرح وبابتسامة هوليوودية عريضة، مقرراً بأن هؤلاء الضحايا والمنكوبين هم من الإرهابيين ولذلك فهو لن يسمح بوصول المساعدات لهم ولا يستحقونها، وكأنه لم تشبعه ولم تكفِه، لا هو ولا معلمه القابع في وكره الجمهورية تحت حراب وحماية فاغنر والملالي، كل تلك البراميل المتفجرة التي ألقاها على بيوت وأجساد السوريين، ولم تشف غليله كل تلك الجرعات القاتلة والسامة التي أذاقها لهم خلال سنين الحرب، ليكشر اليوم عن أنيابه ويـُمعن بقتلهم جوعاً وحرماناً وموتاً بطيئاً تحت أنقاض المباني التي تداعت فوق رؤوسهم وهم نيام آمنين.

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

—————————-

زلزال تركيا وسوريا: الاستثمار السياسي في الكارثة!

رأي القدس

رغم تركّزه في إطار جغرافي محدد، فقد وصلت بعض آثار ارتدادات الزلزال الأخير الذي ضرب جنوب وشمال وغرب سوريا، مناطق واسعة في «الشرق الأوسط» وصلت غربا إلى اليونان وقبرص ومصر، وشرقا إلى أرمينيا وجورجيا، وجنوبا إلى لبنان وفلسطين، وهو ما جعل شعوبا وبلدانا تتعارض بعض حكوماتها سياسيا تستشعر الخطر الذي مثّلته الكارثة، وتتذكر أننا نعيش على أرض واحدة، ينداح فيها أي حدث طبيعي خارج الحدود السياسية للدول.

حرّكت الكارثة موجة كبيرة من التعاطف داخل الشعوب المتضررة نفسها وضمن المنظومة الإقليمية والدولية، وبدأت أجهزة الدبلوماسية العالمية تتفاعل مع الحدث، وبسبب الأوضاع الخاصة بسوريا، فقد توجّهت أغلب فرق الإنقاذ الأجنبية، والمساعدات، إلى تركيا، لكن بعض الدول العربية، كقطر والأردن والسعودية، قامت بإرسال بعثات للوصول إلى البلدين.

كان لافتا، على هذا الصعيد، أن يقوم رئيس وزراء اليونان، كيرياكوس ميتسوتاكيس، بالاتصال بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان قائلا إنه على استعداد لوضع «كل قوات بلاده في تصرف تركيا» وأن تكون مصر، التي اتصل رئيسها عبد الفتاح السيسي، للمرة الأولى، برئيس النظام بشار الأسد، بإرسال فرق إنقاذ للمناطق المنكوبة الخارجة عن سيطرة النظام.

كان لافتا أيضا أن يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن النظام السوري طلب مساعدات من إسرائيل، عبر دولة ثانية، وأن تل أبيب قبلت تقديم مساعدة، وهو ما نفاه النظام السوري طبعا، لكنّه قدّم طلبا رسميا من «الاتحاد الأوروبي» لتأمين مساعدات للبلاد، وهو ما حث عليه المستشار الألماني أولاف شولتس، أمس.

يمكن قراءة بعض الوقائع السياسية التي طرأت بعد الزلزال بطريقتين، الأولى باعتبارها تعبيرا عن إرادة التعاطف مع نكبة السوريين والأتراك، والثانية باعتبارها نوعا من الاستثمار السياسي في الكارثة، وجعلها موضوعا للمتاجرة بآلام البشر، وخصوصا حين يتعلّق الأمر بالسوريين والفلسطينيين.

واجه السوريون في المناطق المحررة من النظام حدث الزلزال باعتباره استمرارا للكوارث التي تعرّضوا لها خلال 11 عاما منذ بدء الثورة، فهذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها أولئك الأهالي سقوط المباني فوق رؤوس ساكنيها، وقد تابع العالم على مدار تلك السنوات مناظر غارات النظام وروسيا على المجمعات السكنية والمشافي والمخابز والساحات العامة، وشاهدوا الناس يحفرون الأنقاض للبحث عن أحبابهم، وكان أولئك الناس أنفسهم، يعانون قبل الزلزال من تبعات الصقيع والبرد والفاقة والأمراض المميتة، مثل الكوليرا المتفشية حاليا، وقد ظن كثيرون أن الزلزال كان موجة جديدة من القصف تلاحقهم، وكان عناصر «الخوذ البيضاء» الذين خسروا الكثيرين منهم خلال عمليات الإنقاذ على مرّ الأعوام، يتابعون، بعد الزلزال، عملهم «المعتاد»!

المفارقة الأخرى في موضوع هذا النظام مع مواطنيه، تتمثّل في إحساس السوريين، سواء في مناطق سيطرة النظام أو خارجها، أن المساعدات التي يمكن أن تصل إليه ستكون طريقة جديدة للسرقة وللفساد وللتمييز بين المقرّبين والمبعدين، وفي الوقت الذي يبدو منطقيا أن يسعى العالم لإيصال المساعدات والمشاركة في الإنقاذ، فإن المفارقة الكبيرة تظهر في أن دعوات الموالين للنظام، داخل وخارج البلد لـ«رفع الحصار عن سوريا» (وهو ليس واقعا تحت حصار بل يتعرض لعقوبات غربية) تشترط عدم رفع الحصار الفعلي، عن أهالي سوريا المنكوبين في الشمال، الذين لم تتوقف النكبات عليهم يوما.

تصريح نتنياهو، من جهة أخرى، الذي يعرض «إنقاذ» السوريين، في الوقت الذي كانت فيه الجرافات الإسرائيلية تمارس عملها «الطبيعي» في هدم بيوت الفلسطينيين، وتتأهب لجولة جديدة في الخان الأحمر، هو مثال فاضح آخر على الاستثمار السياسي في الكارثة.

——————————

زلزال في سوريا: الطبيعة أم السياسة؟/ ياسين الحاج صالح

الزلزال الذي أصاب شمال غرب سوريا وجنوب تركيا يثير في النفس شعوراً بالخجل، خجل من الوجود، خجل حيال الضحايا الراحلين، ورعب الأحياء، والمعاناة التي لا ينتهي. الخجل من العجز، الخجل من استجابات القادرين، الخجل من أننا نجونا من الأسوأ، ولم نكن منكشفين مثل أشدنا انكشافاً، العراة إلا من «حياة عارية». بعد قليل تصل مساعدات شحيحة، مصممة لإبقاء الأوضاع كما هي، أي سيئة، لكن دون مفاجآت كبيرة تسبب ضجيجاً. «العقل الإنسانوي» (والعبارة عنوان كتاب لديديه فاسون) تحركه الكوارث، ويستجيب لها بحذف المفاجئ، باستعادة النظام والاستقرار. «القلق» أو «الصدمة» من عبارات العقل الإنسانوي عن أثر الكارثة عليه، والمساعدة والإغاثة هي استجاباته. العدالة والحقوق السياسية والتحرر الاجتماعي والوطني لا تنتمي إلى معجمه. وبين كوارث الطبيعة والسياسة، الأولوية للكوارث الطبيعية التي تقلق أقل لأنه لا أحد مسؤول مباشرة عنها، ولأنها يتيح للجميع أن يكونوا أخياراً لبعض الوقت. أما كوارث السياسة فتقلق أكثر رغم أنه يجري تطبيعها، أو لأنه يبقى منها شيء «غير طبيعي» رغم التطبيع.

تبدو الأمور مقلوبة في سوريا بعد نحو اثنتي عشرة سنة من مسلسل كوارث رهيب، معلوم الفاعلين، مر دون محاسبة ودون عقاب، بل يبدو أنه تجري مكافأة المجرم على نجاحه في توسيع دائرة المتضررين من جرائمه بالتطبيع معه. أي بالتعامل معه كواقعة من وقائع الطبيعة غير المتغيرة. ما حدث سياسياً، أي ما ارتكب من جرائم، يبدو بمثابة كارثة طبيعية، دون فاعلين ودون مسؤولين، أشبه بزلزال لا وجه للوم أحد عليه. بل ثمة من هم أقرب إلى لوم الضحايا على نواقص وعيوب حقيقية أو متوهمة، إلى حد يقارب مطالبتهم بالاعتذار عما يكونون. الزلزال يكاد يكون الاسم العام لكل ما يأتي من سوريا، منذ عام 2013 على الأقل، حتى إذا أتى زلزال جيولوجي فعلاً كانت عتبة الإحساس بالكارثة قد ارتفعت إلى حد أن يتعذر بلوغها. ارتفاع العتبة هذا مقياس مناسب لتبلد الإحساس، ومن ثم شلل الفعل. ولا ينقض ذلك احتمال وصول مساعدات من دول غربية (مليون يورو من ألمانيا!) أو عربية أو غيرها، لكن الوضع في المناطق المتضررة، وفي عموم سوريا في واقع الأمر، يتجاوز من كل جانب سلة المعالجات التي طلع بها «العقل الإنسانوي» الموجه نحو حفظ النظام والحد من قلق كبار المنتفعين من النظام، بل وإعطائهم فرصة للتبجح بإنسانيتهم.

هل في ذلك ما يدعو إلى النظر إلى الزلزال كمسألة سياسية؟ لا معنى لذلك بخصوص واقعة الزلزال ذاتها، لكن له كل المعنى بخصوص عواقب الزلزال البشرية والمادية، وبخصوص سبل التعامل مع الكارثة. في مناطق الشمال الغربي السوري ما يزيد على أربعة ملايين ونصف المليون من السوريين، أكثر من نصفهم لاجئون من مناطق أخرى. وهم يعيشون في منطقة تتعرض للقصف منذ عام 2012، الكثير من منازلها متداعٍ، والبنية التحتية في حال متدهورة. ولمرة واحدة تظهر للسكنى في خيام فضيلة عدم التسبب بموت ساكنيها إن انهارت فوق رؤوسهم، وهي انهارت كثيراً في الأيام الماضية بفعل الأمطار والثلوج.

ومن البديهي أن تأثير الزلزال في شروط حياة كهذه أقسى بكثير من تأثيره المحتمل في شروط أقل سوءاً. إلى ذلك فإن سرعة الاستجابة، وحسن تحريك الموارد، بل ومجرد التعبير عن احترام الضحايا والاهتمام بمعاناتهم، هي مما يمكن أن يخفف من أسوأ الأضرار لو كان ثمة سياسة مهتمة بالسكان وأحوالهم. لم يكن، لا اليوم، ولا منذ قبل الثورة والحرب، وقبل العقوبات الغربية. يحتاج الناس لأن يتذكروا أن نحو مليون وثلاثمائة ألف من السوريين من مناطق الجزيرة (الرقة ودير الزور والحسكة) تشردوا بين 2006 و2020 بفعل موجة جفاف أصابت المنطقة، وفاقمتها سياسة تسعير المحروقات وقتها، ولم يتلقوا دعماً يذكر. سكنوا في خيام أو مساكن صفيح على حواف المدن، وعملوا حيث تسنى لهم في جني المحاصيل أو أعمال الإنشاءات، وعاشوا في بؤس. كانت مساعدات الأمم المتحدة القليلة تباع من قبل أجهزة النظام للتربح الشخصي.

فإذا رفضنا تسييس الزلزال من حيث آثاره وسبل التعامل معه سعياً وراء التضامن في مواجهة محنة وطنية، يسارع النظام ذاته إلى تخييب مسعانا، بإصراره على أن تمر كل المساعدات الدولية المحتملة عبره، حتى إلى مناطق ما انفك يقصفها، حتى أنه وجد مناسباً أن يقصف بلدة مارع قبل مساء اليوم الأول للزلزال. خلال اثني عاماً من عمر الموجة الراهنة من الصراع السوري، لم تصدر إشارة احترام واحدة حيال الرابطة السورية الجامعة، مثلاً إعلان الحداد على الضحايا على ما ذكر ياسين سويحة في تغريدة على تويتر (أعلن الحداد على باسل الأسد لثلاثة أيام وعلى حافظ أربعين يوماً، حسب ياسين) بالمقابل أعلن الحداد في تركيا لأسبوع على ضحاياها؛ أو مثلاً إيراد معلومات عن الضحايا في المناطق الخارجة عن سيطرته (العكس غير صحيح: تثابر منابر معارضة على إيراد معلومات عن الزلزال من مصادر النظام). يود المرء بالفعل ألا ينشغل باعتبارات سياسية في مقام فاجعة يفترض أن تكون جامعة وتُحيّد وقتياً المنازعات السياسية، لكنه يجازف بأن يكون مفرط السذاجة إذ يفعل ذلك في بلد مثل الذي يحكمه نظام: الجوع أو الركوع.

نلح على هذه النقطة المعنوية لأنه ليس في الذاكرة السورية المعاصرة كوارث طبيعية كبيرة، يرجح لضحاياها المباشرين أن يكونوا بالألوف، ولملايين أن يتأثروا بها بصورة مختلفة (23 مليونا هم المتأثرون في سوريا وتركيا معاً، حسب تقديرات أولية). ويميل المرء لأن يعتقد بأنها فرصة تعبير عن نية طيبة، عن المشترك الأساسي بين السوريين. لكن لا شيء من ذلك من طرف القوة التي كانت، بالمقابل، منبعاً لأكبر الكوارث السياسية في تاريخ البلد، الحكم الأسدي. منظوره السياسي يضع في علاقة عداء مع محكوميه، فلا يستطيع التفكير في أي شيء إلا بمنطق تأكيد سلطته وإضعاف المحكومين. لا قوته من قوتهم ولا قوتهم من قوته.

يبقى أن سوريين هم من يقومون بكل شيء تقريباً لمساعدة إخوانهم المنكوبين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. فعلوا ذلك بموارد محدودة وتجهيزات قليلة، بالأيدي العارية غالباً وفي جو ثلجي قاس اقتربت درجة الحرارة فيه من الصفر. وأظهر الشتات السوري تضامناً طيباً، وجُمعت تبرعات لمصلحة الأجسام الإغاثية المدنية الموثوقة. يمكن لذلك أن يكون نموذجاً للتعافي وللمستقبل السوري. ليست «الدولة» هي ما يجمع السوريين، بل هي بالضبط ما يفرقهم ليسودهم، ما يجمعهم هو روابط وطنية وإنسانية لم تمت رغم كل شيء. هذا ما يعول عليه.

كاتب سوري

القدس العربي

————————–

سوريا والكارثة المستمرّة/ جلبير الأشقر

إن صحّ تعبير «النكبة» لوصف ما حلّ بفلسطين منذ إنشاء دولة إسرائيل على أرضها في عام 1948، فإن ما أصاب سوريا، لاسيما منذ بدء اتساع الحرب فيها في عام 2012، إنما يستحق تسمية «الكارثة». وهي إحدى أكبر كارثتين عرفهما التاريخ العربي الحديث والمعاصر، أكبر بكثير من نكبة فلسطين إذا ما قسناها بعدد الضحايا. فإن عدد قتلى المعارك والقمع في سوريا وحدها خلال السنوات الإحدى عشرة المنصرمة يبلغ حوالي عشرة أضعاف عدد الفلسطينيين الذين سقطوا ضحايا الصهيونية منذ بدء غزوها لفلسطين. أما عدد السوريين اللاجئين إلى خارج بلادهم زائد المشرّدين داخل حدودها، فيبلغ ما يعادل مجمل عدد الفلسطينيين القاطنين في الوطن والشتات. فإن الكارثة الوحيدة التي تضاهي حجم الكارثة السورية في منطقتنا، إنما هي تلك التي أصابت العراق منذ أن استأثر صدّام حسين بحكمه وزجّه في حروبه الحمقاء، وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي وبعده غزوة داعش وما تبع.

لم نذكر النسب الواردة أعلاه كي نقلل من شأن المأساة الفلسطينية، وهي قضية وطن مسلوب، بل لنشدّد على الحجم المهول للمأساة السورية، الذي يزيد من هوله أن البلاد واقعة تحت خمسة احتلالات: صهيوني في الجولان منذ عام 1967، وإيراني وتركي وروسي وأمريكي قامت خلال العقد الأخير ولا تزال قائمة. وها أن الدهر يضرب شعب سوريا من جديد، فيصدف أن أسوأ زلزال تشهده تركيا منذ عام 1939 وجد مركزه في مدينة غازي عنتاب، وهي بشكل ما عاصمة اللاجئين السوريين في تركيا، كما أن أولى الخضّتين اللتين ضربتا المنطقة قبل فجر يوم الإثنين، وأقواهما، شملت مساحة واسعة من الشمال الغربي السوري، تتوسطها حلب وتطال إدلب إلى غربها.

طبعاً، فإن الداخل التركي بشعبيه، التركي والكُردي، القاطنين في المنطقة التي ضربها الزلزال، هو الذي أصابه القدر الأكبر من مفعول الخضّة. لكنّ الأراضي السورية أضعف بكثير من الأراضي التركية في وجه الكارثة، إذ تقوم في قسم منها دولة باتت قدرتها على القتل والتدمير تفوق بكثير قدرتها على الإسعاف ورفع الأنقاض، في حين أن الأقسام الأخرى بلا دولة، بل تقع خارج دائرة تدخّل معظم منظمات الإغاثة الدولية. كما أن اللاجئين السوريين في جنوب تركيا الشرقي كانوا مكتظين في العديد من الأبنية الهشّة التي جرى بناؤها بدون مراعاة القواعد الخاصة بالمناطق الزلزالية، طمعاً بزيادة الربح، والتي انهارت بصورة رهيبة. فيعني ما سبق أن نسبة السوريين من ضحايا الزلزال، الذين يبلغ مجموعهم عشرات الآلاف بكل تأكيد، ستكون مرتفعة بصورة غير متناسبة مع الحجم السكاني.

مسكينٌ حقاً شعب سوريا، فأي لعنة أصابته مع اعتلاء بشّار الأسد سدة الحكم وارثاً رئاسة «الجملوكية» من أبيه؟ بعد أن فرض حافظ الأسد دكتاتوريته الرئاسية على سوريا لمدة ثلاثين عاماً، بلغ عدد السنين التي قضاها ابنه في المنصب ذاته ما يناهز ثلاثة وعشرين عاماً، أي أن مدة رئاسته ستعادل مدة رئاسة والده بعد سبع سنوات فقط! والحال أن سنوات الابن أسوأ بعد بكثير من سنوات الأب، إذ إن أكثر من نصف مدة رئاسة بشّار هي سنوات خراب سوريا، والحبل على الجرار كما يُقال.

في الحقيقة، فإن كارثة سوريا الكبرى هي هذا النظام الذي ورث فيه شابٌ لم يبلغ بعد سنّ الخامسة والثلاثين وليس لديه أدنى خبرة في الحكم، ورث زعامة أحد أعرق المجتمعات وأعقدها وسَكِر من ممارسة السلطة وغَوِي. ولمّا بلغت سوريا حالة الغليان الاجتماعي والسياسي على غرار سائر بلدان المنطقة العربية في عام 2011، لم يبحث عن حلّ للأزمة يحفظ سلامة البلاد وأهلها، بل كان شغله الشاغل الوحيد، هو والزمرة العائلية التي تشاركه استغلال منافع الحكم المُطلَق في سوريا، كان همّهم الوحيد أن يتشبّثوا بالسلطة حتى ولو كان ثمن ذلك حرق البلد، كما في شعارهم المَقيت: «الأسد أو نحرق البلد». والحقيقة أن الزلزال الهائل الذي أصاب سوريا وشعبها لم يفعل سوى أن زاد الطين بلّة، وقد ترك خراب سوريا في عهد بشّار الأسد، تركها على أسوأ الأحوال في مواجهة الزلزال الطبيعي بعد كل ما أصابها من زلازل ومآسي بشرية الصنع.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

———————-

زلزال تركيا وسوريا: اختبار العالم وامتحان الأنظمة

رأي القدس

الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وحرائق ظواهر تتكرر على مدار التاريخ الإنساني، وبقدر ما يقترن بها من تعاطف مع الضحايا من البشر وآثار الدمار في العمران والمنشآت فإن اختبارها الأبرز هو مقدار التضامن العالمي الفعلي الذي يتجسد أولاً في التكاتف مع البلد المنكوب والمسارعة إلى إرسال فرق الإنقاذ ومعدات البحث في الأنقاض وتوفير مستويات الإغاثة كافة.

ومن المنتظر أن يكون الزلزال الهائل المدمر الذي ضرب محافظات عديدة في جنوب تركيا ومناطق شمالية وساحلية في سوريا مناسبة محزنة للوقوف على مدى نجاح العالم في اجتياز اختبار كارثي جديد، خاصة وأن تقاليد التضامن العالمي شهدت بدورها صنوفاً من التمييز بين ضحية وسواها، ومنطقة منكوبة تنتمي إلى جنوب العالم مقابل أخرى يتيح لها وقوعها في أجزاء متقدمة من المعمورة أن تلقى جرعات أعلى من الاهتمام. ولسوف يكون بالغ الأسف، فضلاً عن آثاره النفسية والسياسية الضارة وبعيدة المدى، أن تُعامل محافظات تركية مثل كهرمان مرعش وأضنة وعثمانية وغازي عنتاب وديار بكر وملاطيا، وأخرى سورية مثل إدلب وحلب وحماة واللاذقية، معاملة أقل مما شهدته تسونامي 2004 من عناية دولية.

ذلك أن الزلزال الأخير أصاب جنوب تركيا وشمال سوريا بقوة 7.7 على مقياس ريختر، وتضاعفت عواقبه في 130 هزة ارتدادية فألحقت الأضرار بطرق رئيسية وأصابت ميناء إسكندرون ومطار هاتي، وشعر به بعض السكان في لبنان وفلسطين وبعض مناطق مصر وقبرص واليونان وجورجيا وأرمينيا. وفي أحدث الإحصائيات أعلنت تركيا أن العدد الإجمالي للضحايا يفوق الـ 1600 قتيل و9200 مصاب إضافة إلى تهدم 3400 مبنى، وفي المناطق السورية تضاربت الأعداد بين الدفاع المدني السوري ضمن مناطق المعارضة ووزارة الصحة التابعة للنظام، لكن أحدث معطياتها تشير إلى نحو ألف قتيل و2400 مصاب.

والوضع في سوريا ينطوي على مزيد من عناصر الكارثة، بسبب افتقاد البلد إلى فرق الإنقاذ ومواد الإغاثة ومعدات التنقيب، وشلل أجهزة الدولة في قطاعات الصحة والبنية التحتية تحديداً، وانشغال جيش النظام بمهامّ قصف المواطنين وأعمال القمع والنهب والحصار. وخلال الأيام الأخيرة كان آلاف السوريين، من أطفال وشيوخ ونساء خاصة، ضحية موجة برد قاسية وثلوج عاتية وأتى الزلزال الأخير ليصيبهم بضربات أشد قسوة وعتواً. ومن المفارقات الفاضحة إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إرسال فرق الإنقاذ إلى مناطق الكارثة، هو الذي لم تتوقف قاذفاته المقاتلة عن قصف المساكن والمشافي والمخابز والمدارس والأسواق الشعبية في مناطق الشمال الغربي من سوريا، وتكبيدها زلازل متواصلة يومية.

ومن المنتظر أن تكون الأيام القليلة المقبلة بمثابة اختبار للتكاتف العالمي مع المناطق المنكوبة في جنوب تركيا والشمال السوري، وامتحان لحكومة حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي شخصياً في اتخاذ التدابير المناسبة لمواجهة الكارثة، خاصة وأن البلاد على أعتاب انتخابات رئاسية. وأما النظام السوري فلن يُرجى منه خير كثير على مستوى أعمال الإغاثة والإسعاف، إذ الأرجح أن تنهمك أجهزته في نهب ما سيتوفر من مساعدات عالمية.

———————-

عن الزلزال والتدميرية البشرية/ مالك ونوس

لم يُبيِّن الزلزال الذي ضرب جنوبيّ تركيا وشماليّ سورية أخيراً مدى عظمة الطبيعة وقدرة تكويناتها التدميرية على غلبة الإنسان وبقية الكائنات، بقدر ما بيَّن مدى هشاشة المجتمعات الحضرية التي أقامها البشر، وهشاشة نُظُمهم الاجتماعية التي لم تستطع التكيّف مع هذه الطبيعة، على الرغم من التقدّم العلمي الذي أحرزته. وفضحَ هذا الزلزال والدمار الذي سبّبه، وعدد الضحايا الذي خلّفه، المقدَّر بعشرات الآلاف في البلدين، وهو عددٌ قابل للزيادة، النزعة التدميرية التي لدى الانسان، والتي تفوق أخطار الطبيعة. فالإنسان عارف بتأثير الطبيعة، وبما يمكن أن تقترف يداه إذا تلاعب بمواصفات المنشآت التي يشيدها فوقها وجعلها غير قادرة على الصمود. وهنا تتشابه النزعة التدميرية لدى رجال الحروب مع التي لدى مشيِّدي الحواضر الهشّة بسبب الخراب الذي يخلفونه.

كيف يمكن أن تتحول المنازل التي بُنيت لكي تكون ملجأ الإنسان لحمايته من الأخطار، إلى مجرّد فِخاخ يمكن أن تطبق عليه بينما هو نائم، إذا ما حدث خللٌ في الطبيعة؟ فجأة، بعد زلزال تركيا وسورية الذي حدث فجر يوم الاثنين، في 6 فبراير/ شباط الجاري، باتت المنازل غير آمنة بنظر من تأثر بالزلزال أو شعر به. وفي ظرفٍ كهذا، تصبح الحياة عبثية، لأن المسكن بالنسبة إلى كثيرين هو شرط هذه الحياة. وإذ كان الدافع وراء حيازة الناس المنازل هو الحماية، بدا بعد الزلزال أن دافع بناء المنازل لدى بعض تجّار البناء والمقاولين هو التدمير، فهل يتلذّذ هؤلاء بموت الناس تحت أنقاض الأبنية كما يتلذّذ قادة الحروب بالقتل ومشاهد الدماء؟ اشتهاء السيطرة المطلقة لدى كل من هؤلاء هو الدافع لاقتراف ما يقترفون من قتل الآخرين في الحروب، والشروع بالقتل لدى المقاولين الذين أشادوا أبنية غير صالحة لحماية البشر، وإنجازهم القتل عندما هزّ الزلزال الأرض.

ولكن أين الخلل في هذا الأمر وفي الواقع الذي حوَّل هؤلاء إلى مشاريع قتلة، ومن ثم إلى قتلة موصوفين؟ أثبتت النظم الاجتماعية والسياسية الحالية أنها غير قادرةٍ على تنشئة أجيال خالية من النزوع إلى الشر، وعاجزة عن التخفيف من الروح التدميرية الموجودة لدى الإنسان الذي يعيش فيها، وهي الروح الكامنة فيه، التي تنتظر ظرفاً مناسباً لكي تظهر. فالتدميرية لدى الإنسان تظهر فقط في ظروفٍ محدّدة توافرت لبعضهم ولم تتوافر لآخرين، لذلك عاشوا بيننا ولم نلاحظهم. وقد جاء الباحث إيريك فروم في كتابه “تشريح التدميرية البشرية”، (دار نينوى، دمشق، 2016)، على هذا الأمر، وكتب ما مفاده بأن هتلر وُجد في زمنٍ محدّد وسط ظروف معينة، وقد أصبحت لديه هذه النزعة التدميرية التي لم تصبح لدى آخرين يمكن أن يصبحوا خطرين حين تحين الفرصة وتتوافر لهم الظروف والإمكانات التي توافرت لهتلر. واكتُشف أن هتلر كان كارهاً للألمان وللبشر وللحياة، وليس كارهاً لفئة محدّدة من المجتمع فحسب. وعلى هذا الأساس، شنّ حروبه التدميرية التي أحالت أوروبا خراباً خلال الحرب العالمية الثانية. ولا يختلف من أشاد الأبنية القابلة للسقوط، في الكراهية التي يحملها، عن هتلر الكاره الجميع، إذ سمحت الظروف، وواقع الفساد في قطاع البناء، في أن يتحوّل هؤلاء إلى هتالرة، أبرَز الزلزال حجم الدمار الذي خلفه فسادهم، والذي يضاهي بحجمه وعدد ضحاياه، الدمار الذي تخلفه الحروب.

يتفاجأ المرء حين يعرف أن التقيد بنظم البناء والقواعد الهندسية الخاصة بإشادة أبنية مقاومة للزلازل لا يزيد من تكلفة البناء سوى 20%، غير أن كثيرين من تجّار البناء يفضلون ألا ينفقوا هذه النسبة، خوفاً من انخفاض نسب الربح التي يحقّقونها. وأرجع كثيرون سبب الدمار الهائل إلى عدم التقيد بتلك النظم والقواعد في تركيا وسورية. ولهذا السبب تحدث نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي، عن اعتقال 131 شخصاً للتحقيق معهم بسبب الاشتباه في مسؤوليتهم عن إشادة أبنية غير مقاومة للزلازل، ما أدّى إلى انهيارها. كذلك أُعلِنَت خطّة لتأسيس مكاتب للتحقيق في جرائم الزلزال لتحديد المسؤولين عن الأمر. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأبنية التي انهارت بفعل الزلزال في المحافظات السورية التي تأثرت به، إلا أن ما زاد من حجم الدمار وعدد الضحايا في سورية، أن أبنية كثيرة كانت قد تأثرت قبل سنوات بالقصف الذي طاول مدن حلب وإدلب وحماة، ما سبّب تصدّعها ثم انهيارها بسبب الزلزال.

في ظل قتامة هذا المشهد، يبرُز مشهد الاستجابة الشعبية السريعة والكبيرة، التي بدأت منذ الساعات الأولى التي تلت الزلزال، بعدما وقف كثيرون على التداعيات وعلى الاحتياجات الضرورية لدى من باتوا في العراء ليلة الزلزال الباردة والماطرة. وبرز في سورية مشهد العائلات المعوزة التي لم تبخل بإيصال ما بقي لديها من مؤن شحيحة ومن ألبسة وأغطية وأدوية لإيصالها إلى المتضرّرين. كذلك برزت الاستجابة الدولية الكبيرة في تركيا، التي أظهرت تجاوز دول كثيرة خلافاتها مع الحكومة التركية وإرسال طواقم إنقاذ ومساعدات لأنقرة. وإذ يبرز هذا السلوك الفطري للناس، فهو يأتي في وقته ليطغى على مشهد حالات سرقة المساعدات الذي ظهر في أماكن كثيرة في البلدين، وكذلك ليؤكّد استمرار وجود بذرة لإرادة الحياة يمكن أن تخفّف ما يسببه أصحاب النزعة التدميرية التي لم تستطع المجتمعات الإنسانية تحييدهم.

العربي الجديد

——————–

ماذا أخرج الزلزال من بواطن الأرض؟/ دلال البزري

تنتعش الإنسانية إثر كل زلزال. كل واحدٍ منا، بعيداً كان أو قريباً منه، يشعر بأنه يريد أن يساعد هؤلاء الذين دمّرت حياتهم وبيوتهم بعْصفٍ لا يد لأي إنسانٍ فيه. فقط هؤلاء… إنهم الآن الأفقر، الأضعف، الأكثر عرْضة للتشرّد والجوع والعطش والبرد. عصْف الطبيعة الأهوج، الذي لا يضبطه أي اعتبار، الذي لا يعرف لا هوية ولا ديناً ولا جنسية… جدير وحده بأن يوقظ فينا ذاك التضامن الإنساني النبيل، تلك الشعلة الروحية التي توحّد البشرية في خوفها الكوني اللامتناهي.

لكن الزلزال، ينفخ، أيضاً، في الإنسان مَلَكوت ذاك الشرّ الأبدي، شرّ السياسة بمعناها اللئيم. وهي مغارة سحيقة من الصراعات والمصالح والحسابات… وطبعاً القهر والقتل على أشكاله. كأنّ شراً إضافياً كان في سُبات شتوي، وجاء الزلزال ليخرجه من نومه. وما بين إنسانية توّاقة إلى بعضها، وغول يطلع من بواطن الأرض، يلتهم ما على سطحها، يتفوق على شرورها… مسافات ضوئية. الشرّ غالب فيها، يكاد يكون غير محسوس. يكاد يرتدي ثوب البراءة والفطْنة والمحبة الإنسانية.

وقائع هذا الشرّ وافرة. لا يعطيها حقها مقال واحد. إليك فقط بعض الأمثلة: إثر انفجار مرفأ بيروت قبل ثلاثة أعوام، وكانت كل الأصابع تتّجه نحو حزب الله، أعلن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، أن هذا الانفجار “قضاء وقدر”. ولكن بعد الزلزال أخيراً، تجنّدت أقلامه للكتابة عن الزلزال بصفته مؤامرة أميركية أوروبية. وعندها “دلائل” مثل السبْحة، تكْرج الواحدة بعد الأخرى. منها، تحذير السفارة الأميركية في أنقرة مواطنيها لتوخّي الحذر في تنقلها في إسطنبول، خوفاً من هجماتٍ إرهابية على أثر حادثة إحراق المصحف الشريف في السويد، وتوتّر العلاقة بين تركيا والسويد. ثم “دلائل” أخرى: مقارنة بين المساعدات إلى تركيا، وتلك، التي تصل إلى نصفها، المرْسَلة إلى سورية، المناورات العسكرية التي نظمها الجيشَان الأميركي والقبرصي، والتدريبات الأميركية – الأوروبية المشتركة على عمليات إجلاء لزلزال “خطير”، ومشروع أميركي لصناعة كوارث مناخية طبيعية، وخطّة أميركية جاهزة لإخلاء قاعدة انترلخت النووية الأميركية في تركيا… المهم هنا، كما في كل شيء تقريباً، كما في الربيع العربي، كما في انتفاضة النساء في إيران، ثورة 17 تشرين، انهيار لبنان… كله مؤامرة أميركية إمبريالية غربية. … أما أن يكون انفجار المرفأ، الذي هو من صنع الإنسان، مجرّد “قضاء وقدر”، ويكون الزلزال “مؤامرة”، فهذا يدلّ على أن شراً إضافيا يهزّ محور الممانعة، ليس في جبروتها، بل في تماسكها الذهني، في تراخي عقلها.

مثل آخر، أثقل من سابقه. من يتذكّر الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون، وهو يعلن بفرح، بعد انفجار المرفأ نفسه: “الآن انكسر الحصار على لبنان!”. بشّار الأسد، من دون أن يعلنها بالسذاجة إياها، ولكن مستلهماً منها، همسَ في أذن مساعده: “الآن انكسر الحصار على سورية!”. فانطلقت المكْلمة الممانعة في سجية من أدرك أن دوره ينتعش الآن. وانعجقت الصحف والمواقع والفعاليات و”إعلاميون ضد قانون قيصر” (قانون يعاقب بشار الأسد بخجل على جرائمه بحق شعبه)، وحملات تبرّع لا تقلّ تمويهاً، ومعها جمعيات ذات أسماء “عادية”، يتبيّن أنها على صلة شبه علنية بحزب الله، أو أحزاب غير متنكّرة، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الموالي من دون مواربة لبشّار الأسد، وقافلة مساعدات أولى تحمَّل شعار “قانون قيصر تحت اقدامنا!”، وإرغام وزراء الحكومة اللبنانية على زيارة بشّار الأسد. وسؤال غامِز لامِز: “هل يجرؤ العرب على كسر حصار سورية؟”، وجواب ملْحاح: “ارفعوا الحصار عن سورية!”، أي دعوا العالم يعترف ببشار حاكماً أبدياً لسورية.

ولدهشتي وقعتُ على خبر بيان صادر بعد الزلزال عن “مجلس الأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب”، وقَّعه “رؤساء الاتحادات والنقابات والروابط والأسر الأدبية العربية”، وبادرَ إليه محمد حوراني، رئيس اتحاد الكتّاب السوريين، الرسمي الموالي لبشار الأسد. والبيان يدعو “كل زعماء الأمة العربية من ملوك ورؤساء وأمراء، وكذلك نقابات عربية للوقوف مع سورية”، أي مع بشار الأسد. وعندما بحثتُ عن رئيس اتحاد الكتّاب اللبنانيين، بعدما آخذتُ نفسي على عدم معرفتي به، وجدتُ اسم إلياس زغيب، الذي لا أعرفه. فبحثتُ مجدّداً: انه شاعر، له ديوانان بالعامية، “جراس الحبر” و”قجّة النسيان”. على صفحته الفيسبوكية، “مقابلة” مع وزير الإعلام، يشيد فيها بإنجازاته… فتذكّرت أيام كان سهيل إدريس رئيساً لهذا الاتحاد، أو جوزيف حرب، أو سليمان تقي الدين…

وللمزيد من الدعم لكسر الحصار عن بشّار، يذهب “الفكر” والتحليل الممانع إلى تركيا. فماذا يرى؟ نهاية حاكمها أردوغان. بشماتة معقّلة، يحلّل “أسباب” هذه النهاية. منها أن الصحافة المعارِضة تهاجمه، وأن قادة أحزاب المعارضة ينافسونه في الانتخابات الرئاسية التي ستحصل بعد ثلاثة شهر. منها أيضاً أن الأهالي المنكوبين استقبلوه وهم غاضبون منه ومن سياسته… أي إن الداعين إلى “فكّ الحصار عن بشار الأسد” معجبون به لأنه ليس مثل أردوغان، ليس مهدداً بصحافة حرّة، أحزاب، انتخابات أو أهالٍ. أصلاً، من تجرّأ على بشار أُعدم من زمان، أو اختفى أو قتل في مجزرة أو من دونها، أو هربَ إلى أقاصي الدنيا… والذين بقوا، عليهم إما زيادة موت على موت، أو النهوض للمساعدة والإغاثة، ولكن بعد “زيارة” لمركز المخابرات، وما أدراك… النتيجة، يا لفرحة قلبنا، أن أردوغان، سيطير، بسبب فساده وتسلّطه وتقصيره، فيما “الرئيس” بشّار، باقٍ باقٍ… يجول على المستشفيات، وينطلق لسانه: “الاستعمار الغربي الحديث” وآفات “حصاره” لسورية، شعارا المرحلة.

اما إدلب وضواحيها، الواقعة خارج حكم الأسد، فالأسماء تفيض عنها. حسب الجهة السياسية المتحدِّثة، تسمّى تارة “منطقة المسلحين”، أو “المتمرّدين”، وتارة أخرى “الشمال السوري”، أو “منطقة المعارضة”، أو “الإسلامية، أو “الواقعة في المدار التركي”. وكلها أسماءُ تضيّعكَ، لا تعود تفهم. لكن المؤكّد أن تعدد أسمائها يحرمها الهوية، يرسم صورة مبْهمة عنها، ويضعها في مهبّ شرّين مباشَرين، أردوغان والأسد. وهذه التي تحتاج إلى اسم، يسكن فيها مليون ونصف مليون لاجئ، لم يُعفهم بؤسهم من البراميل المتفجِّرة والطائرات الروسية، والألاعيب التركية – الروسية؛ من إغلاق المعابر، إلى تضييق الخناق، إلى منع الإنقاذ عنها في الأيام الأولى للزلزال. وفي تلك الأيام أيضاً، علِمنا بأن عبد الرحمن مصطفى، “رئيس الحكومة المؤقتة” جالَ على المنكوبين. ومن بعده رياض درار، رئيس “مجلس سوريا الديموقراطية”، الذي دخل في مهاترات مع مصطفى، حول قبول أو عدم قبول مساعدات من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردي. والمسلسل لا يقف عند هنا. ففي الأيام الماضية، اشتعل صراع علني بين هيئة تحرير الشام و”الخوذ البيض” الذين وحدهم اشتغلوا على الإنقاذ بما يملكون، وهو متواضع… صراع على من يتصدّر “الإنقاذ”، على الدور، على السلطة التي تجهد “تحرير الشام” لأن تكون مطلقة بيدها. وصراع على “الخيرات” الآتية. فـ”تحرير الشام”، مثل بشّار الأسد، تسرق المساعدات، تحت اسم “الأتاوات” و”الضرائب”، تعرقل وصولها الآن إلى المناطق المنكوبة، ربما لترتيب كيفية سرقتها.

كل هذه شرور مصغَّرة، “ميكْرو” شرور، ولأصحاب أدوار متواضعة. أما على الصعيد “الماكرو”، المكبَّر، الدولي، ذي الأدوار الأكبر، فإن الزلزال هبطَ مثل نعمةٍ جديدة. منح أصحابها مزيداً من الحرية في المناورة والإبتزاز. في اللعب بأقدارنا، بنوع من الانشراح تتيحها تلك الرجفة الخاطفة للأرض، ولحظاتها التي تساوي دهراً.

العربي الجديد

————————

نحو نهج جديد في العمل الإنساني العالمي/ إياد نصر

زادت حدّة النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية في إرباك المشهد الإنساني العالمي، الذي يمرّ بأسوأ حالاته في التاريخ المعاصر، وهو ما يهدّد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية لأكثر من 340 مليون إنسان يعيشون في مناطق تعاني الصراعات والأزمات. وفي وقتٍ يشهد فيه العالم مائة نزاع مسلح نشط، وفقاً لتصريح مدير العمليات باللجنة الدولية للصليب الأحمر، روبير مارديني، في معرض إطلاق اللجنة احتياجاتها التمويلية، من أجل الاستجابة للاحتياجات الإنسانية وأعمال الحماية حول العالم، تأتي الأزمات الناتجة عن التغير المناخي والكوارث الطبيعية، وأحدثها المأساة الإنسانية بفعل الزلزال المدمّر في جنوب تركيا والشمال السوري، فتزداد الحاجة إلى التفكير في نُهج جديدة للعمل الإنساني، في وقتٍ تواجه فيه الموارد المتاحة انخفاضاً شديداً، بالتزامن مع اتساع الفجوة بين الحاجة والموارد أكبر مما قد يتصوّره الإنسان، وذلك ما يؤكّد ضرورة العمل على إيجاد حلول لهؤلاء المتضرّرين حول العالم. يسلط هذا المقال الضوء على تراجع الدعم الدولي وأثره في المتأثّرين بالأزمات، ثم يتطرّق إلى أسباب اضطراب المنظومة الإنسانية، وأخيراً يشير إلى نقاط مفيدة لصُنّاع القرار والفاعلين الدوليين، مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية نحو نهج جديد للعمل الإنساني، وخصوصاً التوجّه الذي يدمج التغير المناخي والكوارث الطبيعية مع أوضاع النزاعات في الاستجابة الإنسانية، مع ضرورة الاعتراف بالعلاقة الأثرية بين النزاعات وخصائصها العدائية بين الأطراف والكوارث الطبيعية وأثرها في السلام.

انحسار الفضاء الإنساني مع الكارثة في تركيا وسورية

تبلورت المنظومة الإنسانية بشكلها الحالي نتيجة لما شهدته البشرية من نزاعاتٍ وأزمات أودت بحياة الملايين من البشر. وبالتدريج، أصبحت بلدانٌ عديدة تعتمد اعتماداً أساسيّاً على الدعم الخارجي الذي يقدّمه ممثلو المنظومة الإنسانية من دول ومنظمات دولية وإقليمية وفاعلين على المستوى الإنساني. ومع ازدياد وتيرة الصراعات والحروب في القرن الحادي والعشرين، وصعود التطرّف والصراعات الأهلية، وازدياد أعداد المهجّرين قسريّاً، بالتزامن مع ما أوجده واقع وباء كورونا، وتضرّر اقتصاداتٍ عديدة، والحرب الروسية الأوكرانية، والزلزال الذي ضرب تركيا وسورية قبل أيام، نرى مدى الإرهاق الشديد الذي تعرّضت له المنظومة الإنسانية. وعلى الرغم من أن الاستجابة الإنسانية لمثل هذه الأزمات تتطلّب احتياجاتٍ هائلة وموارد كبيرة، نرى دولاً مانحة عديدة تتجه باستمرار نحو تقليص حجم الدعم المالي المقدّم للسكان المتضرّرين من الصراعات والأزمات، من دون تقديم أي حلولٍ عملية لتحسين ظروف حياتهم؛ فعلى سبيل المثال، قلصت المملكة المتحدة، في عام 2021، الموازنة المخصّصة للمساعدات الخارجية والإنسانية بنسبة 50% في أعقاب جائحة كورونا، لتعلن الحكومة الجديدة تقليصاً إضافياً في أعقاب التعسّر الاقتصادي الذي تمر به المملكة. وليس الحال أفضل في دول أوروبية عديدة أعلنت أيضاً تقليصاً حادّاً في موازناتها الإغاثية الدولية، مدّعية أن هناك أولويات لتقديم العون الإنساني، الأمر الذي يتطلب إعادة توجيه للتمويل. ولكننا ندرك اليوم أن هشاشة الأوضاع التي تخلّفها النزاعات تجعل من هذه المجتمعات عرضة للمآسي، فالشمال السوري المنهك اليوم لا توجد لديه القدرة على إنقاذ الأرواح، وأضحت قدرة المجتمع والسلطات والمؤسسات الأممية محدودة وأيديها مكبّلة، بسبب الحصار، وشحّ الموارد، والتداعيات السياسية والاقتصادية لقانون قيصر. وعلى الرغم من قرار الأمم المتحدة القديم الجديد بتحرير المساعدات الإنسانية من أي عقوباتٍ تفرض على أي بلد، فإن تطبيق هذا القرار يخضع لكثير من البيروقراطية المرضية. يبقى واقع الحال أن آلاف المدنيين يلفظون آخر أنفاسهم تحت أنقاض الموت والزلازل، لأنه لا حول لهم ولا قوة برفعها من أجل ضمان الحياة، ولكن حتماً سترفع لضمان كرامة الجثامين لاحقاً.

وفي ضوء ما سبق، يمكننا أن نستشعر حجم الأزمة الإنسانية بشكلٍ جلي، حيث يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) حول وضع الاحتياج الإنساني العالمي في الأول من ديسمبر/ كانون الأول لهذا العام، إلى صعود أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية بنسبة 20% عن العام الماضي، و30% عن عام 2020، مع التوقّع بأن يبلغ عددهم نحو 339 مليون شخص. وقد توقّعت المؤسسات الأممية أن تكون قادرة على مساعدة 230 مليون إنسان في 2023، في مقابل 183 مليوناً العام الماضي، بزيادة 20%، مع الإشارة هنا إلى أن التقرير أظهر ارتفاعاً في التكلفة المصاحبة للزيادة في أعداد الذين يحتاجون مساعدة إنسانية، لتصل إلى أكثر من 51 مليار دولار في مقابل 41 ملياراً في عام 2022، أي بزيادة 20% أيضاً. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن جائحة كورونا، وتكاليف التعامل معها، لا تزال تثقل كاهل الدول والاقتصادات العالمية، فنرى دولاً مثل الصين لا تزال تصارع لاحتواء هذا الوباء، وتحاول جاهدة أن تعبر إلى برّ الأمان، ودولاً أخرى قد أرهقت خزاناتها من جرّاء الجائحة، وما تُكابده من تكاليف لتوفير اللقاحات للمواطنين، ودفع المساهمات المالية لمساعدتهم على البقاء على قيد الحياة. وفي بلدان أخرى، تصر الكوليرا وإيبولا على أن تضيف إلى معاناة شعوبٍ أخرى في المنطقة العربية، وكذلك في القارّة الأفريقية، وغيرها من المناطق التي تعاني الأزمات.

ويزداد مشهد الأزمة الإنسانية قتامة وبشاعة في الشرق الأوسط، مع الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا والشمال السوري، الأمر الذي يؤكّد ضرورة العمل على نهج جديد للاستجابة الإنسانية لمن أصبحوا بين مطرقة الصراع وسندان الكوارث الطبيعية على حد سواء. وبينما كانت المنظمات الأممية تسعى إلى الحفاظ على حجم التمويل المطلوب للاستجابة الإنسانية والحماية، وعدم رفع سقف هذا التمويل عن الأعوام الماضية وإبقاء النسبة ذاتها، نجد أن هناك تراجعاً في الاستجابة للتحدّيات الإنسانية الجديدة التي بدأت تظهر، أبرزها التحدّيات المرتبطة بالصراعات والتغير المناخي والكوارث الطبيعية. والتساؤل الأكبر والأخطر، كيف يمكن لموظفي الأمم المتحدة وخصوصاً “الأوتشا”، أن تقرّر عدم رفع الموازنات الإغاثية، وهي الجهة التي تعلم بشكلٍ راسخ أن زلزال تركيا وشيك، وهي التي عملت مع الحكومة التركية سنوات لتوقع حدوثه والتجهيز للاستجابة له فور حدوثه. كيف لم يجر الاستعداد لهذا الزلزال وتبعاته في سورية وشمالها؟ كيف شجّعت الأمم المتحدة وحثّت اللاجئين والنازحين على العودة إلى أماكن سكناهم هناك، من دون أن تعمل على تجهيز هذه الأماكن بالموارد والبنى التحتية الوقائية، على الأقل للاستجابة لمثل ما حدث؟

التغير المناخي والكوارث الطبيعية ستضرب غير آبهة بمدى معاناة الناس نتيجة للنزاعات أو تبعاتها، فهل ترفع السياسة المعيبة يدها عن العمل الإنساني والاستجابة للكوارث وتعزيز قدرات الوقاية والتعافي؟

اضطراب المنظومة الإنسانية

تتوقع المؤسسات الأممية ومراكز الدراسات البحثية دخول العالم في أزمة غذاءٍ عالمية عام 2023، هذه الأزمة سيكون وقعها أشد وطأة على المناطق التي تعاني الحروب والصراعات في جميع المناطق التي تنشط فيها. وقد عبرت الأمم المتحدة سابقاً عن أنَّ الوضع الحالي والمتوقع للعام المقبل هو الأسوأ؛ بوجود 222 مليون إنسان يعيشون من دون أمن غذائي، في حين سيعاني 45 مليوناً المجاعة في أكثر من 37 دولة في عام 2023. يضاف إلى ذلك أزمتا اللجوء والنزوح القسريين، إذ يزيد عدد الأشخاص اللاجئين والنازحين قسريّاً اليوم عن مائة مليون إنسان، ويعيش حاليّاً نحو 65 مليوناً منهم في دولٍ تعاني أزمة في الغذاء. والمحزن أنَّ قرابة 25 مليوناً منهم لاجئون في دولٍ نامية. ومن المرجّح أن ترتفع هذه النسب نتيجة التغيرات المناخية؛ من فيضانات وجفاف وغيرها، على مستوى العالم. واليوم، وفي ظل زلازل وفيضانات ومظاهر حادّة لتبعات التغير المناخي في المنطقة، يتوجب أن نفكر في أنماط أخرى للاستجابة، تعتمد على تمكين المجتمعات المحلية، وبناء قدرتها على الاستجابة. يتعيّن اليوم أن نضع حداً للعقاب الجماعي الناتج عن الممارسات السياسية غير الموزونة. يجب أن نؤكّد على الفصل بين السلطات في النظام الأممي، وألا يعبث الدور السياسي بصلاحيات المنظمات الإنسانية وإمكاناتها ومقدّراتها بأي شكل. لقد توجب على الأخيرة أن تلجأ لمجلس الأمن لإعادة ابتكار الدولاب بأن المساعدات الإنسانية لا تخضع للحصار والابتزاز السياسي، بالرغم من أن هذا الدولاب جرى ابتكاره قبل عقود طويلة في اتفاقيات جنيف.

يعاني النظام الإنساني العالمي اضطراباً واضحاً يضع حياة كثيرين ممن يعتمدون عليه، من ضحايا النزاعات والكوارث، في دائرة الخطر، ومن ثم فقدان فرصهم في ضمان حياة كريمة لهم ولعائلاتهم. وقد حذّرت، في وقت سابق، كلٌّ من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنسّق شؤون الإغاثة الإنسانية في الأمم المتحدة مما قد تؤول إليه الأمور في عام 2023، في ظل تفاقم سوء الأوضاع في العديد من هذه النزاعات، وتزايد حدّة الانتهاكات للقانون الدولي، والأخطر من ذلك كله الوضع الغذائي العالمي الذي تعرّض لحالة من عدم الاستقرار الشديد، نتيجة للضرر الذي أحدثته الحرب الروسية الأوكرانية على مصادر القمح والمواد الغذائية الأخرى، وارتفاع أسعارها ارتفاعاً حادّاً في الأسواق العالمية. فضلاً عن أزمة الطاقة التي ألهبت أسعار الوقود ومصادر الدفء في الدول الأوروبية وعالميّاً، وهو ما أثقل كاهل اقتصاداتها، ليترتّب عليه تقليصٌ حادٌّ في الموازنات العامة والإنفاق الحكومي. يفرض ذلك كله تحدّياً كبيراً على المنظمات الدولية والأممية للوفاء بالتزاماتها أمام الفئات المهدّدة والمحتاجة إلى العون الإنساني في جميع أنحاء العالم. وسيضيف الواقع الجديد من سلسلة الزلازل المتلاحقة وشبح تسونامي المتوقع إلى العوز والحاجة إلى تدخّل إنساني أكبر بسبب الكوارث الطبيعية. ولكن إلى أي مدى سيصمد نظام العمل الإنساني أمام الحاجة المتزايدة بشكل حادّ جداً مع نمط عمل السياسة، تحت شعار المساعدات المشروطة والعقوبات المفروضة؟ عاقبوا الحكومات ما شئتم، ولكن ارفعوا أيديكم عن الشعوب بشكلٍ عام وعن الضحايا فوراً.

وعليه، يجب على المجتمع الدولي وممثليه الاستمرار في تقديم الدعم الدولي والمساعدات الخارجية لجميع المحتاجين، حيثما وجدت الحاجة، لصون (وحماية) كرامة الإنسان أينما وجد، ومن أجل تخفيف المعاناة الإنسانية على الأقل، ومتى أمكن ذلك نقل المجتمعات المتأثّرة بالصراعات والأزمات من حالة الحرب والصراع إلى السلام، من خلال البرامج المخصّصة لهذا الغرض. وإذ نعتقد أن ضرورة استمرار الدعم الإنساني أمرٌ مفروغٌ منه، هناك معضلة كبيرة تتمثل، فيما عبرنا عنه سابقاً، تتمثل في تدخلاتٍ سياسية في عملية المساعدات الخارجية في أحيانٍ كثيرة، وهو ما قد يؤثّر في نسب التمويل المخصصة لمناطق على حساب مناطق أخرى؛ نظراً إلى ما تمثله السياسة الدولية من أهمية في بعض مناطق الصراعات، وخصوصاً في المنطقة العربية، مثل فلسطين وسورية واليمن. ومن ثم، على الممثلين الدوليين الالتزام بالمعايير الإنسانية في تقديم المساعدات الخارجية، والتخلي عن إقحام المعايير السياسية في العمل الإنساني، وعدم المساس بتقديم المساعدات الخارجية، وتعزيز الحماية من دون تمييز؛ فهذا النوع من الدعم أثبت قدرته على تخفيف المعاناة الإنسانية. بهذه الطريقة فقط، يمكن أن نضمن ألا تقع المنظومة الإنسانية ضحية ازدواجية المعايير من جهة، وسيطرة فئاتٍ متطرفة أخرى على المشهد الداخلي للبلدان التي تعاني الأزمات ولا تتلقى ما يكفيها من العون الدولي والأممي، من جهة أخرى.

ما العمل؟ دعم النظام الإنساني وتعزيز الحماية

لقد أصبح واضحاً أن استمرار الدعم الإنساني وتعزيز الحماية لضحايا الأزمات سيكون مرهوناً بمتطلّبات النظام العالمي الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية وحالة الحرب الباردة المتجدّدة بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، وسابقاً جائحة كورونا التي أدّت إلى إرهاق النظام الإنساني المرهق أصلاً. تعد تلبية هذه المتطلبات تحدّياً كبيراً تواجهه المنظومة الإنسانية العالمية، التي تعاني نقصاً مزمناً في الموارد، لكن في حال تخطّي المعضلات الفنية والسياسية، واستمرار التفكير في حلول فعّالة لتقديم العون الإنساني، فمن المحتمل أن ترتفع معدّلات انعدام الأمن الغذائي والصحة والتعليم، حيث لا يزال الملايين يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي والتدهور الصحي، فضلاً عن وجود 3.7 ملايين طفل لاجئ خارج النظام التعليمي. لذا يجب اتخاذ إجراءات ضرورية من أجل إنقاذ مستقبلهم وحياتهم. والآن، يواجه آلاف من المتأثرين بالصراع والكوارث الطبيعية مصيراً غير معلوم.

تتمثل المعضلة الدائمة في أن الاستجابة الإنسانية لا تزال تفتقر إلى تحديد مخاطر “الظواهر المناخية المتطرفة” وآثارها، مثل الفيضانات والجفاف والتصحّر، وكذلك الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل في مناطق النزاع والحروب. نعتقد أنه من المطلوب تبنّي نهجٍ يدمج الاستجابة الإنسانية المبكّرة مع تقديم حلول شاملة تنموية طويلة الأجل في هذه المناطق. يضاف إلى ذلك ضرورة العمل على إيجاد نُهج جديدة تدمج عوامل النزاعات والكوارث الطبيعية بمقارباتٍ شاملة ومتكاملة للاستجابة الإنسانية. ومن الواضح الآن ضرورة الانتقال إلى نمط الاستجابة الاستباقية ورفع الجهوزية والاستعداد للكوارث. الالتزام بالاختصاص الموضوعي للمنظمات الأممية مهم، ولكن يجب أن يغطّي إحداها مهام الأخرى حال غيابها عن مشهد العمليات والميدان لأي سببٍ كان. فعلى سبيل المثال، من المسؤول عن ضمان الجهوزية والاستجابة في سورية طوال سنوات الأزمة والنزاع؟ وهل جرى بناء منظومة موازية تضمن جهوزية الاستجابة في حالات الكوارث؟ وماذا عن الوضع في اليمن وليبيا، وحتى في الدول التي لا تشهد نزاعاتٍ مسلحة؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن الحلّ ليس منوطاً بالمؤسسات الإغاثية والدولية فحسب، بل بمكوّنات المجتمع الدولي كافة، من حيث وضع حدٍّ لأعمال العنف والاقتتال، والانتباه إلى الصورة القاتمة الكبرى التي تحيق بنا جميعاً. شبح الحرب العالمية الثالثة يخيّم على العالم، والوضع أصبح خطراً إلى درجة أن الدول بدأت توجيه موازناتها إلى الإنفاق العسكري والتسلح.

على المنظومة الإنسانية بمكوناتها كافة أن تتحمّل حصتها من المسؤولية، من خلال البحث عن مصادر تمويل جديدة، ومطالبة المانحين من الدول والقطاع الخاص ببذل المزيد لتغطية تكاليف أكبر عملية استجابة إنسانية في التاريخ، بالتزامن مع ترشيد النفقات، وتبنّي سياسات التدخّل المبكّر في الأزمات، وإدارة توقع الكوارث قبل حدوثها، لتجنّبها، ومحاربة الفساد المستشري في المنظومة، وتصميم البرامج التي تربط ما بين العمل الإنساني والتنمية والسلام.

أحد أهم الجوانب التي يجب القيام بها الرجوع إلى المجتمعات المحلية والقدرات المحلية في تصميم البرامج وتنفيذها، وهو ما يقلل من تكاليف الاستجابة الباهظة، والانتقال إلى المساعدات المالية دون العينية بشكلٍ أكبر، وتفعيل التحوّل الرقمي في أساليب الاستجابة. هذه خطواتٌ يستلزم البدء بها فوراً وعلى نطاقٍ واسعٍ في جميع مناطق النزاع والأزمات. ويبقى الجانب الأهم؛ وهو منع تفاقم الأزمات، الطبيعية ومن صنع الإنسان، ومعالجة جذورها، إلى جانب تبنّي مناهج عمل جديدة للاستجابة الإنسانية تدمج ما بين الصراعات والكوارث الطبيعية والتغير المناخي، وتأخذ في الاعتبار أثر ذلك في السلم والأمن الدوليين.

العلاقة بين النزاعات والكوارث الطبيعية والسلام

استمرار النزاعات والكوارث الطبيعية، وما ينبثق عنها من قضايا اللجوء والنزوح القسريين، واستمرار تراجع مؤشّرات الأمن الغذائي والتنمية البشرية والصحة العالمية والتعليم، وازدياد أخطار التغير المناخي والكوارث الطبيعية، يضع العالم في خطر عدم الاستقرار وانعدام الأمن العالمي، خصوصاً أن هذه الأزمات قد أثبتت تأثيرها السلبي الزاحف على مستوى عالمي وإقليمي لا على المستوى الداخلي للدول المتأثرة بهذه الصراعات والأزمات فقط. تُضاف إلى ذلك المسؤولية الدولية على عاتق المجتمع الدولي والعالم الغربي لدعم المتضرّرين من الأزمات، ومن ضمن ذلك التفكير بطرائق ووسائل أكثر استدامة لدعم المجتمعات المتضرّرة من الأزمات؛ من خلال تبنّي منظورٍ قائم على التمكين والحقوق والتنمية، واختيار مقارباتٍ تدمج بين العلاقة بين النزاعات والكوارث الطبيعية والسلام، وإلا ستكون النتيجة استمرار عدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وهو ما قد يُنذر بتفجّر موجات العنف، وازدياد الاحتياجات الإنسانية مرّة تلو الأخرى في المناطق التي لا تزال فيها النزاعات والأزمات السمة السائدة. ومما يُفاقم من حالة التوتر والاضطراب في النظام الإنساني الدولي، ومما يزيد من المشهد الإنساني قساوة، الكم الهائل من المشاهد الصادمة التي نراها اليوم على الصعيد العالمي، نتيجة استمرار حالة العنف، تتزامن معها أخطار الكوارث الطبيعية، التي إذا ما لم يُستجب لها بنهج صحيح وشامل، فإنها تهدّد بانحسار فرص السلم الأهلي والعالمي.

العربي الجديد

——————-

الزلزال و”سورية يا حبيبتي”/ سوسن جميل حسن

سورية يا حبيبتي، أعدتِ لي كرامتي … تقول الأغنية، في ما تقول: وبعثُنا يسير لمجده الكبير، مبشّراً بعودتي ورافعاً كرامتي مجدّدًا هويتي. وفي مقطع آخر: ففي الخيام طفلة المصيبة، تنادي يا سورّيتي الحبيبة، أعيدي لي حرّيتي … أعيدي لي هويتي … أغنية لطالما هزّت وجداننا، نحن في سورية، وفي كلّ بقعةٍ من الوطن العربي الذي كانت شعوبه قد تجرّعت الهزائم حتى الثمالة، لتندلع حرب تشرين في العام 1973، ولتنطلي الخدعة على هذه الشعوب، وتصدّق أن هناك من أعاد لها كرامتها، وحرّيتها، ويعدها بتجديد هويتها.

ولكن سورية “الحبيبة” اليوم تنهار بضربة زلزال، ليس زلزال انتفاضة الشعب التي كانت تتطلع إلى الاكتمال والنضج والثورة، وكما يطلق عليه الناقد السوري نبيل سليمان، لكنه زلزال الطبيعة، زلزال الأرض التي تميد من تحتنا، فتنهار البيوت ويزداد عدد ضحايا هذا الشعب المنكوب.

سورية يضربها الزلزال، من شمال لواء اسكندرون إلى لبنان، ضرب ولايات تركية وانهارت فيها آلاف البيوت والمباني، وانتشر إلى حلب وإدلب وحماة واللاذقية، مدينة حلب الأكثر تضرّرًا، راح فيها ضحايا كثيرون، إدلب، واللاذقية وجبلة أيضًا، المحزن أن عدّاد الضحايا يشتغل على خطّين، خطّي النظام والمعارضة. وعلينا، نحن السوريين في الخارج، القاعدين على جمر الترقّب والحزن والقلق، أن نجري العمليات الحسابية، ونعدّ موت أهلنا، موتنا، الذي لم يفارقنا منذ أحد عشر عامًا.

في سورية، تأتي أحزاننا مكتملة، مصائبنا مكتملة، موتنا لم يكتمل بعد، لكنّه مقيمٌ في ما بيننا، أقرب إلينا من حبل الوريد، عقد، وعامان من عقد يليه، وسورية تنهار، فقط، لأن شعبًا أراد الحياة، فكان القدر غاشماً، لم يستجب كما قال شاعرٌ متفائل، لم يعش حتى يرى أنّ الأمل بعيد عنّا، وأن أنظمة أحكمت القبضة على رقاب شعوبها، وأن مجرّد الصراخ من أجل الحرية كان كفيلًا بأن يفتح نيران جهنم عليها.

سورية مدمّرة لأنها يتيمة، وليست دائرة الطباشير خاصتها سوى كذبة بلون الدم، سورية مرمية في مركز دائرة الدم، نظام ومعارضة يشدّون أطرافها حدّ أنها تمزّقت نتفًا بين أيديهم في حرب الملكية وانتزاع السلطة، في حرب الصراعات على السيادة والنفوذ وامتصاص ما بقي من نسغٍ في عروق الأرض وأبنائها، يتقاوى كلّ طرفٍ منهما على الشعب الواقع تحت حكمه بجهاتٍ خارجية، يتلقون الأوامر من داعميهم وأسيادهم، ويمارسون سيادة الطغيان على محكوميهم.

المصيبة اتحاد السوريين في شرط وحيد، الموت، فقط الطبيعة تمارس عدلها “الجائر” في توزيع الموت، لا تفرّق بين موالٍ ومعارض، فهما من أبناء هذه الأرض الغاضبة، أبناء الدم الواحد، المسفوك بمنتهى الرخص فوق ترابها، وعند الشدائد، وأمام الموت الجبار، يظهر عجز هذه الأنظمة عن إدارة الحياة بأبشع صوره، ها هي الأبنية المنهارة تتكوّم ركامًا فوق أجساد النائمين وقد باغتهم الموت، هو موتٌ لا يُنذر، بينما كانت البراميل تُنذر أحيانًا، إذ إن المكان ساحة معركة، وكان الناس يعرفون أن هناك موتًا قادمًا إليهم، فهربوا، ومن لم يهرُب باغته في مأمنه، وربما ليس مأمنه، بل مكانه الإجباري، فحصدت الحرب عشرات الآلاف، وهجّرت مئات الآلاف، والنتيجة أن ما كان يُسمّى مجازًا وطنًا ودولة، فقد آخر ملمحٍ من ملامحه، وراحت “سورية الحبيبة”.

وبعثُنا يسير، لمجده الكبير… هذا هو المجد المبني على بحيرات الدم، وتلال الجماجم، بعد خمسين عامًا من الضلال، خمسين عامًا من وهم القضايا، خمسين عامًا من غربة الأرواح، خمسين عامًا من الفساد الذي زرع النخر في أسس أي بنيان، من بنى الحجر إلى بنى الإنسان، فوقع الزلزال ولا تملك حكومة النظام، ولا مثيلاتها في مناطق الشمال تحت سلطات الأمر الواقع، ما يكفي لإنقاذ الأرواح، لرفع الأنقاض وانتشال الأجساد التي فارقت الحياة أو تلك التي تئنّ تحتها، لا تملك المشافي ما تواجه به هذه الكارثة، لتنقذ أرواحًا ربما ما زال لديها رمق ينتظر الإنعاش.

لا توجد مؤسّسات مجتمع مدني، فتلك من الكبائر لدى أنظمة القمع والطغيان، لا يوجد غير سواعد الأهالي الذين تجمعهم المصائب، وتطلق حسّهم الإنساني المقموع المستهدف كأول غاية في هذه الحرب، استهداف الإنسان، تطويع عقله وروحه، فلا يبقى أمامه في تحدّي مشكلاته الحياتية المتفاقمة يومًا بعد يوم، غير توجيه نوازعه الثأرية باتجاه الآخر، الذي هو أخوه وشريكه في الوطن والحياة، جعلته الأطراف المتنازعة أولّ المصائب وأخطرها، فصار السوري ينظر إلى السوري المختلف عنه في العقيدة أو الأيديولوجية، أو القومية، أو غيرها مما يفرّق، على أنه سبب خراب البلاد والعباد.

ولكن الزلزال، برغم فداحته، وبرغم الصدمة، أعاد إحياء جذوة القيم والإنسانية في ضمائر السوريين، فهرعوا لينقذوا، هرعوا ليحلّوا محلّ الحكومات العاجزة، وبدأت نداءات التعاون والتضامن والتكافل تملأ فضاء صفحات التواصل، وفتح أهل الريف بيوتهم لأهل المدن المتضرّرة، ودعوهم ليأتوا إليهم، إلى حين يسكُت غضب الأرض، فهل غضب الأرض هذا سيفتح بصيرة السوريين الذين ما زال بعضُهم يرى في كل ما يحدث مؤامرة كونية على سورية؟ أو أولئك الذين، في المقابل، يرفعون صور زعماء ليسوا سوريين، وأعلام بلاد ليست سورية؟

هل ستُنقّي هذه المصيبة ضمائر بعض السوريين وتفتح ثغراتٍ في عقولهم التي استُلبت لصالح أجندات الجهات المتنازعة على مقدرات البلاد والسطو على السلطة، وتجعلهم يقرؤون الكلمات بعد غسلها من العسل المسموم، أو يسمعون الخطابات فيسقطون الضلال منها؟

تتحدّث افتتاحية إحدى الصحف عن الأسيرات في السجون الإسرائيلية، وعن المعتقلين والوحشية في معاملتهم، وفيها: الانتصار لهؤلاء الأسرى والأسيرات فرضُ عينٍ على كل مؤمن بالله تعالى. وتستشهد بآية كريمة، وتتساءل الافتتاحية عن معنى أن يُسلب من أعمار المعتقلين أعمارهم؟ وكأن ما يحصل في سورية كذبٌ وافتراءٌ وتضليل، وكأن ليس هناك عشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين والمفقودين، وكأن انتفاضة الشعب السوري لم تكن من أجل الحقوق والكرامة.. فأي ضلالٍ وتضليل هذا؟

في الخيام طفلة المصيبة، تنادي يا سوريّتي الحبيبة .. ليست فقط طفلة مخيمات فلسطين، إنهم أطفال سورية في المخيمات، حيث لا وطن في بالهم، ولا مستقبل، ولا أمان، ولا وعد.. أطفال سورية في بلدان اللجوء، حيث لا هوّية لهم اليوم، ولا يعرفون أي هوية سيمتلكون. هذه هي سورية التي ضربها الزلزال، وهذه هي حكومات سورية الفادحة، الحكومات التي لم تكن غايتها الشعب في يوم من الأيام.

“أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة” كما قال تعالى، حتى لو بنى الطغاة أبراجهم على جماجم شعوبهم، سيُدركهم الموت بعد حين، مهما كانت محصّنة ضد الزلازل .. السلامة والأمان للشعب السوري في كل بقعة، وللشعب التركي الذي ضربه الزلزال .. على أمل القيامة لهذه البلاد المنكوبة.

العربي الجديد

———————-

عن زلزال تركيا واللاعب الطبيعي المتغير/ يقظان التقي

سجّل يوم 6 فبراير/ شباط الحالي 24 ساعة من الخوف وشهادات رعب تتراقص معها كل الأشياء في تركيا وسورية ولبنان، جرّاء الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سورية، وبلغت قوته 7.8 درجات على مقياس ريختر، وأعقبه زلزال آخر بقوة 7.5 درجات، ونحو 45 هزّة ارتدادية، شعر بها لبنان، ومناطق في قبرص ومصر والأردن والعراق، وأخرى شاطئية على المتوسط. جاء تقرير الزلزال التركي بأرقام أولية لأعداد القتلى والمصابين في تركيا وسورية، ترجح منظمة الصحة العالمية ارتفاع حصيلتها ثمانية أضعاف، مع انهيار آلاف من الوحدات السكنية، وبانتظار مسح نتائج خسائر اقتصاد الكوارث. وهو زلزالٌ لم تشهده منطقة الأناضول منذ سنوات، جاء يلح على العمل السريع على دراسات جيولوجية وبيئية تحظى بالأولوية، موضوعها التفكّر بمستقبل البشرية. يصيب الموت أكثر الفقراء في تركيا وسورية ولبنان (من زلزال الحرب إلى زلزال الطبيعة، ولجوء داخل اللجوء. لا ملجأ ولا ملتجأ إلا العواطف الإيمانية). يأتي الزلزال مع أزمة الحرب الأوكرانية، وارتداداتها الاقتصادية والاجتماعية.

الصور الآتية من دمار المدن في أوكرانيا مرعبة، لكنها لا تشبه هول الصور في الأبنية المنهارة في تركيا، ومشاعر القلق عند ضحايا الزلازل واختفاء العائلات في تركيا وسورية، والتسبب بخروج الناس على الطرقات “المشلّعة”، وتشرّد عشرات الآلاف تحت المطر، في ليالي باردة وحزينة. ناسٌ لا يستطيعون الحصول على خدمات الرعاية الصحية والغذائية الأساسية. يتحدّث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن الاستجابة الفورية. لكن شرط دعم دول المجتمع الدولي! كأن الازمات تتغذّى بعضها من بعض، لكنها حرب الطبيعة، في يناير/ كانون الثاني 2010، الذي ضرب فيه زلزال بقوة 7.3 درجات على مقياس ريخيتر هاييتي، مودياً بحياة 220 ألف شخص، ما يؤكّد أن أوقات المتغيرات تتزايد في العشرية الأخيرة.

تدمّر الزلازل كل الأنظمة الطبيعية، وتدمّر كل ما يقع على سطح الأرض، وتلتهمه البؤر الزلزالية. الأخطر أنها تؤدّي إلى خيانة آمال التنمية العالمية، واتساع حلقة اللاجئين البيئيين، ما يطرح السؤال بشأن ما يتبقى من أهداف الألفية والعدالة المناخية، التي حملت المنظمات غير الحكومية لواءها منذ قمة كوبنهاغن، لجهة عزلة الدول المتقدّمة عن مساعدة البلدان الناشئة. تأتي هذه المتغيرات مع نمو عدد السكان، نحو عشرة مليارات نسمة 2050، (عصر البشر الأنثروبوسيني)، بوجه عصر جيولوجي جديد. قوة بشرية في مواجهة قوة الطبيعة (بول كروتزن). أنظمة فيزياء أرضية مختلفة على الكوكب، وأشكال أخرى من العنف، الأعاصير، والفيضانات، سخونة الأرض، وارتفاع درجة الحرارة ما بين اثنتين إلى أربع، الحرائق، ذوبان الكتل الجليدية، ارتفاع مستوى البحار نحو 60 سم سنوياً حتى عام 2100، ما يتسبّب بمخاطر تصيب 50% من الجغرافيا العالمية حتى عام 2050، وتستدعي القيام بعمليات إنسانية من دول الأمم المتحدة وهيئاتها، والمنظمات غير الحكومية.

مع ذلك ترسل الزلازل إشارات خطرة بشأن مدى فاعلية الاستجابات لمواجهة خسائر بشرية ومادية، ولجهة التباطؤ في دعم الجهود المحلية وسلطات الدولة. وهذا نموذج الإرباك التركي، وضعف نوعية عمليات الإغاثة في محافظات حلب، حماه، إدلب، اللاذقية. نظام دولي لا يعمل في تقرير المساعدة الإنسانية الطارئة مع ضعف وجود العمل الإنساني. الأكثر ضآلة مع عجز الجهات الحكومية، أو قلة إرادتها، وضعف الجهات المحلية الأهلية في إنقاذ حيوات الناس تحت الردم، والربط مع إعادة البناء في الوسط الحضري، أو الأطراف. اتساع الرقعة الجغرافية للكوارث، في حالات هايتي، السودان، باكستان، بنغلادش، الكونغو، وتركيا، يعني مقاربات مختلفة لمسألة اللجوء، وتقرير القانون الإنساني الدولي، والحقوق الإنسانية. ثمّة حاجة لدمج خطر المناخ والطبيعة ضمن الأبعاد الإنسانية، والسياسية، والأمنية، في العلاقات الدولية. أصبحت إقامة الصلة بين القضايا المختلفة وثيقة الترابط، إذا كان الهدف إنقاذ الكوكب الأرضي في زمن العولمة.

قد يتطلّب الأمر مزيداً من وحدات الأبحاث الجيولوجية وطرائقها الفكرية، على غرار تمركز كبرى مراكز الأبحاث العالمية في أزمة كورونا، ونزع الشكّ من مسؤولية الإنسان عن التغيرات، والاستسلام لفكرة الأسباب غير البشرية (كلود أليغر وفينسان كورتيللو). تستدعي مضاعفة الكوارث تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيير المناخ، على نحو صارم، وإلا فسيكون العالم الإنساني أمام فضيحة من نوع آخر. عدم الإقرار بالطبيعي والمناخي، وعدم الاعتراف بتعزيز حقوق الطبيعة مع توقعات فلكية تُنذر بالأسوأ. العالم أمام انكشاف مباغت لمحدودياته في المواجهة، وعجز موصوف في معالجة ملفات الأضرار الاجتماعية والإنسانية، سيما بمسألة النازحين، أكانوا ضمن حدود دولهم، أو خارجها، فإنهم يعدّون لاجئين وبالملايين على أرض مسطحة، من نوع جديد لم تلحظه اتفاقية جنيف 1951. لاجئون عرضة لكلّ شيء يدمّر مشاريعهم وأحلامهم، ولا يدركون بعد ذلك وجهتهم الأساسية. لم يعد نظام الأرض يتناسب، في سياق النمو الديموغرافي والحساسية السياسية المفرطة. مدن كثيرة مهدّدة بالغرق، أو انهيارات شاملة، أو من الحرائق.

يُحصى في مدينة طرابلس شمال لبنان أكثر من خمسة آلاف وحدة سكنية مهدّدة بالسقوط، وفي بيئات إنسانية متزعزعة، يقفز ساكنوها إلى الشوارع والعراء، على وقع كل هزّة أرضية. هم أصلاً فقراء، يعانون من شحّ الموارد الغذائية، والأكثر تضرّراً من الأزمة اللبنانية المالية، محاصرون برّاً، أو في قوارب الموت البحرية. الأكثر تضرّراً في الكوارث البيئة هم أفقر الناس، وأقلهم مساهمة في التلوث. تزايدت وتائر التغيرات الفيزيائية في العقدين الأخيرين، الأكثر حرارة منذ عام 1880 (مجلة ناتشور جيو ساينس). يعزّز ذلك تقرير الخبراء الحكومي الدولي عن آثار تلك السلبية على كوكب الأرض، والسرعة التي تحصل بها، وسط جدالاتٍ عن تراصف الطبقات، وتعديلات في الروزنامة الزلزالية التي تضرب كل ثلاثمائة سنة. ما يعني تعرّض الملايين من السكان في أفريقيا وآسيا، وعلى الخطوط المدارية لمخاطر هائلة. تعادل كلفة عدم التحرّك الاستباقي 5% من إجمالي الناتج الداخلي العالمي السنوي، ومن دون اتخاذ إجراءات مواجهة سريعة، تكون التداعيات شبيهة بآثار الحربين العالميتين وبأزمة عام 1929. لذلك من الضروري التحرّك بفاعلية أكبر، وقدرة على القيام بعمل الجماعة الإنسانية الواحدة، لتهدئة اللاعب الطبيعي المتغير.

العربي الجديد

————————

منصّات التواصل تحت ركام الزلزال/ ياسر أبو هلالة

يُحاور المنقذ طفلةً تحت الركام ويصوّرها. ربما أراد تهدئة روعها وشقيقتها، وربما أراد للفيديو الذي يصوّره أن يحقق أعلى نسبة مشاهدة، ليتحرّك العالم بسرعة لإنقاذ الأطفال والبشر من تحت الأنقاض. تقول له الطفلة مستغيثة “طالعني وبشتغل عندك خدّامة طول عمري”. انتشر الفيديو بصورة فيروسية، وحقّق هدفه ولو على حساب براءة الطفولة.

فيديو آخر يُتداول لمذيع مصري اسمه خالد رفعت، يتبنّى، بحماسٍ وغباء منقطعي النظير، نظرية مؤامرة تدعى HARP، تتهم الأميركان بالوقوف وراء الكوارث الطبيعية. وانتشر حسابٌ لمنجّم هولندي تنبأ بالزلزال وفق نظرية تربطه بحركة الكواكب. .. وعلى مدار الساعة، لا يتوقف سيل الفيديوهات الجارف الذي يصعب فيه استخراج إبرة المعلومة من كومة قشّ التضليل. والمتلقّون يتحمّسون لإعادة نشر ما يصل إليهم من دون تدقيق.

هل كان العالم أفضل بدون منصّات التواصل الاجتماعي، فلا نشاهد كل هذا الغثاء والهراء الذي يفاقم المأساة؟ أحاول الإجابة من خلال معايشتي قبل عقدين زلزال بنغول في تركيا عام 2003… كنت في أنقرة. احتاج الأمر أن أتحرّك مع فريق من مصوّر ومنتج وسائق، وبعد وصولنا، كان الأصعب هو البثّ. لا أنسى حواري مع مسؤول التبادل الإخباري في قناة الجزيرة وقتها مع أي شركة بثّ نتعاقد لبث دقائق من تصويرنا والظهور المباشر على النشرات. فوق ذلك، كان المحرّر يدقق في كل حرف وصورة. ولم أكن أتخيّل أن هذه العمل المؤسسي سيكون تحت تصرف فرد لا يمتلك أدنى الشروط الصحافية. تماما كما تُدخل أميا إلى غرفة عمليات قلب، وتسلمه مبضع الطبيب.

يجسّد الفيديو معضلة منصّات التواصل التي كانت، في البداية، رافدا لوسائل الإعلام، ثم صارت عبئا عليها. ظل امتلاك كاميرا فيديو وبثّ منتجاتها حكرا على الدول أو الشركات الصحافية الكبرى، وهي تتحمّل مسؤولية ما يُصوّر وما يُبثّ. وظل التنافس مفتوحا بين الصحافيين، أيهم يفوز بالسبق في الوصول إلى الخبر ومعالجته بعمق يظهر ثقافة الصحافي وتمكّنه وفوق ذلك قدرات المحرر التي لا تقل إن لم تزد، فمهما تواضعت قدرات الصحافي، يظلّ المحرر قادرا على تطبيق معايير التحرير الصارمة، وإيصالها إلى المشاهد أو القارئ مستوفية الشروط وصالحة للنشر. ومهما علت قدرة “المواطن الصحافي” يفوته الكثير من شروط العمل الصحافي، وتصل مادّته إلى المشاهد غير صالحة للاستهلاك.

الصحافيون المحترفون مساءَلون أمام مؤسّساتهم وأمام القوانين. بعدها بثلاثة أعوام، تكرّر الأمر في مجزرة قانا في أثناء حرب تموز في لبنان في العام 2006. كان فريقنا من “الجزيرة” أول الواصلين إلى موقع المجزرة، لم تظهر الصور على الهواء كما هي، سبقها نقاش: هل ينسجم بثّها مع ميثاق الشرف الصحافي ومدوّنة السلوك المهني؟ بعد النقاش، لم تُبثّ كل الصور، واختيرت بعناية.

بعد بثّ صور مجزرة قانا على “الجزيرة” أتاح لي “النت” وقتها نشر تدوينةٍ على مدوّنات “مكتوب”. وكان مؤسس “مكتوب”، سميح طوقان، قد اختارني أول مدوّن في مشروعه الريادي الذي انتهى بعد بيع “مكتوب” لشركة ياهو. ومن محاسن “النت” في زمنه الجميل أن التعليقات تدخلك على مدونة المعلق على مدونتك، وهو ما يقيم تفاعلا بناءً. فوجئت بتعليق من المدوّنة السعودية الراحلة هديل الحضيف على ما كتبت، تتساءَل عن تأثير صور المجزرة والضحايا الأطفال على المشاهدين الأطفال، سيما إن “الجزيرة” تبث 24 ساعة. توقعت يومها أن الاستقطاب الطائفي هو دافعها إلى التعليق نكاية بحزب الله وجمهوره، ولكني وجدتُ في مدوّنتها موقفا نبيلا معاديا للصهيونية بعيدا تماما عن الطائفية. وتعرّفت، في مدوّنتها “باب الجنة”، إلى مدوّنين ومدوّنات سعوديين وعرب، يشكل الفضاء الافتراضي منتدىً راقيا لتفاعلهم الفكري والثقافي. بعدها بعام، ظهرت منصّات التواصل، وكانت هديل من أوائل الصداقات على “فيسبوك”، قبل أن ترحل عن دنيانا في 2008، في عمر 25 عاما، قبل أن تشهد انحدار العالم الافتراضي إلى درجة استنطاق الأطفال تحت الردم!

حتى العام 2006، لم يكن قد ظهر عالم “post truth” (ما بعد الحقيقة) الذي تحلّ فيه الإشاعات والأكاذيب ونظريات المؤامرة مكان الحقائق والوقائع، وهو مصطلحٌ دخل قاموس أكسفورد عام 2017، بعد نجاح ترامب وما رافقه من تسونامي الأكاذيب، اعتمادا على منصّات التواصل. بعدها بنحو عقد، شكّلت الترامبية القاع الذي انحدرت إليه المنصّات، اعتمد في وصوله على الأكاذيب واستمر بها. وفي عددها الصادر أخيرا، يكتب الكاتب لويس ميناند في مجلة نيويوركر في مقال عنوانه “عندما فقد الأميركيون إيمانهم بالأخبار”: “قبل نصف قرن، قال معظم الجمهور إنهم يثقون في وسائل الإعلام الإخبارية. اليوم، معظمهم لا يؤمنون بذلك”. وبحسب الكاتب الذي حصل على جائزة بوليتزر للكتاب، واعتبر كتابه “العالم الحر: الفكر والفن في الحرب الباردة” ضمن مراجعات “نيويورك تايمز” كتاب العام، فإن الصحافة لم تُقمع في سنوات ترامب “بقدر ما فقدت صدقيتها، على الأقل بين مؤيدي ترامب، وقد نجح ذلك أيضًا. كانت رقابة بوسائل أخرى. في عام 1976، حتى بعد حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت، قال 72% من الجمهور إنهم يثقون في وسائل الإعلام الإخبارية. اليوم، الرقم هو 34%. وبين الجمهوريين، تبلغ هذه النسبة 14%”.

وعندما كشفت صحيفة واشنطن بوست عن شعار “الديمقراطية تموت في الظلام” في 17 فبراير/ شباط 2017 ، سخر الناس في مجال الأخبار منه. قال المحرّر التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز، دين باكيه، “يبدو مثل فيلم باتمان القادم”. ولكن كان من الواضح بالفعل، بعد أقلّ من شهر من إدارة ترامب، أن تدمير مصداقية الصحافة السائدة كان من أولويات البيت الأبيض. وتابعت الصحيفة رصد الأكاذيب. حسبت الصحيفة، في نهاية فترة ولايته، كان الرئيس قد كذب 30573 مرّة. وخلص الكاتب إلى إن “قوة الصحافة، كما هي، مثل قوة العلماء الأكاديميين والباحثين العلميين وقضاة المحكمة العليا. إنها ليست مدعومة بالقوة. إنها تقوم على الإيمان: الإيمان بأن هذه مجموعاتٌ من الناس مكرّسة لمتابعة الحقيقة من دون خوف أو محاباة. بمجرّد أن يتنصّلوا من هذه الوظيفة، سيتم إدراكهم بالطريقة التي يُنظر بها إلى أي شخص آخر الآن، على أنهم يدورون من أجل تحقيق مكاسب أو مكانة”. ما قلّل من ضرر عالم ما بعد الحقيقة في الغرب وجود صناعة صحافية متطوّرة، وجريئة قادرة على كسب ثقة جزء كبير من الجمهور.

يتحدّث الكاتب في البلد الذي ولدت فيه الصحافة، وصارت صناعة تدرّ المليارات، وأُسّست فيه أول كلية صحافة في العالم، ففي عالمنا العربي، بالكاد تجد فيه صناعة صحافيةً مهنية تحظى بثقة الجمهور. كما كشف الزلزال في سورية وتركيا هشاشة الأبنية، اتّضحت عيوب منصّات التواصل في نشر أمراض الشهرة والتظاهر والجهل والأكاذيب والبغضاء والغثاء والهراء. نحتاج أبنية صلبة قادرة على الصمود في وجه ذلك كله، وهذه مهمة الصحافة الأساسية هذه الأيام.

لعلّ الصحافة هي المصفاة الأولى التي تحمي المتلقّي من التضليل، فهي مصدر الخبر الدقيق المحرّر والمهني والتحليل الموضوعي، وفوق ذلك يتمتع بجماليات النص والصورة. وقد أضيفت مهمّة جديدة للصحافة، وهي “التحقّق” التي تخصّص فيها صحافيون، وأُفردت لها منصّات. وعلى رغم قتامة المشهد وانتشار التضليل، أظهر استطلاع المؤشر العربي 2022 أن نسبة من يثقون بأخبار المؤسسات الصحافية والصحافيين 48% مقابل 32% يثقون بمشاهير المنصّات. وفي دراسة لمعهد رويترز في 2020، ظهر عالميا، وبعد كوفيد 19، أن الثقة بالمؤسسات الصحافية زادت على حساب المنصّات.

ذلك وغيره غير كاف، ما شهده الكونغرس من نقاشاتٍ بعد شهادة نائبة مارك زوكربيرغ أظهر الحاجة الماسّة لتشريعاتٍ تضبط المنصّات، فبحسب الشهادة، تحولت الخوارزمية إلى شيطانٍ يشجّع الكراهية والانقسام والشره الغرائزي .. وكذلك كله يتحول إلى مليارات في جيوب الشركات وخسارة كبرى للإنسان، طفلا ومراهقا وراشدا. لو فُرضت غراماتٌ على الشركات التي تخالف الأخلاقيات، لوظفت جزءا من أرباحها لتمكين الذكاء الآلي والبشري من حماية المستهلك. وهذا سهل وممكن، عندما اكتشف العالم استباحة “داعش” المنصّات، وضع ضوابط حظرتها تماما. وصهيونية ميتا المالكة “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب” فرضت عقوبات على صفحتي، بسبب نشر صورة للشيخ أحمد ياسين في ذكرى استشهاده. مع أن الإرهاب هو في قتل الشيخ المقعد على أرض محتلة وفق القانون الدولي، لكن قانون مارك زوكربيرغ غالب. لو طبقت المعايير ذاتها في ملاحقة إرهاب “داعش” أو التعاطف مع الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، لتحوّلت الخوارزمية إلى ملاك حارس لا إلى شيطان رجيم. لا بناء بدون هدم، ما تهدّم من منصات التواصل يمكن إعادة بنائه وفق النموذج الذي بدأ فيه “النت”، منتديات ومدونات ومنصات للتنوير لا التجهيل، والتعارف والتآلف لا الكراهية والتخلف، حماية للضحايا لا استباحتهم.

العربي الجديد

————————-

زلزالٌ يصيب المباني والمعاني/ محمود الريماوي

تردّدت تداعيات كارثة الزلزل التركي السوري في أرجاء واسعة من العالم، وقد استحوذ الحدث منذ فجر الإثنين، 6 فبراير/ شباط الجاري، على الاهتمامات الدولية، حتى أنه غطّى على الحرب الروسية على أوكرانيا، وعلى ذيول تفجير المنطاد الصيني في سماء الولايات المتحدة. ويكمن مبعث الاهتمام بالحدث المزلزل في الخوف المشترك من غضب الطبيعة ومفاجآتها الثقيلة، واحتمالات أن تتجدّد هذه الكارثة في أي مكان، وبخاصة في المناطق التي تشهد عادة نشاطاً زلزالياً. وإلى ذلك، هناك التعاطف الفِطري للبشر الأسوياء مع الضحايا الأبرياء الذين دهمتهم الكارثة قبيل الفجر، فيما هم نيام يلتمسون الدفء في أشد أيام فصل الشتاء برودة. وهناك كذلك ما يمكن رصده من يقظة الشعور بوحدة مصير العائلة البشرية على كوكب الأرض.

وإلى هذه المعاني العامة للتعاطف الواسع، ثمّة تعاطف وتضامن من طبيعة خاصة مع تركيا والأتراك، نظرا إلى الموقع الحيوي الذي يحتله هذا البلد الآسيوي الأوروبي في موازين السياسة والاقتصاد، ومظاهر التقدّم الشامل التي بلغتها بلاد الأناضول على مدى العقدين الماضيين، حتى أصبحت قبلة للسياحة والتعليم والأعمال، وكذلك مقصدا للهجرة، الشرعية منها وغير الشرعية، حتى لم يبق بلد يسعُه تقديم العون والمساعدة إلا وبادر إليها، ما دلّل على المكانة التي يمثلها هذا البلد ذو الـ 86 مليون نسمة في عقول شعوب الشرق والغرب ومجتمعاتهما وقلوبهم. ورغم التقدّم الاقتصادي والصناعي والعلمي والتقني الذي بلغه الأتراك منذ بداية هذه الألفية على الخصوص، إلا أن مسؤوليها لم يكتُموا حاجتهم للمساعدة لمواجهة هذه الكارثة التي تتطلّب خبراتٍ استثنائية ومعدّات دقيقة، وخلال أمد زمني قصير من أجل محاولة إنقاذ عاجل لآلاف المنكوبين تحت الأنقاض في عشر مدن كبيرة. ومع أنه تم الدفع بجميع إمكانات مؤسّسات الدولة، المدنية منها والعسكرية، إلا أن عدد الضحايا كان كبيرا وعدد الجرحى والمصابين أكبر، وذلك لشدة درجة الزلازل ولانهيار آلاف المباني على رؤوس ساكنيها في دقائق معدودة. ولولا سرعة الاستجابة وكفاءتها لكانت أعداد الضحايا أكبر، ولما أمكن إنقاذ آلاف المصابين من مصير أقسى تحت الركام الثقيل.

على الجانب السوري، يدرك القاصي والداني حجم الخراب والضائقة المعيشية التي حلّت بهذا البلد منذ أزيد من 12 عاما، وقد تسبّبت بموجات لجوءٍ إلى الخارج ونزوح إلى الداخل لا مثيل لها في التاريخ السوري، مع تضرّر أعدادٍ لا تُحصى من البيوت والبنايات، نتيجة تعرّضها للقصف بالصواريخ والمدفعية الثقيلة والبراميل المتفجّرة. ولهذا وقع الزلزال الرهيب على بُنيةٍ عمرانيةٍ ضعيفةٍ ومتصدّعة، وعلى بيئةٍ تشكو من عوامل التدمير والتخريب التي طاولتها على مدى السنوات الماضية، وفي أجواء من الفقر المُدقع وافتقاد مقوّمات الحياة الأساسية من غذاء ودواء وطاقة. وكان من المفارقات المؤسية أن ساكني الخيام في شمال غرب سورية، على ما يعانونه من بؤس مُريع في فصل الشتاء، إلا أن حظ هؤلاء التعساء كان أوفر لدى وقوع الزلزال الرهيب، إذ إن سقوط خيامٍ قماشيةٍ على رؤوس ساكنيها لم يحمل مخاطر الوفاة، كما هو حال ساكني البنايات التي بُنيت على عجل، وبأقل التكاليف في ظروف التشرّد والسعي إلى توفير مأوى بأسرع الوسائل، علاوة على ما لحق ببعض البيوت والبنايات من أضرارٍ شديدة نتيجة التأثر بقصف الصواريخ وقذائف الطائرات. وقد اضطرّ ساكنوها للبقاء فيها بعد نجاتهم، وذلك لانعدام البدائل أمامهم.

وقد شاء غضب الطبيعة أن يشمل مناطق، مثل اللاذقية وطرطوس وحماة وجبلة، إلى جانب ريف حلب ومدينة إدلب وريفها، ما وحّد السوريين مجدّدا وجمعهم في مصير مأساوي واحد، علاوة على ما جمعهم من صنوف المأساة طيلة سنوات الصراع. وقد اكتشف السوريون خلال هذا الحدث الرهيب أنهم يفتقدون ما يمكنهم معه التعامل مع آثار هذه الكارثة. وبينما أمكن إيصال المساعدات الضرورية العاجلة إلى بعض المناطق، فإن مناطق أخرى في شمال غربي البلاد لم تتلق شيئا من المعونات طوال الأيام الثلاثة الأولى، وهي الفترة الحرجة التي تحدّد مصير الذين تحت الأنقاض، باستثناء النزر اليسير مما كان مُخزّنا في مستودعاتٍ تتبع لجمعيات إغاثة تركية. عسى أن يستلهم جميع السوريين من هذه الكارثة الطبيعية أفضل الدروس، من أجل تجديد أواصر وحدتهم الوطنية ونبذ ما يفرّقهم، وإعادة الاعتبار للوطنية السورية الجامعة التي تضمّ الجميع في سائر المناطق، وهو درس لا بد من التوقف عنده والأخذ به في مسعاهم خلال الفترة المقبلة، لإعادة بناء ما هدمته الكوارث السياسية والطبيعية على الأرض والحجر وفي النفوس، وإعادة شمل السوريين في وطنهم.

كما جمعت الكارثة الأتراك والسوريين معا، فقد وقعت الزلازل بصورة متزامنة في البلدين الجارين، وأصابت قطاعات واسعة من الشعبين معا، وكأنما أضافت ديناميات الجغرافيا هذه المرّة المزيد من الوشائج على الروابط التاريخية التي تجمع البلدين والشعبين. وأبعد من هذا، ذهب ضحية الكارثة الأليمة التي أصابت عشر مدن تركية آلاف الأتراك والسوريين في تلك المدن جنوب تركيا، إذ انهمك المسعفون على مدار الأيام الماضية في محاولة إنقاذ المنكوبين، وقد نجحوا في إنقاذ آلاف من الأتراك والسوريين معا، كما قضى في تلك المأساة وأصيب الآلاف من الأتراك والسوريين معا في المدن التركية. وبهذا جمعت هذه المأساة الأتراك معا، والسوريين معاً، كما جمعت الأتراك والسوريين معا، وذلك في تذكيرِ عنيفٍ بأن ما يجمع هؤلاء أكبر وأعمق مما يفرّقهم. وإذا كانت الكارثة قد جمعتهم من دون أن يملك أحد الاعتراض على حكم القدر، فكم بالحريّ أن تجمعهم أسباب الحياة والجوار، وروابط التاريخ والثقافة والإخاء الروحي والإنساني.

ولا يكتمل المشهد إلا بملاحظة أنه، إلى جانب مظاهر الكارثة ونتائجها الأليمة، سوف تسجّل، بسجلٍّ من الضوء، تضحيات وحنكة ما لا يُحصى من المنقذين وعمّال الإغاثة والحماية المدنية والدفاع المدني من شتّى الجنسيات الذين واجهوا أقسى الظروف الطبيعية والمخاطر الموضعية، من أجل إنقاذ حياة الأبرياء، ما يستحقون معه أعلى درجات التقدير، باعتبارهم فرسان الأمل وأبطال العمل الإنساني. وإلى جانب هؤلاء، استشعر جموع من الأهالي غياب عمليات الإنقاذ في بلداتٍ بعينها لضعف الإمكانات، فهبّوا من تلقائهم وبأبسط المعدّات في حوزتهم، وباشروا عمليات الإنقاذ في ساعات الليل شديدة البرودة، وفي مشاهد لا تُنسى من الشجاعة والإيثار.

العربي الجديد

———————-

زلزال الضمير المنسي/ لميس أندوني

وجوه أطفال، بكاء آباء، نحيب أمهاتٍ ناجيات، عائلاتٌ تئنّ تحت أنقاض الزلازل في سورية وتركيا تطاردنا، تُظهِر لنا أشباحاً في المنام… واليقظة.

صحيحٌ أنّ الزلازل تهزّ الأرض عبر التاريخ، لكن مشاهد الركام توقظ فينا الضمير الغائب. لكن، هنا أتراجع عن قولي هذا، إذ لا أستطيع التعميم، أو الجزم، فهي لم توقظ ضمير العالم الغائب، وإلّا… لشاهدنا الطائرات المحمّلة بآليات الإنقاذ والأدوية تعبر البلدان والبحار والمحيطات.

لا فرق بين صرخة أم مكلومة أو دموع أب مثلوم أو صدمة طفل … لا فرق في وجع الفقد بين سوري وتركي، أرمني أو تركماني أو كردي، بين أردني وفلسطيني، أو أيزيدي، وأي ضحية ابتلعتها أرضٌ مشقوقة، أو انهالت عليها عاصفة الحجر والإسمنت، لتجعل من بيتٍ آمنٍ مقبرةً في ثوانٍ معدودة.

هي كارثة طبيعية، صحيح. لكن الكارثة الأكبر تقصير العالم، المتخم بالتقدّم العلمي والاتصالات وآليات تدار بأحدث ابتكارات التكنولوجيا، في الوصول إلى نقاط الدمار. صحيحٌ أنه مهما تقدّم العلم والاكتشافات والاختراعات سيبقى هناك عجز في مواجهة ثورات باطن الأرض، لكن التقصير في المساعدة جريمة. هو جريمة بشاعة سياسة المصالح والاستبدادين الدولي والمحلي. التقصير أيضا جريمة الإفقار والتفقير والغشّ، وفساد يقوده وحش الجشع. صحيح، مرة ثانية، أنها كارثة طبيعية، ولا توجد قوةٌ تكفل نجاة الجميع، لكن التقصير في عصر الدول الثرية القادرة والمقتدرة يعني إهدار حياة ألوف الضحايا التي كان يمكن إنقاذها.

مرة ثانية وثالثة، لا فرق في أصل أي ضحية، لكن المرء لا يستطيع إلا أن يفكّر بهول المأساة السورية، من استبداد نظام، إلى تدخّل أطرافٍ بحجج مختلفة، من دعم “نظامٍ يدّعي المقاومة” غطاءً للظلم، إلى ادّعاءٍ زائف بدعم “انتفاضة الشعب السوري”، من أطرافٍ تتبجّح بأنها صديقة لسورية، وتتأخّر النجدة، وبعضها لم يتحرّك بعد لمساعدة السوريين.

يحقّ للسوري أن يغضب ويكره العالم بأسره. كنّا في نكبة فلسطينية، وهي نكبة مستمرّة، لنشهد ونعيش نكباتٍ تحلّ على الشعب السوري، ولم ترحمه حتى الكوارث الطبيعية، كما لم ترحم لاجئا فلسطينيا، تشرّد مرارا ووصل إلى أمان سورية، ليجد نفسه مع السوري في بلد لجوء، هو تركيا. ولكن حين شعر هؤلاء بالأمان، وتفقدت عائلاتٌ أبناءها البعيدين في المنفى أو في ابتعاث دراسي، وانتظرت أخبارهم، لتجدهم قد طُمِروا تحت طوبٍ وحديد. لا تقلل قصصهم من قيمة فقدان الأتراك أمانهم في بيوتهم، ولا فقدانهم أحباء وأقرباء، فكل الفقد واحد، فحين تصبح جملة “نحن بخير فهم في الشارع” أو “الأهل بخير فهم في الشارع” هي وصفٌ لدمار بيت ونجاة عائلة، وتشرّدها. نعي، أو قد لا نعي بالكامل حجم المأساة، هي حالة عاشها ملايين الناس في كوارث طبيعية وحروب الجشع والدمار، حين يصبح الإنسان ليس أكثر من رقمٍ بين ألوف أو مئات الألوف من الضحايا، فكلنا يذكر عواصف تسونامي في دول جنوب آسيا، أو حتى في ولاية كارولينا الأميركية، فمع أن الطبيعة لا ترحم، إلا أن جشع رأس المال قد يُساهم، في أكثر الأحيان، في زيادة أعداد الضحايا وحجم الألم، فمن بناءٍ مغشوش، إلى فشل الدول في توفير الرعاية الاجتماعية والطبية لتزيد الفاجعة إيلاما، وتضاعف عدد أرواحٍ باتت أياما تنتظر تحت الركام، ولم تجد من ينقذها. لكن، إذا ركّزت على الشعب السوري، فهذا لأنني أتمنّى أن أستطيع الاعتذار من الشعب السوري، فكثيرون منا حبيسو أيديولوجياتهم، نُفصّلها على المقاس الذي نريد، ونسمح لها بالتأثير على التعاطف الإنساني، فانتقائية التعاطف الإنساني لا يريد معظمنا إقرارها.

علينا إعلان تعاطفنا مع الشعب السوري، بغضّ النظر عن الموقف الأيديولوجي، وأنا أتحدّث عن الشعب. أقول ذلك وأنا أرى وأسمع من لا يتعاطف مع سوريين في مناطق النظام، لكن الأقبح بكثير، والمبكي، حين يعلن مثقّفون أو نشطاء سياسيون عن انتقائية دعمهم مناطق اللاذقية وحماة ويحجبها عن إدلب وريف حلب، فحين نقول “سوريا يا حبيبتي”، هي سورية بشعبها، الوطن السوري بأكمله، من لاجئين وهاربين وجدوا منفىً بدلاً من غياهب السجون في وطن لا يسع الجميع.

حريٌّ يهذه الكارثة أن تجعلنا نستفيق، فمنذ الانتفاضة السورية، نعيش في شرخ تجاوزَ الخلاف السياسي، فكل المواقف كانت انتقائية، فهناك قصف أميركي لسورية مرغوب من بعضٍ مرفوض من آخرين، وهناك قصف روسي مقبول، بل ومرحّب به، ومرفوض من آخرين.

أتحدّث عن السياسيين … والمثقفين، نتحدّث وكأن الشعب السوري غير موجود، لا.. لم أفقد البوصلة، فما زلت أؤمن أنّ أميركا استعمارية وكاذبة، ولا تأبه بحقوق السوريين، ولا الفلسطينيين، ولا أي شعبٍ آخر، ولا تفرض عقوباتٍ حبّاً بحقوق الإنسان. ولكن، كفانا ظلما للشعب السوري، السجين بين جدارَي نظام دموي، ومدّعي معارضة زائفة، صادرت مطالب الشعب السوري، وهمّشت المعارضة الوطنية الحقيقية التي بقيت وحيدةً لا صوت لها ولا للشعب السوري.

نعم، هناك مناسبةٌ لهذا الحديث، إنها دعوة إلى المثقفين والحراكيين والسياسيين في العالم العربي، أن يشعروا بالزلازل ويتوقّفوا عن جدل الشعارات… ليست الصورة قاتمة، وكل مبادرة لنجدة أهل سورية مهمة، بغضّ النظر عن دوافعها، لكن على الأقل لنضع الجدل جانبا، فليس هناك طرف بريء قصف سورية، بدءاً من أميركا، مروراً بمن جلب “داعش” والمنظمّات المتطرّفة إلى الداخل السوري، وإيران وروسيا، التي أصبحت ضامنة أمن إسرائيل على حدود هضبة الجولان المحتلة. أقول ذلك، لأن استمرار التصنيفات أصبح غير إنساني في وضعٍ يحتاج إلى موقفٍ إنسانيٍّ لا يحتمل التصنيفات العصبوية.

عودة إلى البدء. أريد التذكير أن طائرات القصف من أطرافٍ عدّة، وصلت بسرعة إلى سورية لتمطرها قصفاً. أما حين حلت كارثة الزلزال، فلا تزال طائرات الإنقاذ تزحف ببطء، أو لم تبدأ بالزحف أصلاً، وسط تردّد، بل وتقصير قاتل من الأمم المتحدة.. فلا حجّة مقبولة، لا المقاطعة وشروطها للوصول إلى اللاذقية وحماة، ولا مشكلات معبر باب الهوى لإنقاذ أهل الشمال، حتى تركيا، بكل تجهيزاتها، لا تستطيع مواجهة كارثة بهذا الحجم. والعزاء كلّ العزاء لشعب تركيا، وإن كانت كلمات العزاء لا تكفي، ولا معنى لها أمام السوري أو التركي، أو كلّ مفجوع. ولنتذكّر أنّ الفجيعة لا تحتمل إسقاطات عصبوياتنا السياسية، أو خلافاتنا الأيديولوجية.

العربي الجديد

————————–

زلزال عشية انتخابات مصيرية في تركيا/ رانيا مصطفى

أحدث زلزال 6 فبراير/ شباط الحالي في جنوب شرق تركيا وشمال غرب سورية، تحوّلاً في سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية، التي كانت تستعد لإجراء انتخابات مصيرية بالنسبة للحزب الحاكم ورئيسه، رجب طيب أردوغان؛ لأن الزلزال وجّه كل الأجندة الانتخابية للتحالف الحاكم صوب كيفية التعاطي مع تلك الكارثة في تركيا، ومعالجة آثارها الانسانية والاقتصادية والاجتماعية، والتي لم تنتهِ بعدُ تقديرات حجمها. هذا الملفّ، معالجة آثار الزلزال، وتعويض المنكوبين، يشكّل الآن التحدّي الأكبر أمام الرئيس أردوغان، في ظل أوضاعٍ اقتصادية ومعيشية متردّية،  وسيكون له الأثر الحاسم في أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والمفترض أن تبدأ في 14 مايو/ أيار المقبل، إذا ما تم تأجيلها بتمديد حالة الطوارئ إلى أكثر من ثلاثة أشهر في المناطق المنكوبة، فالتجارب السابقة للكوارث في العالم، ومنها زلزال 1999 المدمّر في تركيا، أثبتت أن طريقة تعاطي الحكومات مع نتائج هذه الكوارث سيكون لها أثر كبير، يمتد سنوات، في تقرير مصير هذه الحكومات؛ فقد صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بعد فوزه بأغلبية 34% في الانتخابات البرلمانية في 2002، نتيجة سخط الشعب من أداء الحكومة بعد زلزال 1999.

هذا يعني أن مسألة تأجيل الانتخابات مرتبطة بمدى نجاح حكومة “العدالة والتنمية” في معالجة آثار الكارثة، فالفشل سيعني تمديد حالة الطوارئ أشهرا لاحقة، وتأجيل الانتخابات، بينما النجاح في هذا الملف سيرفع من رصيد الحزب، وبالتالي، من مصلحته تسريع الانتخابات. أعلن الرئيس التركي حالة الطوارئ في البلاد ثلاثة أشهر، أي أنها ستنتهي قبل موعد الانتخابات بأسبوع، وحذّر في خطابه الأول بعد الزلزال بأنه سيستهدف الأفراد الذين “ينشُرون الأكاذيب” عن الكارثة الوطنية؛ وبالتالي هو سيسيطر على وسائل الإعلام، ويوقف التقارير التي تلقي باللوم على الحكومة، باعتبار أن تركيا لم تعتمد “كود الزلازل” في الأبنية حتى 2018، بعد عقدين من زلزال 1999، مع غياب الرقابة على تطبيق تلك التشريعات على الأبنية؛ وأن الحكومة تراجعت عن الاهتمام بمعايير السلامة الأوروبية، بعد تبخّر طموحاتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ستتيح حالة الطوارئ هذه لأردوغان التملص من إجراءات اقتصادية مريرة اضطر لاتخاذها لرفع رصيد حزبه الانتخابي، مثل تخفيض أسعار الفائدة على القروض، والتي لها أثر سلبي على المدى الأبعد في ارتفاع التضخّم، والذي بالأصل وصل العام الماضي إلى 85%. كما أن أولوية معالجة آثار الكارثة ستتيح له إرجاء سياساته الخارجية، سواء بخصوص العملية العسكرية التي كان ينوي القيام بها في شمال سورية، أو السعي الحثيث إلى التقارب مع نظام الأسد، والعمل على إعادة اللاجئين، وحتى ما يتعلق بمطالبة الولايات المتحدة بصفقة تحديث الطائرات F16 وتأمين قطع غيار لها، والخوض في مساومات إلغاء الفيتو التركي على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، والتي زاد من تعثّرها سماح السلطات السويدية بحرق القرآن الكريم خلال مظاهرة لليمين المتطرف. إذاً التحدّي الكبير أمام أردوغان للبقاء في السلطة بات يتركّز في مدى نجاحه في التعاطي مع الكارثة؛ لكن الأمر ليس يسيراً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا، والتي سيزيد من حجمها الزلزال الذي ضرب منازل وطرقا وشبكات أنابيب والبنية التحتية في منطقة يقطنها 13.4 مليون نسمة، وهي مناطق صناعية وتساهم بـ9.3% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتوقع الخبراء أن ينخفض هذا الرقم إلى النصف، وأن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي بين 0.6 إلى نقطتين مئويتين. وإعادة الإعمار التي تحتاج ميزانية ضخمة، ومدة تتراوح بين ستة أشهر والسنة، تضع ضغوطاً كبيرة على الميزانية العامة. وبالأصل، تعاني خزينة الدولة من تقلص احتياطي العملات الأجنبية؛ لكن تركيا لا تعاني من حجم ديون كبير، والأرجح أن أردوغان سيتجاوز محنة الانتخابات، حيث سيضع كل إمكانات الدولة لمواجهة الكارثة في خطةٍ قصيرة المدى، وحينها سيكون التحدّي الأكبر أمامه مواجهة الصعوبات الاقتصادية والتضخّم على المدى الأبعد.

