قصة

عن لقائي بفتاة مثالية مئة بالمئة بصباح نيسانيّ جميل/ هاروكي موراكامي

للحظات كثيرة، يخال المرء أن هاروكي موراكامي كاتب عربي. صحيح أن أعمالًا كثيرة له نُقلت إلى اللغة العربية، ولكن حضوره تجاوز مجرد الترجمة، إذ أصبح حاضرًا في نقاشاتنا الثقافية، وله عديد المريدين، الذين يجدون فيه القدوة التي يجب “تقليدها”، أو الكتابة مثلها (من دون أن ننسى انتظارهم كل عام ليتوج بجائزة نوبل للآداب). وهذا إن دلّ على شيء، فعلى قدرة هذا الكاتب على التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، ليقدم لنا أدبًا يخاطب اللحظة الراهنة بكل مناخاتها، لا في اليابان وحسب، بل أيضًا في جميع أنحاء العالم.

ولد موراكامي في كوبي عام 1949، وبعد دراسته للتراجيديا الإغريقية، افتتح ناديًا للجاز في طوكيو، قبل أن يتفرغ للكتابة. ولكي يهرب من “امتثالية” المجتمع الياباني (مثلما يقول)، كان يحلم دائمًا بالسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، لذا عكف في البداية على ترجمة فيتزجيرالد، وريمون كارفر (إلى اليابانية).

عرفت روايته الأولى نجاحًا كبيرًا في اليابان، وقد صدرت عام 1979 بعنوان “اسمع نشيد الريح”، وحاز عنها على جائزة غونزو. بعد سلسلة من الروايات والكتب التي أوسعت له مكانة على الساحة الأدبية في بلاده، انتقل للعيش في اليونان، وإيطاليا، ومن ثم الولايات المتحدة، حيث درّس هناك الأدب الياباني في جامعة “برينستون”، وعكف على كتابة “جنوب الحدود، غرب الشمس”، وهي الرواية التي وضعته في مصاف الكتّاب العالميين.

في عام 1995، وبعد الزلزال الذي ضرب “كوبي”، والهجوم الذي قامت به مجموعة “أوم” (الهجوم بالغاز في أنفاق محطات المترو)، عاد للعيش في بلاده، ليكتب روايته “بعد الهزة الأرضية”، لتتوالى بعدها مجموعة من الروايات، لم تترك أحدًا غير مهتم بما يكتبه هاروكي، إذ وجد معجبين به، في أرجاء الأرض.

هنا ترجمة لقصة له (عن الفرنسية):

[ترجمة وتقديم: إسكندر حبش]

——————————-

في أحد صباحات شهر نيسان الجميلة، قابلت فتاة مثالية مئة في المئة في زقاق مزدحم في حيّ هاراجوكو. بصراحة، لم تكن بهذا الجمال الصارخ، ولا تثير كثيرًا من الاهتمام؛ لم تكن ترتدي أحدث صيحات الموضة. فوق مؤخرة رقبتها، كان شعرها لا يزال ممتلئًا بالنوم، ولم تكن حتى في أوج حياتها. لا بدّ أنها تبلغ الثلاثين من عمرها تقريبًا. لم يعد في إمكانك تسميتها “فتاة” بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ كانت “سيدة” تقريبًا. ومع ذلك، قبل خمسين مترًا من التقائي بها، كنت عرفت تلك الأمور كلّها. علمت أنها كانت الفتاة المثالية بالنسبة إليّ بنسبة مئة في المئة. في اللحظة التي رأيت فيها ملامحها، بدأ قلبي يهتز كما لو كان هنالك زلزال، وجفّ فمي كما لو كان ممتلئًا بالرمال.

حسنًا، لكلّ واحد منّا ذوقه في نوع الفتاة الخاصة به. البعض يحبون الفتيات ذوات الكاحلين النحيفين، والبعض الآخر الفتيات ذوات العيون الكبيرة، وبعضهم لا يحبون سوى الفتيات ذوات الأيدي الجميلة، وقسم منهم، ولا أعرف سبب ذلك، اللاتي يأكلن ببطء شديد. أنا أيضًا، بالطبع، لديّ تفضيلات. في المطعم، على سبيل المثال، يحدث لي أن أُفتن بشكل أنف فتاة جالسة إلى الطاولة المجاورة.

فقط، لا أحد يستطيع أن يضع الفتاة المثالية مئة في المئة ضمن إطار معين. لا أتذكر شكل أنفها على الإطلاق. لا أعرف حتى ما إذا كان لديها أنف. أتذكر فقط أنها لم تكن تملك ذلك الجمال الصارخ. أمر غريب.

قلت لأحدهم:

البارحة التقيت بالفتاة المثالية مئة في المئة.

بففففف، إذًا قل. هل كانت جميلة؟

أوه، ليس كثيرًا.

كانت نوعك المفضل إذًا؟

لا أستطيع التذكر. لا أذكر شكل عينيها، ولا حتى إن كان نهداها كبيرين أم صغيرين، لا أذكر شيئًا.

أمر عجيب، فعلًا.

عجيب، أليس كذلك؟

وبعد ذلك؟ قال محدثي بنظرة تعبة. هل قمت بعمل شيء، هل كلمتها، هل تبعتها؟

لا، فقط التقيت بها.

كانت تمشي من جهة الشرق إلى الغرب، وأنا من الغرب إلى الشرق. كان صباحًا رائعًا من شهر نيسان.

رغبت فعلًا في التحدث معها، ولو لمدة نصف ساعة فقط. كنت سأطرح عليها أسئلة تتعلق بها، ولكنت أخبرتها عني. وزد على ذلك كله، كنت أود أن أتحدث معها عن تقلبات القدر التي دفعتنا إلى الالتقاء في زقاق في هاراجوكو ذات صباح جميل من شهر نيسان العام 1981. في قلب لقاءات مماثلة لا بدّ أن ثمة سرًّا يرفرف، لا بدّ أن هناك آلة تعود إلى زمن كان فيه العالم يعيش في سلام.

كنّا، بعد أن دردشنا لفترة من الوقت، تناولنا الغداء معًا، ثم ذهبنا لمشاهدة فيلم لـــ وودي ألن، ومن ثم احتسينا بعض الكوكتيلات في بار فندق. ومع القليل من الحظ، لربما كنت نمت معها.

هنالك احتمالات متنوعة تدق على باب قلبي.

لم نكن نبعد عن بعضنا سوى 15 مترًا.

حسنًا، بأي طريقة كنت سأقترب منها؟

صباح الخير، هل يسمح وقتك لي بنصف ساعة، كي نتناقش؟

سيبدو ذلك سخيفًا. وكأنني مندوب شركة تأمين.

عفوًا، هل تعرفين أين توجد آلة غسيل أوتوماتيكية بالقرب من هنا؟

سوف يبدو السخف مشابهًا. فأنا لم أكن أحمل كيس الثياب المتسخة. من سوف يصدق مزحة مماثلة؟

ربما كان من الأفضل أن أتوجه إليها بصراحة:

صباح الخير. أنت الفتاة المثالية مئة في المئة، بالنسبة إليّ.

لا، لن ينجح ذلك. لن تصدقني. وحتى لو صدّقت، لربما كانت لا ترغب في الحديث إليّ. لكانت أجابت: ربما أنا الفتاة المثالية مئة في المئة بالنسبة إليك، لكنك أنت، لست الصبي المثالي مئة في المئة بالنسبة إليّ، أنا آسفة. ثمة فرصة حقيقية لحدوث هذا الأمر. ولو كان هذا جوابها فعلًا، لشعرت فعلًا بالارتباك، أعتقد. وما كنت تعافيت من الصدمة أبدًا. أنا في الثانية والثلاثين من عمري، ولا بدّ أن يكون الأمر كذلك، إنني أشيخ.

تقابلنا بالقرب من محل لبيع الزهور. شعرت بكتلة صغيرة من الهواء الدافئ على بشرتي. كان أسفلت الرصيف نديًا، إذ قد رُشّ بالماء للتو، ورائحة الورود تنتشر في الجو. بدا أنه من المستحيل التحدث معها. كانت ترتدي سترة بيضاء، وتحمل في يدها اليسرى ظرفًا أبيض غير مختوم. لقد كتبت رسالة إلى شخص ما. نظرًا لأنها بدت نعسانة بشكل رهيب، اعتقدت أنها ربما أمضت الليل في كتابة رسالتها هذه. ربما كان ذلك المغلف الأبيض يحمل كلّ أسرارها.

التفت إلى الوراء، بعد أن قمت بخطوات قليلة، لكنها اختفت بين الحشود.

الآن، بالطبع، أعرف جيدًا ما كان يجب أن أقوله لأقترب منها. ولكن نظرًا لأن ذلك كان سيطول كثيرًا في أيّ حال، فلربما لن أستطيع أن أخبرها بكل شيء. تفتقر أفكاري إلى الواقعية دائمًا.

المهم، لكانت قصتي قد بدأت بــ”كان يا ما كان”، ولكانت انتهت بـ “ألا تجدون ذلك تعيسًا”؟

كان يا ما كان، في بلاد ما، شاب في الثامنة عشرة من العمر، وشابة في السادسة عشرة. لم يكن جميلًا بشكل خاص، ولا هي أيضًا. كانا فقط شابين وحيدين مثلهما مثل العديد غيرهما. لكن كل واحد منهما كان على قناعة أنه في مكان ما ثمة شاب لها، وثمة فتاة له، مثاليان مئة في المئة، كانا منذورين لبعضهما البعض. لقد آمنا بالمعجزات وقد حدثت المعجزة.

ذات يوم، التقيا عند ناصية الشارع.

آه، يا لها من مفاجأة! إني أبحث عنك منذ فترة طويلة! ربما لن تصدقيني، إلا أنك الفتاة المثالية مئة في المئة بالنسبة إليّ، قال الشاب للفتاة.

وأجابته الشابة:

وأنت الصبي المثالي، مئة في المئة، بالنسبة إليّ، أنت بالضبط مثلما تخيلتك، أشعر بأنني أعيش حلمًا.

جلسا معًا على مقعد في حديقة، أمسك كلّ واحد منهما بيد الآخر، وبدآ بالكلام، والكلام من دون أن يشعرا بالكلل. لم يعودا وحيدين في العالم. لقد وجد كل منهما نصفه الآخر، المثالي مئة في المئة. كان الأمر رائعًا. أعجوبة كونية.

إلا أن شكًّا، شكًّا طفيفًا، عبر قلبيهما. تساءلا عمّا إذا كان الحلم يمكن له أن يتحقق بهذه السهولة. استغل الشاب فترة توقف في حديثهما ليقترح عليها التالي:

لنختبر نفسينا. إذا كنا حقًا مثاليين، بنسبة مئة في المئة، لبعضنا البعض، ففي يوم من الأيام، في مكان ما، سنلتقي مرة أخرى، ونعلم عندها أننا صُنعنا حقًا لبعضنا البعض. عندها، سوف نتزوج بسرعة. موافقة؟

موافقة، قالت الفتاة الشابة.

وافترقا. واحد ذهب في اتجاه الشرق، والثاني في اتجاه الغرب.

ومع ذلك، كان هذا الاختبار عديم الفائدة على الإطلاق. ما كان يجب عليهما القيام بذلك أبدًا، لأنهما كانا حقًا مثاليين بنسبة مئة في المئة لبعضهما البعض، وكان لقاؤهما معجزة حقيقية. لكنهما كانا أصغر من أن يفهما ذلك، إذ قامت موجات القدر اللامبالية بقذفهما كما يحلو لها.

ذات شتاء، تعرض كلّ واحد من جهته لأنفلونزا خبيثة اجتاحت الجو، فأمضيا أسابيع عدة بين الحياة والموت، لكنهما تعافيا في نهاية الأمر. بيد أنهما فقدا كل ذكرياتهما عن الماضي. يا له من شيء غريب!

حين يستيقظان يشعران برأسيهما فارغين مثل حساب توفير دي. إتش. لورانس في شبابه. لكنهما كانا شابين صبورين وشجاعين حقًا، ومن خلال جهودهما تمكنا من استعادة المعرفة والمشاعر التي سمحت لهما بالعودة إلى مكانهما في المجتمع. آه، يا ربي، كانا شابان يستحقان حقًا! لقد تمكنا مرة أخرى من أخذ المترو وتغيير الخطوط، لإرسال رسالة عبر البريد السريع، وقد تعرضا لتجربة الحب المثالي حتى خمسة وسبعين في المئة، وأحيانًا خمسة وثمانين.

وهكذا نجح الشاب في الوصول إلى سنّ الثانية والثلاثين من عمره، والفتاة إلى الثامنة والعشرين. مر الوقت بسرعة مذهلة. وبعد ذلك، ذات يوم، في صباح يوم جميل من شهر نيسان، عبر الشاب زقاقًا في هاراجوكو من الشرق إلى الغرب، كي يذهب ويتناول قهوة الصباح، بينما سلكت الفتاة الشابة المسار عينه، ولكن من الغرب إلى الشرق، لكي تبعث برسالة عاجلة. تقابلا في منتصف الشارع. نشرت ذكرياتهما المفقودة وهجًا خافتًا في قلبيهما، وخفق ​​صدريهما. وقد عرفا.

عرف الشاب بأنها كانت الفتاة المثالية مئة في المئة بالنسبة إليه، وعرفت، هي بأنه الصبي المثالي، مئة في المئة، بالنسبة إليها.

بيد أن النور في قلبيهما كان ضعيفًا جدًا، وأفكارهما لم تكن شديدة الوضوح مثلما كانت عليه قبل 14 عامًا. تقابلا من دون أن ينبسا بكلمة، واختفيا في الحشد، كلّ واحد، من جهته، إلى الأبد. ألا تجدون أنها قصة حزينة.

هذا ما كان عليّ أن أخبرها به.

المترجم: إسكندر حبش

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى