أبحاث

الأصولية الإسلامية: الجناح الثاني للثورة المُضادة/ جوزيف ضاهر

    الاعتراف بالاختلافات بين التيارات «التدريجية» للحركات الأصولية الإسلامية مثل حزب الله والإخوان المسلمين من ناحية، والجماعات الجهادية مثل القاعدة وداعش من جهة أخرى. هذه الحركات ليست نفس الشيء، وعلى الاشتراكيين أن يتعاملوا معها بشكل مختلف.

    من ناحية، تصرّح هذه المنظّمات بالتزام بالمساواة والعدالة الاجتماعية وتتعامل معها بشكل أساسي عبر تدابير من فوق من خلال المشاريع الخيرية. ومن ناحية أخرى، فإنها تدافع عن المبادئ الاقتصادية النيوليبرالية وتدين الحركات الاجتماعية من أسفل وخصوصاً الحركات النقابية.

    على اليسار أن يبني تنظيمه السياسي الخاص وأن يشارك في النضال من أجل التحرير والديمقراطية، أحياناً في وحدة تكتيكية مع الأصوليين التدريجيين، ولكن دائماً بهدف كسب المستغَلين والمضطهدين وإبعادهم عنهم.

عانت السيرورة الثورية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من سلسلة من الهزائم والنكسات بعد بداية واعدة في العام 2011. سُحِقت القوى التقدّمية والديمقراطية أو يتمّ سحقها من قوتين معاديتين للثورة – الأنظمة القديمة وتيّارات الأصولية الإسلامية المختلفة – وداعميها الإمبرياليين والإقليميين. كانت الأنظمة القديمة ولا تزال تشكّل التهديد الرئيسي للانتفاضات الشعبية. في الوقت نفسه، يجب أن يُنظر إلى الحركات الأصولية الإسلامية على أنها قوة سياسية رجعية في الأساس عبر المنطقة.

يتطلّب هذا الدور المًضاد للثورة إعادة تقييم الكثير من الفهم التحليلي لليسار والنهج الاستراتيجي للأصولية الإسلامية. يجب أن يحتل اليسار موقعاً مستقلاً عن الأنظمة القديمة والحركات الأصولية الإسلامية، حيث يجب أن يقوم على أجندة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتحرير المظلومين.

لماذا نستخدم مصطلح «الأصولية الإسلامية»؟

منظّمات مثل ما يُسمّى بالدولة الإسلامية (أو المعروفة أيضاً باسمها المُختصر داعش)، والقاعدة، والفروع المختلفة للإخوان المسلمين وحزب الله لها اختلافات في تشكيلها وتطويرها وتكوينها واستراتيجيتها. ومع ذلك، فإنهم يشتركون في مشروع سياسي مشترك، على الرغم من الاختلافات الكبيرة. كما يؤكّد الباحث الماركسي جيلبرت الأشقر، فإن جميع أشكال الأصولية الإسلامية تشترك في هدف رجعي وطائفي مشترك يتمثّل في إقامة «دولة إسلامية قائمة على الشريعة» تحافظ على النظام الرأسمالي النيوليبرالي القائم.

هذا الهدف يوحّد الحركات الأصولية الإسلامية، من التيّارات «التدريجية» إلى التيّارات الجهادية.

وفي الواقع، لقد انعكس هذا التعريف في كلمات نائب المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، محمد خيرت الشاطر، في آذار/ مارس 2011، بعد إسقاط مبارك:

«الإخوان يعملون على إعادة الإسلام بمفهومه الشامل إلى حياة الناس، وذلك لن يحصل إلّا من خلال مجتمع قوي. وهكذا تكون المهمّة واضحة: إقامة إسلام بتصورّه الشامل، خضوع الناس لله، إقامة دين الله، أسلمة الحياة، تعزيز دين الله، بناء نهضة الأمة على أساس الإسلام… هكذا تعلّمنا» على سبيل الاستهلال «بناء الفرد المسلم، والعائلة المسلمة، والمجتمع المسلم، والحكومة الإسلامية، ودولة الإسلام العالمية…».

وبالمثل، فإن حزب الله، الحزب اللبناني الأصولي الإسلامي الشيعي (الذي تأسّس رسمياً في العام 1985)، أعرب باستمرار عن تفضيله للدولة الإسلامية كنظام سياسي مرجعي. ومع ذلك، يجادل أنه بسبب التركيبة السكانية الطائفية والترتيب السياسي الدستوري للبلد الذي يمنح السلطة السياسية من خلال الانتماءات الدينية، فإن تنفيذه غير عملي في ظل الظروف الحالية. لكن هذا لم يمنع حزب الله من معارضة مبادرات عدّة لعلمنة الدولة اللبنانية، ووصفها جميعاً بأنها مناهضة للإسلام.1 على سبيل المثال، شجبت الحركة الإسلامية الشيعية الزواج المدني باعتباره «تطبيقاً للإلحاد».2

تستخدم الجماعات الأصولية الإسلامية استراتيجيات وتكتيكات مختلفة لتحقيق أهدافها. كما يؤكّد الأشقر:

«لدى البعض استراتيجية تدريجية لتنفيذ أجندتهم داخل المجتمع أولاً، ثم الدولة بعد ذلك، والبعض الآخر يلجأ إلى الإرهاب أو الدولة بالقوة كما هو حالة ما يسمى بالدولة الإسلامية».

تشارك التيّارات الإسلامية «التدريجية» مثل قوى الإخوان المسلمون أو حزب الله أو الدعوة في العراق في الانتخابات ومؤسّسات الدولة القائمة. وفي المقابل، ينظر الجهاديون مثل القاعدة وداعش إلى هذه المؤسّسات على أنها غير إسلامية، ويلجأون بدلاً من ذلك إلى تكتيكات حرب العصابات أو الإرهاب على أمل الاستيلاء على الدولة. بين الجهاديين هناك أيضاً نقاشات وانقسامات حول التكتيكات والاستراتيجيات لتحقيق هدفهم في إقامة دولة إسلامية. في سياقات وفترات تاريخية مختلفة، تعاونت تيارات أصولية مختلفة أحياناً، وفي أوقات أخرى تنافست بل واشتبكت.

على الرغم من اختلافاتهم الاستراتيجية فإن هذه الحركات تشترك جميعها في أجندة سياسية ورؤية لمجتمع رجعي وسلطوي. يمكن رؤية هذا بوضوح تام وبشكل ملحوظ في مواقفهم تجاه النساء. تنشر الحركات الأصولية الإسلامية رؤية رجعية تمنح الرجال الهيمنة، وتلصق بالمرأة أدواراً محدّدة داخل المجتمع، أولها وأهمّها دور «الأمومة»، من أجل تربية الأجيال المقبلة على مبادئ الشريعة الإسلامية. وملابس النساء وسلوكهن يجب أن تتوافق مع المعايير الخاصة، التي يدعون أنها تحافظ على شرفها وشرف عائلتها. ويُعتبر النموذج الإسلامي هو المسار الصحيح الوحيد للنساء، وإلا فإنهن يعتبرن شاذّات عن مجتمعهن، وواقعات تحت تأثير الثقافة الامبريالية الغربية. على سبيل المثال: حذّر المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية، آية الله علي خامنئي، من تطبيق النسخة الغربية من المساواة بين الجنسين، مدّعياً أنها أدّت إلى الفساد. كما أن السجّل السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، في خلال فترة تولّيها السلطة، أو خارجها، بشأن هذه المسألة، رجعي للغاية. فعلى سبيل المثال، وصفَ بيانٌ صدَر عن جماعة الإخوان المسلمين ونُشر على الانترنت تقريراً صادراً عن الأمم المتحدة حول المرأة يدعو إلى تحقيق المساواة الجندرية بأنه «مخادع»، مضيفاً أن دعوة الدولة إلى اعتبار الاغتصاب الزوجي جريمة، وإلى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في الزواج والطلاق ومسائل الإرث، وكذلك إلى وضع حدّ لتعدّد الزوجات والمهر، كل ذلك إنّما يؤدي إلى «تقويض الأخلاق الإسلامية، وتدمير الأسرة».

وكما لاحظ الأكاديمي اليساري آدم هنية: «البنى المحافظة المفروضة على دور النساء هي جزء لا يتجزأ من الأهداف الأساسية المناهضة للثورة».3 الأصوليون الإسلاميون لديهم آراء رجعية مماثلة حول المثليين. على سبيل المثال، اتهم زعيم حزب الله حسن نصر الله المثليين بـ«تدمير المجتمعات». ووصف المثليين بأنهم مستورد أجنبي من شأنه أن يهدّد المجتمع الإسلامي بالانحرافات الأخلاقية وأنماط الحياة الغريبة.

وبالمثل، وصف السلفي المصري الشيخ يوسف القرضاوي (توفي في أيلول/سبتمبر 2022)، الذي يُعتبر مرجعية للإخوان المسلمين المصريين، مراراً وتكراراً أفراد مجتمع الميم بـ«المنحرفين الجنسيين» ودعا إلى معاقبتهم بشكل جماعي، بما في ذلك قتلهم. أخيراً، استهدفت الحركات الأصولية الإسلامية الأقليات الدينية في بلدانهم وعزّزت الخطاب والسلوك الطائفي ضدهم. فقد نفَّذ داعش، على سبيل المثال، حملات قتل وعنف وقمع ضدّ المسيحيين واليزيديين والأقلّيات الدينية الأخرى في الأراضي التي احتلّها في العراق وسوريا. كما شنّ مقاتلوها هجمات إرهابية ضدّ الأقباط في مصر والشيعة في العراق.

على الرغم من نظرة عالمية رجعية مشتركة بين الحركات الأصولية الإسلامية، يجب على الاشتراكيين مع ذلك الاعتراف بالاختلافات بين التيارات «التدريجية» للحركات الأصولية الإسلامية مثل حزب الله والإخوان المسلمين من ناحية، والجماعات الجهادية مثل القاعدة وداعش من جهة أخرى. هذه الحركات ليست نفس الشي، وعلى الاشتراكيين أن يتعاملوا معها بشكل مختلف.

من الممكن تخيّل وحدة العمل مع التيارات «التدريجية» في سياقات محدّدة لأهداف محدّدة وقصيرة المدى. كان بإمكان الاشتراكيين، وقد تعاونوا بالفعل مع الإخوان المسلمين في ميدان التحرير في القاهرة خلال ثمانية عشر يوماً من التعبئة الضخمة ضدّ الديكتاتور مبارك. من المستحيل ببساطة تصوّر تعاون مماثل مع تنظيمي القاعدة وداعش. وفي سوريا هاجمت هذه الجماعات النشطاء والمتظاهرين بسبب رفع شعارات ديمقراطية وغير طائفية.4

مع ذلك، لا ينبغي للاشتراكيين السعي وراء تحالفات سياسية طويلة الأمد مع التيارات «التدريجية» للحركات الأصولية الإسلامية، خصوصاً عندما تكون ذات أحجام أكبر بكثير. يكمن الخطر في مثل هذه الحالة في أن الاشتراكيين سيضعون أنفسهم تحت سيطرة حركة أكثر قوّة ورجعية، بدلاً من اكتساب أتباع من الحركات الأصولية، فلن يوفّروا للأخيرة سوى غطاء سياسي في أحسن الأحوال. تركت على حساب نمو اليسار كبديل.

الأصولية الإسلامية والإسلام والإسلاموفوبيا

على الاشتراكيين، مع ذلك، أن يحرصوا على عدم الخلط بين الإسلام والأصولية الإسلامية. يجب أن نفرّق بوضوح بين الدين الإسلامي والجماعات الأصولية. إذا فشلنا في القيام بذلك، فإننا نخاطر بالوقوع في كراهية الإسلام التي تروِّج لها الطبقات الحاكمة الأميركية والأوروبية ووسائل إعلامها. الإسلاموفوبيا هو شكل من أشكال العنصرية الموجّهة ضدّ السكان المسلمين في تلك البلدان.

اعتمدت القوى الإمبريالية أكثر فأكثر على الإسلاموفوبيا منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتبرير ما يُسمّى بـ «الحرب على الإرهاب». ووصفت هذا الصراع بأنه «صراع الحضارات» بين «الغرب المسيحي والعلماني والمتحضّر والديمقراطي» و«العالم الإسلامي» «الهمجي والعنيف». يجب على الماركسيين أن يعارضوا الإسلاموفوبيا. يجب أن ندافع عن حرية المرء في ممارسة دينه، وفي الوقت نفسه، حقّ الجماعات المضطهدة في تقرير المصير. في نقده لبرنامج جوتا لحزب العمّال الألماني (1875)، جادل ماركس بأن الحرية الخاصة في مسائل العقيدة والعبادة يجب تعريفها فقط على أنها رفض لتدخّل الدولة. وذكر المبدأ على النحو التالي:

«يجب أن يكون كل فرد قادراً على تلبية احتياجاته الدينية والمادية على حد سواء، من دون أي تدخّل من الشرطة».

دافع ماركس نفسه عن الحصول على الحقوق المدنية ليهود من كولونيا في العام 1843 وأعلن أن امتياز الإيمان هو حق إنساني عالمي. لم تتطلّب الماركسية الكلاسيكية، أي ماركسية المؤسّسين، إدراج الإلحاد في برنامج الحركات الاجتماعية. ومن هذا المنظور يجب أن نفهم اللوائح الخاصة بارتداء الحجاب المفروضة بالقوة، شرعياً أم لا، من قبل الأصوليين الإسلاميين أو التي تم سحبها بالقوة بسبب القيود القانونية في أوروبا، كأفعال رجعية ضدّ حق المرأة في تقرير المصير.

في هذه المعركة ضدّ الإسلاموفوبيا، يجب على اليسار أن يعارض أولئك الذين يرفضون أي وحدة عمل مع مجموعات لها قاعدة أو يزعمون أن لها أسس دينية، من خلال مناشدة العبارة الشهيرة لكارل ماركس يرى أن الدين هو «أفيون الشعب»، من دون الإشارة إلى بقية النص الذي يشرح المعنى الحقيقي الذي يجب إعطاؤه له. يوضح عدد من الأمثلة التاريخية خطأ هذا الموقف السياسي. تعاون اليسار الراديكالي وقاتل جنباً إلى جنب مع أتباع لاهوت التحرير، الذي طور نقداً جذرياً للرأسمالية ضدّ ديكتاتوريات أمريكا الجنوبية. لم يتردّد الحزب البلشفي في تنسيق النضالات مع البوند، وهو اتحاد عام للعمّال اليهود في بولندا وليتوانيا وروسيا، تأسّس في العام 1897، والذي، على الرغم من توجّهه الإلحادي والمناهض للإكليروس والاشتراكي بشكل أساسي، كان قائماً على إعادة التجميع لطائفة معيّنة.

أخيراً، كان يتقرّب مالكولم إكس، الذي ظل مُخلصاً لقناعاته الدينية، من اليسار خصوصاً في نهاية حياته. ولم يتردّد في انتقاد الحكّام المسلمين في مقابلة معه في العام 1965 واتهمهم بإبقاء الناس عمداً، ولا سيما النساء، في الجهل. وأضاف أيضاً أن حالة تقدّم المجتمع تقاس بوضع المرأة، مشيراً إلى أنه «كلما ازداد تعليم النساء وإشراكهن […] كلما كان الشعب أكثر نشاطاً وتنويراً وتقدمياً».

يجب علينا أيضاً رفض الادعاءات المعادية للإسلام بأن جذور داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها من الحركات الأصولية يمكن العثور عليها في القرآن. يجب تحليل هذه المجموعات وأفعالها على أنها نتاج للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحلية والدولية في عصرنا الحالي، وليست نتاج نص مكتوب منذ أكثر من 1400 عام.

هل نحلل الغزو الأميركي للعراق من خلال المعتقدات الدينية لجورج بوش (الذي قال إنه سمع في المنام أن الله يقول له إن لديه مهمّة وأنه يجب غزو العراق)؟ بالطبع لا. بدلاً من ذلك، نفسّر حرب بوش ودوافعها وتبريرها الأيديولوجي على أنها نتاج للإمبريالية الأميركية.

لذلك من الضروري للماركسيين تحليل الجماعات الأصولية الإسلامية من خلال دراسة الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة التي تنتجها وبرامجها كمحاولة لتقديم حلول رجعية لمشاكل المجتمع الحقيقية. في مقالته «موقف حزب العمّال من الدين»، الذي كتبه في العام 1909، قال الثوري الروسي فلاديمير لينين «إننا كماركسيين يجب أن نشرح مصدر إيمان ودين الجماهير بطريقة مادية». ومضى يكتب أنه إذا لم نتعامل مع هذه المهمة، فلن يكون لدينا وجهة نظر مختلفة عن الطبقات البرجوازية، التي تتهم الجماهير بالجهل، لتفسير ظاهرة الإيمان الديني. تؤدّي مثل هذه المقاربات اليوم إلى إضفاء الطابع الأساسي «الآخر»، في هذه الحالة «المسلم».

جذور الأصولية الإسلامية

وبالطبع، فالأصولية الدينية، لا تقتصر على الدين الإسلامي، ويمكننا أن نرى عدة عناصر مشتركة بين مختلف الحركات الأصولية الدينية، في جميع أنحاء العالم. لقد رأينا تطور تيّارات سياسية مماثلة مثل الأصولية المسيحية والأصولية الهندوسية والأصولية اليهودية في إسرائيل، وكلّها لها تيّارات سياسية يمينية خاصة بها. ومن المهمّ أن نلاحظ، مع ذلك، أنه على الرغم من الدعوة للعودة إلى عصر سابق، لا ينبغي النظر إلى الأصوليات كعناصر متحجّرة من الماضي. ففي حين تستخدم الأصوليات الرموز والروايات من فترات سابقة، هي موجودة بيننا، حيّة وديناميكية وتمثّل الاتجاهات الكبرى المعاصرة، وتهدف إلى تلبية الاحتياجات الثقافية. إن انتشار هذه المجموعات يجب أن يُفهَم بشكل كامل في السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفترة المعاصرة.5

ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ كذلك أن الحركات الأصولية والمحافظة، في جميع أنحاء العالم، قد دعمت فعلياً السياسات النيوليبرالية بالتلازم مع دعوتها لزيادة العمل الخيري، الأمر الذي دفع بعض الأكاديميين إلى الحديث عن «تحالف سلس بين النيوليبراليين والأصوليين الدينيين»، أو ما يمكن وصفه «بـالنيوليبرالية الدينية».6

نشأت الأصولية الإسلامية من الظروف السياسية والاقتصادية المحدّدة للشرق الأوسط، حيث كان للقوى الإمبريالية تأثير جوهري ومستمر على الدول والاقتصاد السياسي في المنطقة. بعد اكتشاف النفط في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في دول الخليج، ولا سيّما المملكة العربية السعودية، رأت القوى الإمبريالية كيف يمكن للمنطقة أن تؤدّي «دوراً حاسماً محتملاً في تحديد ثروات الرأسمالية في مقياس عالمي»، كما يقول آدم هنية.7

لعبت القوى الإمبريالية الغربية، ولا سيّما الولايات المتحدة، دوراً رئيسياً في تشكيل الدول الريعية في المنطقة، وخصوصاً الممالك الخليجية، مثل المملكة العربية السعودية، التي تولد دخلاً هائلاً من بيع نفطها وغازها الطبيعي لتكتلات النفط العالمية. منذ الثمانينيات، تبنّت هذه الدول نموذجاً نيوليبرالياً يركّز على الاستثمار المضارب في السعي لتحقيق أرباح قصيرة الأجل في قطاعات الاقتصاد غير المنتجة، وخصوصاً العقارات.

استخدمت الولايات المتّحدة شراكتها الاستراتيجية مع إيران (حتى الإطاحة بالشاه في العام 1979) وإسرائيل والمملكة العربية السعودية للسيطرة على المنطقة. لقد دعمهم لمواجهة الأنظمة القومية العربية مثل مصر في عهد جمال عبد الناصر، والحركات الشيوعية واليسارية في المنطقة، والعديد من النضالات الشعبية والوطنية، التي كانت تهدف عموماً إلى مزيد من السيادة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال لبلدانهم ضد الهيمنة الإمبريالية. ضمن هذا الإطار، عزّزت وموّلت المملكة العربية السعودية العديد من الحركات الأصولية الإسلامية السنية، ولا سيّما جماعة الإخوان المسلمين، لمواجهة القوميين واليسار.

قامت الولايات المتّحدة، بمساعدة حلفائها في المنطقة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وباكستان، بضخّ مليارات الدولارات في تدريب وتسليح المقاتلين والجماعات الإسلامية الأصولية منذ العام 1979. لقد دعموا مثل هذه الجماعات في أفغانستان في محاولة لإضعاف عدوهم في الحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي. نشأ تنظيم القاعدة من اجل هذه العملية. ساعدت الإمبريالية الأميركية في تشكيل الجناح الأكثر تطرفاً للأصولية الإسلامية الذي ينقلب فيما بعد ضد واشنطن.

استخدمت إسرائيل استراتيجية مماثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ولا سيما في قطاع غزة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، من خلال قمع القوى الوطنية والتقدّمية لمنظّمة التحرير الفلسطينية، ومع السماح بتوسّع الحركات الأصولية الإسلامية المتنافسة. حفّزت الإطاحة بنظام الشاه أثناء الثورة الإيرانية وما تلاها من إنشاء جمهورية إيران الإسلامية في العام 1979 الحركات الأصولية الشيعية في المنطقة.

فتحت أزمة الأنظمة القومية العربية المجال السياسي لتطوّر الحركات الأصولية. تخلّت مصر ودول أخرى عن سياساتها الاجتماعية الراديكالية والمعادية للإمبريالية لسببين رئيسيين. أولاً، تعرّضوا لهزيمة ساحقة من إسرائيل في العام