على عكس ائتلاف المعارضة التركية، طموحات أردوغان وحلفه أوسع من حدود تركيا، لعلها مدفوعة بعوامل دينية وقومية لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، لكن ضمن عالم مختلف، وفي ظرفٍ دوليٍّ حرج، ينقسم فيه العالم سياسياً على إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وإرهاصات تحوّل مراكز السيطرة باتجاه عالم متعدّد الأقطاب؛ وهنا يجيد أردوغان لعبة استغلال الفرص، بما يمتلكه من مهارةٍ في المناورة بين الأطراف المتصارعة، وسرعة في الاستدارة تمتاز بها الدبلوماسية التركية، إضافة إلى امتلاكه جيشاً قوياً، هو ثاني أكبر الجيوش البرية عددياً في حلف الناتو، فقد أحسن استغلال موقع تركيا الجغرافي على مفترق طرق آسيا وأوروبا وقرب أحواض المتوسط وإيجه ومرمرة والبحر الأسود، ليبني استراتيجية للسيطرة على طرق إمداد الغاز والنفط القادمة من روسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط باتجاه أوروبا، إضافة إلى التنقيب عن الغاز في المياه الوطنية للبحر الأسود وبحر إيجه والمتوسّط. وهناك سياسة أردوغان حول تشكيل سوق مشتركة مع البلدان التركية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وإنشاء منظمة الدول التركية (تمتلك 10% من احتياطات الغاز في العالم)، وتحويل تركيا إلى مركز لتصدير الغاز إلى أوروبا.

لم يقدّم منافسو الحلف الحاكم من تحالف الأحزاب الستة المعارضة، أية برامج حول السياسة التركية الخارجية، سوى خطوط عريضة عن تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتمسّك بعضوية حلف الناتو، ومن دون نقاش كافٍ للمسألة الكردية، وما يتعلق بالأمن القومي التركي، واستطاع أردوغان سحب ورقة المصالحة مع نظام الأسد وإعادة اللاجئين، وسط خلافاتٍ كبيرةٍ بين تلك الأحزاب، والاكتفاء بطرح العودة إلى النظام البرلماني وقضايا ثقافية، مثل العودة إلى اتفاقية إسطنبول لتعزيز حماية المرأة، وغير ذلك؛ ما يعني أن فوز المعارضة يهدّد بنسف كل ما بناه أردوغان على صعيد السياسة الخارجية، ويضعف من مكانة تركيا، ويجعلها ملحقة بالمعسكر الغربي، في غياب البرامج السياسية والاقتصادية لهذه الأحزاب. وهنا يحسم زلزال 6 فبراير مسألة الانتخابات لمصلحة حزب العدالة والتنمية، إذا ما أحسن استغلالها. وفي الوقت نفسه، يلقي على عاتق الطرف الفائز تحدّيات وصعوبات أكبر، قد تمتد سنوات.

العربي الجديد

————————

نحن اللاجئون … فوق أنقاض مفهوم الإنسان/ مضر رياض الدبس

يكون اللجوء في العمق إلى مفهوم الإنسان، هذه هي فكرته في جوهرها. في حالتنا السورية، كان اللجوء يعني أنّ نستجير بالإنسان الحديث ليكون لنا عوناً على إنسان البراميل، ليحمينا منه ويصون إنسانيته بهذه الحماية. الذي انهار في الزلزال هو مفهوم الإنسان الحديث، المفهوم المتصدع أصلاً قبل الزلزال، ولو نجا هذا المفهوم لكانت المساعدة وصلت إلى الشمال السوري منذ اليوم الأول للزلزال، ولكان صوت الأنين الذي توقف كافياً ليسمعه العالم ويتحرّك سريعاً، لكنّه انهار، لم يعد هذا المفهوم عملياً؛ فإلى أين اللجوء اليوم؟ باختصارٍ وتكثيف نقول للعالم: الذي مات منِّا، نحن السوريين في الشمال، مات تحت أنقاض مفهوم الإنسان، والذي نجا منا يعيش فوق أنقاض مفهوم الإنسان الحديث. وصار من الواضح أنّ نوعاً من اللامبالاة إزاء القتل والموت والتدمير انتشر أخيراً في العالم، وهذا جعل مفهوم الإنسان نفسه متصدّعاً قبل الزلزال، وكأنّه كان مفهوماً ينتحر. لم يعد الشعور بالحرج الأخلاقي شرطاً لإنسانية البشر أو لحداثتهم، صار الإنسان الأخير لامبالياً إزاء التعذيب حتى الموت، وإزاء الصواريخ، والقنابل، والبراميل، والكيميائي، والمسالخ البشرية، والكبتاغون، والتجويع المُمنهج، وإلى ما هنالك.

وإضافةً إلى هذه اللامبالاة، ثمّة استثمار إقليمي ودولي أكثر في سياسة تقوم على توظيف القتل بوصفه أداة، والتهجير بوصفه أداة، والتغيير الديموغرافي بوصفة أداة، إنها سياسة الجثث. لم تعد سياسة الجثث حكراً على القتلة التقليديين الذين يتقنون استخدام القتل أداةَ عملٍ سياسي، مثل روسيا وإيران والعصابات والمليشيات التابعة لها مثل حزب الله وفاغنر والنظام السوري، بل امتدت سياسات الجثث، وصارت تستهوي مجموعة أكبر بصورٍ جديدة. سياسة الجثث هي عَرضٌ أكثرُ تقدّماً للخمج الأيديولوجي المزمن الذي تعاني منه المنطقة إلى درجةٍ صارت الأيديولوجيا منهجَ حياةٍ أوحد، بنوعيها الديني والدنيوي. وعلى أي حال، أحدثت اللامبالاة، إضافةً إلى سياسة الجثث، تصدّعاتٍ كبرى في مفهوم الإنسان الحديث، وصولاً إلى انهياره، بسبب طريقة التعامل مع كارثة الزلزال في شمال غرب سورية، وليس في ذلك أي مبالغةٍ إذا ما فكّرنا في أنّ آلاف البشر كان من الممكن إنقاذ حيواتهم تحت الأنقاض، ولم يصل إليهم أحد. وفي مقابل ذلك، نطرح أن اللاجئين هم المؤهلون الوحيدون لإعادة تعمير بيتٍ جديدٍ للإنسانية، تنضج فيه مقاربة أكثر حداثةً للإنسان، وأنّ الحداثة المستقبلية يبنيها اللاجئون الناجون من أنقاض الإنسانية، الجائعون فوقها، الذين يرتعشون برداً وخوفاً، لكنّهم يربّون الأمل والإرادة، ويبنون سردية طويلة للرضيع اليتيم، الموجودون على قيد برزخٍ حيث انتزعت منهم الحياة، لكنّ الموت لم يطاولهم بعد، وكأنهم لاجئون إلى البرزخ، هرباً من الموت ومن الحياة معاً، قد يكون هؤلاء هم صُنّاع مقاربة الإنسان الجديدة فحسب.

تقول حنا أرندت (Hanna Arendt)، الفيلسوفة الناجية من الهولوكوست، في نصٍ كتبته في دوريةٍ مغمورة عام 1943: “خَلَق التاريخُ المعاصر نوعًا جديدًا من الكائنات البشرية، نوعَ البشر الذين لا يزالون مقتنعين بأن الحياة هي الخير الأسمى، وأن الموتَ أكثرُ الأشياءِ رُعبًا، ولكنِّهم تحولوا إلى شهودٍ وضحايا لفظاعاتٍ أسوأ من الموت، من دون أن يمتلكوا القدرة على اكتشاف مثلٍ أسمى من الحياة. نوعَ البشر الذين يُزَجُّ بهم في المحتشدات (concentration camps) من أعدائِهم، وفي مراكز الاحتجاز (internment camps) من أصدقائِهم”. وتشير أرندت، بطبيعة الحال، إلى محتشدات الإبادة النازية مثل أوشفيتز (ِauschwitz) أو بوخنفالد (buchenwald)، ومراكز احتجاز “الأصدقاء” مثل جزيرة مان (Isle of man) في بحر أيرلندا. وكأن قراءة ذاك النص الذي حمل عنوان “نحن اللاجئين” (we refugees) اليوم، مثلَ قراءته عام 1943: فهو، في جزءٍ كبير منه، لا يزال دقيقاً. ولا يزال “التاريخ المعاصر” ينتج نوعَ البشرِ الذين تُطاردهم محتشدات أعدائهم مثل التضامن، والحولة، والساعة، ونهر القويق، وكيماوي الغوطة، وسجون صيدنايا وتَدمُر، ومئات الأقبية، وغيرها الكثير؛ وفي الوقت نفسه، يواجهون مراكز احتجازِ أصدقائهم، مثل الزعتري، وكِلِّس، وأفكار الحشر في “منطقةٍ آمنة” مُتخيَّلة، وغيرها الكثير. ولكن، ثمّةَ اليوم إضافة جديدة، لم يعرفها عصر أرندت، هي التي تمتد على مساحةٍ تتزلزل بين المُحتَشد والمُخيم، حيث يُجرِّب المرءُ نوعاً من العذاب لم يكن معروفاً قبل اليوم.

نعم، قد يكون هذا أبرز الجديد، الجديد أن بعضهم يعيش بصورة منسيِّةٍ في برزخٍ بين مُحتشدِ عدوٍ خلفهم، وسجنِ أصدقاءٍ يضيق يومياً دافعاً بهم إلى المُحتشد، فلا الموتُ ينال منهم، ولا تُمسك بهم الحياة، الجديد هو ضحكةٌ من نوعٍ جديد يضحكها السفاح فوق برزخ اللاجئين. ويبدو أن هذه الحالة البرزخيَّة صارت أنموذجاً، وكأن تضييق المُخيمات صار موضةَ العصر الجديد، وقد تبدو نتيجةَ موضةٍ أكبر منها، هي موضةُ اللامبالاة بالمحارق البشرية، أو ما يمكن أن نسميه “تِرند اللامبالاة بالإبادة” السائد الآن، ذلك أن التعبير عن اهتماماتنا الحالية وحواراتنا العمومية صار محكوماً بـ”الترندات” (Trends)!

في الأحوال كلها، صار استكمال مقولة أرندت في ضوء الراهن مُمكناً؛ فيمكن أن نقول: خلق التاريخ الراهن نوعاً جديداً من الكائنات البشرية لم تعرفها البشرية في الحربين الأولى والثانية: نوعَ البشر الذين وجدوا أنفسهم وحيدين أمام كوارث الطبيعة والأرض التي تتزلزل بين محتشدٍ للإبادة الجماعية تركوه خلفهم؛ ومُحتجزٍ في مخيم لجوءٍ يضيق عليهم كل يومٍ أكثر، وكأن هذا التضييق التدريجي يُهيئهم لمصيرِهم المُرعب الثالث، غيرِ المُفكَّر فيه بعد، وللحالة التي يكون عندها اللاجئ في وضعٍ لم يدركه الموت بعد، ولكن الحياة لم تعد تدركه أيضاً، وكأن الذين نجوا من الزلزال يعيشون على قيد برزخٍ ما بين الموت والحياة: إنهم لاجئو البرزخ، واللجوء في البرزخ يعني نعيَ الإنسان الحديث.

ثمة “ترندٌ” شعبوي عالمي يشبه الخداع مَهَّدَ لإمكانية وجود لجوءِ البرزخ الأكثر رعباً. عمل هذا “الترند” على تمويه اللامبالاة إزاء موت الآخر وعذاباته، وربما على تجميل سردية الموت تعذيباً، وبناء خطابٍ يسوِّغ الصمت عنها، ويعمل على إقناع الآخر بغياب إمكانية تفادي عذابه، وعمل أيضاً على تركين ضميرِ الذات احتيالاً، ومع هذا “الترند” صارت واقعة اللجوء أكثر إيلاماً. في هذا الجو، تزلزلت الأرض في الشمال السوري والجنوب التركي: في جوٍ لا يبالي فيه أحدٌ بحياة اللاجئ، مع أن هذه اللامبالاة ليست إلا نوعاً من النسيان، أو التناسي الكارثي، أن كرامة اللاجئ هي سند مفهوم الإنسان الحديث وحجر الزاوية فيه؛ فإذا تم هدر الأولى انهار الثاني.

يعيش اللاجئون اليوم من دون واقعٍ، وفي الـ”لا زمان”. ولذلك لم يعد وجودهم يشكّل عبئاً أخلاقياً على أحد، صار مُمكناً أن نقول بالحرف إنهم ورقة: “ورقة اللاجئين”. صارت الـلامبالاة صورةً من صور فرض القوة أيضاً، فإجبار الناس على لجوء البرزخ هذا هو، في العمق، تحويل قوة الحياة إلى نوعٍ من أنواع التعذيب، هو نوعٌ متجدّد من أنواع فرض “السلطة على الإنسان” كما وردت في رواية 1948 لجورج أورويل عندما سأل أوبراين: “كيف يفرض إنسانٌ قوته على آخرٍ يا ونستون”؛ فأجاب ونستون بعد تفكيرٍ: “بجعله يقاسي” (By making him suffer)؛ فرد أوبراين: “بالضبط، بجعله يقاسي من الألم؛ فالطاعة ليست كافية. وما لم يعان الإنسانُ من الألمَ، كيف يمكنك أن تتأكّد من أنه ينصاع إلى إرادتك لا إرادته هو؟”، وأضاف “السلطة هي إذلاله وإنزال الألم به”، و”التقدّم في عالمنا هو باتجاه مزيد من الألم”.

بناءً على ما سبق كله، يمكن أن نضع فرضيةً لها ما يكفي من السند المنطقي، أن العالم الأكثر إنسانية سيكون عالماً من اللاجئين، ممَّن نجا من اللاجئين. وأن اللاجئين هم الذين سيحدّدون مستقبل الخير في العالم، وسيكون عالماً أكثرَ خيراً على أيديهم ولكن بشرطٍ وحيد: أن يُفكِّر اللاجئ في ضوء ألمه. وليس التفكير في ضوء الألم إلا محاولةً واعدةً للخروج من البرزخ، وأفقاً وحيداً ممكناً لوضع التقدّم والإنسانية والأخلاق والديمقراطية (ومن ثم السياسة) في سلةٍ مفهومية واحدة. العالم القادم، إن كان إنسانياً سيكون عالم اللاجئين، عالم الفلسطينيين، والأفغانيين، والعراقيين، والسوريين، والأوكرانيين، وعالم العاديين في البلدان الأيديولوجية: اللاجئين في البرزخ، الباحثين عن معنى الحياة خارج سياجات التبعية والأيديولوجيا والتسليم. ليس للاجئ في البرزخ إلا التفكير في ضوء ألمه، وهذا التفكير في إحدى أكثر وجوهه أهميةً هو التمسك بالحياة: خلقها وإنتاجها تواصلياً وحيوياً. وفكرةٌ أخيرة، أن صفة لاجئ البرزخ الجديد لا تشترط أن يُرحَّل اللاجئ من بيته دائماً، ولا تشترط أن يكون قد تعرّض بيته للهدم ببرميلٍ أو بزلزالٍ، ولكن يمكن أن يكون أيّ واحدٍ فينا لاجئَ برزخٍ إن عَلِق بين محتشدٍ ومركز احتجاز، فنَجا من الأول، وخاب أمله بالثاني. ولا ينبغي أن يفيض البرزخ على زماننا أكثر من ذلك؛ ففائض البرزخ على الزمان يعني موت الواقع، ويعني العيش في اللازمان تحت الأنقاض مع الأنين من دون آفاق، فلنتحرّك، نحن اللاجئين، فوق أنقاض مفهوم الإنسان قبل أن ينقطع الأنين.

العربي الجديد

———–

في زمن الكوارث … الإنسان قبل السياسة/ علي أنوزلا

منذ صباح يوم السادس من فبراير/ شباط الجاري، الذي استيقظ فيه العالم على هول الزلزال المدمّر التي سوّى بالأرض آلاف المباني السكنية في تركيا وسورية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، ما أدّى إلى هلاك الآلاف وترك مئات الآلاف بلا مأوى، حاول العالم أن يَغضّ الطرف عدة أيام عن الكارثة التي بدأت ملامحها المخيفة تتكشّف في المناطق التي ضربها زلزال العصر، وبعد فوات الأوان بدأت الأصوات ترتفع، خصوصا في المنطقة السورية، موجهة سهام النقد في فشل جهود الإغاثة والإنقاذ ابتداء إلى النظام السوري وانتهاءً بالمنظومة الإنسانية الدولية.

وفي الوقت الذي كانت فيه المساعدات الطارئة تتدفق إلى تركيا منذ الساعات الأولى للزلزال من دون عوائق نسبيًا، كان على ضحايا الكارثة في الجانب السوري أن ينتظروا أياما حتى يهلك من بقي منهم حيا تحت الأنقاض، وتتعاظم معاناة الناجين تحت درجات حرارة الشتاء الباردة، فضلاً عن نقص الغذاء والدواء والوقود، في انتظار أن تجد حكومات الدول والأمم المتحدة حلا لمعضلات سياسية ظلت عالقة منذ أزيد من عقد، فقد انتظرت الأمم المتحدة أسبوعا للاستجابة لضحايا الزلزال في سورية، بحيث لم يصل مبعوثها مارتن غريفيت إلى الأراضي المنكوبة إلا بعد مرور أسبوع على وقوع الكارثة، وأمام هوْل ما شاهده من دمار، أقرّ بأن جهودهم الإنسانية كانت غير كافية، ومعترفا بخذلانهم المنكوبين في شمال غرب سورية، الذين قال إنهم يشعرون بحقّ بأنهم مهملون بعدما طال انتظارهم لمساعدة دولية لم تصل بعد!

أما أعلى هيئة في الأمم المتحدة، أي مجلس الأمن، فقد تطلّب الأمر ثمانية أيام ليعقد أول اجتماع له بشأن تطوّر الأوضاع في سورية بعد الزلزال، في حين أن الأمر لم يستغرق أكثر من 48 ساعة، عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية يوم 24 فبراير/ شباط من العام الماضي، لتبادر الدول العظمى إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ للمجلس، والدعوة إلى جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم التالي بشأن القضية نفسها، أي أن حكومات العالم التي تتحكّم في مؤسسات الأمم المتحدة احتاجت إلى يومين فقط لعقد اجتماعين لأعلى هيئتين في حكومة العالم عن أوضاع الحرب في أوكرانيا، وانتظرت ثمانية أيام بالتمام للدعوة إلى اجتماع “مغلق” لتدارس الأوضاع الإنسانية على أثر الكارثة الطبيعة التي خلّفت حتى كتابة هذه السطور أكثر من 35 ألف ضحية!

مرّة أخرى، كشفت الدول العظمى، وخصوصا الغربية منها، عن سياسة الكيْل بمكيالين في تعاملها مع القضايا الإنسانية، ففي وقتٍ رأينا فيه كيف بادرت هذه الدول بسرعة إلى تقديم الدعم بسخاء إلى الفارّين من الحرب الروسية الأوكرانية، خصوصا من مواطني أوكرانيا، وتجييش الإعلام الغربي لمواكبة نزوح الأوكرانيين من بلادهم نحو أوروبا وأميركا، ظلت حكومات أغلب هذه الدول تبرّر عدم تحرّكها في الأيام الأولى للزلزال، خصوصا في الأراضي السورية، لدعم ضحاياه وربما إنقاذ أراوح من ظلوا عالقين تحت ركامه عدة أيام قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، بموقفها من نظام بشّار الأسد تارة، وخشيتها من أن تذهب مساعداتها المفترضة إلى عناصر إرهابية تارّة أخرى، تاركة الضحايا يموتون ببطء بينما كان أنينهم يُنقل من تحت الركام على الهواء مباشرة!

طوال أسبوع من زمن الفاجعة، ظل السؤال الأكثر وقاحة وعبثية يتكرر: هل يجوز تقديم المساعدة الإنسانية للضحايا في المناطق السورية خارج ما تسمّى “الشرعية الدولية”، سواء منها تلك التابعة لنظام بشار الأسد، الذي لم تعد تعترف به حكومات عديدة، أو تلك الخاضعة لسيطرة التنظيمات التي تصنفها حكومات دول أخرى إرهابية؟! وأدى هذا الاستقطاب الدولي العميق بين من قَدَّم المواقف السياسية على الإنسان ومن هرع لإنقاذ الأرواح أولا، إلى تأخّر المساعدات وترك الضحايا اليائسين أصلاً عاجزين أياما يواجهون مصيرهم المأساوي بأنفسهم. فحتى عندما تعلق الأمر بالزلزال الأكثر تدميرا الذي شهدته الإنسانية منذ مائة عام، كما قالت الأمم المتحدة، اختارت حكومات أوروبية كثيرة أن تضع مواقفها السياسية أولا قبل الاستجابة لواجب الضرورات الإنسانية، وتبعتها في ذلك، مع الأسف، حكومات عربية كان يجب أن تكون السباقة إلى إعطاء المثل في تقديم المساعدة، من باب الإنسانية وتعاليم الدين الإسلامي ووشائج العروبة التي تربط شعوبها بالشعب السوري المنكوب منذ سنوات.

كان يجب أن تتفوّق الضرورات الإنسانية وأن ينتصر الوازع الأخلاقي، منذ بداية الكارثة، على كل المواقف السياسية القائمة منذ فترة طويلة لضمان تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية. وبدون تقديم مساعدات عاجلة ومستمرّة خلال الأيام والأسابيع المقبلة، سيترك عدد أكبر من الناجين وممن تم إنقاذهم من تحت الركام ليموتوا ببطء من شدّة البرد والجوع وقلة الدواء في منطقةٍ كانت تعاني قبل الزلزال من تفشي مرض الكوليرا، ناهيك عن التأثير الذي ستحدثه الأزمة الإنسانية الحالية على ظروفهم الصعبة أصلا. ربما يكون الوقت قد تأخّر كثيرا لإنقاذ الأحياء العالقين تحت الأنقاض، إلا من رحم ربك، لكن وقت تقديم المساعدة للناجين بالكاد بدأ، ويجب وضع الواجب الإنساني قبل كل المواقف السياسية المسبقة، لأنه في غياب الدعم الإنساني الدولي لا بديل أمام المنكوبين في الجانب السوري سوى تعميق اليأس الذي حاربه أولئك الضحايا بشجاعةٍ أسطوريةٍ نادرة طوال السنوات الماضية.

كان من الممكن التخفيف من هول الكارثة، وربما إنقاذ أرواح بعض الضحايا، لو أن العالم تصرّف بالحس الذي امتلكه ذلك المواطن الأذربيجاني الذي جالت صورة عربته المتهرئة وسائط التواصل الاجتماعي، وهو ينقل مساعداتٍ بسيطة تكشف بساطة وضعه الاجتماعي، لضحايا الزلزال في تركيا في اليوم التالي للكارثة. كانت تلك الصورة أكثر تعبيرا واختزالا للمشاعر الإنسانية الصادقة من كل البيانات والتصريحات الرسمية لحكومات دول عديدة، برّرت تخاذلها في مساعدة المنكوبين بمواقف سياسية بدت بائسة أمام حجم المأساة وفظاعة الفاجعة.

احتراما لأرواح شهداء هذه الكارثة، يجب أن تكون دروسُها بمثابة “صحوة كبيرة” لحكومات ومنظمات دولية كثيرة عاملة في المجال الإنساني، لأنها تقدّم للعالم فرصة للتخفيف من إهماله للقتل اليومي البطيء الذي كان يطاول الشعب السوري المنسي في المخيمات والملاجئ بسبب تداعيات الحرب الوحشية التي عانوا منها والعقوبات القاسية المفروضة عليهم طوال السنوات الماضية، فقد أظهرت هذه الكارثة أن العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة من طرف واحد على حكومة دمشق، وتبعتها في ذلك حكومات غربية وعربية، لنفض يدها من الصراع الدامي الذي خاضته إلى جانب حلفائها لإطاحة النظام السوري، ليست سوى وسيلة بائسة للانتقام من الشعب السوري الأعزل، لأنه هو الذي يدفع ثمنها من لحمه ودمه، وفي حال عدم رفعها أو تعليقها يمكن توقع الكارثة التالية بعد الزلزال: تفشّي الأوبئة والأمراض المعدية وآلاف الضحايا الأبرياء، وأقل ما يمكن القيام به آنذاك هو المطالبة بتغيير عنوان القانون الذي بموجبه فرضت تلك العقوبات من “قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية”، إلى “قانون قيصر لإبادة آخر من تبقّى من المدنيين السوريين”، لأن الكارثة الإنسانية الكبيرة التي يعاني منها اليوم الشعب السوري، سواء في الملاجئ والمخيمات أو في المناطق تحت سيطرة النظام أو تحت سيطرة المليشيات، لها علاقة كبيرة بهذا العقاب الجماعي الذي فرضته حكومات دول العالم عليهم.

العربي الجديد

————————–

من مفكرة الزلزال: ليس للسوريّ إلا الأمل/ نبيل سليمان

سحابة هذا النهار طفقتُ ألهج: ليس للسوريّ إلا الريح تسكنه ويسكنها.

لم أستأذن محمود درويش، ولا سليم بركات الذي أهدى الشاعرُ له القصيدة. لم أستأذن الكرديّ الذي لم يترك له الشاعر إلا الريح.

السوري الآن وقد زلزلت سورية زلزالها هو الكرديّ والعربيّ والسريانيّ والتركمانيّ والأرمنيّ والشركسيّ ومن نسيت. السوري الآن هو كل شلوٍ من أشلاء سورية، على الرغم من الجغرافيا المهشمة، وعلى الرغم ممن هشّم هذه الجغرافيا فانكتبت القصيدة: ليس للسوري إلا الريح تسكنه ويسكنها/ وتدمنه ويدمنها/ لينجوَ من صفات الأرض والأشياء. والسوريون يقتربون من نار الحقيقة/ ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء.

فجرًا رقص البيت، رقص زجاج المكتبة وجحش الكوي وما يسمّى ثريّا، ورقصتُ، رقصتْ سميعة، رقص الحذاء والحفاء والدرج والجيران الذين انحشروا في مدخل البناية.

تقول سميعة مومئةً لي: لم يكن خائفًا.

ما الخوف؟ يترجّع سؤال السوري من القامشلي إلى إدلب إلى اللاذقية إلى… بعد كلّ الذي كان – يا ما كان، وغير الله ما كان – منذ اثنتي عشرة سنة إلى غدٍ ليس لناظره قريب.

ظهرًا ترقص السيارة التي ألجأتنا منذ الفجر، وها هي تضرب في الشوارع التي ضاقت بالسيارات، كما ضاقت ساحة الشيخضاهر – قلب اللاذقية – بالهاربين من بيوتهم.

ها هنا، في ظهيرة ربيعية من آذار قبل اثنتي عشرة سنة كانت حناجرهم تدوي: يا درعا نحنا معاكي للموت، وتدوّي: سلمية سلمية، لا سنيّة ولا علويّة، واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد، والسيارة ترقص أمام حديقة المارتقلا التي تفور بما تفور به ساحة الشيخضاهر: مظلات ملونة، خيام صغيرة وقليلة، أراكيل تحت المطر، عيون فاغرة، طفلة تنتحب على صدر امرأة تنتحب، والسيارة ترقص إلى أن يوقفها حاجز – شرطة؟ عسكر؟ أمن؟ – وممنوع المرور إلى الشارع الذي بالغت فيه بنايةٌ بالرقص حتى انهارت على من فيها.

كل الأيام صار اسمها: الاثنين

من يوم إلى يوم ترميك الزلزلة. من اللاذقية إلى جبلة ترميك الزلزلة، ليس لأن أخوتك وأخواتك يقيمون هنا – كانوا يقيمون؟  هربوا إلى القرى؟ – بل لأن نذيرًا قد زلزلك صوته: في حي غزالات من جبلة انهارت البناية التي يسكن فيها الدكتور فايز عطاف والدكتورة هالة سعيد.

فايز جرّاح، وهالة متخصصة بالأمراض العصبية، زوجان من الحب والأبوة والأمومة والثقافة والزهد والنقاء والعطاء، وجبلة تعلم أن فايز يقدم العون المادي المنتظم لعشرات من الأسر المعوزة، وبخاصة ممن تزلزلت أوضاعهم بعد 2011.

فايز وهالة وعمر من الصداقة، وأنت تنخطف أمام الكومة – البناية التي ينبش فيها الروس، وتسورها مركباتهم العسكرية العملاقة على مشهد من علمهم، ومن المئات الذين تحلقوا دعاءً ورعبًا وترقبًا، وفي العشية سينبشون جثتيّ اللذين سيتوسدان معًا في الصباح قبرًا واحدًا، بعد أن يملآ واحدة من النعوات التي تملأ جدران جبلة واللاذقية: من ينسى مقالة ميشيل كيلو (نعوات سورية) التي جازته عليها العدالة الأمنية بالسجن ثلاث سنوات من 2006 إلى 2009 في سجن عدرا من سوار دمشق.

زلزال هو إذن، ولأنك عجزت عن أن تكتب عنه أيامًا بلياليها، لك وعليك أن تتهجّى ما يكتبون:

“كأنه حركة ارتدادية للزلزال الكبير الذي ضرب هذا البلد منذ عشر سنوات”: بشير البكر.

“الزلزال يكاد يكون الاسم العام لكل ما يأتي من سورية منذ عام 2013 على الأقل”: ياسين الحاج صالح، الذي يؤكد على أن عواقب الزلزال البشرية والمادية هي التي تدعو إلى النظر إلى الزلزال كمسألة سياسية.

معن البياري: يفصّل في اقتراض لغة الصحافة مفردة (الزلزال) من أهل الجيولوجيا لخلعها على حدث كبير، فيكتب (زلزال سياسي)، ويضرب مثلًا بزلزال احتلال الكويت الذي لا زالت ارتداداته تتوالى منذ ثلاثة عقود. ويصف البياري زلزال الاثنين بأنه طبيعي، كارثي، وغير سياسي، بينما ” كنا نأمل زلزالًا سياسيًا لم يقم”.

هي إذن مسألة سياسية مهما يكن من أمر المجاز وأفانين البلاغة أو الاقتراض من لغة الجيولوجيا وسواها.

هو زلزال سياسي إذن، كان ينادي منذ غابت شمس الثورة السلمية براميلَ متفجرة وقصفَ حلب الشرقية والميليشيات الطائفية وداعش وجبهة النصرة وأحرار الشام والباصات الخضر وأيًا من الاحتلالات أو الدويلات أو المعتقلات أو المجازر أو التهجير أو امبراطوريات الفساد الموالية أو المعارضة أو…

***

ليلةً بعد ليلة، وإلى أن ينعم عليك النوم بليلة، دع عينيك – عيونك تتقلب بين السطور: أبو الفداء يقص عليك أدمى القصص في (المختصر في أخبار البشر) أن معلم كتّاب كان في حماه. ولما فارق المكتب/المدرسة وانهار السقف على الصبيان، لم يحضر أحد يسأل عن صبي، لماذا؟ لأن أهاليهم قضوا أيضًا.

من شمس الدين الذهبي إلى كمال الدين الغزي، ومن ابن كثير إلى أسامة بن منقذ إلى…. يضرب اللاذقية عشرة زلازل منذ ألف سنة حتى الاثنين.

وأنت تقلّب وتتقلب بين سطور ذاكرتك وسطور كتب وكتّاب، وإذا بزلزال الاثنين عريق ومكين، يرميك بين مائتي ألف قتيل/ شهيد/ ضحية، ويطوّحك بين جبلة واللاذقية، بين حلب وحماه وحمص، بين أنطاكية وطرابلس، ثم يرميك…

***

إلى كل الذين سمعوا أو قرأوا أو شاهدوا نهر العاصي في زلزال الاثنين يطغى على سد قرية التلول فيطغى السد على القرية والقرى ومثل سد التلول هو أيضًا سد ميدانكي على نهر عفرين.

إلى كل الذين لم ينسوا انهيار سد زيزون:

أقدم روايتي (درج الليل… درج النهار) التي صدرت عام 2003، وتحدثت عن سد زيزون، وعن السدود التركية العملاقة التي أورثت سورية والعراق كارثة الجفاف، وفتحها أخيرًا زلزال الاثنين.

(درج الليل… درج النهار) أيضًا تحدثت عن حرب المياه الآتية لا ريب فيها، لا سمح الله، يومئذٍ قد يكون زلزال الاثنين زلزالًا رحيمًا.

***

لا، ليست صفائح تكتونية وما أدراك، بل هو الغضب الإلهي – على وزن النصر الإلهي – قد رماكم بزلزال الاثنين جزاءً وفاقًا على مواقفكم العربية الإسلامية الخجولة تجاه حرق القرآن.

أما هذا السوري حسن حسين فيكتب: “إنها دولة يسكنها الموت”.

في قرية سطامو في سوار اللاذقية انهار ستة عشر بناءً من أصل مئة بناء وبناء في اللاذقية. وفي سطامو كم من بناء تصدّع، وفيها أكثر من خمسين جثة، وأكثر من مائتي سلة غذائية، وإعلان عن سرقات منها، ونفي للسرقات، فما وقع هو فقط تقصير لا غير… أما حاضنة اللاجئين في الشمال جنديرس فقد انهار فيها 257 بناء، وفجعت بـ 756 قتيلًا، وألف مصاب.

سطامو هي جنديرس وجنديرس هي سطامو لأن إدلب هي اللاذقية واللاذقية هي إدلب، والقامشلي هي حلب وحلب هي القامشلي…. والشمال الغربي والشمال والشرق من سورية هو الجنوب وهو الغرب بفضل زلزال الاثنين، حتى لو أصرّت القنوات التلفزيونية على التفريق، وشمت شامت من الموالاة بسورية غير المحررة مهما يُقل إنها محررة، أو لو شمت شامت من المعارضة بسورية الرسمية. ومن يدري فقد يوحد الزلزال الطبيعي ما فرّقه الزلزال السياسي، مهما تسيّس الأول ومهما تطبعن الأخير.

***

معذرة من الصديق معن البياري إذا كتب: ليس للسوري إلا اليأس.

من أية فيللا أو قصر في سرمدا إلى أي فيللا أو قصر في دمشق أو الرقة…

من أية أنقاض أو أية خيام في أنطاكية أو غازي عنتاب أو الأتارب…

من أية سورية إلى أية سورية: ليس للسوري إلا الأمل.

ضفة ثالثة

———————————————–

زلزالنا… نحن السوريين/ علي العائد

للبشرِ يدٌ في صنع الزلزال، يدًا في يد مع الطبيعة، الطبيعةِ بتكوينها الجيولوجي، والبشر بتخريب نظام أمهم الأرض، التي اعتادت أن تخلق توازنها بنفسها، فتصطفي عند كل نائبة ما يعينها لتعيد تكوين نفسها.

وكما غيرت انبعاثات الدفيئة من شروط المناخ، وتدخلت في توازن دورة المياه في الطبيعة، ورفعت درجات الحرارة في الغلاف الجوي، كذلك يفعل الإنسان حين ينشئ السدود الجائرة، ليتسرب ماء البحيرات إلى الطبقات الكلسية في الأرض ويذيبها، فضلًا عن الضغط الذي يشكله ما لا يحصى من أطنان الماء على سطح الأرض، لتنهدم الأرض مزلزلة كل ما فوقها.

زلزال تركيا وسورية ليس استثناء من عبث الإنسان بمصيره، فبعد حرب عشرية، جرَّب فيها النظام الأسدي، وإيران، وروسيا، القوة التدميرية لأسلحة يعجز حتى الشيطان عن تخيل ما يمكن أن تفعله، أصبحت الأرض نفسها أكثر هشاشة بما عليها من مبانٍ كانت لا تزال صامدة، إلى أن ناداها الزلزال فتبعته.

عند غيرنا، وفي سبيل صنع السلاح النووي، مثلًا، نبش الإنسان مكامن اليورانيوم والعناصر المشعة الأخرى، وأيقظها من سباتها لتصبح “نشطة”. وإن لم يستخدمها فهو يهدّد باستخدامها، أو يستخدمها في ما يسمى التجارب النووية، ليخرب الزرع والضرع، في نتيجة مباشرة، ويهيئ الأرض لزلزال ما حتى لو بعد حين. أكثر من ذلك، حتى ما يسمى “اليورانيوم المنضَّب” يحمل قوة تفجيرية هائلة في اختراق التحصينات حين يكون محملًا على صواريخ. ومن منَّا لا يذكر اختراق صواريخ أميركية لملجأ العامرية في بغداد، المحصن ضد الهجمات الكيماوية والنووية، ليقتل أكثر من 400 ملتجئ إليه فجر 14 فبراير/ شباط 1991.

زلزالنا، نحن السوريين، جاء على مراحل. وبالرغم من هول فاجعتنا غير الأخيرة، فإن ظلَّ الفواجع منذ أكثر من خمسين سنة لا يزال يظللنا. ما قبل مارس/ آذار 2011، مات السوريون من زلازل القهر مرات، في عيشهم، وعملهم، وفي المعتقلات، ومن تكميم الأفواه، ومن فقدان الأمل، وصولًا إلى الصرخة الكبرى التي زاد من تراجيديتها أنهم وجدوا أنفسهم وهم لما يبدأوا بعد في الحلم لا يعرفون “ما العمل؟”. والنتيجة المنظورة أن ثورتهم اغتالتهم، فتزلزلت كيانات المجتمعات السورية بين أسماك البحار، ومنافي اللجوء، وظلم ذوي القربى والأبعدين في دول اللجوء التي صادفوها في طريقهم.

هي “مجتمعات سورية” لم تدرك بعد حتى إن كانت عشائر وقبائل، أم طوائف، أم أقاليم، كلٌّ ينطق باسمها، ويبيع ويشتري باسمها. والأدهى أن أكثر من يفهم ذلك ويستغله هو الغرب، الأميركي والأوروبي خاصة، في ترجمة أخرى لما نصوره نحن السوريين “الغرب خذل الثورة السورية”، الغرب الذي ترك زلزال النظام الأسدي يعبث ببتلات المجتمع السوري حتى تفردت في أصقاع الأرض لتنبت في غير اتجاه يجمعها، وتضلَّ طريقها نحو تكوين “مجتمع سوري”.

الثورة المخذولة كانت أحد توابع زلزال اجتماعي صنعناه بأنفسنا، بتأخر صرختنا، وبالـ”مؤامرات” التي أحاطت بهذا الزلزال، وأولها قتل النظامين الأسديين للمجتمع السوري الوليد، وهو ما أودى بنا إلى سؤال “ما العمل”، الذي لم نكن حاضرين له. الآن، ومنذ سنوات، نعمل أفرادًا وجماعات، اعتباطًا. هيأنا أنفسنا لهزات ارتدادية مع كل فاجعة، في الصيف يموت لاجئو الخيام من الحرارة والأوبئة، وفي الشتاء من البرد، وما بينهما بقصف النظام الأسدي وحلفائه، من دون أن ننسى تجار الحرب من السوريين، سواء في مناطق يحكمها النظام، أو في مناطق تسيطر عليها الفصائل المسلحة بولاءاتها العابرة للحدود.

لا تختلف المناطق التي يحكمها النظام عن السوريات الثلاث الأخرى في شيء سوى أن انخفاض وتيرة الحرب زاد من معاناة السوريين هناك. ففي زمن الحرب عالية الوتيرة ما بين عامي 2012 و2018 كانت الأحوال الاقتصادية أفضل نسبيًا. بينما ازداد حجم المعاناة اقتصاديًا في السنوات الأخيرة، حين هدأت نار الحرب، لينخفض سعر صرف الليرة من 500 ليرة مقابل الدولار في نهايات عام 2016، إلى حدود 7000 ليرة للدولار في أيامنا هذه، ما انعكس ارتفاعًا هائلًا في نسب التضخم جعلت الموظف السوري الذي يبلغ متوسط راتبه 120 ألف ليرة يحتاج إلى ما يزيد على مليوني ليرة ليكتسب لقب إنسان فقير.

الزلزال الجيولوجي ليس من صنع الطبيعة فقط، لكن الزلزال الاجتماعي ـ الاقتصادي المرافق للحرب والتابع لها من صنع الإنسان وحده، حتى لو تجادلت فتاوى الاقتصاديين. والإنسان، هنا، عالمي، فتوزيع الموارد غير عادل دائمًا، وسيبقى كذلك. وليس أدل على ذلك من فكرة التضامن، والمساعدة، والجسور الجوية لتقديم المساعدات، التضامن الذي سيخفت صوته بعد حين، ليعود زمن الموت العادي. لقد تساوت في صحوة الضمير هذه دول فقيرة وغنية، فأرسلت مساعدات غذائية وطبية، بل ومالية، مباشرة إلى تركيا، وبشكل غير مباشر إلى شمال غربي سورية، التي لم يصل الضروري منها حتى اليوم الثامن للزلزال الأخير، بينما وجدت المساعدات التي وصلت إلى دمشق مباشرة طريقها لتباع على الأرصفة تحت رعاية تجار الحروب. أليس هذا أحد توابع زلزال الطبيعة؟!

زلزال الشمال السوري قتل بضعة آلاف. في شمال غربي سورية تحصي منظمة الخوذ البيضاء عدد القتلى، بينما يحصي النظام عدد القتلى في مناطق سيطرته، وليس من أحد يجمع الحصيلتين في سوريتين بعيدتين عن بعضهما أكثر مما نتصور.

ولأن الأسباب تعددت، نذكِّر أن زلزال الكيماوي الذي سوَّد وجه أميركا، والأمم المتحدة، ومنظمة حظر السلاح الكيماوي، في أغسطس/ آب عام 2013، قتل في دقائق ما يزيد على 1200 مدني سوري في الغوطة، من دون أن تبيِّض هذه الأطراف صفحتها في اتخاذ حتى خطوة أخلاقية في وجه النظام، فالموت واحد، والأخلاق شتى. الموت واحد، والسوريون قبائل، حتى لو تضامنوا في المحنة الأخيرة. وهم كذلك لأنهم كذلك.

مرة أخرى، سنصحو من هول الكارثة، كما يوصي كتاب الحياة، وسيسير السوريون في طريق ليست لها نهاية. غير أن الصديق قبل الطريق. فليت للسوريين صديق، وليت الصديق أولوية السوري للسوري في أوقات ما بعد الشدة، والهزة الأرضية، والموت العادي، وليس فقط في أوقات الأزمات التي تصنعها الطبيعة، أو يصنعها الإنسان.

ضفة ثالثة

————————

إلى أين يذهب السوريون من أقدارهم؟/ جهاد بزي

لم يكن قد بقي إلا الزلزال ليقول السوريون إنهم رأوا كل شيء. زلزال يبدأ في سوريا وتركيا، ويتمدد لتموج الأرض بهم حيث هم، في كل قارات لجوئهم.

كانوا، كلما أمطرت السماء عليهم صواريخ وبراميل، يصرخون إلا أحد لهم إلا الله. وانتهوا كذلك، لا أحد لهم إلا الله وأنفسهم. لم يتخلَّ الله عنهم، وليس يجرّبهم، فقد اكتفوا من التجربة. لكنه، في عليائه، صامت يفضل عدم التدخل في شؤون الكوكب السياسية والطبيعية. هي الأرض بذاتها هذه المرة، تساهم في المذبحة المروّعة لا لكي تعطيهم درساً، فقد اكتفوا أيضاً من الدروس. لا تتدخل لتعظهم. جميعنا، غرباً وشرقاً، ساهم، كلٌّ على طريقته، في وعظهم وقتلهم وإهمالهم والتمييز ضدهم وإنكارهم وطردهم وتجريدهم من أقل حقوقهم. جميعنا تطوع في إيذائهم. لكنها أمّنا الأرض، فهل يفيدهم أن يعتبوا عليها إذا تختارهم لتجتثهم بشراً وحاضراً ومستقبلاً من جديد؟ تتطوع ضدهم بعنف توراتي يجعلهم يقفون محنيين كعلامة استفهام هائلة تمتد من التراب إلى السماء: لماذا؟ ماذا بعد؟

كان ينقصهم فقط كارثة طبيعية في وطنهم وبلد لجوئهم، كي تصل إلى منتهاها، كل هذه القسوة في العيون التي رأت. إيلاف حكت عن الفوضى العارمة في عمليات الانقاذ وعن التفريق بين جثث “مهمة” وأخرى “عادية” تحت الركام. عن طبقية حتى في التعاطي مع تلال من فتات الباطون والحديد. قالت كثيراً في الفيديوهات التي راحت تبثها مباشرة، وهي تبحث عن شقيقها أبان وزوجته شهد. يجهد السوريون في تسمية أولادهم. أبان وإيلاف وشهد. إيلاف التي تجمّع الأسوَدُ تحت أظفارها طلبت من السوريين ألا يتأملوا كثيراً، فالمأساة أعظم من آمالهم. لا يقلل من حجمها المعجزات الصغيرة المتفرقة التي تصورها الكاميرات. إيلاف ستنعى لاحقاً شهد وأبان شقيقها الذي هو وحيدها وسندها وعائلتها.. في عيني إيلاف مرارة ستبقى عالقة هناك، في الهواء الباقي فوق الزلزال وفوق سوريا. في عينيها سؤال عن هذا الظلم العبثي لن يجرؤ على الإجابة عليه أحد، إلا بحمد لله الذي قدّر وما شاء فعل..

المأساة هائلة. هي نفسها على الأتراك كما على السوريين. لكن وطأها على السوريين أقسى. وطؤها أقسى على زيد الآتي من واشنطن بعد ساعات على الزلزال ليبحث عن أمه، وليساعد ما استطاع في النبش عن ناجين بأكثر ما يستطيع. نجت شقيقته صدفة. وزيد الذي قُتل أبوه وشقيقه قبل أعوام في قصف النظام على بيت العائلة في سوريا، وقبلهما قتلت داعش شقيقاً آخر له، سيكتب بعد أيام من الانتظار، أنه حاول أن يهيل التراب برقّة على جسد أمه في المقبرة الجماعية للغرباء، في الأرض الغريبة.

وطؤه أقسى الزلزال على عائلات ماتت بكامل ناسها، فلم يعد لديها من يتعرف عليها ليدفنها. وطؤه أقسى على الجرحى والمشردين الجدد في البلد الغريب، وبيتهم الثاني يسقط، ولا يعرفون كيف يداوون جروحهم ويبدأون من جديد. وطؤه أقسى على السوريين لأنهم الغرباء، ولأنهم المشردون في أطراف الأرض، ولأنهم تشتتوا. وطؤه أقسى على الغريب حين تنهار سماء غريبة على رأسه لتدفنه في أرض غريبة.

والشتات أكثر ما يشبه الأرض الرخوة، يغوص فيها ناسه بين بلاد إقامتهم، حيث لا اللغة لغتهم، ولا الأمكنة تحمل ذكرياتهم. الأرض رخوة حيث الأحلام تختلط فيها أرصفة المدن الجديدة بحارات وروائح ووجوه وجدران عتيقة. والأحلام قد تكون عزاء مؤقتاً لكنها لا تدمل الشروخ العميقة في القلوب. الأرض رخوة، حيث الذي يصنع حياة جديدة في البلد البعيد، لديه غريب آخر، يعيش في بلد آخر، ولديه غريب ثالث، ما زال في البلد الأم، مسقط الرأس، سجين أو مفقود، أو مجرد اسم على لائحة انتظار. لديه عائلة صغيرة من المستحيل لمّ شملها، ومن المستحيل قطع حبال السرّة معها. لديه عائلة لا يفهم الغرب البارد أنه قد لا يحتاج في ليالي صقيعه غيرها، ولو في أحلامه. وطؤه أقسى على من لا يجد مفراً مما هو فيه.

هكذا يأتي الزلزال على السوري، ليس كقدر فحسب، بل كقدر فوق قدر فوق قدر. كطبقات مبنى وقد انهار. إلى أين يفر السوري من قدره إذاً، وهو ما انفك يعاود المجيء بلؤم كل مرة أشد؟ أين ينتهي اغترابهم، ومتى؟ إلى أين يفر السوريون من أقدارهم وقد اجتمعت أقدارهم عليهم؟ أين يذهبون؟ كيف يطيبون خاطرهم المكسور؟

المدن

—————————

زلزالٌ في العقول؟/ أحمد بيضون

إذ يبلغُ الزلزال هذا القَدْرَ الفاحشَ من العنف الملحميّ فيحمل في ركابه، وهو الذي تقاسُ مدّته بالثواني، هذه الأهوالَ التي لا يحيطُ بها الخيالُ: ينشرها في نطاقٍ من الأرض يعادل مساحة دولةٍ معتبرة، فيقتل بشراً بالألوف ويثخن في آخرين بعشرات الألوف ويحيلُ مدناً عامرةً إلى خرائب وركام ويدمّر مصادر معاشٍ ومقوّمات سكنٍ لملايين فيحيلهم إلى لاجئين في بلادِهم بعد أن يسقط ما تقوم به حياة الجماعات من مرافق ومنشآت فضلاً عن إسقاطِه ما يستقيم به عيش الأفرادِ والأسر… إذ يقوى على هذا كلّه ربيبُ الثواني هذا، تتوه المخيّلة وتلبثُ قاصرةً، مهما تجتهدْ، دون مقاربة ما يعصف بهذه النفوس المصابةِ كلّها من مشاعر الفجيعة المتشعّبة وضروب العناءِ في الأجسام والنفوس، وهذا فضلاً عن الامتحان الذي تمثّله مواصلةُ العيش ومواجهةُ ضروراته: بعونٍ خاصٍّ أو عامٍّ تتفاوتُ فاعليّتُه ومناسبتُه للحاجاتِ، في جانبٍ من الحالاتِ، وبلا عونٍ يذكَرُ، في جانبٍ آخر، وهذا مع عبْءِ الخسارات يُثقِلُ المناكبَ في الحالاتِ جميعاً.

إذ تقفُ المخيّلةُ حاسرةً أمام هذا كلّه، يبقى عليها أن تواجه الأسئلة المتّصلةَ بالتغيير الذي يفتّرضُ أن يتمخّض عنه في الخيارات الكبرى والمعايير الأساسيّة، في النظرِ العامّ إلى الحياةِ والعالم، حدثٌ خليقٌ بألاّ يبقى بعدهُ شيءٌ من هذا كلّه على الصورةِ التي كان عليها قبْلَه، زلزالٌ في الأرضِ يسوغُ السؤالُ معه عمّا إذا كان سيُسْفِرُ عن زلزالٍ في العقول…

لا فائدة ترجى، بطبيعةِ الحالِ، من ترسّمٍ لا يغادِرُ الاستدلال المبدئيّ ومستوى الفرضيّات ولو بدت مستجيبةً لمنطقٍ ما…  فما دامَ هذا المنطق لا يستندُ إلى ما يكفي من الشواهد والشهادات المؤيّدة له فهو قد لا يكون سوى منطقِ استحبابٍ من جانب المحلّل أو المخمّن. وقد يكون في الإصغاء إلى ما يبدُرُ، على الفور، من المقيمين في دائرة الحدثِ أو الخاضعينِ لمفاعيله، على اختلاف المفاعيل ودرجاتِ الخضوع، بدايةُ استهداءٍ إلى بعضِ وجوه التغيير التي يفتَرض أن يكون الحدثُ منطوياً عليها أو منبئاً بها في المواقف الأساسيّةِ والتوجّهات الكبرى. ولكن يبقى واجباً انتظارُ أن تنقضي الوهلة الأولى وأن يتّخذ التعبيرُ عن المواقف والتوجّهات المشار إليها صيغاً تتّسم بقدرٍ من الثبات والانتظام بعدَ أن تكون هزّات الأرض نفسها قد هدأت وباتت محاولاتُ الإحاطة بالصورة (أو الصور) العامّة للحدث أوفرَ حظّاً في الإفضاء إلى ثمرة.

يفترَضُ أيضاً أن يؤونَ أوانٌ للدرس المنظّم أي، أوّلاً، لاستنطاق البشرِ الممتحَنين بالحدث ولاستطلاعِ المحيطِ الذي يحفّ بهم، عن قربٍ أو عن بُعْدٍ، وذلك على نهجٍ يتعدّى مجرّدَ الإحصاء (إحصاءِ الضحايا، إحصاءِ الأضرار، إحصاء الموارد والمعوناتِ، إلخ.) لينفذَ إلى المواقف والتوجّهات، على اختلاف مستوياتِها والمجالات. سيحصلُ شيءٌ من هذا كلّه، لا ريبَ، ولكن لا يُعرفُ الآن مداهُ ولا درجةُ وفائه بالغرض العامّ الذي نقول ههُنا بوجاهته القصوى.

من الأسئلة التي يتوجّب اتخاذها موضوعاتِ بحث تعليلُ الحدث: هل يغلب الثباتُ على التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة، وهي لا تُرَدُّ تعريفاً، أم يزدادُ التركيزُ على العوامل الطبيعيّة في تفسير الزلزال-الحَدَثِ، باعتباره نكبةً حصلت، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً في تفسيرٍ محنٍ أخرى محتملةٍ: الفيضان أو الجفاف، الأوبئةُ على اختلافها، إلخ. وهو (أي التركيزُ الأخير) يحملُ على التفكير في سُبُلٍ (مفتوحةٍ أو مسدودةٍ) لمداراة المحنةِ والحدّ من نطاقها وشدّتها. فإذا كانت السُبُلُ المشارُ إليها قابلةً للفتحِ لولا أوضاعٌ اجتماعيّةٌ أو سياسيّةٌ تحولُ دون فتحها جاز التساؤلُ عمّا يجبُ فعله سعياً إلى إصلاح هذه الأوضاع، ما دامت تعريفاً قابلةً للتعديل بما هي ترجمةٌ لمصالح بشريّةٍ يهدّدها الإصلاح فتأباه.

هذا وقد ينطوي العزوف عن التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة على استبعادٍ منطقيّ لتحقّق هذه المشيئة في حالة الزلزال، أو أيضاً على رفضٍ لتقبّلها إن لم يوجد بدٌّ من التسليم بالتحقّق. وذاك أن صورَ الضحايا، في النكبةِ الحاضرةِ، تكرّرُ آلافَ المرّات مشهدَ الطفل المصابِ بالطاعون الذي يحملُ الطبيبَ، في روايةِ ألبير كامو المشهورة، على الصياح في وجه الكاهن: “هذا، على الأقلّ، كان بريئاً!”. على أنّ التوجّه نحو هذه الأقاصي الماورائيّة لا حتميّةَ له ولا صعوبةَ في استحضار اجتهاداتٍ جاهزة تتيحُ تجنّب التلبّث عنده. فقد يتوقّف المنكوبُ أو المتأمّل في النكبةِ عند أسئلةِ الأرض المباشرة: ما كان يمكن فعله لتقليص الأضرار وصون الأعمار وحالَ دونه الفسادُ أو إعراضُ ذوي السلطةِ عن مشكلاتٍ بعينها، وثيقةِ المحالفةِ للفقر عادةً وشديدةِ الملازمةِ للفقراء، وانصرافُهم إلى أخرى يجدون في معالجتها صالحاً لهم ولذوي الحظوة عندهم. بل إنّ المنكوب قد لا يحتاج إلى استذكار ما فاتَ من وجوه وقايةٍ بقي تحصيلها رهناً بإراداتٍ مفتقدة. قد تكفي المنكوبَ معاينةُ التمييزِ في سياسةِ الإغاثة، بل السرقة والتبديد في موادّها ومواردها أيضاً، وهو ما بدأت تظهر طلائعه. قد تكفيه هذه المعاينة مشقّةَ الأسئلةِ المصيريّة فيتخذ لنفسه موقعاً وموقفاً مغايرَيْنِ لما كان فيه وعليه قبل النكبة.

ستحصلُ أشياءُ تشي بالتغيير: أشياءُ من هذا القبيل وأخرى من ذاك وثالثةٌ من ذلك. لا يعرف أحدٌ المقادير، الآنَ، ولا يملكُ أحدٌ مقاليدَ التنبّؤ بما سيَرْجح. التسليمُ والخنوعُ احتمالٌ قائمٌ أيضاً مهما يكن مقدارُ ما قد يثيره من أسف. ثمّ إنّ تمخّضَ النكبةِ التي أمعنت تمزيقاً في أطر التضامن الاجتماعيّ القائمةِ عن تيّاراتٍ سياسيّة (أو “وجوديّة” أيضاً) ذواتِ وقْعٍ وتنظيمٍ وديمومةٍ أمرٌ لا تعزّزُ أنواعُ التمزّقِ الحاصلةُ حدوثه. فحيثُ تبدو العقول وبَعْدَها الإراداتُ معنيّةً بالزلزال (وهي معنيّةٌ في دائرةِ النكبةِ أوّلاً ولكن أيضاً في المحيطِ الأوسعِ لهذه الدائرة) تبرزُ الدعوة إلى التغيير في العقول والإرادات. ولكنّ النكبةَ، وإن انطوَت على الدعوةِ المذكورةِ، ليست، بحدِّ ذاتِها، ضامنةً للتلبية. وإنّما يحتاج زلزالُ العقولِ إلى تعزيزٍ لزلزالِ الأرضِ بعواملَ حاسمةٍ أخرى.

بلتيمور في 13 شباط 2023

المدن

————————-

إذاً.. هل أتى الزلزال المرتقب؟/ عمر قدور

على سبيل الطرافة انقسم أيامها السوريون المعنيّون بالأمر بين رأيين؛ أصحاب الرأي الأول يفضّلون عدم الاستماع إلى النصائح التي يدلي بها مختصون على شاشة التلفزيون حول ما يجب فعله لحظة حدوث الزلزال، وأصحاب الرأي الثاني من دعاة التصرف بعكس ما يقوله هؤلاء. ينطلق الأولون من أن الهزة الأساسية المفاجئة تستغرق زمناً قصيراً جداً لا يسمح باتخاذ أي احتياط، أما الفئة الثانية فيرى أفرادها أن الذهاب إلى نقاط الضعف الخطرة يزيد من احتمال حدوث الموت، وهو خيار أرحم من فظاعة انتظاره تحت الأنقاض.

حدث ذلك قبل نحو ربع قرن، عندما أمضى أهالي حلب ومدن وبلدات في الشمال السوري ليلتهم في العراء، أيضاً بسبب زلزال في تركيا عام 1999، استغرق 37 ثانية موقعاً 17 ألف قتيل ومشرِّداً قرابة نصف مليون شخص. حينها راح التلفزيون يستضيف أولئك الخبراء الذين يتحدثون عمّا يجب فعله عند حدوث الهزة المرتقبة، والكثيرون منه يستغرق وقتاً أطول من مدة الهزة إذا كانت البديهة حاضرة في تلك البرهة.

بفضل الفضائيات، كانت الأخبار المصوَّرة تتوارد عن تفاصيل عمليات الإنقاذ في تركيا، وبالطبع كانت المقارنة حاضرة بين ما تبذله الدولة التركية، معزَّزة بدعم دولي يعكس انفتاحها على العالم، وبين سلطة سورية منعزلة ومعزولة، لا يُرتجى منها حسن التصرف، وهي في الأصل غير مكترثة بحيوات السوريين كي تجهّز آليات وطواقم إنقاذ عند حدوث كوارث مثل الزلازل أو الحرائق الكبرى. لذا كانت الأمنية الأوسع انتشاراً، بما أن الكارثة متوقعة، هي الموت فوراً وعدم المراهنة على الإنقاذ والنجاة من تحت الأنقاض.

بفضل ضيوف التلفزيون آنذاك، عرف من لم يكن يعرف من السوريين أن الشمال على نحو خاص هو على خط الزلازل، وحلب نفسها شهدت تاريخياً واحداً من أقوى الزلازل عالمياً، فضلاً عن زلازل عديدة مدمِّرة كان آخرها في القرن التاسع عشر. العبارة الوحيدة المفيدة التي نطقها هؤلاء كانت بما معناه: ترقبوا الزلزال المقبل، والذي لا أحد يعرف موعده.

كالمعتاد، لم يخطئ أحد من ضيوف التلفزيون وقتها فيتحدث عمّا يجب أن تفعله السلطة وقائياً، بما أن الزلزال المرتقب قادم لا محالة. وكي لا يُقال أننا نتجنى على السلطة بتحميلها مسؤولية كارثة طبيعية قد تؤدي إلى موت ودمار شديدين أينما كان؛ يكفي أن نقارن عدد الضحايا والمصابين الأتراك وعدد نظرائهم السوريين في الزلزال الأخير، فالحصيلة متساوية تقريباً مع الأخذ في الحسبان أن مركز الزلزال هو في تركيا حيث من المنطقي أن ترجح كفّة الدمار والضحايا. ذلك من دون الخوض في ما بعد الحصيلة الأولى وعمليات الإنقاذ، فواحد من الأخبار السورية الأولى المؤسفة والمخزية كان عن عدم توفر الوقود لآليات إزالة الأنقاض بالسرعة المطلوبة للإنقاذ.

خلال ربع قرن منذ ذلك الحديث عن الزلزال المرتقب، لم تُتخذ أية احتياطات للوقاية المستدامة منه، وأهمها ما يتعلق بالنظام العمراني وتعميم نموذج مُلزم وأفضل لجهة السلامة، خاصة في حلب وجزء من الشمال والساحل، أي المناطق التي تقع على الصدع الزلزالي المعروف ذاته. هناك، لو وجدت سلطة لديها الحد الأدنى من الحرص على محكوميها، تجاربٌ معروفة في مضمار التصميم المعماري الملائم للزلازل، أهمها التجربة اليابانية، وهو نمط لا يثقل كلفة البناء.

نستطيع الحديث عن مدينة حلب، كنموذج قابل للتعميم على باقي المناطق المهدَّدة بالدمار، وفيها ذلك النمط الذي يتفاخر به العوام، ولعله الأسوأ لمدينة على خط الزلازل. نعني به نمط البناء الحديث المثقل بالحجارة الحلبية التقليدية، وهو نمط لا يتسم بأدنى مرونة تجاه الهزات، وعواقبه كارثية في حالة الانهيار. النمط الآخر، إذا جاز تسميته كذلك، شبيهٌ به مع فقر وتجاوز لشروط السلامة التقليدية، وهو ما يمكن مصادفته بوفرة في أحياء “العشوائيات”، وقد سبق أن شهدت حلب انهيارات في العديد من المباني المأهولة تلك.

في مسؤولية السلطة، يعلم كثر أنها هي من تتحمل مسؤولية النظام العمراني، حتى إذا كانت نسبة منه موروثة من حقبة سابقة. على سبيل المثال فقط، بقيت الغرامات المنصوص عليها جراء مخالفة النظام العمراني “على علاته” متدنية جداً، ما شجع المقاولين على ارتكاب المخالفات طالما أن هناك منفذاً اسمه المصالحة يتم من خلاله التطبيع مع المخالفات بالغرامات المنخفضة والرشاوى الأعلى قيمة. لقد صار من المعتاد أن يُعَدَّ سلفاً تصميمان للبناء، واحد شكلي للحصول على الرخصة وآخر مغاير له من أجل التنفيذ الفعلي.

هذه السلطة ملأت البلاد بطولها وعرضها ما يُسمّى العشوائيات، وهي أحياء طرفية لا يخضع البناء فيها أساساً للترخيص وللحد الأدنى من الرقابة. هي نظرياً أحياء مخالفة للقانون، وتحت طائلة الهدم في أية لحظة، أما واقعياً فهي ملاذ الفقراء المحكومين باتفاق السلطة والمقاولين على إسكانهم في أبنية لا تخضع لشروط العيش الكريم ولا لشروط السلامة، وإبقائهم فوق ذلك تحت طائلة الخوف من المستقبل متى قررت السلطة إزالة مساكنهم المتواضعة.

هناك أبحاث عالمية قيّمة تحرّى أصحابها العلاقة الوثيقة بين الديكتاتوريات وظاهرة المساكن العشوائية، وما يهمنا في هذا السياق الإشارة إلى أن هذه العشوائيات ازدادت على نحو مهول في سوريا، جنباً إلى جنب مع نظام عمراني مُخترَق بالفساد فوق أنه لا يلبي أصلاً شروط السلامة العامة في المناطق السورية الواقعة على خط الزلازل. هذه الوضعية التي تفاقمت خلال العقود الماضية كأنما هي تجهيز لتكون الكارثة المقبلة أشدّ ما يمكن، والأمل الوحيد المتاح من خلال شقوقها أن يتأجل قدوم الزلزال، وأن يكون “بتعبير آخر” من نصيب أجيال لاحقة.

بالتأكيد ليست أحسن حالاً المساكن التي بُنيت كيفما كان لإيواء اللاجئين، أو لاستغلال مأساتهم، في الشمال الخارج عن سيطرة الأسد. جمعُ الأرقام السورية هنا وهناك ومقارنتها بالحصيلة التركية كما أسلفنا يعطي صورة مصغَّرة جداً عن الكارثة التي سيحدثها الزلزال المرتقب عندما يكون مركزه في سوريا. الزلزال نفسه هو حقيقة وكناية في وقت واحد، ونصف الأمل الوحيد المتاح هو أن تبقى أمنا الطبيعة أكثر رحمة بنصيبها.

المدن

————————————

واشنطن تشجع مساعدة الشعب السوري وتعارض التطبيع مع النظام

أكدت الولايات المتحدة أنها تدعم وتشجع جميع البلدان على إرسال أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية إلى سوريا، بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب البلاد قبل أسبوع، لكنها في الوقت نفسه، لا تدعم أي تطبيع مع النظام السوري.

تنحية الخلافات

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين، إن واشنطن تشجع جميع الأطراف على تنحية الخلافات جانباً، وذلك حتى يتم التركيز على جهود تقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري الذي هو بحاجة ماسة إليها في الوقت الحالي

وأضاف برايس أنه في الوقت الذي تركز فيه بلاده على الضرورات الإنسانية، “تُدرك تماماً أن ما من كيان واحد فعل أكثر من النظام السوري لتدمير الشعب السوري”، وقال: “فيما نوازن الضرورات الإنسانية التي تنتظرنا، نُدرك تماماً المأزق الإنساني الذي يعيشه السوريون، وسبب وجودهم في هذه الضائقة الإنسانية الأليمة”.

وأكد برايس أن الإدارة الأميركية تدرك الاحتياجات الإنسانية العاجلة التي يحتاجها السوريون عقب الزلزال، كما تدرك سبب وقوع الشعب السوري في هذا المأزق الخطير الذي تفاقم بعد الزلزال المدمر، مؤكداً أن بشار الأسد ونظامه يتحملون المسؤولية عنها في الدرجة الأولى.

لا دعم للتطبيع

وحول زيارة وزير الخارجية الأردنية ايمن الصفدي إلى دمشق، قال برايس: “ندعم جميع البلدان في جميع أنحاء العالم لتقديم ما بوسعها في سبيل إيصال أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية إلى سوريا”، ثم استدرك: “لكن ما لا ندعمه هو تطبيع العلاقات مع نظام الأسد”.

وأضاف أنه في كل مرة تظهر قضية التطبيع، “تُبلغ الولايات المتحدة شركاءها في جميع أنحاء العالم بأن الوقت الحالي ليس مناسباً لتطبيع العلاقات”، موضحاً أن الطريق الوحيد لتفعل ذلك، هو “أن يلتزم نظام الأسد بالإرشادات السياسية الواردة في خارطة الطريق السياسية الموضحة في قرار مجلس الأمن 2254”.

وشدّد على أن نهج واشنطن تجاه النظام السوري”لم يتغير”، مؤكداً أن ما يهم بلاده هو أن ترى المساعدات الإنسانية تتدفق إلى جميع المناطق السورية، بأسرع شكل ممكن، سواء الخاضعة لسيطرة النظام أو تلك التي تحت سيطرة المعارضة.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أصدرت الجمعة، قراراً منحت من خلاله ترخيصاً بتجميد العقوبات المفروضة على النظام حددته ب180 يوماً، على جميع المعاملات المتعلقة بالإغاثة من الزلزال التي كانت محظورة بموجب قانون العقوبات الأميركية، بما في ذلك الحوالات المصرفية الواردة إلى المصرف المركزي السوري والمصارف الحكومية.

التزام الأسد

من جهته، شدّد وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن على ضرورة أن يفي النظام السوري بالتزاماته المتعلقة بموافقته على فتح معبرين إضافيين عند الحدود مع تركيا، من أجل إيصال المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من الزلزال شمال غرب سوريا.

وقال بلينكن خلال اتصال مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأربعاء، إن على نظام الأسد أن يفي بالتزاماته أمام الأمم المتحدة بخصوص فتح معبري باب السلامة والراعي لأغراض إنسانية، مشيراً إلى أن الحصول على تفويض من مجلس الأمن في هذا السياق، قد يكون ناجعاً بشكل أكبر في حال عدم التزام النظام.

وأوضح أن الحصول على التفويض “قد يمنح الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإنسانية المرونة والقدرة على التنبؤ اللتين يحتاجون إليهما في سبيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين في سوريا بشكل أكثر فاعلية،  لافتاً إلى أنه اتفق مع غوتيريس على مواصلة النقاش في هذه المسألة، بحسب ما جاء في بيان لوزارة الخارجية الأميركية.

وكان النظام قد وافق على فتح معبري الراعي وباب السلامة لمدة 3 أشهر اللذين تسيطر عليهما المعارضة السورية شمال حلب، في حين فشل أعضاء مجلس الأمن بالتوافق على إصدار قرار يلزم النظام السوري بهذا الخصوص.

———————————-

هل تطبّع فرنسا علاقاتها مع دمشق بعد الزلزال؟/ حسن مراد

يحرص الكواكبي على ربط التقارب الفرنسي – السوري بتموضع باريس على الساحة الدولية: همّ فرنسا الأساسي هو المشهد الأوكراني، وعلى أساسه سيتم التعامل مع ملف العلاقة مع دمشق، سلباً أو إيجاباً، إذا ما فُتح.

شرّع حجم الأضرار الناتج من الزلزال الذي ضرب سوريا، أبواب الحديث عن تسييس النظام السوري هذه الكارثة الطبيعية “لإعادة تعويم نفسه”، وذلك عبر التحكم بالمساعدات الإنسانية، بصفته “المرجع الرسمي الوحيد في البلاد”، تمهيداً لفرض نفوذه على المناطق المنكوبة الخارجة عن سلطته، على أمل استعادة بعض من شرعيته الدولية.

ذهب الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، أبعد من ذلك: ففي مقالة نُشرت في صحيفة Le Figaro بتاريخ 7 شباط/ فبراير، اعتبر مالبرونو أن الحدث المستجد قد “يغري إيمانويل ماكرون بالتقارب مع بشار الأسد”، مضيفاً أننا قد نشهد “زلزالاً دبلوماسياً” إذا ما تحوّل الزلزال الطبيعي إلى مدخل للتواصل بين باريس ودمشق.

طرح مالبرونو فرضيته هذه، معتمداً على مصدر داخل قصر الإليزيه كشف له قبل أيام قليلة من وقوع الزلزال، ما يدور في كواليس الرئاسة الفرنسية من قراءة للمستجدات في المنطقة. وفقاً لمصدر مالبرونو، لا ترغب فرنسا في أن “يفوتها القطار”، والمقصود هو التواصل القائم بين دمشق وعواصم عربية مثل أبو ظبي والقاهرة والرياض وعمان. علاوة على ذلك، أشار مصدر سوري للـ Figaro إلى المفاوضات الجارية مع أنقرة، التي “ألحقت ضرراً بسوريا أكثر من باريس”، ليضيف المصدر نفسه للصحيفة الفرنسية “إذاً، يمكننا أيضاً التفاوض مع باريس”.

أعاد مالبرونو التذكير ببعض المبادرات الفرنسية “الصغيرة” تجاه دمشق، مثل السماح باقتراع السوريين المقيمين في فرنسا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بخلاف انتخابات العام 2014. كما شدد مالبرونو على استمرار التواصل الأمني بين الطرفين، على رغم تجميد العلاقات الدبلوماسية منذ أكثر من عشرة أعوام، الأمر الذي ينسجم مع ما كشفت عنه منظمات غير حكومية، في كانون الثاني/ يناير الفائت، حول مراسلات بريدية بين محافظتي شرطة باريس و”غارون العليا” من جهة، والقنصلية السورية في فرنسا من جهة أخرى، “للتحقق من هوية شخصين والمضي في إجراءات الترحيل”. خطوة أكدت عدم تأثر التنسيق الاستخباراتي بالتقلبات السياسية والمطبات الدبلوماسية.  في المقابل، أعاد مالبرونو التذكير بالموقف الرسمي الفرنسي، الذي يشترط انخراط بشار الأسد في “عملية جدية لتسليم السلطة” قبل الشروع في أي تواصل معه.

شرّع حجم الأضرار الناتج من الزلزال الذي ضرب سوريا، أبواب الحديث عن تسييس النظام السوري هذه الكارثة الطبيعية “لإعادة تعويم نفسه”، وذلك عبر التحكم بالمساعدات الإنسانية، بصفته “المرجع الرسمي الوحيد في البلاد”

فرضية مالبرونو لا يمكن فصلها عما نشره وصرح به طوال السنوات الماضية، الى درجة يمكن اعتبارها أقرب إلى “التمنيات الشخصية”. وفقاً لمالبرونو، اتسمت السياسة الفرنسية “باللاواقعية”، لا سيما طرح معادلة “لا لداعش لا لبشار”. على خط مواز، حمّل باريس نصيباً كبيراً مما آلت إليه الأمور بعد “تحريضها المعارضة السورية على التحرك”، تاركة مهمة توفير المال والسلاح “لحلفائها الخليجيين الداعمين أيضاً للمجموعات الجهادية”. أرادت فرنسا “الوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ”، لكنها لم تلحظ، عن عمد، “الاستثناء السوري”.

في محطة أخرى، اعتبر مالبرونو أن السياسة الفرنسية تجاه سوريا “هيمنت عليها العواطف“: نيكولا ساركوزي سارع إلى نزع الشرعية عن بشار الأسد متجاهلاً تقارير الأجهزة الأمنية (المديرية العامة للأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن الخارجي) والدبلوماسية، التي أشارت إلى “قوة النظام”؛ فرنسوا هولاند تسّبب بـ “إهانة” فرنسا حين تأهب لتوجيه ضربة عسكرية الى النظام السوري رداً على استخدام الأسلحة الكيماوية، ليعود ويتراجع بعد تمنّع البيت الأبيض عن المشاركة.

وعاد مالبرونو بالزمن إلى العام 2005 مصوّباً على “الأخطاء الكبيرة” التي ارتكبها جاك شيراك، عقب اغتيال صديقه رفيق الحريري واعتبار ما جرى “استهدافاً شخصياً له”، ليتعامل مع الموقف بـ “منطق الثأر”. على الضفة المقابلة، أشاد مالبرونو بـ “واقعية فرنسوا ميتران” لعقده، في العام 1984، “ميثاق عدم اعتداء” مع سوريا على رغم اغتيال سفير فرنسا في لبنان، لويس دولامار، على يد مجموعات موالية لدمشق في العام 1981.  

يوافق الباحث المتخصص في الشأن السوري، توماس بياريه، على وضع مقالة مالبرونو في خانة “التمنيات”. ففي حديث إلى موقع “درج”، رأى بياريه أن باريس لن تحقق أي مكاسب تُذكر إذا ما أقدمت على خطوة كهذه. وفقاً للباحث الفرنسي، كانت لفرنسا مصلحة تاريخية من نسج علاقات مع سوريا، وتحديداً منذ الثمانينات، بسبب النفوذ الذي تمتعت به دمشق داخل لبنان. لكن الآية انقلبت اليوم: سوريا لم تعد “تحتل” لبنان، فيما يتمتع حزب الله بحضور عسكري على الأراضي السورية. 

صحيحٌ أن فرنسا تسعى إلى التأثير في الداخل اللبناني عبر الدفع إلى تبني برنامج إصلاحي، لكن سوريا ليست شريكها الأنسب إن لنفوذها المتراجع، كما لانغماسها في منظومة الفساد اللبنانية، والكلام دائماً لبياريه الذي أضاف أن حجة التنسيق الأمني ضد الإرهاب ليست بدورها سبباً كافياً لفتح قنوات سياسية مع النظام السوري، نظراً الى وجود أطراف أخرى أكثر فعالية في الميدان السوري، كالقوات الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية.

علاوة على ذلك، يقول الباحث الفرنسي إن قراراً كهذا يفترض تقييماً مسبقاً للواقع الدولي. في هذا الإطار، يطرح بياريه التساؤل التالي: ما الجدوى من تقديم هدية مجانية لموسكو في ظرف مشابه؟

أما إذا كان هناك من دافع للإقدام على مثل خطوة كهذه، سيكون محرّكها، بنظر بياريه، دولة الإمارات. بمعنى آخر، ستضغط أبو ظبي لتليين الموقف الرسمي الفرنسي حيال سوريا مقابل توطيد علاقاتهما الثنائية. يكمل بياريه قائلا إن هذه الفرضية مستبعدة بدورها: فالتقارب مع دمشق وفق هذا السيناريو يصب في مصلحة الخليجيين أكثر من الفرنسيين، كما تدرك فرنسا محدودية النفوذ العسكري والمالي الخليجي داخل سوريا مقارنة بأطراف أخرى مثل إيران وروسيا، ما يحيلنا مجدداً إلى فكرة “الهدية المجانية”. ولا يغيب عن بال بياريه التوقف عند التقارب السوري – التركي، الذي لا يزال في بدايته، ولأغراض انتخابية.    

بناءً على كل ما ورد وبعيداً من كون هذا التقارب المفترض مداناً أخلاقياً وفق بياريه، يعتبر الباحث الفرنسي أن المكاسب التي تستطيع باريس تحقيقها غير واضحة المعالم، وأن المحيطين بماكرون لديهم ما يكفي من العقلانية لينظروا إلى المشهد بإطاره الواسع لا الضيق، ما يدفعه إلى استبعاد السيناريو الذي طرحه مالبرونو. ويشير بياريه إلى وجود تباينات في الأوساط الدبلوماسية الفرنسية، بالتالي قد تكون الغاية من مقالة مالبرونو منح منبر للفريق المؤيد للتقارب مع دمشق، على رغم عدم هيمنته على القرار، مذكراً في الوقت نفسه بموقف الخارجية الفرنسية “المعادي” لبشار الأسد، وفقاً لبياريه. 

من جهته، أوضح مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، سلام الكواكبي، لـ “درج”، أن مالبرونو، كأي صحافي، قد يستقي معلوماته من أطراف مختلفة ولا يكتفي بالمصادر السياسية – الدبلوماسية. بالتالي، لا بد من الأخذ بالاعتبار عدم انقطاع التنسيق الأمني بين باريس ودمشق في معرض مقاربة ما ورد في المقالة المذكورة: المصادر الأمنية تولد انطباعاً بأن عودة الحرارة الدبلوماسية واردة جداً. 

يحرص الكواكبي على ربط التقارب الفرنسي – السوري بتموضع باريس على الساحة الدولية: همّ فرنسا الأساسي هو المشهد الأوكراني، وعلى أساسه سيتم التعامل مع ملف العلاقة مع دمشق، سلباً أو إيجاباً، إذا ما فُتح.

انطلاقاً من الواقع الدولي الراهن، يطرح مدير المركز العربي سيناريوهين اثنين: الأول، احتمال فتح باب المساومة مع فلاديمير بوتين على قاعدة “خذ سوريا وتخلَّ عن أوكرانيا”؛  فيما يتلخص السيناريو الثاني في التعاطي مع ملفي سوريا وأوكرانيا كحزمة واحدة بغية كسر روسيا في الميدانين على حد سواء.   

لا يخفي الكواكبي خشيته من “تقديم سوريا على مذبح المساومة”، على رغم اتخاذ الدبلوماسية الفرنسية “مواقف مشرفة” في محطات سابقة. سبب خشيته هو التخبط في سياسة ماكرون الخارجية التي وصفها بـ “سياسة الغباء المنظم”  لتجنب الأخير اتخاذ موقف حازم، معتقداً في الوقت نفسه أنه يلعب “بذكاء” على كل الحبال: دعم كييف مقابل التمسك بـ “عدم إهانة روسيا على رغم خطأ بوتين التاريخي”. 

من جانب آخر، يعكس طرح فرنسا سيناريو المساومة، برأيه، قصر نظر، لاعتقادها بإمكان تخلّي بوتين عن عمق روسيا الحيوي أو حتى عما حققه في سوريا من نفوذ عسكري (قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية). على خط مواز، يصف الكواكبي سياسة “فصل الملفات” بـ “الاستراتيجية الخبيثة”، إذ تتيح تسجيل نتائج عاجلة، بخلاف منطق الحزمة الواحدة التي تعطي هامشاً للمناورة على رغم نتائجها غير السريعة، لما ينتج منها من “كباش”.   

وتناول مدير المركز العربي، في حديثه لـ “درج”، لقاءاته المتعددة مع دبلوماسيين ورسميين فرنسيين على صلة بالسياسة الخارجية. برأيه، الجهاز الدبلوماسي الفرنسي على دراية بالخارطة السياسية الإقليمية أكثر من ماكرون “المتذاكي”، ما يدفعه الى التعويل على خلق توازن ما في آلية اتخاذ القرار الفرنسي. لكن هذا التصور لا يزيل خشيته بعدما لاحظ، طوال نشاطه الأكاديمي، أن الدراسات والأبحاث التي ينجزها عدد من المستشرقين والباحثين المتخصصين في المجتمعات العربية، لا تصل إلى جميع دوائر القرار.  فقصر الإليزيه مثلاً، يكتفي بطروحات المستشرقين الرسميين، مثل جيل كيبيل، الذين ينتجون أوراقاً بحثية من دون أي تعمق، وهو ما يروق للسياسات الحكومية.                                                                                      

لو أراد إيمانويل ماكرون اتخاذ خطوة كهذه في الظرف الحالي، لن يعجز عن إيجاد الذرائع اللازمة لتسويقها. ففي مناسبات كثيرة، صنّف الإعلام الفرنسي سياسة الرئيس الخارجية في خانة “الواقعية السياسية”.

على سبيل المثال، عندما وُجهت انتقادات الى ماكرون عند استقباله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في العام 2020 ، على رغم مما يحوم حوله وحول نظامه من شبهات حيال ملف حقوق الإنسان، رد الرئيس الفرنسي بأن “سياسة متشددة من الحوار أكثر فعالية من سياسة المقاطعة، التي من شأنها تقويض جهود أحد شركائنا في محاربته الإرهاب وإحلال استقرار إقليمي”. حجة يمكن لماكرون استخدامها إذا ما أراد تبرير أي انفتاح على النظام السوري، لا سيما أن موازين القوى الميدانية لا تميل الى صالح معارضي الأسد.

وقد يعوّل ماكرون كذلك على ثلاثة عوامل داخلية: أولاً، التحديات الاقتصادية والمعيشية التي تدفع الرأي العام الفرنسي إلى إبداء اهتمام أقل بالسياسة الخارجية. ثانياً، التشديد على الواقعية السياسية الذي قد يلقى آذاناً صاغية في الشارع الفرنسي، بخاصة مع الانعكاسات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية. يضاف إلى ذلك عدم ممانعة جزء من أحزاب المعارضة الفرنسية والشخصيات المناوئة لماكرون، لهذه الخطوة، ما يعني المراهنة على عدم الدخول في كباش سياسي.  

يتّفق كلٌ من توماس بياريه وسلام الكواكبي على النقطة الأخيرة لناحية عجز الرأي العام الفرنسي عن عرقلة خطوة كهذه إذا ما اتُّخذت، وذلك استناداً إلى مواقف أحزاب المعارضة: من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار مروراً بأحزاب اليمين واليسار التقليديين، لا تنفك أحزاب وشخصيات فرنسية معارضة لماكرون تنتقد الموقف الرسمي الفرنسي إن في تصريحاتها الرسمية وحملاتها الانتخابية أو حتى عبر زياراتها الدورية لدمشق ولقائها الرئيس السوري.

صحيحٌ أن أصواتاً معترضة، من أطياف ومشارب سياسية متعددة، ستعلو رفضاً لهذه الخطوة إذا ما أقدمت عليها باريس، لكن من دون القدرة على “وضع العصي في دواليبها”. الوحيدون الذين سيدخلون في كباش مع ماكرون، وفقاً للكواكبي، هم بعض النخبة المحرومين من الثقل السياسي اللازم، بينما اعتبر بياريه أن معارضة الأكاديميين والمثقفين لن تتعدى إصدار البيانات وتوقيع العرائض.

درج

————————–

نحن الرقم صفر في زلزال تركيا/ جهان حاج بكري

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

أذكر اليوم الأول الذي وصلتُ فيه إلى منزل في تركيا، شعرت حينها بالأمان، كنت فتاة شابة هاربة من حرب دمرت ملايين السوريين وهجّرتهم، تبحث عن منزل هادئ وفرشة تنام عليها لساعات طويلة، من دون أن يوقظها أحد على صوت يصرخ “إجت الطيارة”.

هذه الجملة كنت أسمعها حينها من عمتي، التي توفيت قبل أيام في زلزال مدينة أنطاكيا، وهي لا تزال حتى لحظة كتابتي هذا المقال تحت الركام.

اعتادت عمتي التجوّل بين المنازل، والبحث عنا جميعاً لتوقظنا، وبصوت مرتفع وخائف ومرتجف تصرخ “إجت الطيارة يا عمتي اطلعوا من البيوت”، نعم كنا نخاف من الموت تحت الركام، خوفنا الأكبر كان أن تقصفنا براميل الأسد ونبقى تحت الركام، كنا نهرب من المنزل ليس خوفاً من الموت، بل من طريقة الموت تحت الأنقاض، أن نبقى لأيام عالقين نختنق رويداً رويداً.

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

أنطاكيا ليست مدينة عادية بالنسبة إلي، ليست مجرد ملجأ لهاربة من الحرب، هي أكثر من ذلك بكثير، هي الأمان، والمكان الوحيد الذي استطعت التجوّل فيه بحرية من دون النظر نحو السماء انتظاراً لطائرة الموت، هي المكان الذي تمكّنت فيه من فعل كل الأشياء التي أحبها بمتعة ومن دون عجل، هي المدينة الوحيدة التي نظّمت فيها مواعيدي حسب الساعة، بغض النظر عن انطفاء المولّد أو قدوم الطائرة.

 “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

قبل هذه المدينة لم تكن لدينا ساعات، كانت مواعيدنا مرتبطة بمواعيد القصف وقدوم الطائرة، حتى سهراتنا كانت تبدأ بعد ذهاب الطائرة، شرب القهوة وكل التفاصيل الأخرى كانت مجدولة وفق مواعيد القصف.

ماذا عن اختيار مدن اللجوء، بخاصة بالنسبة إلينا نحن السوريين الهاربين من مدينة اللاذقية، لقد توزعنا في مرسين حيث البحر، وفي أنطاكيا المحاذية لحدود اللاذقية من الجانب السوري، مدينة تشبه لاذقيتنا كثيراً، حتى أننا غيرنا أسماء شوارعها وبعض معالمها، فبات هناك دوار، السراميك والهوندا (نسبة الى شبهه بدوار في مدينة اللاذقية يحمل الاسم نفسه)، وباتت هناك حارة اسمها حارة اللوادقة، حيث تتجمع فيها عشرات الأسر من مدينتي.

نحن الذين خرجنا نحو هذه المدينة سيراً على الأقدام عبر الغابات والحدود، حاملين بعض الملابس، اليوم نخرج منها نحو بلادنا عائدين، مع فارق بسيط هو أن هناك سيارات تحمل توابيتنا بداخلها، خرجنا أسماء وعدنا أرقاماً.

سأحدّثكم أيضاً عن سير الزمن بعد الزلزال، وحالة التشرد والحيرة والعودة مجدداً إلى نقطة البداية، إلى الصفر، ذلك الصفر الذي رافق حياة عشرات السوريين الذين هربوا من مناطق النظام نحو المنطقة المحررة، وبدأوا من الصفر، فأسسوا حياة جديدة، لكنهم بعد سنوات، هجروا أيضاً إلى أنطاكيا.

ومجدداً أسسوا أيضاً من الصفر منازل، وفتحوا محلات وأعمالاً، ونجحوا في العثور على عمل، وأخيراً بدأ أطفالهم بالدراسة، ليعودوا الآن إلى الصفر.

نعم نحن الرقم صفر، ليس فقط هو عنوان حياتنا، بل في حياة الآخرين أيضاً وفي نظر الجميع… لا تستغربوا دموعنا الكثيرة وحزننا الشديد على منازل هي ليست لنا أصلاً، دفعنا ثمن استئجارها بأيام عمل طويلة ومرهقة، وبأعمال شاقة تركها لنا الأتراك، نعم لا تستغربوا نحن نبكي صفرنا الذي وقفت عنده الحياة، نحن نبكي ألمنا وقهرنا، وحظّنا المتعثّر.

تعلّقنا بأنطاكياً كثيراً، على رغم أنها كانت سجناً كبيراً لنا، كنا ممنوعين من الخروج منها إلا بإذن سفر، وغالباً لا ينجح أي منا في الحصول عليه، نبكي اليوم غباءنا حين فرحنا بوصولنا إلى هذه المدينة معتقدين أننا نجونا، في الحقيقة نحن فقط أجّلنا موتنا وغيرنا طريقته، نبكي لأننا لم نكن تحت ركام منازلنا، لأننا لم نُدفن بأرضنا.

أريد أن أخبر عمتي أن الطائرة قد أتت “إجت الطيارة يا عمتي”، أعرف أنك عاجزة هذه المرة عن الهرب، ولكن لا تخافي، لأنها أتت بمهمة مختلفة، ربما للتصوير، أو لنقل بعض المساعدات أو ربما تحمل متطوعين ليساعدوا في البحث عنك… “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

درج

—————————-

زلزال تركيا – سوريا… فاجعة آل حاج بكري والمقبرة المُرتجلة رقم (901)/ أحمد حاج بكري

بلغ عدد الضحايا من أقربائي، حتى هذه اللحظة، الـ30، كلهم في المقبرة (901)، الرقم الذي سيبقى محفوراً في ذاكرة عائلتنا، فإن تلاشت أسماؤهم من القبور، سنعلم أنهم كلهم هناك، في مقبرة مرتجلة، منحها إيانا غريب، بعد سبعة أيام من الزلزال.

استيقظت سريعاً لاستلام الجثث من البراد، هنا لا يسمح لك بالنوم أكثر من ساعتين، تتبعنا سيارة الـ”كيا” المخصصة عادةً لنقل الفواكه، بعدما وضعنا فيها الجثث متّجهين الى المقبرة الجديدة في “ييلاداغ”، التي تحمل اسم المقبرة (901)، وتبعد من أنطاكيا نحو خمسين كيلومتراً.

هي ليست مقبرة رسميّة. وهب رجل صالح أرضاً زراعية لتكون الملاذ الأخير للسوريين الذين قضوا في الزلزال. كان هذا الخبر من أجمل الأخبار التي سمعتها الأسبوع الماضي، إذ لم أكن أعلم أين سندفن الجثث، فمنذ أسبوع مضى وحتى اليوم أصبح عملي اليومي هو البحث بين الركام خلال النهار، وانتشال الجثث وتجميعها، ونقلها مساءً الى “ييلاداغ “، والاستيقاظ فجراً لدفنها في المقبرة، المفارقة أني تدربت على هذا العمل قبل سنوات، كوني كنت صحافياً مقيما في سوريا، وكان عليّ أن  أتعلم كيف أخرج جسداً من تحت الركام.

كنت في اسطنبول حين سمعت خبر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا في الساعة 4.17 فجراً، لم أكن نائماً حينها، وحاولت مسرعاً التواصل مع من أعرفهم من أقارب وأصدقاء، تابعتُ الأخبار الواردة التي كانت تتوارد سريعاً من مناطق الزلزال، لأن عملي يقتضي ذلك، ولي الكثير من الأهل والأصدقاء الذين يسكنون جنوب البلاد.

حاولت التواصل سريعاً مع الأهل والأصدقاء للاطمئنان عليهم، خلال ساعة من المحاولات لم أتمكن من الوصول الى أحد منهم، لكن تشكلت لدي صورة عن حجم الخسائر والدمار حين بدأت وسائل الإعلام تنشر عدد الضحايا الذين أصبحوا بالآلاف. تجهزت سريعاً مع أخي وابن عمي وخرجنا من اسطنبول قاصدين أنطاكيا. لم تردنا أي معلومات من هناك عن أقاربنا وأهلنا، لم نكن نعلم أن المدينة خرجت عن الخدمة، إذ لا كهرباء أو ماء أو إنترنت.

تمكنا نحو الساعة 12 ظهراً من التواصل مع أول شخص نعرفه يقيم في أنطاكيا، علمنا أنه بخير، لكنه لم يكن يعرف ظروف بقية أفراد العائلة، ورويداً رويداً بدأت المعلومات تتوارد من هناك.

 لم يجب أحد من عائلة عمتي حين اتصلنا بهم، لكن ما نعرفه أن عمي  وزوجته خرجا من تحت الركام بعد ثماني ساعات، وأخبر الأقارب في أنطاكيا أن ابنه وزوجة ابنه كانا في المنزل، لكنه لم يسمع منهما أي صوت.

أستطيع أن أجزم وأنا أشاهد الخراب، بأن من هم تحت الأنقاض أكثر ممن هم فوقها.

يستغرق الطريق من اسطنبول الى أنطاكيا نحو 16 ساعة، لكنه كان أطول بكثير بالنسبة إلي، كانت الظروف الجوية سيئة للغاية، فالثلج يغطي الطرقات ولم نكن نستطيع الإسراع، كنا نحاول البقاء على قيد الحياة كي ننتشل من بقي تحت الركام، ولا نريد أن نتيح الفرصة أمام المزيد من الموت.

كانت الاتصالات التي تأتينا من الناجين في أنطاكيا، تخبرنا بأن المدينة دُمرت بالكامل، لم نكن نتخيّل حجم الدمار، مررنا بأنقرة وأخذنا معنا ما يمكن أخذه، وحملنا ما يمكن حمله معنا ليساعدنا في الطريق من أضنة الى أنطاكيا.

الطريق مغلق تماماً بالسيارات، الازدحام يفوق الوصف، كأنه نزوح جديد من حلب، لكننا وصلنا في النهاية. التقينا بعمي وزوجته وبنت عمي وزوجها مجتمعين في سيارتهم في منطقة بعيدة من الأبنية، اختاروها ليمضوا فيها الأيام المقبلة، لكن لم يتمكن أحد منهم من وصف ما حدث بدقة، كان الجميع عاجزين عن قول كلمة واحدة بحق ما حدث.

حاولنا التوجه الى منازل العائلة في أنطاكيا، كانت الطرقات مغلقة والأبنية مدمّرة ، وكان السير على الأقدام هو الخيار الوحيد. ركنا السيارة وتابعنا الطريق سيراً، تجولنا في أنطاكيا متنقلين بين منازل العائلة إلى حين وصلنا الى منزل عمتي.  هناك شاهدنا سيارة ابن عمتي أمام الباب، فعلمنا أن أفراد العائلة لم يغادروا، كون السيارة في مكانها. اتفقنا حينها أن تحمل قبورهم حين ندفنهم رقم “901”، وهو رقم سيارة ابن عمتي نفسه.

أستطيع أن أجزم وأنا أشاهد الخراب، بأن من هم تحت الأنقاض أكثر ممن هم فوقها، لكن لا وقت الآن، عند الوصول إلى أي منزل كنا نصرخ بصوت واحد، هل من أحد يسمعنا. لا جواب. نُردد أسماء أقاربنا واحداً واحداً عند كل منزل، على أمل أن نسمع رداً واحداً على الأقل، لكن هذا ما لم يحدث.

أمضينا ليلتنا الأولى في السيارة، كنت قبلها بيوم من دون نوم أيضاً، نمنا لساعتين بعد طريق سفر طويل جداً، وصباحاً بدأنا العمل بأيدينا في كل منزل، كنا نحاول فتح ثغرة محاولين الوصول إلى من في الداخل، لم تكن الآليات قد وصلت بعد، وفرق الإنقاذ الموجودة كانت تحاول إخلاء المباني التي لم تدمّر بالكامل، لكن لسوء حظنا لم تكن أي من منازل العائلة بهذا الشكل، فجميعها سُويت بالأرض.

لم نستطع في اليوم الأول، أن نحصل على أي دعم أو استخراج أي جثث. جلسنا مساءً مع من بقي من العائلة على قيد الحياة، وأكبرهم عمي الذي بقي ابنه وزوجته وأحفاده تحت الركام، وخرج هو وزوجته. لم تكن هناك أي كلمات مواساة. لم يبك عمي، بل وقف مخاطباً إيانا قائلاً إننا سنعمل على انتشال جميع جثث أفراد العائلة، وسندفنها في مقبرة واحدة بالقرب من بعضها البعض، تقابلها في الطرف السوري قرانا ومناطقنا التي  لا تبعد من هذه المدينة أكثر من ثلاثين كيلو متراً.

يُكمل عمي حديثه قائلاً إنه في حال كتب الله لنا العودة الى سوريا يوماً ما، نستطيع زيارتهم متى نشاء، وفي حال كتب لنا الله أن نبقى مشردين ومهجرين، فيمكننا أن نزورهم أيضاً.

الإتجار بالأطفال: الجانب المخفي من زلزال سوريا وتركيا

لم أكن أدرك حجم الكارثة، وافقنا جميعاً وقلنا حاضر. لم نكن نعلم أن الظروف ستمنعنا حتى من تحقيق هذا الحلم. كنا نتوقع أن نخرجهم خلال يومين أو ثلاثة أيام، لكننا أمضينا ثلاثة أيام حتى استطعنا استخراج الجثة الأولى، وهي جثة ابن عمي، عبد السلام محمود، الرجل الخمسيني الذي عانى ما عاناه تحت الأنقاض، فهو كان دُفن سابقاً تحت الأنقاض في سوريا، لكن حينها تمكّنا من أن نخرجه حياً بعد أن دمّر برميل متفجر منزله في قريتنا الصغيرة في ريف اللاذقية عام 2013.  أذكر أن محمود فقد السمع في أذنه اليمنى، لكنه بقي على قيد الحياة، خائفاً من أن يموت تحت الأنقاض، كان كلما اجتمعنا به يحدثنا عن كل ما حدث معه، وكيف قتل البرميل اثنين من أبناء عمي وأصاب آخرين.

كان محمود يحدثنا عن كيفية نقله الى المستشفى، وعن محاولات لاستخراجه من تحت الركام. أعتذر هنا لمحمود، لأننا فشلنا هذه المرة في أنطاكيا، ولم ننجح في إزالة الأنقاض عنه. انتشلنا بعد دقائق جثة زوجته، ابنة عمتي خديجة، كانوا بالقرب من باب المنزل يحاولون الهروب الى الحياة، لكن فشلت محاولتهم. نقلنا محمود وابنة عمي الى براد في “ييلاداغ” على أمل أن ننجح في اليوم التالي في انتشال ما تبقى من جثث تحت الأنقاض.

 تفاجأت في اليوم الثاني باتصال من مسؤول البراد يطلب مني الحضور في الحال لاستلام الجثث، إذ لا يسمح لها بالبقاء أكثر من يوم واحد، ويجب أن نخرجها في الحال، فأعدنا هنا ترتيب خطتنا، واتفقنا على أن نقسم اليوم إلى ثلاث مراحل، صباحاً ندفن ما لدينا من جثث، ومن ثم نتجه الى أنطاكيا ظهراً لانتشال ما نستطيع، ومساءاً ننقل ما تجمع إلى البراد.

بلغ عدد الضحايا من أقربائي، حتى هذه اللحظة، الـ30، كلهم في المقبرة (901)، الرقم الذي سيبقى محفوراً في ذاكرة عائلتنا، فإن تلاشت أسماؤهم من القبور، سنعلم أنهم كلهم هناك، في مقبرة مرتجلة، منحها إيانا غريب، بعد سبعة أيام من الزلزال.

درج

—————————–

لماذا كان زلزال تركيا مدمّراً إلى هذا الحد؟/ نور سليمان

أكثر من 100 شخص اعتُقلوا في جميع أنحاء المقاطعات العشر المتضررة من الزلزال، بعد أن أمرت وزارة العدل التركية بإنشاء وحدات “للتحقيق في جرائم الزلزال”، وأكدت السلطات عزمها على محاسبة كل المتورطين في بناء مجمعات سكنية مخالفة في تركيا.

نهاية عام 2022، وبعد زلزال بقوة 5.9 درجة على مقياس ريختر، أصدر اتحاد المهندسين والمعماريين التركي بياناً قال فيه إن تركيا “لم تقم بواجباتها قبل وقوع الزلزال كما تعهدت، وإن الإشراف على شروط البناء في البلاد لا يزال حبراً على ورق”، على رغم أن قواعد البناء التركية تتم مراجعتها بشكل دوري منذ زلزال 1999، وأجريت آخر مراجعة لها عام 2018.

نتائج “التقصير” السابق كانت واضحة حين ضرب الزلزال المدمر جنوب تركيا وشمال سوريا الأسبوع الماضي، وأدى إلى مقتل وإصابة عشرات آلاف الأشخاص في البلدين، وخلف دماراً هائلاً حيث دُمر وتضرر أكثر من 24921 مبنى في جنوب تركيا، وفق ما أعلنت وزارة البيئة التركية.

شوهدت تلك المباني وهي تنهار بشكل سريع وكامل، وتحولت إلى غبار وكأنها مصنوعة من ورق، في بلد شهد تاريخاً من الزلازل المدمرة، ومن المفترض أن تراعَى شروط السلامة ومقاومة الزلازل في عملية البناء. وهنا السؤال، لماذا انهار هذا العدد الكبير من المباني إذاً؟

“وصلت شدة الزلزال إلى أقصى درجاتها، لكنها ليست كافية بالضرورة لهدم مبانٍ مشيّدة بشكل جيد.”

عقود من الإهمال

بعد عشر سنوات من وقوع زلزال في إزميت عام 1999 ومقتل أكثر من 17 ألف شخص، تعهدت الحكومة التركية بفرض معايير بناء جديدة، ووضع خطة لتدعيم المباني القائمة. تضمنت الخطة تخصيص مئات المساحات كنقاط إخلاء في حالات الطوارئ. لكن، مع مرور السنوات، أدى التوسع العمراني الكبير إلى إلغاء الكثير من التحسينات المخطط لها استعداداً للزلازل، وبُنيت ناطحات السحاب على الأراضي المخصصة للإخلاء.

حذر الاتحاد من أن البنية التحتية في تركيا غير قادرة على التعامل مع زلزال كبير، لأن المباني القديمة في جميع أنحاء البلاد لا تراعي قوانين البناء الحديثة المقاومة للزلازل، وعلى رغم أن خطط البناء الحديثة تتطلب معايير أكثر تطوراً، إلا أنه لا يتم الالتزام بها في معظم الأحيان.

أشارت وكالة “أسوشيتد برس” في تقرير لها، إلى أن الإهمال في اتباع إجراءات السلامة في أنظمة وقوانين البناء التركية، لعب دوراً أساسياً في تعميق الكارثة التي أعقبت الزلزال الأخير، لأن المناطق التي تضررت من الزلزال كانت تضم مبانيَ قديمة متهالكة، بالإضافة إلى المباني الحديثة التي لم تُتّبع فيها قواعد البناء الصحيحة.

نقل التقرير عن خبراء قولهم، إن تركيا تجاهلت على مدار سنوات طويلة، فرض قوانين البناء الحديثة واتباع قواعد السلامة، وشجعت الاستثمار العقاري وتوسيع أعمال التشييد والبناء في المناطق التي حذّر خبراء الجيولوجيا والهندسة من احتمالية تعرّضها للزلازل، وأرجع الخبراء ذلك إلى كون تركيا تتجنب معالجة المشكلة كونها مكلفة اقتصادياً.

وذكرت الوكالة دلائل عدة على الإهمال الحكومي، منها العفو الذي منحته السلطات التركية للشركات والأفراد المسؤولين عن انتهاكات قوانين البناء والاكتفاء بتغريمهم، قبل وقت قصير من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا في عام 2018، على رغم كل التقارير التي أفادت بأن أكثر من نصف المباني في تركيا، أي نحو 13 مليون شقة، لا تطابق المعايير الصحيحة، بالإضافة إلى البناء من دون تراخيص وإجراء توسيعات مخالفة كزيادة طوابق وشرفات، ووجود ما يسمى بالمنازل العشوائية التي يسكنها محدودو الدخل.

أضفى العفو شرعية على المباني غير الآمنة، وكان وسيلة لتأمين الأصوات لأردوغان وحزبه، وفق ما نقلته الوكالة عن رئيس غرفة المهندسين المعماريين في تركيا، والذي قال: “ندفع الثمن الآن بآلاف القتلى ودمار آلاف المباني، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الفادحة”.

أبنية حديثة مخالفة للشروط

تبيّن في تحقيق لـ”بي بي سي”، أن عدداً من المباني التي دُمرت بالكامل في الزلزال في ملاطية وأنطاكيا والإسكندرون، شُيدت حديثاً العام الماضي وفي عام 2019، وأن الإعلانات التي روّجت لها كانت تدّعي أنها بُنيت وفق أحدث أنظمة مقاومة الزلازل، وأن جميع المواد المستخدمة في البناء كانت من الدرجة الأولى من ناحية الجودة.

تشييد هذه المباني حديثاً يعني أنها تخضع لأحدث معايير السلامة، التي تتطلب استخدام الهياكل الخرسانية عالية الجودة والمدعمة بقضبان فولاذية، كما يجب توزيع الأعمدة لامتصاص تأثير الزلازل بشكل فعال.

وعلى رغم أن الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر، كان مدمراً، يقول الخبراء إن المباني لو كانت مشيّدة بشكل صحيح، لما انهارت، وبقيت قائمة، بدليل أن مقاطع الفيديو المتداولة أظهرت مبانيَ كثيرة في المناطق المتضررة لم تدمّر بفعل الزلزال، وحتى إن انهار مبنى ما، يمكن للناس عادة الاختباء حتى تتمكن فرق البحث من إنقاذهم، لكن هذه المرة تساقطت طبقات أبنية فوق بعضها البعض مثل الصفائح.

يؤكد ديفيد ألكسندر، خبير في التخطيط وإدارة الطوارئ في “يونيفرستي كوليدج لندن”، لـ”بي بي سي”: “وصلت شدة الزلزال إلى أقصى درجاتها، لكنها ليست كافية بالضرورة لهدم مبانٍ مشيّدة بشكل جيد. لذلك، يمكننا استنتاج أن جميع المباني التي انهارت وعددها بالآلاف، لم تتماشَ مع أي معيار بناء خاص بالزلازل”.

وقال شهود عيان كانوا يقفون إلى جانب أحد المباني المدمرة، في حديث لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، إنهم لاحظوا أن الخرسانة المستخدمة في البناء تشبه الرمل، وأن العواميد الحديدية رفيعة جداً وتبدو كأنها غير صلبة أبداً، في إشارة إلى استخدام مواد أولية رخيصة في عملية البناء، ونوعية رديئة من الإسمنت الذي يُمزج مع كثير من الماء والحصى.

يضيف جنك يالتراك، أستاذ في قسم الجيولوجيا في جامعة إسطنبول التقنية، لصحيفة “حريت ديلي نيوز”، إن “صور الأقمار الصناعية تكشف أن الزلزال لم يلحق أضراراً بالمنازل الواقعة بالقرب من خطوط الصدع، أو في المناطق الجبلية”، مشيراً إلى أن “مساحات البناء في المنطقة اختيرت بشكل عشوائي وغير علمي”، ما يعني أن تلك المنطقة كانت يجب أن تكون خالية من المباني السكنية لوقوعها بشكل مباشر على خط الزلازل.

وعود جديدة

في أولى خطواتها للمحاسبة، نفّذت السلطات التركية حملة اعتقالات طاولت عشرات المقاولين والمهندسين المعماريين، وذكرت وكالة أنباء الأناضول، أن أكثر من 100 شخص اعتُقلوا في جميع أنحاء المقاطعات العشر المتضررة من الزلزال، بعد أن أمرت وزارة العدل التركية بإنشاء وحدات “للتحقيق في جرائم الزلزال”، وأكدت السلطات عزمها على محاسبة كل المتورطين في بناء مجمعات سكنية مخالفة في تركيا.

وانتشر مقطع فيديو يظهر فيه محمد يشار جوشكون وهو يحاول مغادرة البلاد عبر مطار اسطنبول، يُذكر أن جوشكون مقاول بناء تركي مشهور، بنى مجمع “رينيسانس ريزيدنس” السكني الذي انهار بالكامل إثر الزلزال، وهو كان يحوي 250 شقة ويقع في ولاية هاتاي جنوب شرقي تركيا، ولم يبق منه شيء سوى الحطام.

انتقادات واسعة تطاول السلطات التركية خوفاً من تكرار تراخيها في محاسبة المتورطين، خصوصاً أن أحد كبار المقاولين، وهو فيلي غوشار، والذي اعتُقل إثر انهيار المجمعات السكنية التابعة له في زلزال عام 1999، خرج من السجن بعد سبع سنوات فقط، على رغم الحكم الصادر بحقه بالسجن 18 عاماً و9 أشهر.

تأتي هذه الاعتقالات أيضاً فيما وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مواطنيه بإعادة إعمار المناطق المتضررة خلال عام واحد فقط، وسط مخاوف من استثمار أردوغان في الكارثة لكسب شعبية واسعة قبل الانتخابات المقبلة، وإطلاقه وعوداً واهية في سبيل ذلك، ما يعني استمرار نهج الإهمال والتراخي في تطبيق شروط السلامة في البناء، وتعريض البلاد لكوارث مشابهة في المستقبل.

درج

—————————

الإتجار بالأطفال: الجانب المخفي من زلزال سوريا وتركيا/ زينة علوش

شبكات ممتدة، استغلت حالة التفلت الأمني والإداري، وعززت ممارساتها بمزاج شعبي يرى في التبني الدولي إنقاذاً للطفل\ة، على رغم أن دراسات كثيرة تؤكد أن 60 في المئة من حالات التبني الدولي يكون مصيرها الفشل المتمثل بالتخلي مجدداً عن الأطفال لصالح المؤسسات الرعائية في بلد التبني.

على عادتها وعند كل كارثة، تنشط شبكات الإتجار بالأطفال لأغراض التبنّي غير الشرعي. صور الرضّع الناجين\ات المتداولة على الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، تتحوّل إلى إحداثيات رصد تتحرك على أثرها هذه الشبكات، تحت مسميات العمل الخيري الإنقاذي، لتسهيل انتقال متسرّع للأطفال من المناطق المتضررة إلى دول الشمال، حيث الطلب المتزايد على أطفال للتبني.

خلال تغطيتها الإعلامية لأضرار الزلزال، تروي الصحافية مهى حطيط، مشاهداتها في منطقة كهرمان مرعش. كانت هناك تجمعات كثيفة وقريبة من المباني المهدّمة، فسألت مهى أحد العاملين بالإنقاذ عما إذا كان هذا الوجود يشكّل خطراً على الناس. قال بلى هناك خطر، لكن الأهالي والأقرباء يرفضون الابتعاد خوفاً من وجود أشخاص قد يقومون بسرقة الأطفال. وكانت الأجهزة الأمنية في تركيا وسوريا قد حذرت من وجود عصابات تعمل على خطف الأطفال غير المصاحبين\ات من ذويهم. 

تشير تقارير صادرة من المقلب التركي، أن الحكومة نقلت الكثير من الرضع الذين وُجدوا من دون أهلهم إلى اسطنبول، حيث وضعوا تحت رعاية المؤسسة الحكومية. علماً أن المصادر الرسمية تحدثت عن 21 رضيعاً، لكن يكون هذا الرقم غالباً هو رأس هرم الجليد. أما في المقلب السوري، فلا معلومات بالمطلق مما يشكل مسرحاً خصباً للإتجار بالبشر، لا سيما أن الوضع الأمني المتفلت وغياب الرقابة قد يشكلان أرضاً خصبة لنشاط شبكات متمرسة في هذه الأعمال. وفي المقلب الآخر، أعرب كثيرون عن رغيتهم في تبني الرضع، ما يشرع الأبواب على إتجار مفتوح لا ضوابط أخلاقية تحكمه.

تاريخياً، لقد عرّضت الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة والركود الاقتصادي… المزيد من الأطفال لخطر التبني الدولي غير الشرعي. في مقالته بعنوان “التبني على المستوى الدولي بعد هايتي؛ الإنقاذ أم السرقة؟” المنشور عام 2012، انتقد الباحث بيتر سلمان، تسهيل التبني كإجراء إنقاذي للأطفال. كانت عمليات رفع الأنقاض من الزلزال الذي بلغت قوته 7.0 درجات، والذي ضرب هايتي في عام 2010، ما زالت مستمرة حين نُقل أطفال لأغراض التبني جواً إلى كندا وفرنسا وألمانيا وهولندا، ليتم الكشف في ما بعد عن أن عدداً كبيرا من أهالي هؤلاء الأطفال كانوا يبحثون عنهم.

آنذاك، ألقت الشرطة الهايتية القبض على 10 مواطنين أميركيين ضُبطوا وهم يحاولون إخراج 33 طفلاً من الدولة التي ضربها الزلزال، وذلك في إطار خطة تبنٍّ غير شرعي. ونفت واحدة من المشتبه بهم، والتي تقول إنها رئيسة جمعية خيرية تسمى New Life Children’s Refuge ، أنهم لم يرتكبوا أي خطأ عبر تهريب الأطفال في سياراتهم عبر الحدود البرية، مستغلّين حالة الفوضى في هايتي وفتح الحدود لتسهيل مرور المساعدات. وقالت السلطات حينها، إن الجمعية لم تكن لديها أي وثائق تتيح لها تسهيل تبني 33 طفلاً – تتراوح أعمارهم بين شهرين و12 عاماً – ولا يوجد أي دليل على أنهم أصبحوا أيتاماً بفعل الزلزال.

أكثر من 10 آلاف طفل\ة تم تبنيهم بطريقة غير شرعية خلال الحرب في لبنان، في إطار عمل منظّم تورط فيه محامون وأطباء ومستشفيات ومخاتير ،وصولاً إلى تزوير أوراق ثبوتية ووثائق سفر.

وفي عام 2004، استجاب عدد كبير من المتطوعين والمنظمات من جميع أنحاء العالم، للمساعدة في عمليات الإنقاذ بعد التسونامي الهائل الذي ضرب جنوب شرقي آسيا والساحل الشرقي لأفريقيا.  كارثة مهولة أودت بحياة أكثر من 170000 إنسان وتشريد ما يقدر بحوالى 1.5 مليون شخص. آنذاك أيضاً، نُقل أطفال كثر بطريقة غير شرعية لأغراض التبني، ليتبين بعد ذلك أن الكثير من الأهالي كانوا يبحثون عن أطفالهم المفقودين.

تؤكد التقارير الدولية، أن هذه الظاهرة نفسها ترافقت مع زلزال إيران عام 2003 وكل الحروب والنزاعات المسلحة التي شهدها العالم على مر العصور. وهنا لا بد من التذكير بأن أكثر من 10 آلاف طفل\ة تم تبنيهم بطريقة غير شرعية خلال الحرب في لبنان، في إطار عمل منظّم تورط فيه محامون وأطباء ومستشفيات ومخاتير ،وصولاً إلى تزوير أوراق ثبوتية ووثائق سفر. شبكات ممتدة، استغلت حالة التفلت الأمني والإداري، وعززت ممارساتها بمزاج شعبي يرى في التبني الدولي إنقاذاً للطفل\ة، على رغم أن دراسات كثيرة تؤكد أن 60 في المئة من حالات التبني الدولي يكون مصيرها الفشل المتمثل بالتخلي مجدداً عن الأطفال لصالح المؤسسات الرعائية في بلد التبني.

للأسف، تشكل حالات الطوارئ – لا سيما الكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة – فرصة متاحة لمدعي العمل الإنقاذي لتسهيل الإتجار بالأطفال لأغراض التبني، في ظل فوضى عارمة وتصدّع البنى التحتية الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي، فضلاً عن الاتصالات. هي أوضاع تضعف قدرة الحكومات على إدارة الأزمة. نتيجة لذلك، تزداد الأخطار على الأطفال بشكل كبير بسبب تعرض البيئة الحامية للأسرة والمجتمع والحكومة للخطر. هي أوضاع يكون الأطفال غير المصحوبين بذويهم و / أو المنفصلون عن مقدمي الرعاية الأساسيين، أكثر عرضة للإتجار والاستغلال الجنسي. والمخيف في هذا كله، أن بعض من يسهّلون التبني عاملون في المجال الإنقاذي.

في عودة الى الوضع المأساوي الراهن في سوريا وتركيا، فهناك دلائل كثيرة تشير إلى نشاط متزايد لشبكات الإتجار بالأطفال لأغراض التبني. ووسائط التواصل الاجتماعي حافلة بدعوات لتبني الأطفال وأشخاص يعربون عن استعدادهم لدفع مبالغ طائلة للتبني. وربما هناك أشخاص صادقون وراغبون في المساعدة، لكن وللأسف فهناك أيضاً من هم متربصون بفرص الكسب المادي كحد أدنى ومن هم غير صالحين لرعاية طفل، بل يسعون وراء الاستغلال الجنسي على سبيل المثال. وتؤكد الدراسات المتخصصة، خطورة التبني الناجم عن الإتجار بالأطفال، وأن نسبة كبيرة من العائلات التي تعتمد هذه المقاربات، هي غير صالحة للتبني في بلدها الأصل. وتلجأ هذه العائلات غالباً إلى ما يسمي بشركات التبني Adoption Agency للحصول على أطفال من بلدان معظمها تعاني من الكوارث أو الحروب أو الفساد. وتؤكد الدراسات والتقارير الدولية أن غالبية حالات التبني الدولي غير شرعية وتتقاطع مع الإتجار بالأطفال في بلد الأصل، إلا أن دول التبني تشرع هذه المسارات عند دخول الطفل\ة المتبن\اة إلى حدودها.

وهنا لا بد من طرح الكثير من الأسئلة حول عمل المنظمات الدولية المعنية بحماية الأطفال، أين هي من وضع استراتيجيات تدخل إنقاذي خلال الكوارث تحمي الأطفال من هذه الأخطار؟ لماذا هذا الغياب وكأنها الكارثة الطبيعية الأولى؟ أين ملايين الدولارات التي تنفق على سياسات الحماية في حالات الطوارئ؟

وكيف تسمح دول الشمال والتي تصنف نفسها حارسة لحقوق الإنسان، بشرعنة التبني الدولي مع يقينها أن المسارات المؤدية إلى انتقال الأطفال من بلد الأصل تتقاطع مع أعمال الخطف والتهريب والتزوير والإتجار.

درج

—————————

هل يقتل الله الفقراء ليرينا قدرته؟/ حسين الوادعي

تجاهل الخطاب الديني صور المساجد المدمّرة والمآذن المنهارة، لأنها لا تتناسب مع دعوى تذكير العباد بدينهم وربّهم. فكيف يذكرهم الله بنفسه ويهدم في الوقت نفسه المساجد ودور العبادة، التي سيعبدونه فيها؟

لا تخلو المآسي البشرية من المصطادين في الماء العكر.

ففي عز مأساة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، موقعاً آلاف القتلى وملايين المتضررين، فضّلت بعض الأصوات حرف الاهتمام عن المأساة الإنسانية والحديث عن أن الزلزال غضب من الله بسبب معاصي الناس.

ولأن الزلزال ضرب دولة يعتبرها كثر من حملة الخطاب الديني، أرض الخلافة الموعودة، فقد عدلوا صحيفة الاتهام قليلاً ليصبح الزلزال رسالة من الله ليذكرنا بعظمته وقوته، بدلاً من الاتهام التقليدي بكونه عقاباً على المعاصي!

وتجاهل الخطاب الديني صور المساجد المدمّرة والمآذن المنهارة، لأنها لا تتناسب مع دعوى تذكير العباد بدينهم وربّهم. فكيف يذكرهم الله بنفسه ويهدم في الوقت نفسه المساجد ودور العبادة، التي سيعبدونه فيها؟

لكن على رغم هذه التعديلات المسيّسة، لم يخرج خطاب استثمار الكوارث والمآسي لترويج خطاب التوبة عن فكرته الرئيسة: تحقير الإنسان وتحويله الى عاص وغافل ينال ما يستحقه من فجائع.

يبدو غامضاً السبب الذي يدفع بعض المنتمين الى النوع الإنساني، إلى نسيان معاناة الضحية وتصويرها في موقف العاصي والمذنب الذي يعاقبه أو يحوّله الى مجرد عبرة لتذكير الناس بجبروته وقوته وتفوّقه عليهم.

المناطق السورية التي ضربها الزلزال، هي مناطق تجمع آلاف الأسر السورية النازحة والهاربة من جحيم الحرب الأهلية، والتي تعيش ظروفاً صعبة جداً من الهجرة والفقر والشتات. كما أن المنطقة التركية المنكوبة بفعل الزلزال، هي إحدى المناطق الفقيرة التي هرب إليها الأتراك للعيش فيها بعدما عجزوا عن العيش في المناطق الأكثر ازدحاماً وغلاء، وهنا يبدو السؤال المنطقي: لماذا يختار الله واحدة من أفقر المناطق وأكثرها ازدحاماً بالفقراء واللاجئين والمتضررين لكي يعاقبهم أو لكي يبرز قدرته؟

يبدو النقاش العقلاني لمثل هذا الخطاب عبثياً.

فالحجة التي يستند إليها الناطقون باسم الغضب الإلهي، يمكن دحضها بحجج بسيطة. لكن قوتها تكمن في أنها تتحدى بوقاحتها وسذاجتها، أبسط قواعد العقل. وليس هذا أسوأ. يبقى الأسوأ تضحيتها بأبسط مبادئ التعاطف الإنساني بذلك التعصب الهمجي الفوقية التي لا تعطي أي اعتبار أو قيمة للإنسان، وترى تناقضاً بين احترام الإنسان وتنزيه الإله.

تقتل الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير… الفقراء والأغنياء. إلا أنها ولأسباب عديدة، تقتل من الفقراء أكثر بكثير مما تقتل من الأغنياء. وتعصف بحياة الفقراء أكثر مما تعصف بحياة الأغنياء. وهذا يعود الى أسباب كثيرة.

‏فعندما يقع الزلزال في مدينة ما، فإن عدد القتلى يكون أكبر في المناطق لأنها الأكثر ازدحاماً بالسكان، كما أن نوعية البناء المتدنية وعدم تجهيز المباني بمعدات السلامة يؤديان إلى وفيات أكثر، بخاصة أن ضحايا الزلازل في غالبيتهم، يموتون بسبب انهيار المنازل أو المواد المتطايرة، فيما يكون الضحايا في المناطق الغنية أقل، لأن الكثافة السكانية أقل والبنايات أكثر قدرة على التحمّل.

ومن ينجو من الكارثة الطبيعية، ستختلف قدرته على التعافي بناء على وضعه الاجتماعي والمادي. فالفقير الذي يفقد بيته، سيظل مشرداً طوال حياته. والفقير الذي يفقد عمله، سيعاني لسنوات من الفقر والجوع والمرض. ومع انتشار الأمراض والأوبئة بعد الكارثة، سيموت الكثير منهم من تداعيات الكارثة وانتشار الأمراض الجسدية والنفسية.

هذه العوامل تجعل الكوارث الطبيعية الوسيلة المثلى لعقاب الفقراء وتدمير حياتهم إلى الأبد.

فأي عقاب إلهي يخطئ حتى في اختيار ضحاياه؟

تعبّر هذه الأقوال أفضل تعبير عن بؤس الخطاب الديني، الذي وجد نفسه معزولاً عن غالبية جوانب الحياة الإيجابية والمتقدمة، بعد أن تطورت معظم المجتمعات وصارت أكثر سلماً وأماناً وحرية، وأقل تعرضاً للأمراض والحروب. وهو وضع مثالي، وبالتالي لا يترك الخطاب الديني فرصة للتذكير بنفسه إلا من طريق الحروب والكوارث ومآسي الفشل الإنساني.

تضرب الزلازل الأرض منذ أكثر من 3 مليارات سنة، أي قبل أن تكون أشكال الحياة المعقدة حتى. وتضرب المنطقة الجغرافية نفسها المسماة بحزام الزلازل من دون غيرها، وغالبيتها تقع فيها دول، وتتحمل خمس دول العبء الأكبر من الزلازل ونتائجها الكارثية على البشر والممتلكات والبيئة. حقائق بسيطة لا تترك لأصحاب خطاب العقاب الإلهي مخرجاً غير تصوير الإله في صورة الإله العشوائي المزاجي الغاضب، الذي يضرب حيثما يشاء ووقتما يشاء من دون حكمة.

وهذه الصورة ليست صورة الإله الرحيم الذي يعبده الناس لرحمته، بل هي صورة “الإله العربي” الذي حلّله وفكّكه عبدالله القصيمي في كتابه “الكون يحاكم الإله”. تخيل العرب إلهاً له صفاتهم الأمية البدوية نفسها، فصوّروه منتقماً، ماكراً، غيوراً، متقلباً، غاضباً، متعصباً، نرجسياً، ومغرماً بمديح الناس وعبوديتهم له. فهل من المعقول، والكلام للقصيمي أيضاً، مطالبة الإنسان بأن يكون أكثر كمالاً من الخالق وأعدل وأحكم منه؟ ولماذا يصبح الإنسان ملعوناً لو قتل بريئاً أو امرأة أو طفلاً، بينما الإله يفعل ذلك كله من دون محاكمة؟

‏إذا ذهبنا مع المنطق الذي يلغي أي فعالية بشرية، ويقول إن كل شيء هو فعل مخطط من الله لعقاب البشر، بما في ذلك الحروب والكوارث والأوبئة، أليس أي ذنب يرتكبه الإنسان أو خطأ ترتكبه الطبيعية هو في حقيقته إدانة للصانع وصناعته؟

‏أليس أي عيب أو مرض يصيب المخلوق هو في حد ذاته اتهاماً للخالق باختلاق هذا العيب؟

‏هذه التساؤلات الفلسفية تبيّن خطر خطاب العقاب الإلهي، لأنه يضع الناس في مواجهة مباشرة صعبة بين إنسانيتهم وإيمانهم. وينزع عن الضحايا إنسانيتهم ومظلوميتهم ليحوّلهم الى مذنبين أو الى مجرد “عبرة” لا قيمة لها في حدّ ذاتها، لأن قيمتها تصبح فقط في الرسالة الإلهية القاسية الموجّهة الى الآخرين الذين لم يصلهم العقاب الإلهي بعد.

درج

————————-

جندريس- عفرين: “هل أنا على قيد الحياة؟”… الزلزال الذي ابتلع المدينة وقاطنيها/ شفان ابراهيم

رأيت بعيني سيدة حاملاً تحت الانقاض نجحت فرق الإنقاذ في انتشالها وتوليد الجنين لكن الأم ماتت، أما أنا فللحظات كنت سأصبح يتيماً بلا عائلة.

“سألت من حولي تلك اللحظة، هل أنا على قيد الحياة، من شدة الغبار والأتربة على وجهي لم أكن أشعر بأي شيء، جلبت جارتي بعض المياه بسرعة، فمنزلهم عبارة عن حوش وطبقة واحدة فقط ولم يتعرض لأي ضرر”، هكذا بدأ وليد محمد بلو حديثه لــ”درج” وهو من ساكني ناحية جنديرس في عفرين، يتابع قائلاً: “نجونا بأعجوبة، الغالبية العظمى من الشقق والمباني الكبيرة سويت بالأرض، ولا تزال أعداد كبيرة من الأهالي تحت الأنقاض، فقدت ابنتي وزوجها في الزلزال”.

لجأ وليد برفقة مجموعة من الناجين إلى قرية “هيكجة” التي تبعد من مكان إقامتهم مسافة /15-20/ كلم، “لا سيارات تقل الناجين، فغالبيتها بقيت تحت الأنقاض، والبقية تساهم في إسعاف الجرحى والمرضى والقتلى، مشينا كل تلك المسافة سيراً على الأقدام، نجلس بين بساتين الزيتون تحت خيامٍ وضعها أهالي القرية، لا طاقة لنا للعيش بعد اليوم، بكاء النساء لا ينتهي والأطفال يخافون من النوم جراء الصدمة مما حصل. لا تمكن معرفة من مات أو من هرب أو من بقي تحت الأنقاض على قيد الحياة، عائلات بأكملها أزيلت من الوجود”.

 يتابع وليد الذي لم يتمكن من إخفاء صوته المبحوح بسبب البكاء، “لن تصدقوا أبداً ما نقوله، فمن رأي بعينيه ليس كمن سمع الحكاية وحسب.  لدينا عدد كبير من النساء والرجال المرضى لم يتمكنوا من الوصول إلى أدويتهم بخاصة مرضى الضغط والربو والقلب، لا أحد هنا قادر على مساعدتنا. في كل منزل هناك قتيل أو جريح”.

ركام وحطام والعشرات تحت الحجارة

يقول محمد وهاب (29 سنة)، “لم أعد أرغب بالحديث عن عفرين، فمدينتي لم تسترح ولم تعرف طعم الاستقرار منذ عقود طويلة، والآن أتى الزلزال على جنديرس وغيرها من البلدات والقرى المنكوبة، ليضاعف همنا ومأساتنا”.

 يصف محمد لحظات الزلزال بعدما أمضى يوماً كاملاً في العراء برفقة عائلته في ناحية شيا  يقول: “في تلك الليلة استيقظت أكثر من مرة، وأنا المُلقب بتمساح النوم لأنني لا استيقظ إلا بصعوبة، في كل مرة أشعر بضيق وتوتر، كانت السماء تمطر وصوت العواصف الرعدية يبث الخوف في النفوس، أغفو ثم أستيقظ مجدداً. ظننت في البداية أنني أحلم، حتى بدأت الجدران بالتشقق، فكرت ما العمل؟ هل اتصل بالطوارئ؟ أم أحمل بعض النقود؟ أم هواتفنا؟ اكتفيت بإخراج زوجتي وحملت طفلي الصغير وهربنا، ما هي إلا لحظات حتى انهار المنزل، لم أكن أعلم إنني حافي القدمين، ولا زوجتي انتبهت إلى أنها لم تضع حجابها، وحده صوت بكاء طفلنا من البرد لفت انتباهنا لتلك التفاصيل التي كُنا نهتم بها كثيراً قبل الزلزال”.

 يبكي محمد في اتصاله مع “درج”،يتلعثم يطلب منا التوقف عن الحديث ثم سرعان ما يكمل سرد قصته لعلها تصل إلى المنظمات الإنسانية. “سمعت صوت جارتنا تنادي علينا، حاولت برفقة بعض الجيران عبر إشعال فلاش الهاتف، العثور على مدخل البناء والدرج، لكن لا أثر لهما، المبنى لم يكن سوى ركام وحطام مع عشرات القابعين تحت الحجارة”.

ذاكرة كاملة مسحت خلال 40 ثانية

أكد الناشط جوان عبدو (29 سنة) لـ”درج”  أن “الوقت بدأ  ينفد أمام المئات من العائلات،وتتضاءل كل دقيقة فرص البقاء على قيد الحياة، رأيت بعيني سيدة حاملاً تحت الانقاض نجحت فرق الإنقاذ في انتشالها وتوليد الجنين لكن الأم ماتت، أما أنا فللحظات كنت سأصبح يتيماً  بلا عائلة، ما زلت تحت وطأة الصدمة، كنت خارج المنزل في ذلك الوقت، عدت مسرعاً، ومصادفة التقيت بزوجتي، كانت تحمل ابني وتسند أمي، وأبي يقف حافي القدمين في البرد. لم أستطع العثور على إخوتي وجيراني كلهم، قبل أن ينهار المبنى في الهزة الثانية. لا أدري من نجا ومن مات ومن بقي تحت الأنقاض، الوجوه كلها كانت محملة بالأتربة والغبار. البكاء والعويل في كل مكان. كان جاري بجانبي يبكي منادياً على زوجته وأولاده، ظنّ أنه فقدهم، مع أنهم كانوا بجانبه… كان المشهد مؤثراً بالفعل”.

 أكد جوان أن شوارع وأرصفة جنديرس مليئة “بجثث لأطفال ونساء ورجال مجهولي الهوية بعضهم غابت ملامحهم بسبب الزلزال وآثاره على الوجوه ولم يتمكن أحد من التعرف عليهم ومنهم من رحلت عوائل بأكملها، الواقع في جنديرس هو الموت أو المصير المجهول، لا اصدقاء ولا أقارب، ذاكرة كاملة مسحت خلال 40 ثانية”.

الدماء تغطي كل مكان

يروي ريباز سلو (45 سنة) من قاطني  جنديرس  لــ”درج” ما حصل ليلة الزلزال قائلاً: “استيقظت على الحركة والهزة العنيفة،  تفقدت ابنائي الاربعة. كنت محتارا بين الخروج الى الشارع حيث الابنية الكبيرة والكثيرة التي يُمكن أن تُهدم بأي لحظة، أو أن أبقى في المنزل مع أسرتي، قررت البقاء في البداية وبدأت تزداد سرعة الاهتزاز مع تساقط قطع الجبس التي زُينت بها حواف سقف غرفتنا. لم تتوقف زوجتي وأبنائي عن البكاء. شبابيك الغرفة وأدوات المطبخ تساقطت كلها… حين هدأت العاصفة أخرجت عائلتي إلى ساحة قريبة، وهناك وجدنا العشرات قد تجمعوا”.

يتابع ريباز: “حين هدأ كل شيء، أدخلت عائلتي إلى أحد البيوت الأرضية وركضت باتجاه منزل أهلي لأطمئن عليهم… المناظر التي شاهدتها في الطريق كانت مرعبة، دماء وأبنية متساقطة وصراخ، حتى إن معالم الطرق تغيرت في لحظات. واصلت الركض حتى عثرت  على منزل أهلي الذي هُدم قسم كبير منه… لم أستطيع تحديد الشقق التي هدمت من تلك كانت ما زالت صامدة. استجمعت قواي وعلى مبدأ النداء الأخير، صحت عليهم بأعلى صوتي،  رد علي أخي من بعيد، كانوا متجمعين في إحدى الزوايا كلهم باستثناء أبي السبعيني الذي لم أجده، بحثت عنه دون أي فائدة، فلا درج يوصلنا إلى الطبقة الثانية حيث هو.”.

يواصل ريباز: “بكاء الجيران على ابنتهم شتت مخيلتي أضأت فلاش القداحة وبحثت عن أبي ولم أجد أي أثر تحدثت إلى أهلي وقلت لهم ربما كان تحت الانقاض. بحثت عن صديقي الذي يسكن الى جوار والدي صحت عليه سمعت صوته اقتربت حيث كان عالقاً من خصره الى الأسفل تحت الأنقاض فيما جزؤه العلوي فوق الأنقاض وزوجته تحتضنه تحت الأنقاض. صاح علي وطلب مني البحث عن أولاده شعرت بالعجز الكلي لم اتمكن من فعل أي شيء، فالسقف منطبق على الأرض في بعض الغرف، جاء بعض الناس لمساعدة صديقي وانا ذهبت لأبحث عن والدي، لكني لم أجده، ثم رجعت للاطمئنان عن أولادي وزوجتي وانا ابكي في الطريق منهار القوى فاقد الأمل. صحت على ابنائي وزوجتي لاكتشف ان والدي عندهم جاء للاطمئنان علينا قاطعا تلك المسافة”.

وجه المدينة المدمّر

تواصل  “درج” مع الإعلامي مصطفى قادري من سكان قرية “قرمتلق” الذي أكد أن  ” قرابة 70-80 في المئة من جنديرس تهدمت وسويت بالأرض، المعالم تغيرت كلها، ويصعب تحديد أماكن الأبنية التي كانت، الركام في كل مكان”. ويشير إلى أن عمليات الإنقاذ مستمرة، لكنها بدائية وتفتقد إلى الآليات الثقيلة حديثة، كما أن فرق الإنقاذ قليلة، والأهالي تبرعوا بالخيم والخبز وتطوع الشباب من بقية القرى في الدفاع المدني”. ويتابع: “تضررت أيضاً ناحية شيا حيث دمر أكثر من 100 منزل ما بين الكلي والجزئي، وهدم الجامع في قريتنا، علما ً أن معظم من فقدوا حياتهم هم من قرى عفرين، استقروا في جنديرس للعمل والدراسة”.

نشر الدفاع المدني أو “الخوذ البيض”  في 8/2/2023  أخباراً عن 320 حالة وفاة و 850 إصابة جراء الزلزال المدمر، مشيراً إلى أن جنديرس باتت مدينة منكوبة، والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير فمئات العائلات ما زالت تحت الأنقاض.

قال الصحافي شيار خليل (43 سنة) إن ” تركيا منعت دخول المساعدات من طريق الحدود مع عفرين، والمعونات التي تصل إلى عفرين وادلب محلية، كما تطوع الناس والياتهم المحلية والصغيرة البسيطة لمساعدة بعضهم بعضاً. الآن وصلت بعض الآليات من الباب وغيرها، لكن الآليات الثقيلة التي كانت موجودة في شمال غرب سوريا، اخذت الى انطاكيا والمساعدات الآتية من أوروبا لم تدخل الى عفرين”. وأكد مسؤولون على معبر باب الهوى لوسائل إعلام مختلفة أن ” المساعدات لم تصل إلى الآن”.

تواصل “درج” مع الناشط روهلات محمد من عفرين وقد أكد أن “الفصائل المسلحة منعت دخول المساعدات المقدمة من مؤسسة البارزاني الخيرية لأهالي عفرين، المطاعم غير المتضررة توزع الطعام بالمجان وبعضها رفع الأسعار. ولا تزال الهزات الخفيفة تحدث بين الحين والآخر، ونتيجة لانقطاع التيار الكهرباء لا تتمكن الأجهزة الطبية في المشافي من العمل نتيجة نقص حاد في الوقود والعشرات من الجرحى بحاجة للعناية المركزة”.

درج

——————————–

أنقاض من جديد يا سوريا!/ ريم الخطيب

أستيقظ صباحاً منهكةً من الخوف والقلق، أسمع صوت أبي يتلو الأخبار على مسامع أمي، “في كارثة ودمار في سوريا، حسيتي على شي؟”.

لا أفضّل عادةً الكتابة عن الكوارث، ليس لانشغالي بالمساعدة في الميدان، بل لأن أصابعي تنقص واحدة في كل مرة. أنا الآن، أكتب بلا يدين ولا فكرة واضحة، أكتب لعلّ الكتابة تحرر سوريا وشعبها من اللعنات الكثيرة، فبعضنا ملعون بالموت وبعضنا الآخر بالعجز وآخرون بالنسيان…

غفوت بالأمس باكراً على غير عادة، تهرّباً من القلق والرعب اللذين يسيطران عليّ بسبب العواصف الرعدية. في الليل، استيقظت عشرات المرّات على صوت الرعد، الذي بدا وكأنه آخر ما نسمعه قبل الموت. في ساعات الخوف هذه، لا يستطيع المرء التفوّه سوى ببعض التمتمات والدعاء والرجاء والبكاء، كنت أتقلب يميناً ويساراً، شعرت وكأن قلبي بين يديّ، أفكّر في حروب العالم منذ فجر التاريخ، ألعن البارود والعلماء، والذكاء الذي أوجد الأسلحة الثقيلة، أعاتب الله على السماح بكل ذلك، ثم أغفو، وأستيقظ مجدداً فيما أفكر في حرب غزة وانفجار مرفأ بيروت ثم سوريا! آه سوريا! تمرّ في بالي صور الأطفال ومجازر الكيماوي الصامتة، وصور حمص المدمّرة كلياً، رحماك يا الله! ينفجر قلبي حزناً، فأحاول أن أغفو قبل أن تحل الكارثة بشعبي مجدداً.

أستيقظ صباحاً منهكةً من الخوف والقلق، أسمع صوت أبي يتلو الأخبار على مسامع أمي، “في كارثة ودمار في سوريا، حسيتي على شي؟”. لا أستوعب بدايةً، هل هو قصف إسرائيلي تبعه “احتفاظ بحق الرد” كالمعتاد أيضاً؟ أجلس لأفهم، أفتح هاتفي، وإذ يبدو الموضوع في البدء بسيطاً، “هزة أرضية وهلع” لكن لا ضحايا، هكذا كانت أخبار لبنان على الأقل، أتصفح مزيداً من الأخبار وأقرأ عن سوريا، يا إلهي، لا يمكن أن يحدث هذا مجدداً!

الصورة الأولى التي طالعتني هي صورة طفل تغطيه الدماء سُحب من تحت الأنقاض، أنقاض مجدداً! ثم تتوالى مقاطع الفيديو لأمهات يصرخن ويركضن. يبدو أن الأمهات السوريات اعتدنَ منذ عشرات السنوات، على تعليق أطفالهنّ بأعناقهن بدلاً من المجوهرات، ويبدو أن غبار الأبنية المدمّرة والدماء أصبحت جزءاً من ملامح الطفل السوري، وأضحى مكتوباً على الآباء أن يصرخوا فوق الأنقاض مستنجدين. في السنوات العشر الأخيرة، كانت كلمة “الله أكبر” الأكثر تردداً على مسامعي، إذ كانت تصدح بها الحناجر في تشييع الضحايا، الذين كانوا غالباً من الأطفال، وفي نواح الأمهات والآباء، وفي صرخات الاستغاثة على الشاشات العالمية، وأثناء الهرب من قذيفة لا تفرّق بين قتلاها…

يتعاطف العالم أجمع، في العادة، مع ضحايا الكوارث، ويهبّ الجميع الى المساعدة من دون فلسفة سياسية، لأن أطراف النزاع في أي كارثة لا تجعلنا إطلاقاً نجتزئ إنسانيتنا وننحاز إلى جهة معينة على حساب الدم والموت. لكن في سوريا، يموت الناس من دون تعاطف وشفقة. وفيما كنتُ أتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، تملكني خوف من التعليقات الشامتة والساخرة والعنصرية، فيما حجم المصيبة غير محدود، فالزلزال أصاب الجميع، ولم يفرّق بين موالاة ومعارضة.

أمضيتُ نهاري أتنقّل بين المحطات الإخبارية، أتابع أخبار المناطق الخاضعة لسيطرة النظام على قناة، وأخبار المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام على قناة أخرى، مناطق يتشرّد أهلها في الصقيع من دون حماية من أحد، يموتون لأن لا مستشفيات مجهزة لاستقبال هذا العدد الهائل من الضحايا، مناطق أُقفلت في وجهها حدود تركيا، وحدود سوريا، وتُركت وحدها تصارع بين الموت والحياة. أحاول تعقّب عدّاد الضحايا والخسائر… لكنه يتجاوزني على الدوام!

درج

———————–

شمال سوريا: لم يكن شيء على هذه الأرض جاهزاً لاستقبال الزلزال!/ أحمد حاج حمدو

استهدف الزلزال مجتمعاً يعيش ما يقارب نصف سكّانه في المخيّمات العشوائية، في حين يعيش النصف الآخر مهجّراً عن مدينته الأصلية أو عائداً إلى منزله المتصدّع بفعل القصف.

في مدينة أعزاز في ريف حلب، لم تجرؤ عائلة فؤاد حتّى الآن على العودة إلى منزلها، فالأخبار عن زلازل وهزّات ارتدادية ما زالت تتوالى، فواصلت الأسرة الجلوس لساعات في إحدى ساحات المدينة منذ وقوع الزلزال المدمّر في جنوب تركيا.

وحتّى كتابة هذه السطور، لا تزال الهزّات الأرضية الارتدادية تتوالى تباعاً داخل المنازل في محافظات شمال سوريا وشمال غربها، وجنوب تركيا ووسطها، بعد الزلزال المدمّر الذي وقع فجر الإثنين (6 شباط/ فبراير)، وخلّف آلاف الوفيات والجرحى.

إنّه يومٌ مأساويٌّ جديد، يضاف إلى مآسي السوريين سواء تلك التي كانت بفعل البشر على مدار الأعوام الـ12 الفائتة، أو حتّى تلك العائدة إلى أسباب طبيعية، تبدو المشاهد كلها مألوفة للسوريين، مبانٍ دمّرها الزلزال، تحوّلت إلى أنقاضٍ بجانب أنقاضٍ أخرى كان سببها القصف الجوّي سابقاً في تلك المناطق الهشّة، والمدمّرة أصلاً.

هذه المناطق تعاني بطبيعة الحال من أوضاعٍ مأساوية، على رأسها هشاشة القطاع الطبّي، وشبه غياب لمقدرات الاستجابة الطارئة في حالاتٍ مثل هذه، باستثناء المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، والتي تضم منظّمات لديها خبرة في رفع الأنقاض مثل الدفاع المدني السوري، الذي أعلن أن مناطق شمال غربي سوريا التي تسيطر عليها المعارضة، باتت منكوبة بسبب تواضع طاقة المتطوّعين أمام حجم الكارثة.

فؤاد من سكّان ريف دمشق، عاش مشاهد انهيار المباني بفعل القصف، ووجد الأنقاض وعايش لحظات إخراج العالقين تحتها خلال أيام القصف الجوي على ريف دمشق، يبدو مشهد الزلزال مألوفاً ،وما يلحقه من دمار بدا أيضاً مألوفاً له ولبقية أفراد أسرته، لكن بعدما نجت أسرته من كل تفاصيل الحرب وأهوالها، لا يريد الرجل المغامرة والعودة إلى المنزل، فهو يقول إنّه ليس متأكداً من أن الخطر زال مع الهزّات الارتدادية، كما أنّه ليس متأكّداً من وضع المنزل المتهالك بعد الزلزال، والذي يعيش فيه مقابل إيجار رخيص.

استهدف الزلزال مجتمعاً يعيش ما يقارب نصف سكّانه في المخيّمات العشوائية، في حين يعيش النصف الآخر مهجّراً عن مدينته الأصلية أو عائداً إلى منزله المتصدّع بفعل القصف، ولكن يشترك الجميع هنا في أزمة الحصول على الرعاية الطبّية، فالكثير من النقاط الطبّية والمستشفيات أغلقت أبوابها في مناطق سيطرة المعارضة بسبب نقص التمويل، بعد ضغط روسيا دولياً لمنع هذه المناطق من استقبال المساعدات من طريق المعابر، ما هدد القطاع الطبّي بالانهيار.

أمام الطاقات الحكومية التركية، والإمكانات الهائلة للتعامل مع مخلّفات هذه الفاجعة، تظهر الحال السورية نقيضاً، فالأرض التي ضربها الزلزال يسعى كل من يعيشون فيها إلى هجرتها، بسبب حالة البؤس والانعدام التي يعيشونها، لم يكن شيءٌ على هذه الأرض جاهزاً لاستقبال هذه الفاجعة.

بطبيعة الحال، لا يبدو أن لدى السلطات الموجودة في سوريا، بما في ذلك النظام والمعارضة، طاقاتٍ كافية للاستجابة لهذه الكارثة، فكلاهما منهكٌ بفعل الإغلاق العالمي، ودمار البنى التحتية أو تهالكها والضغط عليها بفعل الحرب المستمرّة، وبذلك يكون الجرحى أو حتّى من لديهم فرصة للخروج من تحت الأنقاض، الخاسر الوحيد.

ضرب الزلزال محافظات حلب وريفها، اللاذقية وريفها، حماة وريفها وإدلب وريفها، وخلّف مئات الضحايا والجرحى، علماً أن هذه الإحصاءات ليست نهائية، إذ يتم تحديثها باستمرار، وعلى رأس كل ساعة تصدر إحصائية جديدة يضاف إليها عشرات الوفيات ومئات الجرحى، لذلك يبدو أن الإحصاء النهائي سيشير إلى مئات القتلى وآلاف الجرحى.

تغصّ مواقع التواصل الاجتماعي السورية بمنشورات وتدوينات، إمّا تنعي ضحايا الزلزال، أو تطالب بتحرّك آليات الإنقاذ إلى مبنى محدّد لإخراج من بقوا أحياء تحته، أو تحاول البحث عن مفقودين لم يعُرف عنهم أي شيء حتّى الآن.

قال ثلاثة أشخاص يعيشون في مدينة عفرين، التي تعرّضت لدمارٍ واسع لـ”درج”: “إن فرق الإنقاذ باتت مضطرة للاختيار بين الأبنية التي لها الأولوية لانتشال الأنقاض وإنقاذ العالقين تحتها، استناداً إلى كمية البشر الذين يمكن إنقاذهم.

المشاهد ومقاطع الفيديو والصور الواردة، أقل ما يمكن وصفها بأنّها “صادمة”، جلّها لأحياءٍ ما زالوا تحت الأنقاض منذ وقوع الزلزال حتّى الآن. اعتاد الدفاع المدني السوري في مناطق المعارضة، على التعامل مع هذا النوع المعقّد من المهمات، غير أنّ القصف الجوّي يكون عادة على مبانٍ محدّدة وبشكلٍ متفرّق، ما يمكّن فرق “الخوذ البيض” من الاستجابة لغالبية الحالات، وإخراج الجرحى العالقين تحت المباني، ولكن طالما أن الدمار الآن جماعي، ويتوزّع في قرى ومدن مترامية الأطراف في مناطق عدّة، فإن الاستجابة للجميع تبدو مستحيلة.

“الدفاع المدني” أعلن أن مناطق شمال غربي سوريا كلّها منكوبة، قائلاً إن هذا الإعلان جاء “نتيجة للوضع الكارثي من انهيار المباني والتصدعات الحادة ومئات الإصابات والعالقين وعشرات القتلى، في ظل نقص الإمكانات والخدمات، وعدم توافر مراكز الإيواء ونقاط التجمع الآمنة، إضافة إلى ظروف الطقس العاصفة ودرجات الحرارة المنخفضة”.

وأوصى “الدفاع المدني” الجهات المحلية والقوى المدنية، باستنفار كوادرها، ودعا المنظمات الإنسانية الصحية والإغاثية العاملة في سوريا، إلى تقسيم العمل وفقاً لنظام التكافؤ وتوزيعها الجغرافي حرصاً على تغطية الاحتياجات الضرورية للجميع وفق المستطاع.

وفي تسجيلٍ صوتي بثّته وسائل إعلام سورية، دعا مدير الدفاع المدني رائد الصالح، إلى استعمال كل الأساليب الممكنة لإخبار جميع المدنيين بعدم العودة إلى منازلهم حتّى التأكد من أن الأبنية سليمة، لأن الزلزال خلّف أعداداً كبيرة من المباني الآيلة للسقوط، إضافةً إلى تلك التي دُمّرت بالفعل.

ودعا الصالح أيضاً كل من لديه أي نوع من الطاقات، مثل آليات أو جرافات أو أي شيء يمكن أن يساعد بإجلاء المدنيين، ليرسلها إلى مدن (أعزاز، عفرين، حارم، شرار، جنديرس، سرمدا، سلقين، شرار، مدينة إدلب، جسر الشغور، الرمادي، دركوش)، لأن جميع هذه المدن فيها أحياء ما زالوا عالقين تحت الأنقاض، مضيفاً أن “الوضع في غاية الخطورة”.

على الضفاف الأخرى، لا تبدو الاستجابة أفضل حالاً في مناطق النظام، الذي يتعامل بعشوائية مع مخلّفات الكارثة في مدن حلب وحماة واللاذقية، علماً أن تلك الأخيرة كانت أكبر المتضرّرين من الزلزال، بسبب اقترابها من البحر ومن منطقة الخطر الأولى.

منذ أن سيطر النظام السوري على مدينة حلب وعاد السكّان إليها، لا تمر فترة إلا مع خبر سقوط بناءٍ متصدّع بسبب حملة القصف الروسية الشرسة حينها، ما جعل عدد المباني الآيلة للسقوط يزيد عن 10 آلاف مبنى في المدينة، والآن ربّما ضاعف الزلزال الرقم وتضاعفت معه المأساة.

درج

———————–

لا يشبه الحرب إطلاقاً”: سوريون يروون قصص نجاتهم من الزلزال/ مناهل السهوي

مازالت صرخات العالقين تحت الأنقاض في الشمال السوري تتعالى من تحت الأنقاض، فرق الإنقاذ تحاول ما بوسعها، لكن الأيدي وحدها لا تكفي لإزالة الحطام أمام حقيقة ضعف التجهيزات.

حملت نُهى ابنتها (3 سنوات) بيد، وجرّت طاولة الطعام الخشبية باليد الأخرى قرب (عضادة) الحائط، لا تعلم من أين جاءتها هذه القوّة لجرّ الطاولة الكبيرة بيدٍ واحدة. وضعت أطفالها الثلاثة تحتها وطلبت منهم أن يتلوا القرآن. لم تعلم إن كانت هذه الحركة ستنقذهم بالفعل، كان هذا كل ما خطر لها في تلك اللحظة. فتحت باب المنزل لتجد الناس يصرخون ويركضون مذعورين، تقول: “ما قدرت أعمل شي، ما قدرت أهرب متلهم لأنو عندي حماتي كبيرة وبرا برد كتير”.

نُهى واحدة من سكان مدينة حلب الذين عاشوا ليلة قاسية، تحت رحمة كارثة لم يتوقعوها، أو على الأقل لم يتخيلوا أن تكون بهذه القسوة. أما الآن، فنُهى تنتظر ككل الناجين في حلب، إذ جهّزت حقيبة صغيرة للفرار، خوفاً من تكرار الهزة. تقول نهى إن الوضع في حلب سيئ للغاية، الجميع مذعورون ويترقبون القادم بحذر: “وقعت بنايتان بسبب هزتين ارتداديتين، بس كانوا فاضيين لحسن الحظ، بس المأساة هي بالأبنية الي وقعت ع روس أصحابها وما أجا حدا للمساعدة بسبب عدد الأبنية الكبير الي وقع”.  ما سبق يجعل تحديد عدد الضحايا والمصابين مستحيلاً في الوقت الحاضر، ولا ملجأ للناس إلا “فيسبوك”، حيث يستغيثون ويطلبون المساعدة، لكن عدد فرق الإنقاذ والآليات لن يكفي لكارثة بهذه الحجم، إذ انهارت بالفعل، ستة مبانٍ سكنية في المدينة، بعد انتهاء الزلزال وتتالي الهزات الارتدادية.

خصّصت محافظة حلب مراكز إيواء مؤقتة في محاولة لاستيعاب العائلات الهاربة، هناك 150 شقة في حي مساكن هنانو شرق حلب، و25 شقة في حي الشيخ طه، و17 مدرسة لعشرات العائلات الحائرة.

سوريا، البلد المنكوب في الأصل، والتي عانت من القصف والموت والبراميل طوال سنوات، استقبلت منذ ساعات كارثتها الجديدة، أما حلب المدينة المتعبة، فالمصائب تتساقط عليها، أتت الحرب على أحياء وأسواق بكاملها فيها، أما ما بقي صامداً من أبنية مزعزعة، فأتى الزلزال ودمّرها.

“مثل يوم القيامة”، هكذا يصف الناس الكارثة، التي لم تعد تقتصر على الزلزال، بل امتدت الى استحالة انتشال الضحايا والعالقين أمام عجز الحكومة السورية، التي تستنجد بكل من يستطيع تقديم المساعدة والآليات من فعالياتٍ خاصةٍ وعامة.

قصص النجاة لا يمكن حصرها، سواء تلك التي يحدثنا عنها من نجا، أو من انتشل لحسن حظه من تحت الركام. في مدينة إدلب، رمى محمد (اسم مستعار)، والذي خضع لجراحة في معدته منذ بضعة أيام، فراش نوم على زوجته وطفلته ذات الستة أشهر، لعله يحميهما. دفعت مفاجأة الكارثة الناس إلى التصرف بتلقائية دون التفكير في ما إذا كان ما يفعلونه صحيحاً أم لا.

الحال في  إدلب ليس أقل كارثية، وتحديداً في المناطق المحاذية لتركيا، مثل حارم وسرمدا وترمانين والأتارب في ريف حلب، والتي سجلت أعلى نسبة ضحايا حتى الآن، القصص التي تصلنا من هناك أكبر من أن تُروى، فحجم المأساة أكبر من المتوقع.

الكارثة اليوم أكبر من قدرة السوريين على التحمّل، فوسط انهيارٍ اقتصاديّ ودمار في البنى التحتية والخدمات، أتي الزلزال ليقضي على الخيط الأخير الذي يتعلقون به. لا آليات كافية لرفع الأنقاض، الأيدي وحدها تغوص في الإسمنت والتراب والرمل، أمهات يصرخن فوق الركام، رجل يجري بطفلة انتشلها من تحت الركام ويصرخ “عايشة… عايشة”.

تقول سارة (اسم مستعار): “هو البلد مو متحمل الوضع اليومي العادي، ليتحمل طوارئ!”، نعم البلد أضعف اليوم من أي حدث عادي، فكيف بكارثة كهذه!، قررت عائلات كثيرة البقاء في منازلها لأن أحد أفرادها مسنّ ولا يقدر على التنقل، هذه العائلات اتخذت خيار الموت مع أحبائها.

 النجاة ليست كاملة، السوريون اليوم مصدومون، لم يستوعبوا الكارثة التي لم يمضِ على وقوعها سوى ساعات. بقيت راما وأختها ووالدتها في المنزل مع والدها المريض، تسمع الأخبار الآتية من الخارج عن سقوط البنايات، تصلهم أصوات سيارات الإسعاف وصراخ النساء وبكاء الأطفال: “شي مرعب كتير، ما بيشبه الحرب أبداً”.

تلاحق المأساة اللاجئين السوريين في تركيا، الذين لم ينجوا لا من الحرب ولا من الزلازل ولا من الأمراض. في أحد مستشفيات هاتاي التركية، وأثناء الزلزال، كان مجد (اسم مستعار) يرافق أخته المصابة بالسرطان، حين اهتز المستشفى ووقع السقف عليها، فما كان منه إلا أن حملها ونزل بها طبقات عدة، ليستقرا أمام باب المستشفى، هي الآن بحاجة ماسة إلى الأوكسجين، لكن الفوضى والمأساة جعلتا ذلك مستحيلاً، يجلس مجد وأخته أمام المستشفى بانتظار معجزة.

تسبب الزلزال أيضاً بسقوط أجزاء من طاحونة قلعة حلب، وتشقّق وتصدع أجزاء منها، وسقوط أجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية، وفق المديرية العامة للآثار والمتاحف. وتضررت بعض القطع الأثرية داخل خزائن العرض في المتحف الوطني في حلب، وأجزاء من قبة منارة الجامع الأيوبي، ومداخل القلعة، كمدخل البرج الدفاعي المملوكي، وواجهة التكية العثمانية.

مأساة اليوم تغلبت على مأساة الحرب البارحة، هكذا يعتقد السوريون، فالثواني الأربعون التي استغرقها الزلزال علّمتهم درساً جديداً في المأساة، الطبيعة نفسها لن ترحمهم إن غضبت!

درج

—————————

تركيا مركز الزلزال وسوريا مركز الكارثة!

من المرجح أن في تركيا بنية إنقاذية تحتية مقبولة وقدرة على استيعاب المساعدات الدولية وإدماجها في عمليات الإنقاذ، لكن السؤال الأكبر هو حول سوريا. الانقسام والعقوبات والجماعات الإرهابية ستكون عوامل معيقة لعمليات الإنقاد والإغاثة.

 أول ما لفت انتباهنا حين زرنا ريفي حلب وإدلب قبل عشر سنوات من اليوم، وفي ذروة الحرب التي كانت دائرة هناك، هو هشاشة المباني. دُهشنا، نحن الذين اختبروا حرباً أهلية في بلادهم ويعرفون حدود الدمار الذي تلحقه قذيفة مدفعية في مبنى، من قدرة القذيفة ذاتها على إحداث حجم أكبر من الدمار في تلك البلاد.

لا تكتفي القذيفة  الواحدة في إدلب بتصديع الجدار، إنما تتسبب باختلال المبنى، حينها فسر السكان والمقاتلون  ذلك بأن الرقابة على عملية بناء المنازل والمباني منعدمة، وبناء عليه، نتوقع أن الكارثة، أي الزلزال الذي امتد إلى سوريا، ستفوق قرينتها في تركيا، على رغم أن مركز الزلزال في الأخيرة.

تركيا مركز الزلزال، وسوريا عين الكارثة! لا تقتصر المأساة  على حجم الدمار، ذاك أن إرباكاً كبيراً يفترض أن تشهده عمليات الإغاثة في ذلك البلد. فمن جهة قد تَعتبر الكثير من دول العالم أن حكومة النظام السوري ليست جهة صالحة لاستقبال المساعدات وفرق الدعم، ومن جهة أخرى، سيتولى انقسام المناطق المنكوبة بين سيطرة جيش النظام وسيطرة تنظيمات مصنفة إرهابية مثل “جبهة النصرة”، إحداث فوضى معيقة لعمليات الإغاثة.

 ثم إن وقوع الزلزال على خطوط جبهات عسكرية مفتوحة، ستكون له آثاره الكارثية المضاعفة، فيما لم يختبر العالم سابقة من نوع زلزال أصاب مناطق حرب وحصار وعقوبات على طرفي الجبهة. فنحن في شمال سوريا حيال نظام معاقب دولياً من جهة، وفصائل مصنفة إرهابية من جهة أخرى. أما الطامة الكبرى، فتتمثل في أن البلد المجاور المرشح للدور الأبرز في عمليات الإغاثة غارق بكارثته التي لم يتمكن أحد حتى الآن من تحديد حجمها!

النظام لن يعتبر أنه معني بالإنقاذ في مناطق لا تشملها سيطرته.

ما وصلنا حتى الآن من ريفي إدلب وحلب يكشف حجم الكارثة! تواصلنا مع أصدقاء لهم أهل هناك. زميلنا محمد المقيم في باريس قال لنا إن أهله نجوا، لكن منازلهم تدمرت. هم الآن في الشارع. أما علي، وهو من بلدة أتارب، فشقيقته لاجئة أصلاً إلى غازي عينتاب، فيما شقيقته الأخرى ما زالت في الأتارب. الكارثة أصابته على طرفي الحدود. الكارثة حتى في جزئها التركي أصابت سوريا، ذاك أن حوالى مليون سوري يقيمون بصفتهم لاجئين في المدن التركية المنكوبة التي أصابها الزلزال، كأورفة وغازي عينتاب وهاتاي، ومن المرجح أن بين الضحايا في هذه المدن عشرات السوريين.

عمليات الإنقاذ تكاد لم تنطلق بعد، لكن من المرجح أن في تركيا بنية إنقاذية تحتية مقبولة وقدرة على استيعاب المساعدات الدولية وإدماجها في عمليات الإنقاذ، لكن السؤال الأكبر هو حول سوريا. الانقسام والعقوبات والجماعات الإرهابية ستكون عوامل معيقة لعمليات الإنقاد والإغاثة، ناهيك بالفساد الذي ينخر المؤسسات على طرفي الفالق السوري.

النظام لن يعتبر أنه معني بالإنقاذ في مناطق لا تشملها سيطرته، أما في مناطق سيطرته فستكون الإغاثة بمستواها الأدنى. في المقابل، الفصائل التي تسيطر على إدلب المدينة ومحيطها وعلى ريف حلب، ليست جهة صالحة لاستقبال المساعدة ولتنظيم عمليات الإغاثة.

درج

——————————–

شهادات مبدعين في توصيف الكارثة والفجيعة: يا سوريا الوحيدة… «قلبي مليء بالموتى»

خليل صويلح

كأن ما ينقصنا كسوريين زلزال مباغت، كي تكتمل المأساة فوق هذه الخشبة المهتزّة منذ أعوام. لا يحتاج الضحايا إلى أكفان وأدعية، فقط إلى إسمنت مسلّح وحديد واستغاثات. أذرع تستنجد تحت الركام والأنقاض، ووجوه منهوبة من الفزع. مشردون بلا منازل، وموتى لم يكملوا مناماتهم. جيولوجيون يحذّرون من زلازل أخرى وارتدادات. تعال إلى عاصمة الألم، الألم بدرجة سبعة وما فوق بمقياس ريختر. كأن سنوات الحرب والقسوة والحزن مجرّد بروفة أولية للقيامة. كأن أنياب الحرب وحدها لا تكفي لوشم هذه البلاد باللعنة الأبدية. كأن القتل المتسلسل للأرواح، لم ينجز المهمة بنجاح، ليأتي الزلزال بطاقته القصوى، ويُطيح من نجا من الموت تحت القذائف. هنا، في البلاد المنكوبة، ننتشل الضحايا، ونخشى النشّالين، أولئك الذين حملوا دمغة نهّابي الحرب، وها هم يستيقظون على وليمة دسمة من الغنائم بورديات عمل إضافية. كانت الزلازل تقع بدرجة ثلاثة أو أربعة ريختر بما يكفي لأن يهتزّ سرير في منتصف الكابوس، وأن تُزاح خزائن سنتمترات قليلة عن الحائط، كنوع من المزحة العابرة، فنضيفُ إلى التقويم يوماً آخر بقهوة مرّة، ونوبة كآبة تبقى تحت السيطرة، كما نظنُّ. لكن المشهد هذه المرّة، كان أكثر قسوة، وأكثر كابوسية، مما يحتمله الكائن، فمفكرة 6 شباط (فبراير) لا تشبه ما بعدها، لجهة الأسى. ههنا فالق صخري في الرأس يصعب نسيانه. صور سريالية عصية على الفهم، ومشهديات مرعبة، غير قابلة للمحو، كما لو أننا إزاء متحفٍ للأنقاض. بشر عالقون بين الموت والحياة، أطفال بلا سلالات عائلية، لا أوكسجين يكفي لاكتمال دورة الشهيق والزفير. أوراق نعي جماعية لتوطين الألم، وخيمة عزاء مفتوحة ليل نهار. تصدّعات في القلوب والجدران والقلاع (انهيار البرج الغربي لقلعة حلب). تشققات في الضمير العالمي، وشروخ في الإنسانية. لكن مهلاً، نحن لم نختبر الطوفان، على الأرجح ستحتج قشرة الكوكب على الآثام التي لطّخت أديمها من «معاصي العباد»، فكان على الثور أن يحرّك قرنيه غضباً. يضيق المعجم بمفردات الكارثة، إذ لم يختبر النحاة مثل هذا الجحيم قبلاً، فحركة الزلزلة اليوم ليست «رجفة»، أو «انتفاضة جسد المحموم»، إنما مزيج من الرعب والقلق والهزيمة. لهذه الأسباب، يفشل النحويون في إعراب جملة مفيدة تخصّ مثل هذه الفجيعة، ذلك أن هذا الدرس أكثر إيلاماً من نداء أبي العلاء المعري «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد». الآن سنجد صعوبة في إعراب جملة من طراز: «مات تحت الأنقاض بسبب إسمنت مغشوش، ونداءات مكتومة، ومقاول ضبع/ جشع، وسخط الطبيعة»، وأيضاً أعرب ما يلي: «دع الموتى يدفنون موتاهم»، «وأخرجت الأرض أثقالها». الآن وغداً، لا نحتاج إلى مجلدات ابن كثير في وصف زلزال 1759، وما تلاه من نكبات، فلدينا ما يفوق الوصف، وفائض النحيب، وخشونة الفقدان. زلزال النزوح إلى الشمال يتلوه زلزال أشدّ هلاكاً وفتكاً، فليس للسوري إلا العاصفة والتيه والموت في العراء. سنستنجد موقتاً بعبارة وديع سعادة «كل الضحايا إخوتي/ قلبي مليء بالموتى، ولا أعرف أين أدفنهم». هنا شهادات مرتجلة كتبها مبدعون سوريون من قلب الزلزال في مدوناتهم الشخصية، بوصفها ارتدادات أولية في توصيف الكارثة، وحراثة الفجيعة:

1- مشلوحاً في العراء الكوني

نزيه أبو عفش *

حين يَتضوّر «السوريُّ» من الألم، لا يحزن لآلامه أحد. حين يبكي السوريّ، لا تتلألأ بارقةُ دمعٍ في عينِ أحد.

حين يسيلُ دمُ السوريّ، لا تَطلعُ تنهيدةُ أسى من حَلقِ أحد.

بل حتى حين يفعلُها السوري ويموت، لا يأبه بجثمانهِ أحد؛ يتركونه مشلوحاً في العراء الكونيّ كي لا يعترفوا به «بَشراً» ويكونوا شهوداً على موتِ إنسان.. إنسان كانوا هم قتَلَتَه أو شركاءَ في قتله.. لكنْ، بعد أنْ يتمّ دفنُ السوريّ، يجعلون من سقفِ قبره منصّةً للنواحِ والتباكي على ما آلت إليه العدالةُ والحريّةُ وحقوقِ الدابّةِ – الـ.. إنسان.

حين يموتُ السوريّ في الصمتِ، ويُقبَر في الصمت، لا أحدَ يعرف (لا أحدَ تعنيه معرفةُ) أنّ قلبَ العالَم – ذاك الذي كأنما قلبُه بين أضراسه- صارَ مهَدّداً بالاقتلاع، بلَ أصبح مُستَحِقّاً له.

* شاعر

سايمون هاغز ـــ «جبل (زلزال)» (أكريليك وكولاج على كتّان ـــ 2022)

2- هندسة الموت تحت الأنقاض

أسامة اسبر*

-1-

ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ، مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون يديرون فريق الخداع، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.

-2-

مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.

-3-

لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.

-4-

ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوّض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟

-5-

نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.

-6-

سكنت في غرف وشقق في دمشق كانت كلّها على القائمة السوداء للزلازل. هزة بسيطة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فكيف سيكون الأمر إذا حدث زلزال قوي؟ لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لا مرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوماً على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.

-7-

لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وللجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهة الزلازل وسياسيون يؤمنون بأن السياسة هي في خدمة الإنسان، وأن يكون توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية

* شاعر ومترجم

3- يا سوريا الوحيدة

المهند حيدر *

يا سوريا الوحيدة

يا سوريا الحزينة كطفلة ضاعت في المقابر

دموعك لا مجيب لها

وصوتك مخنوق في حناجرنا

نحن المرهونون للموت أبداً

وحيدون دوماً

… معك

وأنت دوماً وحيدة

* شاعر

4- نوبات الشهيق والزفير

سامر محمد إسماعيل*

من أين لي أن أعرف أنكِ كنتِ هناك. على مقربة جسد، ففي العتمة كنتُ لا أسمع سوى حشرجات وأنفاس مذعورة لأشخاص تم قذفهم في غرفة.

كانت أصوات خمش الأظافر للوجوه تتعالى من حولي، وكنت لا أستطيع التفريق بين صوت وآخر. كانت نوبات الشهيق والزفير تعلو وتضطرم كلما اصطدمت الأجسام ببعضها، فتعلو صرخات مرعبة، وتتصاعد في هيجانات مدوية، ثم تسكت دفعةً واحدة. كان الوقت كله ليل، والروائح تتكدس في الممرات الباردة ملطخةً بفحيح بشري مروّع.

وحدها يدكِ العمياء كانت تعرف مقاسات هذه القمصان وترميها علينا، فنستحيل جميعاً إلى طيور.

* شاعر ومسرحي

5- هلوسات ما بعد الصدمة

سناء علي *

إن مفردة «زلزال» وحدها قادرة على هزّ الكيان وإثارة الرعب في النفوس، فكيف وإذا به زلزالٌ حقيقيٌّ من درجة مدمرة ينبش البشر من أسرّتهم نياماً في أحضان البرد ليرميهم تحت أكوام من الحجارة والدم والموت؟ ها قد شبنا أيتها الحياة الغزيرة بالمسرّات ولم ننل منك قسطاً واحداً يغذّي مخزون الذاكرة للأيام الحالكة التي لم نعرف سواها. اختبرنا كل أشكال القسوة والألم ولا بدّ أن في جعبتك المزيد لتفاجئينا به، فنحن وبعد كل ما مررنا به، ظننّا أن احتياطك من القسوة قد شحّ أو نضب، أو أننا استهلكنا رصيدنا من التعب كاملاً..

هذه ليست مزحة ثقيلة الظلّ، إنها فقط هلوسات ما بعد الصدمة وأثر تلك الصور الكثيفة التي لم يتكلف العالم عناء النظر إليها حتى لإبداء تعاطف كاذب.

عشرات الأسئلة والحسرات تطوف الرأس بلا إجابات، ودموع ملء الجفون مالحة تحرق الأهداب والقلب، فكيف يا الله نجتاز كل هذا وكيف سينسى أولئك العالقون بين براثن الموت وشهوة الحياة إن نجوا؟ من سيحميهم من صرخات المفقودين بين طيات الرعب والوحشة؟ قد تلهينا الأيام بعد حين ونعود للركض سعياً إلى البقاء وتجسيداً لسنة الحياة وشرطها، لكنّ نفوسنا قد تحوّلت إلى صناديق من الأمل منتهية الصلاحية.

* كاتبة

6- مقام الرصد

باسم القاسم *

وأنا «عقيلُ المنبجيّ» يشاءُ

إكمالَ الموشّحِ

من دمي

قالَ استفق عند السكوت

واصدح بأنقاضِ التجلّي

بين أشلاء البيوت…

أذّن شمال الماءِ

غربَ الشكِّ

وانظر إلى ساقِ الأنينِ

تكشّفت في لحظةٍ

كم من جدارٍ واشتهى

فيها السجود…

قل ما يفيد ولا يفيد

كم صار شطحك منطق الجبروتِ

في زمن التحوت…

أنشد مقام الرصدِ

هيّا الآنَ

سَمَعْ.. .سكوووت:

يموتُ قيصرُ

فكرُ قيصرَ

لا يموت…

*شاعر وناقد

7- يا للأسى

هاني نديم *

حزانى يهرعون لحزانى

منكوبون ينقذون منكوبين

مفقودون يبحثون عن مفقودين

بيوتٌ شاخصةٌ من الخوف تنظر برعبٍ إلى بيوتٍ قضت

نشيدٌ طويلٌ للموت في براحٍ أصمّ..

يا للحزن.. يا للأسى

* شاعر

8- الطيران فوق أشجار الزيتون

بطرس المعرّي *

وَجَدَ شكري نفسه حبيس مساحةٍ صغيرةٍ من الرُّكام. نظر يميناً ويساراً من خلال عينين غطّاهما الرمل والغبار، لكنه لم يرَ سوى السواد. أراد أن يطلب النجدة، ولكنه عدل عن الفكرة: «إن كان لي حظ في النجاة، فسيأتي أحد لانتشالي من هنا… ولماذا أخرج أصلاً»!

«من حسن حظي أنني لم أبدّل ثيابي بثياب النوم» قال في نفسه، ثم مدَّ يده إلى جيب قميصه وأخرج علبة السجائر والقداحة وأشعل سيجارة: «هذه ألذ سيجارة دخنتها في عمري»، قال، ثم أشعل سيجارة ثانية ثم أشعل الثالثة وتركها بين شفتيه ثم وضع يديه خلف رأسه وراح يدندن: درب حلب ومشيتو… كلو سجر زيتوني… آه يا خيّو…

لم ينتهِ من سيجارته حتى بدا له بالفعل أنه يمشي درباً، وعلى جانبيه تصطف أشجار الزيتون، وفي نهاية الدرب رأى فتاةً، لطالما كان يحلم بالفوز بها، تنتظره بفستانٍ أبيض وطرحةٍ تزيّنها ورود صغيرة. وما إن اقترب منها حتى عانقته وبدأت تدور به وهي تضحك حتى ارتفعا عن الأرض. خاف شكري في البداية لكنه ألِف الطيران وأحبّه، لا سيما أنه قد رأى أيضاً أصدقاء له يطيرون مع فتياتهم، وكأنهم في عرس جماعي، ويتنقلون ما بين الغيوم، حتى ذابوا كلهم في رحم غيمة أمطرت مساءَ ذلك اليوم أشلاءَ أحلام.

* تشكيلي وناقد

9- موجة تقتلع الروح

أحمد م. أحمد*

وِحشةٌ لم أتخيّل أن بشرياً قد يعيشها، بعواء ريحها، وبردها، وانتظار الموت من سقف قد يسحق الجسد، أو موجة تقتلع الروح.

* شاعر ومترجم

إشارات من نصوص الأمس

■ رجفت الأرض رجفة مقلقة

في عام 1173 سادس ربيع الأول، الساعة العاشرة من الليل قد رجفت الأرض رجفة مقلقة برياح عواصف ورعود قواصف، فطاشت لها العقول وحصل والعياذ بالله غاية الذهول وتخلّعت السقوف وتشقّقت الجدران وهُدّمت في الشام بيوت لا تحصى وسقطت رؤوس مآذن دمشق.. وخرب أكثر دور دمشق، ووقعت تلك الليلة سقوف وبيوت لا تحصى ووقعت شراريف الجامع المزبور، وكان طول كل شرافة مقدار 5 أذرع على حائط حول سقف الجامع مقدار قامة من جميع الجهات الأربع.

كمال الدين الغزي ـــ «التذكرة الكمالية»

■ زلزلة عظيمة

كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس.

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها 30 ألفاً تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، و14 شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري.

وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب «مرآة الزمان» إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ومائة ألف إنسان قتلاً تحتها، وقيل إنّ أحداً لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم.

ابن كثير ـــ «البداية والنهاية»

■ تحت الهدم ما لا يحصى

في هذه السنة (549 هـ)، في رجب، كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية، وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين محمود بن زنكي في ذلك الوقت، المقام المرضي، من تداركها بالعمارة، وأغار على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، هلك تحت الهدم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتّاب كان بمدينة حماة، فارق المكتب، وجاءت الزلزلة، فسقط المكتب على الصبيان جميعهم، قال المعلم: فلم يحضر أحد يسأل عن صبي كان له هناك في إشارة إلى وفاة أهاليهم.

أبو الفداء عماد الدين إسماعيل ــ «المختصر في أخبار البشر»

■ الزمان جرّ عليها ذيله

دعاني إلى جمع هذا الكتاب ما نال بلادي وأوطاني من الخراب، فإن الزمان جر عليها ذيله، فأصبحت موحشة بعد الأنس، قد دثّر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرات بها حسرات وهموماً، ولقد وقفت عليها بعدما أصابها من الزلزال ما أصابها، وهي أول أرض مسّ جلدي ترابها، فما عرفت داري، ولا دور والدي وإخوتي، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي، فبهت متحيراً مستعيذاً من عظيم بلائه، وانتزاع ما خوله من نعمائه.

أسامة بن منقذ ـــ «المنازل والديار»

ملحق كلمات

—————————

مختارات شعرية: رحيمةً بنا كوني، أُمَّنا الأرض، وأنتِ تَتَراقصين

رشيد وحتي

لهوميروس، في أوديسته، مقولة مفتاحية حول علاقة الشعر بالآلام: «تحوك الآلهةُ فجائعَ للبشر كي يكونَ للأجيال القادمة ما تُنْشِدُهُ». مقولة تَتَصَادَى مع تعبير نَاظِمْ حِكْمَتْ: «وَهَلْ مِنْ شَجَنٍ لَمْ نُنْشِدْهُ بَعْدُ؟». وبذلك، تتواشج، خارجَ إطارَيْ الزمان والمكان، العلاقة بين المأساوي والشعري والغنائي. وفجيعة الزلازل التي هزت سوريا وتركيا وجوارهما مناسبة للبحث في مدوَّنات الشعر العربي (والشرقي) الحديث والمعاصر عن هذه اللَّحظات الإنشاديَّة التي تجاوز فيها الشعراء توثيق لحظات الآلام إلى التعبير عن آمال التعاضد بين البشر، في ما يتجاوز الحدود التي ترسمها بقسوة الجنسيات والأعراق والأديان والجغرافيات المنغلِقة المقيتة؛ على العكس تماماً مما يجري حالياً من نفاق غربي وتباكٍ تمساحي وحصار جائر على رَحِمِنا الكبرى: سوريا. يكفي أيَّ متتبع عادي أن يلحظَه لو تتبَّع على النت في أي لحظة، خلال هذه الأيام، مقارنةً لحركة الطيران المدني الإسعافي بين تركيا وسوريا.

من جهة أخرى، إضافةً إلى الحمولة الانفعالية والتضامنية للقصائد أدناه، هي أيضاً فرصة للشعراء لطرح تساؤلات فلسفية ولاهوتية حول مصدر الخير والشر والإرادة والأفعال الإلهية، متراوحةً بين تقديم جواب علمي يربط الزلازل بظواهر وتفسيرات جيولوجية محضة فحسب، جواب يضع العالمَ وجريان عناصره بمعزلٍ عن «تأثيم» أو «مباركة قوة إلهية» عليا لأفعال البشر؛ وتقديم جواب غيبي يجعل من الزلازل — وباقي الكوارث الطبيعية — «عقاباً إلهياً للبشر»؛ بل ثمة أيضاً شعراء جعلوا هذه الفجائع ثيمة من ثيمات الأدب القيامي. وفي نهاية المطاف، بعيداً عن كل هذه التفصيلات والفروقات والرؤى المتناحرةِ، تعلو قيم الجمال والإنسانيَّة فوق كل شيء، ومن خلالها خلَّد الشعراء لحظاتٍ أليمة من حيوات شعوبهم وإخوتهم في الإنسانيَّة.

1- عواء مصحح اللغة

عبد الرحمن مقلد *

تَمُرُّ زلازلُ وبراكينُ

وأنا أعْوِي

كي يسمعَني من يتسابقُ نحوَ الموت

وكي ينتبهوا قبلَ سقوطِ البيت

أرجو أن يتركَني

القابعُ فوقي

ولا ينتبه لأيّ من أخطائي

وكأني قاتلُ من قتلُوه

ولصُّ المَالِ العَامِ

– إذا ضبطُوه –

أقاموا لي المَقْصَلةَ

وقالوا

كيفَ..

لماذا لا تنتبهُ..

وكيفَ لهذا الشاعرِ أن ينتبهَ

لخَطْوِ يديه

وتلك دماءُ الموتى تطغى فوقَ الشاشةِ

تملأ مجرى الأحرفِ

تحملُ من بصماتِ القتلةِ

ما لا يمحُوه دليلُ

لكني كنتُ أرمّمُ تلك الهُوَّةَ بين القاتلِ والمقتولِ

كأني حفارُ قبورٍ

كلُّ الجُثثِ لديه سواءُ

حفارُ قبورٍ!!

ماذا يفعلُ يا ابنتيَ

الشاعرُ بستانيُّ اللغةِ

سوى أن يرثي المَوْتَى

أو يتريثَ بضعَ دقائقَ كي تحتضنَ الأمُّ بَنِيها

أو ينفجرَ الأَبُّ ويغلقُ عينَ الولدِ

وأن يقتبسَ الغارقُ آخرَ نفسِ

ويمرَ قطارُ المنتحبينَ

ليس عليه سوى أن يضعَ زهوراً للدبابة

كي تقتاتَ

ولا تضطرُ لصيدِ مزيدٍ من صُحْبَتِه

ويَزَيِنُ وجوهَ نساءٍ منهوكات العِرضِ

ويضعُ فواصلَ كبرى بين القاتلِ والمقتولِ

*القاهرة

2- تحت الأنقاض

تذبل الوردة

في يده.

(محيي الدين محجوب، طرابلس/ليبيا)

3- كل الضحايا إخوتي

قلبي مليء بالموتى

ولا أعرف أين أدفنهم.

(وديع سعادة، سيدني/لبنان)

4- من كثرة مشاهد الأنقاض

تخاف أن تطبق جفنيك

فيصرخ أحد ما طالباً النجدة

من تحتهما

(لطيفة أودوهو، الفقيه بنصالح/المغرب)

5- قاسية هي الأوجاع

أيتها الأرض المتكسرة

ودامية جداً

فجيعتك

(مجيدة البالي، فلوريدا/المغرب)

6- فولتير: قصيدة عن كارثة لشبونة، 1756 (مقطع)

جانب الفلاسفة الصواب حين يزعمون أن «كل شيء على ما يرام»،

اِهرعوا لتتأملوا: هذه الأطلال الرهيبة،

والأنقاض والخرق والرماد الحزين،

وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم (…)

هل ستقولون، عند رؤية هذا الركام من الضحايا:

«إن الله ينتقم، وأن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم»؟

أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال

الملتصقة أفواههم بأثداء أمهاتهم المسحوقة والدامية؟

هل بلشبونة، التي لم يبق لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟

لشبونة منكوبة، وفي باريس تُقام حفلات الرقص.

(ترجمة: نجيب مبارِك).

7- الأرض تعرف هوية الفاعل

كذلك الدمية التي

تحت الأنقاض.

(محمد الأمين الكرخي، لاهاي/العراق).

8- شذرات من العرفان الفارسي

1. وما الجهات الست إلا سفينة بلا شراع لحظة الزلزال. (ميرزا حاجب البروجردي).

2. الأقرب لسجيّة الجبل زلزلة ذات طعنة عميقة. (بيدل الدهلوي).

3. ينبض الكون بالعمران والأرض حبلى بالزلازل. (بيدل الدهلوي).

4. من زلزلة إلى أخرى قضيت العمر، ولم ينهدم لمرة واحدة بيت السلاسل. (كليم الكاشاني).

5. بيت بلا حبيب وزلزلة في الطريق. (عبد الرحمن الجامي).

6. لا يأبه لألف زلزال من نصب خيمة في الصحراء. (سعدي الشيرازي).

7. وحدهم أهل الصحراء في مأمن من الزلازل. (البلخي الرومي).

8. لا شفاء من فجيعة الزلزال حتى إن ارتشفت الخمر إلى يوم الدين. (سوزني السمرقندي).

9. بحجارة الزلزال يرشقنا العدم. (الأزرقي الهروي).

(ترجمة: محمد الأمين الكرخي).

سركون بولص:

الحياة على حافة زلزال

أعيشُ على حافّة شِقّ الزلازل المسمّى:

أخدود القدّيس أندرياس..

يا لهُ من قدّيس!

يتخاطَفُ، بين آونةٍ وأخرى

تحتَ أساساتِ بيتي

فيرتَجُّ لهُ

البيتُ.

بيتي،

عبر خلفيّات الحديقة

صغيرٌ، على وقْعِ تلّة الانحدارات

نحو البحر.

ذاتَ يوم سأقولُ لأمواجه:

سوف أطفو فيكَ على قُفَّتي أيها المحيط الهادي

وبضعة من كتُبي المفضّلة

مَحمولةٌ على ظهري

عائداً من جديد إلى قصة الطوفان!

أنا من يَشقى

ليوحِّدَ الشقّين، في أحلامه

بين الزلازلِ والسكينة.

بعمودي الفقَريّ إن لزمَ الأمور، أُسندُ

انزياحةَ التشَقّق الأرضيّ الذي ستشاؤهُ الطبيعة.

أو تتهجّاهُ ألواح المصير.

كنتُ أمشي، في الأماسي، وبيتي

يتكدّر من الأنباء

والتوقُّعات

والتوجّسات والنذائر

تكاد حجارتهُ أن تشيخ في وجه

الانهيارات المقبلة.

كنتُ أمشي لأنظرَ إلى

المشهد التالي، وأشهدَ للغرابة.

عندما جئتُ إلى هذا المكان

كنتُ أحلم بأنّ كلّ شيء في انتظاري:

الطبيعة بكلّ بهائها، رفوفٌ عَلتْها كتُبي.

أسماءُ حيّةٌ تجتاحني. ذلك المعنى

الذي سأقولهُ، أنا

وحدي.

هكذا فكّرت، أنا البريء

الأكثرُ خضرةً من أعشاب والت ويتمان

في حديقة السذاجة.

كان ذلك منذُ وقتٍ سحيق

مَرّ في رمشة عين. واليومَ أعرفُ

أنني حقاً أعيشُ على

حافّةِ زلزال.

(العراق)

——————————

النظام السوري …. “الي استحوا ماتوا”/ فاضل المناصفة

هزات ارتدادية عديدة بمقياس الأخلاق ضربت نظام الأسد وشبيحته في العمق بعد أن تم توثيق شهادات من داخل سوريا تؤكد سرقة المساعدات الإنسانية التي وصلت من عدة أقطار عربية للمتضررين من الزلزال الذي ضرب شمال البلاد، وهو ليس بالأمر الجديد على سوريا والسوريين، اذ لطالما تعرضت المساعدات الإنسانية للنهب وهو ما أكده سابقا مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS” في تقرير نشره العام الماضي يؤكد تورط مرتزقة النظام السوري قام بسرقة 96 بالمائة من المساعدات الإنسانية الأممية.

وبعد أن فاحت رائحة الفضيحة ونشر غسيل النظام الوسخ في كل أرجاء المعمورة خرج وزير التجارة السوري لينفي عمليات السرقة محملا المواطنين مسؤولية بيع المساعدات الإنسانية في الأسواق، ثم اعتقلت جهة أمنية نظامية الناشط السوري معين علي الذي عبر عن سخطه في فيديو أكد فيه أن النظام يضع عراقيلا بيروقراطية في تحول دون وصول المساعدات الى المناطق المتضررة لينتهي بها المطاف في بطون الشبيحة، وهو الفيديو الذي أدى الى اعتقاله ثم الى تغيير شهادته في فيديو ثان وفق ما طلبته أجهزة النظام القمعية ليفلت هذا الأخير من عقابها وليوجه انتقادا لوسائل الاعلام المعارضة باستغلال شهادته وفضح النظام.

لقد اصطاد النظام السوري من خلال كارثة الزلزال عصفورين بحجر واحد عندما استغل الكارثة الإنسانية ليمارس عقابا جماعيا على سكان المناطق المحررة ويذكرهم بان الحل والربط لا يزال بيده، وعندما أكد لهم بأنهم لا يزالون خاضعين لسلطة الأسد بعد أن انتظرت الأمم المتحدة موافقة “حاكم دمشق” لدخول المساعدات عبر معبري باب السلام والراعي وهو مكسب سياسي للأسد الذي لطالما وصفه المجتمع الدولي بـ “مجرم حرب” الذي وجد في محنة الزلزال فرصة للنزول الى شوارع حلب ليطل على المتضررين من الزلزال بابتسامة لا تحترم هيبة الموت الذي عصف بالسوريين.

ابتسامة الأسد أثارت اشمئزاز السوريين والعالم العربي كله حتى وان كانت عفوية، لكنها تدل وبشكل قاطع أن الرجل تعود على رائحة الموت والخراب لدرجة أنه نسي حينها أنه بصدد زيارة الى منطقة متضررة من زلزال مدمر خلف مئات الموتى وعشرات الالاف من المشردين والجوعى والبردانين، ليلخص مشهد الابتسامة للسوريين بأن “رئيسهم” لا يأبه لمعاناتهم ذلك لأنها بالنسبة له جزء من واقعهم الأليم وقدر اختار السوريين للعيش في كنف “سوريا الأسد”، فلمن لم يمت بالزلزال مات في سجون النظام، ومن لم يمت في السجون مات غرقا في رحلة الهروب منها ومن لم يمت غرقا مات قهرا من حال البلاد ووضعها الاقتصادي الميؤوس منه.

سرقة المساعدات الإنسانية في ظل كارثة إنسانية أمر فظيع ولكنه لا يمكن أن ينسينا شيئا أفظع منه وهو كيف سرق حافظ الأسد بلدا بكامله وضيع جزءا منه ثم سلمه لأبنه ليدمره، وكيف وضع خراب البلد في كفة وبقاء نظام الأسد في كفة أخرى في ثورة 2011، وكيف كانت البراميل المتفجرة تفتك بالناس ليموتوا خنقا بدون ذنب، وكيف نفذ شبيحة الأسد اعداما مصورا لعشرات المدنيين فداءا للقائد وتطهيرا للبلد من “الخونة” وكيف هتف المرتزقة في البرلمان السوري سنة 2011 بشعار “شبيحة لأجل عيونك يا أسد” ليعطوه تفويضا شعبيا بممارسة التشبيح…. بضعة أطنان من المساعدات الإنسانية لا يمكن تحزننا أكثر من ضياع بلد بأكمله.

أبان الزلزال للجميع الصورة الحقيقة للنظام السوري العاجز عن تحقيق العدل حتى في توزيع البطانيات والأغذية في الوقت الذي تتقاطر فيه المساعدات من كل حدب وصوب وفي مقدمتها من البلدان الخليجية التي يتهمها بشار بالعمالة والخضوع للمشروع الأمريكي، كما أبان أيضا عن حجم الكارثة الأخلاقية الحقيقة التي تضرب عمق النظام وتؤكد بأنه نظام لا يأبه لمعاناة البشر ولا يرى فيهم سوى رقم قومي خاضع للواجبات الضريبية أو لخدمة العلم أو لرفع نسبة المشاركة في الانتخابات “المزورة” من دون ان يكون لهم الحق حتى في أن تحترم مشاعرهم في حضرة الموت…. تلك هي سوريا وذلك هو النظام السوري الذي لا يمكن أن يتغير.

ايلاف

—————————-

ناج من الزلزال في أنطاكيا: لم تحن ساعة الحداد ولا يزال الحزن بالنسبة لنا رفاهية

بعد أسبوع من الزلزال وفي أكثر شريان دمارا في مدينة أنطاكيا التركية، حيث يعيش العديد من اللاجئين السوريين، لا يزال الناجون وأقارب الضحايا في عين المكان ينتظرون “أو يشاركون” في إزالة الركام على أمل إخراج الجثث من تحت الأنقاض لدفنها بالقرب من الحدود التركية السورية.

فلا راحة ولا ظلام ولا هدوء خلال ساعات الليل وسط أنقاض أنطاكيا، لا بالنسبة لعمال الإنقاذ في عملهم الدؤوب تحت الأضواء مع جرافاتهم، ولا لأولئك الذين ينتظرون ثمار أبحاثهم.

هكذا بدأت هالة قضماني موفدة صحيفة ليبراسيون Liberation الفرنسية الخاصة إلى منطقة الزلزال التركي السوري تقريرها الذي حاولت فيه وصف الأوضاع، لافتة إلى أن الناجين والباحثين عن أخبار ذويهم تجمهروا في جماعات صغيرة بدرجة حرارة تقارب التجمد.

وتتقدم الموفدة إلى 3 نساء جالسات على كراسي عثرن عليها في الركام، تقول إحداهن إنها وصلت لهذا المكان من مدينة أضنة بحثا عن أختها وزوج هذه الأخت وأطفالهما الثلاثة.

وتعلق قائلة “لم يعد لدينا أي أمل في العثور عليهم على قيد الحياة ولكننا ما زلنا ننتظر، وسننتظر على الأقل لنرى جثامينهم” دون أي انفعال واضح وهو ما تفسره المرأة بقولها “دموعنا قد جفت الأيام الثلاثة الأولى.. لكن أعصابنا مشدودة”.

وتعتبر تداعيات الزلزال، وفقا لقضماني، صعبة للغاية للناجين، إذ ينصب اهتمامهم كليا على محاولة إنقاذ الأحباء من تحت الأنقاض وترتيب الجثث لدفنها، لكن يجب أيضًا إيواء العديد من الأشخاص الذين لا مأوى لهم وتزويدهم بالاحتياجات الأساسية من غذاء وتدفئة ومنتجات للنظافة، لأن المساعدات الإنسانية المنظمة تغمرها الاحتياجات الهائلة، وبفضل تضامن العائلات والأصدقاء، يجد الكثيرون ملاذًا في مناطق أخرى من أنطاكيا أو المدن التركية البعيدة.

وخلال تبادل الناس التعازي في شارع أنتيوش بهذه المدينة المنكوبة، تقول الكاتبة مبرزة مقارنات لدرجات سوء الحظ، فالجميع يواسي نفسه لمصيره وهو يرى بجانبه من هم أسوأ حظا منه، فالناجون يشعرون بأنهم محظوظون أكثر من الموتى، خاصة أولئك الذين عانوا لساعات وأيام تحت الأنقاض دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم، أما من لم يفقد أحدا من أفراد عائلته فإنه لا ينفك يحمد الله، والأسوأ حسب أحد الناجين “ذاك الطفل الذي كان الناجي الوحيد من أسرته ووجد الآن نفسه يتيمًا؟ أو أولئك الآباء الذين فقدوا واحدًا أو أكثر من أطفالهم؟”.

ويرى أحدهم أن الأفضل لمن فقد بعض عائلته أن يكونوا جميعا قد قضوا نحبهم وهو معهم، وهو ما يعلق عليه آخر بقوله “حتى لو حزن عليهم أبناء العم أو الجيران”.

أما هذا الرجل، المدعو هاشم والذي لا يزال يريد البحث في شقة عمته للعثور على جثث أحبائه، فإنه يلخص لموفدة الصحيفة ما حل به من أسى وكآبة قائلا “ساعة الحداد لم تحن بعد والحزن بالنسبة لنا رفاهية لا يزال يتعذر علينا الوصول إليها”.

المصدر : ليبراسيون

—————————

كيف نقدم المساعدة النفسية للناجين من الكوارث الطبيعية؟/ مريم ناجي

اهتز العالم الأيام الماضية بما حدث في سوريا وتركيا، نشاهد، بقلوب يائسة وعقول على حافة الجنون، غضب الطبيعة دون حول لنا ولا قوة سوى الدعاء وتمني زوال المصيبة وإنقاذ أكبر عدد من الضحايا أسفل الأنقاض. غضب الطبيعة تعبير مجازي، زلازلها وبراكينها وفيضاناتها، كل كارثة يُفسّرها كلٌّ منا على هواه، البعض يجد ملجأ في الدين، وأنها أمر الله الذي لا مفر منه، يُنقذ عقله في التسليم، البعض يراه من زاوية علمية بحتة، وأن الأرض أو السماء تُلقي ما في جوفها، عمليات طبيعية تماما.

تحدث الزلازل نتيجة لحركة ألواح الغلاف الصخري المحيط بالأرض، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالزلازل، لا أحد، قد يمنحنا علماء الجيولوجيا تصوّرات عامة عن المناطق المعرّضة للخطر، لكن لا إشارة واضحة ومؤكدة عن موعد وقوع أي زلزال أو مكانه. لكن ثمة طرق يمكن الاستدلال بها على أن شيئا خطيرا سيحدث قد يقع في مكان ما، منها أجهزة رصد الزلازل التي تقيس أي اهتزاز في سطح القشرة الأرضية طوال الوقت، حتى إن كان اهتزازا ناتجا عن حركة القطارات أو الشاحنات، ومن خلال هذا الرصد يمكن ملاحظة تغيرات قد تُشير إلى احتمالية وقوع هزة أرضية. من الاستدلالات الأخرى ظهور المنحدرات أو الشقوق أو التصدعات في جزء من القشرة الأرضية في أي مكان، أو اختلاف منسوب المياه في الآبار أو الخلجان، وأيضا تصاعد بعض الغازات مثل غاز الرادون في المناجم والمحاجر تحديدا.

في الأيام الأخيرة، انقلب العالم رأسا على عقب، تركنا جميعا، القريبين من موقع الكارثة أو البعيدين عنه، في حالة من الذهول والفزع بأن العالم معلق على طرف إبرة، نهاره شمسه مشرقة وليله أنقاض وعمليات إنقاذ وقياس لنبض الحياة. كل الصور التي تصلنا، كل المعطيات التي بين أيدينا تؤكد لنا أن العالم مكان يضج بالفجيعة، يتسرّب منا شعورنا بالأمان، نكتشف كم نعيش حياة واهية أينما كنا، الأرض تقرر ونحن نخضع لها رغما عنا، نفقد المقدرة على المحاولة، محاولة الفهم أو الاستيعاب أو تقبل أن ثمة أمورا لا سلطة لأي أحد عليها، نكتشف أن أحداثا كهذه تسلب من ثقتنا بأن الحياة معنى، تسلب منا أي إمكانية للتحلي بالصبر أو نظرةٍ إيجابية لما ينطوي عليه المستقبل.

كيف يساعد المختصون النفسيون؟

نأمل أن التبرعات المادية قد وصلت لكلّ محتاجيها، وأن يخفف مرور الزمن وطأة الفجيعة، لكن في هذا الدليل المبسط نحاول محاولة متواضعة أن نشرح كيف نقدّم المساعدة النفسية للناجين، وكيف يلعب المختصون النفسيون دورا جوهريا في استعادة المرونة النفسية، أمر يبدو مستحيلا لكن مطلوب في الوقت نفسه خلال هذا الظرف العصيب.

نظرا إلى أن الأطباء النفسيين مدربون بشكل خاص لمساعدة الناس على التعامل مع التوتر والقلق والمشاعر القوية، فبإمكانهم مساعدة الناجين من الكوارث والمتطوعين والمنقذين على استيعاب المشاعر التي تضرب بهم كالغضب واليأس والحزن والذنب. لا يقدم الطبيب النفسي علاجا في قلب الكارثة، بل يساعد الناجين على تعزيز قوتهم الداخلية وقدرتهم على الصمود للتكيف مع الأمر، يستمع إلى أحزانهم على فَقداهم ومخاوفهم من الحاضر والمستقبل. أيضا يساعد الطبيب أو المعالجُ النفسي الناجيَ على إدارة ظروف معيشته المؤقتة والتأقلم مع الملاجئ التي لا تمت بصلةٍ لحياته السابقة الطبيعية.

نظرا إلى أن المعالج قد يكون من خارج المنطقة التي حلّت بها الكارثة، بإمكانه تسهيل التواصل وتوفير المعلومات عن الموارد المتاحة وأماكن الوصول إلى الاحتياجات من الملابس والرعاية الطبية المطلوبة. أيضا يعرف على نطاق واسع الاحتياجات النفسية للناجين، ويتمتع بقدر واسع من المعرفة والفهم لما يمرون به، لذا يمكنه المطالبة باسمهم لما يحتاجون إليه وقد تغفل عنه المنظمات التطوعية التي تحاول المساعدة. يساعد المتخصصون أيضا الناجين في تعزيز مهارات المرونة للنجاة من الوضع الحالي، ومساعدتهم على تقبّل التغيير وحقيقة أنهم سيعيشون في حالة من التقلّب لفترة من الوقت، يعمل المختص مع الناجين لوضع خطط معقولة لتخطي الأمر أولا ثم بدء رحلة التعافي.

ما الذي يمرّ به الناجون بعد النجاة من الكوارث؟

    فيض من المشاعر الكثيفة والمباغتة. من الطبيعي أن يشعر الناجي بالقلق والتوتر والحزن الشديد، لكنه قد يمر أيضا -حتى بعد مرور فترةٍ بعد الكارثة- بتغيّراتٍ حادة في مزاجه والانفعال السريع.

    يتغيّر سلوكه وأفكاره تغيرا ملحوظا، يخزن عقله ذكريات الحدث وتتكرر كل حينٍ بنفس الوضوح، فتظهر أعراض جسدية مثل التعرق أو تسارع نبضات القلب. قد يتشوش دماغه فيجد مشقة في التركيز أو اتخاذ القرارات، حتى البسيط منها.

    يتغيّر نمط النوم وتناول الطعام، قد يُفرط البعض في كليهما، أو يعاني البعض من فقدان الشهية والحرمان من النوم.

    التحسس من البيئة المحيطة، مثل صفارات الإنذار أو الأصوات العالية أو الروائح النفاذة الحارقة، لأنها قد تُثير ذكريات الكارثة ومعايشتها لحظة بلحظة من جديد، وربما تأتي هذه المحفزات مصحوبة بمخاوف جديدة.

    إحدى الاستجابات هي توتر العلاقات الشخصية، قد تتضاعف الخلافات بين أطراف الأسرة أو يتعمّق الصراع، وقد يحدث العكس أيضا مثل الانسحاب والانعزال التام عن الحياة.

    يُسبب الإجهاد الناتج عن الكوارث أعراضا جسدية قد تتطلب الرعاية الطبية لتحجيمها، مثل الغثيان والصداع وآلام الصدر، وفي حال كان الناجي يُعاني من مرضٍ ما قبل الكارثة قد تتفاقم أعراضه وسط كل الهلع المحيط به.

كيف نُقدّم الدعم النفسي للناجين من الكوارث الطبيعية؟

أولا: ساعده على تقليل متابعة الأخبار

الأخبار في متناول يده على الدوام على مدار 24 ساعة عبر جميع المنصات. متابعة أعداد الضحايا أو أخبار المفقودين لن تزيده إلا قلقا وهلعا، وستجعله يسترجع الحدث مرارا وتكرارا. حاول منعه من الوصول إلى الأخبار ومساعدته على الانخراط في أنشطة الحياة الطبيعية وروتينها.

ثانيا: هَيِّئ له الظروف للحصول على قسطٍ كافٍ من الراحة

قد يواجه الناجي صعوبة في النوم عقب وقوع الكارثة، أو قد ينام نوما متقطعا، لذا حاول ألا تدعه يذهب إلى سريره إلا وهو مستعد للنوم، ونَحِّ عنه أي أجهزة إلكترونية قد تزعج نومه، جنّبه شرب المنبهات قبل النوم بساعة على الأقل، إذا عجز عن النوم فحاول أن تتحدث معه عما يدور في ذهنه.

ثالثا: شجّعه على العودة لروتين حياته بالتدريج

ليس في الأمور الكبيرة مثل العمل والدراسة، بل في أصغر الأمور مثل مواعيد النوم ومواعيد تناول الطعام. سيُفيده إضافة أي نشاط ممتع أو ممارسة أي هواية يُحبها ويتطلع لفعلها لتُشتته عن الواقع، أيضا يحبذ إضافة أي نشاط حركي أو رياضي إن أمكن.

نظرا إلى أن كارثة كالزلزال تدمر شبكات الدعم المحيطة بالناجين، فإن التواصل حتى مع شخص واحد قد يُحدث فرقا في نفسيتهم ويعيد لهم شيئا من شعورهم بالأمان. (غيتي)

رابعا: انصحه بتجنب اتخاذ أي قرارات مهمة

ساعده على الامتناع عن اتخاذ أي قرارات حياتية مهمة وفيصلية، مثل السفر خارج البلاد أو تغيير وظيفته، لأنها تتطلب جهدا للتكيّف معها، وهو أمر شاق في أعقاب أي كارثة. ذكِّره أن مهمته الأساسية حاليا هي النجاة، نفسيا وجسديا، أن يستعيد جزءا من نظام حياته واتزان مشاعره، ومن المهم تسهيل هذه المهمة على نفسه قدر المستطاع.

خامسا: ساعده على استيعاب التغيرات وتقبّل الواقع

كما رأينا، تدمر الكوارث المنازل والمدارس وأماكن العمل والعبادة وتشل حياة سكان تلك المناطق لفترات طويلة، أَظهِر تعاطفك مع ما يمرّ به الناجون الذين فقدوا عائلاتهم وأحباءهم أو هم شخصيا تعرّضوا لإصابات جسدية ونفسية ستستمر معهم مدى الحياة. امنحه مساحة آمنة يشارك فيها أفكاره ومشاعره، أو ساعده على البحث عن الطريقة الأنسب للتنفيس عن غضبه وحزنه لأن كبت تلك المشاعر لن يجعلها سوى أكثر حدة.

سادسا: وفّر له معلومات عن أماكن المساعدة

نظرا إلى أن كارثة كهذه تدمر شبكات الدعم المحيطة بالناجين، فإن التواصل حتى مع شخص واحد قد يُحدث فرقا في نفسيتهم ويعيد لهم شيئا من شعورهم بالأمان. في حال كنت موجودا في مكان بعيد عمن تحاول مساعدته، حاول جمع معلومات عن الأماكن التي توجد فيها المساعدة وتصل لها التبرعات أو مجموعات الدعم أو المختصين الذين يعرضون تقديم الاستشارات المجانية، لأنه حتى مع توفر المساعدة قد لا يعرف طرق الوصول إليها من أثر الصدمة والانشغال بالفزع المحيط به.

سابعا: انصحه بمراجعة طبيب أو أخصائي نفسي للمساعدة

قد تشكّل تجربة وقوع الكارثة الطبيعية لأحدهم صدمة نفسية على المستوى العميق، ليس بالضرورة أن تظهر أعراض الصدمة النفسية خلال الأيام الأولى، قد يعاني الناجي بمرور الوقت من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل استرجاع قهري لصور الكارثة في ذهنه، أو قد تأتيه الكوابيس، وقد يظلّ لأشهر لاحقة سريع الانفعال وشديد الخوف، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل التبوّل الّلاإرادي أو الأفكار الاقتحامية والشعور المستمر بعدم الأمان. لذلك من الجيّد أن تأخذ بيده لمراجعة أخصائي نفسي للتحقّق من عدم وجود أعراض اضطراب ما بعد الصدمة أو الشعور بالفقد أو العجز عن التكيف أو خوض رحلة علاجية في حال وجودها.

____________________________________________

المصادر

    Coping Tips for Traumatic Events and Disasters,  (SAMHSA) U.S. Department of Health & Human Services, 2022

    What psychologists do on disaster relief operations? American Psychological Association, 2014

    How to Cope With Natural Disasters? Matthew Tull, Verywell Mind, 2020

PNGJPG100JPG92%JPG85%JPG80%JPG75%💾IE11GIF(V)ℹ️⚙️X

المصدر : الجزيرة

——————————-

زلزال سوريا وتركيا.. 3 دروس في الاستعداد للكوارث المدمرة

وصل عدد قتلى الزلزال المدمر في تركيا وسوريا لما يفوق 41 ألفا وفقا لرويترز، في وقت يحتاج الملايين لمساعدات إنسانية في ظل عدم وجود مأوى للكثير من الناجين في الشتاء القارس، بينما أصبحت عمليات الإنقاذ قليلة ومتباعدة.

وفي حين تحتفي فرق البحث بين الحين والآخر بالعثور على ناجين، استطاعوا النجاة بأعقوبة، فإن الخبراء يستخلصون الدروس المتعلقة بكيفية مواجهة الكوارث الطبيعية، وفقا لما ذكر موقع “NPR” الإخباري.

تدريب متطوعين محليين

وبناء على مراقبة جهود الإنقاذ، توصل خبير الاستجابة للطوارئ والكوارث الأميركي، فورست لانينغ، لموقع “إن بي آر” إلى أن “الأشخاص الذين سوف يكون لهم أكبر تأثير في عمليات الإنقاذ هم الجيران، وذلك لأنهم موجودون في عين المكان”.

وأوضح لانينغ والعديد من من الخبراء أنه بغض النظر عن المنطقة التي ضربها زلزال أو أصابتها كارثة طبيعية أخرى، فيجب أن يعرف الناس يقينا أن المساعدة الفعالة تأتي غالبًا من المجتمع المحلي.

وشدد الخبير الأميركي أن هذا هو أحد الدروس المستخلصة من زلزال هائل بلغت قوته 7.8 درجة وأدى إلى تدمير مناطق واسعة في تركيا وسوريا.

ويعد نشر هذا الوعي وتدريب الأشخاص على عمليات الإنقاذ أمرا هاما في حال تأخر أو عدم وصول فرق إنقاذ محترفة، إذ يرى لايننغ أنها ضرورية لإنقاذ معظم الأرواح في أعقاب حدوث الكارثة مباشرة.

ولفت إلى إن فرص إنقاذ الأشخاص العالقين تحت المباني المنهارة تبدأ بالتضاؤل بشكل كبير بعد اليوم الرابع أو الخامس من حدوث الزلزال، وبالتالي فإن عامل الوقت هو أمر حاسم في مساعدة العالقين تحت الأنقاض.

وفي نفس السياق، قالت رئيسة إدارة العمليات والاستراتيجيات في الجامعة في كلية بوفالو للإدارة، ناتالي سيمبسون، إنه “حتى إذا لم يتمكن أحد المارة من إخراج شخص ما من تحت الأنقاض، فلا يزال بإمكانه تحديد  الأماكن التي يوجد بها الناس العالقون”.

وأوضحت أنه سيتم إعطاء الأولوية لجهود الاستجابة في المواقع التي وجد فيها المارة بالفعل أشخاصًا على قيد الحياة.

وقال لانينغ: “يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لفحص كل مبنى، فعمال الإنقاذ يضطرون إلى الاستماع وإزالة أجزاء حطام المبنى بعناية للوصول إلى الناس”.

وتابع: “وفي حالة زلزال تركيا وسوريا فقد كان هناك آلاف وآلاف من هذه المباني”.

وأكد إن هذا الأمر يزداد أهمية (تدريب متطوعين محليين) من “خلال  إدراك حقيقة أن الفرق الدولية تستغرق من 24 إلى 48 ساعة للوصول، كما أنه  لا يوجد في أي بلد ما يكفي من فرق البحث والإنقاذ المحلية للبحث في كل مبنى منهار”.

انتشار سريع للجيش

في كثير من دول العالم يتم الاستعانة بقوات الجيش للمساعدة في عمليات الإنقاذ والإجلاء عند وقوع الكوارث الكبيرة، بيد أن هذا لم يكن متوافر في سوريا التي تعاني نزاعا دمويا وانقساما كبيرين، وضعفا في إمكانيات قوات النظام في هذا المجال، كما أن الحكومة التركية تلقت الكثير من اللوم لعدم الاستعانة بالجيش بشكل فوري وكبير في عمليات الإنقاذ.

وتقول سيمبسون إنها تتمنى في كل مرة تقع فيها كارثة هائلة أن تحدث تعبئة فورية لأطقم الإنقاذ والجيش، مضيفة: “ولكن هذا ليس هو الحال دائمًا، ولم يكن الأمر كذلك في تركيا وسوريا”.

وأردفت:”أكبر نقطة فشل في الاستجابة للطوارئ هي الفشل في التعرف على حقيقة أن هذه حالة طارئة”.

وأضافت أنه في العديد من المناطق حول العالم، بما في ذلك تركيا، فإن الجيش هو الأفضل تجهيزًا للعمل للتعامل مع هذه النوعية من الكوارث، لاسيما لجهة استخدام القواعد الجوية والمطارات العسكرية لهبوط وانطلاق طائرات المساعدات والتي تحمل طواقم الإنقاذ.

وشددت سيمبسون على أن تركيا “منطقة معرضة للزلازل وستكون دائمًا عرضة لكوارث من هذا الحجم”.

وأردفت: “هذا درس مهم للغاية، فهو يؤكد ضرورة الاستجابة بسرعة من قبل القوات المسلحة، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول عليها، وأعتقد أن ما حدث في سوريا وتركيا سوف يؤثر على صانعي القرار في مناطق أخرى من العالم عند حدوث كوارث مشابهة”

وختمت بالقول: “هذا تذكير بضرورة الاستفادة من إمكانيات الجيوش بأسرع وقت حتى يكون الناس أفضل حالا”.

“الوقاية خير من العلاج”

من جهتها، قالت مديرة فريق المساعدة في حالات الكوارث في هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، ليندساي ديفيس إن “تلك النوازل المدمرة (مثل زالزل سوريا وتركيا) تذكرنا بأهمية البحوث العملية وتطبيقها على الأرض  من خلال تعزيز البنية التحتية وتطبيق أفضل المعايير في إنشاء الأبنية والمرافق ومشاركة الخبرات  العملية في مجال مجابهة الكوارث”.

وزادت: “على الرغم من أهمية عمليات البحث والإنقاذ، إلا أن الأمر واضح جدًا في أن العمل على الأضرار والوقاية من الحوادث الطبيعية الكبرى هما الأكثر فعالية عندما يتعلق الأمر بتقليل خسائر الكوارث إلى الحد الأدنى”.

واستشهدت بالجهود الضائعة من قبل الحكومات التركية لأنه لم يتم وضع معايير في البناء والبنية التحتية والإمدادات اللوجستية في المناطق المعرضة لخطر الزلازل.

وبحسب خبراء فإن الزلازل الكبرى التي ضربت تركيا في عامي 1999 و 2011 كانت بمثابة درسين مهمين للمسؤولين لجهة ضرورة العمل على تطبيق معايير أفضل وأكثر جود في تصميم وبناء المباني في البلاد.

وقال لانينغ إن هذه الكارثة الأخيرة تؤكد مدى أهمية قيام المجتمعات العالمية في المناطق المعرضة للزلازل بتعزيز البنية التحتية لتحمل كارثة مثل تلك التي حدثت في تركيا وسوريا.

الحرة / ترجمات – دبي

————————

ملاحظات على تداعيات الزلزال في سوريا/ شفيق شقير

الكلفة الإنسانية نتيجة لهذا الزلزال في تركيا وسوريا، ستضيف أسبابًا جديدة لإيلاء الأزمة السورية أهمية أكثر من ذي قبل، خاصة من دول الإقليم والدول العربية، ولكن سيبقى الموقف الأميركي محددًا رئيسيًّا لها.

الاستجابة الدولية لإغاثة السوريين كانت بطيئة ومتواضعة بسبب الوضع السياسي المعقد خاصة في مناطق المعارضة.

إن قوة الزلزال الطبيعي الذي أصاب سوريا، في 6 فبراير/شباط 2023، والتي وصلت حدًّا مدمرًا -قوة الأول 7.7 درجات أعقبه آخر 7.6، فضلًا عن الهزات الارتدادية- لم تستطع أن تحرك بنفس القوة حالة الجمود والركود السياسي الذي تشهده البلاد منذ عام 2014 على الأقل، ولأسباب عدة من أبرزها وصول الأطراف المتقابلة وكذلك المعنية بالأزمة إلى طريق مسدود، سواء على صعيد الحلول السلمية أو العسكرية، والأهم خاصة مؤخرًا، أن هناك أولويات عدة دولية وإقليمية تأتي قبل هذه الأزمة الممتدة منذ عام 2011 إلى اليوم.

هناك مجموعة من الحقائق والقضايا المتصلة بالأزمة السورية والتي كشف عنها الزلزال أو أكدها ولا يمكن القفز فوقها، ويمكن استحضار بعضها لتجلية السياق فحسب.

أولها: أن الاستجابة الدولية لهذه الكارثة التي حلَّت بسوريا، كانت بطيئة ومتواضعة، وأسهمت في ذلك بلا جدال الوضعية التي انتهت إليها البلاد؛ حيث هناك في مناطق سيطرة النظام ومن المنظار الدولي على الأقل، سيادة مشكوكة بها للنظام السوري على أراضيه بسبب وجود ميليشيات وقوى أجنبية. هذا فضلًا عن التشكيك بنواياه إزاء ما قد يحصل عليه من مساعدات وأنه لن يوصلها لمستحقيها. وهناك بالمقابل تشظ لقوى المعارضة ولا توجد لديها آلية سياسية واحدة لتسيير المناطق التي تسيطر عليها، ولا آلية ورؤية دولية أو عربية واحدة لتنظيم العلاقة السياسية بها؛ فأقصى ما هو موجود آلية أممية -بموافقة روسية- لإيصال المساعدات فحسب إلى النازحين هناك ويجب التجديد لها دوريًا، وكانت أصلًا قاصرة قبل وقوع الزلزال فكيف بعده! مع العلم بأن مناطق المعارضة هي الأكثر تضررًا وهي الأقل تلقيًا للمعونات.

ثانيًا: أن سياسة الجمع بين الإغاثة للشعب السوري وتعزيز قدرته على البقاء والصمود من جهة، وتعزيز حالة الجمود السياسي التي تخيم على الأزمة من جهة أخرى سبيلًا لإدارة الأزمة، باتت أمرًا أكثر صعوبة. مع العلم بأن هذه السياسة أثبتت قصورها أصلًا بسبب تراجع المساعدات المقدمة للشعب السوري، وتراجع الدعم اللوجستي والسياسي لقوى المعارضة، وستبقى مناطقها بلا أفق واضح من حيث تحقيق حدٍّ مقبول من الاستقرار الاجتماعي والإنساني فضلًا عن السياسي في المستقبل القريب.

ثالثًا: من المؤكد أن تركيا التي كانت تعد نفسها للانتخابات المقررة في 14 مايو/أيار 2023 وتعد نفسها لتكون أقوى سياسيًّا، لن تكون هي نفسها بعد هذا الزلزال، وستنشغل بنفسها في محاولة للخروج من آثاره الإنسانية والاقتصادية وما سيخلِّفه من تداعيات سياسية. وهذا سينعكس على طريقة إدارتها للملف السوري خاصة إذا ما استمرت سياسة أميركا وأوروبا تجاه تركيا والأزمة السورية على ما هي عليه دون تغيير كبير باتجاه دعمها، وهي السياسة التي دفعتها لاعتماد دينامية جديدة في التعامل مع النظام السوري لمواجهة الاستحقاق الانتخابي، وبالتالي ستكون أنقرة بعد هذه الكارثة أكثر انفتاحًا على الحوار مع النظام وأكثر تحفظًا وحذرًا من السابق في إدارة الأزمة السورية تفاديًا لأي انعكاسات ومخاطر يمكن أن تتأتى من أي تصعيد لهذه الأزمة التي تنطوي أصلًا على مخاطر تهدد أمنها القومي، ومن أبرزها خطر قيام كيان كردي سوري انفصالي بجوارها، واستمرار تدفق اللاجئين على أراضيها.

رابعًا: تشهد المنطقة حالة مفرطة من السيولة وعدم اليقين وقد عزز من ذلك اندلاع الحرب الأوكرانية واستمرار أزمة الملف النووي الإيراني، فضلًا عن عدم اكتمال تعافي النظام العربي نسبيًّا من تداعيات الربيع العربي (2011) وما أعقبه من انقسامات إلا مؤخرًا. ولا يمكن حتى اللحظة الجزم حول وجود سياسية أميركية -أو أوروبية- واضحة حول سوريا، فهي تقتصر على العقوبات السياسية والاقتصادية على النظام والمحافظة على الوضع القائم، كما لا يزال العرب يفتقرون لرؤية جامعة حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية؛ حيث تقف دول مع النظام بقدر استطاعتها وما تتيحه لها الظروف الدولية، في حين ترفضه أخرى مستصحبة هول “الجرائم المرتكبة” وصعوبة الخروج منها مع استمرار الرئيس، بشار الأسد، في الحكم. وبالتالي، واجهت عدة دول عربية الزلزال في سوريا بمساعدات، بعضها كان لعموم المناطق السورية أي لمناطق المعارضة والنظام، وبعضها اقتصر على إحدى المنطقتين.

أهم ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية سياسيًّا للتعامل مع الزلزال في سوريا، هو إصدارها (9 فبراير/شباط 2023) عبر مكتب مراقبة الأصول الخارجية في وزارة الخزانة، ترخيصًا يسمح لمدة 180 يومًا بجميع المعاملات المحظورة بموجب قانون العقوبات على سوريا، وذلك لتعزيز جهود الإغاثة في مواجهة تداعيات الزلزال. وجاء هذا الإجراء لمواجهة مطالبات النظام برفع العقوبات الأميركية عنه، في حين كان مسؤولون أميركيون يؤكدون أن العقوبات لا تشمل الأعمال الإنسانية، ويبدو أن هذا الإجراء قد جاء لحسم هذه الإشكالية وللتأكيد على استمرار السياسة الأميركية على ما عليه بهذا الخصوص. لذلك يبدو النظام السوري مستفيدًا من النافذة السياسية التي فتحتها تداعيات الزلزال وسمحت له بالتفاعل عربيًّا ودوليًّا ولو في السياق الإنساني، لكنها ستبقى نافذة لا أكثر. أما قوى المعارضة فستبدو حتمًا أضعف؛ حيث حاضنتها أغلبها من النازحين، وستعاني مناطقها من تداعيات الزلزال لفترة ليست بالقصيرة، كما هو الشأن مع حاضنها التركي.

إن الكلفة الإنسانية نتيجة لهذا الزلزال في تركيا وسوريا، والتي ستتعاظم مع مرور الوقت وكلما تقدمت جهود الإغاثة وإزالة الركام، ستضيف أسبابًا جديدة لإيلاء الأزمة السورية أهمية أكثر من ذي قبل، خاصة من دول الإقليم والدول العربية، ولكن سيبقى الموقف الأميركي محددًا رئيسيًّا لها.

شفيق شقير

باحث في مركز الجزيرة للدراسات، متخصص في شؤون المشرق العربي، والحركات الإسلامية. حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية (فرع القانون والفقه وأصوله). تغطي اهتماماته البحثية الأزمات الداخلية في المشرق العربي والنزاع العربي-الإسرائيلي، وكذلك التيارات الإسلامية السُّنِّية والشيعية، والجماعات الجهادية، ومقولاتها الفكرية والفقهية وتوجهاتها السياسية. له مشاركات وبحوث عدة، منها: حزب الله: روايته للحرب السورية والمسألة المذهبية، “علماء” التيار الجهادي: الخطاب والدور والمستقبل، الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية، الحراك اللبناني: السياق العربي وتحديات نسخة الطائف الثالثة.

—————————

خصوصية الضحايا في زمن “التواصل الاجتماعي”/ سامر أبوهواش

في أعقاب كارثة الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا، وأمام المشاهد المؤلمة التي تصوّر حجم الفاجعة ومداها، ارتفعت أصوات كثيرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، مطالبة بتجاوز الخلافات والعداوات السياسية، وتوحيد الجهود لإنقاذ من لا يزالون عالقين تحت الأنقاض ومساعدة آلاف الجرحى والمشردين، خصوصاً في الجانب السوري، حيث يكاد يكون حضور الدولة السورية منعدما، وحيث تلقت الفئات الأشدّ فقرا الضربة الأقسى، ومنهم اللاجئون الذين كانوا في الأصل يعانون أوضاعا مأسوية، ما كان الزلزال إلا ليبدو استكمالا لها، كأنّ ما لم تدمره، ومن لم تقتله، براميل النظام المتفجّرة والآلة العسكرية برمتها التي حكمت وتحكم تلك المناطق، جاء الزلزال، ليكمل قتله وتدميره.

هذه الدعوات هي وليدة الصدمة الأولى، والتعاطف الإنساني الفطري، ورد الفعل الطبيعي أمام عشرات مقاطع الفيديو الموجعة والأخبار الواردة من المناطق المنكوبة، بصرف النظر عن التباين في خلفيات مطلقيها ومواقفهم، بل بصرف النظر أيضا عن بعض مساعي التوظيف السياسي للكارثة التي تكتنف بعضها. لكنها تظلّ دعوات حالمة، رومانسية، وقاصرة عن الاعتراف بالواقع، أو متوهّمة أن هذا الواقع قابل للتغيير بفعل هول المأساة وحده، في حين أن الحقيقة المرّة تفيد بأن مآسي الزلزال ليست فصلا فاصلا بالنسبة إلى الواقعين تحت أهوالها، والمصابين بمصيبتها، بقدر ما هي فصل جديد يضاف إلى فصول الفجيعة الماضية والآلام القائمة منذ سنوات.

لعل العالم لم ينس بعد أزمة كوفيد 19 التي بدا، للحظة عابرة متوهّمة، أنها وحّدت العالم، وأيقظته على المصائر المشتركة وعلى ضرورة التضامن والتكافل الإنسانيين في وجه غضبة أخرى من غضبات “الطبيعة”، اتخذت تلك المرة شكل فيروس خارج عن السيطرة، ليغرق العالم سريعا في الحسابات السياسية وليستيقظ أولئك الذين وقفوا ينشدون ويعزفون الموسيقى على السطوح والشرفات من أجل الأمل والبقاء، على واقع مغاير تحكمه صراعات الحكومات ومصالح الشركات الكبرى وأطماعها.

قبل وقوع الزلزال الأخير المدمّر، كان الشعور العام، العالمي والعربي معا، قد استقرّ على أن ما شهدته سوريا خلال عقد من الزمن، أشبه بالكارثة الطبيعية. ففي نهاية المطاف لم يتغير الواقع إلى واقع أفضل، ولم يسقط الديكتاتور، ولا أصبحت سوريا ديموقراطية، ولم ينل الضحايا الحدّ الأدنى من العدالة. وأمام الأعداد الفلكية لأولئك الضحايا من قتلى ومشردين ومعتقلين، بدا أن ما يعانيه السوريون لا يعدو كونه إرادة إلهية، وتمّ التسليم الصامت أحيانا والمعلن في أحايين أخرى، بالحال التي استقرت عليها سوريا اليوم: بلد ممزق، مقسم بين نظام ومعارضات وإرادات ومصالح دولية معقدة ومتشابكة.

إن السؤال الجوهريّ  الذي لا يزال يلحّ على العالم، منذ أشدّ الفصول رعبا في المأساة السورية، التي تخللها استعمال السلاح الكيميائي ضدّ المدنيين، والذي يزداد إلحاحا بعد كلّ كارثة، بما فيها كارثة الزلزال الأخيرة، هو حول شكل التعاطف الإنساني ومعناه وجدواه. فما يحدث اليوم سبق وحدث في مناسبات ولحظات مفصلية سابقة، وسيحدث حكما في المآسي المقبلة، وردود فعلنا تجاهه تكاد تكون هي نفسها: اندفاع حماسي يترجم تداولا للتعليقات العاطفية والفيديوهات والصور التي تنقل وجهي المأساة والأمل، والتي لا تمكث معنا سوى أيام قليلة في أفضل الأحوال، وساعات معدودات في أسوأها.

لعل هذه خاصية من خواص “التواصل الاجتماعي” الذي بات يحكم علاقة البشر بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالعالم. للمرء اليوم أن يتساءل، ماذا تفعل كاميرا الهاتف المحمول، لحظة إخراج طفل يكاد يلفظ أنفاسه من تحت الأنقاض، وما الذي يعنيه بعد ذلك انتشار تلك اللقطة وتداولها عبر ملايين الهواتف المحمولة والمواقع الإخبارية؟ ما الحدّ الفاصل بين الخاص والعام؟ ومتى يحقّ لأحدهم أن ينشر على العلن، على سبيل المثل لا الحصر، مقطع فيديو لطفلة محاصرة مع شقيقها، وهي تعد المنقذ بأن تصبح “خادمته” إن أنقذها؟ الطفلة في هذه الحال، كما جميع الضحايا، عاجزة تماما، ليس فقط عن أن تكون جزءا من هذا “العرض” الذي فرض عليها، بل عن فهم ما جرى ويجري لها في تلك اللحظات.

كذلك الأمر بالنسبة إلى صورة الأب الذي يمسك يد ابنته الميتة تحت الأنقاض: ألا يفترض بهذه اللحظة الكثيفة والمرعبة أن تكون أكثر اللحظات حميمية وخصوصية لأب يودّع ابنته، أو لعله يتمسك بخيوط الأمل بأنها ربما لا تزال على قيد الحياة، وأنها تستمدّ القدرة على الصمود من يد والدها؟ لا نعرف، إلا في ما ندر القصة الكاملة، ولا نرى المشهد بجميع أبعاده، ولا ما قبله ولا بعده. اللقطة تتجمّد هنا، حيث يقرّر من يتداول اللقطة بعد ذلك، أن تتوقف، وحيث يقرر سرد ما يراه من القصة بوصفه تعليقا “مناسبا” على المأساة.

المآسي العامة، في الكوارث الطبيعية كما في الحروب، تقضي على كلّ حيز شخصي أو فردي. يصبح الضحايا منكشفين أمام العالم، وفي حالة الزلزال يتخذ هذا الانكشاف معنى حرفيا، فالبيت الذي يفترض أن يكون ملاذ الخصوصيات، قد تهدّم والجدران التي كانت تبقي العالم على مسافة من أهل البيت، تداعت مع كل التاريخ الخاص الذي يفترض بها حمايته من أعين المتلصصين.

لا أحد يجادل بأن مثل هذا الاهتمام العام، مطلوب لحشد التعاطف وبالتالي بناء الزخم العاطفي والوعي الاجتماعي اللذين من شأنهما رفع مستوى التأهب والمساعدة من الحكومات والدول والجهات المعنية، إلا أن هذا الاهتمام نفسه، في زمن التواصل الاجتماعي كما قبله، سيظلّ يطرح أسئلة أخلاقية حول كيفية التعامل مع خصوصية الضحايا، لا سيما تداول صور القتلى أو الجرحى أو الناجين في أشدّ لحظات ضعفهم وذهولهم أمام ما تعرضوا له.

بمعنى آخر: ما الخط الفاصل بين التعاطف والاستغلال العاطفي؟ أين يصبح الفيديو أو الصورة أو التسجيل الصوتي المتداول “مشاركة إيجابية” في المأساة، وأين يصبح انتهاكا يرقى إلى حدّ التلصص واختلاس النظر إلى خصوصيات الآخرين؟

مثل هذه الأسئلة يقودنا إلى السؤال الجوهري: هل أصبحنا، في زمن وسائط التواصل الاجتماعي، مجرّد مستهلكين لـ”القصص” و”المحتوى” المكون غالبا من الصور ومقاطع الفيديو، وبتنا نستعيض بالمآسي المصوّرة، عن الحياة الحقيقية، وعن التفاعل المؤثر مع تلك المآسي، إلى درجة أن صلتنا بأيّ حدث يقع من حولنا، حتى وإن كان في جوهره يهدّد وجودنا، هو ما نشاهده من مقاطع فيديو، أو حتى ما نختار ألا نشاهده منها، وفي النهاية فإن ما يسمى “التعاطف الإنساني” هو مجرد شكل من أشكال الترفيه وتزجية الوقت؟

ما زلت أميل إلى العكس، وإن كان الانغلاق السياسي واليأس من السياسة، والأزمات الاقتصادية الفادحة، التي يغرق فيها العالم برمته، وخصوصاً المنطقة العربية، يدعو باستمرار إلى التخلي عن التفاعل الإيجابي مع العالم، والاكتفاء بمشاهدته من خلف الشاشات الصغيرة، غير أنّ بعض الصرخات التي بدأت تخرج مدوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي نفسها، بأننا مللنا وتعبنا من مشاهدة كل هذا الدمار والموت، وبأن حجم المأساة يستدعي الأفعال لا الأقوال، ربما تعطي أملا ولو صغيرا، بأن ما تسميه سوزان سونتاغ “الفرجة على آلام الآخرين” لا يمكن أن يكون الحال المستمر لهذا العالم، وأن الأجساد القابعة تحت الأنقاض ستجد ما هو أكثر من الإعجابات والمشاركات والتعليقات والقلوب الافتراضية المحطمة، معينا لها.

المجلة

—————————

أن ننتشل النسوية التقاطعية من تحت الأنقاض/ مرسيل شحوارو , سارة جليلة

هذه المقالة جزء من مواكبة التبعات الإنسانية والسياسية للزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا فجر 6 شباط (فبراير). للاطلاع على تغطية الجمهورية الرجاء متابعة صفحاتها على فيسبوك وتويتر وإنستغرام.

منذ أيام، يحاول السوريون والسوريات العثور على أحبائهم تحت الأنقاض أو بين أروقة المشافي المقصوفة أصلاً في سوريا، أو تلك التي لا يتكلمون لغة العاملين فيها في تركيا. متروكين لجدالاتٍ وتبادل اتهاماتٍ بين فاشية النظام السوري، المتسبب الأول بانهيار البنى التحتية، عبر العنف المستمر خلال السنوات الماضية وقمع المنظمات المدنية وأيّة مبادرات إنقاذٍ ممكنة، وبيروقراطية الأمم المتحدة والدول المتقدمة والغنية التي استخدمت كل الحجج المتاحة لتبرير عدم دخول فرق الإنقاذ أو المساعدات لمدة ستة أيام بعد الزلزال إلى شمال غرب سوريا.

لثلاثة أيام، كانت أصوات من بقيو على قيد الحياة تتخافت تحت الأنقاض، لتتعالى أصوات عائلاتهم والتجمعات السورية اللاجئة، مطالبةً العالم بالتدخل، بإرسال المساعدات وفرق الإنقاذ. كان بالإمكان أفضل مما كان بكثير، وكان بالإمكان أن يكون كُثُرٌ على قيد الحياة بعد. إن كان الزلزال حدثاً لا يمكن تفاديه، فإن مسؤولية إنقاذ الأحياء تحت الأنقاض تقع على عاتق العالم كله، خصوصاً القادرين فيه.

1.استعارة من مصطلح سارة أحمد، الناشطة النسوية والكاتبة الانكليزية- الأسترالية من أصل باكستاني، والتي تعرف عن نفسها أنها نسوية قاتلة للبهجة.

نكتب هذا النداء لنكون «قاتلات للبهجة»1 تجاه أخواتنا هذه المرة، في كل أنحاء العالم، نتساءل عن سبب خفوت الأصوات النسوية العالمية التي تدعو لإنقاذ أهلنا وشعبنا. يثير الضعف في الردود التضامنية أسئلةً حول المسار الذي يجب أن تسلكه النسوية التقاطعية لإعادة تفكيك هيكلية مفاضلات الضحايا بحسب لون بشرتهن، طبقتهن الاجتماعية، الحدود التي علقن ضمنها، الجنسية التي يحملنها، أو حتى طول مدّة النزاع الذي وقعت عليهن معاناته. نكتب لنُسائل التعوّد على الموت السوري، نحن اللواتي نناضل معكن لمقاومة التعوّد على العنف القائم على النوع الاجتماعي.

2.فيلسوفة نسوية وكاتبة اكاديمية أمريكية صاحبة إصدارات عديدة في مجال الدراسات الجندرية ومؤثرة في الموجة النسوية الثالثة والحركة الكويرية.

تقول جوديث باتلر2 في كتابها قوة اللاعنف، «نعلم أنه ليس للأرواح القيمة ذاتها في هذا العالم، ولا يستجاب لتوثيق من جُرحوا ومن قُتلوا بالطريقة نفسها. فهناك حيوات تعتبر غير مستحقة للحداد أو غير جديرة به. وهنالك أسباب عديدة لعدم التساوي هذا، منها العنصرية، رهاب الأجانب، رهاب المثلية الجنسية ورهاب المتحولين جنسياً، كراهية النساء، والتجاهل الممنهج للفقراء والمحرومين». ولهذا نكتب هذا النداء، بما تبقى لدينا من أملٍ بالانتماء لحراكٍ جماعيّ عالمي يستطيع تخيّل عالمٍ أكثر عدالة، نكتب لنوثق خساراتنا ضمن دائرة اهتمام النسويات في أنحاء العالم، لنقول إننا وأهلنا نستحق أن يتحرك العالم لأجل إنقاذنا، إن حياتنا وحياة أهلنا تستحق أن يتوقف العالم للحداد عليها.

إنه لمن البديهيّ أن تكون كارثة الزلزال التي ضربت سوريا وتركيا شأناً نسوياً تقاطعياً، إذ تتداخل في طبقات الظلم الواقع على الناس سلوكيات عنصرية ممنهجة داخل تركيا في الاستجابة للكارثة، مع فقر أصحاب الأبنية التي تساقطت فوق رؤوسهم، والعنف السياسي المخزّن داخل الأبنية بسبب قصفٍ فاشي وقصف احتلالٍ روسي عدواني في سوريا، ومع عطلٍ أممي تبدو له حياة السوريين أقل أهمية من غيرها، فيتحرك ببطء شديد متحججاً بسيادة الدول. كيف لا تكون مقاومة ذلك كلّه إلا في صميم النضال النسوي التقاطعي؟

لماذا الزلزال شأن نسوي وتقاطعي؟

3.إشارة إلى كتاب فيرجينيا وولف «غرفة تخص المرء وحده» ١٩٢٩، والذي اعتبر بمثابة مانيفستو للحركة النقدية النسوية في القرن العشرين.

إن كان على المرأة امتلاك «غرفة خاصة بها»3 كي تحتل مكانتها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فماذا لو لم يعد هنالك غرف من الأساس؟ أو انهارت الغرف على رؤوس قاطناتها وأسرهن؟ هل العمل النسوي اليوم محكوم بالضعف وقلة الحيلة (والمخيلة)، فلا يتعدى إصدار بيانات تضامنية خشبيّة، ولا يختلف عن أي عمل تقوم به أيّة مجموعة مدنية أخرى؟ وإن لم يتميز عملنا بطابع نسوي، ينظر إلى الأمر من منظور موازين القوى والعدالة الاجتماعية والقيام بفعل حقيقي ودور ملهم لجيل جديد من النسويات، فما جدواه؟

إن كارثةً طبيعيةً بحجم زلزالٍ كهذا تؤثر على الجميع بنفس الطريقة وتقتل وتشرد مئات الآلاف، وأثارها المتعاقبة ستستمر لأشهر طويلة ان لم تكن سنين قبل أن نصل إلى أي مرحلة من مراحل التعافي، ولذلك فإن واجب النسويات العمل على خلق تضامنٍ وفعلٍ حقيقي لدعم الضحايا على عدة أصعدة وضمن عدة مراحل، منها فوري؛ إسعافي ومباشر، وآخر ذو مدى أبعد لا ينتهي عند انتهاء الاهتمام اللحظي بالكارثة، ليُنسى ما جرى تلقائياً لحظة انشغال العالم بأزمة أخرى.

من موقعنا كسوريات في وجه ظلم هذا العالم، نطالب أَخَواتنا القادرات أكثر منا، إما على الحركة عبر الحدود أو الوصول إلى الموارد:

على المدى القصير:

    تشكيل مجموعات ضغطٍ تدعو لاجتماعاتٍ مع المسؤولين القادرين على الضغط لفتح المعابر والحدود، وضمان وصول المساعدات على اختلاف أشكالها لجميع المتضررين في كل الأماكن السوريّة، خصوصاً للفئات المستضعفة. ومشاركة نتائج هذه الاجتماعات مع شعوبنا وشعوبكن بشفافية تُسائل – بشجاعة لا تنقص النسويات – أولئك الذين تباطأوا عن إنقاذ من هم تحت الأنقاض.

    مساعدة  المجموعات النسوية السورية وغير السورية الموجودة حول العالم للوصول، ومخاطبة برلمانات وحكومات الدول للضغط وإيصال أصوات الموجودات بالأماكن المنكوبة وذكر احتياجاتهن، ثم إيجاد حلول مبتكرة للشراكة تسمح بتخطي تعقيداتِ وعنصرية الفيزا وتقييد الحركة.

    دعم المنظمات النسوية العالمية التي تعمل بالشأن الإعلامي والمناصرة لضمان تغطية إعلامية نسوية عادلة. حتى الآن يتفق الجميع على أن تغطية ما يحصل في سوريا ضعيف للغاية (يعود ذلك بشكل كبير لمنع النظام أيّة تغطية إعلامية غير رسمية في المناطق المتضررة التي تقع تحت سيطرته)، لكن أيضاً يُلاحَظ غياب أو فقر الإعلام النسوي ضمن الأماكن التي تتاح التغطية فيها، وهو ما نحن بحاجةٍ إليه اليوم ولاحقاً.

    دعم مباشر للنسويات والمجموعات ذات الأجندة النسوية ليكنّ أيضاً جزءاً من حملات الاستجابة والقيام بالدور المتوقع منهن، إضافة إلى مساعدة من يعملون بشكل مباشر في مراكز الإيواء لوضع آليات تمنع التحرش في هذه الأماكن ضمن ما هو متاح وممكن.

    التركيز على دعم النسويات كأفراد ومجموعات (مدافعات عن حقوق الإنسان، صحفيات مستقلات، ناشطات وغيرهن) والموجودات في المناطق المتضررة كأولوية، ليتمكن بدورهن من التعافي ومتابعة نضالهن/ عملهن.

على المدى المتوسط:

    ها نحن اليوم، وبعد أيام قليلة من وقوع الزلزال، نسمع شهادات نساء وفتيات تعرضن للتحرش في مراكز الإيواء المؤقتة في سوريا بمختلف مناطقها وفي تركيا. وهذا غيض من فيض إذ سنشهد ارتفاعاً لمظاهرِ وحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، كون الكوارث تعمّق المشاكل البنيوية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها النساء والفتيات والفئات المستضعفة الأخرى مسبقاً، لذلك نطالب بزيادة الاهتمام والدعم لبرامج إغاثية نسوية تعمل على تعميق التقاطع بين العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستجابة للكارثة الطبيعية.

    التضامن مع السوريين والسوريات في تركيا كونهم جميعاً من الفئات الأكثر ضعفاً والأكثر تهميشاً خلال الاستجابة في تركيا، ناهيك عمّن هم وهن واقعات تحت قانون الحماية المؤقتة العنصري الذي يضع حمَلته في حالة انكشافٍ دائم بلا حقوقٍ مستقرة ولا مستقبل.

    دراسة احتياجات النساء والفتيات ومناصرتها بشكل مستمر، على الصعيد الإغاثي وما بعد الإغاثي، من حيث الإخلاء والإسكان والتعافي وإحياء سبل العيش وغيرها.

     مقاومة إنهاك المانحين والإصرار على إعطاء المتضررات والمتضررين ومجتمعاتهم الأولوية في تصميم وتنفيذ برامج التعافي الخاصة بهن.

    أخيراً وليس آخراً، العمل والحث على تشكيل لجانٍ مستقلة حقوقية وغيرها تعمل على محاسبة ومساءلة الأمم المتحدة لتقصيرها في الاستجابة في سوريا ومطالبتها بالتعويض والاعتذار من الضحايا وعائلاتهم.

على المدى الطويل:

دعوة للتفكير والحوار الجماعي حول استجابتنا للكوارث والأزمات عبر:

    تفعيل مخيلتنا السياسية في تفكيك النظم الأممية وتغييرها لتتوافق مع الاحتياجات حول العالم بشكل أكثر عدالة، والتفكير بآليات إنقاذٍ عابرة للدول وحصانتها الدولية وتحديات الحدود في الكوارث .

    إعادة التفكير بالهوية السياسية للنسوية العابرة للوطنيات والتضامن العابر للاختلافات، وكيفية تفعيل المجموعات النسوية الإقليمية وبين دول الجنوب بحيث تكون فاعلة على مستوى أزمة بهذا الحجم، وليس فقط ضمن أدبيات منشورة وأبحاث، ومقاومة الرغبة الانعزالية في الشؤون الداخلية فقط.

    تخيل دورٍ فعالٍ أكثر للحراك النسوي، بحيث يكون داعماً للفعل الجماعي التلقائي كالذي رأيناه في سوريا وتركيا في ظل تقصير الحكومات والأمم المتحدة وبطئ وعدم فعالية المنظمات الدولية الأخرى في أخذ العبء عن المنظمات الأهلية والمدنية التي قامت بالدور الأكبر إن لم يكن الوحيد في عمليات الإنقاذ والإغاثة.

نهايةً، عزاؤنا للضحايا، كل الضحايا في سوريا وفي تركيا، ولكل العائلات السورية والتركية والكردية، منهم رفيقات ورفاق لنا، نتمنى لو أُتيحت لنا فرصة للسفر واللقاء والحداد سويّاً. وننضم، ولو عن بعد، لإعلان الدفاع المدني السوري الحداد الرسمي في جميع أنحاء سوريا، منذ يوم الاثنين 13 شباط 2023، على أرواح ضحايا الزلزال في سوريا وجنوب تركيا.

موقع الجمهورية

———————————

مسلسل الكارثة السورية هل تنتهي حلقاته قريبا؟/ رشا عمران

لا يملك المرء ما يقوله أمام هول الكارثة الطبيعية التي أصابتنا جميعا قبل عشرة أيام، فالزلزال الأضخم مند ما يقارب المئة عام، حسب المختصين، يبدو وكأن الطبيعة قد وجهته نحو السوريين تحديدا، ذلك أن مركز الزلزال الموصوف بالتركي، حصل في أماكن تمركز السوريين الهاربين من سوريا من الحرب والموت والاعتقال والدمار، في المنطقة المتاخمة تماما للحدود السورية، والتي يشكل من يتكلمون اللغة العربية نسبة كبيرة بلكنة ساحلية مألوفة للسوريين من سكان ريف الساحل السوري وجبل الأكراد وجسر الشغور وحلب، وهو الأمر الذي جعل كثرا من السوريين يختارون إقليم هاتاي للاستقرار في محاولة منهم لتجاوز حاجز اللغة الذي يعيق الاندماج في المجتمع التركي في باقي المحافظات والمدن. وهذا أيضا ما جعل عدد الضحايا السوريين بين الإحصائية التركية لعدد ضحاياها مرتفعا جدا، وما زال قيد الارتفاع مع مرور هذا الوقت الطويل وتوقف عمليات الإنقاذ. مضافا إليه عدد ضحايا الزلزال في الأراضي السورية ممن حرمتهم السياسة وتجاذباتها من عمليات الإنقاذ والإغاثة، خصوصا في الشمال السوري (المحرر)، لولا الجهود المهولة لفرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيض) الذين قدموا بإمكانات بدائية جهدا يعادل جهد الدولة التركية بكل إمكاناتها المادية واللوجستية، ويتجاوز حتما ما قدمته الدولة السورية، أو ما تقاعست عن تقديمه  للمناطق المنكوبة مكتفية بزيارة قام بها رئيس نظامها مع زوجته الحسناء إلى مدينة حلب التقطوا فيها صور سيلفي وسط الزغاريد من مؤيديه رافقتها ابتسامات وقهقهات من الرئيس الذي لم تتورع ابنته عن مطالبة المجتمع الدولي بمنع المساعدات عن منكوبي إدلب (الإرهابيين) ولم يتورع هو عن منعها من فعل ذلك بينما ينعى شعبه بعضه بعضا ويغيث شعبه بعضه بعضا ويدفن شعبه بعضه بعضا في كارثة لا يعادلها هولا سوى استمرار بقاء نظام كهذا في حكم بلد مثل سوريا رغم كل ما حدث ويحدث.

وحين نقول إن الكارثة أصابتنا جميعا نحن السوريين فهذا ليس مجازا على الإطلاق، إذ ما من سوري في أي مكان في هذا العالم إلا ويعرف ضحية من الضحايا أو يعرف أحدا من عائلات الضحايا والأسر المنكوبة فمن لم يخسر قريبا أو أقرباء فقد خسر صديقا أو جارا قديما، أو خسر صديقه قريبا أو عائلة؛ ومن لم يتهدم بيته في الزلزال فقد فتح بيته لاستقبال من تدمر مسكنه وفقد كل شيء؛ ومن لم يصبه الزلزال في شيء فقد جعله يسارع ليقدم كل ما لديه لإنقاذ ما ومن يمكن إنقاذه، في مبادرات فردية وجمعية في كل مكان من العالم حيث يوجد السوريون. كما لو أننا جميعنا أدركنا أننا شعب منكوب ووحيد وأننا متروكون للموت ليجرب فنونه بنا، أو كما لو أننا الشعب الذي يحمل وزر خطايا البشرية كلها ويدفع هو وحده ثمنها عن باقي البشر. وتلك ليست مبالغة كما قد تبدو، فالنكبات لم يخطر لها أن تتوقف عن إصابة هذا الشعب منذ زمن طويل، وكأن الزلزال هو حلقة من حلقات مسلسل القهر والحزن الذي بدأ القدر كتابته منذ ستينيات القرن الماضي ولا يبدو أن عرضه سوف يتوقف قريبا ذلك أنه ثمة كارثة مجتمعية كبيرة جدا ستظهر قريبا بعد زوال أثر الذهول مما حدث تتمثل في المزيد من المشردين ممن فقدوا كل شيء، وانضموا إلى قائمة سكان المخيمات الذين شردهم سابقا نظام الأسد وحلفاؤه، ثم الكتائب الجهادية والميليشيات المسلحة التي سمح لها المجتمع الدولي بأن تحتل مشهد الثورة السورية في أكبر وأحط استبدال للثورة الشعبية بثورة مضادة تعطي الشرعية لنظام الأسد بالاستمرار في قتل السوريين وتشريدهم.

يدرك الجميع حاليا بأن القادم أشد قسوة، فمصير مئات الألوف من السوريين الذين شردهم الزلزال سيبقى معلقا في انتظار معجزة لطالما تأمل السوريون خلال العقد الماضي حصولها، لكن المعجزة فكرة ميتافيزيقية أو شعرية، بينما الواقع صادم وحاد لفرط حقيقته، والواقع يقول إن مأساة جديدة في انتظار السوريين: تتمثل بمشردين جدد وفقراء جدد وأطفال محرومين من التعليم جدد وأيتام جدد ومفقودين جدد، والجديد في هذه المأساة أن أعداء الأمس من السوريين يتشاركون اليوم المصير نفسه وربما سيتشاركون خيمة اللجوء نفسها، والجديد أيضا هو الإدراك أنه لا أحد سوف ينجو من مستقبل هذه الكارثة، إذ من يتصدرون واجهة السوريين في السياسة متشابهون في الفساد والفشل والحسابات السياسية الضيقة أمام الكارثة العامة والكبيرة؛ وهو ما جعل من الضرورة الآن نسيانهم تماما وعدم التعويل عليهم في أي شيء (لمن ما زال يعول عليهم)، والمبادرة في بدء ابتكار حلول سياسية واقتصادية واجتماعية مستدامة للسوريين المنكوبين في كل أنحاء سوريا (والسوريون باستثناء طبقة أثرياء الحرب وبطانة النظام كلهم منكوبون).

ثمة كوادر سورية تكنوقراطية شابة منتشرة حول العالم وفي داخل سوريا تم تهميشها عمدا من قبل النظام ومعارضيه من النخبة السياسية القديمة والحديثة، هذه الكوادر تملك من الإمكانات المعرفية والعلمية والفكرية الكثير، وراكمت خلال السنوات السابقة خبرات كبيرة مدعمة بتعليم أكاديمي عال وبثقافة لغوية تسهل عليه مخاطبة المجتمع الدولي وفهم الذهنية التي تدير آلية عمله. ما تحتاجه سوريا والسوريون اليوم هو هذه الكوادر الشابة المتخففة من العلل التي راكمها الاستبداد سابقا لدى حاشيته ولدى معارضيه معا، والتي ما زالت تتمتع بكامل طاقتها للفعل والعطاء؛ هذه الكوادر هي التي تسعى الآن لتنظيم عمليات الإغاثة وتخفيفها من العشوائية وتحويلها إلى عمل منهجي ومؤسساتي بعيدا عن سلطات الفساد والنهب في الداخل والخارج.

قد يبدو أمرا كهذا شبه مستحيل في ظل تبعثر السوريين وتبعثر جهودهم، لكن لدي ثقة تامة بأن هؤلاء يعرف بعضهم بعضا ويتواصلون بطريقة من الطرق واضعين جانبا المجرمين والفاسدين والطائفيين والشتامين والمرتهنين وضيقي الأفق واللصوص وأصحاب الأجندات اللاوطنية وأصحاب العنتريات الافتراضية، وما أكثر هؤلاء جميعا بين السوريين وما أعلى أصواتهم، لكنها الأصوات المؤقتة مهما طالت، ذلك أن ما يمكث في الأرض هو الأصيل والحقيقي، وهو ما ينفع الناس، وهذا ما يجب أن يعيه جميع السوريين في كل مكان. ففي النهاية هذا النظام سوف يزول ملعونا في وقت ليس ببعيد وستذهب معه المعارضة التي دأبت على منحه مبررات البقاء بفشلها وعمالتها وارتهانها. لقد فضحت كارثة الزلزال حال السوريين وعرت الواقع أمامهم لمن كان ما زال منهم مصرا على الإنكار: ليس لدى هذا الشعب من سند سوى نفسه وليس لديه داعم سوى نفسه وليس لديه صديق سوى نفسه، وما أبداه السوريون خلال الأيام الماضية من اللهفة واجتراح المبادرات وحتى (الفزعة) يكشف المعدن الأصيل لهم ويظهر جوهرهم الحقيقي الذي كان مغلفا بالغضب والخذلان والخيبة والخوف.

تلفزيون سوريا

————————

من دروس الزلزال: اذكروا محاسن أحيائكم/ ياسين عبد الله جمّول

يقال: إن الأزمات تستخرج أحسن ما في الناس، وكذلك تستخرج أسوأ ما عندهم!

لا شك أنّ ما حلّ بنا في سوريا وتركيا من بلاء الزلزال واحدة من أخطر الأزمات التي يشهدها العصر الحديث؛ رغم أننا ما زلنا منذ انطلاقة ثورة الكرامة نحطّم الأرقام القياسية في كثير من الأمور؛ فثورتنا أعظم ثورة يتيمة في وجه أسوأ نظام شهده العصر الحاضر، وعندنا أكبر مأساة من الموت واللجوء والتشرد، حتى شهدنا منذ أيام أخطر زلزال عرفته سوريا المعاصرة؛ فما الذي استخرجته هذه الأزمة من كمائن نفوسنا وكمائن نفوس غيرنا من الأصدقاء والأعداء؟

بعيداً عن دروس الوعظ السمجة التي تقرّع الناس الضحايا بحجة أن الزلزال عقوبة من الله على المخالفات؛ وإن كان في هذا جانبٌ من صواب، وبعيداً عما اقترفناه من حديث الاختلافات؛ لأننا مللنا الحديث عن عيوبنا ومشاكلنا، وصارت النفس تضطرب للإقياء من حديث السياسة وانبطاح المتصدّرين من السياسيين والعسكريين والمدنيين، وصار يخدش القلبَ صراعُ المنظمات والعاملين وما يسوّد صفحات التواصل من النشر – يعني بالمنشار – ببعضنا بعضاً.

ولسنا ممن يدفن رأسه في الرمال؛ فتظهر عورته ويراها كل الخلق، وهو ينكرها، ولا ممن يدّعي العصمة والأفضلية المطلقة وأننا شعب الله المختار أو المحتار … ولكن!

مللنا ونحن لا نذكر الخير إلا فيمَن يموت؛ طبعاً إن لم نختلف فيه بين مَن يجعله في جنات النعيم أو يرمي به في نار الجحيم! ولكنها باتت سنّة ماضية فينا مع الأسف؛ وكأننا لا نعرف الخيّرين إلا بعد أن يموتوا وينقطع الانتفاع بهم؛ فأين نحن من الأحياء؟ أليس فينا من أخيار؟ أليست عندنا محاسن؟

فاذكروا محاسن أحيائكم ….

قضى الله أن أتزلزل مرتَين في الزلزال؛ فقد شهدتُ الزلزال في الداخل السوري، وشهدتْه أسرتي في هاتاي، وأدركني وأسرتي لطفُ الله فنجونا في الموضعَين، وحين استطعت العودة إليهم والخروج بهم من هاتاي ونزلنا أنقرة أقبلَ علينا الأحبّة للسلام والاطمئنان، فكان من غريب الحديث ما نذكره لهم عن تكافل الناس في الداخل خاصة وفزعتهم لبعضهم في الزلزال؛ فكانوا يَعجبون ويُعجبون!

اذكروا محاسن أحيائكم …..

أفضلُ ما لمستُه خلال الأيام الأولى من الزلزال التي عشتها في الداخل لهفةُ الناس بعضهم على بعض وفزعتُهم لمساعدة المنكوبين منهم؛ رغم أن غالبية أهلنا في الداخل هم من المنكوبين بالفقر أو التهجير أو البطالة أو بآثار الفقدان موتاً أو اعتقالاً أو اختفاءً قسرياً، أو ممن ابتُلي بتلك الابتلاءات جميعها.

اذكروا محاسن أحيائكم…..

تنصرف الأذهان اليوم، وتُرفع الأكفّ بالدعاء، وتزدحم الصفحات بالثناء على أصحاب الخوذ البيضاء أبطال الدفاع المدني السوري، وهم أهلٌ للثناء والدعاء والشكر الجزيل؛ لأنهم قدّموا نموذجاً ناجحاً مميزاً للمؤسسات الثورية المدنية في زحمة الفشل الذي يُدمي قلوبنا في مؤسساتنا العسكرية والمدنية، ونجحوا رغم ضعف الإمكانيات وخذلان الأصدقاء والأوصياء، ورغم اعتراف الأمم المتحدة ذاتها بتقصيرها وخذلانها شعبنا المكلوم في أقسى كارثة طبيعية يتعرض لها …. ولكن!

لم يكن أصحاب الخوذ البيضاء وحدهم؛ ولو أنهم كانوا وحدهم لَفشلوا دون شك، بل لعل من أهم أسباب نجاحهم أن الناس كلهم معهم يدعمونهم ويدافعون عنهم، ومَن يعجزون يدعون لهم.

اذكروا محاسن أحيائكم ….

اذكروا أن قرى إدلب الفقيرة فزعت وتبرعت بأغلى ما تملك للمتضررين من الزلزال..

اذكروا أن الباب وأهلها والمهجّرين فيها تبرعت وأسرعت من بعيد إلى جنديرس، وفي أكثر من حملة وجهة تنشط من أجل المنكوبين..

اذكروا أن أهل تل أبيض أرسلوا من الفرش التي ينامون عليها ولم يجدوا غيرها فكتبوا عليها اعتذار الكريم العزيز وأرسلوها..

اذكروا فزعة عشائر دير الزور؛ فقد جادوا لأنهم أهل جود رغم البُعد والحاجة، وسيّروا قافلة تزيد على ما أرسلته الأمم المتحدة المتخاذلة عن نصرتنا..

اذكروا أن مصابين وأصحاب أعمال تركوا بيوتهم وأعمالهم وأسرعوا للإنقاذ والنبش في الركام بأيديهم..

اذكروا أن الفرق التطوعية من الطلبة والمعلمين والأكاديميين أسرعوا لنصرة المنكوبين والعمل في إيصال المساعدات إليهم؛ لم تمنعهم امتحانات ولا التزامات ولا أعمال ولا قلة ذات يد..

واذكروا أن المقيمين في إسطنبول ومختلف الولايات التركية قد أسرعوا بالحملات لإغاثة المنكوبين في هاتاي وعينتاب ومرعش والداخل السوري..

اذكروا أن نساء تبرّعن بذهبهنّ للمتضررين؛ وما أصعب أن تتخلى المرأة عن ذهبها، ثم ما أجمل أن تخرج عنه وتبذله كرامة لوطنها وأهلها المنكوبين!

اذكروا أن مِن السوريين مَن تبرع براتبه أو باع سيارته وبعض رزقه ليقدّمه للمنكوبين..

اذكروا أن طلاباً جامعيين وأكاديميين وكتّاباً ومدرّبين قد تطوعوا للعمل وجمع التبرعات ومساندة المتضررين، ونزلوا إلى ميادين العمل ورفع الأنقاض..

اذكروا أن أطباء من أرقى التخصصات والمستويات تركوا مَهجَرهم وفزعوا نصرةً لأهليهم المنكوبين من الولايات المتحدة وكندة ودول الخليج..

اذكروا أن نساء عظيمات من حرائر سوريا هنّ في صفوف فريق الدفاع المدني السوري يَعملْن بلا كلل، وأنّ منهنّ مَن قضت تحت أنقاض الزلزال وآثاره التالية..

واذكروا أن قوافل امتدّت جواً وبرّاً من البحرين وقطر والسعودية والكويت، وجاءتنا إلى الحدود؛ سواءٌ أدخلوها أو منعوها..

اذكروا أن مصريين شرفاء كانوا مع فرق الإنقاذ في جنديرس منذ الأيام الأولى، وأن ضباطاً ووجهاء قطريين وسعوديين وبحرينيين وكويتيين فزعوا من بلدانهم وقضوا ساعات طويلة من إسطنبول إلى مدن الجنوب التركي والشمال السوري..

فاذكروا أن إخواننا نصرونا ووقفوا معنا، وإن اختار بعض المخذولين الأسد للوقوف معه وهو الجاني، وإن قيل: ألا ترى بعض داعمينا قد دعموا قاتلنا كذلك؟ قلت: يريدون أن يدعموا أهلنا هناك، وإن استفاد منها الأسد اللصّ وزبانيته؛ ولأنني وعدت نفسي ألا أدخل في السياسة فلن أقول: هذا من فشل معارضتنا الكريمة في نزع الشرعية عنه حتى الآن!

يختلف أصحاب صنعة الحديث النبوي في صحّة حديث “اذكروا محاسن موتاكم وكفّوا عن مساويهم”، فمن باب أولى أن نتفق على صحة ذكر محاسن الأحياء والكفّ عن المساوئ؛ على الأقل ونحن ما زلنا في حضرة الموت وتراكم الأنقاض على المفقودين..

فتلك بعض محاسن أحيائنا؛ فلنذكرها، ولنكفّ عما فينا من مساوئ وشرور لا ننكرها، فكثير من الأبنية تهدّمت وكثير منها متصدّعة يُخشى سقوطها؛ فقد سقطت أوهام وأسماء وكيانات كثيرة، وأخرى تترنّح متصدّعة تكاد تقع ونرتاح منها. خاصة أننا نرى مساوئ غيرنا قد افتُضحت، ولم تسترها حتى أشد الأزمات والابتلاءات من العنصرية المقيتة والطائفية البغيضة.

اذكروا محاسن أحيائكم قبل أن تبكوهم وتندموا أنكم لم تُنصفوهم؛ ولاتَ ساعة مَندم!

—————————

الزلزال والذاكرة السورية/ علي سفر

في محاولة التفسير البسيط لآليات عمل الذاكرة البشرية، يكتشف الإنسان أن الأيام بوصفها تحديداً زمنياً، تُسقط بمرورها الرتيب من ذاكرته، جزءاً غير قليل، مما يتراكم فيها.

وحين يتوجب عليه استعادة التفاصيل المنسية، يبذل المرء جهداً من أجل ذلك، لهذا  لجأ في الزمن القديم، حين لم يكن لدى العامة، معرفة بأرقام السنين، إلى تسميات مقترنة بأفعال الطبيعة، فيسمي السنوات بسنة الثلجة الكبرى، والطوفة، والقيظ، والسيل. كما أرخ بطريقته للفصول والشهور، المؤثرة في مأكله ومشربه ومعيشته، فللشتاء مربعانية وخمسينيات، فيها سعد ذابح وبلع وسعود وخبايا، وغير ذلك.

لقد وضع نقاط علّام، في صفحة حياته، تدله وتساعده حياتياً، في ترميم الفاقد من ذاكرته.

كل هذا سيبقى مرهوناً بقدراته الذاتية على التذكر، وحين سيفشل في استعادة حدث من الماضي، بعيداً عن المدونات والمخطوطات، سيلجأ إلى العائلة.

فقد السوريون في الأيام السابقة، عدداً لا يستهان به من إخوتهم، أتتهم مصائرهم عبر فاجعة جديدة، لم يألفوها من قبل، إذ ذهبوا ضحايا الكارثة الطبيعية الزلزالية، وبذلك تكاد تكتمل في تجربة شقائهم أسباب الموت كلها، إلا أن لبس الردى وجهاً جديداً غادراً!

غير أن ما جرى منذ فجر يوم السادس من شباط، لم يصبح حتى الآن قابلاً للتصديق، عند المنكوبين، ولا عند الآخرين ممن لم يصبهم شيء، فقد أودت انهيارات البيوت فوق رؤوس أصحابها النائمين، إلى رحيل أسر بأكملها!

وبينما كان الموت السوري المتكرر منذ 2011 يودي بأفراد ينتمون لعائلات تعيش إلى الآن مرارة الفقد، بات الآن يأخذها كلها!

الذاكرة في سوريا المنكوبة منذ 60 سنة، أي منذ استولى البعثيون على السلطة، وحلول الكابوس الأسدي، تنجو من التسرب نحو العدم عبر العائلة، فكمْ من سياسي سوري، طرده العسكر من الحياة العامة، وكمْ من رجل أعمال استولوا على أملاكه، وكمْ من مثقف، جرى منعه من مزاولة نشاطه. لكن معرفتنا بأحوال هؤلاء، بعد إبادة تواريخهم الشخصية، عبر إغفال ذكرهم في مدونات الرسمية، وبعد تبعثر أراشيف الصحافة، واستيلاء النظام عليها، لم تكن لتحدث لولا قيام أفراد من أقاربهم، بحفظ ما تمكنوا من حفظه، ثم إعادة إحيائه، ونشره!

العائلة السورية، حفظت تاريخها، وبالتراصف الطبيعي، ستكون الذاكرة العامة مرتبطة بوجودها، وقد توضح أنشطة واضحة ومنشورة أمام الجمهور عن هذا، فنجد مثلاً كتاباً عن بيت القوتلي، وموقعاً إلكترونياً عن أسرة الأتاسي، ومؤلفات تؤرشف حيوات شخصيات كثيرة، صنعها أفراد من أقربائهم، وهذا تقليد ما زال حاضراً حتى الآن، وهو يظهر بوتيرة أعلى عندما تصيب السوريين النوائب، إذ تغدو الحاجة لإصلاح ما يلحق بصورة الشخصية العامة من تشويه بفعل السياسة ماسة، ومن الأمثلة على ذلك إصدار أقارب الرئيس أديب الشيشكلي كتاباً عن حياته في العام الماضي.

حين يعلم السوريون بأن الزلزال أخذ في طريقه عشرات وربما مئات من العائلات الصغيرة والكبيرة التي لاذت بالمناطق المنكوبة هرباً من إجرام نظام الأسد، فإن هذا لن يعني فقط خسارة الأقرباء والأصدقاء فقط، بل سيعني أيضاً أن تاريخ هؤلاء الضحايا، سيفنى مع الزمن!

كما أن حضورهم الإنساني سيتلاشى مع التشتت وفقدان الروابط بين المحيطين بهم، وفي المحصلة سينسون، وكأنهم لم يكونوا!

يمكن أن تتم صناعة نصب تذكاري للضحايا، لكن كيف يمكن تذكر صنائعهم، وأفكارهم، وأحلامهم، وابتساماتهم، وضحكاتهم مع أطفالهم، وغير هذا الكثير من التفاصيل؟!

معرفتنا بسقوط العديد من الشعراء والكتاب والصحفيين والمحامين والأطباء والعمال والحرفيين، والناشطين في المجال العام أيضاً ضحايا للكارثة برفقة عائلاتهم، ستعني فيما تعنيه كارثة ثانية تلازم الأولى، هي فقداننا للذاكرة المرتبطة بهؤلاء، الذي مضوا تحت التراب!

سيأتي وقت على السوريين سيكتشفون فيه أن معادلة استعادتهم لحيواتهم، أو لنقل تدفق الحياة في يومياتهم مثل كل الشعوب الأخرى، ستحتاج منهم ألا يفقدوا ما يجب أن يبقى ماثلاً أمامهم، ومن ذلك ذاكرتهم الجماعية، والتفاصيل الخاصة بكل فرد منهم، ودون ذلك، سيبقون منهوبين، بحاضرهم وماضيهم.

هامش، وربما ضمن السياق: خلال كتابة السطور السابقة، ستعلن الأخبار عن عثور أحد متطوعي الدفاع المدني، على دفاتر طفلة صغيرة، مجهولة المصير، كتبت فيها بعض خواطرٍها، ودونت لحظات عن العيد، بين الشام، حيث كانت، وبين المكان الذي استقرت فيه مع عائلتها!

تلفزيون سوريا

————————

هل يغيّر الزلزال قصتنا مع أميركا؟/ يحيى العريضي

مُرْبِكٌ حال السوريين من موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه قضيتهم. يرى السوريون أنه ما مِن قضية أهم منها في العالم؛ وهي الميزان والمعيار والامتحان للتأهُّل لقيادة العالم الحر المعني بحقوق الإنسان؛ أما سياسة أميركا ببرغمايتها، ومصالحها، وجدول أعمالها المكثف، وحسابات وتحيّزات دولتها العميقة، فربما لا ترى في هذه القضية إلا بنداً لتصفية الحسابات وتأديب مَن يخرج عن خطّها، وجَزرَة للطامحين أمثال بوتين، وأدوات خبيثة كمنظومة الملالي، وطموحات منظومةٍ استبداديةٍ تعشق كرسي السلطة، ولو كان خازوقاً. إذا كان هذا هو الحال؛ فهل يغيّر الزلزال قصتنا مع أميركا؟

في بداية القضية السورية، قالت إدارة “أوباما” إن منظومة الأسد زائلة، وأيام الأسد “معدودة”. أعطت صلاحية لسفيرها “فورد” بأن يذهب إلى مظاهرات الثورة، ويعزّي بالشهداء ويلتصق بالمعارضة؛ فوسمت “معارضة الأسد” بالالتصاق بأميركا؛ وسهّلت عليه اتهامها بالعمالة لأميركا. كان الرجل يعرف ما يفعل، والأذى الذي يلحقه بثورة السوريين.

كانت إدارة “أوباما” وراء سَحْبِ ما تيسر من ترسانة الأسد الكيماوية بتنسيق مع الروس وإسرائيل (حيث هاجس إسرائيل هذا السلاح، الذي سُمِّي “نووي الفقراء”). وضعت يدها على أداة جريمة الحرب، وأبقت الفاعل طليقاً. وخرج علينا “أوباما بخطّه الأحمر”؛ وكأن ذلك إذن للاستبداد باستخدام كل صنوف الأسلحة عدا الكيماوي. ومنذ ذلك الوقت بدأ التفكير لتعهيد الملف السوري لروسيا. وما إن تبيّن أن الملالي وميليشياتهم غير قادرين على الإبقاء على منظومة الأسد، حتى دخلت روسيا بكل صنوف أسلحتها -باستثناء النووي- وحَمَت كرسي الرئاسة بالسوخوي والصواريخ واستهداف المشافي والمدارس والأسواق.

أخرجت تلك الإدارة مع روسيا كل قرار دولي يخص القضية السورية، وعشّقا تلك القرارات بالغموض البناء constructive ambiguity، وجعلتاها بلا أنياب. وكما “لافروف” تحول إلى وزير خارجية للنظام، يمتهن الكذب كلما تنفس، تحوّل نظيره الأميركي “جون كيري” – صهر الملالي – إلى محام عام في المجتمع الدولي، يطيّب لزميله الروسي، ويلعب أحياناً دور المؤنِّب.

أعاد الأسد استخدام الكيماوي؛ وقَصَفَه “ترامب” برشفة من الصواريخ، لذر الرماد في العيون. وما كان أمام ترامب من مهرب، إلا أن يوقّع “قانون قيصر”؛ الذي كان وبالاً على السوريين، لا على منظومة الاستبداد؛ حيث جعلت المنظومة من ذلك القرار الذريعة والغطاء للفتك بمن تبقى في حاضنتها، ومكبّاً لكل فسادها وإفسادها؛ حيث أخذت من تلك القوانين العقابية حجة لتبرّر لنفسها كل أثافيها.

كان التركيز على محاربة إرهاب داعش هو الغطاء الذي تلظّت به إدارات أميركا، مشيحةً الطرف عن المغناطيس الأساس للإرهاب؛ رغم أن عبارة “مغناطيس الإرهاب” – كتوصيف لنظام الأسد – كانت من اختراعها. في ذلك الأثناء منعت عن “الجيش السوري الحر” أي وسيلة فاعلة ليهزم منظومة الاستبداد، بذرائع واهية.

تنفتح أبواب إعادة تكرير المنظومة أو التطبيع معها؛ وتجد أميركا أن كل الحسابات لم تُصفّ بعد، فترفع ورقة قانون قيصر بوجوه المطبعين؛ تعيد تكرار مسألة “تغيير سلوك النظام”، لا تغييره. تَناقُض الإدارات الأميركية المتعاقبة يحضّر ويغيّب الملالي ومشروعهم النووي كما يشاء. وفي كل ذلك يبقى الملف السوري محيّداً أو مجمداً؛ فالحساب لِمَن هو أكبر من إيران؛ تحديداً روسيا التي بدأت تخرج عن الدور المرسوم ارتجالياً وبشكل دراماتيكي، وتحديداً عندما غزت أوكرانيا.

حتى تكبّل لها أداتها في دمشق، كجزء من استراتيجيتها قطع أذرع روسيا دولياً؛ وكتأديب للملالي، وليس عطفاً على السوريين أو حباً بهم، أصدرت “قانون الكبتاغون”، مسميةً بشار الأسد ونظامه بالاسم، لتجعل من إعادة العلاقات معه أو تكريره استحالة. وبذا ضربت جملة من الأهداف بطلقة واحدة، وخاصة إيران الملالي لضلوعها بعمليات المخدرات.

وزاد في التكبيل نغماً صدور تقرير لجنة التحقيق باستخدام النظام للأسلحة الكيماوية، والتي دانت دون مجال للشك منظومة الأسد باستخدام الكيماوي في مدينة دوما السورية عام 2018. والأخطر في تقريرها الإشارة إلى مسؤولية روسيا عن القاعدة التي انطلقت منها الطائرات التي تحمل تلك القنابل الكيماوية.

ومؤخراً حضَرت الخطوات التركية في سياق الأزمة الأوكرانية، والجمود الأميركي تجاهها ونحو القضية السورية؛ فكان الاستنفار الأميركي، الذي رأى في الخطوة التركية سِباحة بعكس التيار، مما انعكس على القضية السورية؛ ليتحوّل إلى يقظة من سبات مقصود، ولتعبّر أميركا عن رفضها العلني لأي تقارب مع نظام الكبتاغون.

والآن، وإثر الزلزال، تجمِّد الخزانة الأميركية بعض العقوبات المالية المتضمنة في قانون قيصر؛ وينهال عليها ساسة أميركيون في الكونغرس باللوم، مذكّرين بالأسباب التي فُرِضَت تلك القوانين بموجبها، وأن منظومة الاستبداد هي المسؤولة عن مآسي السوريين؛ وما ذلك الإجراء إلا دعم لإعادة تأهيل تلك المنظومة. من جانب آخر، لا بد من تَذَكُّر تعبير الناطق باسم الخارجية في مؤتمر صحفي عن رفض أميركا الحديث مع منظومة الاستبداد، وقول الناطق إن أميركا لن تخاطب نظاماً قتل شعبه لسنوات، وضحايا الزلزال اليوم هم ضحاياه بالأمس، عندما اقتلعتهم من بيوتهم.

ختاماً من غير الواضح إذا كانت هذه الأرجحة الأميركية استمراراً بالتلاعب أو ارتباكاً، أم يقظة فعلية سيحدثها فعل الطبيعة والارتدادات القانونية والسياسية والإنسانية إضافة إلى التحرك الشعبي السوري الذي شهدنا إرهاصاته في الشمال الغربي السوري، والذي قال “نفنى ولا يحكمنا الأسد”؛ فبعد الزلزال، وافتضاح الخلل والتداعي والاهتزاز في كل شيء؛ لا بد من زلزال في السياسات والمقاربات يضع حداً ونهاية لقصة قررت الطبيعة ربما إنهاءها.

تلفزيون سوريا

———————–

زلزال الحقيقة والمآسي/ فراس رضوان أوغلو

لم يتضح بعد هول وحجم الدمار الحقيقي لزلزال القرن الذي ضرب تركيا وسوريا، ولم يتضح بعد حجم الدمار النفسي للذين تعرضوا للزلزال أو الذين تم إنقاذهم من تحت الأنقاض، وخاصة الأطفال والأشخاص الذين فقدوا أحباءهم في تلك الكارثة، فالأيام القادمة كفيلة بإظهار ما كان مدفونا في غياهب النفس البشرية أو تحت الركام، إضافة إلى العمل الهائل والكبير المنتظر بعد رفع الأنقاض وإعادة بناء ما هدمه الزلزال.

هذا الزلزال رغم بشاعته فقد أظهرَ بعض الحقائق التي كانت تتوارى خلف أقنعة متعددة، فموقع ميدل إيست أي البريطاني يقول إن هذا الزلزال كشف الوجه الحقيقي لأوروبا والغرب، وإن هذا الغرب مهتمّ بالحرب والتدمير أكثر من اهتمامه بالإعمار والتعمير وإن هذا الزلزال كان بمنزلة فرصة له لإظهار وجهه الإنساني وقدرته على الإعمار، وإحياء الإنسانية لكن للأسف هو مهتمّ فقط بالحرب في أوكرانيا حتى وسائل إعلامه اختفت من عناوينها الرئيسية أخبار زلزال القرن ومآسيه لصالح زياره زيلينسكي وغيرها من الأخبار الأخرى، وطال النقد حتى صعيد المساعدات لكارثة بمثل هذا الحجم والتي رُصد لها 6 ملايين دولار من أجل إغاثة 5 ملايين شخص في حين يتم إنفاق 2.3 مليار دولار كأسلحة لأوكرانيا من قبل بريطانيا وحدها.

قناع آخر يسقط من وجه الأمم المتحدة والتي تأخرت مساعداتها باتجاه الشمال السوري وكأن الأمر حادث بسيط وليس هناك آلاف من الأبرياء تحت الأنقاض يعانون من وطأة الزلزال والأحوال الجوية القاسية من برد وخوف وجوع وعطش، يحتاجون إلى الثانية لا إلى الدقائق من أجل إنقاذهم، لا أحد ينكر صعوبة وتعقيد الوضع الميداني في سوريا لكن مؤسسات من قبل الأمم المتحدة كانت قادرة على التواصل مع جميع الأطراف السياسية والعسكرية في سوريا من أجل إيصال معدات متطورة تسهم على الأقل في إنقاذ من تبقى حياً تحت الأنقاض، ورغم وصول بعض فرق الإنقاذ من بعض الدول فإن حجم المصيبة والكارثة لا يتناسب مع حجم الفرق التي جاءت ولا مع حجم المساعدات التي وصلت على قلتها متأخرة.

أسقط الزلزال قناع الحدود السياسية والعسكرية سواء بين الدولتين السورية والتركية أو بين فصائل المعارضة السورية فيما بينها وأيضاً فيما بينها وبين النظام، فهذه الجغرافيا متقاربة فيما بينها ثقافياً وإنسانياً وحتى بالعادات والتقاليد وغيرها من الأمور، فهذا الزلزال لم يفرّق بين سوري أو تركي ولا يمكن تجاوز آثار الزلزال هذا دون تكاتف الجميع، فعلى الجميع في سوريا إيقاف الحرب وأن يتطلعوا لهذا الإنسان الذي دارت عليه الدوائر وجارت عليه الطبيعة بما تملك من قوة وقسوة، وعليهم رمي خلافاتهم أو تجميدها إلى حين حتى يتم تجاوز هذه الكارثة، أما في تركيا فعلى أصحاب حملات التحريض ضد السوريين وغيرهم الاتعاظ والتوقف عن تلك التحريضات، فلا الزمان ولا المكان مناسب، والمصاب مشترك على كلا الشعبين وكأنها رسالة من الطبيعة تقول إن قدر هذه المنطقة التي ضربها الزلزال قدر مشترك.

الزلزال أسقط قناع الفساد المتخفي خلف تجار البناء والمقاولين الذين باعوا ضمائرهم من أجل حفنة من المال، أبنية بكاملها حديثة العهد والبناء هوت كأنها جذع خاوٍ تسببت بمقتل آلاف من الناس، هذا الأمر استوجب فتح تحقيق موسع لتتكشف الحقائق عن شبكات فساد متعاونة فيما بينها، وهذا الأمر لا بد أنه آخذ بالاتساع ولن يتوقف عند الولايات العشر التي تعرضت للزلزال، بل لا بد من توسيعه ليشمل كل الولايات التركية فالأمر جد خطير ولا يمكن ترك مثل هذه الأمور دون مراعاة كل التدابير في المدن الأخرى، إضافة إلى إعادة تعمير البنى التي أصبحت قديمة ولا تصلح لمقاومة الزلازل.

هذا الزلزال كشف عن الوجه الحقيق لكل أولئك الذين يستغلون الأزمات ويسرقون وينهبون كل ما يمكن نهبه، وأيضاً أولئك الذين يسرقون المساعدات ويبيعونها على حساب الأرواح التي زهقت في هذه الكارثة، وعلى حساب الذين بقوا في العراء لا مأوى لهم وإلى متى لا أحد يعلم حتى يتفق المجتمع الدولي من أجل مساعدة هؤلاء الناس وإرسال المساعدات لهم، هذا إن لم يحصل خلاف فيما بينهم على كيفية أو طريقة وصول تلك المساعدات.

————————–

السوريون كما لم يعرفهم العالم/ وفاء علوش

يوماً بعد آخر يضيق أفق الأمل ونفقد آخر خيط رفيع تمسكنا به، ما يقارب الأسبوع مضى على وقوع الكارثة التي حولت البلاد إلى مجلس عزاء كبير، لكننا ما زلنا نعجز عن مواساة بعضنا البعض وتخذلنا القدرة على التعبير ونعجز عن الصراخ.

لم نمتلك الوقت للعويل كان علينا إنقاذ إخوتنا ممن بقوا تحت الأنقاض لمنحهم فسحة يتنفسون من خلالها بعد أن أطبقت جدران هذه البلاد على صدورهم، ربما لم ننجح تماماً وعجزنا عن إنقاذ كثيرين ذهبوا ضحية تلك الكارثة، لكننا ومع كل جسد أخرجناه حياً كان أو ميتاً كنا نزيل غبار عقود عن أكتافنا.

نحن من تلك البلاد، البلاد التي حكمها خونة ومندسون وعملاء وسفاحون وصبوا جام حقدهم عليها فطمسوا هويتها الثقافية والحضارية، ونهبوا ثرواتها وسجنوا أبناءها وأحكموا قبضتهم على رؤوس ساكنيها وأفواههم.

ما الذي اقترفه السوريون حقاً حتى يصبحوا ملعونين هكذا، عقود تحت حكم عسكري في دولة بوليسية استخدمت أبشع الأساليب لإحكام سيطرتها وتقويض نفوذ المعارضين، أكملوا مسلسلهم الإجرامي بسنوات من التهجير والموت المستمر على يد نظام لم يحرك العالم ساكناً لإزاحته وإدانته، وسط صمت مخيف على مجازره وانتهاكاته.

لم ترحم الطبيعة السوريين أيضاً وقوبل وجودهم بالرفض في دول الجوار التي لجؤوا إليها، ثم وقعت كارثتهم الأخيرة ودُفنوا أحياء تحت الركام، لكنهم مرة أخرى كانوا في منأى عن نظر العالم ورحمته.

أيام قليلة مرت كأنها سنوات على أولئك الذين ينتظرون بصبر أن يسمعوا خبراً عمن فقدوهم تحت الركام، وساعات مضت كأنها دهراً كاملاً على أولئك الذين خنق الركام صدورهم وملأت الأتربة حناجرهم.

أصوات الاستغاثة اخترقت حاجز الصمت طالبة العون مراراً وتكراراً على أمل أن يستجيب العالم للنداء في النهاية، كانت أعلى من صوت طائرات وقوافل الإغاثة التي اختارت ألا تعبر الحدود بحجج سياسية وقانونية ضعيفة تاركة السوريين لمصيرهم المحتوم، المصير ذاته الذي تركتهم له منذ سنوات.

انقطع الأنين بعد أيام، تاركاً قوافل المنتظرين في صمت مهيب وحزن فاق مثيله، غابت لهفة الرجاء وخاب أمل الانتظار مثل العادة، لم تتمكن فرق الإنقاذ المحلية التي شكلتها الخوذ البيضاء أو المجموعات الأهلية التي نظمت نفسها لتستطيع اللحاق بإنقاذ كل الأرواح التي تستنجد تحت هذا الكم الهائل من الأنقاض، فواجه السوريون الحقيقة مرة أخرى، حقيقة أنهم وحدهم حتى النهاية وأنه ليس للسوري إلا السوري.

أدرك هذه الحقيقة المؤيد والمعارض على حد سواء، لمسوا الخذلان الذي تعرضوا له من مؤسساتهم وممثليهم وأنظمتهم وقادتهم، تبينوا العراء الذي يحيط بهم وأدركوا أن عليهم أن يغطوا عريهم بأنفسهم وألا ينتظروا الرحمة والعون من أحد، كانت تلك اللحظة الحاسمة الكاشفة للتلاعب السياسي الذي خضع له السوريون ليس بعد الثورة فحسب بل قبل ذلك بعقود.

لقد كانت السلطة السياسية المجرم الحقيقي بحق السوريين لا بقبضتها الأمنية والاستبداد والتوحش الذي حكمت بهما البلاد فحسب، وإنما بترسيخ حالة الشقاق بين السوريين وبث بذور التفرقة وقطع عُرى التواصل بين مكونات الشعب بترهيب الناس من بعضهم البعض، لتمويه مصدر الرعب الحقيقي وإخفاء معالم الجريمة التاريخية التي يرتكبونها في حقهم.

تعمد النظام السياسي بعد استلامه السلطة إحداث شقاق سوري سوري، غذاه لسنوات ليتمكن عن طريقه من طمس حقيقة التآخي التي عاشها أبناء بلادنا قبل وجوده، لقد استخدم أساليب الاستعمار وساد بتفرقة فئات الشعب بعضها عن البعض الآخر واستطاع أن يدير الدفة لصالحه على الدوام بدعم عالمي مبطن يدّعي عكس ما يفعل.

لم يُمنح السوريون فرصة للاقتراب وإلغاء الحدود فيما بينهم وربما اختبر جيلنا هذه الحقيقة جيداً، كنا مشغولين بصد كرات الاتهام والجري خلف المناطق الآمنة ولقمة العيش.

صدق السوريون ببساطتهم المعهودة كذبة الإرهاب والتهديد القومي الذي يحيق بالبلاد ويريد بها شراً، لم يستطع البعض تقبل أن تكون تلك لعبة خبيثة تستمر السلطة في لعبها وتغير أبطالها بحسب الأحداث، كانوا طيبين ليصدقوا أن حكامهم يريدون مصلحة الوطن ويضعونها قبل مصلحتهم.

لكنهم بدوا حانقين هذه المرة، حتى أن ابتسامة رئيس النظام وزوجته بعد زيارته إلى حلب لم تشفِ غضبهم وحنقهم من الإهمال واللامبالاة التي عاملتهم بها مؤسساتهم الحكومية، ولم تغفر لهم سرقة الغذاء والدواء القادم من الدول التي أرسلت مساعدات إلى ضحايا الزلزال.

لن ينسى السوريون اليوم بمختلف انتماءاتهم السياسية أنه كان يوزع ابتسامات تنم عن استخفاف في وقت كان عليه أن يكون خجلاً مما فعل بتلك البلاد، أو على الأقل أن يكون حزيناً لمصاب أهلها، لكنه اكتفى بتوزيع الابتسامات للكاميرات من دون كلمات تعاطف أو إعلان حداد على أفراد شعب الدولة التي يحكمها.

لم يعد السوريون ينظرون بسذاجة إلى إنجازات وهمية حققها بانتصارات على إرهاب مُتخيّل، صار القاصي والداني يعلم أنه باع بلاده لقوى إقليمية ودولية، وأنه ليس سوى استمرار لنهج سلفه الذي وضع البلاد في قبضته باستخدام أساليب أمنية لمصالح شخصية وخارجية لا تمت للوطنية بصلة، وإذا كان الصمت مسيطراً حتى اليوم على السوريين في الداخل فليس ذلك إلا بسبب الخوف الموروث وعدم القدرة على نصرة القضايا في ظل شح اقتصادي وجوع أنهك أجسادهم.

هل نجونا حقاً؟ سؤال علينا أن نسأله ونكرره على الدوام، لأننا في اعتقادي أبعد ما يكون عن النجاة، ضحايا الزلزال أو ضحايا سفاحي البلاد أو ضحايا التهجير والاغتراب أو ضحايا اللعب السياسية المتنكرة في شكل دبلوماسية ضرورية.

لا أقصد هنا النجاة بالاستمرار بالحياة فحسب، فالنجاة بالنسبة إلى شعوب مثلنا تحتاج أن نستطيع النهوض مجدداً ويسجل لنا التاريخ قيامة كبيرة على ما كبّل قلوبنا وأفواهنا لعقود.

وإذا كان ذلك ما زال يبدو حلماً بعيداً إلا أنه بدأ يصبح حقيقة في غضون أيام قليلة، بعد أن محت الحدود المصطنعة بين السوريين وتذكروا أنهم أبناء أرض واحدة ففتحوا بيوتهم للآخرين بصرف النظر عن هوياتهم السياسية، اقتطعوا من قوت يومهم ومن حاجاتهم الشخصية وجمعوا ما احتاجه الناس الأكثر تضرراً، والأهم أنهم جمعوا شتات قلوبهم ووحدوها في وجه أفكارهم القديمة، أثبت السوريون مجدداً أنهم شعب حيّ وأبناء حضارة لا تموت بينما بدأت تتضح صورة الجلاد ويتقزم حجمه شيئاً فشيئاً.

لقد خفتت أصوات طلب النجدة والأنين القادم من تحت الأنقاض ربما، لكنها نقلت روحها إلى قوافل المنتظرين على الطرف الآخر من الأرض بشغف، أولئك من قد يصنعون التاريخ محققين زلزالاً سورياً خالصاً يغير مصير الأرض السورية.

تلفزيون سوريا

———————–

دبلوماسية الكوارث الطبيعية/ فارس الذهبي

في واقع صعب ومُر، أشبه بالمسرحيات التراجيدية التي لا تنتهي إلا بالسقوط، أو بفيلم رعب يحكي عن قاتل متسلسل يطارد السوريين في كل مكان وينال منهم قتلاً وذبحاً وتشريداً وفي كل الأماكن في البر والبحر والجو، أتى زلزال قهرمان مرعش ليتوج المأساة السورية بتاج من دم.. وليضيف إلى سلسلة المدن السورية المهدمة عدداً غير قليل، فتلك التي لم تُهدم بالقصف والصواريخ والبراميل، هُدمت بالزلازل، وليضيف أيضاً أعداداً غير منتهية لفاتورة الدم السوري، الذي اعتقد البعض ممن خرج من البلاد أنهم في منأى عن الوسم الذي أصيبوا به كسوريين، لتكشف الأيام أننا أمام كارثة متكاملة وغير منتهية ممتدة منذ عام 2012 وحتى اليوم بلا انقطاع، ولكن بنكهة مختلفة لا رائحة بارود فيها ولا طعنات الأخوة الأعداء.. ولا ظلم ذوي القربى.

بكل الأحوال تتأتى دوماً المحاولات الأممية والدولية والإقليمية لإغاثة من تبقى على قيد الحياة لإخراج المفقودين والجرحى وإعادة إعمار المناطق التي تعرضت للهزة الأرضية، ولكن الموضوع في سوريا ليس مشابهاً للواقع في تركيا، فسوريا تشمل عدة طبقات من المتضررين ممن يحتاجون الإغاثة، حيث لدينا متضررو الزلزال ومتضررو الحرب الطويلة التي هدمت المدن السورية على رؤوس أصحابها، ولدينا فئة أخرى هي فئة السوريين المتضررين في تركيا الذين لا يمكن تركهم بلا مأوى ومسكن وإعانة، فهم ليسوا  مواطنين أتراكاً ولا أولوية لهم ضمن المُصاب التركي الهائل الذي شل وسط البلاد بقوة تعادل خمسمئة قنبلة ذرية حسب تصريح الرئاسة التركية.

السوريون في تركيا ممن تهجروا من جراء الزلزال يحتاجون لإغاثة عاجلة، فهم لا يعترفون بالحكومة ولا بالنظام السوري، وفي ظل الانتخابات التركية وتوعد المعارضة التركية والضائقة التي تعيشها البلاد التركية وأولوية المواطن التركي المفهومة في كل شيء، سيتعرضون لأزمة حقيقية.

وكأن لعنة القدر مُصرة على تعميق جراح منطقة هائلة التوتر على المستوى الجيوسياسي. سلسلة من جبهات النزاعات تشتعل منذ عقد ونيف، تمتد من شرق البحر الأبيض المتوسط ​​إلى العراق وإيران واليمن وأفغانستان يتدخل فيها فاعلون إقليميون ودوليون بأجندات يطبعها التناقض. لذاك فإن هذه الكارثة تشكل تحديا لعمل هيئات ومنظمات الإغاثة.

لكن ومع كل ذلك تظهر في الأفق أحاديث متناثرة في أروقة الدبلوماسية عن تغيرات ما هنا وهناك، وعن كسر للأطر التقليدية للصراع المفترض في الشرق الأوسط، حيث تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن تلقي الحكومة الاسرائيلية طلباً في السادس من شباط من (سوريين) للمساعدة والإغاثة، وبأن حكومة نتنياهو قد وافقت، وبأنها ستقوم بتقديم المساعدة لسوريا كما قدمتها لتركيا، وتحدثت وسائل إعلام روسية عن وساطة روسية قامت بهذا الخرق، وسط نفي تقليدي من صحيفة الوطن السورية التي عادة ما تنقل الموقف الحكومي من القضايا الحساسة التي لا تعلق عليها الحكومة السورية في دمشق.

في مقلب آخر وقبل أيام من الزلزال تحدث وزير تركي عن استعداد أنقرة لقصف اليونان في حال استمرار التجاوزات في جزر بحر إيجة، ولكن اليونان كانت أول بلد يرسل فرق الإغاثة إلى تركيا، إيران كذلك فعلت، والاتحاد الأوروبي، السعودية ودول الخليج، قطر أرسلت مساعدات إلى سوريا. مما يعني تكسر الجدران التقليدية بين المعسكرات التي ظهرت في العقد الأخير، ولو بشكل جزئي بالجميع شعر بالتعب، والجميع يبحث عن حل إقليمي ينهي المأسة الشرق أوسطية النازفة.

ربما هو الجانب المضيء من المأساة هي في تواصل أطراف الصراع المفترض بعضهم بعضا من أجل إزالة القليل من التوتر وفتح أبواب جديدة للحوار الذي قد وصل إلى طرق مسدودة، كل هذا يجري إقليمياً، لكن داخل البلاد السورية لا تقارب ولا رسائل بين شمال سوريا (الحكومة المؤقتة) وبين حكومة النظام، ولا حتى بين هذين مع الإدارة الكردية الذاتية، حيث تفتقد الأطراف الثلاثة إلى سيادة ما على قرار الحرب والسلم.

ربما لم تك هذه المأساة هي الأولى في تحريك السكون السياسي والدبلوماسي، فقد أطلق هذا المصطلح على الحراك السياسي بعيد الكوارث التي تضرب الأطراف أثناء النزاع، وأشهرها كان التعاون الدولي بعد كارثة تشيرنوبل النووية في الاتحاد السوفييتي، فبعد إنكار موسكو للكارثة في الإعلام الرسمي، اعترفت بها بعد عشرات التقارير الدولية عن السحابة النووية التي تعم أوروبا، وسط عجز حكومي مريع عن القدرة على التعامل مع الكارثة النووية، تدخلت أوروبا حينها متمثلة بالطرف الألماني الذي يقف خلفه العمق الأوروبي والناتو، لتتدخل بعدها أغلب دول العالم الغربي لدعم الاستجابة السوفييتية الضعيفة لكارثة تشيرنول، التي كانت سبباً أساسياً لسقوط الاتحاد السوفييتي وإحداث تغيير شامل في الجيوبوليتيك العالمي.

ومن هنا يتأتى خوف حلف روسيا وإيران من فتح حكومة دمشق أبواب المساعدات للتدخل الإنساني وفرق الإغاثة الدولية التي تعني حسب مفهوم البلد المغلق المتبع في بلدان الحلف الروسي الإيراني، أن تفقد السيطرة على كل من يدخل وكل من يخرج، أضف إلى ذلك عدم قدرة مافيات الفساد على الاستفادة من عمليات الإغاثة التي تتحرك في دوائر مالية تقدر بمئات ملايين الدولارات، نضيف إلى ذلك الفوائد الجمّة من مرور المساعدات الإنسانية عبر آليات النظام البيروقراطية وما تعنيه من حجم عمولات مباشرة من تلك المساعدات.

تبدو فكرة دبلوماسية الكوارث الطبيعية التي تسير في طريقها بدفع من بعض الدول الإقليمية في المنطقة، بعد اصطدام الجهود العسكرية والأمنية والسياسية بحائط الصراع الإقليمي المرتبط بالصراع الدولي بين معسكري روسيا والناتو، فكرة جيدة.

لكن ما يهم حقاً هو نتيجة تلك الدبلوماسية الناتجة عن الكوارث الطبيعية، وهل ستنجح الدول بإجراء ضغط ما على النظام للقيام بخطوات جريئة في مسار الحل السياسي الذي يبدو أنه لا يؤمن به. بل يفضل مؤامرات ما تحت الطاولة واجتماعات الغرف السرية.

تلفزيون سوريا

—————————

هذا ألم لا يطاق../ بسام يوسف

عفواً، هل تلتقط صورة لطفلتي.

هذا ما طلبه المواطن التركي “مسعود هانسر”، الذي جلس رغم الطقس الشديد البرودة وهو يمسك بيد ابنته “إرماك ” الخارجة من تحت الدمار، كانت ابنته قد توفيت بسبب الزلزال، وكان جسدها قد اختفى بالكامل تحت الركام، وظهرت يدها فقط.

يقول المصور “آدم ألتان”: (لم أكن أعرف لماذا يجلس هذا الرجل بجانب الدمار وحيداً، وعندما طلب مني أن ألتقط الصورة، رأيت يده التي تمسك بيد خارجة من الركام، سألته لمن تكون هذه اليد فقال إنها لابنته، وأن عمرها 15 عاما واسمها “إرماك”)، يضيف آدم: لقد تأثرت كثيراً، اغرورقت عيناي بالدموع، ظللت أقول في نفسي: هذا ألم لا يطاق.

عندما كان المصور “آدم”، بعينيه الدامعتين يلتقط صورة يد الأب “مسعود”، وهي تمسك بيد ابنته “إرماك” الخارجة من الركام، كان آلاف السوريين في جنديرس وحلب وسرمدا وعفرين وسطامو وجبلة و..و.. يطلقون صرخات استغاثة في سماء هذا العالم الأصم، محاولين فعل أي شيء لسوريين كثر ابتلعهم الدمار، دون أن يجدوا من يسمع صرخاتهم.

كنت مثلهم أصرخ، لكن أحداً لم يستمع لي، ولم يستطع أحد أن يلتقط صورة لابن أخي “جود” ولا لأخيه “ليث” ولا لأمهما، وهم يحتضرون بصمت تحت ركام البناء الذي كانوا يسكنون في أحد شققه بمدينة جبلة، فالسوريون يموتون بصمت، ولا يستحق موتهم كل هذا الصخب.

السوريون لا يموتون بصمت فقط، بل ويجوعون بصمت، ويُنهبون بصمت، ويبكون بصمت، ويتقاسم المرتزقة أعمارهم بصمت، وعندما تحدث الكارثة لا يجد السوريون إلا أنفسهم في مواجهتها.

تقول الواشنطن بوست “إن زيارة للمناطق السورية المتضررة بشدة جراء الزلزال المدمر والتي تسيطر عليها الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا كشفت عن مجتمعات محاصرة ووحيدة ومصابة بالصدمة”!

لم يكن أمام السوريين في حصارهم ووحدتهم وصدمتهم سوى أن يحفروا بأيديهم، لإنقاذ أهلهم، وعائلاتهم وأطفالهم الذين ابتلعهم الدمار، فالمعدات التي يحتاجونها لرفع الركام عن أجساد ذويهم، لايزال العالم مختلفاً حول طريقة إيصالها لهم، والموت الذي لا توقفه حدود، ويتحرك بكامل حريته وكيفما يشاء، هو أكثر مرونة، ولن ينتظر اتفاق الجهات المختلفة، كي يسبق الجميع، وكي يكون الأكثر حضوراً في زلزال السوريين الأسود.

ولم يكن أمام السوريين سوى أن يجمعوا ما تبقى من القليل، الذي لديهم لكي يشاركوا به سوريين آخرين دمر الزلزال بيوتهم وقذف بهم إلى العراء، فالعالم الذي لايزال يختلف حول طرق إيصال المساعدات لهم لا يملك السوريون ترف انتظاره، والذئاب التي رأت في الزلزال فرصتها لنهش ما يمكن من المساعدات تتربص، ولم يجد السوريين بديلاً عن أن يتولوا أمورهم بأنفسهم.

ولأنهم قرروا أن يتولوا أمورهم بأنفسهم، كان عليهم أن يخترعوا آليات عملهم، وأن يقوموا بما يفترض أنه عمل حكومات وجهات مختصة، فخلقوا شبكات اتصالهم، وقسموا مهامهم، ونسقوا إمكاناتهم -على ضعفها- كي ينقذوا ما يمكن إنقاذه، لكن العالم الذي تحكمه حرتقات السياسة وكذبها، لن يعترف بما فعلوه، وهو سيتريث قبل أن يقرر من سيمثلهم، فهم بلا دولة، وبلا حكومة تمثلهم فعلاً، والمصيبة الكبرى أن الحكومة التي تدّعي تمثيلهم هي التي ستسرق كل ما لديهم، ولو استطاعت لما ترددت في بيع هواء التنفس لهم.

منذ أن حدث الزلزال والسوريون حتى هذه اللحظة هم من يفعلون كل شيء لمساعدة إخوتهم السوريين، أما ما يقال عن مساعدات دول أخرى، فهو إما أنه منع من الوصول ولايزال عالقا على الحدود، أو أنه دخل لتصادره سلطات الأمر الواقع، فتخزنه في مستودعاتها كي تباشر بيعه الآن، أو تبيعه فيما بعد.

من يتابع صفحات التواصل الاجتماعي، أو مجموعات التواصل، سيذهله حجم إعلانات السوريين عن خدماتهم، يقدمون بيوتهم الجاهزة لاستقبال من شردهم الزلزال، يجمعون ما يمكن من طعام ولباس وأدوية، يعلنون عن خدمات أخرى يحتاجها أولئك الذين أصبحوا بلا مأوى، يمكنك وأنت السوري المهجّر، والمنفي، والمقهور أن تفخر أو تبكي أو تغضب، فهذا الشعب العظيم لا يزال منذ ما يزيد على عشر سنوات، ينتقل من مأساة إلى أخرى، لكنه يرفض أن يستسلم.

هل يتوجب علينا أن نصحح ما كتبته الواشنطن بوست أن “سوريا المنقسمة على نفسها والمعزولة عن العالم تركت تواجه كارثة الزلزال المدمر بمفردها” ونخبرها أن سوريا ليست منقسمة على نفسها، وأن اللصوص الذين فرضوا على الشعب السوري هم المنقسمون على أنفسهم؟.

هل يكفينا أن تعترف مسؤولة تعمل في منظمة تابعة للأمم المتحدة، أن معظم المساعدات التي تقدم للسوريين المنكوبين تأتي من السوريين؟

هل يكفينا أن يصرح مسؤول في الاتحاد الأوروبي، أن الحكومة السورية التابعة لنظام الأسد صاحبة سجل حافل في تحويل المساعدات لغير محتاجيها؟

هل يكفينا أن يقرّ العالم بأن بشار الأسد يبتز العالم بالشعب السوري، الرهين بين يديه كي يبقى ممسكاً بكرسي السلطة، وأن الجولاني ليس أكثر من مسخ صنعته أجهزة المخابرات، وأن عبد الرحمن مصطفى ليس أكثر من موظف يعمل لحساب جهة خارجية؟

هل علينا كسوريين أن نؤكد لكم أننا حفظنا درس بشاعة العالم عن ظهر قلب، ولسنا بحاجة لتكراره مرات ومرات فوق أجسادنا، وعلى أشلاء أطفالنا؟

ما الذي كان بإمكان السوريين أن يفعلوه ولم يفعلوه كي يقبضوا على حياة تليق بهم، ما الذي بخل به السوريون من أجل أن تشرق حريتهم، وهذه المعجزة السورية التي يجترحها السوريون كل يوم، ألا تستحق أن يقف العالم كلّه أمامها بما يليق بها؟!.

 حسنا إذا كانت الدولة السورية منهارة، وإذا كانت عصابات الفساد والنهب تنخر فيها، فهل يتوجب على السوريين أن يدفعوا ثمن هذا الأمر إلى الأبد؟

ألا يستحق السوريون أن تطوى صفحة هذه العائلة، التي لم تذقهم إلا القهر، والتشرد والموت من تاريخهم؟

أما آن للمجتمع الدولي أن ينهي هذه المهزلة، التي اسمها “نظام عائلة الأسد”؟

تلفزيون سوريا

—————————

نعم للمساعدات لا لرفع العقوبات/ عالية منصور

صباح الاثنين، ضرب زلزال جنوب تركيا وشمال سوريا، لحقه زلزال ثان، وعشرات الهزات الارتدادية، المنطقة بكاملها استفاقت على كارثة كبيرة كأنها يوم القيامة، عاش الجميع رعبا لساعات طويلة، تحدث الناس عن الهلع الذي انتابهم في تلك اللحظات العصيبة عندما انقلبت الأرض عليهم، وابتلعت كثيرا من المباني التي لم يبق منها سوى الركام وتحت هذا الركام أرواح تصارع، وجثث لا تعد ولا تحصى، مشاهد لا يمكن لعقل تخيلها ولا لقلب تحملها، في تركيا فرق الإنقاذ تحاول انتشال الضحايا من تحت الأنقاض قدر استطاعتها، وأتت العاصفة لتجعل من الأمر أكثر صعوبة، ولكن محاولات الإنقاذ مستمرة ومحاولات انتشال الجثث لم تتوقف، على الجانب الآخر من الحدود، في الشمال السوري، حجم الأضرار لا يمكن إحصاؤه، هناك حيث لا إمكانات كبيرة للملمة ما نتج عن هذه الكارثة، منظمات محلية من شباب وصبايا سوريين بإمكانات متواضعة يحاولون القيام بدور تعجز الدول عن القيام به، هناك حيث كل شيء آيل للسقوط بسبب القصف الذي تعرضت له المنطقة من قوات بشار الأسد وروسيا، حيث آلاف البراميل سقطت خلال السنوات الإحدى عشرة الأخيرة، ما كانت الأبنية بحاجة ليكون الزلزال بهذه القوة لتبتلع الأرض سكانها، وتتحول مدن وأحياء إلى أطلال، هناك من بقي حيا يبحث عن أقاربه تحت الركام، يحفرون الأرض بأظافرهم، ليس في هذا أي مبالغة، هذا ما حصل بالفعل ولا يزال يحصل للآن، يبحثون عن أطفالهم، عن أهاليهم وأقاربهم، والعثور عليهم وإنقاذهم إن كانوا أحياء، أو تكريم جثثهم إن كانوا قد قضوا تحت الأنقاض.

تظن، وإن بعض الظن إثم، أن هذه الكارثة لا يمكن أن تجلب سوى التعاطف مع الضحايا، ولكن ستتفاجأ مع بشار الأسد ونظامه، إن لم تكن تعرفه بحق، أنه اعتبر الزلازل فرصة عليه استثمارها، تنتبه كيف أن أصواتا أشبه بالأبواق بنعيق الغربان لم تكتف بالصمت خلال أكثر من 11 عاما والسوريون يقتلون يوميا، بل كانوا يرقصون فوق جثث الضحايا الذين قتلهم الأسد، وتحولوا بقدرة قادر أو بدقة بإيعاز من نظام الأسد إلى دعاة إنسانية وحمائم سلام. بكبسة زر من جهاز ما، تباكى الجميع على ضحايا الزلزال، ذرفوا دموع التماسيح وزمجروا بصوت واحد “فكوا الحصار عن سوريا، ارفعوا العقوبات كي تتمكن سوريا الأسد من إنقاذ المتضررين”، عن أي حصار يتحدثون؟ وأين هي العقوبات التي تمنع من إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا؟

ثلة من المنافقين، وكثير من الجهلة يرددون ما يقوله المنافقون من دون فهم أو إدراك لحقيقة الأمر، لا شيء يمنع من إدخال المساعدات إلى سوريا، لا تطول العقوبات أيا ممن يرسل الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية والإغاثية للسوريين المنكوبين، العقوبات هي على الأسد ونظامه، العقوبات هي لمنع الأسد من الحصول على مزيد من الأسلحة لقتل من بقي حيًا من السوريين، المنظمات الدولية موجودة في مناطق سيطرة الأسد، تُدخل الغذاء والمساعدات بشكل دائم، فساد الأسد ومنظمات زوجته بالشراكة مع عاملين في المنظمات الدولية هو سبب عدم وصول المساعدات لمستحقيها في مناطق النظام، وليس قانون قيصر والعقوبات.

ثلة من المنافقين، فنانيين ورجال دين وصحافيين وسياسيين، لم يذرفوا دمعة على ضحايا البراميل والكيماوي والقصف والتعذيب، لم يرفّ لهم جفن والأطفال في اليرموك ومضايا يأكلون أوراق الشجر بسبب حصار الأسد، لا بل على العكس شمتوا ورقصوا فرحا، فكل من يعارض بشار الأسد يستحق الموت بأبشع الأساليب، منافقون استفاقوا اليوم على الإنسانية.

كارثة جديدة تحل بالسوريين! مأساة جديدة! لم تعد هذه الأوصاف تعبّر حقا عمّا حصل ويحصل لهذا الشعب، الزلزال لم يضرب السوريين وحسب، ولكنهم هم فقط من بقوا وحدهم لا يملكون سوى أيديهم، يرفعونها مرة للدعاء ويغرسونها مرة في الأرض للبحث عن أحبائهم.

الزلزال ليس الكارثة الوحيدة التي ألمت بالسوريين، الكارثة الكبرى هي وجود بشار الأسد في السلطة، المأساة أنه وبعد كل الجرائم التي ارتكبها من قتل وتهجير وتعذيب الملايين لم يستطع العالم إيقافه ومحاكمته. الآلاف من السوريين قتلهم الزلزال، ومئات الآلاف من السوريين سبق أن قتلهم بشار الأسد.

الزلزال لم يميز بين مناطق سيطرة النظام ومناطق خارج سيطرته، ولكن المساعدات يجب أن تميز حتى تصل إلى مستحقيها، فالمساعدات لمناطق سيطرة النظام ستصل، إن لم ينهبها النظام، عن طريق منظمات شريكة له يسمح لها بالعمل هناك، أما المناطق الأكثر تضررا، وهي المناطق الخارجة عن سيطرته، فيجب أن تصل إليها المساعدات من خلال المنظمات العاملة هناك، يجب أن تصل إليها بشكل مباشر. واهم من يظن أن بشار سيرسل لهم غير الموت، ألم يحاول قتلهم مرات ومرات ومرات؟ ألم تدمّر الطائراتُ الروسية معظم النقاط الطبية والمستشفيات العاملة في مناطق خارج سيطرته، فهل من خلال هؤلاء سترسل المساعدات؟ من شاهد صورة بشار بالأمس ضاحكا وهو يتباحث مع وزراء حكومته بأمر الزلزال سيدرك أن بشار الأسد يرى في هذه الكارثة فرصة.

نعم المطلوب إرسال مساعدات عاجلة وضرورية جدا للسوريين، لجميع السوريين، ولكن المطلوب أيضا في الوقت نفسه عدم الانجرار خلف نيّات الأسد الخبيثة. باختصار: لا لرفع العقوبات، ولا لتحويل كارثة جديدة حلّت بالسوريين إلى فرصة لبشار الأسد تمكنه من قتل من بقي حيّا.

—————————-

طمنونا عنكم/ محمد إبراهيم

عندما أحكم الأسد إغلاق كل منافذ الحياة من حولنا، وداس بأحذية مخابراته على كرامتنا وأصبحنا نستجدي النور من شراقات زنازينه، حسمنا أمرنا، وقلنا: لا، الشعب السوري ما بينذل!

وكانت الثورة، صرخنا ولم تملَّ حناجرنا النشيد، نثرنا الورود على فوهات البنادق، ومطالبنا لم تتجاوز حدود الحرية والعيش الكريم، لكنه لم يستجب، وقابل الكلمة بالرصاص ونشر الموت في كل الزوايا، وغرس القضبان على بوابات الروح، هربنا من الموت فرادى وجماعات، ليس جبناً ولكن تكالبت علينا قوى الظلم والظلام من بوتين وتكالبه لاستعادة مجد ضيعته الديكتاتورية وأيديولوجيا الواحد الأوحد، وإيران وحلم الطائفة المنشود..

نعم هربنا وبراميل الموت تلاحقنا، وطائرات الحقد تسبر وقع أقدامنا، لكننا لم نهرب من أحلامنا، لم نهرب إلا لنحمي عيون أطفالنا من لون الدماء وأنوفهم من رائحة البارود ومع ذلك لحقتنا إلى الخيام والبراري، صبت نار حقدها على بقايا أجسادنا، لوثت الهواء باصفرار الموت، منذ ذلك الزمن لم يعد الموت استثناء في درب مشيناه اثني عشر عاماً.. ولم يعد الدمع تعبيراً عن لحظة حزن سيبتلعها النسيان، ولم تعد دروب الهروب على تشعبها توصل إلى النجاة، كل الدروب عنونت نهاياتها، بالغربة حيناً، وبالشوق حيناً، وبالموت في كل الأحيان، وكل الحدود التي أُغلقت فتحت أبوابها نحو السماء وختمت أرواحنا بتأشيرة ذهاب بلا عودة..

تنشقنا الكيماوي ولم يقوَ الموت على سحب آخر أنفاسنا، حملنا ما تبقى من أعمار أطفالنا وركضنا بلا هدف، كبتنا صرخاتنا أمام لهاث الموت المنساب دمعاً من عيونهم كي لا يخافوا، تعبنا وتعب الموت من الركض خلفنا، وحطت بنا الرحال على مسافة القلب من الوطن، كنا نربي الحلم بما يحمله الهواء من رائحة الياسمين ونكبر على وعدٍ بلا هراوات ولا زنازين..

لم يسعفنا الأمل، ولا سامحنا الموت عندما لم نعطه فرصةً للقبض على أرواحنا طول الطريق من الغوطة إلى أريحا، ومن شوارع الشام إلى حارات إدلب، ومن حمص وحلب وكل المدن إلى أطراف الحدود، وأخذنا استراحة على حدود القلب..

لم ينس الموت أن قذائف الموت وبراميل الدمار لم تنل من أرواحنا وخرجنا غصباً عنه من بين الأنقاض ومن مسامات الدخان لنعلن أننا ما زلنا على قيد الحلم والحياة.

جاءنا اليوم الموت غداراً، بغفلة من النوم، يسيل من باطن الأرض التي آمنا بها ليزلزل كل شيء فوق أرواحنا المتعبة، أرواحنا التي ملَّت الانتظار.

أخذنا الموت في هذه المرة على حين غرة ونحن نتشبث بأطراف الشوق، ونقص حكايا العودة والحنين.

جعل بيوتنا قبوراً، وكوم الركام والإسمنت والحديد فوق رموشنا، سدّ منافذ الهواء على أرواحنا كي لا نصرخ، كبّل أيدينا وثبّت أقدامنا بأطنان من الأسقف المنهارة، تركنا والأنين الأخير يعلن موتنا هذه المرة دفعةً واحدة، بعدما كان يلاحقنا من خيمة لخيمة ومن جدار إلى بقايا جدار، وعلى امتداد رقعة اللجوء تمدد الحزن هذه المرة ليعلن عن نفسه تارة بمكالمة هاتفية قطعها البكاء ولم تكتمل، أو بنص رسالة تعثرت كلماتها بنشيج مبحوح.. وتاه صوتها فوق الحدود. طمنونا عنكم، طمنونا عن أمي وأختي، طمنونا عن أبي وجدتي، لا أريد الآن أن أسأل عن حال الوطن ولا عن هواء الياسمين ولا كيف ضاع الطريق، ولا حتى كيف صرنا بعد هذي السنين!!؟؟

أريد فقط أن أطمئن هل ما زال للروح نبض للشوق والحنين؟؟!

—————————-

السوريون بين كوارث الطبيعة والسياسة/ جمال الشوفي

رغم كل التقدم العلمي الهائل الذي تعيشه البشرية في العصر الحديث، لكن ما زال للطبيعة قوتها وجبروتها. لم تزل الطبيعة إن أرادت التوازن أحدثت فواجعها ونكباتها في حياة البشر عواصف وزلازل وبراكين.. وربما نيازك قادمة..

بالأمس ضرب غضب الطبيعة شمال غربي سوريا وجنوب شرقي تركيا، الزلزال الأقوى من نوعه منذ قرابة 90 عامًا بحسب وكالات الأرصاد التركية. الزلزال الذي طال الأتراك والسوريين، المُهّجر والنازح منهم في إدلب وشمال حلب، ومن تبقى منهم في بيوتهم في الساحل وحلب وحماة. الزلزال الذي دمّر مئات البنايات وأعداد قتلاه في تزايد، وكل ساعة يتم الكشف عن مزيد منهم. منهم من نعرفهم شخصيًا ومنهم من عرفناهم عن بعد. لكنهم جميعًا سوريون قبل كل شيء، مكلومون موجوعون جميعًا، ووجدانهم الطيب يردد أي ابتلاء نعيش!

السوريون اليوم يتنادون من كل جهة يتعاونون بما استطاعوا من إمكانات قليلة وأدوات ضعيفة، مبادرون ومستعدون للتعاون فيما بينهم لدرء آثار الزلزال بحدودها الدنيا بغض النظر عن أي انتماء سياسي فُرض عليهم قسرًا أن يكونوا مهجرين “معارضين” أو قاطنين “موالين”، فمصابهم اليوم واحد وقد تساوت خواطرهم ولكن للأسف مساواة موت وقهر. ومن هنا نصحو مجددًا على كارثة لم تنتهِ بعد!

اجتاحت السوريين طوال 12 عامًا قضت شتى أنواع الكوارث، لكنها أبدًا لم تكن طبيعية لا راد لها. بل كوارث بفعل البشر كان يمكن درؤها، كان يمكن عدم حدوثها وتدارك نشوبها. كوارث السياسة والنفس الأمارة بالسوء وشهوة السلطة. النفس الكارهة التي حولت سوريا لسيل من المهجرين من بيوتهم يسكنون خيم اللجوء، وآخرون يبحثون عن دول تحتويهم وذويهم من لعنات الموت الداخلي، أو عن حياة آمنة لهم ولأبنائهم في دول العالم بعد أن استحالت سوريا لبلد خراب وموت. وسوريون يعيشون في الداخل تحت وطأة أشد الظروف السياسية والاقتصادية الضحلة. سوريون لا تكفيهم رواتبهم شراء وجبة “المجدرة” الحاف (وكلفتها الشهرية نصف مليون بلا لبن أو “قلية” البصل)، ومن دون فطور أو عشاء! سوريون فرقتهم السياسة بين معارضٍ وموالٍ، ويا لبئس التصنيف! في حين أن الحق والحقيقة أن كل السوريين معارضون للظلم والقهر والاستبداد لتلك النسبة الضئيلة منهم التي مارست وتمارس شتى صنوف الصلف والتعنت والظلم والسحق السياسي للطرف الآخر وأي مختلف عنها. ساسة سلطات الأمر الواقع، من ساسة سلطة النظام وأجهزته الأمنية وتابعيهم من الميليشيات الدخيلة على النسيج السوري. وساسة سلطات الدين الزائف، وساسة سلطات الارتهان والتبعية للأجندات الخارجية. وحقيقة يدهشنا تسميتهم بالسوريين وهم من كان السبب في كوارثنا السياسية والوجودية والمجتمعية! لكنهم للأسف سوريون، لم يتمكن القانون من محاكمتهم ومقاضاتهم لليوم.

كوارث السوريين الطبيعية اليوم تشد أزر بعضهم بعضا، تقربهم للالتمام حول جراحهم، حول مصابهم العمومي وقد أصاب الجميع بلا استثناء ممن يصنفون معارضة وموالاة. وهذا التصنيف أصل كوارثهم السياسية والمجتمعية لليوم. التصنيف الذي حول سوريا لشبه دولة، بل شبه دويلات، بل مجرد مواقع لممارسة سلطات الأمر الواقع نفوذها وسطوتها على البشر والعباد، وكل جهة تستقوي بحليفها الدولي والإقليمي ضد البقية حتى من أبناء جلدتها المفترض أنها تمثلهم. فسلطة النظام لا تتأخر، ولم تتوانَ يومًا، عن ملاحقة كل من يقول لها “لا أريد حقي”! تعتقل، تقتل، تهجر، تسطو على أملاك وأرزاق الناس وتاريخهم وحاضرهم! ولا تتردد أبدًا بالتخلص حتى ممن تسميهم موالاة لها حين يبدر منهم ولو أنّة تململ أو رفض أو شبهة التفكير في نفسه في قولها، والشواهد بالجملة ممن انتحروا بعشرات الطلقات! فكيف يصنف من يعيشون في ظلها بالموالين!

سوريا المكلومة بكل لعنات التاريخ ومكر السياسة، سوريا الموجوعة بتولية شؤونها لكل دخلاء ومارقي العصر، وعصابات وتجار الحرب والبشر والمخدرات، وسياسيي النقمة والعهر والمكر سلطة ومعارضة، ودول سمّيت زيفًا دول المحور والمقاومة والجيوبولتيك الشائن والقاتل، ودول سميت أصدقاء شعب ترك يواجه محنه وكوارثه، وليس فقط تنتقي وتصنف بحسب مصالحها من دون أن تقوم بأقل ما يجب أن يقوم به الصديق. فعن أي أصدقاء للسلطة يتحدثون؟ فروسيا وإيران التي لا تقدم صهريج وقود إلا بعد أن تنفذ لها السلطة طلباتها السياسية والاقتصادية بالإملاء، وتشغل سماسرتها في ذلك، والأرباح يتقاسمها أزلامها والشعب المسكين المصنف مواليًا يدفع الفاتورة! وأي أصدقاء للشعب السوري الذين يديرون لعبة السياسة لجني أموال الدول المانحة ولا يصل منها للشعب السوري سوى الفتات، وإلا لمَ كل هذه الملايين بلا مأوى لليوم؟ ولم لم يلتزموا بالحلول التي اقترحوها للشعب السوري منذ عقد ونيف في جنيف وغيرها!

نحن السوريين لا نستعدي دولة ولا شعبًا، ولا نريد سوى الخير، لكن تعبنا وأنهكنا، وحقنا أن ننفس عن احتقاننا ونقول الأشياء بمسمياتها. فالسوريون الطيبون ممتنون لكل من قال كلمة طيب من قال كلمة “معلش”، ولكن تعددت فواجعنا وكوارثنا وما عدنا نعرف من أين نصدها عنّا. فهل هذا ابتلاء من الله؟ أم هو ابتلاؤنا بسياسيي البشرية التي لا ترحم وقد التقت جميعها، ومن كل الجنسيات، على أوجاعنا وكوارثنا وتقاسم بقايانا؟

غياب دولة الحق والقانون هو لغز وسرّ كوارثنا واحترابنا المضني لليوم، منذ معركة صفين والاحتراب على أحقية الحكم، وما تلاه من حكام وامبراطوريات لم ترتقِ لمصافّ الدولة بأسسها الأولى: الأمان والعدل وحرية الإيمان، وذلك بغض النظر عن الأسس العصرية المعاشة اليوم من حريات فردية وشخصية تتعلق بالرأي والفكر والعمل، والتي توازي تلك الأولى في الحقوق العامة كحقوق متساوية في المواطنة. والسوريون اليوم بشتى تصنيفاتهم الموهومة والزائفة عليهم التنكر لكل ما يفرقهم وخاصة سياسيي الاحتراب على السلطة وأهلية حكم فلان وعلان، وما جلبتها من سياسة تغيّب العقل والإحساس ببعض، وزلزال اليوم يقول ما زال في القاع وجدان قادر، ويمكنه تعديل كفة كوارثنا السياسة، فقد بلغت الأمة أسفل درك لها في سلم الحضارات.

لحكمة في الكون، ليس للطبيعة عين ترى ولا قلب عطوف، فهي تغضب وتزلزل الأرض وتسبب الكوارث بين حين وآخر، لكنها تأتي بالمطر، بالخير، بالربيع والصيف، وتتوازن بذاتها ولذاتها، فتستمر. وللبشر عينان ترى وقلب وأذنان تسمع، ولليوم لم تعملها كما يليق بها أن تكون ذوات مفكرة وعاقلة. فإن تغلبت شهوة القتل والدفن عمدًا وممارسة سياسات أشدّ هولًا وكارثية من كوارث الطبيعة ولا تعرف كيف تتوازن، كيف تعود للخير مجددًا عند أصحاب السلط والسلطات، فهذه السياسة ما يجب دفنه مع زلازل اليوم. فكما حددنا نحن السوريين، أن زلزال الطبيعة وحّدنا وجدانيًا، فزلزال السياسة فرّقنا وشتتنا وجلب لنا كل ويلات الكون وشدائده، وآن أوان توحدنا مرة أخرى وقد عرفنا وتيقنا سبب حدوثه.

تلفزيون سوريا

————————

سوريا ليست تحت الحصار أو العقوبات/ محمد صبرا

تعالت الأصوات فجأة في جوقة منسقة، مشكلة من فنانين وممثلين وصحفيين وإعلاميين سوريين وعرب، يدعون لما يسمونه “رفع العقوبات عن سوريا”، حتى بات هذا الموضوع يتردد صداه في كل وسيلة إعلامية، واضطرت معه بعض وزارات الخارجية الغربية إصدار توضيحات حول عدم وجود ما يمنع من وصول المساعدات الدولية إلى الداخل السوري بكل مناطقه.

من الواضح أن نظام بشار يخوض حملة علاقات عامة، تستغل مأساة السوريين المنكوبين بالزلزال، وهذا الاستغلال الرخيص لآلام ووجع السوريين ليس غريباً على نظام قتل وشرّد وعذّب ودمّر سوريا، بشراً وحجراً، إنها أشبه بسرقة جثث الضحايا والمتاجرة بها والتباكي تحت شعار “تحييد الخلافات السياسية” عن المأساة، وكأن ما حدث في سوريا منذ عام 2011 مجرد خلاف سياسي بين حكومات العالم وحكومة بشار.

المشكلة الحقيقية أن جزءاً من الرأي العام العربي والدولي والذي يتكرر على مسامعه ليل نهار، جملة “ارفعوا العقوبات عن سوريا”، بات يصدق أن سوريا واقعة تحت العقوبات الغربية، وللأسف مع عدم وجود إعلام مواكب يبحث عن الحقيقة ويوضح دقائق الأمور، فإن نصف المعرفة يصبح أشد هولاً من الجهل المطبق، وسأحاول توضيح بعض القضايا بشكل مبسط وبعيدا عن لغة القانون المعقدة فيما يتعلق بنظام الإجراءات التقييدية ضد بعض الأفراد والكيانات في سوريا.

حقائق لا بد من ذكرها

    سوريا كدولة ليست تحت أي نوع من العقوبات، لا الأممية ولا الأميركية ولا الأوروبية.

    لم يصدر أي قرار عن مجلس الأمن استناداً إلى الفصل السابع يضع سوريا “الدولة” تحت الحصار أو العقوبات.

    الإجراءات التقييدية الأوروبية “ضد  سوريا”، موجهة فقط لأشخاص وكيانات إدارية محددة ولأسباب دعمهم أو انخراطهم بعمليات القتل، وهذا موضح بشكل تفصيلي في قرار مجلس الاتحاد الأوروبي رقم 255/2013/CFSP.

القضايا التي تشملها العقوبات الأوروبية

تشمل لائحة العقوبات الأوروبية نطاقين: النطاق الموضوعي أي النشاط المعاقب بحد ذاته، إضافة للنطاق الشخصي أي الأفراد والكيانات المعاقبة، وبموجب قرار مجلس الاتحاد الأوروبي سالف الذكر نجد:

    النطاق الموضوعي للعقوبات الأوروبية، “وسأذكر بالحرف ما ورد في اللائحة الأوروبية”:

    قيود مفروضة على التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي للمواد التي يمكن استخدامها بشكل مباشر أو غير مباشر في القمع الداخلي للشعب السوري.

    حظر استيراد الأسلحة والمواد ذات الصلة من سوريا.

    قيود تصدير على بعض السلع والمعدات التكنولوجية التي يمكن استخدامها في القمع الداخلي أو لتصنيع وصيانة تلك المعدات.

    تفتيش السفن والطائرات إذا كانت هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنها تحمل أسلحة أو مواد أو معدات ذات صلة يمكن استخدامها في القمع الداخلي.

    حظر تصدير المعدات أو التكنولوجيا أو البرامج المخصصة أساساً لمراقبة أو اعتراض الإنترنت أو الاتصالات الهاتفية.

    حظر قيام المؤسسات المالية السورية بفتح فروع أو شركات تابعة جديدة في الاتحاد الأوروبي، أو إنشاء مشاريع مشتركة جديدة أو علاقات مصرفية جديدة مع بنوك الاتحاد الأوروبي.

    حظر استيراد النفط الخام والمنتجات البترولية من سوريا.

    حظر الاستثمار في صناعة النفط السورية.

    حظر الاستثمار في الشركات العاملة في بناء محطات طاقة جديدة لإنتاج الكهرباء في سوريا.

    حظر تجارة البضائع والمواد التي تنتمي إلى التراث الثقافي السوري، والتي تم نقلها بشكل غير قانوني من سوريا إلى الخارج، وتسهيل العودة الآمنة لتلك البضائع.

    حظر تجارة المعادن النفيسة والذهب والألماس مع الهيئات الحكومية السورية، والبنك المركزي.

    تجميد الأصول المالية وحظر السفر لأكثر من 294 شخصاً طبيعياً و7 كيانات معنوياً، من المسؤولين عن القمع العنيف للشعب السوري، وممن يدعمون النظام أو يستفيدون منه، إضافة للشركات المرتبطة بهم. 

    تجميد أصول البنك المركزي السوري داخل الاتحاد الأوروبي مع حظر إتاحة الأموال أو الموارد الاقتصادية، مع السماح باستمرار التجارة المشروعة.

أوضح قرار المجلس الأوروبي أن سريان هذه اللائحة واللوائح التفصيلية المرتبطة بها يبدأ من تاريخ 1/حزيران 2013، ويخضع للمراجعة السنوية بشكل دوري.

لقد حرصت على ذكر حرفي لملخص الإجراءات التقييدية الأوروبية “وهذا اسمها الحقيقي وليس العقوبات”، كما وردت في الموقع الرسمي للمجلس الأوروبي[1]

    الأشخاص الواردين في لائحة الإجراءات التقييدية الأوروبية

لا يمكن ذكر جميع الأسماء في هذا الصدد “يمكن العودة للوائح التفصيلية في موقع المجلس الأوروبي” [2]، لكن قرار المجلس الأوروبي أوضح بجانب كل اسم من الأسماء الواردة في لائحة الإجراءات التقييدية سبب ورود هذا الاسم، والنشاط الذي قام بها في دعم عمليات القمع والقتل التي طالت الشعب السوري، ومن أبرز هذه الأسماء بشار الأسد وماهر الأسد وعلي مملوك وسهيل الحسن وقادة الفرق والألوية إضافة لعدد من رجال الأعمال الذين مولوا ميليشيات “الدفاع الوطني”، وقدموا تسهيلات مالية وعينية لنظام بشار.

من يقرأ اللائحة الأوروبية والقرارات الصادرة عن المجلس الأوروبي يجد أن الإجراءات التقييدية الأوروبية لم تمنع على سبيل المثال، حركة التجارة بين سوريا والعالم، إذ يستطيع أي تاجر سوري لم يرد اسمه في لائحة العقوبات أن يصدر ما يشاء من بضائع غير واردة في اللائحة وأن يستورد أيضاً ما يشاء، فالتجارة المشروعة مع سوريا ليست ممنوعة، ولهذا قلت في العنوان إن سوريا ليست تحت الحصار، لأن مفهوم الحصار هو منع دخول وخروج كل أنواع البضائع، كما حدث مع العراق بعد اجتياحه للكويت، ويومياً نقرأ عن شحنات من الكبتاغون يضبطها الأمن الأردني أو السعودي أو المصري أو الأوروبي كانت مخبأة في بضائع قادمة من سوريا، ومصدرة لهذه الدول[3]، هذا بحد ذاته الدليل الدامغ على أن سوريا ليست محاصرة وأن التجارة المشروعة معها ما تزال قائمة ويومية، ونذكر جميعا تصدير بضائع صناعية إلى إيطاليا في عام 2020، وهي البضائع التي وضع بها نظام بشار  15 طنا من الكبتاغون بقيمة مليار دولار وضبطتها السلطات الإيطالية. [4]

وذلك غير تصدير الفواكه وحليب الأطفال إلى مصر والخليج والتي استطاعت السلطات في تلك الدول ضبطها نتيجة وجود مخدرات في داخلها وليس لأنها بضائع ممنوعة.

وبالنتيجة إذا كانت التجارة ممكنة مع سوريا، والتبادل التجاري المشروع لا يخضع لأي عقوبات أو لائحة تقييدية، فمن باب أولى أن تكون المساعدات الدولية ممكنة ومتاحة.

العقوبات على روسيا وإيران أوسع نطاقاً من تلك المفروضة على بعض الأفراد السوريين.

في دراسة نشرها مركز نظم المعلومات الجغرافية GIS” “، بتاريخ 30/أيلول/ 2022، أوضحت الدراسة [5]مقارنة نطاق العقوبات الغربية على روسيا وبعض الدول، وفي جدول المقارنة هذا كانت العقوبات على سوريا تأتي بالدرجة الثالثة بعد كل من روسيا وإيران، وفقا للتالي:

المفيد في هذه الدراسة أنه إذا كانت العقوبات على روسيا وإيران أضعاف تلك المفروضة على بعض الأفراد والكيانات السوريا، ومع ذلك فإن التجارة الدولية مع كل من إيران وروسيا لم تتوقف، فإن هذا يوضح زيف كل الادعاءات التي تتحدث عن أن سوريا واقعة تحت العقوبات.

قانون قيصر

كذلك فإن قانون قيصر لا يفرض عقوبات على سوريا، ولا يضع سوريا تحت الحصار كما كان الوضع في العراق بعد قيامه باحتلال دولة الكويت، فالنطاق الموضوعي لقانون قيصر يختلف تماماً عن النطاق الموضوعي لنظام العقوبات والحصار الذي وضعه مجلس الأمن على العراق في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.

النطاق الموضوعي لقانون قيصر

من يقرأ قانون قيصر[6] مجرد قراءة أولية يكتشف أن النطاق الموضوعي للقانون “أي النشاطات التي سيسري عليها القانون” محكوماً بضابطين اثنين وهما:

1. الضابط الأول: ضابط موضوع النشاط والذي حدده القانون بخمسة مجالات، هي:

        توفير الدعم المالي والتقني للنظام السوري أو لأي من الميليشيات والمرتزقة الذين يقاتلون في سوريا ويتبعون الحكومتين الروسية الإيرانية.

        أن يقدم سلعاً أو خدمات تكنولوجية تساعد النظام على صيانة وتوسيع الإنتاج المحلي للغاز أو النفط أو المنتجات البترولية.

        يقدم للنظام قطع تبديل الطائرات التي تستخدم لأغراض عسكرية من قبل النظام أو من أي من القوات العسكرية المتحالفة معه.

        يوفر الخدمات والسلع اللازمة لتشغيل الطائرات التي تستخدم لأغراض عسكرية من قبل النظام أو القوات المتحالفة معه.

        يقدم بشكل مباشر أو غير مباشر خدمات بناء أو خدمات هندسية مهمة للنظام.

    الضابط الثاني: هو ضابط شخصي محدد في ثلاث حالات:

    أن ينخرط أي شخص بصفقة مالية أو من أي نوع آخر مع حكومة النظام أو مع شخصية سياسية رفيعة في النظام.

    أن يتعاقد أي شخص في صفقة مع مقاول عسكري أو مرتزق أو قوة شبه عسكرية تعمل في سوريا لصالح النظام أو لصالح روسيا وإيران.

    أن يتعاقد أي شخص مع شخص آخر خاضع للعقوبات الأميركية فيما يتعلق بسوريا.

إذاً حتى يمكن معاقبة الأشخاص يجب أن يمارسوا خرقاً للقانون إما بممارسة النشاط الموصوف في الضابط الأول أو الدخول بعلاقات تعاقدية مع الأشخاص المذكورين في الضابط الثاني.

وبالتالي فإن القانون الأميركي لا يفرض حصاراً كما يتوهم البعض، ولا يمنع دخول أو خروج السلع من سوريا ما دامت لا تدخل ضمن مجالات النشاط الموضوعي لسريان القانون، أو ما دامت لا تتم بصفقات من قبل الأشخاص المذكورين بصفاتهم في هذا القانون أو لصالحهم، أي أولئك المرتبطين بالنظام أو بميليشيات المرتزقة التابعة لإيران أو روسيا أو تعمل لصالح أياً من هذه الأطراف الثلاثة.

العقوبات في قانون قيصر شخصية

يعاقب القانون الأشخاص والشركات الذين يدخلون في علاقات تعاقدية مع نظام بشار، والجديد في الأمر أن تحديد نطاق هؤلاء الأشخاص كان استناداً إلى صفاتهم وليس ذواتهم وهذه نقلة أساسية في هذا القانون تجعله يختلف عن لوائح العقوبات السابقة التي كانت تعاقب أشخاصاً محددين بذواتهم، بينما في هذا القانون فإننا نجد نوعين من الذين سيفرض عليهم العقوبات، وهما:

    أولئك الذين يتعاقدون مع النظام أو مع أحد شخصياته السياسية البارزة أو يتعاقدون مع الميليشيات والمرتزقة والقوات التي تقاتل في الداخل السوري لصالح النظام أو لصالح روسيا أو إيران.

    الأشخاص الذين ينتهكون قانون قيصر بإبرام صفقات تدخل في إطار مجالات النشاطات الخمسة المحظورة التي تحدثنا عنها في شرح النطاق الموضوعي للقانون، وجميع هذه المجالات تدخل في إطار السماح للنظام باستئناف أعماله العسكرية أو الاستفادة من نتائج هذه الأعمال وإعادة ترميم نفسه.

وجميع العقوبات التي تحدث عنها قانون قيصر تدخل في إطار حجب ملكية الأشخاص الذين ينتهكون القانون إذا كانت هذه الملكيات في الولايات المتحدة أو في حوزة أو سيطرة شخص من الولايات المتحدة الأميركية، ومن المعلوم أن جميع الشركات الكبرى أياً كانت جنسيتها تخشى الدخول في أي علاقة تعاقدية مع أي جهة تعاقبها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بسبب ارتباط النظام الاقتصادي العالمي بالاقتصاد الأميركي وبالنظام المصرفي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية.

باقي العقوبات هي عبارة عن منع الشخص الذي ينتهك القانون من دخول الولايات المتحدة الأميركية وحرمانه من التأشيرات، وهذا أيضاً هو عامل ردع نفسي لكثير من رجال الأعمال الذين قد يفكرون في انتهاك القانون.

الإعفاءات الإنسانية في القانون

أيضاً لمعالجة الأثر السلبي الذي قد ينتج عن تطبيق القانون فإن هناك فصلاً كاملاً استثنى النشاطات التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية والعاملة في المجال الإنساني، بل إن القانون نفسه قد ألزم الرئيس الأميركي بوضع استراتيجية مناسبة للمساعدات الإنسانية في بدء سريان المفاعيل التنفيذية له، وهذه أيضاً نقطة مهمة جداً تكذب ادعاءات النظام بأن القانون يفرض عقوبات وحصاراً كاملاً على سوريا.

تعليق العقوبات

القانون يتيح للرئيس الأميركي تعليق العقوبات بشكل كلي أو جزئي لمدة 180 يوماً في حال تحققت الشروط التالية:

    أن يتوقف النظام وروسيا عن قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة وبالأسلحة الكيميائية أو التقليدية أو الصواريخ.

     رفع الحصار عن جميع المناطق السورية سواء كان مفروضاً من قبل النظام أو روسيا أو إيران أو أي قوة عسكرية تتبع لأي منهما، والسماح بحرية وصول المساعدات الإنسانية والرعاية الطبية وضمان حق السفر والتنقل للجميع.

     قيام النظام بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمختفين قسرياً، والسماح لمنظمات حقوق الإنسان الدولية بإجراء التحقيقات اللازمة.

    توقف قوات النظام وقوات روسيا وإيران والميليشيات المتحالفة معهم، عن استهداف المرافق الطبية والمدارس والمناطق السكنية وأماكن التجمعات المدنية بما في ذلك الأسواق.

     قيام النظام بالالتزام بالاتفاقيات الدولية بحظر إنتاج وتخزين واستخدام السلاح الكيماوي، والتوقيع على اتفاقية حظر إنتاج السلاح البيولوجي.

    أن يسمح النظام للاجئين بالعودة الآمنة والطوعية والكريمة.

     أن يبدأ مسار حقيقي وجدي لمحاسبة مجرمي الحرب وتحقيق العدالة للضحايا الذين سقطوا نتيجة جرائم الحرب التي ارتكبها بشار والبدء بعملية حقيقية للمصالحة والحقيقة.

طبعاً لا يخفى على أحد أن القانون سيسري لمدة خمس سنوات من تاريخ إقراره.

ما الهدف من رفع “العقوبات”

من الواضح أن النظام يهدف من وراء الضغط لرفع “العقوبات”، تحرير الأموال والأرصدة الشخصية للنظام وأتباعه، كما أنه يهدف أيضاً لتحويل وضعه القانوني من مجرم حرب ثبت ارتكابه جريمة استخدام السلاح الكيماوي بموجب قرار لجنة التحقيق التابعة لمجلس حظر الأسلحة الكيماوية إلى “ضحية تآمر دولي غربي”، وللأسف على من يطلب رفع العقوبات أو للدقة الإجراءات التقييدية أن يحدد بشكل واضح، هل يريد رفع تلك الإجراءات عن بشار وماهر وعلي مملوك وسهيل الحسن وقاطرجي وسواهم من أعوان النظام؟ لأنه كما قلنا لا وجود لأي تقييد للتعامل مع سوريا سواء في إطار التجارة المشروعة، أو في إطار القضايا الإنسانية ومتطلبات الحياة الأساسية من دواء وغذاء وسوى ذلك.

عندما يلبس الذئب جثة ضحيته

محاولة النظام وأبواقه وأعوانه الإيحاء بأن سوريا تحت الحصار والعقوبات، هو جريمة بحد ذاتها لأن الجميع يعلم أن الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو محاولة التملص من مسؤولية النظام عن الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين عبر استخدام آلام السوريين أنفسهم، وهذا ربما أكثر الأعمال خسة في التاريخ، لأنه قتل معنوي مرة ثانية لكل الشهداء والضحايا والمعذبين الذين تسبب نظام بشار وحلفاؤه بها، إنها تماما محاولة استخدام دماء وأرواح الضحايا الذين سقطوا في الزلزال المدمر، لغسل أيدي المجرم بشار من دماء المليون شهيد الذين قتلهم بطائراته وصواريخ حقده وسياط جلاديه.

[1] https://eur-lex.europa.eu/EN/legal-content/summary/eu-restrictive-measures-against-syria.html

[2] https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=uriserv%3AOJ.L_.2022.148.01.0052.01.ENG&toc=OJ%3AL%3A2022%3A148%3ATOC

[3] https://www.syria.tv/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%B6%D8%A8%D8%B7-%D8%B4%D8%AD%D9%86%D8%A9-%D9%85%D8%AE%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%B6%D8%AE%D9%85%D8%A9-%D9%82%D8%A7%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

[4] https://www.alhurra.com/syria/2020/12/24/%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A5%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D8%B4%D8%AD%D9%86%D8%A9-%D9%85%D8%AE%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF

[5] https://www.gisreportsonline.com/r/russia-evade-sanctions/

[6] https://www.congress.gov/bill/116th-congress/house-bill/31/text

محمد صبرا

تلفزيون سوريا

—————————-

هذه قبورنا تملأ الرحب.. وحمم لنا بالمرصاد/ منير الربيع

تُدفن السياسة تحت الركام، تسقط معاييرها، ويختنق الكلام. ينعدم الوجود في مواجهة الطبيعة. إنه الصراع السرمدي، لا انتصار للإنسان فيه. في كلا الصراعين السياسي والطبيعي، تقيم منطقة الشرق الأوسط على فيالق الحروب والقلاقل. غالبية الصدع الأرضية والصفائح تقيم تحتنا. وكل الصراعات السياسية والاقتصادية بخلفيات صراعات الأديان والحضارات تصدع رؤوسنا. على مرّ الأزمان ندفع الأثمان. الثمن هنا لا يخضع لقوانين السوق، ولا لعدالة متوهمة. فـ للسوق شروطه يحددها العرض والطلب، وللسياسة فنونها من يتقنها ومن يجهلها، فإما يقدم أو يحجم وفق ما تقتضيه التقديرات والحسابات سواء أكانت خاطئة أم مصيبة. وفي ذلك يمكن للمرء أو الدولة أن تحاسب نفسها أو تتحاسب. أما المصائب لا حساب فيها، وغالباً ما تكون الطبيعة غير عادلة.

سوريا، إحدى الدول التي تدفع الثمن في المجالين، وفي كل الميادين. هي اختصار الوجع الأبدي. شرب الشعب السوري كؤوس الفواجع حتى الثمالة. لم ترتو الأرض من دماء السوريين. لم يشبع هواء ولا سماء من أرواحهم، وغدا التراب معجوناً بأجسادهم وجثث أطفالهم. هنا تستعاد عبارات مخنوقة رفعها أهالي كفرنبل على إحدى اللافتات ذات 2011 إذ قالوا: “يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كل شيء”. وقد سقط كل شيء، ولكن فوق رؤوسهم. السماء وحدها لم تسقط لكنها تنزل عليهم أهوالها، فتهتز الأرض من تحتهم، تتشقق لابتلاعهم، وتسهم السماء في التهام من نجا منهم، بعواصفها، بصقيعها الذي يلتحف تشرّدهم وشتاتهم.

وإن كان الموت لا يوجع الأموات، بل الأحياء على ما يقول محمود درويش. نتعايش نحن مع أوجاع الزمن. يقيم فينا الوجع ويتأبد. نخوض النقاش في أصل الوجود، فإما الارتكاس إلى الميتافيزيقيا، والتعايش مع أوهام. وإما صراع الوعي حول نظرية التطور أو أصل الأنواع. والسؤال الأشمل حول الله، هل حقاً يرضى بذلك؟ قالها السوريون سابقاً: “يا الله ما النا غيرك يا الله”. هل تخلّى عنهم؟ هنا لا حاجة للسجال، ولا الدخول في دوافع الحساب والاحتساب. ولا نظرية التجربة، أو التسليم بأنه إذا ما أحب قوماً امتحنهم واختبرهم.

إنها أوجاع تسقط نظريات، وترفع من شأن أخرى. لم يوفق رينيه ديكارت في أن الإنسان هو سيد الطبيعة. لكأن أحد أعضاء مجلس الشعب السوري يجيبه ويرد عليه في مديحه لرئيس النظام بالقول: “أنت لازم تحكم العالم يا سيادة الرئيس”. يتشتت الذهن، يعود إلى صراع الوعي. تدوي الصرخة حول سؤال الوجود. يقودك الوجع إلى تشاؤم أبي العلاء، وهو ابن معرّة النعمان، استبق الزمن والألم. ويقول: “صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْــبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟ خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ. رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ.. وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ.. فِي طَوِيلِ الْأَزْمَانِ وَالْآبَادِ.. إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَافُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ”.

وأقصى أنواع الوجع، انعدام معرفة لما يحدث من تغيرات وأحداث، يقول ماركس: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”. يدفع ذلك إلى التطبيع مع الأسى، فالوجود على الفيالق موت مؤبد فهل واقعنا الاجتماعي يفترض أن يحدد وعينا للموت المستمر من خارج السياق الطبيعي، في صراع الطبيعة؟ ربما المفيد فيه هنا العودة إلى دوستويفسكي إذ كان يتمنى في رواية “الجريمة والعقاب” لو فقد الوعي وخسر الإحساس، حتى إذا ما استفاق، كان كل شيء قد أضحى منسياً فيعود إلى حياة جديدة لا أفكار محزنة فيها ولا تفكير. وهو الذي يعتبر الوعي مرضاً وعلة، ويذكر في رواية (في قبوي) على لسان بطل الرواية: أقسم لكم بأغلظ الإيمان أيها السادة أن شدة الإدراك مرض، مَرض حقيقي خطير، إن إدراكاً عادياً هو، من أجل حاجات الإنسان، أكثر من كاف”.

هل يسعفنا نيتشة في توصيفه للحياة إذ يقول: “ولما كانت الحياة البشرية معرضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء اضطر الإنسان لأن يعبر عن نفسه في كلمات، ومن ثم يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين. هكذا اختلق الإنسان لنفسه أوهاما، كالواجب والمسؤولية والحرية والوعي… إلخ، إلا أن الحقائق في العمق ليست إلا أوهاما”. هل هي حقاً أوهام؟ ربما الواقع يقول بذلك، وهو إذ يحاصرنا ولا نجيد قراءته. هل نخطئ القراءة؟ ربما كما يقول فرويد في ردّه على نيتشه: “إننا مخطئون جداً إذا نسبنا كل سلوكياتنا إلى الوعي وحدهُ، لأن كل هذه الأفعال الواعية تبقى غير متماسكة وغير قابلة للفهم إذا اضطررنا إلى القول إنه لا بد أن ندرك بواسطة الوعي كل ما يجري فينا. إن الحياة الإنسانية أشبه بجبل الجليد، وما يظهر منه أقل بكثير مما هو خفي. نعود إلى أبي العلاء ونتصرف بحق قوله: “نَتَوَخَّى لَنا النَّجَاةَ ونوقن أَنَّ الحمم بِالْمِرْصَادِ”.

تلفزيون سوريا

————————-

هل سيتم تمديد إدخال المساعدات الإنسانية بعد كارثة الزلزال؟/ شفان إبراهيم

وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع في بداية شهر كانون الثاني الماضي، على تقديم المساعدات الإنسانية لقرابة أربعة ملايين سوري في الشمال الغربي من البلاد، لمدة ستة أشهر أخرى عبر الحدود السورية التركية، بعد أن كانت المهلة تنتهي في 10/1/2023.

روسيا التي تمكنت خلال الأعوام السابقة من وضع تعديلات على مقاسها ومقاس النظام السوري في كل مرة يتم فيها تجديد مدة التفويض لإدخال المساعدات إلى المحتاجين في سوريا، بدءاً من تخفيض عدد المعابر من أربعة إلى واحد، واشتراط إدخال المساعدات عبر خطوط التماس بإشراف الحكومة السورية، وتقليص دعم مشاريع إعادة التعافي المبكر إلى أقصى حد ممكن. ثم طرحت موسكو شروطاً جديدة للموافقة على تجديد التفويض، أولها: توفير تمويل دولي لإصلاح شبكة الكهرباء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، وثانيها: مشاركة روسيا في مراقبة المساعدات القادمة عبر معبر باب الهوى، وثالثها: زيادة كمية المساعدات الداخلة عبر خطوط التماس بإشراف فرق من دمشق.

حالياً، مضى قرابة شهر على التفويض الجديد، مع كارثة إنسانية نتيجة الزلزال المدمر، حيث رفعت تركيا حالة التأهب والإنذار للدرجة الرابعة ما يعني عجز أنقرة عن تقديم الدعم والمساعدة لشعبها المنكوب في الزلزال، فكيف ستستمر في تقديم المساعدات إلى الشمال الغربي المعتمد على ما يتم إدخاله إليهم عبر تركيا، وإذا كانت المساعدات الدولية مخصصة للفقراء والمحتاجين في المخيمات والعشوائيات وغيرهم، فإن الوضع الحالي في عفرين واعزاز وإدلب أصبح مشابهاً لوضع أبناء المخيمات إن لم يكن أسوأ، فهم محرومون حتّى من الخيم، وأساساً تقديم المساعدات متوقف بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق ومشاكل لوجستية أخرى مرتبطة بالزلزال العنيف. فكيف ستتصرف روسيا، وهي الساعية دوماً لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية لصالحها وصالح السلطة في دمشق، سواء عبر زيادة حجم الوصاية على إدخال المساعدات الإنسانية، ورغبتها في توظيف عمليات إعادة التعافي المكبر عبر الاستفادة من استجرار الأموال بالنقد الأجنبي وضخها في المصارف السورية والروسية، وتوفير حركية مثمرة في الأسواق عبر شراء سلع السلل الغذائية التي يتم توزيعها عبر خطوط التماس من تلك الأسواق حصراً. كل ذلك كان يتم والمدن السورية بغير حالتها اليوم، فمحافظات حماة واللاذقية وجبلة أصبحت بحكم المنكوبة والخارجة عن السيطرة، وروسيا غارقة في المستنقع الأوكراني، ولعل هذا الزلزال جاء كطبقٍ من ذهب لها، لتبدأ رحلة جديدة من الابتزاز وفرض المزيد من الشروط، لن تكون المحافظات الساحلية بعيدة عن الاستفادة من تجديد التفويض القادم، وليس بالبعيد أن توظف روسيا المساعدات للضغط على الموقف التركي من حربها ضد كييف.

المشكلة الأخرى المساعدة للتحكم الروسي بملف المساعدات، هو البطء الكبير من جانب الحكومات الغربية، فبعد أن دعمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا لتأسيس آلية جديدة للمساعدات تدعى “إنصاف”، وبدأت منظمات إنسانية سورية عاملة في الشمال الغربي للبلاد بتقديم طلبات للحصول على منح من صندوق المساعدات الجديد، بعد أن خصصت الدول المانحة مبلغاً أولياً له وقيمته 25 مليون يورو. لكن ذلك غير كافٍ. ففي الحالة العادية التي سبقت الانهيارات في المباني والشقق السكنية والزلزال المدمر للمدن والبلدات التركية والسورية في غرب الفرات، لم يكن ذلك المبلغ يكفي، كيف الحال الآن مع الخسائر التي وصلت لقرابة مليار دولار وفقاً لتقديرات أميركية. الآلية الجديدة يُمكن أن تسهم في تخفيف التأثيرات الناجمة عن توقف المساعدات الأممية، لكنها لن تكون البديلة أبداً، فالدعم والمساعدات المقدمة من الأمم المتحدة كبير جداً ولا يمكن تعويضه، خاصة اللقاحات والمساعدات الطبية والوقائية من الأمراض، ومع النتائج الفظيعة والأرقام المهولة للمرضى والمصابين والجرحى من جراء الزلزال والهزات الأرضية، فإن حجم الضغط على القطاع الطبي في تركيا وشمال غربي سوريا يتضاعف إلى عشرات المرات إن لم يكن أكثر، ولن تجد روسيا في كل ذلك أي استحياء في المزيد من الضغط والابتزاز، خاصة وأن الدول الغربية نفسها تعيش أزمة وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتحكم الأولى بكميات الغاز الواصلة إلى أوروبا. عدا أن مشروع/صندوق إنصاف فاقد للخبرة والحوكمة وضمان وصول المساعدات للمحتاجين، ولن يكون موازياً لصندوق الأمم المتحدة، الذي بدأ عمله منذ 2014 وأصبح في حالة حوكمية ممتازة نتيجة للتراكم المعرفي والخبرات.

المتوقع أن يطول استفاقة السوريين من مصابهم الجلل، والأكثر توقعاً أن يدخلوا في متاهات زلزال جديد، قوامه الانهيار العميق بأقصى درجات فقد الإنسانية ومنظومة القيم الأخلاقية، وأن تسارع روسيا لاستثمار الزلزال لفرض شروطٍ جديدة، لن تكون أوكرانيا والمحافظات السورية المنكوبة الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية بعيدة عنها، وحينها ربما نشهد صعوداً جديداً لمسار أستانا وسوتشي في وجه مسار جنيف للحل السياسي، ما لم تبادر أميركا والدول الغربية لفعل شيء جذري. وإن كان مساعدة المنكوبين والمتضررين في أيّ مكانٍ وبغض النظر عن الانتماءات والولاءات والاصطفافات السياسية والحزبية هو فرضٌ من فروض الأخلاق ومبادئ العمل الإنساني، ولا يجوز خلط المواقف من الحدث السوري مع العالقين تحت الأنقاض، ومساعدة المحتاجين في اللاذقية وإدلب وعفرين والباب وحماة، لا بد أن تنفصل عن أيّ مواضيع أخرى. لكن ماذا لو قدمت روسيا شروطاً جديدة لتقديم المساعدة للمحتاجين؟ ويبدو أن السوريين أصبحوا منسيين في مناطقهم ومخيماتهم، وعليهم دوماً تقديم فواتير توافق الدول ذات الشأن في الملف السوري. الزلازل التي اجتاحت الحواضن السورية كثيرة، الماء والكهرباء والطعام والمأوى والأمان والحل السياسي وملف المعتقلين وعودة المهجرين وإعادة الإعمار والحل السياسي وكتابة الدستور وسلال ديمستورا…إلخ كلها زلازل أمعنت في عذابات السوريين، ليأتي الزلزال الأخير ليقضي على آخر آمالنا في التعافي المبكر، أو الاستفادة من المجتمع الدولي. وإن لجأت روسيا -وهو المتوقع- لفعلة الابتزاز والاستغلال في ملف ضحايا الزلزال عبر تقويضها لتفويض تمديد المساعدات الإنسانية، حينها سيكون السوريون ضحية جديدة، وربما إلى أمد طويل جداً.

————————–

سوريا كلها منكوبة وليس شماليها فقط/ نبراس إبراهيم

كارثة السوريين مستمرة، ومآسيهم لا تتوقف، تتكرر وتتواتر، ولا تترك لهم مساحة زمنية للراحة، ولم يكن ينقصهم سوى ما حصل فجر يوم الاثنين المشؤوم، حين امتد تأثير زلزال تركيا المُرعب ليضرب شمال غربي سوريا، ويُخلّف كارثة في المنطقة، حيث سقط الآلاف تحت أنقاض البيوت بين قتيل وجريح، وخلّف مئات العائلات المفقودة، وترك الأهالي ينعون ضحاياهم بالجملة، ما دفع إلى إعلان المنطقة منطقة منكوبة.

واقع الحال يؤكّد أن شمال غربي سوريا ليس وحده منطقة منكوبة بسبب الزلزال، بل كل سوريا منطقة منكوبة منذ اثنتي عشرة سنة، منكوبة بحرب لا طائل منها ولا مبرر، حرب شعواء نقلت سوريا إلى حدود الدول الفاشلة والبائسة.

الشمال السوري منطقة منكوبة منذ سنوات، وكل منطقة سورية أخرى هي كذلك، حتى تلك المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فالأمر واضح وجليّ مهما حاولت الجهات الحكومية التعتيم ووضع لمسة تجميلية لتلميع واقع مزرٍ.

سوريا كلها منكوبة، إذ ليس لديها القدرة على التعامل مع أية كارثة، فلا فرق إنقاذ كافية ومدرّبة، ولا جهاز دفاع مدني قادر على تلبية ما تحتاجه أية كارثة، ولا معدات وآليات يمكن أن تُساعد في إزالة آثار الكارثة، بل حتى لا يوجد وقود لتلك الآليات إن توفر بعضها، ولا أموال لشراء قطع التبديل، وإن توفر بعضه لا يمكن تأمين هذه القطع بسبب العقوبات.

سوريا كلها منكوبة، لأن البنى التحتية هشّة في كل مكان، ومُدمّر قسم كبير منها، وأبنية قديمة تأثّرت بالحرب ونخرها القصف وضعضعتها الصواريخ المستمرة منذ 12 عاماً، أو أبنية تم تشييدها بسرعة دون مواصفات فنية، شيّدها أمراء الحرب، وانعدام وجود مؤسسات لإدارة الكوارث، وفوضى مؤسسات لا يمكن التنسيق بينها بأي حال.

نعم، سوريا كلها منكوبة، فلا توجد سيولة لشراء الطعام والألبسة للمنكوبين من أي كارثة، ولا قدرة بأي شكل من الأشكال على إيوائهم، ولا مشافي ولا مستوصفات ميدانية لعلاج المصابين بالكارثة، فضلاً عن النقص الحاد في الإمكانيات الطبية البشرية حيث قُتل أو هاجر قسم كبير من كوادرها الطبية.

سوريا كلها منكوبة وليس فقط شماليها، فالفقر يضرب أطنابه في كل مكان، والتضخم يستفحل، والأجور تتآكل، والجوع يصير علنياً ويفقأ العين، ومعدل الفقر المدقع يرتفع، والناتج المحلي ينكمش بشكل هائل، وقيمة العملة السورية تتراجع بشكل قياسي، ولم ولن تسمح العقوبات الاقتصادية بترميم أي شيء، وتنعدم إمكانية المواطن في الحصول على المأوى والعمل والصحة والتعليم والمياه وغيرها من الحقوق الأساسية لأي مواطن.

أزمات مالية وبشرية واقتصادية لا حدود لها تُسيطر على سوريا، والعجز التراكمي للموازنة العامة لا يُبشّر بغدٍ أفضل، وحكومة النظام تتخلى تدريجياً عن كل التزاماتها تجاه المواطنين، وتُلغي كل الدعم، المحروقات والخبز والحبوب والأسمدة وغيرها، وتترك السوريين دون كهرباء لعشرين ساعة يومياً، وتقطع عنهم المياه لأيام أحياناً، وعقوبات غربية لن تنتهي على المدى المنظور، وداعمو النظام السوري منشغلون بمشاكلهم الداخلية، وحروبهم الاستراتيجية، وأزماتهم الاقتصادية، ومن المرجح أن ظروفهم لن تسمح بدعمه بعد اليوم.

صارت سوريا واحدة من دول العالم الفقيرة، ووفق الأمم المتحدة يحتاج 70% من سكانها إلى المساعدة الإنسانية، ويعيش 90% منهم تحت خط الفقر، ويواجهون شتاءً قاسياً، وكوليرا وأمراضاً وانعدام أمان وقصفاً عشوائياً؛ ويهيمن عليها نظام منبوذ دولياً، سمح للابتزاز والفساد والسرقة والرشوة بالانتشار، وساهم في مضاعفة معدلات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتأتي اليوم الزلازل لتزيد على المأساة مأساة.

وسط كل هذا، لا يظهر بصيص أمل باحتمال تحريك ملفات الحل السياسي، ويستمر النظام في رفض القرار الأممي 2254 المتفق عليه دولياً كمدخل للحل السياسي، ويتعامل الجميع مع الكوارث السورية تعامل المتفرج غير المعني، ولا يشعر بمأساة السوريين أحد.

القادم لن يكون أفضل، هذا أمر مُحتّم، والمآسي السورية مستمرة، والكوارث قادمة، والفوضى ستزداد، وكذا الجوع والفقر والفساد ونفوذ أمراء الحرب، وسيستمر المسار المتسارع للانهيار، ما لم يفرض المجتمع الدولي بالقوة على كل الأطراف حلاً سياسياً توافقياً يضمن تغييراً سياسياً جذرياً، ويضمن حلاً مستداماً يُنهي هذه الكوارث والمآسي التي دمّرت وطناً.

—————————

دروس من كارثة الزلزال/ محمود سمير الرنتيسي

ما زالت النتائج النهائية لفاجعة الزلزال الذي ضرب جنوب شرقي تركيا وشمالي سوريا لم تتضح بعد حتى مع الإعلان عن تجاوز عدد الضحايا إلى أكثر من 5000 في تركيا وحدها ولا تزال فرق الإنقاذ وإدارة الطوارئ والكوارث تقوم بالعمل في المناطق المنكوبة. وفي شمالي سوريا ارتفع العدد إلى أكثر من 1000 مع وجود آلاف الجرحى وفي ظل بنية تحتية صحية ضعيفة جدا.

ومع انهيار آلاف المباني وتأثر الملايين من المواطنين الذين يسكنون المدن التركية والسورية التي أصابها الزلزال فإنه لا شك أننا أمام كارثة حقيقية في كل من تركيا وسوريا، وخاصة في المدن السورية التي تفتقر إلى وجود منظومة عمل حقيقية للإنقاذ والإيواء والتي عانت خلال السنوات الماضية من معاناة شديدة بسبب الحرب.

إن الناظر إلى التعامل الأولي لكارثة من هذا النوع، يمكن أن يقف على الكثير من الدروس التي ينبغي تعلمها خاصة أنه بات معلوما أن المنطقة تقع فوق خطوط صدع زلزالية يمكن أن تتحرك مرة أخرى متسببة في زلازل وفق ما يقول خبراء الجيولوجيا.

إن أول ما يتبادر للذهن هو ضرورة تدريب المواطنين تدريبا فاعلا على كيفية التعامل والتحرك لحظة الزلزال، والإجراءات الواجب اتخاذها وقائيا قبل وقوع الزلزال، وذلك لتوفير الحماية الذاتية وتقليل مساحة وحجم الكارثة التي قد يصعب على أي طواقم التعامل معها مهما كان عددها.

أما الأمر الثاني وبالنظر إلى عدد العاملين مع هيئة إدارة الكوارث التركية في مناطق الكارثة فقليل بالرغم من وجود عدد من قوات الدرك والجندرمة في تركيا أو الخوذ البيضاء في سوريا، فإنه لا بد من تدريب عشرات آلاف المتطوعين على عمليات ومهارات الإنقاذ والإيواء والاتصال والتحرك من وإلى أماكن الكوارث من أجل القدرة على استنفارهم بشكل منظم في أوقات الكوارث.

وفي حالة تركيا يمكن الإشارة أن هذا الواقع موجود وإن كان ليس كافيا، لكن بالنسبة للوضع في شمالي سوريا فهو غير موجود ولذلك ينبغي على الجهات الممولة والداعمة أن تولي هذا الملف اهتماما أكبر.

ثالثا يجدر أن تكون هناك مخازن كبيرة مجهزة بكافة أدوات الإيواء والأطعمة التي يمكن توزيعها بسهولة في لحظات الكوارث. وتكون هذه المخازن موزعة جغرافيا بحيث يمكن نقل المواد منها إلى الأماكن المنكوبة أو أماكن الإيواء.

رابعا ترافقت مع كارثة الزلزال أجواء عاصفة ثلجية باردة صعبت عمليات البحث والإنقاذ، وجعلت الناس العالقين تحت الأنقاض في حالات صعبة، ولهذا لا بد من العمل على استحضار سيناريوهات الأجواء الباردة وتوفير ما يلزم لمواجهتها بأفضل شكل ممكن.

خامسا يترافق مع الكوارث والأزمات انتشار معلومات مضللة بعضها يمكن أن يؤثر في الرأي العام سلبا وينشر الإحباط واليأس، ولهذا لا بد من وجود آليات مكافحة للإشاعات والمعلومات المضللة، والعمل بدلا من ذلك على حملات تعبئة وطنية توجه المواطنين بالتعليمات الواضحة والدقيقة وتحث على التضامن والتعاضد في أوقات الأزمات وتنشر نماذج التعاون والتضحية والعطاء.

سادسا إن وقت الكوارث هو وقت ينبغي أن يتم تجنيبه التنافس السياسي، حيث يجب تأجيل أي حالة من حالات التنافس السياسي بين الأحزاب والتيارات السياسية إلى ما بعد انتهاء الأزمة.

سابعا ينبغي متابعة كافة الجهات الانتهازية غير الموثوقة التي تحاول استغلال الموقف لجمع الأموال والتبرعات لصالح المنكوبين، والتحذير منها، وهنا يقع على الجهات الرسمية ووسائل الإعلام دور مهم في مواجهة هذه الظاهرة.

ثامنا مع توسع رقعة الكارثة يتم الوقوع في بعض الأحيان في خطأ الاهتمام ببعض الأماكن على حساب الأماكن الأخرى وأحيانا يكون ذلك لسهولة الوصول لهذه الأماكن أو لدور الإعلام في التركيز عليها، وهذا يجعل من الضروري توزيع الطواقم والإمكانيات بشكل متوازن على كافة أماكن الكارثة.

تاسعا من المهم خلال أوقات الأزمات توجيه المتضامنين والمتبرعين نحو الاحتياجات الحقيقية اللازمة في الكارثة وتثبيت نقاط وأماكن سهلة لاستقبال الدعم المطلوب.

عاشرا ينطبق الأمر السابق على الجهات الخارجية حيث من المهم أن يكون لدى الحكومة أو الجهات التي تدير المناطق المنكوبة خطط معدة مسبقا تشمل ما الذي يمكن للجهات الخارجية تقديمه في لحظة الأزمة وبالتالي التواصل مع هذه الجهات لتأمين أدوات وإمكانات الدعم المطلوبة.

نتمنى أن لا تكون الخسائر كبيرة وأن لا نفجع بأخبار صادمة، وفي الحقيقة مرة أخرى إن الكارثة كبيرة ومفجعة ولكن أمام هذا النوع من الكوارث لا بد من عدم الاهتزاز أكثر من لحظة الزلزال والتحكم في المشاعر والعواطف من أجل التعامل معها بشكل صحيح ومنع تفاقم آثارها وتداعياتها. إنه وقت التعاضد والتعاون والوحدة والوقوف يدا واحدة.

——————————

المجتمع المدني السوري خلال كارثة الزلزال وتضليل النظام/ فراس سعد

نجح النظام في تحطيم وتغييب المجتمع المدني السوري طوال نصف قرن، وفي عهد بشار الأسد نجح هذا النظام في تحطيم الدولة وتغييبها، وخلال الحرب استولت الأجهزة الأمنية والعصابات التي تعمل بإشرافها أو في فضائها على الدولة.

هذه العصابات والأجهزة القائمة على الهيمنة والاستكبار والقمع والقتل والنهب واللصوصية، عملت على تغييب أي صوت حر (اعتقلت قبل أيام أمين صقر حسن من مدينة جبلة) ومنع أي مبادرة بغاية تجميد المجتمع حتى موته.

ورغم ذلك فقد ظهرت فاعلية المجتمع المدني داخل مناطق النظام وفي مناطق المعارضة في أثناء مواجهة تداعيات كارثة زلزال تركيا سوريا 6 شباط 2023 ففي وقت ظهر فيه جليا غياب الدولة، استنكفت أجهزة النظام السوري عن تقديم أي مساعدة حقيقية للضحايا تحت الأنقاض بحجة غياب المحروقات، فلم تقدم الجهات الحكومية التابعة للنظام في اليومين الأولين عقب الزلزال. أي خدمة ولم تقم بأي عمل لمساعدة المنكوبين، باستثناء ما نقله شريط مصور في حي دمسرخو في مدينة اللاذقية، لرافعة وباجر يرفع أنقاض بناء مهدم (حتى هاتين الآليتين من المحتمل أن تكونا لمتعهد وقد استؤجرتا على نفقة أشخاص) فمعظم أعمال الإغاثة وإنقاذ العالقين تحت الردم والأنقاض في مناطق الساحل مثلا، قامت بها مجموعات مدنية قادمة من القرى وبعض الأحزاب المؤسسة مؤخرا المحسوبة على النظام، وكذلك أفراد تابعون لأحزاب قديمة.

دعوات من المجتمع المدني:

اشتعلت صفحات الفيسبوك التابعة لناشطين معارضين بأخبار الضحايا والأماكن المنكوبة وبطلبات المساعدة وبعروض المساعدة للمنكوبين، بحيث ظهرت قوة وفاعلية صفحات التواصل في نقل أخبار الزلزال وتقديم المساعدة للمتضررين، حيث نشر الناشطون أسماء أشخاص مستعدين لتقديم المساعدة مع أرقام هواتفهم داخل مناطق النظام وفي مناطق المعارضة شمال غرب سوريا.. وقام بعضهم بإطلاق مبادرة لإقامة مطبخ يقدم وجبات للمتضررين في مدينة اللاذقية، وقام آخرون بحملات تبرع مالي وعيني في ألمانيا …

أما على الأرض في داخل مناطق النظام فقد خرجت أصوات محتجة أو غاضبة من لا مبالة المسؤولين أمام الكارثة..

وكان الصحفي الناشط كنان وقاف خرج ببث عبر صفحته لتوجيه رسالة للمسؤولين للتحرك لمواجهة تداعيات الزلزال والقيام بمسؤولياتهم، طالبا منهم طمأنة المواطنين الذين حسب قوله ملؤوا شوارع مدينة طرطوس منذ اللحظات الأولى للزلزال رغم الجو الممطر والبارد وغادر أكثرهم إلى القرى.. وتفاوتت التعليقات على نداء الصحفي وقاف بين مهاجم له وساخر من المسؤولين.

كما خرجت رئيسة أحد الأحزاب المحسوبة على النظام في بث مباشر عبر صفحتها تطالب فيه رجال الأعمال والتجار “الذين استفادوا خلال الحرب” -بحسب تعبيرها- بتقديم مساعدة فورية للمنكوبين.

الجهة المدنية الوحيدة التي تم التأكد من تقديمها للمساعدة كانت غرفة صناعة حلب، الذي كان رئيس غرفتها فارس الشهابي وجه نداء للصناعيين للتبرع لصالح منكوبي الزلزال.. إضافة لأخبار غير مؤكدة عن تبرع فنانين أمثال جورج وسوف ووائل رمضان وسارية سواس بمبالغ مالية كبيرة.

ومنذ اليوم الأول لوصول المساعدات إلى مناطق النظام تداول ناشطون عبر صفحاتهم تعليقات ترجح سرقة القسم الأكبر من تلك المساعدات.. وهو ما حدث فعليا في مدينة جبلة حيث قامت جهات مسؤولة بتلقي المساعدات من الهلال الأحمر السوري لتعيد شحنها في سيارات خاصة إلى أماكن لم تعرف بعد.

وفي إحدى القرى المنكوبة في الساحل قام مختار القرية بسرقة جزء ليس بقليل من المعونات الواصلة للمتضررين وتوزيعها على معارفه وأقربائه أو تخزينها بانتظار بيعها لاحقا.. ولم يُجدِ احتجاج العائلات المجتمعة في مركز استقبال المعونات نفعا في ردع المختار، رغم وجود عناصر من الشرطة والجيش في المكان.

تضليل ودعاية النظام لمواجهة اللا فعل:

وفي وقت غابت فيه أي فاعلية للنظام في مساعدة الضحايا سعى عبر إعلامه لممارسة تضليله المعتاد، فطالبت وسائل إعلامه وكذلك صفحات فيسبوكية تابعة له، كلاً من أميركا وأوروبا بفك الحصار.. في وقت لم يطالب إعلاميوه المساعدة من روسيا أو ايران مثلا..

الخرق الوحيد سجلته صفحة فيسبوك اسمها “الأسد قسورة” وصفحة “اللاذقية تتحدى الكورونا” والتي يديرهما شخص واحد من آل إسماعيل، قدم مساعدة محدودة وفردية لمن يرغب، مقابل تحقيق شهرة ونفوذ معنوي ضمن آلاف المتابعين له من الفقراء لكنه بالمقابل يقدم خدمة كبيرة للنظام في توجيه هؤلاء المتابعين وتضليلهم بأخبار تنفيسية وتزييف لوعيهم ..

وحين حاولت صفحة اللاذقية L.n.n القيام ببث مباشر من شوارع اللاذقية لتغطية وقائع نزول الناس إلى الشارع جاءت الأوامر بإيقاف البث ومنع نشر أي خبر في الصفحة لعدة أيام.

في وقت خرج فيه شخص يبدو أنه تابع لجهة أمنية أو تلقى أوامر من جهة أمنية ما، خرج في بث مباشر عبر صفحته موجها نداء يطمئن فيه متابعيه في مدينة جبلة مفاده أن كل شيء على ما يرام وأن الأجهزة المعنية تقوم بعملها في كل الأماكن التي دمرت فيها الأبنية، كما وجه هذا الشخص نداء يرجو فيه من متابعيه عدم الاقتراب من تلك الأماكن المنكوبة، دون أن يوجه كاميرته إلى أي من تلك الأماكن لنحظى ولو بصورة واحدة عن عمل تلك “الجهات المختصة”.. في وقت انتشر فيه خبر غير مؤكد في صبيحة اليوم الأول للزلزال عن قدوم وزير دفاع النظام إلى مدينة جبلة، متزامنا مع انتشار خبر وفاة أربعة أطباء مع عائلاتهم تحت أنقاض بناء واحد كانوا يسكنون فيه بالمدينة

————————–

كارثة الزلزال ومظلومية النظام السوري../ عبد القادر المنلا

رغم كل الأدوار التمثيلية الفاشلة والمثيرة للسخرية التي لعبها النظام السوري منذ العام ٢٠١١ وحتى الآن، إلاّ أن الصورة التي يبدو عليها وهو يلعب دور الضحية، تبدو الأكثر كاريكاتورية ورثاثة وقبحاً وصفاقة، وخاصة بعد كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب أجزاء من سوريا وتركيا.

في أثناء سنوات الثورة، صور النظام نفسه على أنه مستهدف من عصابات مسلحة ومن الإرهاب، وبعد انتصاره المزعوم، بات النظام يدعي أنه ضحية الحصار والعقوبات الاقتصادية، وذلك كله يمكن فهمه في إطار دفاع النظام عن وجوده واستمراره وسلطته، ولكن أن يصل به الأمر إلى استغلال كارثة الزلزال لتثبيت نفسه كضحية، فهو أمر يفوق قدرة التخيل، رغم أنه أمر متوقع من نظام متوحش.

الذريعة التي يتوارى خلفها نظام الأسد لتغطية عجزه الاقتصادي الذي أوصل السوريين إلى ما تحت خط الفقر، ذريعة الحصار والعقوبات (الجائرة)، يستخدمها اليوم في ابتزاز واضح للمجتمع الدولي من خلال استغلال الحالة الإنسانية التي خلفتها كارثة الزلزال، ومنذ اليوم الأول للمأساة أطلق أبواقه للحديث عن وحشية العالم الذي وقفت عقوباته وحصاره حائلاً دون إنقاذ المنكوبين، وليجدها فرصة للمطالبة برفع تلك العقوبات.

النقطة الأساسية التي اعتمدت عليها أبواق النظام في ابتزاز المجتمع الدولي تركزت في فكرة فصل السياسة عن الوضع الإنساني، والتركيز على البعد المأساوي الذي خلفته الكارثة الطبيعية.

فجأة صار نظام الأسد يتحدث عن الإنسانية، فجأة تحول الوحش إلى إنسان مرهف، وتحول القاتل إلى ملاك رحيم تهزه معاناة شعبه ويحرص على مساعدته وإنقاذه متناسياً ما فعله بهذا الشعب الذي يتباكى عليه.

لقد انتهز النظام المأساة الإنسانية التي خلفها الزلزال للتركيز على إنقاذ نفسه لا على إنقاذ الضحايا ومساعدتهم، من خلال تركيزه على المطالبة بفك الحصار الذي إن تم، فسيجيّره النظام لمصلحته الشخصية للإمعان في القمع والقتل وتعزيز انتصاره المزعوم، دون أن يأبه لضحايا الزلزال.

في هذا الإطار لخص مندوب النظام في الأمم المتحدة بسام صباغ في جلسة مجلس الأمن الأخيرة والتي انعقدت على خلفية تقرير لجنة التحقيق الخاصة بالسلاح الكيماوي، هواجس العصابة الخاصة وكشف من حيث لا يدري عن خطته في الابتزاز والمزايدة من خلال إنكاره لكل الحقائق المُجمع عليها فيما يخص استخدام الكيماوي، والتأكيد على خطابه السلطوي المضاد للمصلحة الوطنية، حيث اعتمد ممثل النظام الكارثة كمفتاح لاستجداء المجتمع الدولي وتصوير النظام على أنه ضحية للسياسات الخاطئة والجائرة التي اتبعها العالم بحق سوريا.

وبعد أن كذّب تقرير اللجنة الخاصة بالتحري عن استخدام الأسلحة الكيماوية، راح مندوب النظام في الأمم المتحدة يطلب المساعدة من تلك الدول التي يتهمها بالكذب والتلفيق والتآمر، وركز في هذا السياق على ضرورة فصل السياسة عن الشأن الإنساني، والمسارعة في إرسال المساعدات وفرق الإنقاذ من أجل إنقاذ المنكوبين، متناسياً أن نظامه هو من خلط السياسة بالبعد الإنساني ولم يترك فرصة للمجتمع الدولي للفصل بينهما.

لم يكن العالم ليتخلف عن المساعدة، رغم تصنيفه للأسد كمجرم حرب، وكزعيم عصابة لتهريب المخدرات، فالكارثة أكبر بكثير والوقت أضيق من التفكير في كل ذلك، ولكن الأسد يشكل العائق الأساسي للمساعدات، سواء فيما يتعلق بطريقة إيصالها، أو بثقة المجتمع الدولي المانح بالنظام، فالعالم يدرك تماماً بأن النظام سيسرق تلك المساعدات ولن يدعها تصل إلى مستحقيها.

المفارقة الصارخة في هذا السياق تتجلى في أن النظام نفسه يضع عوائق حقيقية تحول دون وصول المساعدات التي يطلبها من المجتمع الدولي، فهو يريدها مساعدات مشروطة بحيث يشرف بنفسه على وصولها وتوزيعها، سيتضح ذلك تماماً من خلال منع المنظمات الإنسانية من العمل والحركة، ومنع الصحافة وكل وسائل الإعلام المحايدة من تغطية الأحداث، بل يرفض دخولها أصلاً، ويحتكر الحقيقة من خلال إعلامه ويفرض على المجتمع الدولي أن يعتمد حقائقه وحدها، ومع كل ذلك لا يتردد في طلب تلك المساعدات.

لو كان النظام حريصاً فعلاً على الضحايا لبادر هو بفك الارتباط بين السياسة والشأن الإنساني، دون أن يترك الفرصة سانحة لضياع الوقت، قبل أن تكمل الأنقاض على من تبقى تحتها، ولما انتظر المجتمع الدولي ليقوم بذلك الفصل، ولكنه يحتفظ لنفسه بحق تسييس المساعدات، ويطالب الآخرين بالتعامل الإنساني الصرف، ودائما من خلال الاختباء في ثوب الضحية.

بدأ الزلزال الحقيقي في سوريا منذ اللحظة التي بدأ فيها سقوط البراميل المتفجرة على المناطق السكنية وفوق رؤوس المواطنين، زلزال استمر لسنوات، وحصد من أرواح السوريين ما لا يمكن مقارنته بضحايا الزلزال الأخير، وخلف دماراً يفوق حجمه أضعاف ما خلفه.

فضلاً عن ذلك فإن التهجير الذي خلفه زلزال الأسد، أو بشكل أدق زلازله، هو تهجير غير قابل للعودة، ففي الزلازل الطبيعية يستطيع الناس العودة إلى منازلهم وإلى مناطقهم حال هدوء الزلازل، ولكن زلزال الأسد بقي نشطاً وفاعلاً وقابلاً للتجدد في أية لحظة وجعل عودة المهجرين مستحيلة، وحول الضحايا إلى مجرمين وخونة وأباح لنفسه ملاحقتهم لقتل من نجا من براميله الزلزالية.

أما جيش الأسد الذي نزل لمساعدة المنكوبين، فقد تحرك بدافع وحيد هو التعفيش، لأنه جيش متعود على التعفيش قدر تعوده على التدمير، هذا الجيش الذي صنع الزلازل على مدار سنوات، لن يتحول بين ليلة وضحاها إلى جيش وطني تهزه معاناة المواطن، هو جيش تدرب على القسوة والتوحش، تماماً كقيادته، وهنا تتكامل صورة الوحشية حينما تتخصص القيادة بسرقة المساعدات ويتخصص الجيش بتعفيش بيوت المنكوبين.

يشتكي النظام من نقص المعدات اللازمة للإنقاذ، وهنا تبدو المفارقة في أوضح تجلياتها، فكل معدات القتل وكل وسائل الموت والدمار من طائرات وبراميل وصواريخ وأسلحة كيماوية جاهزة لا نقص فيها، أما وسائل الحياة، وسائل الإنقاذ، وسائل الإعمار، فهي غير متوفرة عند النظام، ولم يفكر بتوفيرها أصلاً لأنه لا يفكر باستخدامها.

وكما كشفت كارثة الزلزال عن جوانب إجرامية إضافية في ثقافة العصابة الحاكمة، تتجلى بانتهاز الكوارث وتحويلها إلى وسيلة جديدة للابتزاز، فقد كشفت أيضاً حقيقة التحالف مع روسيا وإيران، حيث يقتصر دورهما على مساعدة النظام في قتل الشعب السوري، ويتوارى هذا الدور تماماً حينما يحتاج هذا الشعب إلى المساعدة، ما عدا بعض الادعاءات الإعلامية من أجل التسويق والاستهلاك.

الأسد الذي يشتكي من الحصار الدولي اليوم، هو نفسه من حاصر السوريين لسنوات طويلة ومنع عنهم الطعام والماء، فضلاً عن قصفه اليومي والوحشي للمناطق المحاصرة، فكيف سيهتز ضمير هذا النظام المتخصص في صناعة الكوارث، لكارثة طبيعية؟ وما الذي يعنيه موت الناس لنظام احترف قتل الناس وأدمن على امتصاص دمائهم..؟

لقد استغل النظام كارثة الزلزال ليعلن للعالم مظلوميته، معتقداً أنها فرصة للموافقة على إعادة تدويره وهي الهدف الأعلى والوحيد لكل سياسة النظام، ولو كان الأمر متعلقاً بالبعد الإنساني لوجدها النظام فرصة للتنحي، على الأقل لكي لا يكون عائقاً أمام أية مساعدات فيما لو حدثت كوارث أخرى، ولإعطاء السوريين جزءاً من حقهم في الحياة.

لن تنطلي حيلة المظلومية على المجتمع الدولي، ولكن حيلة المجتمع الدولي لن تنطلي أيضاً على السوريين وهم يرون الأمم المتحدة لا تزال تحتفظ بمندوب للنظام، مندوب مرتبط بشكل مباشر بمجرمي الحرب وقادر على الدفاع عنهم وترديد أكاذيبهم على منبر الأمم المتحدة.

——————————

مستقبل الآلية الأممية لإرسال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

 في جلسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بسورية في منتصف عام 2022، التي جرى فيها تجديد آلية إرسال المساعدات الإنسانية عبر الحدود، وُصفت سورية بأنها دولة في حالة “طوارئ إنسانية معقدة”؛ إذ تستمر المؤشرات الإنسانية والاقتصادية بالتدهور، حتى وصل معدل التضخم إلى 90 في المئة في ظل وجود أكثر من مليوني طفل سوري خارج المدارس، وأكثر من 12.1 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي.

كما ينتشر وباء الكوليرا على نحو واسع، خاصةً في شمال غربي سوريا؛ ما يزيد العبء على كاهل القطاع الصحي الهش أساسًا، في ظل ارتفاع عدد الوفيات بهذا الوباء إلى 17 حالة وفاة، حتى أواخر السنة الماضية، فضلًا عن تسجيل 512 إصابة جديدة، ليصل إجمالي عدد الحالات المُشتبه فيها في مناطق شمال غرب سورية إلى 27 ألفًا و275 حالة، وفقًا لبيان شبكة “الإنذار المبكر والاستجابة للأوبئة”. يرافق ذلك انقطاع الدعم المالي عن مراكز طبية عدة في محافظة إدلب، حيث لم يجرِ تنفيذ سوى 43 في المئة فقط من تعهّدات المانحين، المُقدرة بـ 6.4 مليارات يورو، من مجمل التعهدات التي تمّت في مؤتمر بروكسل للمانحين في صيف 2022.

هذا الواقع أكّدته الإحصاءات الصادرة عن تقرير الاحتياجات الإنسانية للسوريين لعام 2023 Humanitarian Needs Overview الذي جاء في مقدمته: “إن الاستيقاظ من النوم بات اليوم في سوريا يعني أن هناك مستقبلًا قاتمًا بانتظارك؛ إذ تواجه البلاد العديد من التحديات التي تجعلها واحدة من أكثر حالات الطوارئ الإنسانية تعقيدًا، ويتوجّب على المجتمع الدولي بأسره تقديم الحماية الفورية للمدنيين فيها”. وبيّن التقرير أيضًا أن سوريا خسرت 42 مرتبة على مؤشر التنمية البشرية خلال أكثر من عقد من الزمن، في حين أن عدد النازحين هو الأعلى عالميًا بسبب وجود 6.8 ملايين نازح داخليًا، فضلًا عن وجود 15.3 مليون سوري بحاجة ماسة إلى الحصول على المساعدات الإنسانية في عام 2023. ويعيش المدنيون في شمال غرب سوريا، على وجه التحديد، أوضاعًا كارثية؛ إذ يبلغ عددهم 4.6 ملايين نسمة؛ منهم 4.1 ملايين محتاج، في حين يوجد 3.3 ملايين يعانون انعدام الأمن الغذائي، ووصل عدد النازحين إلى 2.9 مليون؛ منهم 1.8 مليون يعيشون في المخيمات، وسط أوضاع بائسة، تزداد قساوةً في فصل الشتاء. يترافق ذلك مع استهداف متكرر للطيران الروسي لتجمعات المدنيين في تلك المنطقة.

على الرغم من تجديد مجلس الأمن في كانون الثاني/ يناير 2023 قرار إرسال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى شمال تلك المنطقة، فإن هذا القرار سينتهي بعد ستة شهور من تاريخ التجديد، وهذا يعني الحاجة مجددًا إلى استصدار قرار دولي لتجديد التفويض. لكن ثمة تهديد من مندوب روسيا في مجلس الأمن، الذي صرّح عقب تجديد القرار بالقول: “إن موسكو لن تناقش تمديد المساعدات عبر الحدود مجددًا، إذا لم يتغيّر موقف دول مجلس الأمن بشأن المساعدات عبر الحدود”، منتقدًا الآلية المتّبعة حاليًا، ومطالبًا بإرسال المساعدات عبر خطوط التماس. وهذا يعني إصرار روسيا المستمر على تسييس المساعدات والتهديد المتواصل باستخدام حق النقض “الفيتو” لتعطيل التفويض.

لقراءة الورقة كاملة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عبر الضغط على الرابط

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

—————————–

استحقاقات عاجلة في ضوء الكارثة/ غزوان قرنفل

يواجه السوريون اللاجئون في تركيا، خاصة النازحين من الولايات التركية المتضررة بنكبة الزلزال إلى ولايات أخرى بعد أن صار العيش في ولاياتهم السابقة مستحيلا بالنظر لحجم الدمار في المساكن والبنى التحتية، أوضاعا مستجدة تزيد من تعقيد أوضاعهم القانونية المعقدة أصلا، ومن المهم جدا بعد أن تبرد الجراح وتنتظم أعمال المؤسسات الحكومية المختلفة التي تجيّر كل مواردها ومجهوداتها لمواجهة استحقاقات الزلزال التي تأخذ بطبيعة الحال الأولوية القصوى في سلم أولويات عملها.

في مقدمة هذه الاستحقاقات العاجلة التي يتعين على رئاسة الهجرة التركية العمل عليها بالتعاون مع الوزارات المختصة هو قوننة وجود السوريين النازحين من ولاياتهم في الولايات الجديدة التي نزحوا إليها، وبالتالي إصدار (بطاقات حماية) جديدة لهم عن تلك الولايات، وهذا يستدعي بالضرورة إلغاء قرار إغلاق الأحياء التي يعيش فيها الأجانب ومنهم السوريون بنسبة 20% من عديد سكانها حتى يتمكن هؤلاء من إيجاد مساكن لهم يستطيعون من خلالها تثبيت قيودهم في تلك العناوين، تتيح لهم إمكانية إدخال خدمات الماء والكهرباء والغاز والإنترنت لمساكنهم الجديدة حيث إن تلك المؤسسات لا تقوم بإدخال خدماتها ما لم يتم تثبيت عنوان المقيم في تلك المساكن في دوائر النفوس والهجرة.

إن إصدار رئاسة الهجرة قرارا يتيح للسوريين ممن هم تحت الحماية مغادرة ولاياتهم المنكوبة إلى ولايات أخرى من دون إذن سفر ولمدة 90 يوما شريطة الحصول على ذلك الإذن من دائرة الهجرة في الولاية الجديدة خطوة إجرائية جيدة، ولكنها بالتأكيد ليست كافية، حيث من المعلوم أن تلك المدة بالتأكيد غير كافية لإعادة إعمار المناطق المتضررة بما يسمح بعودة هؤلاء لولاياتهم.. كما أن تلك المدة لن تتيح لهؤلاء إمكانية استئجار مساكن جديدة لأن المؤجرين يطلبون إيجار ستة أشهر أو سنة، ويجب توثيق عقد الإيجار لدى كاتب العدل (النوتير) وأن يكون المأجور خارج الأحياء المغلقة على الأجانب، ودون كل ذلك عثرات وعقبات لا يمكن تجاوزها منها أن بطاقة الحماية التي سيبرم بها عقد الإيجار صادرة عن ولاية أخرى، ومنها أنه غير مسموح له أصلا البقاء أكثر من 90 يوما في الولاية، وحتى لو تجاوزنا كل ذلك فمؤسسات خدمات الكهرباء والماء لن تدخل خدماتها لمسكنه لنفس السبب، أو أنه سيضطر لاستئجار مسكن يتحمل فيه مالكه إبقاء عدادات الماء والكهرباء على اسمه – وهي حالات نادرة – لكن سيبقي المستأجر تحت ضغط وابتزاز المؤجر ما لم يدفع المبالغ التي يقررها المؤجر نظير تلك الخدمات، والتي غالبا لن تكون مماثلة لما يستهلكه المستأجر وعند امتناعه سيقطع عنه المؤجر تلك الخدمات.

المشكلات الأخرى التي يواجهها هؤلاء هي خدمة العناية الصحية حيث من المعروف أن الشخص يتلقى العلاج في مشافي ولايته المقيد فيها – باستثناء الحالات الإسعافية الطارئة – وهذا سيجعل المشافي العامة ترفض تقديم الخدمات الصحية لهؤلاء بالنظر لأن قيودهم في ولايات أخرى كما سيحرم هؤلاء من إمكانية صرف الأدوية المجاني لنفس السبب.

ما ينطبق على الخدمة الصحية سينسحب حاله على التعليم ونقل قيود وتسجيل الطلاب في المدارس بالولايات الجديدة وغالبا لن تقبل المدارس في الولايات الجديدة تسجيل الطلاب السوريين الوافدين إليها من ولايات أخرى.

في سياق آخر أيضا ثمة اليوم آلاف من السوريين نزلاء مراكز تجميع للاجئين المقرر ترحيلهم وجاء هذا الحدث ليعيد طرح السؤال عن مصيرهم.. فلا يجوز في ظل تلك الكارثة التي امتدت لتشمل معظم مدن وبلدات الشمال السوري لا يجوز ترحيلهم إليها وبالتالي يتعين إطلاق سراحهم بشكل عاجل وإعادة قوننة أوضاعهم وتفعيل حالة الحماية المؤقتة التي كانوا يتمتعون بها.

أما على الضفة الأخرى.. في مناطق الشمال السوري المنكوبة فمن الواضح أن معظم المباني المتضررة هي حديثة البناء بمعنى أنها بنيت خلال العقد الأخير وغالبا دون أية مراعاة للشروط الفنية والهندسية اللازمة سواء لجهة صلاحية التربية للبناء أو لجهة استيفاء الاحتياجات اللازمة للبناء من الحديد والمجبول البيتوني أو المقاومة للزلازل، وغالبا لم تكن تحت إشراف مهندسين مختصين وهذا يفسر سرعة انهيارها ما يلقي المسؤولية على عاتق السلطات والمجالس المحلية التي سمحت بالبناء دون التنسيق مع نقابة المهندسين الأحرار وتحت إشرافها، وهو ما يجب تلافيه بشكل عاجل في أي مشاريع بناء قادمة وعدم ترك الحبل على غاربه لكل من أراد البناء سواء للتجارة أو لخدمة النازحين أن يفعل ذلك بلا حسيب أو رقيب.. كما سيكون أيضا من أولى المهام المستعجلة التي يتعين القيام بها هي الكشف على المباني في المناطق المتضررة من قبل لجان فنية – هندسية وإفراغ الآيل منها للسقوط من قاطنيها، وتدعيم ما يمكن تدعيمه.

هذه المحنة التي خلقت مساحة للتعاطف والتآخي ونبذ الخصومات الصغيرة بالتأكيد تمثل درسا جديدا مرتفع الثمن يضاف إلى ما خبره وتعلمه السوريون خلال العقد الأخير، وما لم تشكل تلك المحنة إضافة جديدة لنا فنحن آفلون ومنقرضون لا محالة.

تلفزيون سوريا

———————

الزلزال السوري والجوع إلى الدولة لكن أية دولة وأي نظام سياسي؟/ أحمد جاسم الحسين

منذ الساعات الأولى لورود أخبار الزلزال المدمر الذي أصاب أجزاء من سوريا، بدأ السؤال يفرض نفسه: كيف يمكن إيصال الدعم، أو وصول فرق الإنقاذ إلى المناطق التي تخضع لإشراف تركي، أين الدولة؟ ليته كان لدينا حكومة لكل سوريا!

لم يخطر ببالنا أن النظام السوري سيطرق باب القيم الإنسانية والأخلاقية وتكاتف الشعوب مع بعضها إبان الكوارث. تناست اليونان علاقتها المضطربة منذ عشرات السنين مع تركيا، وأرسلت فرق إنقاذ، كذلك أوكرانيا التي تخوض حرباً. لكن بشار الأسد وطاقمه لم يخطر ببالهم تجاوز الثأر والحقد نحو القيم الإنسانية؛ فبقوا ضحايا الرغبة بالانتقام والرؤية غير الاستراتيجية، مع أن هذه الكارثة الزلزالية كانت فرصة لتكون باباً للتجاوز وردم الهوة بين السوريين وفتح شبابيك من التسامح والتكافل والتضامن، إذ تتجاوز الدول والأنظمة السياسية سياساتها التقليدية إبان الكوارث وتهجع للإنسانية.

على العكس من ذلك وجد النظام الأسدي في الزلزال فرصة للمناشدة وطلب المساعدة من الجهات الدولية، أملاً منه بكسر الحصار المفروض عليه، يطلب من الآخرين ما لا يقدمه لجزء من شعبه. تلك معادلة في السياسة والأخلاق غير مقبولة، غير أن مطلبه اللاأخلاقي وجد استجابة من دول عدة تواصل معه رؤساؤها، أو وزراؤها، معزّين، غير أن أحداً منهم لم يقل له ناصحاً: لا تمنع دخول المساعدة عن جزء من الشعب السوري! أو سنقدم لك المساعدة بشرط أن ترسل جزءاً منها إلى المناطق الخارجة عن سيطرتك وقد أصابها الزلزال. أو افتح مطار اللاذقية مثلاً لنساعدك ونساعد شمال سوريا.

كان هناك حل آخر أمام النظام السوري بأن ينحي السياسة جانباً، ويسلم تلك المهمة إلى الهلال الأحمر السوري مثلاً، على الرغم من كل ما ينسب إليه من فساد وتغلغل مخابراتي كما يعلم المتابعون. لكنه بقي مصرّاً على تأكيد لا إنسانيته وبشاعته أمام نفسه وأمام الشعب السوري والعالم. لذلك غدا تفسير العقوبات على سوريا بأنها تمنع دخول المساعدات إبان الكوارث تفسيراً واهياً جداً ولا قيمة له، يشبه بلاهة ضحكة بشار الأسد في اجتماع حكومته حول كارثة الزلزال، حيث لا حالة طورائ أو إعلان حداد كأن الضحايا ليسوا سوريين!

لاحقاً؛ وكما يحدث كل مرة، تسيطر ميليشياته على المساعدات وتبيعها في السوق السوداء، إنها ليست مشكلة غياب النظام وضعفه، بل مشكلة أخلاق ولا إنسانية. فمن تسمح له نفسه بسرقة طعام شخص منكوب تعرض لكارثة زلزالية، فقد كل شيء ويعيش في العراء؟

في أوروبا هرعت منظمات وجمعيات سورية وأفراد لجمع اللباس وسواه، جاءت الإجابة من معبر باب الهوى سريعة: لا يوجد إمكانية لعبور شيء الآن، المعبر يخضع لمراقبة مباشرة أو غير مباشرة تركية روسية أميركية دولية…!

لجأ مهتمون إلى جمعيات تعمل في مناطق قسد، فقالوا: إنهم لا يتعهدون بذلك، فالحواجز بين مناطق قسد وسواها من أراض سورية مجاورة للمناطق المنكوبة، تدار من قبل قوات قسد وقوات تأتمر بأمر تركيا والعلاقة بينهما مقطوعة. إضافة إلى أن إدخال “كونتينرات” عبر كوردستان العراق يحتاج إلى تنسيق مع سلطاتها. حاول أصدقاء هولنديون عديدون التواصل مع الأميركيين فتبين أن الأمر معقد جداً جداً!

غابت عن مشهد الزلزال السوري مسرحية اسمها “الحكومة السورية المؤقتة” التي لا تستطيع أن تطلق تصريحاً صحفياً دون موافقة الجهة التي ترعاها، أين هي؟ ومتى يكون دورها؟ سألت صديقاً يتواصل مع عدد من أطرافها، فقال نقلاً عن أحد “وزرائها” وهو يبلع دموعه: بصراحة نحن لا حكومة ولا وزراء ولا من يحزنون، المجالس المحلية في كل منطقة من المناطق التي تديرها أقوى منا، فلا تغرك التسميات، نحن وزراء من كرتون!

قلتُ له: على الأقل يمكنهم أن يمارسوا الخجل ويستقيلوا؛ بدلاً من ممارسة الصمت الشيطاني! الخجل مهنة جميلة في الحياة وتستحق أن يوصف بها الإنسان فيقال: هذا وزير خجول أو خجلان!

في ظل غياب الخجل عند سوريين ذوي مناصب، فإن الزلزال أظهر قدرة استثنائية لفرق الإنقاذ متمثلة بالدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) من خلال العمل ليل نهار، رغم كل الظروف الصعبة ونقص المعدات الخاصة بالزلازل، لكي يلحقوا روح إنسان قبل أن تزهق، ونجح فريقه داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى دوره الإسعافي والإنقاذي، بنقل حقيقة الوضع الكارثي وتكذيب ادعاءات المساعدات التي لم تصل، في الوقت الذي انشغل العالم بإيصال المساعدات للجيران الذين يتقاطع معهم بالمصلحة ولهم حضور في المشهد الدولي، وبرز دور فريق ملهم التطوعي وسواه بمحاولة إيواء الناجين بأقصى سرعة ممكنة، وكانت حملات التبرع والمساعدات العربية والدولية لافتة وتستحق الإشادة والتقدير، الحكوميُّ منها والشعبي.

جانب آخر أظهره الزلزال هو قدرة الإنسان السوري على تحدي الظروف وصنع مشهدية سورية لا تتكرر في التاريخ ولا تنسى: طفلة تحمي رأس أخيها بذراعيها المتعبين. وطفل يضحك لفرق الإنقاذ ويقول لهم: انتصرت على الموت. وأم تقول لزوجها الراحل: أديت واجب الأمومة، خلفتُ لك طفلة قبل أن أموت، لن يموت نسلنا، تستجيب الطفلة الجنين لرغبة الأبوين فتكمل طريق الحياة!

الإعلاميون والناشطون السوريون كان دورهم كبيراً، ينقلون الأخبار، ويتابعون التفاصيل، ويجيّشون المشاعر نحو الإنساني والأخلاقي، يكذّبون الأخبار غير الصحيحة حول وصول المساعدات، وفرق الإنقاذ، وينقلون اللحظات الإنسانية الأكثر تأثيراً، يلفتون انتباه العالم أولاً بأول ويذكرونه أن هناك شعبا مهملا “لا بكّايات له” كما يقول مثل فراتي.

نبه الزلزال السوري المجتمع الدولي مرة أخرى إلى أن قضيتنا لم يتم حلها بعد. وأن الحاجة إلى نظام سياسي ديمقراطي يدير الأراضي السورية ليس حاجة محلية بل حاجة دولية، وضرورة ألا يكون هذا النظام نظاماً دموياً قاتلاً، لا يعرف لحظة تسامح حتى في زمان الكارثة. أعاد الزلزال القول: يمكنك أن تضيع الوقت بالانشغال بإدارة ملف، بدلاً من حله إن كان قضية خلافية. أما أن تترك جزءاً كبيراً من بلد دون مؤسسات دولة فهو غير مقبول. لكن بالتأكيد لن تكون مؤسسات النظام في دمشق هي الحل والبديل.

الحاجة إلى الدولة كبيرة، باسمها وسمعتها وقدرتها على التأثير، ما أحوج السوريين اليوم إلى دولة، الأمر أبعد من شخصية الحاكم أو طبيعة النظام السياسي. مرجع الأمر حاجتنا إلى دولة تحمل طموحاتنا وتهتم بتفاصيلنا وأوجاعنا، نحن جائعون إلى دولة، دولة نلجأ إليها لحظة الزلازل والكوارث.

 بعد أن غدا بلدنا رمزاً لأكثر البلدان فساداً وكبتاغوناً وقتلاً.. نحن بحاجة ماسة لإعادة النظر بمفهوم الدولة وآلياتها التنفيذية وشكل الحكم، ليس من الضروري الدخول في جدل طويل حول الفروقات بين الدولة والحكومة التي حددتها العلوم المختصة ومنظروها، فالدولة الكيان والتمثيل والاعتراف والسيادة والشرعية والسمعة، والحكومة جهازها التنفيذي وآلية الإدارة فيها.

مما كشف عنه الزلزال أن الدولة ضرورة، وأن المجتمع الدولي لا يمكن أن يترك جزءاً من الجغرافيا السورية دون دولة ونظام سياسي وحكومة مركزية تدير القضايا الرئيسية. وكذلك كشف للسوريين ضرورة أن تكون هناك حكومة وهيئات تدير شؤونهم، لها علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي والدول المجاورة، علاقات مصالح متبادلة ومنافع وليس صراعاً وتناحراً، وأن الميليشيات مهما كانت قوية هي ليست دولة ولا يمكن أن تحل محلها. وجارُكَ لن يهتم بمصائبك إن كان لديه مصيبة، ستغيب عن تصريحاته تماماً كأنك غير موجود!

لن ينقطع أملنا من المجتمع الدولي (تحديداً أميركا) في مساعدتنا على إنتاج التغيير، ونسألها: ألم تتعلمي مما فعلته في العراق حين سلمته إلى إيران أم تريدين تكرار ذلك مع سوريا لكن بإضافة روسيا إليها؟

ألا تعرفين يا أميركا أنه كلما بقي الملف السوري مفتوحاً أدّى إلى بروز مشكلات جديدة ليست أولها داعش ولن يكون آخرها كبتاغون بشار الأسد!

وللعلم يا أميركا فإن سلطات الأمر الواقع، وأولها النظام القمعي الاستبدادي في دمشق، لن تتخلى عن سلطاتها دون قوة خارجية تصفعها. أما حلم إنتاج التغيير من الداخل؛ فلن تسمح به قوى إقليمية ودولية يدرّ استثمارها في الملف السوري أرباحاً كبيرة عليها.

أخيراً نتساءل: هناك الكوارث وهناك ما بعد الكوارث، كيف يتم تعويض من فقدوا بيوتهم ومحتوياتها؟ وكيف يمكن إعادة إعمارها؟ هل اقتراح إنشاء هيئة سورية شعبية خاصة بضحايا هذا الزلزال هو الحل لتكون صلة وصل بين الأهالي والمتبرعين، أم الاعتماد على فرق المساعدة الموجودة ذات الخبرة الطويلة هو الحل الأفضل؟

————————

ليست مؤامرة كونية ولا سرديات مظاليم/ حسن النيفي

ربما بات الحديث عن الكوارث المتتالية على السوريين منذ اثنتي عشرة سنة إلى الآن، أمراً مألوفاً، وربما أيضاً خُيِّل للبعض بأن لعنة الخراب والدمار حلّت على البلاد السورية إلى درجة بات فيها اختلاط المصائب يحجب هوّية سوءات الأكثر قذارة من غيرها، وبالتالي يحسبها المرء كلّاً موحّداً لهذا الدمار الجارف الذي طال الأرواح والبيوت والممتلكات، ولعلّ هذا ما يدفع الكثيرين للذهاب إلى أن جزءاً كبيراً من الخطاب السياسي للسوريين لا ينطوي سوى على سرديات المظلومية التي باتت السمة النفسية الأبرز في المشهد السياسي السوري، إلّا أن واقع الحال يؤكّد أن هذا المخزون الهائل من الغضب والحزن الممزوج بالتذمر ليس سرديات مظلومية ولا نزعة مازوشية لدى السوريين، وكذلك ليس أسلوباً من أساليب استدرار العطف لدى الآخرين، وإنما هو واقع معاش، مرئي ومحسوس، يراه العالم بالعين المجردة، لا من خلال الصور التي تتصدّر الصحف والمواقع ووسائل الإعلام الأخرى فحسب، بل من خلال ما بات يُدعى: (الموت على الهواء مباشرة)، نعم أصبح العالم يرى المواطن السوري وهو يلفظ أنفاسه حتى تخبو تهمد روحه.

ما هو مؤكّد أن الشعب الذي انتفض بوجه نظام الإبادة الأسدي لم يكن يتنبأ بالزلازل، ولم يكن ينتظر تداعياتها الكارثية حتى يُثبت للعالم أن الموت يُجهز عليه في عقر داره ولا من مجيب لاستغاثته، ولكنه بالتأكيد عايش هذا الخذلان قبل الزلزال بسنوات، فمنذ أن بدأت آلة العنف الأسدية بإلقاء البراميل المتفجرة فوق رؤوس السوريين، كان الناس يموتون تحت الأنقاض، كما كانت الكاميرات ترصد أشلاءهم وهي تتناثر، وتوثق أنفاسهم وحشرجاتهم وهي تغادر أرواحهم، ولم يكن – إذ ذاك – هذا الفن من فنون الموت المُبتدع حالة طارئة أو عرضية، بل أصبح ممارسة ممنهجة، بل هي المنهج القتالي الضامن لصمود نظام الأسد في وجه من انتفضوا على حكمه، وكذلك لم يكن الفاعل مجهولاً أو مشكوكاً بهويته، بل كان، وما يزال الرئيس الشرعي للبلاد أمام العالم، وهو الجهة الوحيدة التي تمثل الدولة السورية في جميع المحافل الدولية.

وحين لم تعد البراميل المتفجرة قادرة على إشباع شهوة القتل لدى نظام التوحّش لم يتوان عن استخدام السلاح الكيمياوي الذي ربما يكون أكثر جدوى في حصد الأرواح، إذ شاهد العالم أجمع في السابع والعشرين من شهر آب 2013 أطفال الغوطة الشرقية وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة عبر مشاهد حيّة لا يشوبها أي لبس، وقد تكرر هذا الصنيع الأسدي أكثر من خمسين مرة فيما بعد، وفقاً للتقارير التي وثقتها جهات دولية مختصة، وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي الهائل – في حينه – وكذلك على الرغم من الإدانات الأخلاقية الحادّة من جانب المجتمع الدولي، إلّا أن ذلك كلّه لم يجسّد أي خطوة عملية ولو للاقتصاص لطفل سوري واحد، بل إن الموقف الدولي من نظام الأسد حتى الوقت الراهن لا يتجاوز الشعار الأميركي: (المراهنة على تغيير سلوك النظام وليس إزالته).

لعل هذه الطريقة من التعاطي الدولي مع المقتلة السورية قد أعطت حافزاً إضافياً لحاكم دمشق لكي يرى في الكارثة التي أنتجها زلزال صبيحة السادس من شباط الجاري فرصةً جديدة ليس لتغيير سلوكه كما يراهن البعض، بل للاستثمار بهذه الكارثة علّها تكون مدخلاً جديداً لفتح علاقات وآفاق على المستويين العربي والدولي، بغية الخروج من طوق عزلته التي أورثت حالة اقتصادية وسياسية هي غاية في التردّي، فعلا صوت أبواقه الإعلامية المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام حكمه، علماً أن العقوبات لا تطول سوى رأس النظام وحفنة من رجالاته والشركات المافياوية المموّلة لآلة القتل والإجرام الأسدي، كما استبدّت به القذارة إلى استخدام الصور والفيديوهات المروّعة لضحايا الزلزال في الشمال السوري الخارج عن سيطرته، لخداع الرأي العام واستدرار عطفه، علماً أن هول الكارثة وتداعياتها في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأسد لم تلق الاهتمام اللازم من حكومته، بل إن وقع الكارثة كان واحداً بالنسبة إلى المواطنين السوريين، فالضحايا الذين قضوا في حلب أو حماة أو جبلة أو اللاذقية، كان حالهم كحال أقرانهم في إدلب وعفرين وبقية مدن الشمال السوري، ما يؤكد بالقطع أن نظام الأسد لا يعنيه السوريون ومصائرهم وحيواتهم بقدر ما يعنيه استمرار بقائه في السلطة وحسب، ولو استدعى ذلك هلاك عموم الشعب.

هل هي مؤامرة كونية على الشعب السوري؟ بالتأكيد ليست كذلك، ذلك أن المؤامرة غالباً ما تنطوي – في جانب من جوانبها – على حدث يتم تدبيره في الخفاء، وربما ينكشف أمره لاحقاً أو لا ينكشف، ولكن ما يجري في البلاد السورية منذ آذار 2011 وحتى هذه اللحظة هو سيرورة من الأحداث واضحة الملامح والتوجهات والمقاصد، ولا تحتاج إلى عقود زمنية قادمة حتى تتكشّف أسرارها، وهي لشدّة حضورها الحسّي والملموس تكاد تفقأ العين، ولكنها تخفى فقط على من وجد في التفكير الغيبي سبيلاً للاختباء وراء نظرية المؤامرة حيناً، والتنصّل من رؤية مواجهة الواقع المؤلم حيناً آخر، فامتناع المجتمع الدولي عن محاسبة نظام الأسد أو ردعه عن قتل السوريين ليس مؤامرة وإنما قرار تكمن وراءه مصلحة، ألم تؤكّد الولايات المتحدة الأميركية – ومنذ الشهر الأول لانطلاق الثورة السورية – بأنْ لا مصلحة لها بإسقاط نظام الأسد، ولن تسعى لذلك لأنه لا يهدّد مصالحها في المنطقة؟ ووجدناها في الوقت ذاته تشكّل تحالفاً دولياً لقتال تنظيم داعش ومشتقاته في سوريا، علماً أن الإجرام الأسدي فاق جميع أقرانه من صنوف الإرهاب، ألم يكن الموقف الإسرائيلي واضحاً جدّاً حين أكّد المسؤولون الصهاينة مراراً بأن بقاء الأسد في حكمه يلبي حاجة أمنية لإسرائيل ربما تفتقدها بزواله؟ ألم يكن هذا الموقف ذاته لفرنسا، في تصريح واضح للرئيس ماكرون بتاريخ 22 من حزيران 2017 بأنه (لا يرى خلفاً مشروعاً للأسد، وأن هذا الأخير ليس عدواً لفرنسا وإنما للشعب السوري)؟ نعم هي المصلحة، ومن لا يُحسن الدفاع عن مصلحته سوف يخسر الكثير، ولعل جميع القضايا العادلة للشعوب التي انتصرت عبر التاريخ لم تنتصر بأبعادها وحواملها الأخلاقية والإنسانية فحسب، بل بتعزيز الحوامل الأخلاقية بدعائم القوة المساندة وبالمبادرات الفعلية التي هي وحدها من يمنح الأخلاق مصداقيتها أمام العالم.

حين تستجيب عدة حكومات عربية وغير عربية لاستغاثات بشار الأسد وتنهال عليه سيول التعاطف والدعم الإغاثي، علماً أنها تدرك فداحة إجرامه ولصوصيته، وهي تتذرع بأن سكان الشمال السوري تمثلهم معارضة قد سلّمت قيودها – سياسياً وعسكرياً لتركيا، وبالتالي تركيا هي الطرف الوصي عليها، فإن تنصّلها هذا ليس مؤامرة وإنما محاباة لمجرم في سبيل مصلحة أمنية سلطوية لا تختلف بقذارتها عن سلطة الأسد، وحين يُسمع أنين الأطفال والشيوخ تحت الأنقاض طوال الأيام الثلاثة من تاريخ وقوع الزلزال، ولا تُفتَح المعابر التركية لدخول الآليات وفرق الإغاثة لانتشال الأحياء والأموات، فهذه ليست مؤامرة، وإنما عجز المعارضة الرسمية عن انتزاع قرار من الحكومة التركية بفتح المعابر، علماً أن ما حلّ بالشعب التركي من وجع لا يختلف في درجة إيلامه عن الوجع السوري.

بكل تأكيد، تبدو القدرة على مواجهة الكوارث الطبيعية كما هو حاصل منذ فجر الأحد الماضي، أكبر بكثير من إمكانيات البشر والحكومات والدول مهما عَظُمت، وليس من عاقل أو منصف يمكنه أن يطالب المعارضة الرسمية السورية بكل أشكالها بما هو فوق طاقتها وإمكانياتها، ولكن ما هو صحيح أيضاً، هو أن منهجها في التعاطي مع كارثة الزلزال المدمّرة هو استمرار لنهجها في تعاطيها مع مجمل كوارث السوريين السابقة، ولعل هذا النهج من التفكير والسلوك معاً، هو كارثة بحدّ ذاتها.

————————–

وانقطع الأنين- مرثية السوري الأخير/ أحمد الشمام

“كأنهم نيام” جملة قالها مراسل الجزيرة ماجد عبد الهادي في مرثاة أطفال الغوطة الذين قتلوا بالكيماوي، كملائكة دهمتهم ريح طيبة فناموا باسمين – لولا اختلاج بسيط، اختناق، توسع في الحدقة، ورغوة من فم صغير رسمه الخالق على هيئة روح خفيفة، وهيض في القلب كل وجع البشرية منذ آدم، منذ قابيل وهابيل؛ ولا غراب في هذا العالم يواري سوءَته، وبقيت تلك المقولة في سفر المراثي كإحدى معلقات الوجع العربي على جدران قلوبنا إذ لا جدران بقيت؛ حتى إني كلما وجدت أطفالي نياما حدقت وقلت في نفسي” كأنهم.. موتى” لأدرك الفرق بين الحالتين، لكأن الأرض مشطورة بين عالمين واحد صغير هو نحن ويقبع في رقعةٍ شرق المتوسط اسمها سوريا، والثاني كرة أرضية تدور بأممها وشعوبها وقطعان رعاة الخراب المضمخ بدمنا وكلما أمعن في قتلنا نهضنا وكأن ليس للسوري إلا قبض ريح وأفق خفيض للصرخات، وقلق منظمات الأمم.

ثم جاءت رثائية الإعلامي السوري محمد الفيصل “وانقطع الأنين..” وهو يصور الأنين المتسرب من تحت الأنقاض؛ بكل ما يحمل من وجع الروح وعجزها عن تجاوز أطنان الركام فوق الضحايا الأحياء ونداءات الاستغاثة، على أنه كان شعاع أمل بوجود أحياء قد يتمكنون من العيش لأيام أخرى. هي لم تكن مرثية بقدر ما كانت كلمة طبيب يخبرك أن قلب مريضك “أمك أو أبوك، طفلك أو زوجتك” قد توقف على جهاز الإنعاش وما عادت تنفع كل الأدوية، أو أن مفقودك لم يعد فلا تنتظر وابدأ مراسيم الجنازة ولا جُنّازَ  للحقيقة سوى على أكتافنا كعين الشمس، ولئلا يتبلد الإحساس بين سكان المعمورتين؛ معمورة الأرض البعيدة الغارقة بسباتها وأمانها وعهرها، ومعمورة الخراب –بلادنا- وهي تشيع مدنا سقطت على أهلها تحت القصف فافترشوا الأرض وقيعان بحار اللجوء والشتات، وبعد أن مادت بنا الأرض ولم نمت جميعا، وبذل كل منا جهده في الإغاثة تعالوا نبكي جميعا لئلا يتبلد الإحساس، ولنبك قهرنا أمام أطفالنا وزوجاتنا والأصدقاء، ولنكتب مراثينا علها تخلف في جيل آخر ذكرى حياة وسبل التزام بمن قضوا، وليعرف أطفالنا عهر العالم ولا ينذرون أرواحهم لأفق غير  ذاك الذي حلقت فيه أرواح من ماتوا بلا وصية أو عزاء، ويبصقون في وجه هذا العالم  الصفيق الذي حول البلاد من سجن كبير إلى خيمة عزاء شاسعة.

بين وجعنا وإحساسهم بون شاسع وذهول كبير؛ لم يجدوا وقتا للذهول فحملناه نحن وكما قال محمود درويش “الموت لا يوجع الموتى لكنه يوجع الأحياء”، صراخنا ودعاؤنا يدق باب السماء وهم هناك، هناك هادئون لو التفتوا لنا لقالوا أرواحنا أعلى من سمائكم.

بوجع كبير وذهول يصل عمق مداه؛ لكن بحزن أقل أو لم ندرك عمقه حتى اللحظة رغم كل شيء، لكن بحزن أقل فقط لأن الله اختار عائلات بكاملها وبتنا نحمل عبء القليل من اليتامى، أقل بكثير مما خلفته حروب الطغاة. لكنا تعلمنا الفرق بين شق في الباب أو ثقب صغير في جدار الزنزانة العفنة قد يولد فيك روحا تشهق علو السماء وبين شق يوصل أنين أهلك تحت الركام، لست قادرا على ثقب الأرض، ولا قادرا على أن تشق صدر السماء، يقول الروائي ميلان كونديرا “إن الإنسان يكمن فيه -وجهه أو جلده- أرشيف البشرية من أول الخلق حتى الآن”، والآن صار السوري -قلبه وروحه- يحمل تاريخ النكبات وأراشيف المآسي وشاهدا على خذلان بشرية تسير بعقلية إنسان الكهوف وتتعالى في عمران يسير نحو الهاوية.

هناك نجت دمية من بين الأنقاض خرجت كما هي مغبرة قليلا دون مزق، والطفلة التي بقيت تحت الركام لم تجد من ينتشلها وقد تخرج قطعا بعد أيام. لم نر دماء كثيرة فاضت الأرواح بلا دم وبقيت الصورة صامتة بلا ألوان، ولعلي في لحظة أتجاوز فن السرد وشطح اللغة لأن الموت مهما تنكر لا يأتي جميلا ولا يراه الهارب أنيقا بل وحشا ينهش قلبه، ولا يبقى سوى الرتوش، نظارة الأب، فروته التي دفأتنا ذات رحيل، عكازة الأم، عقد العقيق الأحمر، والمِنحَر المشرب بالبخور الهندي، كلهن متون للوجع إذ يتلو المحنة، لكنها كلها تغيب في الغبار الذي عفر دمية الطفل تحت الركام. والموت لوحة لم تكتمل يعلمنا الله إياها قطعا مبعثرة نحن شظاياها الموزعة في كل بقاع الأرض، كل بقعة هناك موت ونحن نرمي بنرد أرواحنا لترسم الأقدار للإنسان لوحة الموت من أشلائنا.

أيها الموت لم نعد نكترث عرفناك عرفناك وتعال رويدا رويدا ولا تخبر أحدا عن خطوتك القادمة أو وقعك الآتي فنحن الحياة وعشاقها الفانون، يا موت روضناك روضناك لم يعد لك هذا الوقع المخيف فاخترعت أشكالا ودروبا جديدة. وأنا إذ أعد لأرثي البلاد شجرا، قلبا من الخرائب، سبع أبجديات ولم أبلغ ظفر الطفلة تحت أنقاض جرحك المفتوح ولم أنجز ترنيمة لجُنّازِ البلاد اليتيمة، فانهض أيها السوري واعلم أنك وحدك.

وحيد أنت ولا تنتظر أحدا سوى الله ثم أنت، ولا تعرض صور الضحايا للآخرين فلنتوازعها بيننا مثل نداءات الاستغاثة في هواتفنا –بلابل الموت البطيء- علها تصل لمغيث قريب، لا تعرض صور الموت ليؤازرك أحد لأنك ” وحيد مثل لوحة لـ فان كوخ تحت النظرة الغبية للسياح، مثل قمر لا يراه أحد”.

————————

الكارثة السورية في غياب مؤسسات الدولة/ رفقة شقور

ضرب زلزال فجر يوم الإثنين السادس من شباط الحالي أجزاءً واسعة من تركيا وسوريا، ما إن مرت ساعات على استيعاب الكارثة، حتى تبين حجم الدمار الذي استخدم الرئيس التركي ومنظمة آفاد التركية العديد من التوصيفات له، ككارثة القرن، أو الأشد فتكاً بين الزلازل التي ضربت منطقة الأناضول منذ ألفي عام.

تنقلنا هذه التوصيفات من قبل الدولة التركية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ظهر في المناطق المنكوبة، مثل كهرمان مرعش مركز الزلزال، وأيضاً في ولاية غازي عنتاب المنكوبة، وهو يتفقد الناجين، ويعدهم بالتعويض المادي، والإيواء السريع ضمن خطة إعادة إعمار، وأيضاً ظهرَ وهو يتفقد أعمال الإنقاذ ومخيمات الناجين، بعد أن رفعت الدولة التركية مستوى الإنذار للرابع حيث استدعت مساعدات الدول، فتوافدت فرق الإنقاذ والإغاثة الدولية إلى تركيا.

هنا برزت أهمية الدولة كمفهوم مكتمل من احتكار العنف المشروع، واحتكار التشريع، وأيضاً السيادة الكاملة عبر مؤسسات الدولة، التي تشكل مكونات رئيسية للدولة في الأوضاع الطبيعية والكارثية، فأصدر البرلمان التركي قانون الطوارئ من أجل تفادي استغلال الأزمة من قبل تجار الأزمات، والمرابين، ومستغلي الفوضى.

بينما برزت على الجانب السوري مشكلات عديدة ناجمة عن غياب مؤسسات الدولة في إدارة مثل هكذا أزمات وكوارث، واتضح بعد حضور بشار الأسد أولى اجتماعات مجلسه الوزاري، وقد بدا ضاحكاً مستبشراً بالضغط من أجل إيقاف قانون قيصر الذي فرض العقوبات على النظام، والتي لا تشمل الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية والإغاثية للسوريين المنكوبين، فالعقوبات مفروضة على الأسد ونظامه من أجل منعه من الحصول على مزيد من الأسلحة لقتل السوريين.

فاقم من الأزمة الإنسانية في المناطق المتضررة في الشمال السوري، والتي تقع تحت سيطرة المعارضة، بطء التجاوب الأممي مع الكارثة، بشكل بدا فيه كأنه لم تتطرق عشرات المؤتمرات التي ناقشت الأوضاع في المناطق السورية المحررة من سطوة النظام لمثل هكذا موقف، فقد ظهر أنطونيو غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة بعد مضي ٨٠ ساعة على الزلزال ليقول: “حان الوقت لاستكشاف جميع السبل الممكنة لإيصال المساعدات لجميع المناطق”.

الاستجابة البطيئة التي عبرت عنها الأمم المتحدة في مساعدة السوريين في الشمال السوري، بالإضافة لعدم تضمين المساعدات لأي معدات ثقيلة تساعد السوريين على انتشال ضحايا الزلزال أحياء كانوا أم أموات، بعد قضائهم أياماً هي الأبرد ضمن موجة برد وثلوج تضرب المنطقة، لا يمكن أن يتم فهمه خارج التورط الأممي والتقصير الأممي تجاه الشعب السوري، الذي أرهقته وأرهقت مبانيه آلاف الأطنان من البراميل المتفجرة التي أسقطها النظام السوري على رؤوس مواطنيه، ومبانيهم خلال سنوات، لكن ذلك لم يرسل ببشار الأسد لأيٍّ من المحاكم الدولية بل على العكس يتم طرح خطط إعادة تأهيله دولياً من قبل حلفائه.

تعالت الأصوات المطالبة برفع العقوبات عن النظام السوري، تلك الأصوات نفسها التي لم تعل في فضح البراميل المتفجرة، والمقابر الجماعية، والمجازر والمعتقلات الأسدية في سوريا، والتي أضعفها النظام السوري عبر التحالف مع احتلالات الأرض التي استجلبها على أراضيه من أجل ضمان استمراريته، حتى ولو بشكل منزوع السيادة، فقد كان الأهم لدى نظام الديكتاتور عدم الامتثال للإرادة السورية الشعبية برحيله.

أمام كل الخسائر في الأرواح والوضع الكارثي الإنساني في الشمال السوري، أصدر النظام قوانين تقيد دخول أي مساعدات من المناطق الأقل تضرراً، والتي تقع تحت سيطرته إلى المناطق المنكوبة، وسط حالة غضب من السوريين الذين استهجنوا عملية خضوع مساعدتهم لأهلهم في تلك المناطق لقنوات النظام الأمنية واللوجستية التي فقدوا ثقتهم بها، عبر تجاربهم معها في أعقاب الثورة السورية، وما قامت به من عمليات تعفيش للبيوت والممتلكات التي كانت تقع تحت سيطرتهم، وتم فضح كثير من عمليات السطو على المساعدات التي سُمِحَ بإدخالها.

السوري المنكوب اليوم سواء في مناطق النظام أو المعارضة أو على الجانب التركي أو في المهجر، أمام ممارسات النظام التي لم تكن صادمة لَه، فالنظام الذي قتل نصف مليون من شعبه، وهجر الملايين، يبدو في حالة انتفاع سياسي ومادي من الزلزال، ففساد الأسد والمنظمات التابعة لزوجته أسماء الأسد، وفي أحيان كثيرة بالتعاون المفضوح مع عاملين في منظمات دولية أكبر الموانع لوصول المساعدات لمستحقيها.

تحت واقع الممارسات الانتفاعية لنظام الأسد، وفي ظل بطء معالجة الكارثة الإنسانية التي حلت بالسوريين، والتحذيرات التي يطلقها أطباء بلا حدود من تفشي الأمراض الفتاكة بين الناجين، كذلك التحذيرات من حدوث مجاعة بسبب بطء التجاوب مع  الاحتياجات الأساسية  للمناطق المنكوبة،  يبرز للعلن التساؤل حول جدوى المنظمات الدولية في المناطق الشبيهة بسوريا، والتي تعاني من مضاعفات الحرب والوباء وتسلّط تجار الحروب، وتسلُّط الدول ذات الطموح بالتمدد للمياه الدافئة، والسيطرة على مقدرات السوري، كذلك مدى الحاجة لتحسين النظام الدولي والعالمي، الذي تذكر مثل هذه الكوارث بمقدار ترهله، وتجاوبه المشروط بالقوة في كثير من الحالات الإنسانية التي يقع ضحيتها إحدى الشعوب الواقعة تحت سطوة دول الفيتو أو حلفائها مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي.

كل ذلك أيضاً يحيلنا لتساؤل آخر حول غياب مؤسسات الدولة في الجانب السوري، ومعنى وجود نظام بلا سيادة تحركه الدول الحليفة له كحجر على رقعة ألاعيبها الدولية، فتساوم بهِ على ملفات النووي والطاقة وفلسطين وغيرها، في حين يقف منتفعاً في غياب المؤسسات من فتات المساعدات الإنسانية،  ويمنع وصولها إلى المستحقين، هذا النظام لن يكف عن كونه خصم السوريين، ومعيقاً أمام نهضتهم، وبنائهم مؤسسات دولة تنتشلهم من ويلات الأزمات، كذلك لن يتوقف عن كونه عبئاً وضرراً مستمراً على الشعب السوري، في كل أماكن وجوده حيث تعمّق شعور السوري باليتم العالمي، حين يرى أن معبر باب الهوى فُتِح أمام قوافل جنازات السوريين ضحايا الزلزال الذين وجدوا في تركيا، قبل أن يكون جسراً ومعبر حياة يعيدهم لوطنهم بكرامة  أحياء

———————–

زلزال الشمال السوري ليس ككل الزلازل/ مصطفى إبراهيم المصطفى

يقول العلماء إن الزلازل هي نتاج تناطح صفائح هائلة الحجم والمساحة في أعماق الأرض، ويقال إنها من أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً، وهي ظاهرة طبيعية تحدث منذ ملايين السنين، ولكنها تختلف من حيث القوة والشدة، ولأنه لا توجد طريقة للتنبؤ بالزلازل أو منعها، فمن المهم أن تكون الدولة مستعدة وأن يكون لديها خطة طوارئ في حال حدوث زلزال، فمن خلال فهم أهوال الزلازل، يمكننا العمل على تقليل تأثيرها ومساعدة المجتمعات على التعافي من هذا الحدث المدمر. ومن هنا تبدأ قصتنا نحن السوريين؛ فزلزالنا ليس ككل الزلازل.

عند الساعة الرابعة من صباح يوم الإثنين السادس من شباط 2023 فجأة ومن غير سابق إنذار صارت الأرض جموحا وكأنها تريد أن تلقي بكل من على ظهرها إلى الجحيم؛ فاهتزت واهتزت بعنف ولها هدير مرعب ضاعف جرعة الخوف، كانت ثوان قاربت الدقيقة كافية لزلزال “كهرمان مرعش” الذي امتد بآثاره المدمرة إلى الشمال السوري ليحصد أرواح آلاف السوريين ويحول ممتلكاتهم إلى ركام، ناشرا الذعر والهلع في نفوس الناجين ملقيا بهم إلى الطرقات والساحات حيث كان البرد القارس بانتظارهم في درجات حرارة تلامس الصفر، مخلفا كارثة إنسانية قل نظيرها. المشهد أوجزه أحد الناجين بعبارة مختصرة: كأنه يوم القيامة.

ما إن استقرت الأرض تحت أرجلهم هرع السوريون إلى هواتفهم يتنقلون بين صفحات الأخبار ورسائل الاطمئنان على ذويهم ومعارفهم. ومن بين الأخبار كانت تطالعهم تصريحات للرئيس التركي، وتصريحات لمعاونه، وتصريحات لمسؤولين حكوميين آخرين، وحكومة مع الساعات الأولى للزلزال تصدر تحذيرا من الدرجة الرابعة يناشد مساعدة دولية، واستنفرت الحكومة التركية كل طاقاتها مسخرة كل موارد الدولة لإدارة الأزمة المستجدة، بينما اقتصرت ردود الأفعال في المناطق التي ضربها الزلزال من الشمال الغربي من سوريا، أو المناطق الخارجة عن سلطة النظام السوري – كما يفضل البعض تسميتها – على تناقل صرخات الاستغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صرخات استغاثة موجهة لمؤسسة الدفاع المدني محدودة الإمكانيات، ولأصحاب النخوة من المواطنين في حالة تكرس اليتم في أقسى معانيه، حيث لا حكومة ولا دولة ولا مؤسسات دولة.

من جهة ثانية، خلق الموقع الجغرافي لتلك المنطقة التي عصف بها اعتباط الطبيعة بعدا آخر للأزمة الإنسانية التي أحدثها الزلزال، فالمنطقة محصورة بين حدود شمالية مع تركيا التي انشغلت بمصابها وأعلنت حالة الطوارئ وأغلقت الحدود، وحدود غربية مع المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي عرضت المساعدة رغم إمكانياتها المتواضعة، إلا أن عدم وجود سلطة محددة قادرة على اتخاذ القرار باستقبال هذه المساعدات أو رفضها عطل دخول قافلة المساعدات في وقتها، أما الحدود الجنوبية فهي مع القسم الآخر من سوريا الذي يخضع لسيطرة النظام السوري الفاقد للشرعية الأخلاقية، والمحتكر لتمثيل الدولة السورية وفق القوانين الدولية، وهناك حيث كل شيء موجه لخدمة السلطة؛ على الفور بدأ النظام باستثمار الكارثة سياسيا، وفيما يبدو وكأنها خطة إعلامية جاهزة؛ أطلق النظام السوري حملة شعواء من أجل رفع العقوبات عنه، مخيرا العالم بين السكوت عن حصار المنطقة المنكوبة في الشمال الشرقي من سوريا، وبين القبول بالتطبع معه.

ومن جهة ثالثة، ما جعل المأساة أكثر عمقا أن هذه المناطق التي ضربها الزلزال هي مناطق حدودية ذات بنية تحتية ضعيفة أجهزت الحرب على الموجود منها، وقد أصبحت مكتظة بالسكان نتيجة موجات نزوح جماعية هربا من بطش النظام الذي ترك لدى معظم السوريين ندوبا جسدية وعاطفية ونفسية. وهي مناطق تعاني من ضعف شديد على مستوى المنظومة الطبية والصحية؛ كل شيء فيها متهالك؛ ابتداء من الاقتصاد وانتهاء بالمؤسسات الخدمية. أضف إلى ذلك أنها منطقة محدودة الموارد يعتمد معظم سكانها على المعونات والمواد الإغاثية. أي، أن معظم السكان يعيشون على الحد الأدنى لمتطلبات الحياة، فهي منطقة يعشعش الفقر في معظم بيوتاتها وخيامها.

أخيرا، مع كل وقفة، ومع كل تعثر، وعند كل مفترق طرق، ومؤخرا، مع كل كارثة يزداد وضوحا ما ذهب إليه “جوزيف شتراير” عندما اعتبر الإنسان لا شيئا من دون دولة، “إن أفظع مصير يمكن معرفته في العالم الراهن، هو مصير من لا وطن له”…”إن شخصاً من دون عائلة، ومن دون سكن ثابت، ومن دون انتماء ديني يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية، لكنه من دون دولة ليس شيئاً، وليست له حقوق، ولا أمن، وعلى الأرض لا خلاص خارج إطار دولة منظمة”. ومع الكارثة التي خلفها الزلزال أصبح الأمر أكثر تعقيدا، فالزلزال الذي توقفت هزاته هو كالنظام السوري سيترك للناجين ندوبًا جسدية وعاطفية ونفسية يمكن أن تستمر مدى الحياة. وسيكافح كثير من الناس لإعادة بناء حياتهم في أعقابه، سواء على المستوى النفسي أم على المستوى الاقتصادي.

ليس لأنه زلزال القرن، أو لأنه جاء عند الرابعة صباحا في طقس شديد البرودة، وإنما لأنه ضرب من يشبهون الأيتام في منطقة محاصرة يعاني سكانها من الفقر؛ منطقة تكاد تكون استثناء عن كل بقاع الأرض من حيث غياب السلطة. من أجل ذلك كله: زلزال الشمال السوري ليس ككل الزلازل.

————————-

زلزال سوريا الذي لا ينتهي/ رضوان زيادة

تذكر قاعدة البيانات عن الزلازل التاريخية لسوريا والمناطق المحيطة أن آخر زلزال حدث عام 1881 وكان مركزه الرئيسي في لبنان مدينة صيدا لكن شعر به سكان مدينة دمشق وسقط بعض الضحايا كما تدمرت الكثير من المباني.

لذلك يمكن القول إن زلزال عام 2023 هو الأول في القرن الحادي والعشرين بالنسبة لسوريا التي لم تشهد هذا النوع من الزلازل الشديدة منذ مئة عام تقريبا.

لكن ما حدث في شباط 2023 كان أكبر من زلزال بدرجة 7 ويعتبر من أقوى الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا بالطبع.

فقد أتى على منطقة دمرتها الحرب كليا وسوت بالأرض معظم مؤسساتها وبذلك يأتي الزلزال كي يضاعف الموت على السوريين ويمنعهم من الحلم بحياة أفضل يستحقونها ويحلمون أن يكون الغد أفضل من يومهم، لكن الموت كان أسرع في الوصول بهم إلى نهاية مفجعة.

أتى هذا الزلزال كي يمثل فصلا جديدا من فصول الموت التي شهدها السوريون على مدى عقد كامل، فمن نجا من براميل الأسد والكيماوي الذي قصف به السوريين أتى هذا الزلزال كي يمثل نهاية له، حيث قضت عشرات العائلات بهذا الزلزال الذي أصاب بشكل كبير السوريين الذين يعيشون في جنوبي تركيا ويتركزون في مدن أنطاكيا وغازي عنتاب، فضلا عن المئات الذين قضوا في الشمال السوري وخاصة في مناطق من مثل جنديرس ومارع وغيرها والتي كانت الأكثر تضررا بشكل لا يقاس مع مناطق أخرى.

السؤال الآن بعد فشل المجتمع الدولي في مساعدتهم على مدى أربعة أيام حيث دخلت قافلة المساعدات الأولى بعد أربع أيام كاملة من يوم الإثنين يوم الزلزال الأسود، وهو ما بدد حلم الكثير من السوريين بإنقاذ أرواح والخروج بهم من تحت الأنقاض أحياء، هل فرص الخروج من تحت الأنقاض أصبحت ضئيلة أو معدومة.

سيطرح اليوم مجددا سؤال العقوبات وإعادة الإعمار، حيث سيستغل النظام موجة الدعم والتعاطف الدولي من ضحايا الزلزال للمطالبة برفع العقوبات الأميركية والأوروبية عليه، رغم أنه يدرك أنه لا عقوبات أممية عليه وإنما هي عقوبات على أفراد وكيانات كان لها دور كبير في قتل السوريين وقصفهم على مدى عقد من الزمان كما أن العقوبات لا تشمل المواد الطبية والمساعدات الغذائية، لكن النظام يعتقد أن هذه هي الفرصة الأفضل له للخروج من العزلة الدولية التي هي نتيجة وحصيلة السياسات التي اتبعها على مدى سنوات في قتل السوريين وقصفهم.

بكل تأكيد نحن اليوم مع مساعدة السوريين للخروج من هذه المحنة بكل الطرق الممكنة لكن على النظام أن يدرك أن ألاعيبه في التحايل على هذه العقوبات لن تفلح في الخروج به من هذه العزلة فالعالم خبر النظام وخبر سياساته في هذا الإطار.

من دفع الثمن الأكبر من هذا الزلزال هم السوريون الذين ما زالوا يرزحون تحت قبضة النظام حيث يدفعون ثمن دولة فاشلة أدخلها الأسد في عزلة دولية حيث ترك السوريون لوحدهم يعيشون الألم والموت لوحدهم، حيث تحولت سوريا إلى دولة فاشلة تماما بعد خمسين عاما من حكم الأسد وإلى دولة غير قادرة بالمطلق على الاستجابة إلى الكوارث الطبيعية وخاصة زلزال بهذا الحجم.

بالنهاية الألم يتضاعف بحق السوريين وبقي الزلزال فقط من لائحة الموت، اليوم يمكننا إضافته إلى هذه اللائحة.

———————————-

فالق شرق الأناضول”: رسائل فوق الركام/ سمير صالحة

لليوم السابع على التوالي تواصل فرق الإنقاذ التركية، البحث عن الأحياء تحت ركام زلزال “فالق شرق الأناضول”، الذي طال 10 مدن جنوبية ووصل إلى شمال سوريا موقعا في الجانبين آلاف القتلى والجرحى ومتسببا بكارثة طبيعية يصعب الخروج المبكر من ارتداداتها الحياتية والاجتماعية والاقتصادية وحتما السياسية.

الأرقام تتحدث عن مشاركة 140 ألف متطوع وناشط وموظف من داخل تركيا وخارجها في حملة سباق مع الزمن لإنقاذ ما بمقدورهم إنقاذه من أرواح تنتظر تحت الأنقاض. لكن حقيقة المشهد المأساوي تتحدث أيضا عن تعرض مساحة جغرافية تتجاوز مساحة ألمانيا لارتدادات الزلزال وتضرر 13،5 مليون مواطن تركي يعيشون هناك وسقوط نحو 6000 آلاف مبنى مما حول الفاجعة إلى كارثة العصر في تركيا. المقلق أكثر هو أرقام يتحدث عنها بعض الأكاديميين الأتراك حول عدد المدنيين الموجودين تحت الركام والذين يقدرونهم بعشرات الآلاف دون أي توضيح رسمي حول ما يقال بعد.

تجاوز عدد الدول المشاركة في عمليات الإنقاذ وتأمين الاحتياجات للمتضررين في زلزال تركيا الثمانين دولة من مختلف بقاع الأرض. العامل الإنساني هو الأول طبعا لكن هناك علاقات دولية ومصالح ثنائية وإقليمية مشتركة أيضا وهناك وهو الأهم مسارعة تركيا للوقوف إلى جانب هذه البلدان في أزماتها وكوارثها الطبيعية والمشاركة في تأمين احتياجاتها دون تردد: رئيسة وزراء فيتنام ورئيس وزراء باكستان يخصصان راتب شهر كامل كمساعدات لمتضرري الزلزال. هي خطوة رمزية إلى جانب ما يقدمه كلا البلدين لتركيا في هذه الآونة. فرق الإغاثة الروسية والأوروبية والأميركية والعربية والإسلامية التي تتحرك فوق الأنقاض على مقربة من بعضها بعضا همها الأول هو انتشال مواطن من تحت الركام. اللغة المختلفة والتباعد السياسي لا مكان له هناك اليوم. 9 دول غربية توترت علاقاتها مع أنقرة قبل يومين من وقوع الزلزال، بسبب إغلاق أبواب قنصلياتها في إسطنبول تحت ذريعة الأسباب الأمنية، تأخذ مكانها في الصف الأول بين القادمين للمساعدة والوقوف إلى جانب تركيا. الرئيس المصري يتصل بنظيره التركي معزيا ومتضامنا ومؤكدا استعدادا بلاده لإرسال المزيد من فرق الإغاثة والدعم. رئيس الوزراء اليوناني يقول كل إمكاناتنا تحت تصرفكم. والفرق الإسرائيلية تضع اللمسات الأخيرة على المستشفى الميداني الذي تنجزه.

في الداخل التركي ينتظر الحزب الحاكم أياما صعبة وهو يرد على تصعيد قوى المعارضة التي أسقطت باكرا جدا الهدنة السياسية رغم هول الكارثة:

– لماذا الإعلان عن حالة الطوارىء لمدة 3 أشهر في المناطق المنكوبة مع أن هناك خيارات قانونية أخرى تمنح المحافظين والبلديات صلاحيات استثنائية في ظروف من هذا النوع؟

– أين ما قيل من قبل قيادات حزب العدالة والتنمية عام 2003 بعد زلزال مدينة بينغول في الشرق التركي والانتقادات اللاذعة إلى قوى المعارضة وقتها وتحميلها مسؤولية سقوط الكثير من المباني بسبب عدم احترام مواصفات البناء والفساد والرشاوى؟

– كيف تعاملت الحكومة مع تحديد أرقام الموازنات العامة المخصصة للعديد من الوزارات والمؤسسات بالمقارنة مع موازنة رئاسة إدارة شؤون الكوارث والطوارىْ التركية (أفاد) التي كان نصيبها 2،3 مليار ليرة في موازنة العام 2023، وهي نسبة متدنية جدا بالمقارنة مع العديد من الأموال المخصصة لمؤسسات رسمية أخرى؟

– هذا إلى جانب مطاردة ما أعلنه الرئيس التركي لناحية الوعد بإعادة بناء ما تهدم خلال عام واحد. وهو الأمر الذي يحتاج إلى طاقات جبارة وتمويل بمليارات الدولارات. وتذكيره أن قوى المعارضة ستحول دون تجييره لهذا الوعد إلى فرصة سياسية انتخابية بعد أشهر.

– ودون أن ننسى نقاشات كيف ستوفر السلطات المليارات لتمويل إعادة بناء ما تهدم وتلبية احتياجات المتضررين المعيشية والاجتماعية والصحية الملحة؟

امتحان جديد لأردوغان وحزبه في السلطة وهما اللذان كانا يستعدان لخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية صعبة بعد 4 أشهر. الأولوية لإكمال عمليات الإنقاذ وإسعاف الجرحى والمصابين ونقل المدنيين إلى مناطق مجاورة وتأمين احتياجاتهم من إيواء وطبابة وطعام وتعليم. الحديث يدور عن عشرات الآلاف الذين ينتظرون هذه المعاملة.

يقول الرئيس التركي إن الدولة ستعيد إنشاء ما تهدم خلال 12 شهرا. رهان كبير في مساحة جغرافية واسعة وسط انتقادات المعارضة السياسية التي رفضت المهادنة وانتظار خروج البلاد من الوضع الإنساني الصعب الذي تعيشه. فما الذي ستفعله حكومة العدالة والتنمية خلال الأشهر الثلاثة القادمة مستفيدة من إعلان حالة الطوارئ في المناطق المنكوبة؟ أم أنه سيكون لردة فعل الطبيعة نتائجها السياسية كما تقول بعض الأصوات المعارضة حول أن الحزب الحاكم جاء بعد زلزال مرمرة عام 1999 وهو قد يرحل بعد زلزال قهرمان مرعش 2023؟ أنصار حزب العدالة لن يتركوه وحيدا طبعا وسيبذلون ما بمقدورهم لإفشال محاولات قلب المعادلات السياسية والحزبية في البلاد وحيث تعجز قوى المعارضة حتى اليوم في إقناع الناخب التركي بالتخلي عن أردوغان وحزبه؟

من يقود السفينة عليه الإبحار بها نحو شاطىء الأمان وإلا فإن الثمن لن يقل عن أضرار وخسائر الكارثة.

إقليميا منح الزلزال في تركيا وسوريا العديد من القيادات السياسية والنخب العلمية وكبار المشرفين على منظمات وهيئات الإغاثة في المنطقة فرصة استخراج الدروس والعبر حيال ما يجري والتأكد أن الوقت قد حان لتبني سياسة إقليمية حقيقية في التعامل مع الكوارث والآفات الطبيعية التي يتزايد عددها يوما بعد يوم. الدرس الأهم ربما هو ضرورة الاستعداد الإقليمي بين دول المنطقة لبناء منظومة علمية متخصصة تساهم في تجهيز الآلاف من فرق الإنقاذ بكفاءات عالية للتعامل مع كوارث طبيعية من هذا النوع. بقدر ما نهتم بالسياسة والاقتصاد والسياحة والأمن والرياضة، مواجهة ارتدادات كوارثنا في الزلازل والحرائق والفيضانات تستحق أن نتوحد معا في الإقليم أيضا. المطلوب هو قيادة مستقلة متخصصة بتمويل موحد ومراكز وفروع في دول المنطقة على تواصل دائم بموازنة تليق بالثروات والخبرات والمؤهلات التي نملكها وروح التضامن والتكافل التي رأيناها فوق الركام.

طالما أن معظم خبراء الجيولوجيا وعلماء الزلازل يحذرون باستمرار من ويلات وكوارث قادمة فالنقاشات حتمية بين دول الإقليم باتجاه بناء هذا التكتل بخطط وبرامج علمية منظمة وفرق عمل مؤهلة تستنفر خلال ساعات وتكون جاهزة للانتقال من دولة إلى أخرى عند اللزوم بعيدا عن نداءات التطوع وحملات التعبئة الشعبية لتلبية الاحتياجات. ستمر الأيام وننسى المصيبة التي حلت بنا ونواصل حياتنا الروتينية بإنتظار كارثة جديدة تحل بنا لنتوحد مجددا في مواجهتها. أليس من الأفضل الاستعداد الحقيقي لمثل هذه الأزمات وتحضير الكوادر المؤهلة والمدربة وأصحاب الخبرة والمهارات لتنظيم عمليات الإنقاذ والتعامل مع الموقف وهو ما ينبغي أن يكون له الأولوية قبل البحث عن متطوعين وانتظار النجوم والمشاهير لتحريك الناس وتنظيم حملات التضامن والتبرعات لمواجهة النكبات؟

———————

كيف أصبح الأسد “ذكياً” في اليوم الخامس لكارثة الزلزال؟/ إياد الجعفري

قبل نحو يومين من كتابة هذه السطور، مرّر خبير دولي في الشؤون السورية، عبر تقرير لوكالة “رويترز”، رسالةً قال فيها: “إذا كان (الأسد) ذكياً، فإنه سيسهل إيصال المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرته وسيحصل على فرصة ليبدو كما لو كان شخصاً مسؤولاً، لكن النظام عنيد للغاية”.

بعيد تمرير هذه الرسالة، بساعات، بدأت سياسة النظام تتبدل. وباستثناء ابتسامات الأسد وزوجته، المُجافية للحس الإنساني وللذوق العام المُفترض في هكذh مواقف، في أثناء تفقدهم لمواقع متضررة في حلب.. أصدرت المؤسسات الخاضعة لسيطرته، سلسلة قرارات تسمح لنا باستشعار “دمٍ جديدٍ” بُث في عروقها.

ولا نعرف بعد، أهي شركة العلاقات العامة التي تحدثت عنها “وول ستريت جورنال” الأميركية، التي أقنعت رأس النظام السوري، بشار الأسد، بذلك.. أم أنه أحد وزراء حكومته الذين ظهر أكثر من واحدٍ منهم في مواقف وجدانية نسبياً، في الأيام القليلة الماضية، توحي بأنهم ربما استشعروا أخيراً وجع القابضين على أمرهم، ومدى هول الكارثة على الأرض، وعجزهم الكبير حيالها.. أم أن الأمر مجرد تكتيك رتبه يسار إبراهيم، خازن القصر الجمهوري، بتنسيق مع المصرفية السابقة، أسماء الأخرس، عقيلة الأسد، بغية اجتذاب موارد مالية من الخارج على وقع الكارثة، بعد أن تبيّن لهم أن لا سبيل آخر لذلك، إلا هذا.

ما نعرفه فقط، أن الخط العام لسياسة النظام حيال كارثة الزلزال، قد انقلب في اليوم الخامس بعد وقوعها، بصورة دراماتيكية. وبعد أن كان النظام يُظهر درجة مثيرة للغثيان من التصلّب “الدبلوماسي” و”القانوني”، تتصف بقِصَرِ أفقٍ مزمن، وانفصالٍ تام عن الشارع المُلتاع حيال مشاهد الكارثة، ومعالمها، وتفاصيلها الإنسانية، في مناطق سيطرته، قبل المناطق الخارجة عنها.. تحوّل النظام إلى مسارٍ مغاير، تماماً.إذ أوقف المصرف المركزي السرقة العلنية المكشوفة لدولارات المنظمات الدولية، ورفع سعر تصريف القطع الأجنبي الوارد منها، من 4522 ليرة سورية إلى 6900 ليرة سورية، في إجراءٍ يستهدف اجتذاب مزيد من المساعي الإنسانية والإغاثية الدولية، على وقع الزلزال. وقد كانت هذه السرقة إحدى مصادر عدم الثقة بين المجتمع الدولي، وبين النظام السوري، لسنوات.

وبعد أن كان النظام يصرّ في الأيام الأربعة الأولى، بعيد كارثة الزلزال، أن تمرّ أي مساعدات إغاثية دولية، عبر قناته، وبإشراف منه، بما فيها تلك التي من المزمع توجيهها للمناطق الخارجة عن سيطرته، بذريعة سيطرة “إرهابيين”، عليها.. أصدرت حكومته، في اليوم الخامس، قراراً بإعلان المناطق المتضررة، مناطق منكوبة. وقال “مجلس الوزراء” التابع للنظام، في بيان إعلان قراره ذاك، إنه يدرك ما يترتب على هذا التوصيف من آثار.

ويعني توصيف المناطق “المنكوبة”، إقراراً بالعجز من جانب النظام، عن إنقاذ وإغاثة المتضررين، بشرياً ومادياً. ووفق المتعارف عليه دولياً، يعني هذا الإقرار، القبول بنشاط يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، للمنظمات الإغاثية والإنسانية الدولية، للعمل على الأرض، دون تدخل من السلطات “الرسمية”.

وبعد أن كان النظام يُسقط إدلب، تماماً، من خطابه الإعلامي والإحصائي، في أثناء الحديث عن المناطق المتضررة، في الأيام الأربعة الأولى للكارثة، جاء إدراج المحافظة، ضمن بيان مجلس الوزراء الذي أعلنها إحدى المناطق “المنكوبة”، مع الإشارة إلى الموافقة على “إيصال المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء الجمهورية العربية السورية بما في ذلك عبر الخطوط من داخل الأراضي التي تسيطر عليها الدولة إلى المناطق التي تقع خارج السيطرة”. وتعني صياغة الجملة الأخيرة، أن النظام يقبل بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الواقعة خارج سيطرته، عبر الحدود أيضاً. وهو ما يعني قبولاً بالاتجاه الدولي الضاغط لفتح معابر أخرى من الحدود التركية إلى الشمال الغربي من سوريا، غير معبر باب الهوى، استجابةً لكارثة الزلزال.

بعض المراقبين، قرأ التغيّر الذي طرأ الجمعة، تحديداً، مع إعلان المناطق “المنكوبة”، وما يترتب عليه، في العُرف الدولي، أنه نتيجة مقايضة بين النظام والولايات المتحدة الأميركية. إذ علّقت الأخيرة جانباً كبيراً من عقوباتها على النظام، استجابةً لكارثة الزلزال، وتحت عنوان المساعدة في معالجة آثاره. وأبرز ما أُزيل من لائحة العقوبات، لستة أشهر، بند التحويلات المالية إلى سوريا. وهو ما سيفتح باباً واسعاً للتحويلات المصرفية الكبيرة من الخارج إلى أروقة القطاع المصرفي وقطاع شركات ومكاتب الصرافة، في سوريا. سواء في مناطق سيطرة النظام، أو في المناطق الخارجة عن سيطرته. إذ ستُعلَّق كل القيود السابقة، بهذا الخصوص، تحت عنوان مكافحة آثار الزلزال.

لكن بيان مجلس الوزراء، نفسه، تضمن إشارة معاكسة لما سبق، إذ أشار إلى حصر تسليم المساعدات باللجنة العليا للإغاثة التابعة للنظام، على أن تتولى هذه الأخيرة توزيعها على المحافظات المتضررة، على أن يقوم المحافظون بإدارة عملية التوزيع في كل محافظة على حدة.

يتناقض هذا الحصر، مع توصيف المناطق “المنكوبة”، المتعارف عليه دولياً. مما يؤشر إلى أن النظام يُبطن غير ما يُعلن، ويسعى إلى الإمساك بالمساعدات، عبر آلة “الدولة” الخاضعة له، والتي يخترقها الفساد بصورة هائلة، وتمسك الأجهزة الأمنية بتلابيبها، بصورة لا فكاك منها. وإن كان من غير الواضح بعد كيف ستُترجم تلك الإشارات المتناقضة ضمن بيان مجلس الوزراء، إلا أنه من المرجح أن ينطبق ذاك الحصر في توزيع المساعدات، على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فيما سينطبق على تلك الخارجة عن سيطرته، توصيف “المنكوبة” إلى أقصاه، مما سيجعل حركة توريد المساعدات إلى إدلب وشمالي حلب، حرةً من أي قيود، خلال فترة سريان توصيف “المنطقة المنكوبة”، حتى يرفع النظام هذا التوصيف، فتعود إلى حالتها الأولى، في التوصيف الدولي، بوصفها مناطق خارج سيطرة “الدولة”، لا يجوز التعامل معها، إلا بقرار مُجمع عليه دولياً، أو بالتنسيق مع الممسكين بزمام تلك “الدولة”، بالعاصمة دمشق.

ورغم أن الأوان قد فات على إنقاذ أرواح جديدة تحت أنقاض كارثة فجر الإثنين الفائت، إلا أن باب أملٍ فُتح بأن تتدفق المساعدات، والتحويلات المالية، دون قيود كبيرة، إلى مختلف المناطق السورية، بصورة قد تتيح تحقيق مكافحة أجدى للآثار الكارثية للزلزال. فالنظام خفّف قيوده “اللاإنسانية”، والأميركيون رفعوا بدورهم، جانباً من قيودهم العقابية على النظام. ورغم أن نظام الأسد سيستفيد من رفع القيود على الحوالات المالية، في ترميم خزينته بالدولارات الآتية من الخارج، إلا أن ذلك سينعكس بدوره إيجاباً، أو هذا ما يجب أن يحدث، على معيشة السوريين ومساعيهم لإزالة آثار الزلزال وتضميد جراحهم في مناطق سيطرة النظام. وسيسري الأمر نفسه، على الضفة الأخرى، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بعد أن أُهملت في أحلك ساعات ما بعد الكارثة، على وقع الانشغال بالشق التركي من المأساة، وعلى وقع التعنت السابق للنظام في رفض دخول المساعدات إلا من قناة ضيقة لا ترقى إلى حجم هول المصيبة التي ألمت بساكني تلك المناطق.

—————————-

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا/ حسام جزماتي

يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليُروا أعمالهم

حين كنا نخرج مسرعين من المبنى تشكّلت أولى انطباعاتي عن الزلزال الذي كان قد وقع للتو. لم يفقد الجيران آدميتهم، فانتظروا مرور امرأة عجوز عبر الباب الخارجي ببطء فرضته عكازتها الحديدية وجسمها الثقيل. لم أكن قد استوعبت ما حدث لكن درجة القلق التي لم تصل إلى التدافع على فرصة الحياة أشعرتني بالأمان. فما يصل بين الخارجين من منازلهم وتلك الكارثة القادمة من أعماق الأرض أرهف مما نعرف، وبما أن الطين لم يتقافز طلباً للنجاة فالأمور بخير. أو على الأقل كان هذا ما توهمته قبل أن تصل الأنباء من مناطق أخرى نالها قدر أكبر بكثير من الدمار مما حصل في مدينة غازي عنتاب التركية التي أقطنها.

يبدأ الزلزال ذاتياً ثم يتوضّع بالتدريج، لكل منا هزته قبل أن تتجمع المعلومات وتستقر في تقرير شامل وبارد. وهكذا أخذنا نفهم ببطء حجم حصتنا من حدث كان قد ترك نتائج مرعبة في مدن تركية أخرى، كأنطاكية ومرعش، وفي الشمال السوري، كسلقين وجنديرس والأتارب، وفي حلب واللاذقية وحماة من مناطق النظام. وبالتدريج أخذنا نشعر، نحن بعض سكان عنتاب، أننا نحظى بمؤازرة الأصدقاء أكثر مما نستحق، وبالنيابة عن مدن مكسورة تتناثر الفجيعة في كل شوارعها. لكن هذا لم يكن رأي كثير من الأتراك والسوريين الذين دفعهم الرعب إلى الإقامة في سياراتهم، أو في بعض المقاهي، ثم في مراكز عامة للإيواء، أو في الخيام. لم يكن هذا ضرورياً من ناحية عملية وبالقياس إلى حجم الضرر الفعلي، لكن من الذي يستطيع السيطرة على الذعر الجماعي في ظل الانشغال بأولوية المناطق المنكوبة؟

حين تختار منزلك تفكر في عوامل متنوعة؛ المساحة والحيّ والطابق والمواصلات والإكساء، من دون أن تنتبه إلى أن أحد الجدران يقف ببراءة ماكرة وهو ينتظر أن ينقض عليك ذات فجر مباغت بعد سنوات. أفكر في هذا الآن وأنا أراقب الشقوق القديمة والمستجدة في الجدار. يؤكد الجميع أنهم لن يرجعوا إلى بيوتهم قبل أن تفحصها لجنة هندسية، فيما اكتفيت بمؤشر عودة القطط إلى جولتها الكسولة في الفناء واستلقائها المسترخي في حوض الزرع لتتعرض لشمس الضحى.

فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره

خلال سويعات تحولت آلاف الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر لبث الاستغاثات وجمع المعونات وتنظيم الحملات. قفز لاهون وساخرون وخاملون إلى أتون المساهمة في الفعل بحرقة بشكل إسعافي. اختفت العدمية وامتلأ التايملاين بالرافعات والحفارات والبواكر وناقلات الأنقاض، بالبطانيات وملابس الأطفال ومطربانات الزيتون، بحسابات المنظمات الموثوقة وعناوين العائلات العالقة تحت الأرض. في المناطق المحررة انتشرت صور الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، فرحين حيناً وقلقين أحياناً ومرهقين دوماً. في المدن التي يسيطر عليها بشار الأسد عملت منظمات إنقاذ متعددة ولم يجر التركيز على إحداها. وفي الطرفين عمل الأهالي بأنفسهم، حفروا بأيديهم وزودوا الآليات بالوقود في انتظار أن يطل ذووهم من تحت الردم، في أمل كان يتناقص بالتدريج مع تقدم عدّاد الساعات في علقم الترقب.

    رغم تعب السنوات الماضية والاستنزافات المتتالية في كلا الضفتين؛ أوجد الناس شبكات من التضامن الحار والفاعل الذي كاد أن يخترق الهوة بينهما أحياناً

رغم تعب السنوات الماضية والاستنزافات المتتالية في كلا الضفتين؛ أوجد الناس شبكات من التضامن الحار والفاعل الذي كاد أن يخترق الهوة بينهما أحياناً، لكن انشغال كل أصحاب هدم بجثث أحبائهم حال دون ذلك، فضلاً عن السلطات القائمة التي فعلت ما في وسعها للاستئثار بسمعة تلبية حاجة مناطقها، معرقلة أي بادرة تعاون أو تعاضد قد تسمح لحكومة طرف آخر بأن «تعلّم» عليها، حتى ولو كان الثمن إعاقة أعمال الإنقاذ.

ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره

كالعادة كان للنظام الحظ الأوفر في المتاجرة حتى بالكوارث الطبيعية، فمن جهة استأثر بالمساعدات التي قدمتها بعض الدول لسوريا، بما أنه يحتل التمثيل الرسمي للبلد حتى الآن ورغم كل شيء، ومن جهة أخرى استغل الفرصة لتأكيد الإشاعة التي يبثها بين مواطنيه، والتي تقول بأن سبب ما يعانونه من أوضاع إنسانية وخدمية صعبة هو العقوبات الأميركية في قانون قيصر، مطالباً بإلغائها، على الرغم من أن هذه الحواجز لا تطول المساعدات الإنسانية والصحية.

بعد أيام من الكارثة زار بشار الأسد مدينتي حلب واللاذقية، مصطحباً زوجته، أسماء الأخرس، التي تعبُر بشكل مطّرد المساحة الإنسانية المحددة لزوجة رئيس و«سيدة أولى» إلى المشاركة الفعلية في الحكم. فقد نقلت رئاسة الجمهورية أن الزوجين اجتمعا «بأعضاء غرفة العمليات في مدينة حلب والتي تضم الجهات الحكومية والمنظمات والجمعيات الأهلية والفعاليات التجارية والصناعية القائمة على إدارة ملف الإغاثة»، واستمعا إلى «توصيف للواقع الراهن إثر الزلزال والأبنية التي تهدمت بشكل مباشر وعدد الضحايا الذي نتج عن هذا الدمار، والآلية التي تم وضعها سواء لجهة إزالة الأنقاض وانتشال الضحايا والمصابين، أو لجهة الاستجابة الطارئة»، قبل أن يزود الأسد الموجودين بتوجيهاته التي تضمنت «التفكير بشكل منهجي» واستغلال «خطط التعافي» لتنمية المدينة، منوهاً إلى أن «الحالة الإنسانية غير موجودة لدى الغرب»، مذكراً بجرائم الاستعمار القديم والحديث.

على مقلب مجاور كان دريد الأسد، ابن عمه الشهير رفعت، يدفع بابنته المفضلة شمس كي تصبح «برنسيس». فبعد أن أسس لها شركة باذخة لإنتاج العطور الطبيعية، وكانت دون الثامنة عشرة، يبادر الآن إلى تشجيعها للعب دور اجتماعي من موقع نخبوي. فقد بادرت الصبية، التي لم تبلغ العشرين، وبدعم من والدها «المعطاء والخلوق» كما تصفه، إلى توزيع سلات غذائية ومبالغ مالية على المتضررين المتجمعين في صالة رياضية باللاذقية، وفي قرية اسطامو بريفها، لتطمئننا أخيراً: «هلأ خلصت مشفى تشرين. الحمد لله الوضع كتير ممتاز والكادر الطبي مو مقصر أبداً»!

وفي الشمال لم تكن «فرصة» كهذه لتفوت على شهوة الاستعراض لأبي محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام، الذي صرّح، بوصفه «قيادة المحرر» العامة، بأنه يقف «إلى جانب شعبنا» في مصابه الجلل. وتحت تأثير الظرف يتجاوز، مثله مثل أسماء الأخرس، البناء الشكلي لحكومة الإنقاذ، قائلاً: «انطلاقاً من واجبنا، قمنا منذ اللحظة الأولى بتوجيه كافة المؤسسات الحكومية للاستنفار الشامل». وبالفعل لم تتوقف أجهزة الحكومة الصورية عن عقد المؤتمرات الصحفية ونشر البيانات والتصريحات والصور والإنفوغراف، مع حد أدنى من العمل المثمر. فيما بادر الجولاني إلى ترؤس لجنة استجابة طارئة والتجول، برفقة أبي مارية القحطاني العراقي، على المناطق المنكوبة، بما فيها جنديرس التي تقع تحت سلطة الحكومة المؤقتة، ودخلها بحماية حلفائه من العمشات والحمزات في «الجيش الوطني»!!

———————————

الزلزال الذي أيقظ الجميع/ أحمد مظهر سعدو

يتعين وجود العلاقات الشعبية المنجدلة والمندمجة بين شعبين جارين بدلالة عمق الممارسة وفاعلياتها الميدانية على أرض الواقع. وقد ظهرت وطفت على السطح هذه العلاقات الإيجابية في مجمل الأنساق المجتمعية السورية/ التركية، من خلال تجليات الواقع الصعب والمر الذي مرت بها المجتمعات السورية في تركيا وأيضاً التركية، إبّان الزلزال الكارثي الكبير والمخيف الذي ضرب عشر ولايات تركية جنوبية، وكذلك معظم الشمال السوري، الذي يقطنه الملايين من أبناء سوريا سواء الذين هُجّروا قسرياً من قبل النظام السوري في حربه المدمرة على السوريين. أو ممن هم أصحاب القرى والمدن الأصليين الذين يعيشون وينتمون للأرض السورية في شمالي سوريا بكليته.

لحظات غاية في الصعوبة عاشها الأتراك والسوريون من جراء استفاقتهم على أصوات ليست كالأصوات، وذعر وخوف أصاب الجميع بلا استثناء، وذلك منذ الساعات الأولى للكارثة الطبيعية التي بدأت مع علامات الفجر الأولى، ومع هول المصاب وحالة الذعر الكبرى التي بدت على وجوه الناس في جنوب تركيا من أتراك وسوريين كنا نلحظ حالة التآلف والتضامن والاندماج بين الجميع، والانشغال جدياً وطبيعياً في إنقاذ أي عالق تحت الأنقاض، من حيث أن الهم والألم كان وما يزال مشتركا، فلمَ لا يكون التعاون والعمل والإنقاذ مشتركاً أيضاً، ولأنّ المستقبل هو الآخر يتموضع في جوانبه حالات المشترك البيني بين الشعبين، فقد وجدنا ذلك فعلًا وعملًا لحظيًا واقعاً وممارساً، وليس أضغاث أحلام، أو أوهاماً كما يحلو للبعض أن يصفوه.

ومن حيث أن الناس عادة ما يجتمعون ويتآلفون ويتعاونون في المصائب، فقد لاحظنا ذلك الاشتغال تعاونياً بين السوريين والأتراك على قدم وساق، وراح الناس في (غازي عنتاب) ضمن نطاق كل المرافق والأماكن، وكل الأحياء، وأمام حالات الهدم والانهيارات الكبرى التي جرت لبعض الأبنية نتيجة الزلزال المدمر، وبالطبع فمدينة عنتاب كانت إحدى الولايات المتضرّرة من زلزال 6 شباط 2023. وجدنا وتابعنا الناس تتراكض (من ترك وسوريين) لهفة وعوناً وإيثاراً لمساعدة الطواقم الإنقاذية المعنية في عمليات انتشال البشر من تحت الركام، وووجدنا أن الكثيرين جداً من أبناء سوريا المهجّرين قسراً إلى تركيا، راحو يتطوعون جماعات وفرادى للمساعدة في أي شيء يمكنهم فعله، من عمليات إنقاذ أو تبرع بالدم، أو توزيع مواد غذائية، أو إيصال من يمكن إيصاله إلى المشافي.

ويبدو أن الكارثة الكبرى التي ضربت عشر ولايات كانت فوق طاقة وقدرة الطواقم الإنقاذية التركية، مع العلم كان هناك عمليات إعداد وتهيئة تحسباً لمثل هذه الكوارث قبل أشهر، وأُطلقت عدة إنذارات وعمليات تدريبية، إلا أن حجم الكارثة الكبير والواسع حال دون إمكانية الاشتغال على ذلك، من دون مساعدات الناس المتطوعين، أو الطواقم الإسعافية الدولية، وهي التي تأخرت كثيراً في الوصول إلى أماكن ومواقع الكارثة حتى بات السوري والتركي لا ينام الليل بحثاً عن حياة ما لشخص، أو طفل أو امرأة، وقد استطاعات هذه الفرق التطوعية الكثيرة أن تسهم في إنقاذ العشرات ممن كانوا تحت الردم والركام لأيام متتابعة.

إذ لم تكن تلك الهبة الشعبية التركية السورية غير متوقعة، لا داخل تركيا ولا في مناطق الشمال السوري المنكوب، ولم يكن أحد يتصور أن الناس لن تساعد بعضها، أو تتعاون في لملمة الجراح، لكن ما رأيناه من حالات ميدانية ومساعدة شعبية للمؤسسات والهيئات المعنية بالإنقاذ فاق كل حد وجعلنا نتساءل: هل سيترك هذا التعاون والإيثار التلقائي الذي رأيناه، ملامحه في قادم الأيام على العلاقات البينية الشعبية السورية التركية؟ وهل سنشهد في قادم الأيام أيضاً ركلاً وكنساً نهائياً لكل حالات العنصرية التي طالما عانى منها السوريون خلال الأشهر أو السنوات الأخيرة؟

يبدو وبحسب القراءة المتأنية للحالات الانجدالية التعاونية الودية التي تبدت لحظة الكارثة المهولة أشرت وبشكل واضح إلى تغير جدي وحقيقي في المزاج الشعبي التركي نحو إعادة القبول والاندماج مع أهلهم المسلمين السوريين، وهو ما يجب أن يبنى عليه موضوعياً وحياتياً من قبل الساسة الأتراك، وأيضاً الساسة السوريين في المعارضة السورية. وتأسيساً على ذلك فإن إعادة صياغة العلاقة على أسس موضوعية وواضحة بين السوريين والأتراك باتت مسألة ضروروية وملحة، كي لانقع مرة أخرى وفي المستقبل ضمن دائرة الخطر وحالات (العنصرة) التي كانت.

الزلزال الذي حدث كان الكارثة الكبرى بكل المقاييس، لكنه أيضاً وعبر استيعاب حالات الألم، سوف يعطي الأمل بمزيد من التعاون والمحبة والاشتغال على بناءات متجددة تشاد ليس بنيانياً في الأبنية التي انهارت فحسب، بل كذلك وهو الأهم في إعادة بناء العلاقة الأخوية السورية التركية الشعبية وفق معايير جديدة تكون قادرة على لم الصفوف للتصدي لأي كارثة داخلية أو خارجية، ضمن منطق العلاقة المستقبلية، والمصلحة المهمة التي تجمع الجميع، فهل سنشهد مثل ذلك في مستقبلات الأيام؟

ومن يقرأ التغيرات المجتمعية التي تحصل عادة من جراء الكوارث يمكنه أن يتوقع المزيد من رسم ملامح مستقبل مشترك لا بد قادم، يؤسس لعلاقة اندماجية واعية ومدركة للمصالح والمآلات، ومستوعبة لما يمكن أن يفعله الإرهاب القادم من قبل نظام بشار الأسد، أو الإرهاب القسدي والـ(ب ك ك) وهو الآخر الذي يحاول دائماً اللعب لزعزعة الثقة بين البنيان المشترك السوري التركي الشعبي المتين والمدرك لطبيعة العلاقة المستقبلية.

وإذا كان الزلزال قد أزهق الأرواح وأنتج الآلاف من المعوقين والجرحى، ودمر البنية التحتية، فإن إرادات السوريين والأتراك المشتركة والمتعاونة، يمكنها أن تعيد تشييد البناءات بكل أنواعها على أسس جديدة ووعي عقلاني مطابق وفاعل ويحمل إمكانية التغيير المتطلع نحو الأفضل والأجمل والأرقى دائماً لكلا الشعبين.

————————-

كارثة الزلزال في سوريا جرس إنذار للعالم/ محمود علوش

إذا أردت البحث عن المعنى الحقيقي للخذلان العالمي في مكان ما في هذا العالم، فإنه يتجسّد في أسوأ صوره في سوريا.

على مدى أعوام الصراع الـ12 الماضية، بدا العالم عاجزاً عن وقف آلة القتل والتدمير التي أطلقها النظام ضد المناطق التي خرجت عن سيطرته بعد اندلاع الحرب. وأضحت المأساة الإنسانية السورية أقل من ثانوية في الأولويات العالمية مع مرور الوقت. مع أن الكثير من دول العالم باستثناء بعض الدول العربية، التي أعادت علاقاتها مع نظام الأسد، ما تزال تتبنى موقفاً سياسياً مناهضاً للنظام، إلآّ أن معظم دول العالم باتت تُقارب المسألة السورية من منظور أن النظام انتصر في الحرب وأنه لم يعد بالإمكان تجاهل الواقع الجديد الذي فرضه.

حتى إن الدول الغربية، التي تفرض عقوبات على النظام، أصبح سقف طموحاتها تحقيق تسوية سياسية للصراع بدلاً من جعل النظام يدفع ثمن جرائم الحرب التي ارتكبها بحق السوريين. لقد جاءت الكارثة التي أحدثها الزلزال المدمر في سوريا وتركيا في السادس من شباط الجاري لتُشكل جرس إنذار للعالم بأن تجاهل المأساة السورية لا يُحول سوريا فحسب إلى دولة فاشلة مُهددة للاستقرار الإقليمي والعالمي، بل يعمل أيضاً على تسمين مأساة إنسانية في هذا البلد على نحو خطير.

مؤخراً، أقر منسق الإغاثة في الأمم المتحدة مارتن غريفيث بأن المنظمة الدولية خذلت السوريين في شمال غربي البلاد بعد كارثة الزلزال وبأنهم محقون في شعورهم بتخلي العالم عنهم. لكنّ ما لم يقله غريفيث هو أن معضلة إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة من جراء الزلزال لا تقتصر فقط على وجود معبر وحيد مفتوح بين تركيا وسوريا لإدخال المساعدات من خلاله، بل تتعلق بجانب أخطر من جوانب الإهمال العالمي للمأساة السورية وهو تحوّل ملف المساعدات الإنسانية إلى ورقة للمساومة بين روسيا والغرب في مجلس الأمن الدولي من أجل الضغط على العالم للانفتاح على النظام السوري والقبول به كأمر واقع.

مع أن الرضوخ الدولي لروسيا في السابق أدى إلى اقتصار معابر المساعدات على معبر واحد فقط، فإن مواصلة الاستسلام لتسييس ملف المساعدات الإنسانية يجعل العالم عاجزاً عن إبداء استجابة ضرورية لإغاثة المناطق المنكوبة في شمال غربي البلاد. يعيش الآن ما يقرب من أربعة ملايين سوري في هذه المنطقة بين مقيم ونازح قسراً وهي تُعاني أصلاً من وضع اقتصادي صعب وبنية تحتية مُدمّرة بفعل الحرب، والخذلان العالمي لها بعد كارثة الزلزال سيُحوّلها إلى أسوأ بؤرة في العالم من حيث خطورة الأوضاع الإنسانية والاقتصادية.

بمقدار كون الاستجابة العالمية لكارثة الزلزال ينبغي أن تولي أهمية قصوى للاعتبارات الإنسانية على أي اعتبارات سياسية، فإن السماح للأسد بالاستفادة من الكارثة من أجل كسر عزلته الدولية يُقوض على المدى البعيد أي فرصة لإحداث سلام حقيقي في سوريا. أبلت القوى الغربية بلاءً حسناً في عدم إظهار استعدادها للموافقة على شروط النظام بإرسال المساعدات إلى المناطق المتضررة من الزلزال بالتنسيق معه، لكنّ التأخير في وضع خطّة بديلة لتجنب الابتزاز الذي يمارسه النظام، يفاقم من الوضع الإنساني الخطير في شمال غربي البلاد.

أزعم أن كثيراً من السوريين المنكوبين في المناطق الخاضعة للمعارضة يُفضّلون البقاء من دون مساعدات دولية على الحصول عليها من خلال النظام وإعادة تعويمه دولياً. لقد كان للزلزال وقع مدمر على ما تبقى من مقومات للحياة في هذه المنطقة، لكنّه ينبغي على العالم أن يتذكّر أيضاً بأن المأساة الإنسانية في المنطقة كانت قائمة بالفعل قبل كارثة الزلزال وبأن النظام السوري هو المسؤول أولاً وأخيراً عن هذا الوضع. بعد ما يزيد من أسبوع على الزلزال فشل المجتمع الدولي بشكل ذريع في الانخراط بجهود الإغاثة المحلية المتواضعة ما حرم الكثير من السوريين تحت الأنقاض فرصة البقاء على قيد الحياة، لكنّ عدم المشاركة العاجلة في جهود التعاقي من تداعيات الزلزال سيكون له وقع أسوأ على حياة ملايين السوريين.

ما يزيد من خطورة الوضع الإنساني في شمالي سوريا أن الدمار الهائل الذي تسبب به الزلزال أيضاً في ولايات الجنوب التركي يُضعف من قدرة تركيا على مواصلة التزامها بإعادة إنعاش المناطق التي تُديرها في الشمال السوري من تبعات الحرب. وحقيقة أن كثيراً من اللاجئين السوريين في تركيا والذين يُشكلون مصدراً مالياً رئيسياً لمساعدة أسرهم وأقربائهم في الداخل السوري، تجعل الوضع أسوأ على السوريين في شمال غربي البلاد.

إن اكتفاء العالم بالتفرج على مزيد من الانهيار الاقتصادي والمجتمعي في مناطق المعارضة السورية سيكون له وقع كارثي على ملايين السوريين الذين يعيشون فيها. بقدر الحاجة إلى انخراط دولي في إعادة إعمار المناطق المنكوبة في سوريا من جراء الزلزال، فإن الكارثة الجديدة ينبغي أن تُذكر العالم أيضاً بأن سوريا بحاجة قبل كل شيء إلى سلام يُنهي هذه الحرب. من المهم أن لا يقتصر النقاش العالمي في الوقت الراهن على سبل إدخال المساعدات إلى شمالي سوريا، بل أن يشمل الحاجة إلى إعادة الاهتمام العالمي بالقضية السورية. في حين أن العالم يستسلم بشكل متزايد للواقع الجديد الذي فرضه النظام بعد 12 عاماً من الحرب، فإن كارثة الزلزال تُشكل جرس إنذار للعالم بأن تجاهل الأبعاد العميقة للمأساة السورية لن يؤدي سوى إلى تبديد أي فرصة لإحلال سلام حقيقي ومستدام في سوريا في المستقبل.

————————–

تفوّق الشبكات الاجتماعية في الاستجابة للكارثة السورية/ عبد الناصر الجاسم

تفرض الكوارث الطبيعية وفي مقدمتها الزلازل المدمّرة على الناس مشهداً من الموت والخوف والتشتت منذ لحظة وقوعها فيصبح كل ما يحيط بنا مصدراً للخطر، السقف والجدران التي كنا نحتمي بها والسرير الذي كنا ننام عليه وأدوات المطبخ التي كانت تجمعنا حول مائدة الطعام، حتى أفراد الأسرة الذين كنا نسكن إليهم ونعانقهم حين ينتابنا الحنين أو الوهن أو التعب أو المرض، حتى جيراننا الذين نتقاسم معهم الحياة يصبحون مصدراً للخطر حين نتزاحم على أدراج النجاة، حقيقة بشعة ومُرة لكنها للأسف حقيقة.

والذي زاد المشهد السوري خصوصية وكارثية أن هذا الزلزال وقع في توقيت خاص من حياة السوريين الذين أتعبتهم استمرارية النزاع وشردتهم واستهلكت من نفوسهم طاقاتها وآمالها، وأصاب مناطق صدّعتها آليات الصراع وفتكت بها مختلف صنوف الأسلحة المدمرة في سياق كثافة سكانية ونزوح قلق وبيئة هشة كل ما فيها ضعيف ومؤقت، فجاءت الكارثة مضاعفة.

الزلزال السوري والاستجابة

تكون الاستجابة في حال وقوع هذا النوع من الكوارث والزلازل المدمرة مسؤولية الجميع من الفرد إلى دوائر الشبكات المجتمعية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ومنظمات المجتمع المدني والحكومات المحلية والدولة، والدول ومنظمات المجتمع الدولي وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

من الذي استجاب وكيف؟

تفوقت المبادرات الفردية والشبكات المجتمعية السورية في سرعة الاستجابة ونوعيتها على جميع مصادر الاستجابة المُفترَضة، ولا يُستثنى من ذلك سوى منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) والتي لو عمدنا إلى تحليل  مضمون نشاطها التطوعي والثوري فلن نجده بعيداً عن جوهر الشبكات المجتمعية والمبادرات الفردية المدفوعة بروح إنسانية وثورية، والأيام العصيبة التي مرت غنية وثرّة بقصص التضامن والتكافل المجتمعي لدى جميع السوريين أينما كانوا وحيثما نُكِبوا.

ولم تغب المبادرات الفردية عن صفحات التواصل الاجتماعي ولم تنقطع حوارات ومبادرات الشبكات المجتمعية بين مجاميع السوريين اللاجئين والمهاجرين والمُهجرين والقابضين على الجمر في الداخل السوري، وكأن الشعب السوري يعيش ورشة تضامن وتكافل مع ألم الكارثة والفقد، وتعالت أصوات السوريين تتضامن مع المناطق المنكوبة في حلب واللاذقية وإدلب وعفرين وحماه واعزاز والباب بصوتٍ عابرٍ لكل الحدود المصطنعة.

لماذا تأخرت استجابة كثير من منظمات المجتمع المدني؟

تعمل منظمات العمل الإنساني والإغاثي ضمن مناطق تسيطر عليها سلطات أمر واقع مختلفة وترتبط هذه المنظمات مع هذه القوى بعلاقات ومنافع متبادلة أوصلتها في نهاية المطاف إلى ربط استجاباتها ومشروعاتها وفق توجهات القوى المسيطرة، وهذا يشمل مناطق سيطرة النظام ومناطق الشمال (الغربي – الشرقي) في سوريا.

من جانب آخر هناك بعض المنظمات لا تملك القدرات ولا الخبرات التي تمكّنها من الاستجابة المباشرة لأعمال الإخلاء والإنقاذ، وربما يكون دورها بعد الأيام الثلاثة الأولى للكارثة، إذ يكون شكل الاستجابة مختلفاً مثل دفن الموتى وإيواء الناجين وإطعامهم وضمان انتقالهم.

كيف كانت استجابة الدولة وحكومتها؟

بات من المعروف لدى جميع السوريين بأن حكومة نظام بشار الأسد لا تهتم للكوارث التي تحل بالشعب السوري إلا من زاوية استثمارها في المزادات السياسية لتحقيق مزيد من المكاسب ولو كان ثمن هذه المكاسب دمعاً ودماً، لذلك كانت هذه الاستجابة الاستعراضية من رأس النظام والتي تنمّ عن تشفٍّ واستهتار واستثمار، متوقعة من غالبية المجتمع السوري.

أما في الشمال السوري المنكوب فلا توجد دولة ولا حكومة مركزية، ولا يمكن التعويل على مؤسسات المعارضة الرسمية كالائتلاف والحكومة المؤقتة، التي فشلت في اختبارات كثيرة سابقة على صعيد سياسي واقتصادي وأمني، فكيف لنا أن نتأمل منها نتائج فاعلة في سياق كارثة طبيعية مدمِّرة وغير مسبوقة، وهذا ينسحب على كيانات سياسية في إدلب وفي منطقة شرق الفرات على حدٍّ سواء، فجميعها تعمل وفق توجهات مشغليها.

كيف كانت استجابة المجتمع الدولي؟

هنا يمكننا تصنيف الاستجابة إلى مستويين: مستوى الأفراد والمنظمات ومستوى الحكومات وهيئاتها، فعلى صعيد الأفراد ومنظمات إنسانية وشبكات اجتماعية، فقد لمسنا تعاطفاً شديداً مع الكارثة وآثارها التدميرية وتجسد ذلك من خلال إرسال التبرعات العينية والنقدية عبر القنوات الممكنة، وكذلك من خلال التغطيات الإعلامية المستمرة وتفعيل شبكات التواصل مع الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المنكوبة أو مع من له صلة بهم، وشهدنا حملات كثيرة وكبيرة من الشعوب العربية وغير العربية ووصل بعض المتطوعون بالجهد والخبرات والمال إلى أرض الكارثة.

أما على مستوى الحكومات والدول فقد كانت الاستجابة بالعموم باردة وبطيئة ولم تستطع أن تعبُر خطوطها وقيودها السياسية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل زاد عن ذلك بأن بعض الأنظمة العربية والدولية استغلت هذا الظرف الكارثي وحاولت ممارسة نوع من التطبيع مع نظام الأسد بغطاء إنساني، هذا النظام الذي ما زال مستمراً بتدمير سوريا وبشدة فاقت شدة هذا الزلزال المدمر بعشرات المرات وبشتى أنواع التدمير.

الموقف المُخزي لهيئة الأمم المتحدة

منذ بدء الثورة السورية وما تلاها من تحولات على صعيد الواقع والمواقف والتشتت والتشظي، والتراجع والتقدم، كان موقف الأمم المتحدة وعبر ممثليها وموظفيها موقفاً منحازاً وغير نزيه والأدلة والشواهد على ذلك الموقف كثيرة جداً، منها دعم النظام سياسياً ومادياً، وعبر صفقات الفساد المشبوهة مع منظمة الصحة العالمية، وكذلك من خلال إهدار الوقت والتسويف في المسار السياسي والتفاوضي والمساعدات الإنسانية الأممية وربطها بموافقة مجلس الأمن وغيرها وغيرها من الشواهد، لكن المخيّب للآمال والمحبط في هذه الاستجابة المخزية لكارثة الزلزال، هو تبرير ذلك بالبيروقراطية والإجراءات وانتظار الموافقات، موقف يندى له الجبين ويؤشر إلى حقيقة مرة جداً وهي فقدان الأمل من هذه الهيئة.

الدرس المستفاد؟

كل ما تقدم من تحليل مختصر ومقتضب يقودنا إلى حقيقة واحدة وهي أن السوري يجب أن يشدّ على يد السوري، ويجددوا ثورتهم على جميع قوى الأمر الواقع من دون استثناء، ولا بد لهذا النزيف أن يتوقف ولا بد لهذه الأرض أن ترمم صدوعها ولا بد لهذا الدمار أن يستحيل بناءً وحياة.

——————————

كيف طغت السياسة على الإغاثة في استجابة الأسد للزلزال/ حسام المحمود

تحت عنوان “خطة التحرك الطارئة”، التقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 6 من شباط الحالي، أعضاء الحكومة، بحضور رئيسها، حسين عرنوس، بعد ساعات من الزلزال المدمر الذي تأثرت به 11 ولاية تركية، وأربع محافظات سورية.

وبعد اللقاء الذي وزّع المهام على الوزارات، غاب الأسد كليًا عن المشهد، طيلة الأيام الأربعة الأولى من الكارثة، التي أودت بحياة 1414 مواطنًا سوريًا في مناطق سيطرته، و2270 مواطنًا في مناطق شمال غربي سوريا، الخارجة عن سيطرته، بالإضافة إلى 1624 جثمانًا عادت إلى شمال غربي سوريا، من تركيا عبر معابر “باب الهوى، والراعي، وباب السلامة”.

وبالنظر للتصريحات والقرارات الصادة عن حكومة النظام، بدا واضحًا منذ اليوم الأول، التوجه نحو تسييس القضية والمطالبة بالدعم الإغاثي، دون إعلان المناطق المتضررة جراء الزلزال، مناطق منكوبة حينها.

زيارات متأخرة

رغم إيكال المهمة للوزراء ومراقبة المشهد عن بُعد، لم تبدأ زيارات مسؤولي النظام للمواقع المتضررة في محافظات حلب وحماة واللاذقية وطرطوس، بالفعل قبل يوم ونصف من الكارثة التي حدثت فجر الاثنين، 6 من شباط.

وفي 7 من شباط، وصل رئيس الحكومة، برفقة وزير الصحة، حسن الغباش، ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل، محمد سيف الدين، إلى مستشفى “جبلة” الوطني.

كما اتجه وزير الدفاع، علي محمود عباس، إلى محافظة حلب، بعد ظهر اليوم نفسه بهدف “الاطلاع على واقع عمليات الإنقاذ وإيواء الأهالي في المحافظة”.

وزير الداخلية، محمد الرحمون زار مدينة اللاذقية، بعد زيارته في اليوم السابق برفقة وزيري السياحة، محمد مرتيني، والتربية، دارم الطباع، إلى محافظة حماة، للاطلاع على أعمال رفع الأنقاض في المدينة.

ضحكات في حلب والأمم المتحدة

في خامس أيام الزلزال، بدأ الأسد أولى زياراته إلى المواقع المتضررة من حلب، حيث التقى المواطنين بضحكات عريضة والتقط الصور، خلال زيارته إلى مستشفى “حلب” الجامعي، ما قوبل بانتقادات ناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لضحك الأسد في وقت الكارثة.

وفي مقابلات قصيرة هامشية من المناطق المتضررة، شن الأسد هجومًا على الدول الغربية، قائلًا “يقال إن الغرب أعطى أولوية للسياسة على الحالة الإنسانية، هذا الكلام غير صحيح، كي يعطي الأولوية لحالة على الأخرى لابد أن تكون كلا الحالتين موجودتين، لكن الحالة السياسية موجودة، الحالة الإنسانية غير موجودة لدى الغرب”.

الأسد في مدينة حلب خامس أيام الزلزال

وفي اليوم التالي، زار الأسد اللاذقية، وأدلى من أحد مراكز الإيواء بتصريح قصير أوضح خلاله أن إعلان الانتقال من “الاستجابة الأولية الطارئة” إلى “الاستجابة المنظمة” خلال اللقاء السابق مع أعضاء غرفة العمليات في حلب، التي تضم جهات حكومية ومنظمات وجمعيات أهلية وفعاليات تجارية وصناعية، سببه الرغبة في إعادة الإعمار والتنمية بشكل أفضل مما كان قبل الزلزال، وقبل الحرب، وفق تعبيره.

وردًا عل سؤال وجهه صحفي في قناة “الجزيرة”، حول سبب تأخر فتح المعابر بين تركيا وشمال غربي سوريا لإدخال المساعدات، في 14 من شباط، قال مندوب النظام السوري لدى الأمم المتحدة، بسام الصباغ، ضاحكًا أيضًا، “لماذا تسألوني؟ نحن لسنا مسيطرين على هذه الحدود”.

مناطق منكوبة.. إدلب حاضرة

على مدار الأيام الأربعة الأولى من الزلزال، لم يشمل النظام بتصريحات مسؤوليه، أو بتغطية وسائل إعلامه، محافظة إدلب، باعتبارها إحدى المناطق المتضررة جراء الزلزال، رغم ارتفاع حصيلة الوفيات فيها لأكثر من ضعف الوفيات في مناطق سيطرته.

كما تجاهل بيان وزارة الخارجية، غداة يوم الزلزال، إدلب في معرض ذكره للمناطق المنكوبة، مكتفيًا بذكر حلب واللاذقية وحماة في البيان المطالب برفع العقوبات.

رغم إعلان تركيا للمناطق المتضررة مناطق منكوبة منذ اليوم الأول، واتخاذ “الدفاع المدني السوري” شمال غربي سوريا، خطوة مماثلة، التزم النظام الصمت حيال هذه النقطة، مع التلميح لاحتمالية الإقدام على خطوة من هذا النوع لاحقًا.

وفي خامس أيام الزلزال، 10 من شباط، تطرّق النظام لذكر إدلب، للمرة الأولى خلال الكارثة، حين شملها بإعلانه المناطق المنكوبة جراء الزلزال (حلب، وحماة، واللاذقية، وإدلب).

وتبع هذه الخطوة في 11 من شباط، إعلان حصيلة جماعية لأعداد ضحايا الزلزال، متضمنة شمال غربي سوريا لأول مرة، إذ عنونت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام حينها بـ “حصيلة ضحايا الزلزال في عموم سوريا تقترب من خمسة آلاف”، مشيرة في الوقت نفسه، إلى عودة مئات الجثامين من تركيا نحو شمال غربي سوريا.

لا حداد.. لا خطاب

حظيت كارثة الزلزال بتفاعل عالمي جراء فداحة الخسائر التي سببتها على مستوى الأرواح أولًا، والدمار الواسع الذي أتى على مدن بأسرها ثانيًا، لكن النظام لم يعلن الحداد العام في مناطق سيطرته، خلافًا للمعارضة السورية وتركيا.

وفي نفس يوم وقوع الزلزال، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حدادًا عامًا في تركيا لمدّة أسبوع، إلى جانب إعلان “الحكومة السورية المؤقتة” في اليوم التالي، الحداد العام لمدة ستة أيام.

كما أعلن “الدفاع المدني السوري“، في 13 من شباط الحالي، الحداد الوطني لمدة أسبوع في كل أنحاء سوريا، على أرواح ضحايا الزلزال في سوريا وتركيا، مع تحديد 6 من شباط يوم حداد وطني من كل عام تخليدًا لذكرى الضحايا.

وقال مدير المنظمة، رائد الصالح، حينها، “حُق لنا أن نحزن ونعلن الحداد الرسمي لسبعة أيام بدءًا من اليوم الاثنين في جميع أنحاء سوريا”.

ومنذ حدوث الزلزال، لم يخرج الأسد في خطاب موجه للشارع، ضمن المناطق التي يسيطر عليها، لتعزية المواطنين أو تطمين الناجين، وتقديم جدول زمني واضح ومحدد لمعالجة آثار الكارثة، مفسحًا المجال لجهات محلية مثل “الهلال الأحمر السوري”، وغير سورية كميليشيا “الحشد الشعبي” العراقي، لتولي مهام الإغاثة والإيواء في المناطق المتضررة، إلى جانب فتح أكثر من باب للتبرع لصالح المنكوبين، توّلت أوسعها “الأمانة السورية للتنمية” وهي مؤسسة على ارتباط بزوجته، أسماء الأسد.

شد وجذب

تصاعدت بعد الزلزال النداءات المطالبة برفع العقوبات عن النظام بذريعة إتاحة إدخال معدات ثقيلة للإسهام في رفع الأنقاض وإنقاذ العالقين تحت الركام.

وجاءت الدعوات هذه على لسان ناشطين ومؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب حالة الاستثمار السياسي الرسمي وربط العقوبات بمسألة الاستجابة الإنسانية الطارئة.

وذكر بيان الخارجية السورية، في 7 من شباط، أن السوريين معاقبون أمريكيًا، وأن العقوبات تمنع عنهم التجهيزات والمعدات المطلوبة.

ذرائع النظام قوبلت بأكثر من رد، أمريكي وأوروبي، فخلال الإحاطة الصحفية اليومية، أوضح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في 6 من شباط، أن ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية هو التواصل مع “نظام عامل شعبه بوحشية على مدار 12 عامًا، وذبح مواطنيه وقصفهم بالغازات السامة، وهو المسؤول الأبرز عن معاناتهم.

تصريحات برايس تبعها في اليوم التالي، تنويه من المبعوث الألماني إلى سوريا، ستيفين شنيك، نفى خلاله وجود عقوبات أوروبية على المساعدات الإنسانية إلى سوريا.

وفي تأكيد آخر للموقف الأمريكي، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، خلال لقائه نظيره النمساوي، في واشنطن، في 7 من شباط، إن لدى واشنطن شركاء إنسانيون ممولون من الولايات المتحدة، ينسقون المساعدات للإنقاذ.

وأضاف، “نحن ملتزمون بتقديم المساعدة للناس في سوريا في سبيل التعافي من هذه الكارثة (…) هذه الأموال تذهب بالطبع للشعب السوري وليس للنظام، وهذا لن يتغير”.

المساعدات صفقة

طالب “الدفاع المدني السوري” منذ اليوم الأول بمعدات وآلية ثقيلة، للتعجيل في عملية إنقاذ العالقين تحت الأنقاض في مناطق شمال غربي سوريا، دون استجابة بأكثر من التصريحات، خلال الأيام الأربعة الأولى على وقوع الزلزال.

وفي اليوم الرابع، ظهرت عدة مؤشرات تشي بوجود صفقة لتسهيل دخول المساعدات مقابل بعض الامتيازات للنظام السوري، إذ أعفت وزارة الخزانة الأمريكية، النظام من العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر”، لمدة ستة أشهر، ولجميع المعاملات المتعلقة بالاستجابة للزلزال، والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات السورية.

كما أن تصريحات تركية أشارت لإمكانية إدخال المساعدات الإغاثية لمناطق سيطرة النظام عبر الحدود البرية بين الجانبين، ليأتي إعلان النظام للمناطق المنكوبة في اليوم الخامس، 10 من شباط.

وفي اليوم نفسه، ومع تراجع الآمال بالعثور على ناجين من تحت الركام، دخلت عبر معبري “باب الهوى” و”باب السلامة” شاحنات مواد غذائية وإغاثية، مصدرها الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية.

المساعدات المتأخرة لأربعة أيام أتت خالية من المعدات والآليات الثقيلة التي طالب بها “الدفاع المدني”، مركّزة على المواد الغذائية والإغاثية المرممة لآثار الكارثة، لا تلك التي تحد من مضاعفاتها في شمال غربي سوريا.

سياسة على حساب الضحايا

أولت وسائل الإعلام المحلية اهتمامًا مقصودًا لرسائل وبرقيات واتصالات التعزية التي تبادلها الأسد مع رؤساء أو مسؤولي بعض الدول، إلى جانب الاحتفاء بوصول المساعدات، وصولًا لنقل هبوط بعض الطائرات عبر البث المباشر، وبحضور وزاري.

وفي الوقت نفسه، تراجعت وتيرة إحصاء الضحايا على صفحة وزارة الصحة في حكومة النظام، عبر “فيس بوك” منذ اليوم الثالث للزلزال، لصالح التركيز أكثر على اتصالات الأسد والمساعدات الإغاثية التي تصل إلى مناطق سيطرته.

السياسية تطغى على الزلزال في بيانات وزارة الصحة السورية

كما لم تقدّم الوزارة في إحصائيتها النهاية الصادرة في 14 من شباط، تفصيلًا واضحًا لأعداد الوفيات في كل محافظة على حدة، مكتفية بتقديم عدد إجمالي بلغ 1414 حالة وفاة، و2357 حالة إصابة.

ما مستوى الاستجابة؟

الصحفي والباحث السياسي، فراس علاوي، أوضح أن النظام في المقام الأول لا يملك أدوات استجابة على الأرض حتى لو أراد ذلك.

واعتبر علاوي تأخر الاستجابة مرتبطًا بمحاولة النظام إثبات أن هناك حصارًا يمنع التحرك والاستجابة، وهو تكتيك سياسي، بالإضافة لهدف آخر، هو جذب أكبر كمية ممكنة من المساعدات الخارجية، فالنظام حاول استثمار الزلزال سياسيًا أكثر من تقديم استجابة طارئة على الأرض.

ويمكن القول وفق الباحث، إن النظام نجح نوعًا ما في استراتيجيته للتعامل مع الكارثة، إذ جرت بعض الزيارات لمسؤولي الأمم المتحدة ومنظمة “الصحة العالمية”، ووزراء خارجية عرب إلى دمشق، إلى جانب تعاطف دولي “جزئي” كسر بعض الحصار الدبلوماسي والسياسي حول النظام، لكنه مرهون أيضًا بإعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن المساعدات إنسانية ولا تأخذ منحى سياسي.

كما أشار الباحث فراس علاوي لوجود حالة نقمة لدى المقمين في مناطق سيطرة النظام، مع ضعف في الإعلام المحلي الذي يديره في تصوير الخسائر الإنسانية عند البحث عن مكاسب سياسية.

ورغم كثافة المساعدات، يبدو النظام غير قادر على تعويض الأهالي بسبب حالات السرقة للمعونات، كمؤشر على فساد كبير مستشرٍ في جسد النظام، ما قد يمنع دولًا كبرى من تقديم المساعدات بهذا السياق، بحسب رأي الباحث.

البحث عن شرعية

ويتفق المستشار الأول في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتم هاوس” حايد حايد مع وجهة النظر السابقة حول الاستغلال السياسي للكارثة من قبل النظام، إذ بيّن في حديث إلى عنب بلدي، أن غرض النظام من الكارثة البحث عن تعزيز شرعيته السياسية والتخفيف من عزلته، إلى جانب الضغط للتخلص من العقوبات.

من المتعارف عليه بعد كارثة بهذا الحجم، أن تعزي الحكومة أو رئيس الجمهورية الشعب، مع إعلان الحداد الرسمي، لكن النظام لا يشعر بمسؤولية أو تعاطف تجاه المتضررين، بمن فيهم المقيمون ضمن مناطق سيطرته.

واعتبر حايد حايد أن زيارات النظام المتأخرة لمواقع الكارثة مرتبطة بحالة لغط حتى ضمن الدوائر الموالية لحكمه، حول غيابه عن المشهد، وليست للتعاطف مع الشارع، فالنظام لم يقدّم بيانًا يتيح للمنظمات الإنسانية استخدام الطيران لإيصال المساعدات وفرق الإنقاذ نحو شمال غربي سوريا.

كما أسهم في تأخير المساعدات إلى الشمال أصلًا بغرض احتكار السيطرة على المساعدات وإجبار المنظمات والدول على التعامل معه بشكل مباشر، بهدف لكسر طوق عزلته الدولية.

وفي الساعات الأولى من الاثنين، 6 من شباط، ضرب زلزال بشدّة 7.7 درجات، ولاية كهرمان مرعش، تبعه زلزال آخر بشدة 7.6 درجات، في ظهيرة اليوم نفسه، وفي الولاية ذاتها.

وبيّن مدير إدارة المخاطر والحد منها في  إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، أورهان تتار، في 11 من شباط، أن الطاقة التي أطلقها الزلزال الذي بلغت قوته 7.7 درجات لها طاقة 500 قنبلة ذرية.

عنب بلدي

————————

دروس ومواقف وسط الفاجعة/ عروة قنواتي

 أسبوع من الحزن والألم على هول الفاجعة، جراء الزلزال المخيف والمدمر، الذي داهم حياة البشر في جنوب تركيا وشمال ووسط سوريا، الاثنين الماضي، حاصدًا معه أرواح قرابة 25 ألف إنسان وإصابة 300 ألف على الأقل، ومساحات واسعة من الدمار والخراب في البلدين… مأساة لا يمكن تصورها للأمانة.

رحم الله الضحايا وكان في عون أهاليهم وعائلاتهم التي ما زالت تنتظر أخبارًا عن مفقودين تحت الأنقاض. في الحقيقة لا يمكن شرح هذا المصاب بالكلمات ولا بالأسطر ولا يمكن نقل الصورة الحقيقية عما جري وكيف مرت الساعات على البلدين وعلى المناطق المنكوبة منذ أول دقائق الزلزال المدمر وحتى اليوم.

المجتمع الرياضي، وكما في كل أحداث ومناسبات الحياة، طالته سهام الحزن والفقد والترقب والمصير المأساوي لعديد الرياضيين وعائلاتهم في سوريا وتركيا، فقد ودعت الأسرة الرياضية العالمية ومن مختلف الألعاب والفئات العمرية لاعبين ومدربين واداريين في المدن السورية وفي ولايات أنطاكيا وكهرمان مرعش وغازي عنتاب واسكندرون، وما زال الكثير منا يمني النفس بأن يكون من هم تحت الأنقاض على قيد الحياة وأن تستطيع فرق الإنقاذ والإسعاف الوصول إليهم.

في سوريا، توفي اللاعب السوري السابق نادر جوخدار مع ولده تاج الدين، بانهيار المبنى الذي كان فيه في مدينة جبلة، وفي الشمال السوري توفي بطل سوريا ببناء الأجسام سابقًا سامر زيدان مع ولديه في أول أيام الزلزال المدمر، كما توفي لاعب نادي سلقين لكرة السلة محمد شعبوق، بعدما سحب جثمانه من تحت الأنقاض في ثاني أيام الفاجعة، وفي حلب توفي لاعب نادي العروبة للناشئين بكرة السلة ألبير تنكجيان مع والدته بانهيار مبنى سكني، وقائمة من الوفيات والإصابات لم يعلن عنها بالشكل الكامل والواضح حتى الآن.

في تركيا كانت المصيبة أكبر، ورافق شلل عام الوسط الرياضي أيام الزلزال المدمر، ويبدو بأنه سيكون أطول من ناحية المدة الزمنية، فقد تم تعليق النشاطات والمسابقات الرياضية في عموم ملاعب وصالات الجمهورية التركية حدادًا على أرواح الضحايا والمصابين، وتحولت بعض الملاعب الرسمية للأندية التركية الشهيرة (بشكتاش، غلطة سراي، فنربهشة وإسطنبول باشاك شهير) إلى مراكز لتقديم المساعدات وتنظيم حملات المعونة والإسعاف من أجل الأماكن المتضررة والرياضيين المتضررين جراء المصاب الأليم.

وأبدت رابطة الدوري التركي لكرة القدم تعاطفًا كبيرًا موصولًا برغبة الأندية بمساعدة نادي هاتاي ونادي غازي عنتاب ونادي كهرمان مرعش، لتجاوز الأزمة الراهنة، وتفهم رغبة الأندية بالانسحاب من مسابقة الدوري بسبب الخسائر التي لحقت بهم وبكوادرهم ومنشآتهم في هذه الأيام الصعبة، ولربما يكون إكمال الدوري بمن تبقى من الأندية مع حفظ حقوق الأندية المنسحبة في العام القادم بمتابعة منافساتهم ضمن أندية الدرجة الممتازة.

كان من الواضح أيضًا سيل التعاطف الدولي الرياضي في الأندية الكبرى والمؤسسات الرياضية الدولية، من برقيات التعاطف وحملات التضامن وتقديم المساعدة والمبالغ المالية ويد العون في كل ما يسمح به المواقف، من أندية كبرشلونة وليفربول وإيفرتون وريال مدريد وقائمة تطول من المؤسسات الرياضية، وحتى في المنافسات القائمة حاليًا، كان مشهد التحية للضحايا مؤثرًا في لقاء نصف نهائي كأس العالم للأندية بين الهلال السعودي وفلامينغو البرازيلي وارتداء الشارات السوداء في مواجهة الأهلي المصري مع ريال مدريد الإسباني.

لربما يكون هذا التلاحم الرياضي درسًا وعبرة وحكمة، بل وموقفًا إنسانيًا نفخر به دائمًا، ويجب أن يتعلم منه الساسة وقادة الفكر في المحفل السياسي العالمي بكيفية التعامل وقت الأزمات وفي فترات الفاجعة التي تطال كل شيء لدى اصطدامها بحياتنا.

الرحمة لأرواح الضحايا والأمنيات بالشفاء والسلامة لكل المصابين والمنكوبين في حادثة الزلزال المرعب.

عنب بلدي

————————–

ساهموا في الإسعاف النفسي الأولي خلال الكارثة/ صفوان قسام

تترك الكوارث، على غرار الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا ووسطها وصولًا إلى دمشق ولبنان، على من يشاهدها عبر هاتفه أثرًا نفسيًا مؤلمًا، فكيف إن كان ممن يعايشوها أو يعيشونها، كالمسعفين والمنقذين والصحفيين والمتضررين سواء من فقد منزلًا أو قريبًا أو عايش الهزة أو بقي تحت الركام ونجا! كل من تضرر أو عاشها بشكل مباشر أو غير مباشر سيتأثر نفسيًا، ويحدث له ما يسمى “الرض النفسي”، وهو تمامًا كما لو أن فلانًا تعرض لضربة عصا على ذراعه فحصل له رض جسدي.

وكما لو قلنا إن هناك إسعافًا أوليًا لهذا المصاب برض في ذراعه، فإن هناك إسعافًا أوليًا لذلك المصاب برض نفسي، نسميه “الإسعاف النفسي الأولي”؛ وهو لا يعني أنه شكل من أشكال العلاج النفسي، أو يغني عنه، لكنه قد يخفف كثيرًا من الأعراض التي قد تحدث لاحقًا نتيجة لهذا الرض، وربما كانت وقاية من تطوره إلى شكل معقد من الاضطرابات النفسية. ولا يعني ذلك أن من يقدمه أصبح معالجًا نفسيًا ولا أن من تلقاه حصل على علاج نفسي، لا أبدًا، إنها كما لو أن مسعفًا قدم لشخص تعرض لكسر إسعافًا أوليًا فثبت له قدمه المكسورة؛ فلا المسعف بات طبيبًا ولا المتضرر حصل على الرعاية اللازمة كلها.

يعرف الإسعاف النفس الأولي بأنه “مجموعة المداخلات المبكرة الداعمة للناجين من حدث صادم مهدد للحياة أو لمن شاهدوا حدثًا مشابهًا أو لمن تعرض أحد من أحبائهم لمثله، وتتضمن هذه التدخلات توفير الأجواء الملائمة التي تتيح للمصاب شروط الراحة والثقة والأمان، التي تشجعه على التعاون والحديث طوعًا وبحرية، والتعبير عن مشاعره وانفعالاته دون إكراه من القائم على ذلك”. ويجري تقديم الإسعاف النفسي الأولي بعد التعرض للحدث الصادم مباشرة أو بعد فترة زمنية قريبة، ولا يتطلب تقديمها أن يكون المسعف متخصصا نفسيا لكن يكفي أن يكون قد تلقى تدريبا عمليا حول آليتها؛ وهنا نؤكد على ضرورة تلقي تدريبا عمليا عليه قبل تطبيقه.

كيف نقدم الإسعاف النفسي الأولي

– تأكد من أن المكان آمن؛ ثم اقترب بهدوء وعرف نفسك للمتضرر وعن جهة عملك إن كنت تمثلها في هذه اللحظة، وعبر عن رغبتك في تقديم المساعدة لفظيًا وبالتعبيرات غير اللفظية “بلغة الجسد وملامح الوجه ونبرة الصوت”.

– حافظ على التواصل البصري بمستوى واحد: إن كان جالسًا أو طفلًا انزل إلى مستوى نظره، وإن كان واقفًا قف.. وعلى مسافة مناسبة ثقافيًا، مع تجنب الملامسة خصوصًا مع الجنس الآخر، وعند شعوركم أن المتضرر أُحرج من النظر بالعين مباشرة انظروا إلى الجبين لتجنيبه الإحراج، ولا تحيدوا بنظركم عنه عندما يتحدث، أو لا تقاطعوه، أو لا تنظروا إلى الساعة.

– في حال اختلاف لغتك عن لغة المتضرر استخدم مترجمًا وأشعره (أي للمتضرر) بأنه يستطيع التحدث بلغته وأبدي تأسفك على عدم استطاعتك فهم لغته، ثم: اسأله إن كان هناك أي إصابة جسدية بحاجة لمعالجة فورية، وإن كان كذلك أطلب الإسعاف.

– دع له الحرية في الحديث عن الأمور الخاصة من عدمه وعن خصوصياته، استخدم عبارة: حابب تحكيلي..؟” واترك له فرصة للتفكير والإجابة واحترم لحظات صمته، ولا تقتحمها، ولا تضغط عليه للتكلم، وأصغ للمتضرر جيدًا وأخبره بأنك تحاول فهم ما يعاني، وأبدي بعض التعاطف معه، عبّر من خلال ملامح وجهك ونبرة صوتك وكلماتك ولغة جسدك عن مدى تعاطفك معه، ولكن لا تواجهه ببعض الأمور كأن تقارن بين سلوكه وسلوك الآخرين، أو لا تعتبره مثل الآخرين في مصابهم أو تدقق على تصرفاته أو أقواله، لا تستخدم عبارة من نوع: بتهون، طول بالك، معليش، متلك متل الناس، اسمعه ولا تقاطعه ودعه يتكلم.

– اسأله عن الأعراض الجسدية إن وجدت (ارتفاع ضربات القلب، التعرق، تشوش التفكير والإدراك، جفاف اللعاب…)، وأوضح للمتضرر أن حالته النفسية شائعة وعزز من ثقته بنفسه بالقول مثلًا: إن الأغلبية ممن يواجهون مثل هذه الأمور يعانون من نفس ردود الفعل، هو رد فعل طبيعي على حدث غير طبيعي.

– كن معتدلاً في رد فعلك للمتضرر، واعترف له باحترامك لوجهات نظره وإن كانت تختلف عن تلك التي تحملها أنت، طالما أن تصوراته قد تساعده في التعايش مع الصدمة، وكن مرناً إلى أقصى ما تستطيع في هذا الجانب. تفهم انفعالاته وخذ الأمر بجد فليس هناك ما هو صحيح أو غير صحيح في التعبير عن المشاعر عند مواجهة الحوادث المريعة، حاول أن تستوضح منه كيف ينوي أن يتصرف في مواجهة ما حصل له، إن كانت لديه نية لإيذاء نفسه أو الآخرين، لا تتركه قبل أن تربطه بجهة تقدم خدمة نفسية، أو بأحد من أفراد عائلته وأخبرهم على انفراد بأن عليهم ربطه بجهة دعم نفسي.

– كن صريحًا وأخبره بالحقيقة بأسلوب ملطف وبروية، وتوقع وتقبل ردود فعله الشديدة فهي متوقعة في حالة الصدمات، أخبره بأنك تحاول أن تتفهم حالته ولا بأس أن تظهر بعض الانفعالات، ولكن بحدود معقولة ولا تصل درجة أن تجعل المتضرر يفكر بمساعدتك أو التعاطف معك، كأن تبكي.

– كن مواسيًا ومهدئًا ومطمئنًا للمتضرر، مثلًا: إنك الآن في أمان، أرغب بمساعدتك، كيف يمكنني مساعدتك، إنني أحاول أن أكون بالصورة كي أجد السبيل للمساعدة، وكن واقعياً في تعاملك مع الحالة وعندما تجد بصيص أمل للحل حاول أن توضح ذلك للمتضرر، وأخبره أي جزء من المشكلة يمكن أن يذلل، فمثلاً إذا كان الشخص فاقدًا لداره وهناك وعد بالتعويض لا تتردد أن تخبره بذلك، اطلب من المتضرر السماح لك لتقديم المساعدة له أو فعل ما ينفعه، لكن لا تعده بشيء لا يمكنك تحقيقه، وشارك المتضرر انفعالاته الإيجابية كالضحك مثلاً.

– احترم خلفية المتضرر الثقافية وتصرف في ضوءها، فمثلاً النظر في عين الشخص والاقتراب مقبول إن كان المصاب من نفس الجنس، وعليك تجنب الاحتكاك البدني إن كان من الجنس الآخر، وتجنب مد أرجلك أمام شخص أكبر عمرًا أو ذي موقع اجتماعي رفيع، ويتعين التحدث باحترام تام مع المسنين.

– أنهِ الجلسة بصورة تدريجية وصله بوجهته التالية، وينبغي خلال اللقاء أنك قد تصرفت بطريقة تركت لدى المتضرر انطباعًا يجعلك في نظره أهلًا للثقة والارتياح.

يمكن للزملاء تقديم الإسعاف النفسي الأولي لبعضهم عند حصول حدث صادم نفسيًا، ولا يجب أن يتم إهمال أي إشارة تصدر عن المتضرر تشير إلى رغبته في إيذاء نفسه أو إنهاء حياته، حيث يجب إيصاله إلى مركز للدعم النفسي فورًا.

ختامًا، رحمنا الله فيما أصابنا ورحم فقدانا، وعافا مُصابينا، ورحم ديارنا وعوضنا عما فقدنا، وصبرنا على ما أصابنا، لله ما أعطى ولله ما أخذ، قدر الله وما شاء فعل، ولا اعتراض على حكمه.

عنب بلدي

————————

إعلام الزلزال.. حتميات تغيّر المسار في سوريا/ علي عيد

كشف زلزال سوريا- تركيا عن صدع آخر، وصراع بين قوتين كبيرتين، الأولى قوة الإعلام التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة، والثانية قوة النخب المالية والسياسية المسيطرة أو الطامحة لاستغلال ظروف الكوارث وتحريك الجمهور نحو تبرير أهدافها وخططها.

يتحدث الباحثان سيمون كوتيل وكارين آل يوجنسن في دراسة بعنوان “الكوارث ووسائل الإعلام” حول سياقات تدخل الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في حالات الكوارث، من الداخل إلى الخارج وبالعكس، ما يعطي الإعلام دورًا مركزيًا نظرًا لسرعة الانتشار والوصول والتشبّع ومستوى التأثير، وعجز الحكومات عن إخفاء المعلومات، كما كان يجري سابقًا، ومثاله التعتيم الإعلامي الذي فرضته السلطات الصينية على زلزال تانغشان عام 1976، إذ استغل الحزب الشيوعي الحاكم الظروف لإنهاء الثورة الثقافية التي خرجت على حكم هوا جيو فينج خليفة ماوتسي تونغ.

لم تعد الأمور على حالها في كوكب سكانه 7 مليارات شخص ويوجد بين أيديهم 5 مليارات هاتف محمول، منها 4 مليارات لدى سكان مناطق الكوارث في العالم، حسب تحليل رقمي يسرده الباحثان كوتيل وآل يوجنسن.

لقد استطاعت المأساة السورية الوصول بالاستناد على الإعلام من جهة، والكارثة الموازية وغير المحظورة إعلاميًا في تركيا، إذ أسهمت جغرافيا الكارثة وتوزعها بين دولتين إلى معالجتها كقضية واحدة، وكشفت خللًا بالغًا في التعاطي الدولي مع مأساة السوريين.

لاحظ العالم انكشافًا غير مسبوق لانخراط القوى الدولية في الصراع السياسي على حساب مأساة السوريين، وظهر ذلك في تأخر وصول المساعدات إلى منطقة الكارثة في شمال غربي سوريا، فيما كانت فرق من 90 دولة تعمل داخل الأراضي التركية.

قبالة كل ساعة تأخير في إيصال مساعدات منقذة، مثل المعدات الحديثة للاستكشاف أو المركبات والوقود، كان العشرات من المطمورين تحت الأنقاض يفقدون حياتهم، وينسحب الأمر على الجرحى الذين يحتاجون تدخلات عاجلة.

على المقلب الآخر، كان النظام السوري يستهلك الوقت لفرض شروطه للقبول بدخول المساعدات “عبر الخطوط”، والهدف فرض سيطرته على عمليات دخول المساعدات لأسباب سياسية واقتصادية، وإثبات أنه طرف وحيد قادر على إيجاد حلول في مثل تلك الكوارث داخل سوريا.

فشل النظام السوري في الرسالة الإعلامية، وفي إخفاء حجم الكارثة في المناطق الخارجة عن سيطرته، وامتد فشله إلى عجزه عن لملمة الآثار السياسية، وكونه سببًا في العجز الدولي، وهو ما يستتبع كثيرًا من التحولات في القضية السورية، ويلعب إعلام “الكارثة” الدور الأهم في هذا الفشل.

وعلى المستوى الداخلي، لم تعد نظرية المسلحين و”الإرهابيين” صالحة لمنع حملات الإغاثة والتعاطف، وبلغ الفشل أعلى درجاته في المسألة العاطفية، عندما خرج بشار الأسد من حلب وهو يوزع الابتسامات بين مناصريه، وهي صور ستترك أثرها العاطفي طويلًا في ضمائر السوريين، ويحللها خبراء لغة الجسد وعلم النفس السياسي والاجتماعي.

دراسة “الكوارث ووسائل الإعلام”، تتطرق لمسألة استغلال النخب السياسية والاقتصادية لظروف الكارثة من خلال اللعب على عواطف الضحايا والجمهور، وإيصال فكرة ضرورة تدخل الجيوش مثلًا كجهة ضامنة لأمن الشعوب، أو الطعن بقدرة السلطة المدنية، وكذلك ترويج نظريات منها الإرهاب والمسلحين كما حصل في سوريا بصورة عامة، وخصوصًا محاولة شيطنة الدفاع المدني “القبعات البيض” الذين ظهر للعالم أنهم فريق محترف أسهم في إنقاذ أرواح آلاف المدنيين.

الكاتبة الكندية نعومي كلاين، تحدثت في كتابها “عقيدة الصدمة”، عن الطرق التي يمكن أن تخدم فيها الكوارث والأزمات مصالح الشركات والحكومات، ولتبرير تشديد القبضة وبقاء نظام الحكم، ويبدو أن النظام السوري لم يستطع الاستثمار في هذا الحقل بسبب قوة تصادمية كبرى هي الإعلام الحديث، وقدرة كاميرا الهاتف على الوصول، ووجود منصات بتقنيات تنقل الحدث على الهواء مباشرة، وتعجز معها أدوات المنع التي عادة ما تستخدمها السلطات.

أكبر أخطار إعلام الكوارث يتمثل في استغلال عواطف الجمهور، ونشر الشائعات، والتزييف، والتخويف، واستخدام خطاب التمييز والكراهية، وقد ظهر جانب من هذه المخاطر في زلزال سوريا- تركيا في كلا البلدين، ولكن، بصورة مختلفة.

في تركيا، حاولت المعارضة السياسية تحريك الشارع ضد حكومة “العدالة والتنمية”، وظهر أثر هذا في الخطابات والبيانات الرسمية التي خلطت بين ما هو خدمي وما هو سياسي للتقليل من أثر دعاية المعارضة.

أما في سوريا، فقد تبدّت محاولات استخدام إعلام الكارثة عبر بعض الخطابات والتصريحات لمسؤولين، بينهم محافظ إدلب عن حكومة النظام، الذي برر عدم وصول المساعدات للمناطق المنكوبة شمال غربي سوريا بوجود جماعات مسلحة و”إرهابيين”، وهو ما قوبل بعدم استجابة من قبل الشارع لهذا التنميط، ومن مستوى الاستجابة يمكن تحليل موقف الرأي العام في مناطق سيطرة حكومة النظام حيال الخطاب القديم الممتد لنحو 12 عامًا، فالمتغيرات على مستوى الرأي العام تبرهن على عدم تطابق بين نظريتي السلطة والرأي العام حيال مستقبل البلاد.

لم تنته الكارثة بعد، وسيمتد دور الإعلام إلى ما بعد الكارثة، كما أن انكشاف الخلل السياسي – الإنساني في التعاطي مع المسألة السورية، ودور النظام السوري المزمن في زيادة معاناة السوريين سيكون له أثر بالغ في مختلف النشاطات والفعاليات الدولية المقبلة، إنها لحظة اختبار قد لا تتكرر كل قرن من الزمن، وليس من السهل تجاوز آثارها.. وللحديث بقية.

عنب بلدي

———————–

الخوذ البيضاء «مصدومة» من سماح الأمم المتحدة للأسد البت بشأن المساعدات

عمان: «الشرق الأوسط»

انتقد رئيس مجموعة الخوذ البيضاء التي تديرها المعارضة السورية، اليوم الثلاثاء، قرار الأمم المتحدة الذي منح الرئيس السوري بشار الأسد الفرصة في أن تكون له كلمة بشأن تقسيم مساعداتها عبر المعابر الحدودية مع تركيا، قائلاً إنه منحه “مكاسب سياسية مجانية”.

قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أمس الاثنين إن الأسد وافق على السماح للأمم المتحدة بتسليم مساعدات إلى شمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة عبر معبرين حدوديين من تركيا لمدة ثلاثة أشهر. وقال رائد الصالح رئيس جماعة الخوذ البيضاء لرويترز “هذا أمر صادم ونحن في حيرة من تصرفات الأمم المتحدة”. وتتماشى تصريحاته مع المشاعر التي أبداها الكثير من السوريين في المنطقة الخاضعة لسيطرة المعارضة، والتي دمرها زلزال عنيف الأسبوع الماضي.

——————————-

داود أوغلو: أيها القائمون على السلطة لا تلجأوا لانقلاب مدني

أنقرة (زمان التركية) – قال زعيم حزب المستقبل المعارض في تركيا، أحمد داود أوغلو، إنه لا يمكن إرجاء الانتخابات بسبب زلزال قهرمان مرعش، الذي راح ضحيته أكثر من 35 ألف تركي.

وقال داود أوغلو في مقطع فيديو عبر تويتر إن إرجاء الانتخابات واستمرار التيار الحالي بالسلطة لفترة إضافية هو أكبر ظلم يمكن ارتكابه بحق الشعب التركي.

أضاف داود أوغلو: “في هذه الفترة العصيبة لا تفكروا بالانتخابات. سيتم عقدها عندما يحين الموعد. عليكم الآن أن تشعروا بالألم. لكن أنتم والمقربين منكم والدوائر المحيطة بكم تتحدثون بشكل مباشرة عن سيناريوهات إرجاء الانتخابات. لا تفعلوا هذا”.

وقال زعيم حزب المستقبل إن “كل قرار سيتم اتخاذه بانتهاك الشروط الدستورية، وكل خطوة سيتم توجيها باستغلال اللجنة العليا للانتخابات، ستشكل انقلابا مدنيا”. في إشارة إلى احتمال صدور قرار عن اللجنة بتأجيل الانتخابات.

وواصل داود أوغلو حديثه، قائلا: “دعوكم من الانتخابات ومارسوا اعمالكم. قوموا بتلبية احتياجات الشعب وشاركوا الشعب معاناته على الأرض. السلطة الحالية قد تفكر في استغلال الزلزال ضمن حسابات قصيرة المدى بل وقد تنفذ انقلابا مدنيا على الديمقراطية لأجل هذا، لكن اعلموا أننا حاضرون. سنحافظ على الدولة والديمقراطية وسنعمل ليلا ونهارا لرفع هذه الغمة عن الشعب”.

وانتقد داود أوغلو قرار تحويل العملية التعليمية بالجامعات إلى التعليم عن بعد، قائلا: “اتخذتم قرارًا خاطئا كليا. في الوقت الذي يستعد فيه الشباب الذي بدأ تعليمه الجامعي في عام 2019 للتخرج هذا العام سيكونون قد حصلوا على 4 دورات من بين 8 دورات عن بعد بسبب جائحة كورونا. هذا الأمر سيخلق فراغا سيصعب إصلاحه. أعيدوا النظر في هذا القرار. يمكن إيجاد أماكن بديلة لإيواء المتضررين من الزلازل”.

———————

الزلزال لا يجب أن يمنح الأسد شرعية العودة للمجتمع الدولي – فايننشال تايمز

نشرت صحيفة فايننشال تايمز مقالا حول زلزال تركيا وسوريا ومحاولات الرئيس السوري، بشار الأسد، استغلال الدمار للعودة إلى المجتمع الدولي مرة أخرى.

وقال الكاتب كيم غطاس إن الأسد يقدم نفسه الآن كحل للمشاكل الشريرة التي أوجدها، وهو يمثل ذلك الديكتاتور الذي يستخدم زلزالا مميتا لإعادة تأهيل نفسه مع المجتمع الدولي أثناء التقاط الصور في منطقة منكوبة مع زوجته.

ويشبه الأمر جولة الانتصار التي قام بها الأسد في حلب الصيف الماضي مع عائلته، كما لو كان في رحلة يومية ثقافية، على الرغم من قيام قواته بإلقاء البراميل المتفجرة على تلك المنطقة لسنوات.

وأشار المقال إلى أن الأسد، المنبوذ طوال العقد الماضي، لديه سبب الآن للشعور بالثقة مرة أخرى. فقد تلقى اتصالات تعزية (في ضحايا الزلزال) من حلفائه مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك من أولئك الذين نبذوه، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

كما قام وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان بزيارة ثالثة لدمشق، بعد أن كسر الجليد بزيارة أولى في نوفمبر/تشرين الثاني2021. وعاد المسؤولون السوريون إلى وسائل الإعلام الدولية، مطالبين بإنهاء العقوبات الغربية بزعم أنها تعرقل جهود الإغاثة. في الواقع، تشمل هذه العقوبات إعفاءات للمساعدات الإنسانية، والتي استمرت في التدفق إلى دمشق عبر الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة.

وحتى الآن هبطت أكثر من 60 طائرة تحمل مساعدات دولية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، ومنها حلب، ومعظمها من دول صديقة مثل إيران والعراق والإمارات. لكن السعودية، التي كانت مترددة في السابق في إحياء العلاقات مع دمشق، أرسلت طائرة تحمل 35 طنا من المساعدات إلى حلب، وهي الأولى من عدة طائرات.

وشدد المقال على ضرورة بذل كل جهد لمساعدة الشعب السوري المتضرر من الزلزال، سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو المعارضة. لكن هذا يجب ألا يؤدي إلى الترحيب بالأسد مرة أخرى في المجتمع الدولي، إذ أن مكافأة الإفلات من العقاب لن تؤدي إلا إلى عدم الاستقرار في المستقبل.

وشدد على أن الإطاحة بالأسد مكلف للغاية، لكن انسحاب القوات الأمريكية من شمال غربي سوريا يمنحه النصر. ومع انحسار تدفق اللاجئين إلى أوروبا واحتواء خطر الإرهاب، تم قبول الوضع الراهن من المجتمع الدولي، رغم كونه كارثيا على المدنيين السوريين.

——————————

زلزال تركيا وسوريا: الرئيس السوري بشار الأسد يزور حلب بعد أربعة أيام من الكارثة

قبل الزلزال، بدت قبضة الأسد على الأراضي الواقعة تحت سيطرته ضعيفة، مع انهيار الاقتصاد، وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة متكررة، ومضاعفة إيران سعر إمداداتها النفطية إلى سوريا والمطالبة بالدفع المسبق. الآن، يبدو أن الأسد مستعد للاستفادة بشكل مباشر من المساعدات الدولية الموجهة إلى السوريين.

أظهرت التحقيقات المتكررة أن مسؤولي النظام، بما في ذلك بعض الخاضعين للعقوبات، يسحبون المساعدات. تقوم الحكومة بسرقة الأموال عن طريق التلاعب بسعر الصرف. ويضع الأسد نفسه كحل للمشاكل الشريرة التي أوجدها، من خلال تقديم تنازل بسيط بالسماح بدخول المساعدات إلى شمال غرب سوريا الذي يسيطر عليه المتمردون عبر أكثر من معبر حدودي، لمدة ثلاثة أشهر.

ويوضح المقال أبعاد العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة، ومنها ما حدث في 1990. فعندما أسس جورج بوش الأب تحالفه ضد صدام حسين لتحرير الكويت، كان حريصا على المشاركة العربية، وانضمت سوريا إلى ذلك. كان المقابل غير المعلن وغير المكتوب هو أن حافظ الأسد سيحصل على السيطرة الكاملة على لبنان، بعد 15 عاما من حرب أهلية دامية كانت سوريا طرفا فيها أيضا.

وبعد تحرير الكويت، أعلن بوش نظاما عالميا جديدا. لكن اللبنانيين دفعوا الثمن، إذ عاشوا في ظل احتلال سوري دام 15 عاما رسخ الفساد والطائفية وسيطرة حزب الله الخانقة. لقد انهار كل شيء الآن بطريقة مذهلة، بحسب الكاتب.

————————

الغيبة الزلزالية!/ محمد الرميحي

مع هذه الأرواح البريئة التي فاجأها الموت وهي نائمة، وقتل منها الآلاف، وجرح عشرات الآلاف من البشر، وشرّد غيرهم، وهدمت مبان وطرق ومساجد، هي كارثة حدثت في جو مُعادٍ للإنسان، وتسابق العالم لمد يد العون من شرقه إلى غربه، تبدو خلف هذه الكارثة الإنسانية غيبتان؛ الأولى هي الغيبة الصغرى، والثانية هي الكبرى.

الغيبة الصغرى فقد انتبه الجميع أن هذا الزلزال المدمر لم يهدم ويقتل من هم بشر في جنوب تركيا وشمال سوريا فقط، ولكنه سُمع في لبنان والأردن والعراق، وحتى مصر على الأقل، مما يستفيق عليه الجميع أن هذه المنطقة هي مترابطة جغرافياً، وأي حدث فيها، سواء كان زلزالاً أرضياً أو زلزالاً سياسياً يُسمع في المناطق الأخرى المجاورة، ولقد ابتلي الشرق الأوسط؛ وفي قلبه تلك المنطقة، بأزمات متسلسلة جعلت من مواطنيه في الكثير من المناطق مهجَّرين وسكان مخيمات جائعين وخائفين وفقراء، وخاصة في سوريا التي تجاهل العالم ما يحدث فيها من مآس إنسانية وكأنها غير موجودة حتى أصبح المجتمع السوري مجتمعاً منهكاً، والأكثر إيلاماً أن لا حلول في الأفق يمكن التبشير بها؛ لحل تلك المعضلات المعقدة والشره السياسي منقطع النظير، فالمنطقة تنام وتصحو من زلزال إلى آخر، ومن قتل جماعي إلى تصفيات بشرية، ويغمض الجميع الأعين عن تلك الجرائم.

مروحة كبرى من عناصر اللوم تقع على عدد كبير من اللاعبين في هذا المشهد المأساوي، منهم لاعبون محليون، ومنهم لاعبون إقليميون، ومنهم أيضاً دوليون، إلا أن رأس اللؤم يقع على اللاعبين المحليين الذين استعلوا على رغبات وأمنيات شعوبهم في الكرامة والعيش في أجواء آمنة، فاتخذوا قرارات عمياء قادت بلدانهم إلى التفكك والحروب الداخلية والضعف والتهجير، كما أن تلك الحروب قد انسحبت بعض نتائجها إلى الجوار فشغلته جزئياً إن لم يكن كلياً عن التنمية والتقدم، المؤلم أكثر أن كثيراً من تلك القيادات لم تستفِق من الغيبة الصغرى، وما زالت تتعاطى نفس السياسات ونفس الأفكار والتي فجّرت ردّات فعل غير منضبطة ومتطرفة، بل مدمرة في بلدانها والجوار.

ترابط المنطقة جغرافياً الذي أثبته الزلزال المدمر وقد قتل الآلاف من السكان ومن المهجّرين، وجرح عشرات الآلاف، وشرّد أكثر من ذلك، يفرض التفكير في المشروع الصحيح الذي يجب أن يُطرح؛ وهو الكف أولاً عن التدخل من الخارج في شؤون الجيران والعبث بأمنهم، وثانياً تقديم مشروع تنموي قائم على العدالة والإنصاف والمشاركة في الداخل؛ درءاً لاحتمال توسع الشروخ المميتة في الجبهة الوطنية، والتي تقلِّص عدد المشافي وتُضاعف عدد السجون!

هذا المشروع غير مطروح حتى الآن في دول الاضطراب والتناحر، وتشهد الجبهة الداخلية السورية واللبنانية، وأيضاً الإيرانية على تلك المعضلة شديدة التعقيد، التي يبدو أنها قد تعاود (زلزالها) الذي قد لا يشبع من الارتدادات، وهي ارتدادات تزيد الناس فقراً وجوعاً وخوفاً تدفعهم إلى الشوارع متظاهرين، أو إلى الخنادق حاملين للسلاح.

أما الغيبة الكبرى التي صاحبت الزلزال فلها درجات مختلفة ومتدرجة، وفي صلبها (غيبة ثقافية)، فسرعان ما قيل إن أحدهم قد تنبَّأ بوقوع الزلزال، وذلك كلام في أقلِّه غير علمي؛ لأن نص (النبوءة)، كما نُشرت، (أن الزلزال واقع عاجلاً أو آجلاً)! وذلك أمر معروف في مناطق الصدع الأرضي وتناطح صفائح الأرض، إلا أن البيئة الثقافية العربية قد استقبلت تلك المعلومات على أنها حقيقة مطلقة، فهي ثقافة تعشق (النبوءة) المبنية على الخرافة، ثم جاء آخرون ليقنعونا بأن الحدث متعمَّد من (الأعداء) والذين فجّروا تجربة نووية هائلة!

على مقلب آخر وأكثر تدميراً للعقل والمنطق، زخرت وسائل التواصل الاجتماعي التي انتشرت بين الناس بسبب ذلك الحدث للقول إن الزلزال (عقوبة) لمن أصابتهم الكارثة على ارتكابهم المحرَّمات والنواهي، ذلك النوع من التفكير يتكرر في الفضاء الثقافي العربي وينتشر انتشار النار في الهشيم ويجد من يصدقه، وقد قيل شيء مشابه له عندما حلّت موجة صقيع بالغة القسوة في الولايات المتحدة منذ أسابيع، حيث فسرتها تلك المدرسة وقتها بأن ذلك الحدث الطبيعي بسبب (أن الرئيس بايدن وقّع قراراً بمساواة المِثليين)!

مثل تلك التفسيرات الغيبية مدمرة للعقل، والمُفزع أنها تنتشر بين الناس في مثل تلك الكوارث، وهذا التفكير الخرافي لم يتوقف ليعرف أن الضحايا هم بشر قد يكون بينهم الكثير الصالح، وأن أمر الزلزال له تفسير علمي لا يرتكن إلى الخرافة، إنها سيادة العناصر اللاعقلانية في حياتنا دون التوقف أمام حقيقة علمية أن للأشياء أسبابها المحددة، وللطبيعة قوانينها الثابتة.

في مثل هذه الأزمات الكبرى التي يتصيّد فيها الخرافيون السبل لتضليل العامة من أجل تكوين رأي عام (مطيع لأوامرهم) دون جدال أو اعتراض، هو عرَض لمرض اسمه رداءة مستوى التعليم في المجتمعات، وإصرار برامجه على الاستناد إلى نظريات قديمة أنكرها العلم، قائمة على استدعاء أحداث ضاربة في القدم ربما لها (معقولية) في زمانها لأن من قال بها لم يكن قد توفّر له أدوات العلم الحديثة كما هو متوفر اليوم، ويقدمها اليوم بملابس قدسية على أنها مقولات دائمة وصالحة لكل زمان ومكان، القضية الخفية هنا أن مروِّجي تلك الخرافات سرعان ما يطلبون من العامة دفع التبرعات والتي لا يعرف أحد أين توظف.

عندما تقع تلك المقولات على ما يُعرَف بفاقدي المناعة المعرفية، يجري تبنّيها وتوزيعها وتساعد التقنية الحديثة على ذلك، وهكذا يُصنع رأي عام غارق في الأساطير تُعمي مساحة أكبر في عقول الناس.

ما أصاب الناس في الصدع الزلزالي هو ظاهرة طبيعية لها تفسيرها المنطقي، وليس لسلوك بعضهم، ولا حتى أكثرهم؛ أكان صائباً أم خاطئاً (من وجهة نظر البعض) علاقة بما حدث؛ لا من قريب ولا من بعيد.

أليس مريعاً أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى ما وصل إليه من تقدم هائل في زماننا فأصبح يجيب على المسائل المعقدة ويفكك خوارزميات غير مسبوقة ويكتب المقالات والدراسات ويراقب البشر ويقوم بالعمليات الجراحية عن بُعد، وبعضنا ما زال في غيبة صغرى سياسية وكبرى ثقافية؟

آخر الكلام:

يخوض التفكير العلمي في ثقافتنا معركة ضارية لإقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي.

———————–

سنقتلكم بزلزال أو بغير زلزال… لكنّنا سنحيا! / سمير التقي

سيتطلب الأمر بعض الأسابيع حتى يكتمل إحصاء السوريين القتلى والجرحى جراء الزلزال المأسوي الذي أصاب تركيا وسوريا. وبالاستناد إلى التقديرات المعتدلة، قد يتجاوز عدد الضحايا من السوريين العشرين ألفاً. وفيما قد لا يزيد حجم المأساة السورية عن أختها التركية، فمن المؤكد أن مصيبة السوريين أكبر وأفدح بما لا يقاس. في تركيا، دولة ومجتمع ومنظمات إغاثية وبنية للطوارئ، تطورت عبر سنوات الخبرة، أما في سوريا فعلمكم كفاية.

قال مارك لوكوك، الرئيس السابق للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: “تركيا الآن غارقة تماماً في التعامل مع شعبها ومساعدته، ولا يمكننا أن نتوقع واقعياً إعطاء الأولوية لتسهيل مساعدة السوريين”. وبحسب صور الأقمار الاصطناعية والمسيرات، يتركز 84% من الدمار في الأراضي السورية في غرب الفرات خارج سيطرة النظام.

في هذه المناطق يسكن المهجرون للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة في بيوت عشوائية، بعضها من دون هياكل إسمنتية على الإطلاق. فبعد التطفيش الجماعي للمهاجرين، غرق بعضهم في المتوسط، على أبواب العالم المتحضر، وحط بعضهم رحاله في تركيا وغرب الفرات. هرب هؤلاء هرباً من القصف الكيماوي والبراميل وصواريخ بوتين “الدقيقة”، من الغوطة الشرقية إلى حلب ودوما وريف حماة وحمص إلخ.

بذريعة خراب الطرق نحو معبر باب الهوى المتفق عليه مع مجلس الأمن، يتم إيقاف المساعدات، فيما هناك ثمانية معابر أخرى، كانت تستخدم حتى 2015، لدخول المساعدات، وذلك قبل تفويض الولايات المتحدة للفيتو الروسي.

أما الآن، فينتظر المجتمع الدولي إذناً من روسيا لفتح المعابر، إذ تبتز روسيا المجتمع الدولي الآن، من ثقب التمسك بما تبقى من سيادة الدولة السورية، ليصبح السوريون تحت الأنقاض، الضحية المثلى للأقدار وللابتزاز السياسي.

لا تشبه ذاكرة الكبار والأطفال السوريين من هؤلاء المهاجرين ذاكرة الأسماك في شيء. إذ لا يزال هؤلاء يرتعدون في أحلامهم رعباً من أزيز القنابل وبريقها في السماء. بل صاروا الآن يستيقظون مذعورين لهدير الريح الذي يشبه هدير الأرض قبل الزلزال، ويسمعون في نومهم الأنين اليائس لأحبائهم تحت الأنقاض. وفيما لا يملك هؤلاء حتى الدموع ليبكوا من أحبوا، يصبح مصيرهم مرة أخرى رهينة بخسة.

ثمة مثل في بلادنا يقول: “من يجرب ما هو مجرب يكون عقله مخرباً”. وذاكرة الناس عن فظائع الحرب لا تزال حية تماماً، هذا ما يفسر ذعرهم من استعادة النظام لأي دور يخص مستقبلهم، رغم التراجيديا السوداء اليائسة التي يعيشونها لحظة بلحظة.

لم يعترف الزلزال بحدود الدول، ولم يحترم ما تبقى من سيادة النظام السوري حين داهم قدره الأسود هؤلاء اللاجئين السوريين. من جهة، من البديهي أن تكون إغاثة أهلنا في مناطق سيطرة النظام واجباً إنسانياً لا مجال للمساومة فيه، لكن من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى فداحة هذه المأساة، إضافة إلى وقائع الحرب على مدى أحد عشر عاماً، فسنجد، بشكل لا لبس فيه، كيف أن تدمير النظام بنية الدولة السورية ومؤسساتها المدنية وتدمير النسيج الاجتماعي في مناطق واسعة من البلاد، لمصلحة حكم الميليشيات والمافيات جعل كارثة الزلزال الرهيبة، مجرد شريك موضوعي صغير لجرائم النظام من أجل البقاء في السلطة.

لقد جرى منذ زمن طويل تذخير آلام السوريين لتتحول سلاحاً لتحقيق انتصارات روسيا والأسد. تقول كاثلين فالون، منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة “لقد تم تذخير الرعاية الصحية في سوريا من قبل النظام”. وقالت السفيرة جنكينز في إيجاز لمجلس الأمن الدولي بشأن الأسلحة الكيماوية في سوريا في مجلس الأمن: “لسنا غافلين عن حقيقة أن العديد من المستجيبين الأوائل السوريين الذين ينقذون المدنيين من تحت الأنقاض الآن، كانوا يساعدون منذ بضع سنوات المدنيين الذين تعرضوا لحروق أو اختناق بسبب الأسلحة الكيماوية التي استخدمها نظام الأسد. الشعور بالإنسانية والشجاعة اللذين يتحلى بهما هؤلاء المستجيبون الأوائل السوريون مذهل ونحن نرفع لهم القبعة”.

في المقابل، كتبت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، أن مجموعة العقوبات الأميركية، المعروفة باسم “قانون قيصر”، تهدف إلى إجبار الحكومة على وقف انتهاكات حقوق الإنسان ولا تستهدف المساعدة الإنسانية للشعب السوري أو تعرقل أنشطة تحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا. لقد وصف تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، دعوات سوريا إلى رفع العقوبات، بأنها “انتهازية سياسية”. وأضاف أن العقوبات ضمن “قانون قيصر”، ليس لها أي تأثير في تقديم المساعدة لمواجهة آثار الزلزال.

ومع ذلك، ومن باب سد الذرائع، ها هي وزارة الخزانة الأميركية تعلن أنها ترفع كل أشكال العقوبات المتعلقة بأي شكل من أشكال المعونات المتعلقة بمساعدات إغاثة الناس من الزلزال.

بعد أكثر من خمسة أيام على الزلزال، لا تزال المساعدات من منظمات الإغاثة الدولية إلى غرب الفرات، قاصرة قصوراً مدقعاً. وتدل الاتصالات مع المنظمات الإنسانية على الأرض، إلى أنه لم يتم استلام أي مساعدة تتناسب مع حجم الكارثة من قبل الأطراف المانحة الدولية، ولا يبدو أن هناك أي خطة للاستجابة الطارئة ترقى لمستوى إنقاذ الأرواح تحت الأنقاض.

يفتقد المتطوعون المرهقون الآليات اللازمة لإنقاذ ما تبقى من أرواح، كما يفتقدون المرافق لمساعدة الناجين، وتستمر الأمم المتحدة ومنظماتها في التسييس العبثي والبيروقراطي لعملية إيصال المساعدات الإنسانية عبر إصرارها المتكرر على حصر التعامل مع النظام السوري.

لا يمكن لوهم سلوك إنساني من قبل السلطات السورية تجاه مواطنيها، أن يُبنى على جثث المدنيين السوريين تحت الأنقاض! كما لا تحمل مهمة حماية المدنيين التي تدّعيها الأمم المتحدة أي معنى، ما لم يتم تجسيدها بموقف عملي لإنقاذ البشر السوريين في أحرج اللحظات كتلك التي نعيش الآن.

لم تبق إلا بضع ساعات لإنقاذ حياة المئات تحت الأنقاض، أو الجرحى المصابين في المشافي، أو المتجمدين من البرد في العراء.

ومرة أخرى، كما كان الأمر في سيربرينتسا ورواندا، سيكون هذا القصور الأخلاقي للمنظمات الدولية والمجتمع الدولي شاهداً على تواطؤ المنظمات الدولية ضد حق السوريين في الحياة، بحجة واهية هي ما تبقى من سيادة النظام السوري.

بعد سريبرينتسا توافق الغرب على حق الدول في “التدخل الإنساني” لتجاوز السيادة الوطنية للدول التي تتعسف في ظلم مواطنيها، وعلى هذا الأساس تم التدخل في كوسوفو. لكن، يبدو أن الكيل بمكيالين هو سمة اللعبة الدولية بين الكبار، حتى لو كان بينهم ما صنع الحداد.

النهار العربي

———————

التداعيات السياسية لزلزال تركيا قد تكون هائلة/ ماري ديجيفسكي

هل يؤدي الزلزال المدمر إلى إطاحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من السلطة؟

بعض #الكوارث_الطبيعية، وبغض النظر عن مدى التدمير الذي قد تخلفه، تبقى عادة في مقام: الكارثة الطبيعية. بعض #الكوارث الأخرى تحفز جملة تغييرات، ربما كان تحقيقها يتطلب وقتاً طويلاً، أو ربما لم تكن لتتحقق أبداً لو لم تقع الكارثة.

إن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا هذا الأسبوع قد يكون واحداً من تلك الأحداث، إن لم يجر ذلك اليوم فربما في الأشهر المقبلة.

قد لا يكون لمثل هذا الحدث أي تداعيات لو وقع في مناطق أخرى من العالم لكنه في هذه المنطقة، فإن الكارثة ربما تؤدي إلى تداعيات كبيرة بخاصة أن المنطقة تقع على فالق زلزالي ليس جيولوجياً فحسب، بل سياسياً وثقافياً أيضاً. فبعد الفوضى التي خلفها الاحتلال الأميركي للعراق، وصعود داعش، واستمرار الحرب الأهلية في سوريا، فإن المنطقة كانت قد شهدت نصيبها من التوتر في العقود الأخيرة، من دون الحاجة إلى إضافة هذه النكبة الضخمة.

ومن سخرية القدر أن يتزامن [الزلزال الكارثة] مع قيام الرئيس السوري بشار الأسد بإعادة تثبيت قوته تدريجاً في مختلف أرجاء سوريا، وأنه كان في صدد الإعداد لعقد اجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما كان ليشكل خطوة أولى في طريق عودته للساحة الدولية. لقد أوجدت الكارثة حالات من عدم اليقين إحداها الأكبر هو مصير احتمالات التقارب بين تركيا وسوريا.

واحدة من أكثر الأمور التي لا يمكن تقدير حجمها، تتعلق بأردوغان نفسه، وما يخبئه المستقبل القريب لتركيا. كان أردوغان قد أعلن الشهر الماضي أنه سيعمل على تقديم موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية لتعقد في شهر مايو (أيار) بدلاً من شهر يونيو (حزيران)، على أن يصار إلى تأكيد هذه المواعيد الشهر المقبل. على رغم من أنه من شبه المحتم أنه سيسعى للفوز في ولاية رئاسية ثالثة، فإن نجاحه في الفوز في الولاية الجديدة، لا يمكن اعتبارها قضية محسومة لصالحه، لأن قراره خوض الانتخابات يكسر حداً دستورياً يقصر الولاية الرئاسية بمدتين اثنتين، فيما بلاده تواجه تحديات اقتصادية جدية، كما أن قوى المعارضة نجحت أيضاً بتشكيل تحالف في جبهة تعمل على إطاحته.

 إن الزلزال يمكنه أن يغير هذه الديناميكية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف؟ فلو أجمعت الآراء على أن الحكومة التركية المركزية كانت مقصرة في مساعدة المناطق المنكوبة، فهل سيمنح ذلك أفضلية لأحزاب المعارضة؟ وماذا لو أعلن الرئيس أردوغان عن تأجيل الانتخابات التي كان للتو قد أعلن عن تقديم موعدها، من خلال إعلانه حالة الطوارئ في البلاد، مثلاً، فهل يكون ذلك في صالحه؟ لقد تركز الدمار جراء الزلزال في المناطق ذات غالبية كردية في جنوب شرقي البلاد. أردوغان لم يكن في الماضي ليتوانى عن استخدام القمع ضد أكراد تركيا في محاولته تجيير ذلك سياسياً لمصلحته. فهل يكون قيامه في عملية ضد المقاومة الكردية أمراً مطروحاً لدى أردوغان؟ ولو كان ذلك مطروحاً، فماذا سيكون تأثير ذلك على مجريات الانتخابات الوطنية؟

إن تلك الصورة تصبح أكثر تعقيداً إذاً في الناحية الأخرى من الحدود ـ أو ما يعتبر حدوداً في اتجاه سوريا. إن المناطق الحدودية السورية المحاذية لتركيا تبقى مناطق متداخلة السيطرة والنفوذ بين مناطق تابعة للثوار وتحالفاتهم المتغيرة، حيث تبقى الحرب الأهلية مستمرة من دون حل. وهذا ما يزيد من صعوبة عمليات إيصال مساعدات الإغاثة مما كان يمكن لها أن تكون، لكن الصعوبات أيضاً هي أكبر من مجرد العوائق العملية.

وأصرت الحكومة السورية على أن تكون عملية حصر المساعدات الدولية بالقنوات الرسمية الحكومية السورية، حتى لو تعلق الأمر بالمناطق الخاضعة لسيطرة الثوار. وهذا جزء من أصداء الخلافات التي كانت نشأت في ذروة أيام الحرب الأهلية، عندما حاولت منظمات الإغاثة الدولية إيصال المساعدات من أغذية وأدوية إلى المناطق المحاصرة ــ وهو ما وضع الدول المانحة في موقف صعب. فهم لو رفضوا التعامل مع الأجهزة الحكومية، فإن المساعدات الطارئة ربما لم تكن لتصل إلى الذين يحتاجون إليها أكثر من غيرهم. ولو في المقلب الآخر تمت الموافقة على شروط الحكومة السورية، كان من شأن ذلك أن يجعل الدول المانحة تبدو من خلال ذلك وكأنها تساعد عملياً نظام الأسد على استعادة ما خسره من مناطق.

إنها إشكالية تسهم في طرح سؤال كبير آخر حول تأثير الزلزال في الوضع على المدى البعيد. فهل سيسهم الزلزال في المساعدة على بسط الأسد لسلطته فيما تتطلع المناطق المنكوبة إلى الحكومة المركزية لمساعدتها؟ أو ربما كان للكارثة مفعول مخالف لذلك، وتؤدي إلى عكس المكاسب التي حققها الأسد أخيراً، إذا أثبتت الحكومة السورية المركزية عجزها عن، أو عدم رغبتها في تقديم المساعدة [الإنسانية إلى المناطق المنكوبة]؟ إن الرهان يكون على أن الزلزال لا بد أن يساعد الأسد على استعادة بسط سلطته، فيما الزعيمان [الأسد وأردوغان] مضطران لتنسيق الجهود لمواجهة الأزمة الطارئة.

ولا ندري لو كان ذلك سيترجم أكثر كجهود مشتركة للتخلص من الثوار المتحصنين في المناطق المتنازع عليها في شمال سوريا، وهو أمر قد لا يكون مستبعداً تماماً.

السؤال الأكثر صعوبة هو عن مدى التأثير المحتمل للزلزال على طموحات الرئيس أردوغان وسعيه ليكون وسيطاً إقليمياً [لدى الأطراف المتنازعة]. هل سيكون انتباهه مركزاً على الكارثة وتداعياتها المحلية والثنائية (مع سوريا)، مثلاً، ويمنحها كل الوقت والجهد المطلوب الذي سينعكس إلى حرف انتباهه عن مشاريعه الأخرى، وخصوصاً تحول تركيزه عن مبادراته الدبلوماسية المتعلقة بروسيا وأوكرانيا؟

كان أردوغان أحد الوسطاء القلائل الطموحين في الحرب الأوكرانية الروسية لكونه شخصاً يتمتع بتأثير مع طرفي النزاع، أقله من وقت لآخر. تحديداً، لقد نجح أردوغان في الإبقاء على خطوط الاتصال مفتوحة مع روسيا. وهو اليوم يواجه حالة طوارئ في جنوب شرقي بلاده وحملة انتخابات قد يكون من شأنها في النتيجة أن تكون أكثر صعوبة. فكم من الوقت سيكون متوفراً للرئيس أردوغان بعد ذلك للعمل على تهدئة المياه الهائجة على ضفاف البحر الأسود؟ هل سيسمح الرئيس أردوغان بأن تفوته أفضل فرصة سنحت له في تحويل تركيا إلى لاعب دبلوماسي كبير؟

على رغم من ذلك، ليس هناك من مؤشر إلى أن روسيا أو أوكرانيا لديهما كثير من الشهية للانخراط في الجهود الدبلوماسية حتى الآن، لكن من شأن الزلزال ربما أن يكون له تأثير هنا أيضاً، وهو ليس لمصلحة أوكرانيا. فعلى رغم من كل الاستعراضات المسرحية التي أظهرتها زيارة فولوديمير زيلينسكي إلى لندن، خطف زلزال جنوب شرقي تركيا وسوريا الأضواء الإعلامية، التي قد لا تعود قريباً إلى مسرح الحرب الأوكرانية. وقد يكشف الزلزال عن زيادة التنافس أيضاً على صعيد حجم حصص المساعدات الإنسانية.

لقد استفادت أوكرانيا كثيراً من التركيز الإعلامي وعرض قضيتها أمام العالم الغربي. تلك الأفضلية قد تكون في طريقها إلى الانحسار إذا تحول التركيز الغربي إلى ملف آخر. احتمال نجاح روسيا في الاستفادة من ابتعاد الأضواء عن الحرب في تداول الإعلام الغربي لغاياتها الخاصة- مثلاً لإطلاق هجومها الذي طال انتظاره- هو مسألة أخرى، كما أن مسألة انخفاض الانتباه الإعلامي بالحرب، ربما من شأنه بشكل من الأشكال أن يدفع الجانبين الروسي والأوكراني لسلوك طريق المفاوضات.

إن الزلزال يمكنه من ناحية أخرى أن يقدم لروسيا فرصة. يمكن المبالغة في وجود علاقات دافئة بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكن لدى الزعيمين مصالح مشتركة ويمكنهما أن يدفعا في نفس اتجاه مصالحهما المشتركة. إن الرئيس بوتين على تواصل مع كلا الرئيسين الأسد وأردوغان وروسيا قامت سريعاً بإرسال مساعدات الإغاثة للبلدين. ويمكن للرئيس بوتين تحسين رصيد روسيا مقابل كلفة بسيطة في وقت لم يبق لموسكو أي صديق في المعسكر الغربي.

إن الصعوبات التي تواجهها تركيا يمكنها أيضاً أن تسهم في مساعدة روسيا في مساعيها لتهدئة الخلاف بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو قره باغ. أذربيجان التي تدعمها تركيا في النزاع، نجحت أخيراً في إحراز التفوق في القتال خلال الأشهر الماضية، لكن تركيا ربما سيكون لديها من الآن فصاعداً اهتمامات أخرى. والنتيجة قد تنعكس عودة إلى الجمود الذي كان سائداً في السابق، الذي ربما يناسب روسيا بشكل أكبر من إمكانية تحقيق أذربيجان النصر في النزاع.

من المبكر جداً التوقع كيف سيؤثر الزلزال في كل من تركيا وسوريا على التطورات، ولكن يمكننا أن نتنبأ ببعض العناوين. ربما سيضعف الزلزال الرئيس التركي أردوغان، وقد يترك ذلك تداعياته على مكانة تركيا الإقليمية، وسيتمكن الأسد من تحسين سيطرته على بقية الأجزاء السورية بسرعة أكبر مما كان متوقعاً، مما سيفرض اتخاذ بعض القرارات على من يقدم الدعم لمناوئيه. يمكن لروسيا أن تحقق بعض المكاسب أيضاً، ويمكن لأوكرانيا أن تخسر، إذا تحول الانتباه الدولي بعيداً من الحرب في أوكرانيا.

ولن تكون هذه الكارثة الطبيعية استثنائية في تأثيرها على التطورات السياسية الأخرى. فأنا أتذكر الآثار التي كان قد خلفها الزلزال المزدوج الذي كان قد ضرب أرمينيا، وكانت في حينه جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1988، فيما كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يهم في إطلاق مساعيه لإصلاح الاتحاد السوفياتي. وقتل بنتيجة ذلك الزلزال أكثر من 60 ألف شخص.

إن جهود الإغاثة التي كانت قد قامت موسكو بتحريكها ما بعد زلزال أرمينيا، لم تكن على المستوى المطلوب، وأدى ذلك إلى انكشاف كل من ضعف الاتحاد السوفياتي الاقتصادي ومدى خروج الجمهوريات السوفياتية عن سيطرة الكرملين. كان حجم الدمار قد أسهم في إبراز عدد من العلل السوفياتية ومن ضمنها سوء المهارات العمالية وفسادها المستشري.

في تحرك غير مسبوق، طلب وزير الخارجية السوفياتي في تلك الحقبة إدوارد شيفرنادزه المساعدة الدولية وقام بفتح الحدود لاستقبال المساعدات الخارجية. الزلزال، أو بالأحرى مستوى التعامل مع تداعياته في حينه، كان له الأثر ليس فقط في فتح الباب على مصراعيه لبلد كان لا يزال مغلقاً إلى درجة كبيرة، لكنه برهن للمواطنين السوفيات عموماً، والأرمن على وجه الخصوص، إمكانية وجود عالم خارجي أكثر وداً وتكاتفاً.

ومن خلال ذلك، أصبح الزلزال في أرمينيا واحداً من عوامل كثيرة التي أدت إلى تسارع السقوط السوفياتي. أما تداعيات الزلزال في تركيا وسوريا السياسية فيمكنها على الأقل أن تحقق نتائج من ناحية التأثير في السياسات، وربما إعادة تكوين المنطقة. فأعداء وأصدقاء تلك الدول على حد سواء عليها البدء في الإعداد للتغيير، حتى وإن لم يكن من الواضح بعد على ماذا قد يرسو مثل ذلك التغيير.

اندبندنت عربية

————————–

السوريون بين كارثتي الزلزال والانقسام السياسي

أوضحت كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غربي سوريا الكثير من الحقائق، فبات السوريون، وبما لا يدع مجالًا للشكّ، الحلقة الأضعف في سلسلة الحلقات المتداخلة في المشهد الإقليمي كلّه. ولو جئنا للواقع، فمن غير الطبيعي أن يكونوا عكس ذلك؛ فمجمل الظروف التي تركتهم نهباً لنظام الأسد طيلة اثني عشر عاماً لم تتغيّر، ذلك أن موازين القوى التي جعلت نظام الحكم في بلادهم يستعمل ضدّهم الأسلحة المحرمة والمحظورة، وتحت أنظار دول العالم أجمع، هي ذاتها السائدة الآن، ولن تقيهم بطبيعة الحال أهوال الكوارث غير البشرية. لكنّ الكارثة الأخرى المرافقة للزلزال، هي تلك الفاجعة السياسية التي أظهرت حجم الانقسام السياسي في سوريا، كما أظهرت حجم التبعية والارتهان للقوى الخارجية أيضاً.

في الوقت الذي أبدت فيه الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا على لسان الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي فيها السيدة بيرفان خالد، استعدادها لفتح المعابر ونقل المساعدات عبر مناطقها إلى المناطق المنكوبة غرب سوريا، نرى السيد عبد الرحمن مصطفى رئيس “الحكومة المؤقتة” يرفض هذا العرض متهماً مجلس سوريا الديمقراطية “بالمتاجرة بآلام المنكوبين”. كذلك نرى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وقد التزم الصمت المطبق، وكأنّ ما يحصل هناك شأن خارجي لا علاقة له به، فلم يصدر عنه سوى بيان خشبي أدلى به أمين عام الائتلاف بعد الكارثة بساعات، ولم يتبعه بأي تحرّك على الأرض.

ثمّة لغط كبير حول الموقف التركي ذاته من السماح لقوى الأمر الواقع المتحكمة بمناطق شمال غرب سوريا بقبول المساعدات القادمة من مناطق الإدارة الذاتية، ليس هذا فحسب، بل هناك إشارات استفهام كثيرة حول فتح المعابر لمرور المساعدات المخصصة للسوريين والتي جمعها أهلهم من تركيا ومن خارجها. الكثير من الموجودين على الأرض يتكلمون عن إجراءات تعجيزية تفرضها السلطات التركية، ليس أقلها الرسوم المفروضة على المواد المشحونة باعتبارها بضائع تجارية لا مساعدات إنسانية. وقد يتفهّم المرء الضغوط التي تتعرّض لها الحكومة التركية، والاستحقاقات الكبيرة المفروضة عليها أمام هول الكارثة، لكن هذا لا يعطيها الحق مطلقاً بمنع المساعدات المخصّصة للمنكوبين السوريين من العبور، أليس هؤلاء بشر مثل الأتراك أيضاً، أليست تلك المساعدات قادمة لهم خصيصاً؟.

على العكس من ذلك كلّه، كانت الاستجابة الأميركية لهذه الكارثة هي الأسرع على الإطلاق، فقد صدرت التعليمات من الرئيس جو بايدن وعدد من مساعديه مباشرة وخلال ساعات معدودة لتقديم جميع أشكال العون الممكنة للسوريين والأتراك. كذلك فتحت المملكة العربية السعودية أبواب التبرّع الشعبي لجمع الأموال والمساعدات، ولحقتها ألمانيا ودول أخرى أرسلت فرق الإنقاذ والمعدّات والمساعدات العينية. والأهمّ من هذا وذاك كانت الهبّة الشعبية الكبيرة للسوريات والسوريين من كل أصقاع الأرض، الذين تعاضدوا وتكاتفوا يجمعون المال والخيم والثياب والأدوية وكل ما استطاعوا إليه سبيلًا ليرسلوه إلى أهلهم المنكوبين. ونذكر هنا في هذا المقام ما جمعه أهالي حوران خلال يوم واحد من “فزعتهم” إذ بلغ مقدار ما جمعوه مليار ليرة سورية من الداخل فقط، وهذا غير ما تبرّع به أخوتهم وأخواتهم مباشرة للمنظمات والجمعيات الخيرية في الخارج. والحال، فقد بات الفرق واضحاً بين أداء مؤسسات المعارضة الرسمية المرتهنة، وبين الأداء الشعبي الحرّ النابع من ضمائر الناس الحيّة.

لا يشكّ سوريّ واحد، حتى أولئك المحسوبين على حاضنة النظام، بأنّ الهدف من وراء قرار مجلس وزراء نظام الأسد الذي صدر في العاشر من الشهر الجاري بتسمية المناطق المنكوبة من سوريا، ومن ضمنها مناطق المعارضة الواقعة الخارجة عن سيطرته، إنما هو للاستثمار السياسي والمالي في هذه الكارثة. فمن جهة أولى، قام النظام بسرقة المعونات المخصصة للمنكوبين في مناطق سيطرته، والتي باعها مباشرة في السوق السوداء، وهو ما يعني أنه لن يكون رؤوفاً بالمنكوبين الموجودين خارج مناطق سيطرته، الذين كان هو سبب تهجيرهم وتشريدهم، ومن جهة ثانية، يظهر هذا السلوك مدى الدهاء في إجمال مناطق المعارضة في عداد المناطق المنكوبة، إذ سعى النظام بذلك إلى الإعلان عن مسؤوليته عنها رغم عدم سيطرته الفعلية عليها، وبالتالي حاول الإيحاء بأنه الممثل الوحيد للدولة السورية وما يستتبع ذلك من استفادة للعوائد السياسية والمالية لهذا الإعلان، وذلك على عكس تصرف الحكومة المؤقتة والائتلاف اللذين عجزا عن فهم هذه النقطة، بل سدّا، بغباءٍ منقطعِ النظير، أبواب الدعم القادمة من داخل سوريا، الأمر الذي سينعكس سلباً على المساعدات القادمة من خارجها، ما يعني أن فعلتهم هذه باتت تمثل القشّة التي ستكسر ظهر هذه المؤسسات المنخورة بالفساد والتسلّط وانعدام الكفاءة.

قصارى القول، ستمضي هذه الأيام العصيبة، وتأخذ معها الكثير من الزبد الذي طفح على السطح خلال السنوات الماضية، سيكون من الطبيعي في هذه الأثناء التفكير بمسارات جديدة لإنهاء حالة الانقسام السوري، ولئن كانت الأولوية الآن منصبّة على معالجة الآثار الإنسانية للكارثة، فإنّ الآثار السياسية المترتبة عليها لا تقلّ عنها أهميّة أبداً. سيكون لزاماً علينا البدء في إنتاج خطاب سوري جديد، والبدء بوضع خارطة طريق مختلفة للتعامل مع الواقع، وفرز القوى الموجودة في الفضاء العمومي وفق تراتبية مغايرة لما كان سائداً قبل كارثة الزلزال.

نورث برس

————————-

التداعيات الجيوسياسية والداخلية لزلزال تركيا وسوريا/ راغدة درغام

ستكون هناك تداعيات سياسية، داخلية واقليمية ودولية، للزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا وسوريا وخلّف كارثة إنسانية واقتصادية ضخمة. ستهتزّ الحسابات الانتخابية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن عدم تأجيل موعد انعقادها منتصف أيار (مايو) وأرفق ذلك بفرض قانون طوارئ قال انه سيكون مفيداً في مكافحة مثيري الفتنة والتجار والفاسدين- فيما وجده آخرون إجراءً قد ينعكس سلباً على أردوغان وطموحاته الرئاسية. أما الرئيس السوري بشار الأسد فإنه لن يتلقى إعادة التأهيل السياسي له ولنظامه كإفرازٍ جانبي للتعاطف الدولي والعربي مع نكبة السوريين الزلزالية. فأوروبا لن تهرول الى التطبيع معه والولايات المتحدة ستصّد محاولات تجاوز العقوبات المفروضة على النظام. روسيا مكبّلة بحربها في أوكرانيا ومع حلف شمال الأطلسي، لكنها ستساعد بقدر المستطاع -وهو ليس بحجم الاحتياجات السورية- ثم إنها ستكون حذرة مع تركيا لا سيما أمام ما قد تراه أنقرة استفزازات إيرانية كزيارة قائد “فيلق القدس” اسماعيل قآني الى حلب والتصريحات التي أدلى بها. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتاج الرجلين في أنقرة ودمشق كما أنه في حاجة إلى طهران- لذلك إبحاره سيكون شقيّاً.

حلب جرح مفتوح لأنها المدينة العريقة التي دُمَّرت قبل الزلزال وعانت عبر السنوات من قصف روسي وبراميل متفجرة شاركت إيران ووكلاؤها في إعدادها. إنها على حدود تركيا، وأنقرة لا يعجبها أن تتوجه إيران اليها بعد الزلزال بعنجهية رسالة نحن هنا، ونحن نسيطر. إنها بذور لمواجهة تركية – إيرانية ضحيتها حلب وجوارها وأهاليها.

قد تتحسن العلاقة التركية – السورية اضطراراً بسبب الكارثة التي أصابت الشعبين، لكن الحديث عن تقارب تركي – سوري على مستوى القيادتين سيتراجع على الأرجح، ليس فقط بسبب الانشغال بالنكبة الإنسانية وإنما أيضاً بسبب المنافسة بين العنجهية الإيرانية والعنجهية التركية في وقتٍ حساس بامتياز، لا سيما أن النظام في دمشق يقع تحت سيطرة إيرانية.

إيران ستضطر لأخذ تأثير الزلزال في تركيا وسوريا على مشاريعها وخياراتها الإقليمية في الاعتبار- وقد تتأنّى. فهذه الكارثة ليست إنسانية فحسب وإنما تداعياتها الإقليمية والجيوسياسية تتطلّب العودة الى طاولة رسم السياسات والسيناريوات. سوريا فائقة الأهمية في قائمة “الممتلكات” الإقليمية لدى قادة النظام في طهران. إنها أولوية استراتيجية ضرورية للمشاريع الإيرانية. وطهران عازمة على منع التسلل الى تقويض سيطرتها على سوريا والتي أتت بوكالة روسية. فالزلزال وجّه الأنظار الى سوريا والى القبضة الإيرانية على سوريا برضا النظام في دمشق.

الكونغرس الأميركي الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري اليوم سيكون بالمرصاد للمشاريع الروسية والإيرانية في سوريا كما لأيّ محاولة لتعويم نظام الأسد أو لتجاوز العقوبات. إنه أيضاً بالمرصاد لإدارة الرئيس جو بايدن لعلّها تسمح باستثناءات لقانون قيصر الذي أصدره الكونغرس ويستهدف الأفراد والشركات التي تقدم التمويل أو المساعدة للرئيس السوري وللكيانات الإيرانية والروسية التي تقدم الدعم لحكومة الأسد.

إدارة بايدن والكونغرس على السواء ليسا في وارد رفع العقوبات عن النظام في دمشق بدافع الكارثة الإنسانية. فالولايات المتحدة تبحث في آليات مكمِّلة لآليات المنظمات الدولية للإغاثة، مثل المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وهي لن توافق على التعاقد مع النظام في دمشق لإيصال المساعدات إلى المناطق المتضررة سواءً أكانت تحت سيطرة النظام أو المعارضة.

فالعقوبات الأميركية أصلاً لا تُطبَّق على المساعدات الإنسانية، والكونغرس لن يسمح باستغلال الكارثة الإنسانية لفك العزلة عن بشار الأسد أو لتطبيع الأمر الواقع معه. واشنطن تدرك أن الدول العربية ستشعر بالنخوة نحو الشعب السوري وبعضها قد يتحمس لكسر طوق العقوبات، إلا أن الكونغرس الأميركي لن يسمح بأن تنجر الولايات المتحدة والدول الأوروبية الى استفادة نظام الأسد من الكارثة.

وكمثال، إن الكونغرس في صدد تشديد عزمه على منع مشروع الغاز والكهرباء من مصر إلى الأردن فسوريا ولبنان والذي كان في ذهن إدارة بايدن بذريعة مساعدة لبنان. هذا المشروع تطلّب استثناءً لقانون قيصر. تطلّب أيضاً دوراً أساسياً للبنك الدولي. لكن البنك الدولي تردّد منذ البداية بأن يكون طرفاً في عملية قفز على قانون قيصر حتى وإن كان بطلب من إدارة بايدن وهو أوضح أخيراً أنه ليس في صدد التورط في استثناءٍ لقانون للكونغرس من دون موافقة الكونغرس.

هناك تحرك آخر يقوم به الحزب الجمهوري في الكونغرس ليضمن فصل المساعدات الإنسانية والإغاثة الى سوريا عن النظام في دمشق، ولتجاوز الفيتو الروسي على فتح المعابر الى المناطق المنكوبة الواقعة خارج سيطرة النظام. رأيه أن آليات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها ليست كافية، وأن هناك حاجة لآليات جديدة للتنسيق بين القوات الأميركية في سوريا وبين الجيش التركي، لا تمر عبر الحكومة السورية، لتأمين المساعدات عبر المعابر الى المناطق المتضررة وذلك عبر خطة مستدامة تتطلّب البدء بالعمل الآن ومن دون انتظار موافقة حكومة الأسد.

بكلام آخر، ما قد تسمح به إدارة بايدن سيواجه تعطيلاً من الكونغرس الرافض أن تكون الكارثة وسيلة لتعويم بشار الأسد. وهناك تحرك داخل الكونغرس لإصدار قوانين إضافية تحول دون استفادة الأسد وإيران و”حزب الله” من الكارثة التي خلّفها الزلزال.

الزلزال قد يرطّب أجواء العلاقات الأميركية مع الرئاسة التركية لأن الاحتياجات التركية ضخمة وتتطلّب من الرئيس أردوغان النزول من أعلى السلم على عدّة أصعدة.

فتركيا في حالة اقتصادية حرجة جداً، مدن كبرى فيها دُمِّرت بما يتطلّب مليارات الدولارات التي لن تسددها المساعدات الفورية بملايين الدولارات. أوروبا مكبّلة بمشاكلها وبحربها مع روسيا التي قد تتخرّج من اللامباشر الى حرب أوروبية بل وعالمية. أميركا غير متحمّسة لتقديم المليارات إلا إذا كان الثمن المقابل يستحقها على نسق تسلّق رجب طيب أردوغان نزولاً من سلّم المكابرة بالذات في مسألة عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي تركيا اليه والذي يتطلّب إجماع جميع أعضائه للقبول بعضوية دول جديدة.

ماذا سيفعل رجب طيب أردوغان بما تعتبره أوروبا والولايات المتحدة غطرسة فوق العادة في مواقفه نحو فنلندا والسويد واليونان في زمن حاجة تركيا الماسة الى مساعدات بمستوى الكارثة الكبرى الناتجة من الزلزال؟ لعلّه يكابر، ولعلّه يعيد الحسابات بما في ذلك حسابات علاقاته مع فلاديمير بوتين والتي هي المنفذ الرئيسي للرئيس الروسي لكسر طوق العزل الغربي عليه وللشريان الاقتصادي لروسيا المكبلة بالعقوبات.

حاجة أردوغان الى مساعدات ضخمة من الولايات المتحدة وبقية أعضاء حلف الناتو ستفرض عليه التأقلم مع المطالب الغربية- أقلّه لجهة التوقف عن استفزاز الناتو أوروبياً ومن البوابة الروسية. الأرجح أن الرئيس التركي سيتوقف عن تهديداته لليونان والسويد وفنلندا وعن خططه لتحدّي حلف الناتو. الأرجح أنه سيضطر للتواضع قليلاً- الأمر الذي يسبب له ألماً كبيراً.

هذا يعني أن على رجب طيب أردوغان أن يغيّر أسلوبه وأن ينسى أحلام إحياء العظمة العثمانية لأن ذلك الحلم مكلف بالمليارات فيما حاجة الإغاثة وإعادة البناء في تركيا بعد الزلزال ستتعدّى قدرات الاقتصاد التركي الركيك أساساً. ثم إن هذا الزلزال المرعب قد لا يكون وصل خاتمته وهناك من يتحدّث عن إمكانية حدوث زلزال آخر بقوة هذا الزلزال- عندئذ سيكون الدمار محطِّماً فوق العادة.

زلزال شباط (فبراير) سيطوّق الكثير من مشاريع أردوغان الممتدة من جيرته في آسيا الوسطى بالذات نحو أذربيجان، الى نشاطاته في ليبيا، الى تبنيه مشروع “الإخوان المسلمين”. سيفرض عليه تغيير سياساته الخارجية الى جانب التوقف عن التهديد مثلاً بفرض حزام أمني داخل الأراضي السورية.

ضرر الزلزال كبير على الرئيس التركي وكذلك على الرئيس الروسي كما على مشاريعهما التي تطلّبت استثمارات ضخمة. فلاديمير بوتين وجد نفسه مضطراً لربط مصير الاقتصاد الروسي بشخص رجب طيب أردوغان وضرورة استمراره في الحكم في تركيا.

لكن الهزة الأرضية قد تغيّر الحسابات الانتخابية التركية لعدّة أسباب من أبرزها أن الرئيس التركي كان قد اتخذ من سياساته الخارجية ذخيرة مهمة لإقناع الناخبين ببرنامجه السياسي الطموح لتركيا. اضطراره لتحويل جهوده نحو الداخل بسبب ما تتطلّبه تداعيات الزلزال سيسحب منه ورقة ثمينة كان وضعها أساساً لحملة إعادة انتخابه رئيساً.

بكلام آخر، لعل الزلزال يخدم المعارضة في تركيا التي أمامها فرصة أن تتوحّد ولربما أن تفوز في الانتخابات لأن المعركة ستكون أكثر تركيزاً على الداخل وليس على السياسة الخارجية. ثم أن فرض حال الطوارئ قد يتحوّل الى سلعة انتخابية يستخدمها أردوغان والمعارضة على السواء- وهي سيف ذو حدّين. فمزاج الأتراك قد لا يتحمل الانقلاب الكامل على الديموقراطية.

من المبكر تقويم أبعاد كارثة فتكت بالأتراك والسوريين وخلّفت أكثر من 30 ألف قتيل ودمّرت مدناً بكاملها وأبكت ملايين الناس الذين رافقوا انتشال الأطفال من تحت الركام وحاولوا أن يتصوروا حجم المأساة لعائلات تمزّقت. المؤلم أيضاً أن هذه ليس خاتمة الأحزان، وأن العالم الذي قبض على أنفاسه وهو يراقب هذه التراجيديا سينصرف قريباً الى تطورات عالمية أخرى تتربّص له- فيما معاناة الأحياء من الضحايا ستطول كثيراً حسبما يبدو الآن.

رحم الله الموتى وساعد الأحياء.

النهار العربي

——————————

حلب مهدّدة بكارثة ثالثة…/ سركيس قصارجيان

رئيس بلديتها لـ”النهار العربي”: ما لم تدمّره الحرب دمّره الزلزال

انتظر أبو محمد، الرجل الخمسيني، طويلاً أمام كومة من الأنقاض، قبل أن يعانق للمرة الأخيرة زوجته وابنته اللتين أسلمتا الروح تحت أوحال وحجارة منزله في حي الشعار شرق مدينة حلب. “لله ما أخذ وله ما أعطى” يقول صلاح العامل في مهنة جلي البلاط، مواسياً نفسه ومن حوله من الجيران والأصدقاء الذين لم تفارق هواتفهم النقّالة أيديهم طوال ثلاثة أيام، موجّهين أضواءها نحو الشقوق بين الركام، لعلها تواسي عالقين تحت الأرض في وحدتهم المظلمة والرطبة.

أنهت حلب أعمال انتشال الضحايا من تحت الركام، لتواجه تحدياً من نوع آخر، وأكثر استمرارية، متمثّلاً في مسح وتثبيت الأبنية المتضررة وهدم الخطرة منها لتفادي وقوع ضحايا جدد مستقبلاً، إلى جانب تأمين مساكن بديلة للمتضررين من الزلزال، الذين يعدّون بعشرات الآلاف وفق التكهّنات.

حلب مدينة منكوبة

تعتبر حلب إحدى المحافظات السورية الثلاث الأكثر تضرراً من الزلزال الذي ضرب كلاً من تركيا وسوريا فجر الاثنين الماضي، إلى جانب إدلب واللاذقية، وهي المحافظات الممتدة على طول الحدود مع ولايتي غازي عنتاب ولواء اسكندرون (هاتاي) التركيتين، ما يفسّر تعرّضها للدمار أكثر من باقي المناطق السورية التي شعرت بالزلزال بقوة.

منذ اللحظات الأولى للزلزال الأول، هرع أهالي حلب المدينة وريفها إلى الشارع، فنجا من نجا، فيما دفن الآلاف من قاطني مناطق السكن العشوائي تحت الأنقاض، بانتظار وصول المنقذين إليهم.

في حديثه إلى “النهار العربي” يشرح رئيس بلدية حلب معد مدلجي أن “الغالبية العظمى من المباني المدمّرة والضحايا كانوا من قاطني مناطق السكن العشوائي، التي تشكّل ما يقرب 40% من مدينة حلب، والسبب أن المباني في هذه المناطق تفتقر أساساً إلى معايير السلامة العامة وهي غير مشيّدة وفق المواصفات القياسية الهندسية، ما أدّى إلى انهيارات سريعة وكبيرة”.

ويضيف مدلجي: “حلب مدينة منهكة أصلاً من الحرب التي أثّرت على بنيتها التحتية وبنية أبنيتها ومنشآتها، وما لم تدمّره الحرب للأسف أجهز عليه الزلزال”.

حسب مدلجي، تجاوز عدد الأبنية المدمّرة بشكل كامل في المدينة وحدها الستين، فيما أن الخطر الأكبر يكمن في الأبنية المتضررة بفعل الزلزال والمهددة بالسقوط، وهنا يصنّف رئيس بلدية حلب، والمهندس الخبير في انشاء وتخطيط المدن، هذه الأبنية إلى 4 فئات: “أولى مدمّرة، وثانية متصدعة بشدة وغير القابلة للسكن، وثالثة متصدّعة جزئياً وتحمل درجة عالية من خطورة الانهيار، ورابعة لا تظهر علامات تصدّع إلا أنها أصلاً تفتقر إلى شروط ومعايير السلامة”.

فرق الإنقاذ الوافدة

تفتقر سوريا في الأساس إلى الخبرة للتعامل مع الكوارث الطبيعية، وخاصة الزلازل، وهي نادرة في تاريخ سوريا الحديث. فطوال السنوات العشرين من عملي في الإعلام لا أتذكّر تغطيتي لانهيار بناء واحد نتيجة لزلزال.

إلى ذلك، فقد قوضت الحرب من قدرة الدولة السورية على مواجهة الكوارث سواء على مستوى الكادر البشري، او الآليات والأدوات اللازمة للتعامل مع الفواجع كالزلازل وغيرها، وهو ما كان واضحاً في بطء سير عمليات الانقاذ، على الرغم من مشاركة وحدات من الجيش والقوات الرديفة وأعداد كبيرة جداً من الشبان المتطوعين إلى جانب فرق الدفاع المدني وأكثر من 50 فريق انقاذ، وفرق من الجزائر وتونس وروسيا وإيران وأرمينيا، انضمت إلى الفرق المحلية السورية لاحقاً، وذلك، حسب العديد من المختصين الذين تواصل معهم “النهار العربي” بسبب عدم توفر الخبرة لدى فرق الانقاذ المحلية وشح المعدات والوسائل.

يروي سعيد خولندي، أحد أبناء حي الشعار، الذي تعرّض للدمار نتيجة الزلزال تفاصيل الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين قائلاً: “مع شروق الشمس كنّا قد تجاوزنا هول الصدمة وبدأنا بالتفكير في كيفية مساعدة فرق الانقاذ في ظل النقص في الآليات القادرة على رفع الأنقاض الكبيرة والثقيلة، وعدم وجود كوادر مدرّبة أو كلاب خاصة لمثل هذه العمليات”.

وأضاف: “بدأنا، نحن مجموعة من شبّان الحي، الكشف عن الأبنية التي انهارت، والتبليغ عن مواقع الأضرار، ومع بدء وصول الآليات الثقيلة، ركزنا على رفع الانقاض الخفيفة من الشوارع لتسهيل مرور سيارات الاسعاف إلى المناطق نقاط الدمار”.

ويؤكد سعيد، أنه بمساعدة شعبية، بدأت الفرق عمليات انتشال الأحياء من تحت الركام، لكن بصعوبة بالغة وبطء شديد، فعلى الرغم من الاستجابة الحكومية السريعة، إلا أن الامكانات كانت جداً ضئيلة بسبب قلّة آليات والمسعفين المتخصصين.

ويكمل بالقول: “تجاوب الأهالي لم يكن آنياً، لأن الفاجعة كانت كبيرة، والبلاء عظيم. كل شخص  كان يحاول إنقاذ عائلته وتأمين الألبسة لأطفاله وعائلته، لكن وصول وحدات الجيش لمساندة الدفاع المدني كان عاملاً محفّزاً، وساهم في رفع معنويات الناس الذين بدأوا يقولون: الدولة ليس لديها امكانيات لكنها تزج بكل ما لديها من أجل انقاذنا، علينا مساعدة بعضنا البعض”.

ويؤكد الصحافي زاهر طحان، مراسل اذاعة “شام أف أم” السورية، المتابع لعمليات الاغاثة، في حديثه إلى “النهار العربي” أن “فرق الانقاذ القادمة سرّعت كثيراً من عمليات الاغاثة، وخاصة الفريق الجزائري الذي عمل بحرفية عالية جداً وقد وصل بعد 24 ساعة من وقوع الزلزال وهو توقيت جيد مقارنة مع الفرق الأخرى”.

تتسم مناطق السكن العشوائي في حلب بشكل خاص بالاكتظاظ، ويقدر مدلجي متوسط عدد أفراد العائلة الواحدة في هذه المناطق بثمانية، ما يعطي صورة أوضح عن هول النكبة لناحية عدد الضحايا سواء أولئك الذين قضوا في الزلزال أم الناجين الذين صاروا بلا مأوى.

128 مركز ايواء وميتمان في المدينة

ومع انقشاع غبار الركام، وجدت السلطات الحكومية في حلب نفسها أمام تحد جديد لا يقل صعوبة عن عملية إزالة الأنقاض وانتشال الأرواح، والمتمثّل بإيواء الناجين وتقديم الخدمات الطبية والمستلزمات المعيشية لهم.

ويميّز طحان “بين فئتين من اللاجئين إلى مراكز الإيواء، الفئة الأولى تتألف من قاطني المنازل المدمّرة أو المتضررة والمهددة بالسقوط، وهؤلاء لم يعد لديهم أي مأوى، والفئة الثانية من الخائفين من العودة إلى منازلهم خشية وقوع هزات جديدة، خاصة من القاطنين في الطوابق العالية”.

ويؤكد سعيد ما ذهب إليه طحّان قائلاً: “أغلب الناس لم يناموا في بيوتهم خلال الأيام الماضية، باستثناء قلة قليلة من سكان الطوابق السفلية، كما نام كثيرون في المدارس أو سياراتهم، او في مداخل الأبنية، أما الذين لديهم أهل وأقارب تحت الأنقاض، فكان وضعهم الأسوأ على الإطلاق، لأنهم بقوا أمام الأبنية المهدّمة على أمل سماع أصوات استغاثة من أعزائهم المطمورين أو رؤية جثثهم لدفنها أصولاً”.

وأضاف: “ثمة نساء نزلن إلى الشارع بملابس النوم من هول الصدمة، دون أن يتسنى لهن تغطية رؤوسهن حتى، وهو مظهر يمسّ كل مسلم بلا شك”.

وبلغ عدد مراكز الإيواء في حلب 128 توزّعت بين مدارس وقاعات ومنشآت رياضية، إضافة إلى فتح جميع كنائس ومساجد المدينة والعديد من المنشآت السياحية من فنادق ومطاعم أبوابها أمام النازحين، فيما تم فتح ميتمي “الفتاة اليتيمة” و”الجمعية الخيرية الإسلامية” للأطفال الذين فقدوا أهاليهم جراء الزلزال.

ويقدّر طحان عدد النازحين الموجودين في مراكز الإيواء بنحو 13 ألف شخص، بالإضافة إلى الكثير من العائلات التي لجأت إلى منازل أقاربها في الأرياف، حيث خطر التهدّم أقل لكون منازلها أرضية في أغلبها.

خطر الأبنية المتصدّعة

ويؤكد رئيس بلدية حلب انتهاء أعمال انتشال الأحياء والجثث من تحت الأنقاض بشكل كامل في المدينة، بحيث “لم يبق مصير أي مفقود مجهولاً”. لكنّه يشير إلى تحد آخر قد يكون أكثر صعوبة ويوازي أهمية البحث عن الناجين خلال الزلزال، متمثّلاً بالأبنية المتصدّعة في المدينة.

ويقول مدلجي لـ”النهار العربي”: “إلى جانب الأبنية المتهدّمة، هناك الكثير من الأبنية المتصدّعة، خاصة تلك المشيّدة في مناطق السكن العشوائي، والتي تفتقد أصلاً إلى معايير السلامة الهندسية، حيث شهدت فترة الحرب في الأحياء الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية حركة بناء عشوائي زادت من مساحة العشوائيات الكبيرة أصلاً في المدينة”.

وحسب مدلجي فقد تم حتى الآن الكشف على 1200 بناء في أحياء محتلفة من المدينة، حيث تم تثبيت 66 بناء متصدّعاً بتصدعات خطيرة جداً، ومنع الأهالي من العودة إليها تحت أي ظرف.

ويؤكد مدلجي أن 80 لجنة هندسية يعد كل منها اثنين أو ثلاثة مهندسين يقومون بشكل متواصل بالكشف عن الأبنية في مدينة حلب.

النهار العربي

————————–

معركة الأسد اليائسة: الزّلزال وسيلة لرفع العقوبات/ عبدالوهاب بدرخان

كل الكوارث الطبيعية تضع العالم في اختبارات عدّة، منها التحدّي العلمي لتشخيص ما يحصل واكتشاف أي وسيلة لاستباقه، ومنها الواجب الإنساني المباشر الذي يحاول أن يلبّيه بحسب الاحتياجات المعلنة من جانب البلد المنكوب، ومن دون أي اعتبارات سياسية. هذا ما حصل في الإقبال على مساعدة تركيا رغم الجدل الذي تثيره شخصية رجب طيب أردوغان وسياساته، فالمعيار الأساسي للحظة هو المساهمة في إنقاذ الأرواح وتأكيد التضامن الدولي. لكن الأمر اختلف مع سوريا، بسبب بشار الأسد وأداء نظامه، من لحظة الزلزال وخلال الأيام التي تلته.

كان الفارق كبيراً بين وجود أردوغان في مناطق مركز الزلزال بعد يوم من حدوثه، إذ بدا واجماً مهموماً محاولاً الإجابة عما يتوقعه مواطنوه منه، وزيارة رئيس النظام لحلب إحدى المناطق الأكثر تضرّراً، إذ كان الأسد ضاحكاً ومقبلاً على التقاط صور “السيلفي” مع المحتشدين كما لو أنه في رحلة سياحية، وكان جاهزاً لثرثرته المعتادة عن “الصمود والمواجهة والتمسّك بالقيم والمبادئ والسيادة” وليس عن واجبات “دولته” في مواجهة الكارثة. وعلى ذكر “السيادة” فقد سبقه “والي حلب” الإيراني إسماعيل قآني إلى تفقّد المنطقة.

لا بد أن أردوغان استشعر مع الزلزال اهتزاز عهده وربما نهايته، مع اقتراب انتخابات حرجة له ولحزبه، فالصدمة والأحزان وتشرّد ملايين الناس يمكن أن تغيّر أمزجة الناخبين تجاهه حتى لو لم يكن له أو لحزبه ذنب في غضب الأرض. ولا يستطيع الرئيس التركي الحالي نسيان أن زلزالاً في 1999 تسبّب، بين عناصر أخرى، بإنهاء عهد رئيس سابق هو بولنت أجاويد. ومع ذلك كان واضحاً لدى أردوغان وأركان حكومته، منذ اللحظة الأولى، أن الأولوية الراهنة هي لتجنيد كل الإمكانات في مواجهة الكارثة وانعكاساتها على اقتصاد كان مترنّحاً، ومن ثمّ التهيّؤ لتحديات ما بعدها، فحتى لو سلّموا بأن “قدريةً” ما ضربت تركيا وعطّلت جانباً كبيراً من البنية التحتية الضرورية لعمليات الإنقاذ والإغاثة، تبقى هناك واجبات على الدولة وينبغي أن تكون على مستواها. لكنها، مع ذلك، في حاجة إلى مساعدات خارجية.

في سوريا كانت هناك ثلاث مشكلات رئيسية في التعامل مع الكارثة: نقص الإمكانات اللوجستية، نقص الإرادة عند النظام، ونقص/ أو بالأحرى انعدام الوسائل في مناطق المعارضة. ولما كانت الأيام الأولى بعد الزلزال هي المحكّ في إنقاذ الأرواح، فإن الوضع الإنساني واجه حقيقة أن البلد بشطريه وظّف كل شيء في الاقتتال وكان واقعياً في كارثة، ثم وجد أن عليه أن يتعامل مع كارثة مستجدّة بهذه الضخامة. في مناطق النظام تساءل المواطنون خصوصاً عن ضعف الاستجابة للحدث، فهناك معدّات لدى قوات النظام لم تظهر، وهناك هيئات، مثل “مؤسسة العرين” التي تشرف عليها أسماء الأسد (حلّت محل “مؤسسة البستان” لرامي مخلوف)، أبلغت المراجعين في جبلة وريف حماة واللاذقية (مناطق علوية متضرّرة) أن ليس لديها ما تقدّمه “بسبب العقوبات”. أما في مناطق المعارضة التي حرص الطيران الروسي والنظامي طوال أعوام على تدمير مستشفياتها ومراكزها الطبّية، فلم يترك لـ”الخوذ البيضاء” سوى أيدي مسعفيها وجهدهم البشري بلا أي معدّات مساعدة في انتشال العالقين تحت الأنقاض.

اهتم إعلام النظام بإبراز الاتصالات العربية التي تلقاها الأسد للتعزية والإبلاغ عن مساعدات آتية، أكثر مما سلّط الضوء على معاناة الناس. لم تعنِ التعزية شيئاً للأسد، ولا المساعدات، إذ كان يترقّب اتصالات أخرى من دول تعزّز “شرعيته”. لم يعلن الحداد، لم يرَ لزاماً أن عليه (أو حتى على مستشارته ذاتها) أن يخرج بخطاب مختلف، ولم يؤذن للحكومة إلا بعد أيام بإصدار بيان عن وجود “مناطق منكوبة”، إذ كان المنطق السائد أن البلد منكوب أصلاً ولو من دون اعتراف النظام، وأن موت الآلاف تحت الأنقاض إنما يضاف إلى قائمة الموت المتزايدة منذ اثني عشر عاماً، وأن الناس “تعوّدوا”، بل إن العالم اعتاد على أن سوريا أرض للموت.

لم يُضِع النظام وقته بل بنت حلقته الضيقة، منذ اللحظات الأولى، خطة لاستغلال الزلزال كـ”فرصة ذهبية” للتخلّص من العقوبات، فالحجّة الجاهزة، والمحقّة (؟)، أن الكارثة تجبّ ما قبلها، وأن الزلزال قدرٌ لكن العقوبات سلاح سياسي يجب أن يُرفع وإلا فإن فارضيها يصبحون مسؤولين عن تفاقم الكارثة. تناسى النظام الأسباب التي فرضت العقوبات لأجلها، أما المجتمع الدولي فلم ينسَ. حاول إعلام النظام، بمؤازرة من هيئات كنسية مسيحية، وبيانات لدكاكين سياسية لبنانية تابعة له مباشرة أو للمحور الإيراني، تكبير صورة مفادها أن العقوبات تمنعه من إنقاذ الأرواح وإغاثة المتضرّرين. أيقن المعنيون في الخارج سريعاً أن نظام الأسد مصممٌ على تسييس الزلزال، لكنهم كانوا يعلمون أيضاً أنه من جهة لم يبذل قدراته كما فعلت أنقرة، ومن جهة أخرى يضغط لإعادة تعويم نفسه. هذا لم يمنع الاتحاد الأوروبي ثم الإدارة الأميركية من إصدار تذكير بأن العقوبات تتضمّن استثناءات تسهّل التعامل مع الأوضاع الإنسانية ولو بشروط.

بكثير من الصعوبة وبعد مفاوضات طويلة وافق النظام على أن يتولّى الصليب الأحمر الدولي مع الهلال الأحمر السوري تنسيق أعمال الإغاثة للمناطق السورية كافة، ريثما تتمكن منظمات الأمم المتحدة من استكمال بناء قدراتها. غير أن ما أراده الأسد فعلاً جاء في تصريحات رجل الأعمال رئيس الهلال الأحمر خالد حبوباتي الذي عرض زيارة لندن وواشنطن للتعاقد على مساعدات وفتح صفحة جديدة خارج العقوبات. لم تُستجب هذه المبادرة بل إن وسائل التواصل الاجتماعي المحلية كانت لاذعة في التذكير بأن “الهلال” مؤسسة تابعة للنظام، كما في انتقاده رئيسها ودعوته إلى أن يتهيّب الحدث الجلل وأن يبادر مثلاً إلى إلغاء احتفالات “عيد فالنتين” في فندقه الدمشقي المعروف.

لم تتأخر أجهزة النظام بإعلان “الانتصار” و”كسر العقوبات” بعد  صدور الاستثناءات الأميركية والأوروبية التي كانت قبل الزلزال وبعده تتيح شراء كل ما يلزم لأعمال الإغاثة والطبابة، إلا أنها تمنع إقحام أشخاص أو كيانات واقعة تحت العقوبات من إبرام أي عقود. لكن الخارجية السورية ما لبثت أن أعلنت أن هذه الاستثناءات “مضلّلة”، ورغم أن وزيرها اعترف سابقاً بأن العقوبات لا تشمل معالجة الأوضاع الإنسانية، إلا أن التعليمات كانت تقضي بالتركيز على رفع العقوبات لإنعاش النظام. لم يتحقق هذا الهدف، ولو أن النظام انتهز المصاب الزلزالي لتغيير خطابه وسلوكه لأمكن التفكير في مراجعة العقوبات. ما حصل هو العكس، إذ النظام أظهر حقيقته.

النهار العربي

————————–

أنطاكيا «انتهت»… وهجرة الزلزال تتعاظم: تركيا مصدومة، مشوَّشة ومنقسمة/ الدكتور محمد نور الدين

كان صوت المنكوبين في زلزال السادس من شباط واحداً: «لقد انتهينا وأفلسنا». وفي كلّ مكان، كانت الحافلات والسيّارات والقطارات والطائرات ووسائل النقل المختلفة تغصّ بعشرات آلاف السكان الذين يغادرون المناطق المنكوبة إلى النواحي الغربية من تركيا. وخلال يومَين فقط، نقلت الخطوط الجوّية التركية، وفقاً لصحيفة «آقشام» الموالية، أكثر من خمسين ألف مسافر، في ما سمّته الصحيفة «هجرة الزلزال». في هذا الوقت، كانت أعداد الضحايا تقترب بسرعة من العشرين ألفاً، والجرحى يتعدّون السبعين ألفاً، مع بقاء عشرات الآلاف تحت الأبنية المهدّمة، وسط نقص كبير في المعدّات وفِرق الإنقاذ، التي تُسابق الوقت لمحاولة إنجاء مَن بقوا أحياء وسط الركام. وتجاوَز الرقم الرسمي للضحايا، حتى الآن، عددهم في زلزال 1999 في شرق بحر مرمرة، والذي بلغ حوالي 18 ألف قتيل و43 ألف جريح. وبحسب صحيفة «يني شفق» الموالية، فإن الزلزال الأوّل في قهرمان مراش، والذي كان بقوّة 7.7 درجات، دمّر أربعة آلاف مبنى، فيما بلغ عدد المباني المدمَّرة نتيجة الزلزال الثاني، والذي كان بقوّة 7.6 درجات وحدث بعد تسع ساعات في المنطقة نفسها تقريباً، ستمئة ألف. وبرّرت صحيفة «يني عقد» الموالية اتّساع حجم الخسائر بالقول إن الدولة لم تكن عاجزة، ولكن الزلزال كان أكبر من التوقّعات، بينما قالت صحيفة «يني تشاغ» إن تركيا خسرت السباق مع الزمن لمواجهة آثار الزلزال.

وتُجمع الأخبار التي تُنشر على أن وقائع الأرض تفوق بمرّات ما يُسمع عنها أو يُرى منها على شاشات التلفزة. وفي هذا الإطار، يَكتب مراد آغيريل، في صحيفة «جمهورييات»، أن مباني أنطاكيا تضرّرت منها 70% بصورة كبيرة جدّاً «لا يمكن وصفها»، ذاهباً إلى القول إن المدينة «انتهت، ولكن لا بدّ من المحاسبة لاحقاً». وتَذكر صحيفة «مللي غازيتيه»، بدورها، في عنوانها الرئيس، أن أنطاكيا أصبحت «مدينة من الماضي»، فيما تصف إيلاي أقصوي، نائبة رئيس الحزب الديموقراطي المعارض، في اتّصال مع «الأخبار»، منطقة الزلزال بأنها «تحوّلت إلى صحراء من شدّة الدمار واتّساعه». ويشبّه المهندس شرف ألباغو، من جهته، انهيار المباني الجماعي في وسط قهرمان مراش بـ«فارس رماه الحصان بقوّة مِن على ظَهره»، لافتاً إلى أن «أعمدة الأبنية تكسّرت، وهذا من جرّاء الغشّ في مواد البناء». كذلك، بدت لافتةً استقالة المذيعة المعروفة، ديلارا غوندير، على الهواء مباشرة من تلفزيون «شو تي في»، أثناء حوار لها مع أحد خبراء الجيولوجيا احتجاجاً على ما يسوقه المؤيّدون للحكومة حول أسباب الزلزال، مُخاطِبةً ضيفها بالقول: «هل ستعطيني درساً في أسباب الموت؟ دائماً نعطي دروساً في الموت، لكن هذه المرّة لن تمرّ مثل هذه الدروس».

وإذ تدفّقت المساعدات من كلّ أنحاء العالم على تركيا، بدا لافتاً أن الولايات جاءت إلى السواحل التركية بحاملة طائراتها «جورج إتش دبليو بوش» للمساعدة، ما خلق نفوراً من هذه الطريقة وقلقاً أمنياً. ويقول الأميرال المتقاعد والمعروف، جيم غوردينيز، إن «هناك علامات استفهام كبيرة حول ما إذا كانت الحكومة التركية بالذات طلبت من أميركا توجيه حاملة الطائرات. وفي جميع الأحوال، هي ليست مجهّزة بما يُمكّنها من المساعدة في عمليات الإنقاذ. كما أن تَوجّهها إلى ساحل الإسكندرون يثير حساسيات وطنية كثيرة وقلقاً أمنياً». ويرى العقيد المتقاعد، علي توركشين، بدوره، أن «المساعدة لا تكون بإرسال سفن حربية»، متسائلاً: «لماذا تأتي الحاملة الآن بعد أربعة أيام من وقوع الزلزال؟ إذا كان من مساعدة، فلتكُن الطريقة التي قدّمتها اليونان للمساعدة منذ اليوم الأول، على رغم خلافنا معها، هي النموذج الذي على أميركا أن تحتذي به». على الرغم من هول الكارثة، فإن تبادُل الاتهامات بالمسؤولية متواصل

وتُحاول الحكومة أن تُسابق الزمن لمواجهة الكارثة والانتقادات. وإذا كان إعلان حال الطوارئ وارداً في مِثل هذه الحالات لتجاوز البيروقراطية، فإن موجة تحفّظات قابلت هذا الإعلان، عادّةً إيّاه مجرّد ذريعة لإسكات حملات الانتقاد، خصوصاً أن إردوغان دافع عن الخطوة بأنها ستتيح للحكومة مواجهة «مجموعات الفتنة». ويرى الحقوقي طورغوت قازان أن «حال الطوارئ يُراد منه قمْع المعارضين، تماماً كما حدث بعد انقلاب 2016، وهي ليست سوى وسيلة للدخول في مناخ الانتخابات والمعارضة تحت الضغط»، فيما يعتقد الحقوقي جلال أولغين أنه لا حاجة إلى هكذا إعلان، و«لكن السلطة التي بقيت تحت الأنقاض تريد استثمار ذلك لتجميع بعض القوّة التي لن يضمنها لها القانون». ويتساءل الرئيس السابق لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، صلاح الدين ديميرطاش، الموجود في السجن منذ خمس سنوات، بدوره: «ما الذي لم يحصلوا عليه من صلاحيات حتى يفرضوا حال الطوارئ»، متسائلاً: «هل كان عدم الإعلان سيمنع الدولة من مكافحة السرقات وجمع المساعدات ورفع الأنقاض؟ بالتأكيد هناك مخطّط آخر من وراء ذلك».

من جهة أخرى، ينبّه مدير «مرصد قنديللي» الأشهر في تركيا، خلوق أوزأونير، إلى أن الهزّات الارتدادية قد تستمرّ لأكثر من سنة، فيما ينسب معظم الخبراء قوّة التدمير في الزلزال الأخير إلى أنه وقع على دفعتَين متتاليتَين، وهذا يحدث للمرّة الأولى في تاريخ تركيا. ويشير الخبير في «جامعة غازي»، بولنت أوزمين، إلى أن «الزلازل في هذه المنطقة متوقَّعة بشكل دائم، لكن ليس بمثل تلك الضخامة»، مضيفاً أنه «من المدهش أن يحصل زلزال ثانٍ بقوّة أكبر من سبع درجات في المنطقة نفسها. هذا حدث نادر جدّاً». ويرى الباحث ضياء الدين تشاكير، بدوره، أن «الارتدادات ستستمرّ لفترة طويلة، لأن الأرض هنا تحرّكت بقوة، وستستغرق وقتاً طويلاً استعادة الأرض توازنها. لذا لا يزال خطر حدوث زلزال كبير آخر قائماً»، فيما يبيّن عضو «أكاديمية العلوم التركية» وعالم الجيولوجيا، نامق تشاغاتاي، أن «الصفيحة العربية ضغطت على صدْع الأناضول، فتحرّكت هذه غرباً بمقدار ثلاثة أمتار. لكن ليس من المتوقّع أن ينعكس هذا على شمال الأناضول، مع استمرار هزّات صغيرة منفصلة بقوّة 4 درجات إلى الجنوب من هاتاي (الإسكندرون)». كذلك، لا يستبعد عضو الأكاديمية نفسها وعالم الجيولوجيا، جهيد حاوجي، حدوث زلزال جديد منفصل، لافتاً إلى أن «هناك أماكن صدع كثيرة كامنة إلى الجنوب، ويمكن إذا انكسرت صفائحها دفعة واحدة أن تُحدث زلزالاً أكبر بكثير من الزلزال الذي حدث». وفي الاتّجاه نفسه، يعتقد المهندس الجيولوجي، يوجيل يلماز، أن «الارتدادات الزلزالية ستستمرّ شهوراً وليس أياماً»، متوقّعاً أن «يَحدث زلزال قوي جدّاً في إسطنبول، لكن لا أحد يعرف متى. وتركيا لا تستطيع تحمُّل زلزال كهذا. وإذا لم نَقُم باستعداداتنا الآن، فلن يكون هناك مستقبل مشرق».

وعلى الرغم من هول الكارثة، فإن تبادُل الاتهامات بالمسؤولية متواصل. ويرى الكاتب المعروف، مصطفى قره علي أوغلو، في صحيفة «قرار»، أن وصْف الزلزال بـ«كارثة القرن» محقّ للغاية، لأنه نتيجة «إهمال القرن». ويلفت إلى أن «الناس يصرخون من تحت الأنقاض متوسّلين المساعدة، لكنهم يبحثون بشكل يائس عن يد تمتدّ إليهم، ولا نعرف كم عدد هؤلاء تحت الأنقاض، والسؤال دائماً أنه على رغم أنّنا بلد زلازل، فالكارثة والعجز كبيران»، مضيفاً: «لقد تجاهلنا زلزال 1999، وتجاهلنا التحذيرات التي أُطلقت بعده. وحدث الزلزال في قهرمان مراش، والذي كان متوقّعاً أن يَحدث هناك، ولكن لم نعرف فقط متى سيحدث». ويرى قره علي أوغلو أن «الدولة أهملت ربع قرن، من دون أيّ إجراءات، وتُواصل البناء في كلّ مكان من دون الالتزام بشروط السلامة. لو كانت لدينا خطّة، لما مات شعبنا. كلّ البلدان المعرّضة للزلازل تضع مِثل هذه الخطط ولكنّنا لم نفعل. الزلزال كان صدمة، لكن الكارثة كان يمكن تفادي آثارها المدمّرة. الآن، لا فائدة من الشكوى. وما الفائدة بعد أن دُمّر البلد؟».

لكنّ التعليق الأكثر لفتاً للنظر، كان الرسالة التلفزيونية التي وجّهها الصحافي والمخرج المعروف، جان دوندار، الذي كان اضطرّ للهروب إلى ألمانيا، بعدما نشر في عام 2015 وثائق عن تهريب السلاح التركي إلى سوريا في صحيفة «جمهورييات» التي كان يرأس تحريرها. واتّهم دوندار، إردوغان، بأنه «استغلّ زلزال 1999 ليمتطي صهوة الانتخابات ويفوز بها في عام 2002. ومِن بَعدها، كلّ الضرائب التي فُرضت لتذهب إلى صندوق الزلازل، تبخّرت وذهبت إلى المشاريع الربحية وإلى مصالحه والمقرّبين منه، لنجد الآن في زلزال قهرمان مراش النتيجة الثقيلة الماثلة للعيان». وأضاف أن «من جاء إلى السلطة بزلزال سيذهب منه بزلزال. زلزال قهرمان مراش كان القطرة الأخيرة التي جعلت كأس سلوكه تطفح وتنكشف أمام الجميع».

وفي الاتّجاه نفسه، رأى الصحافي مراد يتكين أن إردوغان لم يكن أمامه «سوى تبرير الزلزال بأنه من صُنع القدَر، لكنه في عام 1999 شنّ هجوماً لاذعاً على حكومة بولنت أجاويد بسبب الزلزال والإهمال». وأضاف يتكين: «الآن إردوغان موجود في السلطة منذ عشرين عاماً، هل يمكن أن يقول لنا ماذا فعل اليوم وهو يمسك بكلّ السلطة بشخصه، بدل اتّهام الصحافيين بأنهم “بلا شرف”». وتابع أن «إردوغان عمل بإجراءاته في السنوات الأخيرة على تسريع هدم هياكل الدولة. حتى العديد من مواقع التواصل الاجتماعي يتمّ حظرها الآن كي لا تكشف الحقائق. إن الناس يصابون بالاكتئاب من مجرّد طرح أسئلة لها علاقة بإردوغان»، متسائلاً: «هل ستستفيق تركيا صباح اليوم التالي للانتخابات وتستريح (من إردوغان) مثل رشفة من الماء؟».

—————————————–

مرحلة حاسمة في تركيا/ هنري باركي

ماذا سيفعل أردوغان في سبيل البقاء في السلطة؟

في العام الذي جدد فيه #الناتو قوته، ورص صفوفه، قد لا نعثر على دولة تتفوق على#تركيا في قدرتها العجيبة على إرباك هذا الحلف. وحملت الحرب الروسية في أوكرانيا أعضاء الناتو الآخرين على إبداء عزم جديد على محاربة عدو مشترك، ومهدت الطريق أمام توسيع الحلف، لم تكتف تركيا، على رغم عضويتها في الناتو، بالحفاظ على علاقات ودية بروسيا؛ بل هددت بالحؤول دون انضمام #السويد وفنلندا إلى الحلف.

وفي الأثناء أعلنت الحكومة التركية عزمها على أنها قد تبدأ غزواً برياً جديداً لشمال سوريا، ومواجهة حلفاء الولايات المتحدة الأكراد السوريين، وهم يسيطرون على تلك المنطقة. وعلى رغم أن تركيا قوت علاقاتها المتوترة بعدد من دول الشرق الأوسط، استمرت في انتهاج سياسة علاقات باردة بالاتحاد الأوروبي، وجددت تهديداتها لليونان. وبعد سنوات من السعي إلى تقويض الديكتاتور السوري بشار الأسد، خطت أنقرة، على نحو غير متوقع، خطوات على طريق إقامة علاقات ودية بالنظام في دمشق، وبوساطة روسية.

ولا شك في أن هذه التحركات تثير الجدل في الغرب، إلا أنها عموماً، تحظى بشعبية في تركيا، وترمي إلى هدف واضح. ففي مايو (أيار)، يخوض الرئيس التركي الشعبوي، والسلطوي الذي يحكم البلاد منذ مدة طويلة، رجب طيب أردوغان، ربما أصعب معركة انتخابية في حياته السياسية، على ولاية رئاسية جديدة. وهو يستخدم السياسة الخارجية وسيلة فعالة إلى صرف انتباه الناخبين عن أزمات كثيرة في الداخل. فبعد سنوات من سوء الإدارة الاقتصادية، بلغ معدل التضخم في تركيا ذروته مع 85 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، وانخفض إلى نحو 64 في المئة في ديسمبر (كانون الأول). وهذا أعلى معدل يسجل في أوروبا، متجاوزاً نسبة الـ25 في المئة في المجر، وهذه حلت في المرتبة الثانية على مقياس التضخم. وتتضاءل احتياطات تركيا من العملات الأجنبية، وتواجه عجزاً متنامياً في الحساب الجاري. وإلى ذلك يزداد استياء الشعب التركي من إقامة 3.6 مليون لاجئ سوري في بلدهم. وهذا ما أقرت به تركيا، في بداية الحرب الأهلية السورية، وتستحق عليه الثناء والاحترام. ولا ننس الإرهاق المتنامي من حكم أردوغان الذي يدوم منذ 20 عاماً ويزداد استبداداً كل يوم. وثمة جيل كامل لم يعرف زعيماً سواه.

ويرى أردوغان أن الأمور كلها رهن بالانتخابات. وبعد عشرين عاماً من الحكم من دون منازع تقريباً، تترتب على هزيمته تداعيات خطيرة عليه وعلى عائلته وأصدقائه وآخرين في حزبه، “حزب العدالة والتنمية” (AKP). فهؤلاء استفادوا شخصياً من حكمه، ومن المحتمل أن يتعرضوا إلى ملاحقة قضائية. وقد يكون فوز المعارضة شكلاً من أشكال تغيير النظام، في ضوء دعوة قادتها إلى استعادة النظام البرلماني في تركيا، وتقليص السلطات الرئاسية. وغذى ذلك حساسية أردوغان وشعوره بالضعف، وحمل الحكومة على استعمال المحاكم في الحؤول دون ترشح أحد مرشحي المعارضة البارزين المحتملين، عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو. وهي خطوة متطرفة قد تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف.

وتدل استطلاعات الرأي الحالية على أن أردوغان، وحزب “العدالة والتنمية” قد يخسران الانتخابات المتوقعة في 14 مايو. وفي حال زعيم آخر غير أردوغان، تؤدي مستويات ضعف الشعبية والضيق الاقتصادي إلى هزيمة مؤكدة. إلا أن أردوغان معروف بعناده وقدرته على الفوز بالانتخابات. وقد نجح في جعل أرقام استطلاعات الرأي حول شعبيته تستقر. ونظراً إلى مدى خطورة الوضع، فمن المرجح أن يستخدم كل الوسائل من أجل تجنب الهزيمة. وفي ضوء تحركاته الأخيرة، في السياسة الخارجية، يملك أوراقاً في مستطاعه استعمالها. وقد يسعى إلى خلق أزمة، بما في ذلك مع الغرب، من أجل تغيير المزاج على الصعيد المحلي. وعليه، ينبغي أن تستعد أوروبا والولايات المتحدة لمثل هذا الاحتمال، والعمل على تقليل الضرر المفترض إلى الحد الأدنى، وعليهما التخطيط لاستراتيجية تواجه هذا التطور. ولا ريب في أن تركيا دولة فائقة الأهمية، فلا ينبغي أن يتاح لها الابتعاد عن النفوذ الغربي.

كل القوة وكل اللوم

ومن المفارقات أن ما يقلق أردوغان، في زمن الهزات الجيوسياسية والصراع بين روسيا والغرب، هو العجز عن التنبؤ بالسياسات الداخلية. وتضطلع علاقات تركيا بالجيران والحلفاء والمنافسين بالتعويض عن أوجه القصور المحلية، وفي طليعتها حال الاقتصاد التركي التي يرثى لها. وعلى رغم أن سوق العمل متين نسبياً، يرجع ارتفاع معدل التضخم، جزئياً، إلى إصرار أردوغان على خفض أسعار الفائدة بدلاً من رفعها. وكما صرح وزير المالية التركي، نور الدين النبطي، يفضل التعايش مع التضخم على الركود الناجم عن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة التقليدية. هذا ما أطلق عليه النبطي تسمية “النموذج التركي”. وهو يزعم، بأسلوبه الخرافي، أن هذا النموذج ناجح على نطاق واسع، بل تحسد دول العالم تركيا عليه.

وتدل سياسات البنك المركزي غير التقليدية على سيطرة أردوغان على المؤسسات المستقلة اسمياً. وعلى مدى العقد الماضي، عزز سلطته من خلال تقويض أو إلغاء استقلال المؤسسات التركية المهمة كلها تقريباً، على غرار الجامعات الحكومية، ومعظم وسائل الإعلام، والجيش، والحكومات المحلية، وقبلها كلها القضاء الذي استخدمه سلاحاً ضد خصومه، فامتلأت السجون التركية بالسياسيين المعارضين، والصحافيين، والأكاديميين، وقادة المجتمع المدني، مثل عثمان كافالا، وكل من لا يعجب أردوغان. والحق أن مظاهر سيادة القانون كلها تبددت.

ومن وجه آخر، انقلبت الهيمنة الكاملة على الدولة والمجتمع إلى كعب أخيل أردوغان. فهو حين وضع نفسه في المركز من الأمور كلها، أعطى الأتراك العاديين ذريعة إلقاء اللوم عليه فيما تعانيه البلاد من بلايا، على رغم جهوده الرامية إلى إلقاء اللوم، في مشكلاته الاقتصادية، على الغرباء، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الخصوص وعرض نفسه إلى ارتكاب الأخطاء على نحو متعاظم جراء إحاطته بأنصار يتذللون إليه، ويفتقرون إلى الابتكار، وإبعاده صناع السياسة المجربين.

وعلى خلاف هذه الحال، تحدى ائتلاف المعارضة، وأحزابه الستة التي تجمع حزبين كبيرين وستة أحزاب صغيرة، التوقعات، وتماسك نسبياً وظاهراً. وينبغي، نظرياً، للقوة الحزبية المشتركة هذه، وهي تطور جديد في المشهد السياسي التركي المتشرذم عادة، أن تجذب من الناخبين ما يكفي لهزيمة أردوغان. وفي أواخر يناير (كانون الثاني)، أعلنت (المعارضة) عن رؤيتها الموحدة، لكنها لم تتفق بعد على مرشح رئاسي. وكمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري (CHP)، أكبر أحزاب المعارضة، يصر على الترشح، لكنه أضعف الطامحين، ومن المرجح أن يخسر أمام أردوغان، فهو على رغم جديته وعمله الدؤوب، يفتقر إلى الكاريزما ويبدو أنه قديم الطراز.

في الأثناء، اتخذ أردوغان إجراءات من شأنها تهميش رئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو، وهو عضو في “حزب الشعب الجمهوري”. وبحسب استطلاعات الرأي، فإمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة، منصور يافاس، هما السياسيان المعارضان الجديدان اللذان في مقدورهما أن يهزما أردوغان في الانتخابات العامة. ولكن، في ديسمبر، حكم على إمام أوغلو بالسجن لأكثر من عامين بتهم ملفقة تتعلق بـ”إهانة” المجلس الأعلى للانتخابات Supreme Election Council. ومن المفارقات أن أردوغان يستخدم التكتيكات التي استعملت في محاولة منع صعوده إلى السلطة. فقبل عقدين من السنين، دين هو أيضاً، ومنع من تولي منصبه عندما فاز حزبه في انتخابات عام 2002. وعلى رغم معارضة الرئيس آنذاك، تعاون حزب “العدالة والتنمية وحزب “الشعب الجمهوري” على تغيير الدستور، وفتحا الطريق أمام أردوغان إلى عضوية البرلمان ثم رئاسة الوزارة وظاهر الأمور أن إدانة إمام أوغلو، إذا أقرتها محكمة بداية محلية أولاً، ثم محكمة الاستئناف العليا (وليس ثمة شك في أن هذا ما سيحصل)، تمنعه من تولي منصب حكومي، ومن الترشح ضد أردوغان للرئاسة أو حتى لمنصب رئيس البلدية في 2024. وفي سبيل ضمان الحؤول دون دفع إمام أوغلو التهمة، رفعت وزارة الداخلية قضيتين جنائيتين أخريين ضده، إحداهما بتهمة دعم الإرهاب. ويأمل أردوغان، من خلال القضاء على إمام أوغلو، تصدر كيليجدار أوغلو المعارضين المرشحين، وهو يمكنه التغلب عليه. ولا تملك المعارضة إستراتيجية بديلة، وتفضل الشجار على من تختار ترشيحه.

وإلى غياب خصم واضح، يتمتع أردوغان وهو يباشر حملته الانتخابية، بميزتين كبيرتين أخريين: فهو يتحكم بشكل كامل في الدولة ومواردها التي يمكنه استخدامها متى شاء لدعم عملية إعادة انتخابه، ويسيطر تماماً على المجال العام. وإلى اليوم، حاول كسب الوقت، والموافقة على إجراءات مرتجلة تختصر في استنزاف الخزانة الوطنية. فنزل عن نحو خمسة ملايين دولار اقترضها مواطن تركي. وحمل البنك المركزي على تقديم قروض ميسرة في قطاعات مثل البناء، ظناً منه أنها تساعده على تحقيق أهدافه. ومع انهيار الليرة التركية، رسمت الحكومة مخططاً يشجع المدخرين على تحويل ودائعهم من الدولار إلى الليرة، ووعدتهم بتعويض خسائرهم الناجمة عن فروق أسعار صرف العملات الأجنبية، مما يزيد العبء على الخزانة زيادة كبيرة. وأخيراً، أحال أردوغان على التقاعد المبكر أكثر من مليوني مواطن.

التداعيات السياسية لزلزال تركيا قد تكون هائلة

ولكن أردوغان ليس دائماً سخيا إلى هذا الحد، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالمناطق التي تديرها المعارضة. والبلديات التي يديرها حزب العدالة والتنمية قناة مهمة، يوزع أردوغان الامتيازات، ويعيل السكان المحليين بواسطتها. وعلى خلاف الأمر، تبذل الحكومة في المدن الكبيرة التي لا يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، وسعها من أجل تقويض السلطة المحلية. ويصح ذلك على الخصوص على مدينة إسطنبول، مدينة إمام أوغلو، ويبلغ عدد سكانها 20 مليون نسمة. وفي 2021 – 2022، على سبيل المثال، أرجأ أردوغان ببساطة ومن دون تفسير، المصادقة على قرار يجيز لبلدية إسطنبول الحصول على مخصصات أقرها البرلمان الوطني من أجل استبدال أسطول باصات النقل العام القديمة والمتداعية.

وتظهر محاكمة إمام أوغلو أن القضاء أكثر أدوات أردوغان فاعلية. ومنذ عام 2013، سجن آلاف الصحافيين والأكاديميين والمعارضين الذين تجرأوا على الجهر بانتقاد الحكومة. وتسارعت وتيرة الاعتقالات بعد الانقلاب الفاشل في عام 2016. والمحاكمات متعسفة، ويمكن سجن أي شخص بسبب عمله في مجلة، أو بسبب تغريدة قبل سنوات وأعيد “إحياؤها” فجأة. وفي عام 2020 وحده، فتحت الحكومة 31 ألف تحقيق في جريمة “إهانة الرئيس”. ومنذ أن أصبح أردوغان رئيساً في عام 2014، أجري 160 ألف تحقيق من هذا الصنف.

واستهدفت الدولة، علناً، بعض الأحزاب السياسية، وبخاصة حزب “الشعوب الديمقراطي” (HDP) المؤيد للأكراد. واحتل هذا الحزب اليساري المركز الثالث في انتخابات 2018، وحصل على ما يقرب من ستة ملايين صوت تمثل 11.7 في المئة من مجمل أصوات المقترعين. ويجذب هذا الحزب الناخبين التقدميين في أنحاء البلاد، لكنه يشدد، في المقام الأول، على تمثيل مخاوف المواطنين الأكراد في تركيا. فجعله أردوغان هدفاً لنيرانه طوال سنوات. وسجن صلاح الدين دميرتاش، الزعيم الكاريزمي للحزب، خلف القضبان منذ نوفمبر 2016، وأُلغيت حصانة عدد من أعضاء البرلمان المنتمين إلى حزبه، البرلمانية، وسجنوا بتهمة “دعم الإرهاب” المعتادة، وهي تهمة شاملة تفسرها السلطات على هواها.

وعلى المثال نفسه، جمدت المحكمة الدستورية، في يناير الماضي، الأموال التي قدمتها الدولة لحزب “الشعوب الديمقراطي” بناء على ذرائع زائفة مفادها أن الحزب يدعم الإرهاب. وتدرس المحكمة الدستورية حظر الحزب لأسباب مماثلة، ورفضت طلبه الأخير تأجيل الحظر إلى ما بعد انتخابات مايو. وعلى رغم أن الائتلاف المعارض لم يدع حزب الشعوب الديمقراطي للانضمام إلى صفوفه، لا شك في أن أنصار الحزب سيصوتون ضد أردوغان. والحق أن حظر حزب “الشعوب الديمقراطي” يسبب بلبلة، ويؤدي إلى تقليص اقتراع مؤيدي الحزب، أي ما يقرب من 10 في المئة من الناخبين. ومنذ عام 1993، حظر نحو خمسة أحزاب مؤيدة للأكراد.

قد يسعى أردوغان إلى كسب التأييد بوسائل أخرى، بما في ذلك السياسة الخارجية

ولكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت جهود أردوغان الرامية إلى عرقلة المعارضة ستنجح هذه المرة. وعلى رغم أن سيطرته التامة على المؤسسات التركية مكنته من تغيير المشهد السياسي والنزول على إرادته، فإن لهاثه وراء السلطة حمله على ارتكاب أخطاء كبيرة. وعلى سبيل المثل، في عام 2019، عندما خسر “حزب العدالة والتنمية” الانتخابات البلدية في إسطنبول، واعتبرت الخسارة هزيمة مروعة لأردوغان، تدخل الرئيس وفرض إعادة الانتخابات. وأهانه الناخبون حين أعادوا انتخاب إمام أوغلو، الفائز الأصلي، بهامش أكبر.

ومن السابق لأوانه تقويم رد الفعل الشعبي على إدانة إمام أوغلو، والحظر المتوقع لحزب الشعوب الديمقراطي. وفي انتظار حكم الاستئناف، قام إمام أوغلو بجولة في البلاد وخاطب حشوداً كبيرة. وعندما حظر آخر حزب مؤيد للأكراد في عام 2009، وهو إجراء عارضه أردوغان، أثار الحظر اضطرابات شديدة. ونظراً إلى الفعالية المشكوك فيها لمثل هذه التكتيكات، قد يسعى أردوغان إلى كسب التأييد بوسائل أخرى، بما في ذلك السياسة الخارجية.

مواجهة الغرب

والسياسة الخارجية، في نظر زعيم شعبوي وسلطوي مثل أردوغان، خارج نطاق وظائفها التقليدية، وتعتبر أداة مهمة للحفاظ على الذات وتعظيمها. وفي هذا الإطار، أسهم موقع تركيا المهم بين روسيا والشرق الأوسط والغرب في تحفيز رغبة أردوغان النهمة في المديح والثناء والمنزلة الرفيعة. ودعا توسط تركيا في رفع الحصار الروسي جزئياً عن الموانئ الأوكرانية، والسماح لشحنات الحبوب الأوكرانية بالوصول إلى الأسواق في العالم النامي، أنصار أردوغان إلى المطالبة بمنحه جائزة نوبل للسلام.

ومع الانتخابات الوشيكة، يمكنه التوسل بالسياسة الخارجية إلى حشد القوميين في تركيا، وحملهم على اتخاذ مواقف شعبية يصعب على المعارضة مواجهتها.

وبالفعل، وافقت المعارضة المؤلفة من ستة أحزاب، على معظم تصريحات أردوغان الأخيرة في شأن السياسة الخارجية، سواء تلك التي تتناول بحر إيجه، أو البحر الأبيض المتوسط، أو الولايات المتحدة ـ أو سوريا، أو الأكراد. وعلى النحو نفسه، لم تعترض أحزاب المعارضة على التغيير الذي شهدته أخيراً العلاقات بدول الشرق الأوسط، على غرار مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو على علاقاته الودية بروسيا. وتفاوضت أنقرة، في سبيل تعزيز احتياطياتها من النقد الأجنبي، على صفقات مقايضة بقيمة 28 مليار دولار مع الصين وقطر وكوريا الجنوبية والإمارات العربية المتحدة. وفي تناقض صارخ مع مقاربته لروسيا والدول العربية، يميل أردوغان إلى أن يكون أكثر عدوانية مع حلفائه الغربيين. والحال أن مجابهتهم أمر يلقى تأييداً شعبياً في الداخل. لذا فهو لا يفوت فرصة لإلقاء اللوم عليهم في كل المشكلات التي تعانيها الأمة، من الحال الاقتصادية إلى انقلاب عام 2016، الذي ادعى أن الولايات المتحدة ضالعة فيه.

وأرسى أردوغان، في هذا الوقت، الأسس اللازمة لتحركات تركية محتملة على جبهات عدة أخرى. فعلى مر السنين تنافست تركيا واليونان على قضايا مثل المياه الإقليمية، ووضع جزر بحر إيجه، واكتشافات الغاز. وهدد اليونان، في وقت قريب، مرتين، وقال: “قد نأتي ذات ليلة على حين غرة [في إشارة إلى العمليات العسكرية السابقة في سوريا] واليونان تخشى صواريخنا. يقولون إن صاروخ تايفون سيضرب أثينا. وما لم تلتزموا الهدوء، هذا ما سيحصل”. وكرر تهديده بشن غزو بري على حلفاء واشنطن أكراد سوريا، على رغم أن القوات الجوية التركية قصفتهم بالفعل بقذائف سقطت على مسافة بضع مئات من الأقدام من جنود أميركيين هناك. بواسطة هذا الخطاب الحازم حول القوة التركية، قلص أردوغان دور المعارضين إلى مجرد لاعبين ثانويين خجولين يهتفون من مقاعد البدلاء.

وأردوغان براغماتي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، حسبما تبين من سياساته في مسألة أوكرانيا وروسيا. فنسب الفضل إلى نفسه على صفقة الحبوب الأوكرانية، وطلب الثناء والتقدير، وبسبب توفيره طائرات من دون طيار لأوكرانيا أثبتت فاعليتها في ساحة المعركة. وفي الوقت نفسه، ساعد موسكو على التهرب من العقوبات الغربية وتخفيف أضرارها على الاقتصاد الروسي، غير عابئ بالتحذيرات الأميركية. ومن المسلم به أن العلاقات الروسية – التركية معقدة ومتشابكة، بيد أن التحركات الآيلة لمساعدة بوتين تساعد أردوغان أيضاً. وتدفق الروبل إلى الخزائن التركية، سواء من التجارة المخالفة للعقوبات أو من السياح الروس، يسهم في النهاية في دعم الليرة، وتمويل واردات الطاقة من روسيا.

والطلبات الرسمية التي قدمتها السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف الناتو أتاحت لأردوغان فرصة استعراض قوته، وانتزاع تنازلات من كلا البلدين لقاء الدعم التركي، والظهور أمام الجمهور المحلي في مظهر المتشدد ضد الغرب. وفي يناير، استغل حرق نسخة من المصحف على يد متعصب سويدي يميني، أمام السفارة التركية في ستوكهولم، ليعظم معارضته للسويد، وهددها بأنه لن يوافق أبداً على انضمامها. وأدرك السويديون والفنلنديون جميعاً أنه سينتظر إلى ما بعد الانتخابات التركية قبل استجابة لطلبهم. ولكن تكتيك أردوغان المتشدد أدى بالفعل إلى نتائج عكسية، فرفضت السويد تسليم “الإرهابيين الـ120” الذين طالب بهم. وأوضح مجلس الشيوخ الأميركي أنه إذا لم توافق تركيا على انضمام الدولتين، فسيحظر بيع الأسلحة إلى تركيا، وعلى الخصوص، طائرات “أف 16” F-16.

وخلافاً لهشاشته في القضايا الاقتصادية المحلية، تقدم السياسة الخارجية إلى أردوغان سبلاً مختلفة لتعزيز زعامته في الداخل. ولن تكون الانتخابات المقبلة انتخابات عادية لأنها ستقرر مكانته التاريخية. لذا، فالإغراء القديم الذي يتوسل بأزمة خارجية من أجل تجنب الخسارة، قوي جداً، فهو قد يصرف الانتباه عن المشكلات الداخلية ويهمش المعارضة الخجولة. وبناءً على ما أظهره أردوغان في عام 2017، حين اشترى نظاماً مضاداً للطائرات من طراز “أس-400” S-400، روسي الصنع، على رغم تحذيرات صارمة كررتها واشنطن وأوضحت عواقبها، يبدو أردوغان على استعداد لتحمل الأخطار إذا حسب أنه قادر على الإفلات من العقاب. وهو لم يفلت منه حينذاك، ففرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه. ولكن هذا لن يمنعه من المحاولة في المستقبل، على رغم المخاطر الكبيرة جداً، لأن تركيا لا تعرف عملية صنع قرار مؤسسي رسمي، وأردوغان هو صاحب القرار الوحيد.

اضطرابات مقبلة

وفي مواجهة احتمال أن يزداد تهور أردوغان مع اقتراب الانتخابات، تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى الاستعداد لما هو غير متوقع من تركيا. ومن بين تحركاته المحتملة مواجهة “عرضية”، وإن طفيفة، مع اليونان في منطقة بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط، ومواجهة مع الولايات المتحدة في شمال سوريا، أو، بشكل أكثر دراماتيكية، تغيير الوضع الراهن في الجزء التركي من قبرص. وفي ما يتعلق بقبرص، يمكن أن يدعو أردوغان المستثمرين إلى الاستثمار في ضاحية فاروشا السياحية، التي تعود ملكية عقاراتها إلى القبارصة اليونانيين الذين شردهم الجيش التركي الغازي في عام 1974، وهي خطوة تحظرها قرارات الأمم المتحدة. وكان قادة القبارصة الأتراك المتشددون يلمحون بالفعل إلى هذا الاحتمال. وإلى ذلك، يمكنه أن يعد بأنه، حال إعادة انتخابه، سيعمل على إجراء استفتاء على استقلال الجانب التركي من الجزيرة. وسواء فعل ذلك أم لم يفعل، لا قيمة حقيقية للأمر. فقبرص موضوع شائك في السياسة التركية، ولن يكون أمام المعارضة خيار غير مجاراة استراتيجية أردوغان.

وثمة عامل آخر مجهول في المعادلة، هو بوتين. وفي عدد من المناسبات، سعى أردوغان إلى الحصول على تفويض من الزعيم الروسي يخوله القيام بعمليات كبيرة في سوريا ضد حلفاء الولايات المتحدة الأكراد هناك، بيد أن بوتين اعترض على ذلك. والشكوك في تورط روسيا في حوادث حرق المصحف الأخيرة، على ما ألمح وزير الخارجية الفنلندي، قد تعني أن موسكو قد تقرر إثارة الاضطرابات من خلال إعطاء تركيا الضوء الأخضر في سوريا.

وفي وسع أي تحرك من هذه التحركات إثارة أزمات شديدة الحدة في التحالف الأميركي – التركي، وفي العلاقات التركية – الأوروبية، وداخل حلف الناتو. ولكن العلاقات الأميركية – التركية معقدة وواسعة النطاق. فالحكومتان تعملان الواحدة مع الأخرى يومياً، وعلى نطاق واسع، وعلى جميع المستويات. ومهما بلغت حاجة واشنطن إلى تركيا، فاعتماد أنقرة على الولايات المتحدة أكبر بكثير. وانتظار مغادرة أردوغان لا يعد استراتيجية فعالة. فعلى واشنطن أن تتعامل معه مباشرة، وأن تتخطى الوسطاء مثل وزير الخارجية الذي لا يتمتع بنفوذ يذكر. وأردوغان يحب المجازفة، بيد أنه يلقى صعوبة في تجاهل رسالة واضحة من الولايات المتحدة تحدد العواقب التي قد يواجهها إذا اختار التسبب في وقوع مجابهة خطيرة.

* هنري باركي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي وزميل مساعد رفيع في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي.

مترجم من فورين أفيرز، 3 فبراير (شباط) 2023

تصفّح المقالات

اندبندنت عربية

———————————

من سرق الزّلزال؟/ محمد الرميحي

كارثة كبرى حلّت في منطقتنا، على وجه التحديد، في جنوب تركيا وشمال سوريا، وكان ضحيتها المباشرة العدد الهائل من القتلى، والحساب لم يكتمل بعد، واستمرت مناظر انتشال القتلى والجرحى والناجين معنا تقريباً طوال الليالي السابقة من خلال شاشة التلفاز، والإنسانية تتحسر من دون أن يكون باستطاعتها رد ما وقع.

المأساة الأخرى التي صاحبت الزلزال هي ضعاف النفوس الذين حاولوا أن يستفيدوا من الحدث الجلل، إما شخصياً أو سياسياً. الشكل الشخصي هو الأقل أهمية والسياسي هو الأعظم أهمية.

أشكال من الاستفادة الشخصية كمثل المجاميع التي هجمت على المحال التجارية والمنازل المهجورة، مستفيدة من الفوضى المصاحبة للزلزال العظيم كي تسرق ما تيسر، من المأكولات إلى الكماليات والأثاث، وقد شاهدها العالم على محطات التلفاز صورة وصوتاً، أما السرقات الأخرى فقد تكوّنت من عصابات تتبعت بعض سيارات الإغاثة واختطفتها إلى مخازن لها معدّة سابقاً، واستولت على ما حملته من مساعدات طبية أو عينية كي تبيعه في السوق، كما نشطت عصابات جمع المال على وسائل التواصل الاجتماعي مستفيدة من العاطفة الجياشة لدى الناس تجاه الضحايا، فقدمت أنفسها على أنها من المنقذين للمنكوبين، وذهبت تبرعات الناس البسطاء في الغالب في جيوبها كما رأينا في وسائل التواصل الاجتماعي التي فضح بعضها تلك الظاهرة المخزية.

إلا أن السرقة الأكبر هي السرقة السياسية، وهي ربما محاولة ترقى إلى أن تكون كمثل سرقة القرن، وتفاصيلها أن هبّت مجموعة من مناصري نظام الأسد في دمشق، داخل سوريا وخارجها، للقول إن التأخر في إنقاذ الناس من تحت الأنقاض في الشمال الغربي السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام هو بسبب العقوبات المفروضة على سوريا! واكبت تلك المقولات جوقة تعزف على ذلك النغم مستفيدة من تغييب الحقائق، من أجل خلق رأي عام يميل إلى تصديق فكرة أن التأخير، وبالتالي موت الناس، جاء من العقوبات وليس من موقف النظام. ذلك أمر يحتاج إلى مناقشة وتفنيد.

الحقائق على الأرض تقول إن مركز الهزة كان في الأراضي التركية. تلك حقيقة، ولكن غالب من يسكن المنطقة الجنوبية في تركيا، وبخاصة في بلدات هاتاي وكليليس وغازي عنتاب، وهي المناطق الأكثر تضرراً، هم من المُهجّرين السوريين قسراً، وقد هاجروا بسبب بطش النظام بهم وبأسرهم، كما أن معظم السكان المصابين بالكارثة في مناطق سوريا المحررة هم من طاردهم وطردهم النظام من بلداتهم ومنازلهم، بل ولحقهم في مناطق اللجوء بالكيماوي والبراميل المتفجرة، ما أضر بالكثير من المنازل والبنايات التي التجأوا إليها وقد أقيمت على عجل لإيوائهم.

لعل التذكير بموقف روسيا منذ أشهر في مجلس الأمن واجب هنا، عندما أصرت على عدم تجديد فتح ممر باب الهوى، وهو الممر الوحيد الباقي بين تركيا وشمال سوريا، بدلاً من عام كامل إلى ستة أشهر فقط، وإقفال كل الممرات الباقية للوافدين من جنوب تركيا إلى شمال سوريا.

أي أن هناك حصاراً مضروباً على تلك المجاميع البشرية التي ضربها الزلزال. وحتى يمكن أن تصل إليها المساعدات من وجهة النظام السوري ومؤيديه، فهي، أي المساعدات، لا بد من أن يكون لها ممر إجباري هو رسملة النظام السوري بالاعتراف به، وتجاوز فظائعه في البشر، ورهن بلاده لقوى خارجية قريبة وبعيدة على حد سواء. وبالتالي ماطلت السلطات السورية في فتح باب المساعدات الواردة من الخارج للمناطق الأكثر حاجة ويقطنها مواطنون سوريون عزل!

هنا السرقة الكبرى. يريد ذلك النظام ومؤيدوه من المتعصبين ضد الإنسانية أن يستفاد من هذه الكارثة بتعويمه، وعلى العالم أن ينسى كل الفظائع الذي ارتكبها ذلك النظام والمجازر التي كان ضحيتها الإنسان السوري، سواء قتلاً أم سجناً أم تشريداً، وإباحة الوطن للأغراب.

لأن البشرية والإنسانية ليستا بتلك القسوة، فقد أُعلن رفع جزئي للعقوبات مع أنها أصلاً لا تشمل المساعدات الإنسانية، ومع إعلان الرفع الجزئي جاء تصريح الخارجية السورية، وهو بالحرف يقول: “دون رفع كل التدابير (ضد سوريا) والعقوبات بدون قيد أو شرط…”. ذلك معناه الواضح أن الحكومة السورية لن تتعاون بإنقاذ مواطنين هم بحاجة إلى الإنقاذ! ذلك ديدن الدكتاتورية: الابتزاز حتى لو كانت حياة الناس في خطر.

هذه المساومة السورية جعلت بعض المرجفين يسارعون إلى رفع الحجر الدبلوماسي، وهو شكلي كما فعل قيس سعيد من تونس. لقد وجد الأخير فرصة لمساندة من يشبهه، ولعل من المهم التذكير بأن آخر زيارة خارجية لدكتاتور آخر هو عمر البشير، الرئيس السوداني الأسبق، كانت لدمشق في كانون الأول (ديسمبر) 2018 فراراً من الضغط الشعبي السوداني الذي بدأ يتكون ضد حكمه، وقد أطيح به بعد تلك الزيارة فقط بثلاثة أشهر (11 نيسان/أبريل 2019)! لعل تلك رسالة إلى السيد قيس!

من الواضح أن النظام الدكتاتوري لا يكترث بوجع الناس، أكانوا تحت قنابله أم تحت أحذية جلاديه، أم حتى تحت صفائح الإسمنت، العجب أن يأتي أناس ما زالت عقولهم ناشطة للدفاع عن نظام كهذا والاصطفاف معه في حملة ابتزاز كبرى، وفي الوقت نفسه يدّعون الإنسانية ويتشدّقون بحقوق الإنسان! سيظل الإنسان السوري مطحوناً حتى يهيأ له نظام إنساني وتشاركي وبلاد محررة من القوى الأجنبية.

النهار العربي

———————-

كيف تختبر الزلازل أرواحنا وحكوماتنا/ بريت ستيفنز

في كل حياة هناك بضعة تواريخ لا تُمحى: ولادة طفل، أو وفاة أحد الوالدين، أو مأساة وطنية مثل 11 – 9، لكن التاريخ الذي لا يُمحى بالنسبة لي هو 19 سبتمبر (أيلول) 1985.

كنت صبياً يبلغ من العمر 11 عاماً يعيش في مدينة مكسيكو سيتي، وكنت في سيارة في طريقي إلى المدرسة، بعد بضع دقائق من الساعة 7 صباحاً. وفجأة بدأ الطريق يتأرجح، وتدحرجت السيارة من جانب إلى آخر من الطريق. شعرت وكأننا نطير. واستمر الأمر مدة ثلاث دقائق تقريباً. انتشرت في المدرسة شائعة تقول إن وسط المدينة قد دُمر تماماً. كان أبي

يحب الوصول إلى مكتبه هناك نحو السابعة صباحاً. فأمضيت ذلك الصباح مذعوراً للغاية. بلغت قوة الزلزال 8 درجات. وقتل ما لا يقل عن 5 آلاف شخص، برغم أن العدد الحقيقي للضحايا ربما كان أعلى بكثير. وبلغت الهزة الارتدادية في اليوم التالي 7.5 درجة. وعلى سبيل المقارنة، كان زلزال لوس أنجليس عام 1994 قد بلغ 6.7 درجة واستمر أقل من 20 ثانية.

بلغت قوة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا يوم الاثنين 7.8 درجة واستمر لمدة دقيقتين. المشاهد التي ظهرت من إدلب وحلب وهاتاي والإسكندرونة، وغيرها من المدن المدمرة، مُروعة تماماً. إنها عاطفية بشكل خاص بالنسبة لأولئك الذين لديهم ذكرياتهم الخاصة بالزلازل الكبيرة. بعد عشرين عاماً من زلزال مكسيكو سيتي، ذهبت إلى باكستان كي أقدم تقريراً عن جهود الإغاثة الأميركية في زلزال كشمير عام 2005، الذي أسفر عن مقتل ما يُقدر بنحو 86 ألف شخص. في ليلتي الأولى بإسلام آباد، هزني زلزال صغير استمر بضع ثوان في منتصف الليل، فاندفعت تحت السرير. وبينما كنت مستلقياً هناك غارقاً في عرقي، هاجمتني من جديد ذكريات زلزال المكسيك. في صباح اليوم التالي، استقللت مروحية باكستانية إلى ما كان ذات يوم مدينة صغيرة تُدعى بالاكوت، في المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية. فمن بين سكانها البالغ عددهم 50 ألف نسمة، فُقد 16 ألف نسمة في زلزال دام أقل من دقيقة. بدت وكأنها صورة لهيروشيما ما بعد القنبلة الذرية – لم يبق سوى عدد قليل من المباني باقياً بين الأطلال المستوية بالأرض. يُقال دائماً إن الزلازل كوارث «طبيعية». إنه مُصطلح مُضلل. إن الكارثة الحقيقية تكاد تكون دوماً من صنع الإنسان، وغالباً ما تكون في هيئة منازل ومبانٍ سيئة البناء تفتقر إلى القدر الكافي من حديد التسليح وغير ذلك من أشكال الدعم البنيوي، ثم تعقبها إدارة غير مقتدرة للأزمات في أعقاب الكارثة.

في باكستان، كان البناء الرديء نتيجة من نتائج الفقر بالأساس. وفي المكسيك الأكثر ثراء، التي كانت تُطبق على الورق قوانين بناء صارمة ترجع إلى ما بعد الزلازل السابقة، كان السبب يميل إلى الفساد الحكومي. بعد الزلزال، صار من المستحيل تجاهل أن أبراج المكاتب والمنازل التي بُنيت بواسطة القطاع الخاص لم تُصب بأذى، في حين نال الدمار المستشفيات، والوزارات، والمدارس التي بنتها وأدارتها الحكومة. فقد كشف الزلزال عن العفن البنيوي والأخلاقي في قلب النظام المكسيكي شبه الديكتاتوري الموجه صوب التنمية.

كما لم يساعد رفض الحكومة المكسيكية للمساعدات الخارجية في الساعات الأولى الحرجة بعد الكارثة. فالقومية الفارغة والكبرياء الزائف لا مكان لهما في الكارثة. كان عجز الحكومة سبباً في إثارة غضب العديد من المكسيكيين الذين استقالوا من قبل للابتعاد عن السياسة. وأدى هذا الغضب إلى ظهور حركات احتجاج مدنية، وحملات من أجل حكم أفضل. ليس من السهل تحديد منابع تحول المكسيك إلى ديمقراطية حقيقية، لكن 19 سبتمبر 1985 قد يكون الموعد المناسب. فالأشياء الطيبة يمكن أن تنشأ من أكثر الظروف مأساوية.

ربما يصدق القول نفسه على تركيا أيضاً، فقد تفقد زمام السيطرة.

لدي آمال أقل بالنسبة لسوريا، حيث لا يوجد حد للوحشية التي يتأهب بشار الأسد للاستعانة بها بُغية البقاء في السلطة. وقال السفير السوري لدى الأمم المتحدة، إنه يجب توزيع جميع المساعدات من خلال الحكومة. وسوف تكون هناك حاجة ماسة إلى وسائل أخرى لمساعدة السوريين المنكوبين.

ذكرى زلزال أخيرة: في بالاكوت، أتيحت لي الفرصة للاستماع إلى بعض أطفال المدارس الذين نجوا من الزلزال لكنهم فقدوا أسرهم. وكان من الصعب كبح دموعهم في وجه رباطة جأشهم. الآن، أفكر في الأطفال الذين فقدوا آباءهم هذا الأسبوع – أو، بالقدر المُفجع نفسه، الآباء الذين فقدوا أطفالهم.

الشرق الأوسط

—————————–

تاريخ مؤلم” من الزلازل في شمال غربي سوريا/ ديانا دارك

كم من الوقت سيمرّ قبل أن تنتهي معاناة النازحين السوريين

إذا تصفّحتَ قائمة أخطر الزلازل في العالم، فستجد أن عددا كبيرا منها ضرب شمال سوريا تاريخيا، وخاصة تلك البقعة بين حلب وساحل البحر المتوسط. وتقع المنطقة التي يتكون منها جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا عند التقاء ثلاث صفائح تكتونية، هي الصفائح العربية والأناضولية والأفريقية، يتدافع بعضها في اتجاه بعض، فيزيد الضغط والاحتكاك اللذان يتسبّبان بالزلازل.

تشاء الظروف لسوء الحظّ أن تكون هذه المنطقة اليوم موطنا لنحو ثلاثة ملايين سوري، بعضهم نزحوا إليها، بسبب معارضتهم لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد في العاصمة دمشق، وبعض آخر نتيجة مصادفة جغرافية بحتة. على امتداد سنوات الانتفاضة التي بدأت في مارس/آذار 2011، قبل أن تتحوّل إلى حرب، نزح الكثير من السوريين مرات عدة داخل سوريا. ووصلت أعداد كبيرة من حلب إثر قصف الطيران الروسي والسوري تلك المدينة في ديسمبر/كانون الأول 2016.

لم تكن سوريا التاريخية تشبه “سوريا الأسد” الراهنة المقطّعة أوصالها حاليا، بل كانت تمتدّ من جبال طوروس في الشمال إلى صحراء سيناء في الجنوب، وبالتالي كانت تشمل أنطاكيا القديمة، التي تقع اليوم في ولاية هاتاي التركية الحالية، وهي مدينة ذات أهمية كبيرة في التاريخ المبكّر للمسيحية.”

ضرب أول زلزال مسجل أنطاكيا سنة 115 ميلادية، وذُكر وقتذاك أن المدينة سُوِّيت بالأرض تماما، وقضى 260 ألف شخص في ذاك الزلزال الرهيب، بمن فيهم الأمبراطور الروماني تراجان، الذي كان يمضي فصل الشتاء إثر حملة عسكرية واصيب بالزلزال ومات لاحقاً. وقدّر العلماء قوّة ذلك الزلزال 7.5 درجة.

ولا تزال بين أيدينا شهادة حية من المؤرخ الروماني كاسيوس ديو عن اللحظة التي زلزلت الأرض فيها: “أولا، جاءنا … زئير هادر، تبعته هزّة هائلة، فقُلِبت الأرض قلبا وطارت الأبنية في الهواء، وحُمِل بعضها عاليا ليهوي بعد ذلك ويتحطّم، في حين رُمِي بعضها الآخر عشوائيا وانقلب، كما لو كان محمولا على موجات البحر العاتية، وانتشر الحطام على نطاق واسع حتى في الريف المفتوح”.

كان الأساقفة الأوائل في العديد من المدن الأوروبية في الأصل من أبناء أنطاكيا، تعلموا تقاليدها المسيحية الغنية، وسافروا غربا. من هؤلاء أبوليناريس، شفيع رافينا في إيطاليا. لكن الرهبنة السورية المبكّرة ازدهرت أيضا في تلال المناطق القريبة من أنطاكيا، وخاصة في جبال إدلب الكلسية. وذاع صيت الرهبان هناك إلى درجة أن الحجاج الأوروبيين كانوا يأتون ليروا بأعينهم “الرهبان بمثل هذه القداسة التي يصعب وصفها”، كما نجد في كتابات سيدة إسبانية من القرن الرابع تُدعى إيثريا.

بعدما جرى تبني المسيحية رسميا كدين جديد للأمبراطورية الرومانية عام 313، أمكن بناء الكنائس والأديرة علانية، ونشأ أكبر تجمع لها في سفوح التلال جنوب حلب وغربها، حيث أمكن تحديد نحو 800 تجمع بشري كانت (قرى وبلدات) تفاخر في ما بينها بوجود نحو 2000 كنيسة مذهلة تعود إلى القرون الرابع والخامس والسادس. من المفارقات، أن هذه الكنائس أُدرِجت في قائمة التراث العالمي لليونسكو في يونيو/حزيران 2011، وهو وضع من شأنه أن يحميها نظريا من الضرر، لكنه في الواقع لم يحقق شيئا سوى ربما تنبيه العالم إلى تراث مهدد. إنها تمثّل إرثا رائعا في العمارة المسيحية المبكرة، وهي حقل التجارب الذي بلغ ذروته في نهاية المطاف في آيا صوفيا في القسطنطينية.

في القرن السادس، عندما وصلت الحياة الرهبانية السورية إلى عصرها الذهبي، ضرب زلزالان هائلان المنطقة. كان الأول في أنطاكيا في 19 مايو/ أيار 526، وأدّى إلى مقتل 250 ألف شخص وكان بقوة 7.0 درجة، كما وثقها يوحنا الأفسسي، والثاني في حلب في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 533، الذي قتل 130 ألفا.

مع ذلك، نجت التجمعات السكانية واستمرت في الازدهار بفضل إنتاجها من النبيذ وزيت الزيتون، ولم تتقهقر إلا عندما تغيرت طرق التجارة في أعقاب الحروب ضد الساسانيين الفرس في القرن السابع الميلادي.

في القرن الثاني عشر، ضرب المنطقة ما لا يقل عن ثلاثة زلازل ضخمة. أصاب الأول منها مدينة حلب في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1138 ووثقه المؤرخ العربي ابن الأثير، وقال إن الهزّات استمرت ليال عدة: “وحين اشتدت الهزّات على الناس هناك، تركوا بيوتهم ومضوا إلى الأرياف. وفي ليلة واحدة أحصوا ثمانين هزة”. وذكرت المصادر أن أكثر من 300 ألف شخص قضوا نحبهم في ذلك الزلزال.

أما الزلزال الكبير الثاني فكان في عام 1157 عندما قسمت المنطقة بين ممالك صليبية وقادة مسلمين محليين، وضرب مدينة حماة. وفي هذا الزلزال المدمّر فقد الشاعر السوري أسامة بن منقذ – الذي وردت شذارت من سيرته الذاتية في كتاب أمين معلوف “الحروب الصليبية كما رآها العرب”- عائلته بالكامل، فلم ينجُ أحد سواه لأنه كان أُرسل إلى دمشق في مهمة. وفي ذلك كتب: “وما اقتصرت حوادث الزمان على خراب الديار دون هلاك السكان، بل كان هلاكهم أجمع، كارتداد الطرف أو أسرع”.

ويتردد أصداء مثل هذه المشاعر بشكل مريب في مأساة الزلزال الحالي، باستثناء أن زلزال 1157 وقع في 12 أغسطس/ آب، اي في ذروة الصيف، على عكس الشروط الجوية شبه القطبية في هذا الشتاء القاسي المتجمد اليوم.

كم من الوقت سيمرّ قبل أن تنتهي معاناة النازحين السوريين الذين أصبحوا بلا مأوى مرة أخرى، وإن كانت هذه المرة بسبب كارثة طبيعية وليست واحدة من صنع الإنسان؟ متى سيستطيعون أن يعيشوا حياة طبيعية مع وسائل الراحة الأساسية من الماء الجاري والطعام والمأوى؟ لا أحد يعرف الإجابة. ولكن أقل ما يمكننا فعله هو إبراز محنتهم وإدراك أهمية الإرث الثقافي المتجذر الذي هم ورثته.

* ديانا دارك، كاتبة بريطانية زارت سوريا والمناطق الشمالية مرات عدة. خاص بـ “المجلة”

——————————-

وقاحة العاجز!/ خيرالله خيرالله

على هامش المأساة التي ضربت جنوب تركيا والشمال السوري، وجد النظام في دمشق مكاناً للكلام المضحك المبكي الذي يكشف مدى قدرته على العيش معزولاً عن العالم المتحضر والواقع السوري نفسه. لا يسأل النظام نفسه لماذا الرفض الأميركي والأوروبي لإرسال مساعدات إلى السوريين عبره، ولماذا كلّ هذه الشروط الأوروبية والأميركية التي تستهدف إيصال المساعدات إلى المتضررين فعلاً من الزلزال وليس إلى جيوب التابعين للنظام الأقلّوي وأهله وما يسميه السوريون “شبيحة النظام”؟

يفعل النظام ذلك، على الرغم من وجود محاولات لبعض الشرفاء العرب من أجل إعادة تأهيله من منطلق إنساني ورأفة بالمواطن السوري. يتجاهل النظام أن العالم يعرف أنّ المأساة الناجمة عن الزلزال الطبيعي جاءت تتويجاً لسلسلة الزلازل السياسية التي تعرضت لها سوريا منذ الانقلاب العسكري لحسني الزعيم عام 1949 وصولاً إلى الحرب التي يشنها بشّار الأسد على الشعب السوري منذ آذار (مارس) 2011، أي منذ 12 عاماً.

لم يجد بشّار ما يقوله لدى تفقده حلب، بعد أيّام عدة من الزلزال وبعدما سبقه إليها إسماعيل قآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”، غير الآتي: “الوضع كارثي لأنّ اسمها كارثة”. هذا على الأقل ما نقلته عنه قناة “العالم” الإيرانيّة التي تولت أيضاً تغطية زيارة قآني لحلب وإشرافه على توزيع المساعدات الإيرانيّة على العائلات المنكوبة في رسالة سياسيّة واضحة. فحوى الرسالة أن إيران موجودة أيضاً في الشمال السوري وليس في الجنوب فقط وفي داخل دمشق نفسها… وعلى طول الحدود اللبنانيّة – السوريّة.

يستخف النظام السوري بعقول السوريين.كما يستخف بعقول العالم الخارجي. يشنّ الحملة تلو الأخرى للوم العالم على رفضه إرسال المساعدات عبره. لم تقتصر إبداعات النظام على الكلام الفارغ الذي خرج به بشّار في حلب وعلى ضحكاته المتكررة وكأن الوقت وقت النكات والتنكيت. وجد النظام السوري وقتاً لإدانة الولايات المتحدة بسبب إسقاطها منطاداً صينياً حلّق فوق أراضيها. كان مطلوباً من أميركا التفرّج على المنطاد الصيني مثلما يتفرّج النظام السوري على الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السوريّة.

يعبر ما ارتكبته وزارة الخارجية السوريّة عن وقاحة ليست بعدها وقاحة. إنّها وقاحة العاجز لا أكثر. جاء في بيان الخارجية السوريّة: “تدين الجمهورية العربية السورية الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة الأميركية على المنطاد الصيني المخصص للأبحاث المدنية، والذي دخل أجواء الولايات المتحدة الأميركية بسبب قوة قاهرة ولم يمثل تهديداً عسكرياً أو مدنياً. كعادتها تلجأ الولايات المتحدة الأميركية إلى استخدام العنف، بدلاً من التعامل مع حالات كهذه بجدية ومسؤولية وفق قواعد القانون الدولي. تؤكد الجمهورية العربية السورية دعمها للموقف الصيني والتزامها قيم ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده وتمسكها بالحوار والدبلوماسية وسيلة لإيجاد حل سلمي للنزاعات بين الدول”.

يضحك النظام السوري على نفسه، خصوصاً عندما يعطي دروساً في احترام القانون الدولي ويصوّر نفسه خبيراً في المناطيد الصينيّة “المخصصة للأبحاث المدنيّة”. لو كان لدى النظام السوري أي احترام للقوانين الدوليّة لما عامل شعبه بالطريقة التي عامله بها. قتل السوريين من دون رحمة وشرّد الملايين داخل سوريا وخارجها. لجأ إلى إيران وميليشياتها المذهبيّة في حربه على شعبه. لم يتردّد في استخدام السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة في استهداف المدنيين السوريين. ولما فشلت إيران وميليشياتها في حمايته، لجأ إلى فلاديمير بوتين الذي أرسل طائراته إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقيّة كي تمنع سقوط الساحل السوري حيث معقل العلويين.

عاجلاً أو آجلاً، سيتبين أن لا مستقبل للنظام السوري وأنّ ليس أمامه غير الرحيل اليوم قبل غد. ستكشف مرحلة ما بعد الزلزال المأساة السورية بكلّ أبعادها، بما في ذلك أن النظام يجهل ما يدور في داخل سوريا. يجهل خصوصاً أنّ العالم يعرف الكثير عنه وعن تحوله إلى مجرد أداة إيرانيّة في وقت باتت روسيا تحت رحمة الأسلحة التي تزودها بها إيران. الأكيد أن الزلزال لن يغيّر سوريا فقط، سيغيّر تركيا أيضاً على الرغم من وجود دولة مركزيّة قويّة فيها.

ليس الزلزال الأخير سوى جزء من التغييرات التي يشهدها العالم، وهي تغييرات لا يستطيع النظام السوري التكيّف معها ولن يستطيع ذلك. لا لشيء، سوى لأنه يقيم في عالم خاص به. يمنعه العالم الخاص به من رؤية أبعد من أنفه والتعاطي مع الواقع بدل الهرب منه. يقول الواقع إنّ لا مستقبل للنظام، بل السؤال المطروح في مرحلة ما بعد الزلزال: أي مستقبل لإيران في سوريا؟ هل تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاستفادة من المصيبة التي حلّت بتركيا؟ هل صدفة أن يسبق قائد “فيلق القدس” بشّار الأسد إلى حلب؟

النهار العربي

————————————-

ازدراء السوريين … المؤامرة والمظلومية/ أرنست خوري

تصديق أن أسباباً تقنية وأمنية حصراً تقف خلف ترك السوريين القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لقدرهم بعد الزلزال، يحتاج إلى حسن نية استثنائية يلامس السذاجة، في حال لم يقمع طيب القلب مبالغاته. مع ذلك، أن يُقال إن الأمم المتحدة، وهي أكبر جهة إغاثة، وغيرها من منظمات ودول لا تغامر عادة بإرسال فرق عملها ومساعداتها إلى أماكن لا تحكمها سلطة مركزية، كحال الشمال السوري المتحرّر من سلطة دمشق، فإن ذلك صحيح. وأن يتم التذكير بأن جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام باسمها الملطف، رفضت فتح المعابر بين مناطق نفوذها وتلك التي يديرها نظام بشار الأسد وداعموه، لدخول المساعدات، فذلك واقعٌ يُضاف إلى السجلّ الأسود لهذا التنظيم الظلامي. والحقيقة الثالثة أن ميل الجماعة، أي جماعة، إن طالت فترة تعرضها لمثل ما يعيشه السوريون منذ انتفضوا على قوانين القبر الذي كانوا يعيشون فيه، إلى التفسيرات المبنية على الشعور بالمظلومية المزمنة، فإنّ ذلك يحمل المخاطر نفسها التي تكتنفها الخرافات المؤامراتية، وهذه المظلومية كتلك المؤامراتية تمنعان فهم أي حدث واستيعاب أي ظاهرة. في هذه الحالة، يصبح الجواب عن كل سؤال جاهزاً: العالم يكرهنا، يريد لنا الموت، ألم نقل منذ البداية “ما لنا غيرك يا الله”؟

لكن هذه الحقائق الثلاث لا تقدّم تفسيراً مقنعاً لترك السوريين بهذا الشكل الفاضح، فتبقى المساحات شاسعة لسرد أسباب أخرى يتصدّرها الاتجاه العالمي الذي تتفاوت سرعته لتعويم نظام بشار الأسد بقوة الأمر الواقع، أو بقوة درجات الزلزال. تعويم كيفما نُظر إليه، يعطي مشروعية لكثير من مشاعر المؤامرة والمظلومية التي تتملك سوريين كثراً على قاعدة أن العالم يعاملهم على أنهم “بشر فائضون عن الحاجة”.

وإلا، لماذا لم تدخل مساعدات وفرق إنقاذ قبل مرور أربعة أيام على حصول الزلزال؟ لماذا بقي معبر باب الهوى (الوحيد المفتوح مع تركيا) خالياً من الشاحنات طوال هذه الأيام؟ لماذا لم يُفتح بقوة المجتمع الدولي أيّ من المعابر الـ12 التي تمنع روسيا فتحها؟ لماذا استغرق الأمر أسبوعاً كاملاً منذ وقوع الزلزال حتى عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً مغلقاً أول من أمس الاثنين لنقاش الأوضاع الإنسانية في سورية؟ أسبوع، في ظروف الزلازل، هو بمثابة سنوات، ذلك أن الوقت يُحتسب بالثواني عندما يتعلق الأمر بآمال إنقاذ أحياء من تحت الأنقاض. لدى دبلوماسيي نيويورك أجوبتهم. سفيرة مالطا، رئيسة مجلس الأمن للشهر الحالي، فينيسا فرازير، رداً على أسئلة مراسلة “العربي الجديد” ابتسام عازم، تبرّر التأخر القاتل بالحاجة إلى الاستماع من منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، عن “حقيقة الأوضاع على الأرض” في سورية لأنها، والكلام للدبلوماسية المالطية إياها، لا يمكنها مع زملائها الاعتماد فقط على ما تقوله نشرات الأخبار. أما غريفيث، فجوابه محيّر، يتفاوت الحكم عليه بين الصراحة والوقاحة، وبينهما مجرّد شعرة مثلما هو معروف. قال الرجل من معبر باب الهوى: لقد تقاعسنا عن مد يد المساعدة للناس في شمال غربي سورية. إنهم على حقّ في شعورهم بالخذلان، ونركز على تصحيح الخطأ سريعاً. أما وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، فلم يُسأل أصلاً عن إهمال العالم للسوريين، فشعبه منكوب أكثر من جيرانه، لكنه تطوّع إلى تقديم فكرة أولية عن شكل تعاطي أنقرة مع هؤلاء مستقبلاً، فجزم بأن تركيا لن تسمح بتدفق جديد للاجئين من سورية بعد الزلزال.

يُفرح كلام مولود جاويش أوغلو عن أن بلاده استقبلت عروض دعم ومساندة من 99 دولة، بالقدر نفسه الذي تغرز كالسكين حقيقة أن السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تُركوا وحيدين لتدبر مأساتهم، باستثناءات قليلة لدول ومنظمات بادرت إلى تقديم شيء من العون. محيّر هو أمر كل هذا الازدراء الذي يشعر السوريون اليوم أن العالم يكنّه لهم. هو الازدراء نفسه الذي يعاينوننه في قهقهات بشار الأسد فوق قبور حلب، وكأنه تأكّد، للمرة المليون، أن مسلسل حظه الذي يفلق الصخر سيرافقه حتى قبره.

العربي الجديد

—————————–

مقاولو الحرب في سوريا: شركاء في الكارثة بعدما انهار عمرانهم كأكوام الملح/ طارق علي

ليس من السهل إحصاء عدد الأبنية المخالفة في أيام السلم، فكيف بعد 12 عاماً من الحرب في سوريا، وأيام ما بعد الزلزال الذي جاءها قاسياً وأليماً لعوامل أبعد من كونه زلزالاً مدمراً وحسب؟

عوامل أخرى ترتبط بالحرب عينها، وليس بالفساد فحسب، فهو حالة أصيلة في سوريا، بل بحالة انعدام الأمن الغذائي والمائي والإنشائي والمجتمعي أيضاً، حقيقةً ما كان ينقص سوريا هذا الحدث.

وبالحديث عن تفاصيل الزلزال وشكله وما أدى إليه، ورغم ذكر أنّ الفساد في سوريا أصيل، ولكنه بلا شك تنامى باطراد خطير خلال سنوات الأزمة، لأسباب بينها: غياب الرقابة، غياب المحاسبة، ضعف النفوس، تورط بعض السلطة في الأمر.

صحيح أنّ عشرات آلاف الأبنية في سوريا تصدعت بفعل الحرب، ولكن ما ظلّ ثابتاً وسليماً معمارياً فيها، هل كان مرشحاً ليتهدم بهذه الطريقة وتصبح المباني كأنها أكوام من “الملح”؟

بل ولو كانت سليمة من الناحية الفنية، هل كان الزلزال ليحصد هذا الكم من المباني التي سقطت وتحولت إلى دمار تام؟ الجواب هو لا، فببساطة غياب المخططات التنظيمية والفساد في دوائر الإدارة المحلية وأشكال البناء والتحالف الإداري الرسمي مع المقاولين جعلت آلاف الأبنية ذات مظهر غريب إنشائياً.

يعلم سكان حيٍّ ما مثلاً أنه مسموح بإعمار ثلاثة طوابق في حيّهم فقط، وفعلاً كان الأمر سارياً قبل الحرب على ذلك، وأحياناً يتم التجاوز في بعض الأبنية والسماح ببناء ملحق إضافي، ويكون مخالفاً بطبيعة الحال، أما اليوم فحيّ مسموح فيه بثلاثة طوابق تجد أبنيته أصبحت سبعة طوابق وأكثر.

في حمص

حي المهاجرين الشعبي في مدينة حمص مثلاً، والذي يفترض أن يكون سقف الإعمار فيه ثلاثة طوابق، اليوم بكل بساطة بالكاد يوجد بناء فيه أقل من خمسة طوابق، وصولاً إلى ثمانية أو تسعة، ومثله أحياء مختلفة في حمص، واللافت أنها كلها توصف بأنّها أحياء “عشوائيات”، أي أنّها من الأساس غير مقامة على دراسات هندسية، فعلام يراهن سكانها وقد قاربت أبنيتهم أن تصير أبراجاً؟

سألنا هذا السؤال لصاحب أحد تلك الأبنية، وكان جوابه أنّ كثرة “عياله” فرضت عليه التوسع العمودي في البناء: “لم أفكر يوماً أنّه يمكن أن يحدث زلزال في سوريا، أنا اليوم خائف جداً، ولكن حتى الأمس كنت لا أبالي، ماذا سيحدث مثلاً؟ كل حارتنا أصبحت أبنيتها طوابقها عالية”.

في ريف دمشق

وإلى مدينة جرمانا في ريف دمشق، والتي تشهد الاكتظاظ السكاني الأعلى في المنطقة، هنا يمكن مشاهدة بناء من طابقين، قبالته بناء من تسعة طوابق، وبينهما بناء من خمسة طوابق، وهكذا دواليك.

وإذا اعتبرنا أنّ في حمص الأمر مركب قليلاً، لكون المدينة كانت ترزح تحت وطأة حرب عنيفة، فغابت الرقابة وسادت ثقافة الجشع، ولكن ماذا عن هذه المنطقة في ريف دمشق، وهي التي ظلت آمنة طوال الحرب؟ هنا يبدو أنّ الفساد قد توغل واستشرى وتمترس وضرب بكل القوانين عرض الحائط عبر مجالس بلدية متعددة تعاقبت على المنطقة خلال السنوات الماضية.

يعمل هذه الأيام المجلس البلدي في جرمانا بكدّ وجدّ للكشف عن احتمال تضرر الأبنية من الزلزال الأخير، “ولكنهم يتعامون عن البرجيات التي شيّدت حولهم وبجوارهم وفي مناطق سلطتهم”، يقول الشيخ سائر صيباتي لـ”النهار العربي”، ويضيف: “والله كنا طابقين قبل الحرب، اليوم صرنا سبعة، منظر البناء لوحده مخيف، تشعر بأنه سينهار من دون زلزال، واشتكينا مراراً وتكراراً للبلدية ولكن من دون إجابة، فالذي عمّر وباع الشقق فوقنا واحدة تلو الأخرى شخص نافذ وله معارفه”.

ومثل جرمانا يتكرر الأمر في دمشق نفسها ودرعا والسويداء، وغيرها، ولعلّ هذه الأمثلة البسيطة هي بمثابة “إنذار” لأبنية قد تسوى بالأرض في حال حصل أي زلزال في المستقبل، سواء أكان الأمر مستبعداً أم لا.

في مدن الفاجعة

أما في حلب واللاذقية، حيث تركزت الفاجعة، فهناك يمكن القول ببساطة إن تلك الأبنية التي انهارت لم تكن تستوفي بأي طريقة شروط السلامة الزلزالية، وليس المقصود القول إنّ الأبنية لن تسقط في الزلازل، وإنّ ما حصل هو استثناء خاص وغير مسبوق، بقدر ما نهدف للقول إنّ تدعيم المباني ومراعاتها للشروط العمرانية السليمة كان سيخفف من وطأة الكارثة، وتركيا القريبة التي تشارك سوريا مصيبتها، ورغم أنّه لا حرب فيها، فحتى اليوم تم اعتقال أكثر من 130 مقاولاً بتهم تتعلق بالفساد الإنشائي، فكيف الحال بسوريا إذاً؟

وبحسب رأي المهندس المدني مازن سليقاني فإنّ المقاولين وتجار الأزمة يتحملون وزر الأبنية المخالفة وجزءاً كبيراً مما حصل من دمار، “لا يعقل أن يصمم مهندس بناء قابلاً للسقوط، نحن درسنا وتعلمنا ونعمل بوضوح ونراعي الشروط السليمة في البناء، على عكس التجار الذين يتقاضون الأموال ويقومون بإنجاز طبقات تجارية قابلة للانهيار مع أي حدث طارئ وغير متوقع، وبالتأكيد لم يكونوا يتوقعون أن تعري الطبيعة فعلتهم… أنا أطالب بمحاسبة جميع المتورطين، من التجار والمتنفذين الذين سهلوا لهم البناء، برخصة أو من دونها”.

يقول مقاول من حلب لـ”النهار العربي” فضل عدم الكشف عن اسمه: “يأتيك شخص ما يقول لك أملك هذا السطح ومعي مثلاً فقط عشرون مليون ليرة وأريد أن تعمر لي بيتاً، ماذا أفعل؟ إن رفضت سيقبل غيري، ومن كان يتوقع أن يحصل زلزال في سوريا؟ ورغم ذلك أحاول أن أقدم الأفضل ضمن المبلغ المتاح لي، الحق هنا على صاحب المال وليس عليّ، أنا أخبره بأنّه لن يحصل على أفضل نتيجة بهذا المبلغ، وهو حر إن قبل أو رفض، علماً أنّ الجميع يقبلون”.

وحين سؤاله إن كان يخشى المحاسبة بعد هذا الزلزال، تبسم بطريقة ما وأجاب: “ليحاسبوا الرؤوس الكبيرة، نحن عمال صغار”.

أما المقاول حيدر حمور من اللاذقية فيقول لـ”النهار العربي”: “من غير المعقول تحميلنا مسؤولية كل هذا السوء العمراني، صحيح أننا لسنا مهندسين، ولكن لنا خبرتنا أيضاً، وليس من المعقول أن ننفذ بيوتاً غير مدعمة وآيلة للسقوط، الموضوع يتعلق بالضمير”.

وبين ضمير هذا المقاول وانعدام ضمير آخرين، يبقى أنّ سوريا بعد الزلزال دفعت ثمن عشوائياتها وبناها التحتية السيئة آلافاً من القتلى والجرحى ودماراً واسعاً بات معه أكثر من نصف مليون سوري على الأقل مشردين.

قد تكون الحكومة اليوم غير قادرة على إيجاد حلول فورية، ولكنها على الأقل قادرة على تخفيف حدّة اللامبالاة التجارية بأرواح الناس، ليستوجب السؤال… هل سيجرؤ أحد على فتح تحقيق بملف البناء الذي عرّته الكارثة؟

النهار العربي

————————–

عندما يكشف الزلزال السوري الكثير من القضايا/ محمد سيد رصاص

وصف الأمين العام المساعد للأمم المتحدة للشؤون الانسانية مارتن غريفيث زلزال 6شباط 2023 الذي حدث في تركيا وسوريا بأنه “أسوأ ماشهدته المنطقة خلال قرن من حيث الأضرار”.

أصاب الزلزال عشر محافظات تركية، وأربع محافظات سورية هي إدلب وحلب واللاذقية وحماة،وكان من قتلى الزلزال آلاف السوريين المقيمون في تركية.

في سوريا، وبفعل الأزمة السورية وما رافقها من صراع داخلي ونزوح داخلي بلغ 6،8 مليون ولاجئون خارج الحدود يقاربون عدد النازحين،كان الزلزال مؤدياً إلى “أزمة داخل أزمة” وفق تعبير أحد مسؤولي الأمم المتحدة، خاصة أن المنطقة السورية الأكثر تضرراً من الزلزال، وهي منطقة شمال غربي سوريا في إدلب وفي الريف الشمالي والغربي من محافظة حلب، التي تضم ثلاثة ملايين من النازحين السوريين من محافظات سورية أخرى أو من مناطق في إدلب بعد قتال الشهرين الأولين من عام2020، وفي تلك المنطقة كان هناك أربعة مليون من أصل أربع ملايين ونصف يعيشون على المعونات الإنسانية.

حتى يوم 12شباط/فبراير وصل عدد القتلى السوريين في المحافظات الأربع إلى أربعة آلاف وخمسمائة، والذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الزلزال يبلغون خمسة ملايين، وفي بلدات مثل جنديرس وحارم وسرمدا والأتارب كان الدمار لأغلب المباني والدور السكنية، وهناك دمار كبير في أحياء من  مدن حلب واللاذقية  وجبلة وسلقين وأريحا  وفي حي واحد بمدينة حماة.

كان الدمار أعلاه في المباني والدور بمناطق العشوائيات والمخالفات وحيث يوجد نازحون، وأيضاً في مدن عديدة كان الدمار والتصدع والتشقق وانهيار المباني في أحياء حديثة وفي “أبنية وأحياء فخمة” كشف الزلزال بها مقدار مخالفات المواصفات الهندسية في البناء ودراسة التربة، مما جعل أغلب المباني هناك تنهار مثل علب الكبريت أو قطع البسكويت المصفوف بعد هرسها، أو أن تتشقق أو تصبح في وضع الميلان، وهو مايبيّن مقدار الفساد في البلديات وعند المتعهدين ومهندسي الإشراف، ومقدار التسيّب والفساد في الإدارة الحكومية بالسلطة السورية.

لم يكن تعامل ما يسمى بـ”المجتمع الدولي”على مسطرة واحدة بين تركيا وسوريا، بل كان الاهتمام منصباً على مساعدة تركيا مع تجاهل للمناطق السورية المتضررة، تارة تحت حجة أن هناك مناطق تحت سيطرة السلطة السورية تخضع للعقوبات الدولية، وتارة بالتحجج أنه لايوجد سوى معبر واحد هو باب الهوى سمح مجلس الأمن الدولي بعبور المساعدات عبره لمنطقة شمال غربي سوريا التي لاتخضع لسيطرة السلطة السورية، هذا المعبر الذي لم تدخل المساعدات الدولية منه سوى في اليوم السادس من الزلزال ولم تسمح تركيا بالدخول عبره سوى لجثامين السوريين القتلى بفعل الزلزال الذين قضوا في الأراضي التركية.

ظهرت سوريا يتيمة متروكة لآلامها، في منظر يُظهر نفاق الدول في مشارق الأرض ومغاربها وفي شمالها وجنوبها بما فيها الدول العربية، الأمر الذي أظهر لنا أن هناك غابة اسمها العلاقات الدولية حيث هناك كذبة كبرى اسمها “القضايا الإنسانية”، حيث يبدو الاختلاط الكبير بين ماهو إنساني وبين ماهو سياسي.

من جانب السوريين، ظهر المجتمع السوري بأفراده وبنيته الاجتماعية، وخاصة الفقراء ومن بقي من الفئات الوسطى، بأنه مازال يحتفظ بتقليد التكافل الاجتماعي، وكانت هناك مبادرات من أفراد كثيرين في الإغاثة ورفع الأنقاض وإنقاذ العالقين تحت الأنقاض وفي الإيواء والإطعام ومختلف أشكال المساعدات سيفتخر بها السوريون في مقبل الأيام.

من جانب الطيف السياسي السوري عند السلطة وأطراف المعارضة السورية السياسية والمسلحة والتي هي داخل الحدود أو خارجها، لم يكن هناك ارتفاع إلى مستوى محنة 6شباط/فبراير 2023 السورية، من حيث ضرورة تناسي آلام الماضي وجراحاته وأحقاده حتى ولو مؤقتاً، على الأقل لتشكيل ضغط سوري جماعي على “المجتمع الدولي”من أجل مساعدة سوريا التي جرحت في السادس من شباط جرحاً جديداً أتى الآن من الطبيعة بعد أن كانت مجروحة بفعل تقاتل أبنائها وصراعاتهم ومن ثم استغلال الخارج لهذا التقاتل السوري- السوري لمصالحه عبر صب الزيت على النار السورية التي اشتعلت داخلياً في عام2011 بفعل عوامل داخلية متراكمة.

وقد رأينا في مجتمعات عديدة،آخرها لبنان الذي كان به دم كثير بالآلاف بين عامي1975 و1990 ومن ثم أزمات وصراعات واحتقانات داخلية، كيف وقف اللبنانيون صفاً واحداً عقب كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4آب/ أغسطس 2020، وإن كان هنا يجب التسجيل الإيجابي لمبادرتي السلطة السورية والإدارة الذاتية في شمال وشمال شرقي سوريا في إرسال مساعدات إلى منطقة شمال غربي سوريا، والتسجيل السلبي لقوى الأمر الواقع هناك التي لم ترتفع إلى مستوى لحظة المحنة السورية عندما رفضت السماح لتلك القوافل من المساعدات بالدخول إلى هناك، وبعضها مساعدات من الأمم المتحدة أتت من منطقة سيطرة السلطة السورية، ويبدو أن هؤلاء هناك لم ينسوا أو يضعوا جراحات الماضي جانباً حتى ولو مؤقتاً، وبعضهم ربما فكر بالسياسة وليس بالظرف الإنساني لمنطقة كانت يتيمة الكرة الأرضية كلها في لحظة ما بعد السادس من شباط 2023، ولم يفكروا بما فعله معهم بعد الزلزال معلمهم وراعيهم أردوغان عندما كان اهتمامه كله في الأراضي التركية .

في كل الأحوال،كان زلزال 6شباط/فبراير 2023 كاشفاً لمقدار وضع الأزمة السورية في البراد أو الفريزر الدولي، ومقدار كم أن سوريا هي خارج الاهتمام الدولي في ظرف عام مضى من اشتعال النار الأوكرانية، وكاشفاً لوضع سوريا والسوريين بعد اثني عشر عاماً من اشتعال حريق الأزمة السورية، وعن مدى تغير سوريا والسوريين في عام 2023 عن عام 2011، وأيضاً عن تعدد المعايير وليس فقط ازدواجيتها في العلاقات الدولية.

نورث برس

————————-

ما شروط التأشيرة الألمانية لمتضرري الزلازل في تركيا وسورية؟

أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية، قبل يومين، أن برلين ستسهل منح تأشيرات مدتها ثلاثة أشهر للمتضررين السوريين والأتراك من الزلزال، والذين لديهم عائلات في ألمانيا.

وقالت نانسي فيزر لوسائل إعلام ألمانية “إنها مساعدة طارئة”، مضيفةً: “نريد السماح لعائلات تركية وسورية في ألمانيا بأن تأتي بأقربائها من المنطقة المنكوبة من دون بيروقراطية”.

كما أضافت الوزيرة في شأن هذه المبادرة المشتركة من جانب وزارتي الداخلية والخارجية أن سكان المناطق المنكوبة بسبب الزلزال الذي خلّف أكثر من 30 ألف قتيل، يمكنهم بذلك الحصول “على تأشيرات نظامية تسلّم سريعاً وصالحة لثلاثة أشهر”.

وتتيح هذه الآلية المبسّطة للمنكوبين “العثور على مأوى وتلقي علاج طبي” في ألمانيا.

ما الشروط؟

وأوضح المتحدث باسم وزارة الداخلية في برلين، اليوم الاثنين أن الحكومة الفيدرالية ستدير عملية وصول ضحايا الزلزال من تركيا إلى ألمانيا “بطريقة غير بيروقراطية ولكن منظمة”.

وقال إنه لكي يأتي ضحايا الزلزال الذين لديهم أقارب في ألمانيا إلى أراضينا، من الضروري أن “يعلن أقاربهم التزامهم”.

ومع الإعلان المذكور سيقدم الأقارب الذين يعيشون في ألمانيا تأكيدات للسلطات الألمانية بأنهم سيلبيون احتياجات ضحايا الزلزال القادمين من تركيا إلى البلاد.

وصرحت متحدث باسم وزارة الخارجية، بحسب ما نقلت وسائل إعلام أن ضحايا الزلزال الذين يمكنهم الاستفادة من سهولة الحصول على التأشيرة يجب أن يكون لديهم أقارب من “الدرجة الأولى والثانية” في ألمانيا.

وقالت المتحدث إنه بالإضافة إلى إعلان الالتزام، فإن “الاستعداد للعودة إلى بلادهم” بالنسبة لأولئك القادمين إلى ألمانيا سيكون من بين متطلبات التأشيرة.

وأشار المتحدث إلى أن شرط الحصول على تأشيرة دخول لضحايا الزلزال للمجيء إلى ألمانيا لا يزال سارياً، وأنه يتعين على ضحايا الزلزال أيضاً تقديم “الحد الأدنى من الوثيقة” التي تثبت شكاواهم إلى السلطات الألمانية.

وصرح أن عدم وجود جوازات سفر لبعض ضحايا الزلزال يمثل “مشكلة”، وقال إن السلطات التركية مخولة بإعداد وثائق سفر جديدة مثل جوازات السفر.

ماذا بخصوص السوريين؟

ويقيم حوالى 2,9 مليون شخص من أصول تركية في ألمانيا، يحمل أكثر من نصفهم (1,5 مليون) الجنسية التركية، وتضم ألمانيا كذلك عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين، خصوصاً منذ قررت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل فتح الحدود عامَي 2015 و2016.

وبحسب الدائرة الألمانية للهجرة واللاجئين، “يقيم حالياً نحو 924 ألف سوري في ألمانيا بعدما كانوا نحو 118 ألفاً في السنوات السابقة.

وفيما يتعلق بالسوريين المتضررين قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية، مذكراً أن ألمانيا ليس لها تمثيل دبلوماسي في سورية أنه لا يوجد “حل بسيط” لقبول ضحايا الزلزال السوري إلى ألمانيا.

وأشار المتحدث إلى أن ضحايا الزلزال السوري الراغبين في القدوم إلى ألمانيا عليهم التقدم بطلب إلى السفارات الألمانية في الدول المجاورة، وأوضح أنه سيتم أيضاً زيادة المساعدات الإنسانية للمنطقة.

———————————

الأمم المتحدة تراوغ”.. أرقام توضّح حجم كارثة الزلزال في شمال سورية

نشر فريق “منسقو الاستجابة” الإنساني أرقاماً توضح حجم الكارثة التي خلّفها الزلزال المدمّر في مناطق شمال وغرب سورية، في وقت ما تزال الأمم المتحدة تحجم عن إرسال المزيد من المساعدات إلى المناطق المنكوبة والمنكوبين.

وجاء في تقرير للفريق نشر، اليوم الاثنين، أن عمليات إحصاء النازحين من المناطق المتضررة من الزلزال ما تزال مستمرة، إذ وصل عددهم إلى 144,783 نسمة.

وكذلك الأمر بالنسبة لمسار رصد المباني المتضررة، والتي بلغ عددها12,122 مسكن، مع إحصاء 8160 مسكن أخرى ظهرت عليها التصدعات.

وتحدث الفريق عن زيادة عدد مراكز الإيواء الموجودة في المنطقة، وأنها هي غير كافية على استيعاب النازحين أو تأمين الاحتياجات الخاصة بهم.

في غضون ذلك وحتى تاريخ يوم الاثنين لم ترسل المتحدة سوى 62 شاحنة فقط من المساعدات الإنسانية معظمها لا يصلح للتعامل مع الأزمة الحالية.

وقال الفريق: “هناك مراوغات كبيرة من الأمم المتحدة لفسح المجال أمام النظام السوري لإدخال المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس، على الرغم من جهوزية ستة معابر حدودية لدخول المساعدات”.

كما حذّر الأمم المتحدة من أي محاولة لإدخال المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس كونها مرفوضة بشكل قطعي من المجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني.

وقبل يومين كانت فرق “الدفاع المدني السوري” قد أعلنت أن مسار جهودها في الاستجابة للكارثة قد اتخذ منحى انتشال الجثث من تحت الأنقاض، بعدما باتت فرص العثور على أحياء “ضئيلة”.

ورغم أن “الدفاع المدني” ومنظمات إنسانية أخرى ناشدت الأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة والخاصة بتقنيات الحفر والانتشال، إلا أن الأخير لم تستجب لهذه الدعوات، بينما أقر مسؤول فيها يوم الأحد بـ”التقصير بالاستجابة”.

ومنذ المقرر أن يعقد مجلس الأمن جلسة من أجل التصويت على إدخال المساعدات إلى شمال سورية، من عدة معابر، وليس من خلال “باب الهوى” فحسب.

ومنذ عام 2014، تمكنت الأمم المتحدة من إيصال المساعدات إلى ملايين الأشخاص المحتاجين في الجزء الشمالي الغربي من سورية، بموجب تفويض من مجلس الأمن. لكنه يقتصر حالياً على استخدام معبر حدودي واحد فقط، هو “باب الهوى”.

وقالت ليندا توماس جرينفيلد سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في بيان لوكالة “رويترز”: “في الوقت الحالي كل ساعة مهمة. الناس في المناطق المتضررة يعتمدون علينا”.

وأضافت: “لا يمكننا أن نخذلهم – يجب أن نصوت على الفور على قرار يستجيب لدعوة الأمم المتحدة للسماح بمعابر حدودية إضافية لإيصال المساعدات الإنسانية. حان الوقت للتحرك بسرعة وبهدف”.

——————————

كيف كافحت “الجهود السورية البحتة” وحدها أهوال الزلزال في “الفترة الحرجة

مع انقضاء الأسبوع الاول إثر كارثة الزلزال المُدمر، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سورية فجر الإثنين الماضي، برزت أهمية التحركات العاجلة للمؤسسات السورية والمبادرات المحلية في شمال غرب البلاد، والتي كانت تعمل وحدها وبإمكانياتها المحدودة في هول هذه الكارثة، دون وصول أي مساعدات خارجية للمنطقة المنكوبة التي يقطنها نحو 5 ملايين نسمة.

ورغم أن احتياجات الاستجابة لهذه الكارثة ضخمة للغاية، وتحتاج لإمدادات دولية لم تصل، استطاعت المبادرات المحلية من السكان والمؤسسات، أن تنظم خلال الساعات والأيام الأولى من الكارثة، مجموعة حملات وتحركات استجابة سريعة، ساهمت ولو جزئياً في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

“السوريون وحدهم”

تُعتبر الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى بعد أي زلزال مُدمر، مساحة زمنية استثنائية لانقاذ العالقين تحت الأنقاض، كما أنها فترة حرجة لكون مئات الآلاف من السوريين باتوا بدون مأوى، وآلافٌ منهم جرحى يحتاجون للعلاج، وبالتالي فإن الاحتياج للمساعدات العاجلة تكون في أوجها خلال الأيام الأولى، لكن مناطق شمال غربي سورية بقيت فعلياً دون أي مساعداتٍ عاجلة خلال هذه الفترة الحاجة، واعتمدت فرق الإنقاذ وباقي المؤسسات الإغاثية على إمكانياتها المحلية، التي رفدتها مبادرات السكان، كل بما استطاع تقديمه.

يقول سونير طالب، وهو منسق العلاقات العامة في “المنتدى السوري”، إن التقديرات الأولية التي رُصدت منذ الدقائق الأولى لحجم الزلزال، تقاطعت كلها في أن مناطق شمال غربي سورية المُتعبة أساساً نتيجة القصف والعمليات العسكرية منذ نحو عقد، دخلت مع الزلزال في كارثةٍ مهولة تتطلب تضافر جهود كافة المؤسسات السورية النشطة فيها، لتقديم استجابة جزئية سريعة ولن تكون كافية بكل حال.

أحد مراكز إيواء منكوبي الزلزال المدمر في شمال غربي سورية – اعزاز/شمال حلب – فبراير/شباط 2023(السورية.نت)

ويضيف طالب إن “المنتدى السوري وشركائنا الإنسانيين أعلنوا النفير العام لكافة الفرق العاملة منذ الدقائق الأولى للزلزال المُدمر، ووضعنا خطة طوارئ عاجلة، بالتنسيق مع الدفاع المدني وباقي الشركاء الإنسانيين، حيث كانت الأولوية لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض وإيواء آلاف العائلات التي باتت مُشردة دون مأوى”.

وأشار إلى أن جهود الاستجابة في الأسبوع الأول للكارثة تمت في غالبيتها العظمى بـ”إمكانيات سورية خالصة في الوقت الذي لم تتحرك الأمم المتحدة لتقديم أي مساعدة، وبقي السوريون وحدهم يضمدون جراحهم وينتشلون أحبائهم من تحت الأنقاض، ويسعون بكل إمكانياتهم لإيواء المشردين وعلاج الجرحى”، منوهاً على “الدور الفعّال للجالية السورية في الولايات المتحدة وخاصة ولايات دالاس وتكساس، التي قدمت دعماً كبيراً للمنتدى السوري وشركائه الإنسانيين منذ الساعات الأولى للكارثة”.

وطالب ذات المتحدث بأن “تفتح الأمم المتحدة تحقيقاً عاجلاً في تقاعس المنظمة عن الدفع بمساعدات طارئة كانت فرق الإنقاذ والكوادر الطبية والمؤسسات الإنسانية بأمس الحاجة لها في الايام الأولى للكارثة، ولا بد أن يجيب التحقيق على أسئلة مهمة مثل، لماذا حصل التقاعس ولماذا لم يحصل اي تحرك. الاعتذار عن الفشل وحده لا يكفي”.

الفرق الإغاثية أثناء تقديم الاحتياجات الأساسية لمنكوبي الزلزال في مركز الإيواء المؤقت – اعزاز/شمال حلب – 9فبراير/شباط 2023(السورية.نت)

“الخبرة والملحمة الشعبية”

يقول نائب مدير “الدفاع المدني”، منير المصطفى، إن عاملين إثنين لعبوا دوراً كبيراً في الاستجابة لحجم الكارثة التي ضربت مناطق شمال غربي سورية.

العامل الأول هو “الخبرة الكبيرة التي يمتلكها متطوعو الدفاع المدني، والتي اكتسبوها لكونهم يتعاملون منذ سنوات، مع هكذا أنواع من حالات الإنقاذ التي كانت شبه يومية بسبب القصف الروسي ونظام الأسد للمنطقة”.

واعتبر مصطفى خلال حديثه لـ”السورية.نت”، أن “متطوعي الدفاع المدني كان لديهم خبرة كبيرة بالتعامل مع هكذا حالات وهذا ساعد بشكل كبير في عمليات الإنقاذ”، مشيراً إلى أنه “لا فرق كبير بين الزلزال وبين قصف قوات الأسد وروسيا من حيث تهدم المباني فوق قاطنيها والفرق الوحيد هو حجم الدمار”.

العامل الثاني كما يؤكد، يعود لـ”التلاحم الشعبي الكبير”، والمساعدات العاجلة التي قدمت لـ”الخوذ البيضاء سواء كانت آليات ثقيلة أو كاميرات حرارية أو وقود، والتي كان الدفاع بحاجتها بسبب حجم الدمار الكبير”، مشيراً إلى أن “تكاتف المدنيين مع الدفاع المدني كان له دور حاسم في شمال غرب سورية، إذ تحولت المنطقة إلى خلية يوجد فيها قيادة عمليات وفرق تطوعية”.

وأشار إلى أن “هم الناس(خلال الأيام الأولى) أصبح إخراج العالقين تحت الأنقاض، إذ وصلت إلى الدفاع المدني أكثر من 200 آلية من قبل الأهالي، كما أن بعض الأهالي قدموا الوقود لآليات الدفاع المدني من أجل تشغيلها رغم موجة البرد التي كانت تعصف بالمنطقة”.

الجميع ساهم حسب اختصاصه وقدراته

ويؤكد الباحث في “مركز عمران للدراسات”، علي العبد المجيد، الذي شهد الزلزال حيث يقيم في إدلب، أن “توقيت الزلزال كان حرجاً جداً حيث الجميع نيام في الرابعة والنصف فجراً، ما زاد عدد الضحايا”، مضيفاً أنه ورغم “عدم تجربة الشعب السوري لزلازل سابقة، فإن الاستجابة كانت سريعة منذ الدقائق الأولى، حيث بدأ الناجون بالتوجه إلى المناطق الأكثر ضرراً، لنقل المنكوبين في سياراتهم لأماكن أُخرى ليبحثوا عن مأوى”.

وقال العبد المجيد، إنه مع “شروق الشمس بدأ يتضح حجم الكارثة، وأنها أضخم من التصورات الأولية عنها، وهي فوق قدرة المبادرات المحلية وحتى المؤسسات الإغاثية وفرق الإنقاذ”.

رغم ذلك فقد نوه إلى أن “الفزعة الكبيرة والسريعة من السكان الناجين ساهمت ولو جزئياً بإغاثة المنكوبين من المناطق الأكثر ضرراً، وتضافرت فعلياً جهود المؤسسات الإنسانية التي سارعت لاستنفار كل طواقمها، مع الجهود الفردية للأشخاص الناجين، وكذلك فإن كافة المساجد، والمباني الفارغة مثل المراكز الثقافية والمعاهد والمدارس وغيرها، فتحت أبوابها لإيواء المنكوبين منذ الساعات الأولى، كما بدأ مؤسسات كثيرة بينها المنتدى السوري بالإسراع في إنشاء مراكز وخيم إيواء للمشردين”.

ونوه العبد المجيد إلى أن “كافة الخبرات والطواقم والنقابات لعبت حسب إختصاصها دوراً فعالاً وسريعاً في الاستجابة للكارثة، فالحقوقيون بدأوا بتوثيق الوفيات والناجين والمفقودين وما إلى ذلك، والمهندسين بتفقد المباني والأضرار وإحصائها، والكوادر الطبية عملت بكامل طاقتها لايام متواصلة، والمؤسسات الإغاثية بدأت بتنظيم الإيواء وإعداد وجبات الطعام والمستلزمات الأساسية”.

“كان بالإمكان إنقاذ أرواح كثيرة”

وحول أبرز الاحتياجات المطلوبة حالياً، في مرحلة ما بعد الأسبوع الأول من الزلزال المُدمر، أكد نائب مدير “الدفاع المدني” أن فرق “الخوذ البيضاء” بحاجة إلى رافعات ثقيلة وجرافات لإزالة الأنقاض ومعدات متطورة، وقطع غيار كون الآليات انهكت بشكل كبير خلال الأيام الماضية، إضافة إلى الحاجة إلى الوقود كون الدفاع الدمني يستخدم الاحتياط منذ شهرين، تزامناً مع ارتفاع الأسعار.

وأكد مصطفى في ختام حديثه أنه “في أي بلد يتعرض لكارثة طبيعية تسارع الدول إلى مساعدته ومساندته وتقديم الدعم له وإرسال فرق إنقاذ، لكن هذا لم يحصل في الشمال السوري، ولو كان يوجد معدات كافية كنا قادرين على إنقاذ أرواح كثيرة من المدنيين”.

من جهته أكد منسق العلاقات العامة في “المنتدى السوري” سونير طالب، أن المرحلة القادمة وهي “النهوض والبدء بالتعافي، تتطلب تضافر جهود السوريين من كل دول العالم، وباقي الشعوب العربية وغيرها، للمساهمة في دعم إعادة إعمار مناطق شمال غرب سورية المنكوبة”.

—————————-

تقارير: فتح المعابر “انتصار سياسي” للأسد و”فرصة” لتحسين صورته

قالت صحيفة “واشنطن بوست” إن نظام الأسد يرى في الزلزال الذي ضرب مناطق شمال غربي سورية، فرصة للخروج من عزلته الدولية، وإثبات أن التعامل معه هو “وسيلة مثمرة لتحسين ظروف السوريين المنكوبين”.

وفي تقرير لها، اليوم الأربعاء، قالت الصحيفة إن النظام رضخ بالنهاية، حين سمح للأمم المتحدة بإدخال مساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرته شمال غربي سورية، عبر معبرين إضافيين مع تركيا.

وأضافت أن “الوصول إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة قد تم تسييسه طوال فترة الصراع من قبل الأسد، الذي فرض قيوداً على حركة المنظمات الإنسانية” بدعم من روسيا، كما أن بعض الدول المجاورة لسورية عرقلت دخول المساعدات أيضاً.

واعتبرت الصحيفة الأمريكية أن عدم اعتراض الأمم المتحدة على ذلك علناً “هو خطوة يجادل النقاد بأنها تهدف إلى الحفاظ على الوصول إلى دمشق، على حساب ملايين المدنيين الذين يعيشون خارج سيطرة الأسد”.

الأسد يضغط لمصلحته

تقول “واشنطن بوست” إنه بعد اعتراف الأمم المتحدة بفشلها بالاستجابة لمتضرري الزلزال في سورية، بدأ الأسد يضغط لمصلحته، من أجل رفع العقوبات المفروضة عليه، مدعياً أنها تعرقل وصول المساعدات.

وأضافت: “يشكك معارضو النظام بهذا الادعاء، مشيرين إلى وجود استثناءات للأغراض الإنسانية التي كانت سارية منذ فترة طويلة”.

وكانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أعلنت إعفاء أية معاملات متعلّقة بجهود إغاثة ضحايا الزّلزال في سورية من العقوبات، وذلك لمدة 180 يوماً، وحتى تاريخ الثامن من أغسطس/آب المقبل.

وبهذا الصدد، قالت “واشنطن بوست” إن التحذير الوحيد هنا هو أن إدارة بايدن ستحتاج إلى إيلاء اهتمام وثيق للغاية لاحتمال أن يسعى حلفاء النظام إلى إخفاء الاستثمارات الاستراتيجية الخاضعة للعقوبات في سورية، ضمن الأنشطة التي توصف بأنها “إغاثة من الزلزال”.

وأضافت: “إلى جانب ما قد يجنيه الأسد من توسيع تدفقات المساعدات إلى البلاد – وهناك مخاوف متزايدة بشأن تحويل أجزاء من هذا الدعم عن المجتمعات المحتاجة – هناك حقيقة أوسع مفادها أن التعاطف الطبيعي مع المحنة السورية قد يؤدي إلى خروج النظام من عزلته المفروضة من قبل الكثير من المجتمع الدولي”.

وأضافت: “يمكن القول إن هذه العملية كانت قيد التنفيذ بالفعل، لا سيما في الجوار السوري. وقد تحركت دول مثل الإمارات العربية المتحدة، التي كانت ذات يوم من أنصار المعارضة السورية، لإصلاح العلاقات مع الأسد ووعدت أيضًا بتقديم مساعدات كبيرة في أعقاب الزلزال”.

وكذلك أرسلت السعودية أول رحلة طيران مباشرة إلى سورية منذ عقد، كما أعادت تونس -مهد الربيع العربي الذي أشعل الانتفاضة السورية- العلاقات الرسمية مع الأسد مؤخراً.

ونقلت الصحيفة الأمريكية في ختام تقريرها عن ويل تودمان، الزميل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن الأسد “يحاول إعادة تأهيل صورته عبر إظهار الرغبة في تقديم تنازلات من خلال المفاوضات مع الجهات الفاعلة الدولية”.

وأردفت “هذه التنازلات طفيفة، لكن يأمل (الأسد) أن تكون كافية لبناء إيمان في العواصم الأوروبية وأماكن أخرى، بأن التعامل مع النظام هو وسيلة مثمرة لتحسين ظروف السوريين المحتاجين”.

“كل البيض في سلة النظام”

من جانبها، نقلت وكالة “أسوشيتد برس” في تقرير لها أمس الثلاثاء، عن مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط، تشارلز ليستر، قوله إن فتح معابر إضافية في مناطق شمال غربي سورية “يأتي لصالح الأسد سياسياً”.

وأضاف أن النظام “أثبت للعالم أن الأمم المتحدة غير مستعدة لفعل أي شيء في سورية دون إذن منه”، مشيراً إلى أن أزمة الزلزال سمحت للأسد “بإغراء المجتمع الدولي للتطبيع معه”، رغم أن فك العزلة السياسية عنه بشكل كامل يحتاج لتحولات كبيرة من واشنطن ولندن.

واعتبر ليستر أن الأمم المتحدة “وضعت كل بيضها في سلة النظام”، عبر قيامها بتسييس المساعدات الإنسانية والتفاوض مع النظام لتأمين وصولها لمعبر لا يسيطر عليه بالأساس.

أما الأستاذ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، جوزيف ضاهر، قال للوكالة الأمريكية إن موافقة نظام الأسد على فتح المعابر الإضافية مع تركيا “كان سياسياً أكثر منه إنسانياً”.

وأضاف: “إنها وسيلة للنظام لإعادة تأكيد سيادته ومركزيته واستخدام هذه المأساة كأداة لتحقيق أغراضه السياسية”.

ويشير خبراء سياسيون وإنسانيون إلى أن الأمم المتحدة ليست بحاجة لقرار من مجلس الأمن لإرسال مساعدات عبر الحدود في حالات الطوارئ، وسبق أن ألقت مساعدات جوية على مدينة دير الزور السورية عندما حاصرها مسلحو تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وكانت أول قافلة مساعدات أممية دخلت إلى مناطق شمال غربي سورية، أمس الثلاثاء، عبر معبر باب السلامة، المغلق أمام المساعدات منذ عام 2020، نتيجة “فيتو” روسي في مجلس الأمن، أخرج هذا المعبر عن إطار المساعدات العابرة للحدود.

وتعاني مناطق شمال غربي سورية من أوضاع كارثية أساساً، تفاقمت حدتها لأضعاف، بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة، في 6 فبراير/ شباط الجاري، وأودى بحياة أكثر من 2274 شخصاً حتى اليوم.

——————————-

الأرقام بارتفاع.. كم عدد السوريين في تركيا الذين توفوا بالزلزال؟

بعد مرور أكثر من أسبوع على الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق جنوبي تركيا، تشير الأرقام الأولية إلى أن أكثر من 6100 لاجئ سوري في تركيا توفوا جراء الزلزال، أكثر من نصفهم دفنوا في تركيا، والبقية في الشمال السوري.

صحيفة “قرار” التركية نقلت عن طه الغازي، أحد الناشطين الحقوقين في مجال شؤون اللاجئين السوريين في تركيا، قوله إن عدد السوريين في تركيا الذين فقدوا حياتهم جراء الزلزال وصل إلى 6100.

واستند الغازي، الذي اطلع الأوضاع في المناطق المنكوبة، إلى معلومات وبيانات تم جمعها من منظمات غير حكومية، أسسها سوريون في تركيا.

وأضاف أن 3800 شخص من السوريين الذين توفوا بالزلزال تم دفنهم في الأراضي التركية، فيما دخلت 1392 جثة إلى سورية عبر معبر باب الهوى، و914 عبر معبري باب السلامة والراعي.

يُشار إلى أن الأرقام الصادرة عن معبر باب الهوى تشير إلى دخول 1413 جثة موثقين بالأسماء، فيما لم يعلن معبرا باب السلامة والراعي إلا عن 188 جثة فقط، حتى اليوم.

ولم تصدر عن الحكومة التركية أي بيانات رسمية، حتى لحظة إعداد التقرير، حول عدد السوريين في تركيا الذين قضوا بالزلزال، وسط توقعات بارتفاع العدد السابق نتيجة وجود جثث عالقة تحت الأنقاض.

وبحسب الصحيفة التركية، فإن الولايات التركية التي ضربها الزلزال تضم أكبر عدد من السوريين في تركيا، كونها مناطق متاخمة للحدود السورية.

وأشارت إلى أن الأحياء القديمة التي انهارت كانت مكتظة بالسوريين، خاصة في أنطاكيا وإصلاحية ونورداغ، مضيفةً: “على سبيل المثال، 70% من حي ايميك في أنطاكيا، في شارع سالي بازاري، كان سورياً”.

وتابعت: “فقد آلاف السوريين أرواحهم أو ما زالوا تحت الأنقاض في أنطاكيا، مرعش، أورفا، عنتاب، نورداغ، إصلاحية، كرخان، سامانداغ”.

وبذلك، يكوت خُمس الذين فقدوا حياتهم في تركيا هم من السوريين، بحسب صحيفة “قرار” التركية.

وتجاوز عدد ضحايا الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سورية 35 ألفاً في تركيا، و2273 في شمال غربي سورية، مع تضاؤل فرص العثور على ناجين، وارتفاع عدد الجثث التي يتم انتشالها من تحت الأنقاض.

ويعيش عدد كبير من السوريين في الولايات والمدن التي ضربها الزلزال في تركيا، ويقدر عددهم بنحو 1.7 مليون من أصل 3.5 مليون سوري يعيشون في عموم الأراضي التركية، بحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن دائرة الهجرة التركية.

—————————–

سوري أميركي جمع 186 ألف دولار لضحايا الزلزال

جمع اللاجئ السوري في الولايات المتحدة، ياسين تيرو، وهو صاحب مطعم في ولاية تينيسي، أكثر من 186 ألف دولار أميركي لإغاثة المتضررين من الزلزال في تركيا وسوريا. فبعد سماعه عن الزلزال المدمر الذي بلغت قوته 7.8 درجة وهز شمال غربي سوريا وجنوب شرقي تركيا في 6 شباط/فبراير، شعر تيرو بأنه يجب عليه أن يساعد أسرته الكبيرة في وطنه الأم.

وأطلق صاحب مطعم “فلافل هاوس” في نوكسفيل، الذي فاز بجائزة عن أفضل المطاعم في الولايات المتحدة العام 2018، حملة رقمية لجمع التبرعات من أجل تقديم الرعاية الطبية والغذاء للمتضررين، وتوجيه الأموال مباشرة إلى منظمتين خيريتين هما “سوريا ريليف أند ديفيلوبمينت”، و”سيليبريت ميرسي” الموجودتين في الولايات المتحدة، حسبما أشارت وسائل إعلام أميركية.

وقرر تيرو السفر من الولايات المتحدة إلى وطنه للمساعدة في توفير الإغاثة الغذائية والرعاية الطبية والوقود والمأوى لمن هم في حاجة ماسة إليها، وتوزيع المساعدات بنفسه على المحتاجين. وقال تيرو لبرنامج “صباح الخير يا أميركا” قبل فترة وجيزة من رحلته بالطائرة، أن دافعه كان “مساعدة المتضريين ومواصلة بناء جسور الود بين المجتمعات المختلفة”.

    Tennessee restaurant owner Yassin Tero, whom we featured on “GMA,” has raised $186,000 for Turkey and Syria earthquake relief.

    He is now on the ground handing out food and other supplies to earthquake victims. ❤️ https://t.co/FELHxankjR pic.twitter.com/uIezm8lbbq

    — Good Morning America (@GMA) February 14, 2023

وانضمت ممرضة من نوكسفيل، تمتلك شركة للتدريب الطبي، تدعى نور إبراهيم، إلى تيرو، للتطوع معه وتقديم الخدمات على الأرض في جنوب تركيا. وأعرب تيرو عن تقديره الكبير للمجتمع الأميركي الذي لم يخيب ظنه عندما طلب المساعدة “هذه الاستجابة السريعة تظهر للعالم من نحن (الأميركيين)”.

وما زال معظم أفراد عائلة تيرو في سوريا، وأحد إخوته في غازي عنتاب بتركيا، حيث نزح من مكان إقامته نتيجة الزلزال المدمر الذي خلّف أكثر من 35 ألف قتيل، وفق حصيلة غير نهائية.

————————–

مساعدات المغتربين تسعف السوريين… وتعوّض التقاعس الدولي/ عدنان عبد الرزاق

ثلاثية الأسف والخيبة والخذلان من المجتمع الدولي التي كست السوريين جراء نكبتهم من الزلزال المدمر الذي أصاب شمال غرب ووسط والساحل السوري في السادس من فبراير/ شباط الجاري، قابلتها ثلاثية اللحمة الداخلية والتقاء المغتربين على كلمة سواء واستمرار المساعدات العربية الشعبية للمتضررين.

وفي هذا السياق، يصف وزير الاقتصاد والمالية بالحكومة السورية المعارضة عبد الحكيم المصري تقاعس الأمم المتحدة عن إغاثة منكوبي الزلزال شمال غربي سورية “المناطق المحررة” بـ”الفشل” الذي تبرره الدول بالفيتو الروسي أو بإغلاق المعابر.

وكشف الوزير السوري، خلال تصريح خاص لـ”العربي الجديد”، أن الحكومة المؤقتة بالائتلاف السوري المعارض “أعلنت أن المعابر مفتوحة بالتزامن مع إعلانها الحداد”، لكن الأمم المتحدة و”لبالغ الأسف” كانت تنتظر موافقة رئيس النظام بشار الأسد لإدخال المساعدات إلى منطقة وصفها بالمنكوبة، نظراً لاحتوائها على 4 ملايين نسمة، زادت من آثار الزلزال، خاصة على حياة البشر وتهدّم المساكن.

ويؤكد الوزير عدم إغلاق المعابر، لكن المساعدات لم تصل إلا بعد مرور ستة أيام، مبيناً دخول مساعدات من السعودية تمثلت في “90 طناً من معبر الحمام و28 سيارة من كردستان العراق عبر معبر السلامة و28 سيارة من مواطنين وجمعيات، إضافة إلى أكثر من 120 سيارة من المدن السورية غير المنكوبة معظمها من دير الزور والرقة”، لافتاً إلى أن مساعدات تركية (وقف الديانة وأفاد) مستمرة رغم الوضع الكارثي بتركيا. ويضيف الوزير أن “تكاتف السوريين بالداخل والخارج كان له الدور الأهم في مساعدة المنكوبين”.

ويتابع: “يتواصل معنا رجال أعمال ومغتربون فضلاً عن حملات التبرعات التي أعلنتها المدن السورية بالداخل”، لافتاً إلى أن التسهيلات على أشدها بالنسبة للمساعدات الخارجية.

وعن استخدام أموال المساعدات بالبناء أو ترميم المنازل المهدمة، يقول المصري: “من الصعب الآن إحصاء جميع المنازل المهدمة أو المتصدعة، ولكن يوجد نحو 550 منزل تهدم بالكامل ونحو 2500 مسكن تضرر بنسب مختلفة”.

وفي السياق، أحدثت حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب مديرية حملة شؤون متضرري الزلزال، تتبع لوزارة التنمية والشؤون الإنسانية، لإحصاء العائلات المتضررة وعدد الأيتام وحالات الرعاية الاجتماعية المتضررة إثر الزلزال، وتقييم احتياجات المتضررين والسعي لتأمينها، على أن تصرف جميع النفقات من موازنة وزارة التنمية، بحسب مصادر خاصة لـ”العربي الجديد”.

ويقول المسؤول بمنظمة الدفاع المدني شمالي سورية “الخوذ البيضاء” راضي سعد لـ”العربي الجديد” إن جل المغتربين السوريين “حملوا جراحات أهلهم وتحملوا الأعباء”، مبيناً وصول تبرعات كبيرة لحساب المنظمة “من سوريين وحتى غير سوريين”.

وأبدى سعد بالوقت نفسه “الأسف والخذلان” من منظمة الأمم المتحدة وانتظارها قرار نظام الأسد لنجدة المنكوبين وانتشال العالقين تحت الأنقاض .

واعتبر سعد أن “ترحيب” الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بموافقة النظام السوري فتح معبري السلام والراعي من تركيا إلى شمال غرب سورية لمدة ثلاثة أشهر “أمر صادم”، مشيداً بما قدمه سوريو الداخل والمغتربون ودور مساعداتهم.

وأضاف: “بلغت مساعدات السوريين في الداخل والخارج أضعاف المساعدات الدولية”.

وكانت المساعدات الإنسانية لشمال غربي سورية، المنطقة التي لا تخضع لسيطرة النظام السوري، تدخل من تركيا عبر باب الهوى، وهي نقطة العبور الوحيدة التي يضمنها قرار صادر عن مجلس الأمن بشأن المساعدات العابرة للحدود.

وتواكب حملات الإغاثة التي أطلقها سوريون الواقع على الأرض، ففي وقت تقاعست فيه الأمم المتحدة والدول المجاورة عن إيواء منكوبي شمال سورية في أيام الزلزال الأولى، ركّزت حملات السوريين على الخيم ووسائل التدفئة، فأطلقت حملة “إدلب الحرية” نداء للمغتربين السوريين بالدول الأوروبية، مبينة أن سعر الخيمة يتراوح بين 100 و200 دولار.

وأعلنت حملة المغتربين السوريين في ألمانيا “مبلغ صغير يحدث فارقاً” عن روابط وأرقام حسابات مصرفية لجمع التبرعات من ثاني أكبر دولة استقبلت اللاجئين، لتستمر حملات السوريين المغتربين والعرب، ولتزيد أموال المتبرعين في السعودية عن 100 مليون دولار جراء “الحملة الشعبية لإغاثة متضرري الزلزال” بحسب السوري المقيم بالمملكة مصطفى صالح من مدينة جدة الذي بيّن لـ”العربي الجديد” زيادة عدد المتبرعين عن 1.5 مليون متبرع.

وقدمت دول الخليج العربية الست نحو 385 مليون دولار تبرعات ومساعدات مالية رسمية وشعبية على مدى أسبوع، في حصيلة أولية لمساندة تركيا وسورية على تجاوز آثار الزلزال المدمر، وفق ما ذكر تقرير لوكالة الأناضول أول من أمس.

وحسب السوري عبد الغفار من الدوحة، لـ”العربي الجديد”، فقد زادت المساعدات الحكومية والشعبية بقطر.

وفي يومها الأول، بلغ حجم التبرعات حملة قطر للتبرع لمنكوبي الزلزال نحو 168 مليون ريال قطري (46 مليون دولار) بينها 50 مليوناً (14 مليون دولار) من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

وفي الكويت اقتربت التبرعات التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية “الكويت بجانبكم” ليوم واحد من 70 مليون دولار.

وتستمر التبرعات الشعبية وتحويلات السوريين في دول كثيرة بحسب رئيس هيئة الإعلام بالحكومة السورية المؤقتة، محمد علاء الدين، الذي شكر كل من وقف إلى جانب السوريين بمحنتهم، مشيراً خلال اتصال مع “العربي الجديد” إلى أن المساعدات تذهب إلى الإيواء والمساعدات الغذائية و”من المبكر الحديث عن إعادة الإعمار”.

وكان لصندوق “قادرون على إعمار ما تدمر” الذي أطلقه فريق ملهم التطوعي دور كبير بمساعدة المتضررين شمال غربي سورية، بعد أن أعلن مدير الفريق عاطف نعنوع فتح باب التبرع عبر البث المباشر على وسائل التواصل الاجتماعي لجمع 20 مليون دولار بهدف إعمار 4000 منزل ودعوته المنظمات العاملة بمناطق سورية المنكوبة إلى تأمين الإيواء والمواد الغذائية.

ويصف رئيس مجلس محافظة حلب الحرة، عبد الغني شوبك، الدمار في المناطق المحررة بـ”الكبير والمرعب”، مبيناً خلال اتصال مع “العربي الجديد” أن الحاجة على الأرض للإيواء وتعويض المتضررين ومن ثم الإعمار “أضعاف المساعدات التي وصلت”، ففي جنديرس فقط يوجد نحو 1100 مبنى مهدم أو متضرر، مؤكداً أن فرق الهندسة تقوم بالكشف الآن لتحديد نسبة الأضرار بالمباني، ولا بد من التخطيط والتنسيق قبل البدء بالإعمار.

وبالنسبة لمناطق النظام، يقول الاقتصادي السوري حسين جميل إنها تلقت جل المساعدات الدولية رغم أن المناطق المتضررة لديه محدودة إذا ما قيست بالنكبة شمال غربي سورية الخاضعة لسيطرة المعارضة، مشككاً خلال تصريحه لـ”العربي الجديد” في وصول المساعدات للمتضررين بعد مشاهدة المساعدات الغذائية تباع بالأسواق وتصوير مساعدات في مزارع مسؤولين بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام، حسب جميل.

ويلفت الاقتصادي السوري في حديثه لـ”العربي الجديد” إلى أن الحوالات الخارجية ازدادت لمناطق سيطرة النظام، بعد ما وصفه بالتسهيلات، سواء برفع سعر دولار الحوالات إلى سعر الدولار في السوق السوداء “6650 ليرة مقابل الدولار و6985 ليرة لليورو” أو رفع سقف الحوالات المسموح تحويلها بالليرة السورية من قبل أي شخص طبيعي أو اعتباري إلى 5 ملايين ليرة سورية، بحسب قرار المصرف المركزي بدمشق الثلاثاء الماضي.

ويقدر الاقتصادي السوري حجم التحويلات اليومية إلى مناطق سيطرة الأسد بخمسة ملايين دولار “كحد أدنى”، بعد زيادة حملات التبرع وتحويل المغتربين السوريين لذويهم بمدن حماة وحلب واللاذقية التي تضررت بالزلزال. مشككاً في الوقت نفسه في ذهاب تلك المساعدات لإعمار المهدم وإن تم تخصيص جزء للإعمار فسيكون تحت مظلة الفساد وبمواصفات سيئة.

وكان رئيس غرفة صناعة حلب فارس الشهابي قد أشار إلى أن “أزمة تأمين السكن البديل لا حلول لها سوى الاستعانة بالصين”، مضيفاً خلال منشور على فيسبوك أن هناك الآلاف من المتضررين اليوم من الزلزال ونحتاج إلى ضواحٍ سكنية حديثة بسرعة البرق، ونحن غير مؤهلين حالياً لبناء وحدات عصرية سليمة بشكل عاجل وسريع لعدة أسباب، أهمها الفساد والترهل الحكومي والروتين القاتل.

العربي الجديد

——————–

مقابلة خاصة| الخوذ البيضاء: المدنيون كانوا لنا أكبر نصير

حمزة عامر

يغصّ اليوم شمال غربي سوريا بآلام ونكبات مركبة، تؤوي المنطقة ما يقارب 5.5 مليون إنسان في مساحةٍ لا تتجاوز 12.5 ألف كيلومتر مربّع موزّعةً بين إدلب وريفها وأرياف حلب، والنسبة الأكبر منهم من النازحين من مختلف أنحاء سوريا، وفقاً لآخر إحصائية أصدرتها الحكومة السورية المؤقتّة.

وتتعرّض المنطقة منذ خروجها عن سيطرة النظام السوري إلى قصفٍ مستمرٍ على يد قوات نظام الأسد والقوات الروسية، مما أزهق أرواح عشرات الآلاف من المدنيين، كما أدّى إلى تدمير البنية التحتية في تلك المناطق إلى حدٍّ كبير.

جاء زلزال 6 شباط/ فبراير تحت ظروفٍ مناخيةٍ قاسيةٍ في المنطقة المنهكة أصلاً من القصف والنزاع المستمر، ليعمّق جراح السوريين ومعاناتهم. وأسفر الزلزال عن مقتل وإصابة الآلاف من المدنيين، وتشريد الكثيرين غيرهم، وتدمير ما تبقّى من البنية التحتية المتهالكة في المنطقة.

كان الدفاع المدني السوري، المعروف باسم الخوذ البيضاء، في واجهة الاستجابة للزلزال على الرغم من فداحة الكارثة وتواضع الإمكانيات المتاحة من جهة، وتخاذل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي من جهةٍ أخرى، رغم أن الدفاع المدني أعلن عن أن منطقة شمال غرب سوريا هي منطقة منكوبة منذ صباح يوم الزلزال.

للوقوف على الوضع في الشمال السوري بعد أكثر من أسبوع على الكارثة، أجرى موقع “ألترا صوت” مقابلةً مع نائب مدير الدفاع المدني السوري للشؤون الإنسانية منير المصطفى. وتناولت المقابلة عدة محاور، من الواقع على الأرض في الشمال السوري، إلى أهم احتياجات الدفاع المدني والاستجابة الدولية. ونحاول في “ألترا صوت” من خلال هذه المقابلة أن نقدّم جانباً من المأساة الجارية حالياً في ذاك المكان المنسي من العالم، وإيصال صوت ونبل جهود الفرق الإنسانية العاملة هناك.

وفيما يأتي نصّ المقابلة:

ألترا صوت: أستاذ منير، بدايةً لا تكفي الكلمات لتعبّر عن مقدار إجلالنا واحترامنا لما قدمتموه من جهود وسطّرتموه من بطولات وتضحيّات في إنقاذ أرواح الشعب السوري، ولملمة جراحه. ومن ذلك فإننا ممتنون لكم أيما امتنان على وقتكم الذي اقتطعتموه للإجابة على هذه الأسئلة.

    سنبدأ من فضلكم ببعض الأرقام والتقديرات، ما هو تقديركم لعدد الضحايا من وفيات والإصابات في الشمال السوري منذ حدوث الزلزال، صباح يوم الإثنين الفائت، 6 شباط/ فبراير؟

في البداية نشكر لكم جزيل الشكر جهودكم.  طبعاً من الطبيعي في الكوارث والزلازل ألا تصل الأرقام الحقيقية أو الواقعية مباشرةً، وخاصةً في منطقة مثل شمال غربي سوريا، الذي لا توجد فيه سلطة واحدة -لا تُوجد فيها دولة إن صحّ التعبير- ولا يُوجد قدرة. فمن الطبيعي أن يكون هناك تغيير دائم.

نحن في الدفاع المدني كنا يوميًا نُصدر الإحصائيات التي تزداد ضمن آلية توثيق محدّدة. ولكن في كل إحصاءاتنا نضيف عبارة “استجابت لها”، أي أنها تتعلّق بموضوع الاستجابة وليس بشيء آخر.

بالأمس [13 شباط/فبراير] قاطعنا معلوماتنا مع مديريات الصحة، ومع أغلب الجهات الطبية باستثناء ربما مستشفى أو مستشفيين. والمحصّلة التي نملكها الآن هي 2274 ضحية وأكثر من 12 ألف مصاباً منذ بداية الزلزال حتى الآن، والعدد قابل للارتفاع مع استمرار عمليات البحث.  لا نملك القدرة على توقّع العدد كاملاً، ولكن لحد الآن، لا زالت ترد بلاغات من المدنيين عن وجود جثامين في بعض المناطق.

    ألترا صوت: هل لديكم تقديرات لحجم الدمار في المباني والبنية التحتية؟

لدينا تقارير مبدئية تتعلّق باستجابتنا وليس بالعملية التوثيقية. بدأنا الآن بالعملية التوثيقية، ووثّقنا حتى الآن 500 منزل طابقي، أي 2 أو 3 أو 4 طوابق أكثر، دُمِّروا بشكلٍ كامل، و1500 منزل تقريباً دمّرت بشكلٍ شبه كامل. وهناك عشرات آلاف المباني المتصدّعة، أغلب هذه المباني غير صالحة للسكن الآن للآسف. كما تعرّض ما يقارب 40% من المدارس في شمال غرب سوريا للدمار، ولو أن ليس جميع هذه المدارس مستخدمًا لقرب بعضها من خطوط التماس مع قوات النظام.

وتعرّض ما يقارب 30 مستشفى للدمار، إضافةً إلى أضرار بالمرافق ومراكز الدفاع المدني، والنقاط النسائية، ومحطات المياه، وهذا وضع طبيعي كون أن الزلزال لا يميّز بين منطقة وأخرى.

    ألترا صوت: ما هو عدد الأشخاص الذين تمّ إنقاذهم من تحت الأنقاض؟

يُوجد تقريباً 2995 شخص قمنا بإنقاذهم وأسعفناهم، أيّ أن هذا الرقم يضمّ من قمنا بإنقاذهم من تحت الأنقاض أو من أسعفناهم.

    ألترا صوت: هل تملكون تقديرًا لعدد الذين لا يزالون عالقين تحت الأنقاض؟

للأسف لا يمكن تقدير عدد العالقين تحت الأنقاض.

    ألترا صوت: هل من الممكن إعطاء لمحة عن أكثر الأماكن تضرّراً في الشمال السوري؟

هناك نوعان من المناطق التي تضرّرت بشكلٍ كبير في الزلزال، ولا شكّ أن عامل قوة الزلزال وقرب المنطقة من سطح الأرض وقرب المنطقة من [مركز الزلزال] هو عامل مهم جدًا، ولكن هناك عوامل أخرى. ويمكن القول إن هناك عاملان أساسيان. الأول مرتبط بقصف قوات النظام وروسيا، وعامل آخر مرتبط بغياب ضوابط البناء، أيّ يتعلّق بمعايير الأبنية ومدى مقاومتها للزلازل.

بخصوص العامل الأول: كان لقصف قوات النظام وروسيا والحرب المستمرة منذ 12 عاماً تأثيرات كبيرة ضاعفت من آثار الزلزال، ولو كان السؤال كيف كان ذلك؟ فقد كان هناك الكثير من الأبنية المتضرّرة بسبب القصف، انهارت مباشرةً بعد وقوع الزلزال، وخاصةً في مناطق حارم وسلقين وعزمارين وبسامس وأرمناز ومعرة مصرين وزردنة. وشهدت هذه المناطق انهياراً مباشراً للأبنية، كما أن الكثير من الأبنية المتصدّعة تصدّع بدرجةٍ أكبر.

العامل الثاني، مرتبط بغياب ضوابط البناء، فمثلاً هناك الكثير من الأبنية المنهارة يخلو من الحديد، أو ربما لا يُوجد في بنيته سوى قضيب حديد واحد. فقد تمّ بناء هذه الأبنية دون أي التزام بمعايير وضوابط البناء ومعايير مقاومة الزلزال، هذه الأبنية مبنية أصلاً في مناطق يُمنع البناء فيها، سواء منذ 50 عاماً أو منذ بداية الثورة، أي أن ذلك لم يرتبط فقط بوجود النظام الذي حاول كثيراً أن يحفّز أو يدعّم أو يُوجد حالة من المدن العشوائية، وترافق مع ذلك غياب سلطة قادرة على معرفة هذه الأمور.

ما يلي أكثر المناطق تضرّراً:

1- جنديرس [حلب] هي أكثر منطقة شهدت دمار أبنية: 500 بناء دُمّر بشكلٍ شبه كلي، و200 بناء بشكلٍ كلي، وكل هذه الأبنية غير قابلة للسكن.

2- سلقين [إدلب]: 300 بناءً تدمّر بشكلٍ شبه كلي، و50 بناءً بشكلٍ كلي.

3- حارم [إدلب]: 50 بناءً تدمّر بشكلٍ شبه كلي، و22 بناءً بشكلٍ كلي.

4- أرمناز [إدلب]: 15 بناءً تدمّر بشكلٍ شبه كلي، و30 بناءً بشكلٍ كلي.

5- منطقة الزوف في جسر الشغور [إدلب]: 25 بناءً تدمّر بشكلٍ شبه كلي، و20 بناءً بشكلٍ كلي.

    ألترا صوت: يهمّنا معرفة الضحايا والإصابات بين صفوف الدفاع المدني؟

فقدنا أربعة متطوّعين، ثلاثة متطوّعين ذكور، وامرأة متطوّعة. المتطوّعون الثلاث الذين تُوفّوا كانوا في منطقة حارم، والمتطوّعة التي تُوفيّت كانت في منطقة جنديرس.  بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضاً 15 إصابةً ناتجةً عن طبيعة العمل، وهذه الإصابات طبيعية.

    ألترا صوت: هل يمكنك أن تعطينا تصوّراً عن حجم فريق الدفاع المدني. كم يبلغ عدد المتطوّعين العاملين حالياً على الأرض في مختلف أنحاء الشمال السوري؟

العدد [عدد الضحايا والإصابات بين صفوف الدفاع المدني] لم يكن كبيراً مقارنةً بعدد المتطوّعين والمتطوّعات الذي بلغ تقريباً 3300 متطوّع، شارك منهم 2900 متطوّع بشكلٍ مباشر على الأرض، والبقية كانت مهامه متعلّقة بالإمداد اللوجستي والمحروقات وتأمين لوجستي بشكلٍ عام.

ويوجد لدينا عدة برامج. هناك البحث والإنقاذ والإطفاء مجموعين في برنامجٍ واحد، وبرنامج الإسعاف، وبرنامج التعافي المبكّر من ضمنه فرق الاستجابة للمواد الخطرة، وهناك فرق التوعية التي تشكّل برنامجاً منفصلاً.

    ألترا صوت: ما هي أولوياتكم في هذه المرحلة بعد مرور أسبوع من حدوث الزلزال؟

الأولويات بالدرجة الأولى هي الاستمرار في عمليات البحث لتضميد جراح الناس، ربما نستطيع تخفيف مصاب الناس لو حصلوا على جثامين ضحاياهم، ونرى في ذلك واجباً كبيراً علينا.

والأولويات حالياً أيضاً هي رفع الأنقاض وفتح الطرق في كامل المناطق المتضرّرة، وهذه هي المرحلة التالية، وذلك يحتاج إلى جهدٍ ووقتٍ كبيرين، بسبب العدد الهائل من الأبنية المتضرّرة مقارنةً بمساحة منطقة شمال غربي سوريا.

    ألترا صوت: هل ما زلتم تبحثون عن العالقين تحت الأنقاض؟

ليس بحث، وإنما نعتمد حالياً، في اليوم التاسع منذ وقوع الزلزال، على آلية الإبلاغ من المدنيين لأقربائهم، وفي الوقت نفسه نحاول إحصاء أعداد المفقودين.

    ألترا صوت: هل هناك تقدير لعدد الآليات التي تملكها فرق الدفاع المدني؟

الآليات متنوّعة، منها الثقيلة والخفيفة. هناك آليات “البوبكات”، وسيارات الإسعاف والخدمة والإنقاذ، فالعدد كبير. هناك مثلاً ما يقارب 200 آلية أعطاها لنا المدنيين إضافةً إلى آلياتنا، واستأجرنا 50 آلية أخرى.

    ألترا صوت: هل تستطيعون تفصيل أهم احتياجاتكم من آليات ومعدات، ومهارات، وموارد مالية؟

أهم احتياجاتنا بالدرجة الأولى هي المحروقات بالتأكيد. للأسف خلال الشهرين الماضيين، قبل الزلزال كنا نستخدم احتياطي المحروقات الموجود لدينا، وكان هذا الاحتياطي سينتهي في أيّ لحظة في وقت الزلزال، بسبب الاستهلاك الهائل للمحروقات مع عدد الآليات الكبير المستخدمة.

ونحن بحاجة إلى كافة أنواع المعدات، سواءً “البوبكات” [جرافة صغيرة]، أو الجرافات العادية والجرافات ذات السلاسل [الجنزير]، والرافعات الثقيلة ذات الأذرع الهيدروليكية الطويلة، هذا على مستوى المعدات الثقيلة.

أمّا، على مستوى المعدات الخفيفة، نحتاج إلى سيارات إنقاذ وسيارات إسعاف. ونحن بحاجة أيضاً إلى الكاميرات الحرارية، وهذه لها دورٌ كبيرٌ جداً، والدرونز [طائرات التصوير] المزوّدة بكاميرات حرارية، وهي مهمة جداً في الكشف عن الضحايا.

وهناك أيضاً الكلاب البوليسية، على الرغم من بساطة ذلك، ولكنه فعّال جداً، وللأسف نحن نفتقده لغياب الخبرات، ونتمنّى وجود خبرات الكلاب البوليسية التي تتمتّع بحاسة شم قوية، وهو ما يساعد كثيراً.

كما نحتاج إلى معدات خفيفة أخرى مثل الضوابط الهيدروليكية التي تُستخدم لرفع الردم وحفر الأنفاق، إضافةً إلى الوسائد الهوائية المهمة جداً، وسلالم الرفع وهي مهمة أيضاً.

    ألترا صوت: هل أنتم بحاجة إلى متطوّعين أكثر؟ هل قدوم السوريين من الخارج إلى الشمال للتطوّع وتقديم المساعدة هو أمر يساعدكم بغض النظر عن امتلاكهم للخبرة أو المهارات؟

أيّ إنسان مرحّب فيه، لكن حقيقةً الحاجة الأكبر كانت للمعدات وليس للأشخاص. المدنيون في شمال غرب سوريا ساعدونا بشكلٍ كبيرٍ، ولولا مجهود المدنيين وتضافرهم، كان من المستحيل أن ننجح.

كان الأمر يحتاج إلى جهود عظيمة، ولكن وجدنا حالةً من التلاحم الشعبي، ولنسمّها ملحمةً أو حالةً من التكافل الكبير بيننا وبين المدنيين الذين ساعدونا بشكلٍ هائل، فأعطونا آلياتهم، وتشكّلت فرق تطوّعية من المدنيين، وقمنا بتوزيعهم على فرقنا، فكنا نُلحق مدنيين أو ثلاثة مع كل فريق من فرقنا. وهذا ما ساعدنا، فكنا نستطيع نحن قيادة العمليات على الأرض، مع مساعدة الناس لنا.

وكان لذلك أثر كبير على صعيد تسريع عمليات البحث والإنقاذ بشكلٍ هائل. ولهذا السبب استغرقت عمليات إنقاذ الأحياء أول ثلاثة أيام فقط، ونعتقد أن السبب الأكبر في ذلك هو دور المدنيين الذين نفتخر بدعمهم ومساعدتهم لنا.

    ألترا صوت: ما رأيكم باستجابة الأمم المتحدة والاستجابة الدولية للكارثة؟

للأسف لم تصل الاستجابة أبداً لمستوى الكارثة، لقد كان هناك خذلان للسوريين، ونائب الأمين العام للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة أقرّ بهذه الأخطاء، ونحن ننتظر الآن ونرى، ونتمنّى أن تكون المساعدات غير مسيّسة وغير منحازة بشكلٍ عام، فالعمل الإنساني يجب أن يرقى ويترفّع عن التجاذبات، ولكن للأسف هذه التجاذبات موجودة.

    ألترا صوت: أين كانت أهم مواطن الضعف في الاستجابة؟

أهم مواطن الضعف كانت مرتبطةً بغياب الآليات الثقيلة والكاميرات الحرارية، ونحن نعتبر هذه ثغرة كبيرة جداً واستهلاك لجهود المتطوّعين وخبراتهم. كان يجب أن يكون هناك قدرة على تأمين هذه المعدات التي كانت ستسرّع أي عملية بحث.

    ألترا صوت: برأيكم أنتم ما هي الأسباب الفعلية لتأخّر وصول المساعدات والدعم للشمال السوري؟

نعتقد أن ذلك مرتبط بعدة أسباب، وهي ليست أسباب لوجستية. الأمم المتحدة لديها آلية ولديها قدرة لتفعيل آلية لإدخال المساعدات بشكل عاجل دون انتظار إذن من مجلس الأمن ولا من الدولة المضيفة أو الدولة التي ستدخل إليها المساعدات. وهذا الكلام وارد في النصوص القانونية وليس كلامنا نحن، كان بإمكان الأمم المتحدة تفعيل آلية الكوارث، أو أن تطلب تدخّل الآلية المتعلّقة بفرق الإنقاذ، ولكن لم تقم الأمم المتحدة بذلك.

    ألترا صوت: ما هي الفرق الدولية أو الأجنبية الموجودة الآن في الشمال السوري، وما هي تخصّصاتها (طبية، إنقاذ، إلخ…)؟

يوجد فرق تطوّعية، لكن لم يكن هناك فرق إنقاذ كثيرة وإنما كانوا فعلياً على شكل أفراد، ولم تكن الأعداد كبيرة، وكذلك الأمر للفرق الطبية، ولكن بدأ المتطوّعون بالدخول.

بالنهاية هذا هو الوضع في سوريا، لا يمكن لأي فريق أو جهة أن تخاطر، ولا يمكننا الكشف عن أسماء. لقد دخل فريق مصري، ولم يكن بالضرورة وفدًا حكومي، فقد قالوا لنا “نحن إخوانكم من مصر”، وسألونا إن كان هناك ما يمكن المساعدة به، وكانوا قد أتوا دون أي مساعدات لوجستية.

    ألترا صوت: هل لديكم أي تصوّر لما ستؤول إليه الأوضاع من ناحية الاحتياجات الإنسانية بعد وقوع الزلزال؟

بالتأكيد سيكون هناك انفجار في موضوع الاحتياجات لأن هناك أكثر من 40 ألف عائلة تشرّدت بعد تدمّر منازلهم بشكلٍ كلي أو جزئي، أو إصابة المنازل بالتضعضع وبالتالي أصبحت غير قابلة للسكن، وهذه إشكالية كبيرة جداً.

في أول أربع أو خمس أيام، نامت عشرات العائلات بالعراء تحت أغصان الزيتون على الرغم من أن درجات الحرارة كانت تحت الصفر. كما أن موضوع المياه سيكون مشكلةً أخرى، فقد تضرّرت شبكات المياه والصرف الصحي بشكلٍ كبير، وهناك تفشّي للكوليرا في المنطقة، وسيكون في ذلك خطر كبير على حياة الناس.

    ألترا صوت: هل هناك رسالة تريدون إيصالها أولاً للشعب السوري في الشمال السوري، ومن ثم للسوريين في الخارج؟ وماذا تريدون أن تقولوا للدول المعنية بالشأن السوري، للأمم المتحدة والمجتمع الدولي ولشعوب العالم؟

الرسالة الأهم التي نريد إيصالها هي أن دعم المدنيين ومساندتهم كان له الدور الأكبر، هؤلاء الناس هم أهلنا ونفتخر بالتلاحم الذي حصل بيننا، ونفتخر بمحبتهم لنا ودفاعهم عنا، ولا يمكن أن تتخيّل الحالة الملحمية التي عايشناها خلال هذه الفترة.

بالنسبة للدول المعنية بالشأن السوري والأمم المتحدة، نحن نطالبهم بعدم تسييس المساعدات وعدم الانحياز، والالتزام بمبادئ العمل الإنساني وفق القانون الإنساني الدولي، والابتعاد عن أيّ محاولة لتسييس هذه المساعدات، لأن هذه المساعدات في النهاية حقّ للناس في منطقة منكوبة وتمرّ بكارثة.

الترا صوت

———————-

عدّاد الموت شمال غرب سوريا في غرف “واتس آب”/ عبد الكريم الثلجي

يجلس نايف الرجب، مكسور القدمين في مجلس عزاء لأقاربه الذين قضوا نتيجة الزلزال، في قرية بسنيا في ريف حارم، والبالغ عددهم أربعين شخصاً. وأنت تنظر إلى نايف، تراه وكأنه فاقد للذاكرة، بسبب هول ما شاهده، فهو يسكن في منزل مؤلف من طابقين، ويبعد عشرين متراً عن قرية بسنيا التي تهدمت بشكل كامل وراح فيها قرابة 400 شخص.

يحاول نايف أن يسأل عمن بقي حياً في غرفة واتس آب تجمع أهالي القرية، وعن صاحب جوال تم إيجاده بالقرب من الأنقاض، فلا يردّ أحد على سؤاله، ليجهش بالبكاء المملوء بالحسرة والقهر، وهذه الحالة لا تفارقه منذ وقوع الكارثة.

بجانب نايف، يجلس أحد أقاربه ويُدعى أحمد صطيف. يقول أحمد لرصيف22: “حمل نايف منذ الدقيقة الأولى أطفاله الصغار للخروج بسرعة إلى خارج المنزل، ولكنه من هول الموقف سقط عن الدرج، وانكسرت قدماه الاثنتين، وهو الآن في حالة نفسية سيئة”.

وأحمد هو الآخر، ناجٍ من الكارثة التي حلّت بجنديرس، ولكنه فقد 7 من أفراد عائلته في بسنيا، التي تركها قبل قرابة شهرين للسكن في جنديرس بداعي العمل، وأبقى جزءاً من عائلته في بسنيا. يقول والغصة بادية عليه: “كأن القدر شاء أن ننقسم في منطقتين، ليبقى منا أحد على قيد الحياة”.

كيف نحصي؟

في اليوم العاشر للزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، لم تهدأ غرف واتس آب أهالي القرى والمدن والبلدات في شمال غرب سوريا، عن تحديث قوائم الوفيات والإصابات والمفقودين، بينما أعلن الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، عن آخر إحصائية للوفيات، وبلغت 2،274 قتيلاً و6،000 مصاب، بعد أن تمت مقاطعة الأرقام مع الجهات الطبية العاملة في المنطقة، كما بلغت الإحصائية بحسب حكومة الإنقاذ قرابة 3،500 قتيل في إدلب، لكن يبدو أن الرقم أكبر من هذا، في حين قال فريق “منسقو الاستجابة الطارئة” العامل في شمال غرب سوريا، أن عدد ضحايا الزلزال بلغ 3،200 شخص.

هذا الاختلاف بالأرقام وعدم قدرة أي طرف في شمال غرب سوريا على إحصاء عدد القتلى بطريقة واضحة، يعبّران عن الواقع المعيش في هذه المنطقة من العالم، والتي تخرج من دمار إلى آخر من دون قدرة على تنظيم بعض ما لدى المؤسسات العاملة فيها من إمكانات من أجل مواجهة الكوارث، وفي الحد الأدنى من أجل إحصاء القتلى والجرحى.

كل فئات المجتمع تستحق الحياة، هكذا ببساطة. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!

ادعمونا

الدفاع المدني الذي انتشر في العديد من الأرجاء، للقيام بعمليات الإنقلاذ ورفع الأنقاض، اعتمد في إحصائياته على المناطق التي يعمل فيها، فكُل ضحية تُنتشل يتم تسجيلها، كذلك الأمر بالنسبة للمصابين، فيما كانت حكومة الإنقاذ تُسجل من خلال وزارة الصحة كُل الواصلين إلى المستشفيات التي تديرها في شمال غرب سوريا، أما فريق “منسقو الاستجابة” فيعتمد على إحصائيات من المناطق والمستشفيات في تقديم أرقام تقريبية للضحايا والمصابين.

سلّم أرقام الضحايا يرتفع

أيضاً بعد الزلزال، أنشأ ناشطون من شمال سوريا غرف واتس آب خاصةً للضحايا والمفقودين. في كل يوم تنزل إحصائية جديدة لقرية أو مدينة ما، فهناك قرى لم تصلها فرق الإنقاذ بسبب حجم الكارثة الكبير، ولم تخضع للتوثيقات التي سجلتها فرق الدفاع المدني أو الفرق التطوعية أو المراكز الصحية، إنما تم انتشالهم من قبل أقاربهم وجيرانهم، في إشارة إلى أن الأعداد قد تفوق الإحصائيات المعلن عنها، حيث أنها لم تخضع لمعايير منظمة، نتيجة الفوضى الكبيرة التي حصلت بفعل الزلزال، فالواقع أكبر من إحاطة حجم الخسائر في الأشخاص والممتلكات، إلا بعد مرور فترة زمنية لاستيعاب الصدمة والعمل وفق مهنية وتنظيم.

يقوم رئيس المجلس المحلي في قرية الكسيبية والمهجر إلى ريف إدلب الشمالي بكر الخليل، بإحصاء قرابة 100 شخص من أبناء منطقته في جنوب حلب، وفي كل يوم يُحدّث القائمة ليتبيّن معه أن الناس التي قضت في تركيا يفوق عددها عدد من قضوا في سوريا، بسبب وجود سوريين كثر في جنوب تركيا، ويقول: “لم نتوقع حجم الكارثة بهذا الشكل، وفي كل يوم يزداد الوضع الإنساني صعوبةً، في ظل ازدياد عدد الضحايا في تركيا وسوريا”.

ويروي الناشط الحقوقي محمود أبو المجد، وهو من مدينة الأتارب، أن “الأعداد التي أعلن عنها الدفاع المدني (انتشل 156 ضحيةً من الأتارب)، صحيحة، لكني موجود في الميدان حيث تهدمت الحارة التي أقطنها، وإلى حد هذه اللحظة أحصينا كمجلس محلي ومراكز طبية وناشطين فوق الـ200 ضحية، فمنذ ساعات الزلزال الأولى أحصينا 142، وأنا في حارتي كان العدد 15، أما اليوم فوصل العدد إلى 46 شخصاً”.

ويشير المجد، إلى أن “الأتارب منسية ووضعها الإنساني جداً سيئ، بسبب الخسائر الكارثية من الزلزال وقربها من خطوط التماس من قوات النظام، فقد تعرضت لقصف في محيطها بالتزامن مع عمل فرق الإنقاذ وانتشال الضحايا وإسعاف المصابين، وهي تتعرض بشكل شبه يومي لقصف من قوات النظام المتمركزة شرق المدينة”.

سلقين الحزينة

تتربّع مدينة سلقين على سفح جبل، وفيها حارات ضيقة وأبنية طابقية شاهقة، وتقطنها قرابة 400 ألف نسمة، أكثر من نصفهم من المهجرين، وفيها سوق قديم يُشبه سوق المدينة القديم في حلب، وكان لها النصيب الأكبر من الزلزال، إذ وقعت فيها خسائر كارثية من ضحايا ودمار جزئي وكلّي في المنازل، وساهم انقطاع شبكة الإنترنت في تأخر فرق الإنقاذ في توجهها إلى المدينة.

يقول مهند سويد، وهو من أبناء قرية العلاني ومقيم في مدينة سلقين: “تركنا أنا وأخوتي قرية العلياني في ريف سلقين، لنسكن في المدينة بداعي العمل، لنصاب بفاجعة فقدان أخي أحمد وزوجته وولده، وبقي طفلهم الوحيد أمير (سنتان) في كنفنا، وعندما عدنا إلى قرية العلاني، وجدنا أن قسماً كبيراً من البيوت قد تهدمت، كما تأثرت المنطقة بطوفان نهر العاصي، فبنينا عدداً من الخيم في منطقة مرتفعة ومتطرفة”.

يضيف: “أعداد الوفيات كبيرة، فأنا توفي أخي الصغير وزوجته وأخي الآخر مع زوجته وولده، وقمنا بانتشالهم وحدنا ومن ثم غسلهم ودفنهم، ويوجد الكثير من الحالات بهذه الصورة، ولم تدخل ضمن الإحصائيات الرسمية”، مشيراً إلى أن “سلقين تعيش حالةً من الرعب الكبير من تبعات الزلزال، فالهزات الارتدادية كثيرة وكل يوم تتهدم بنايات، ولم تعد غالبية العوائل ذات البيوت المتصدعة إلى منازلها خوفاً من انهيارها، فإما يجلسون في خيم في العراء أو عند أقاربهم في منازل متطرفة غير طابقية”.

وبحسب سويد: “في قرية العلاني توجد 750 عائلةً، بلغت نسبة المنازل المتضررة فيها 45%، وهي لم تعد صالحةً للسكن بسبب التصدع، كما أن العديد من مساحات الأراضي هبطت وحصلت فيها فجوات عميقة، وبدأت تخرج منها تربة أشبه بالرمل، بالقرب من نهر العاصي”.

ويقوم السوريون عبر غرف التواصل عبر تطبيق واتس آب، بإرسال أسماء كل ضحية يتم انتشالها إلى غرف تابعة للمنطقة التي تم انتشال الضحية فيها، ويتابع أكثر من عضو في كل مجموعة، عملية تسجيل الأسماء والتأكد منها مع العائلات وأبناء المنطقة.

عمليات الانتشال مستمرة

بحسب الدفاع المدني السوري، فإن عمليات البحث وانتشال الضحايا مستمرة، خصوصاً في جنديرس وحارم وسلقين التي تعرضت لدمار كبير في البنى التحتية، ومن المبكر الحديث عن رفع الأنقاض وفتح الطرقات، فهذا يحتاج إلى أشهر عدة وقدرات عالية وآليات ثقيلة، كما أن هناك عشرات الآلاف من المنازل المتصدعة، وتم تشكيل فريقين من الدفاع المدني ونقابة المهندسين يتابعان تحديد الأبنية المتضررة والمصالحة للسكن، كما تأثرت 40% من المدارس ولم تعد صالحةً للاستخدام، و70% من المشافي تعرضت لضرر بفعل الزلزال.

كما صدر أمس الأربعاء، تقرير الشبكة السورية لحقوق الانسان، وورد فيه أن 6،319 سورياً ماتوا نتيجة الزلزال، منهم 2،157 في المناطق خارج سيطرة النظام السوري، و321 في مناطق سيطرته، و3،841 في تركيا، داعياً إلى فتح تحقيق في تأخر دخول المساعدات الأممية والدولية لأيام، وتحمّل المسؤولية في وفاة المزيد من السوريين.

وتحدث التقرير عن أن فريق الشبكة السورية لحقوق الإنسان الميداني في سوريا، قد تأثر بشكل كبير في المناطق التي أصابها الزلزال، كما تأثر فريقها في جنوب تركيا، وتشرّد العديد منهم، الأمر الذي زاد من صعوبة عمليات التوثيق مقارنةً مع حوادث مشابهة، بالإضافة إلى ارتفاع حصيلة الضحايا الذين ماتوا على امتداد مساحة جغرافية واسعة، وما خلّفه الزلزال من دمار شبه كامل في بعض القرى والبلدات، مثل حارم وجنديرس في شمال سوريا.

رصيف 22

—————————

أيام الزلزال والكاميرا وكوكبي في إدلب وأصوات “طالعني يا عمّو”/ علي الدالاتي

وأنا أصل إلى مكان المجازر التي اعتدنا عليها نحن السوريين، خلال الـ11 عاماً الماضية، غالباً ما تعود بي ذاكرتي إلى مجزرة أخرى شبيهة لها، شكلاً أو مضموناً أو مكاناً. كنت في كُلّ مرّة أحاول أن آخذ نفساً عميقاً وأكمل تغطيتي الصحافية محاولاً أن أمارس فعل الإنكار الذي يُصاحبني منذ سنين. أراكم ذكريات عشوائيةً من هنا وهناك، كي أهرب مما عشته من مآسي منذ قررت أن أصبح إعلامياً، بعدما قرر شعبي أن يثور على نظام استبدادي يحكم منذ عشرات السنين. نكبة اليوم، أعادت إليّ شريط ذكريات تلك المجازر، كاملاً من دون نقصان ذرة ألم.

في ليلة الزلزال، أنهيت عملي وعدت من أحد مخيمات النازحين الذي كان يعاني من أهوال العاصفة التي تخيّم على البلاد. جهّزت المادة الصحافية التي كنت أعدّها عن المخيم، وتوجهت للقاء أصدقائي في بيت أحدهم. على الطريق، التقيت بصديق آخر كان عائداً إلى منزله، فاصطحبني معه لشرب فنجان من القهوة كون صديقنا الذي ننوي السهر لديه لا يعترف إلا بالشاي كضيافة.

اجتمعنا كأصدقاء اعتدنا كل مساء أن نأخذ وقتاً مستقطعاً من كمّ المآسي التي نراها ونعيشها يومياً، فننزع عنّا ما يُخفف عن أكتافنا دائماً، نضحك ونلعب الورق ونتذكر الأيام القليلة التي كنا فيها نجد للضحك مكاناً على وجوهنا في وضح النهار.

في أثناء لعبي الورق، تلقيت اتصالاً من زميل لي كنت معه في الصباح، يُخبرني فيه بأن أجهّز نفسي ولا أطيل السهر كونه يريد أن يأخذني معه من الصباح الباكر لتغطية أوضاع مخيم آخر تأثر بالعاصفة، وهكذا حصل. كانت الخطة ستمضي لولا ذاك الذي يُسمى زلزالاً، والذي قلب المخيم الذي كنا نخطط للذهاب إليه لتغطية سوء أوضاع أهله مع الشتاء، إلى المكان الآمن الوحيد على امتداد الشمال السوري، والعاصفة تحوّلت من مأساة إلى أمر ثانوي لا يُقارَن بهول ما أصابنا. فجر الإثنين تاريخ سيبقى إلى سنوات مديدة قادمة، هذا إذا كان لنا حظ بالبقاء أساساً.

عادة الموت بغارة

فجر الإثنين، سمعت صوتاً مخيفاً كهدير الطائرات الحربية حين تفتح جدار الصوت على علوّ منخفض، وسريعاً تغيّر كُل شيء. كُل ما حولنا صار مزيجاً من الخراب والدمار والصراخ والأرض ما زالت ترتجّ، ولا زلت أنا أحاول أن أستمع إلى صوت الطيران الحربي. هرعت إلى جوار أحد الأعمدة لاختبئ في ظله، فالعامود قد يحميني أكثر وقت القصف، من الأماكن الأخرى في المنزل. هكذا تعلّمنا في سنوات بؤسنا الممتدة. ولكن طال زمن الرجّة، ووعيت بأن ما يحصل هو أمر مختلف. الزمن الحقيقي للغارات أقل، أيضاً هكذا تعلّمنا.

كل فئات المجتمع تستحق الحياة، هكذا ببساطة. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!

بعد دقيقة توقف الارتجاج، وبدأت الاتصالات، فرأيت نفسي وقد صحوت من الصدمة وقلت إنّ علي النزول من الطوابق العليا. فعلت ذلك، ونزلت إلى الأسفل، ثم خرجت إلى الشارع؛ إنه يوم القيامة، أمامي مدينة كاملة عمّها الظلام، فلا صوت فيها سوى صوت بكاء الأطفال وصراخ الناس ولا يقطع سيمفونية البكاء تلك سوى الهزات الارتدادية للزلزال الذي لم نشهد مثله من قبل، مع أننا ظننا نحن السوريين أن 12 عاماً من القتل المتواصل، جعلتنا نرى كل شيء، حتى نجوم الظهر كما كنا نقول في أحاديثنا في فترة ما قبل الزلزال.

المهنة والمهنية

بدأت التصوير بهاتفي لما يحصل أمامي كوني تركت الكاميرا في المنزل. بعد دقائق قررت أن أعود لآخذها كونها ستساعدني في التصوير خاصةً للإضاءة الليلية. أمشي أو أركض وأنا أحاول تناسي البكاء الذي حولي، متذرعاً بالصحافي الذي في داخلي كي لا يخرج الطفل الذي في داخلي، وأبدأ معهم بالصراخ “أريد أمي”، كما يفعلون؟

تحت ستار المهنية، حاولت إسراع الخطى كي أجلب معداتي الصحافية حتى أنني لم أعد أشعر إلا بزخات المطر التي تهطل على رأسي. أكملت طريقي حتى وصلت إلى المنزل، تناولت معداتي وعدت إلى الطريق الذي تحوّل إلى طريق يوم الحشر. وجدت صديق والدي “أبو إبراهيم” في حينا يصرخ منادياً إياي. فتحت الكاميرا ووجهتها صوبه، وتركته يحكي أو يصرخ لم أعد أذكر.

يقول أبو إبراهيم: “استيقاظنا في ساعات الفجر الأولى أمر طبيعي، فعلى مدار السنوات التي تلت الثورة كان ذاك أمراً عادياً، ولكن غير العادي اليوم هو سبب الاستيقاظ، فعادةً يكون السبب هو قصف من النظام السوري أو حلفائه الروس والإيرانيين ولكن هذه المرة كان زلزالاً. قصف طبيعة”. يصرخ أبو إبراهيم عليّ وهو يتحدث، ويحاول في الوقت نفسه أن يهدّئ من روع طفله الذي يبلغ من العمر 4 سنوات.

وأنا أبحث عن وسيلة للوصول إلى الإنترنت، ابتعدت عن “أبو إبراهيم”، وهو ما زال يتحدث إلى صغيره ويحاول تخفيف حدة الخوف لديه بالرغم من علامات الذعر التي تظهر عليه كما على كل من في هذه المساحة المظلمة.

مع بزوغ الفجر، بدأت رحلة الصعود مجدداً إلى المنزل، لأخرج إلى سطح البناء الذي أسكنه في محاولة للوصول أو الحصول على إشارة إرسال، فكانت الرسائل تأتي تباعاً كلما صارت الرؤية أوضح، وهنا بدأت تتكشف الكارثة؛ مئات الأبنية في مدينتي، إدلب، على الأرض وآلافٌ فُقد التواصل معهم. كان المشهد كارثياً، وكلّما ازداد ضوء النهار، تكبر الكارثة، أو نكتشف واقعنا أكثر.

“طالعني يا عمو”

من فوق، بدأت شيئاً فشيئاً أكتشف هول الكارثة. عرفت أن البناية في شارع الثلاثين قد هبطت على من فيها. ركضت باتجاه ذاك المكان وعندما وصلت رأيت الناس تهرع وتركض من كل مكان وإلى كل مكان، ولا شيء غير أصوات سيارات الإسعاف التي بدأت تصل لتُنقذ من يُمكن إنقاذه.

أدخل إلى الكارثة بكاميرات تجعلني على كوكب آخر. عناصر الدفاع المدني والكوادر الإسعافية تحاول معرفة ما إذا كان هناك أحياء داخل المبنى المدمر. هذا يركض من هنا، وهذا يتحدث عبر جهازه، وآخر يصرخ في محاولة للوصول إلى أيّ ناجٍ. أشقّ طريقي إلى حيث الركام. سيارة للدفاع المدني وأخرى لمنظومة الإسعاف التابعة لمديرية صحة إدلب، وشُبّان يحاولون مساعدة الدفاع في انتشال من بقي حياً، وأنا أحاول أن أبعد الكاميرا عن كل ما يُظهر مشاهد القتلى والجرحى.

في تلك اللحظة، جملة واحدة علقت في رأسي ولا تزال، هي جملة قالتها طفلة لأحد المسعفين: “طالعني يا عمو بكون إلك خدّامة”. جملة ينتهي معها كل ما يُمكن أن أجمعه لاحقاً، وتُصبح أثقل حين أرى كمّ الناس الذين ينشروها كفيديو ولو عن طيب خاطر، وأنا أحاول أن أسترجع شريط عقلي الباطن إلى جانب الموت المتراكم فوق رأس السوريين، ولكن هذه المرة قرر الموت أن يوحّدهم بعد أن اختلفت توجهاتهم منذ لحظة الثورة على الديكتاتور الذي أودى بنا كسوريين جميعاً إلى الهاوية.

“ما بدّي شوف إختي مشوّهة”

بعد يوم طويل وكئيب ومتعب، توجهت إلى أحد المشافي لأرى أوضاع الجرحى، فمهمّتي لم تنتهِ في ذلك اليوم حين خرجت من مواقع إنقاذ الجرحى وانتشال الضحايا. فأنا صحافيّ وعليّ نقل ما يحدث، بغض النظر عمّا أشعر به. وهل لي أن أشعر؟ أساساً أنا حين أمسكت كاميرتي وبدأت بمهمّتي كصحافي، علمت أنه محكوم عليّ بأن أتخلّى عن أحاسيسي، والمطلوب مني الكثير من المهنية والحيادية. الحيادية فوق أشلاء أناس ذنبهم أنهم سوريون وُجدوا في مزرعة يحكمها ديكتاتور، ورثها عن أبيه الديكتاتور الآخر، كما يحدث في بلدان الشرق، مع فارق بسيط، هو أن هذه البلاد قد أنهكتها الحرب.

لدى وصولي إلى المشفى، رأيت الكثير من الجثث في الباحة الأمامية، تساءلت عن السبب، ولكن لدى دخولي عرفت الإجابة. المشفى الذي امتلأ بالجرحى لم يعد حتى يتسع، فصار الجرحى في الداخل والموتى في الخارج. المصاب الذي يموت، يخرج ليدخل مكانه مصاب قد يتمكن من الحياة.

على الجثث، كُتبت أسماء أصحابها ليتعرف عليها ذويهم. من ضمن من أتى، شقيقان يريدان استلام جثة أختهم التي قضت مع عائلتها تحت الأنقاض. كانا يبكيان بطريقة هستيرية، اقترب منهما ممرض وطلب منهما التعرف على الجثة. رفض الأخ الأصغر الاقتراب منها، وهو ينظر إلى شقيقه الكبير ويقول جملةً قضت على ما تبقى لدي من قوة تساعدني على الوقوف: “ما بدّي شوف إختي وهي مشوهة وعليها آثار دم، بدي تبقى صورتها بذاكرتي صورتها حلوة متل ما كانت قبل ما تموت”. تأكد الأخ الأكبر أنها جثة شقيقته، وذهب يستدعي أمه كي تلقي على ابنتها النظرة الأخيرة، قبل أن توارى في الثرى. هنا هربت.

وبحسب الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، فقد ارتفعت حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا إلى أكثر من 2،536 حالة وفاة وأكثر من 4،600 مصاب والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض، وفرق الإنقاذ تواصل عمليات البحث والإنقاذ وسط ظروف صعبة، فيما ارتفع عدد الأبنية المنهارة بشكل كلّي إلى أكثر من 375 بناءً، والأبنية المنهارة بشكل جزئي إلى أكثر من 1،200 بناء، وتصدعت آلاف الأبنية الأخرى.

وأنا هنا أحمل كاميرتي وأجول من فاجعة إلى أخرى.

رصيف 22

—————————–

كلما كوّن عائلةً خسرها… محمد قرقوز يختصر المأساة السورية/ جلال سليمان

يجلس القرفصاء، ويسند ظهره المبلل إلى حائط أحد المباني المهدمة في مدينة جنديرس في شمال حلب، يناظر فرق الإنقاذ وهي تحاول إخراج زوجته وأطفاله وجيرانه من تحت الأنقاض. بيده سيجارته الملفوفة بشكل عشوائي على غير العادة، والتي تنطفئ كل بضع ثوانٍ، وبين نفخة وأخرى، تخرج من فمه الذي وكأنه تجمّد إلى الأبد، بعض أبيات العتابا الحزينة التي تتحدث عن الفراق، بصوت شجي تخالطه الدموع وهو يرى ثمرة محاولته الثالثة لبناء أسرة تذهب أدراج الرياح.

ينحدر محمد قرقرز (39 عاماً)، من بلدة البويضة الشرقية، بالقرب من مدينة القصير غرب حمص. كان مقاتلاً سابقاً في الجيش الحر، خسر زوجته الأولى وطفلتيه رنيم 7 سنوات، وريهام 4 سنوات، في 22 أيار/ مايو 2013، في قصف للنظام السوري استهدف منزلهم في القرية إبان محاولة النظام وحزب الله اللبناني اقتحام منطقة القصير. ودّع عائلته، ودفنها وأكمل حاملاً بندقيّته بحثاً عن “الحريّة”.

يقول محمد: “عندما خرجت في هذه الثورة للمطالبة بالحرية، وأُجبرت على حمل البندقية للدفاع عن أهلي، كنت أعلم أنني يمكن أن أُقتل، لكن لم يخطر ببالي أني يمكن أن أدفع فاتورة هذه الثورة وحدي. أنا راضٍ بقضاء الله، لكن الحمل بات ثقيلاً عليّ. خسارة أطفالك ثلاث مرات أمر مرهق جداً، للروح قبل الجسد”.

يعود الرجل الثلاثيني الذي تبدو اليوم عليه ملامح السبعين، بالذاكرة إلى العام 2013، حين طلب من زوجته أن تبقى هي وأطفاله في منزل متطرف قليلاً عن بلدته البويضة، لاعتقاده بأنه آمن نسبياً. حمل بندقيته والتحق بباقي المقاتلين على الجبهة، في يوم كان عنيفاً كما يروي، إذ “كان القصف جنونياً على مناطق القصير والمعارك عنيفة جداً وبزحمة القتال وتفاصيله نسيت عائلتي وانشغلت بنفسي وبمن معي من رفاق السلاح، لكن نداءً عبر القبضة اللا سلكية التي تُستخدم للتواصل، من صديق يقول لي محمد يجب أن تعود فوراً إلى المنزل، أعلمني حينها أن أمراً ما جرى. ركبت دراجةً ناريةً من الجبهة وتوجهت إلى المنزل فوجدت بعض الناس يحاولون رفع الأنقاض، فساعدتهم وأخرجت زوجتي وأطفالي من تحت الأنقاض وقمت بدفنهم”.

قاوم إلى أن سقطت المنطقة. فمشى إلى يبرود ومنها إلى بلدة مهين، ليستقر به المقام في بلدة الغنطو في ريف حمص الشمالي المحاصر عام 2013. اعتقد أنه سيستقرّ. تزوّج بعد سنة أو أكثر ورُزق بطفل أسماه أيهم، على اسم شقيقه الذي قُتل في معارك القصير، لكن الفرحة لم تدم طويلاً. طائرة روسية تُحلّق في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 في سماء المنطقة، وتُلقي بقنبلة شديدة الانفجار على ملجأ كان يحتمي فيه الناس على أطراف البلدة، وفي الملجأ زوجة محمد وابنه أيهم. ماتا، كما مات الكثير من الأطفال والنساء الذين كانوا يحتمون فيه. تلك كانت مجزرةً لعلّ كثيرين لا يتذكرونها من كثرة المجازر التي صارت وثيقة الصلّة بنا نحن السوريين عليه.

يقول: “كنت مطمئناً إلى زوجتي وطفلي، ولم يخطر ببالي أنني سأشارك في إخراج جثثهم برفقة 40 جثةً قُتلوا في غارة واحدة استهدفت ذلك الملجأ بقنبلة شديدة الانفجار، ليُقتل الجميع على الفور. حزنت كثيراً وعشت أوقاتاً صعبةً، لكن وجود الأصدقاء ورفاق السلاح خفف عني كثيراً لكني لم أنسَ ولن أنسى أبداً”.

من غير المعقول أن كثيرين منّا لا يزالون يطالبون بأبسط حقوقهم. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا.

ادعمونا

يومها أنا، معد التقرير هذا، كنت حاضراً وشاهداً على تلك المجزرة. التقيت محمد في أثناء إعدادي تقريراً عن المجزرة لصالح قناة الجزيرة، بالرغم من فداحة خسارته، كان راضياً بقضاء الله، ويحاول المساعدة في إخراج الجثث من تحت الأنقاض.

بعدها، لم يقبل بالزواج مجدداً خوفاً من أن يخسر عائلته من جديد، وبقي مقتنعاً بهذه الفكرة حتى منتصف العام 2018، عندما أبرمت المعارضة اتفاق تسوية مع النظام برعاية روسية، يقضي بخروج من يريد من معارضي النظام إلى شمال سوريا، وبالفعل كونه مقاتلاً في الجيش الحر، خرج إلى ريف حلب واستقر به المقام في بلدة الأتارب.

ولأن المنطقة هناك محررة من النظام ومليشياته وبعيدة نسبياً عن القصف، حاول من جديد بناء أسرة، ليتزوج من جديد، لكن فرحته بزوجته الجديدة لم تدم طويلاً بسبب ملاحقة هيئة تحرير الشام له بغية اعتقاله بحجة أنه شارك مع فصائل الجيش الحر ذات مرة في قتال جبهة النصرة في ريف حمص، ليهرب مع زوجته إلى منطقة عفرين ويستقر في بلدة جنديرس ويعتزل القتال بناءً على رغبة زوجته، ويعمل بائعاً متجولاً للخضروات على سيارة صغيرة من نوع سوزوكي، ويُرزق بطفلين، أسامة 3 سنوات، وهديل سنة ونصف. كان إلى ما قبل أيام، يرى الشمس تشرق من عيونهما.

اعتقد أنه استقرّ، برغم كُل تعب الحياة في مدينته الجديدة. شعر بأنه مُكتفٍ وبأن الكؤوس المرّة قد انكسرت إلى غير رجعة، لكنّه كان يحلم. أتى الزلزال، نزل البناء على من فيه. خرج محمد من بين الركام ليجلس، مع سيجارته، ينتظر متى تُنتشل جثث زوجته وطفليه، وكأنه كان يعلم أنهم لن يخرجوا أحياء. استسلم ساعةً ووجد نفسه أمام الركام. جلس يحزن وحيداً، بجسده المنهك والروح المرهقة التي نالت منها كثرة الخسارات.

يروي محمد أنه في يوم 6 شباط/ فبراير، الساعة الثانية عشرة ليلاً، خرج من منزله ليقود سيارته إلى سوق الهال في أعزاز من أجل شراء الخضروات اللازمة ليبيعها في اليوم التالي. وصل إلى هناك قرابة الساعة الثانية صباحاً وجلس في سيارته في انتظار وصول الخضروات من التجار، وفي تمام الرابعة وثلاثة عشر دقيقةً تماماً بدأ الزلزال.

يقول: “في البداية شعرت بهزة خفيفة، لكنها أصبحت أقوى وبدأت أسمع صوت انفجارات، ولا أعلم هل كان هذا صوت الأرض أم المباني التي كانت تنهار. خرج الناس إلى الشوارع في مشهد لم أرَ مثله في حياتي”.

يضيف: “سريعاً ركبت سيارتي محاولاً الخروج من أعزاز، لآتي وأطمئن إلى عائلتي، لكني لم أستطع بسبب الازدحام الكبير والهلع بين الناس وتوالي الهزات، وبعد عناء شديد خرجت ووصلت إلى جنديرس في التاسعة صباحاً. كان المنظر مرعباً. غالبية الشوارع مغلقة بسبب الدمار، نزلت من سيارتي وركضت باتجاه منزلي وكانت الصدمة. فرق إنقاذ والمنزل على الأرض تماماً. علمت أنني خسرت عائلتي للمرة الثالثة. جلست وانهرتُ باكياً، وأنا أراقب كيف يخرجونهم من تحت الأنقاض”.

هي قصة، رُبما تختصر الكثير، ليس فقط عمّا حلّ بالسوريين بعد الزلزال، بل عن سياق الآلام المتواصلة منذ أن قرروا “التعبير” عن رأيهم والمطالبة بأبسط حقوقهم. ومحمد وحده، يحمل جبلاً من العذاب. يجلس بجانب الركام الذي صار مرافقاً له، ويتذكر خسارته الأولى، والثانية، والثالثة، ينفح بسيجارته، ويحاول أن يُصدّق أن ما يحصل معه هو واقع، لكنّه غير قادر على فعل ذلك.

تنويه: لم يكن من السهل عليّ إقناع محمد، بإجراء مقابلة وهو في هذه الظروف، لكن الصداقة القديمة بيننا لعبت دوراً في ذلك، وبرغم علمي بتفاصيل قصته كاملةً كان لزاماً إجراء المقابلة معه ليتحدث بلسانه عما جرى له، وخريطة الحزن التي رافقت حياته منذ أن قرر أنه يتسحق الحياة، واعتقد أنه ثار من أجل ذلك وأن ثورته ستنتصر وسينال ما يحلم به، لنفسه ولوطنه سوريا.

رصيف 22

—————————-

================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى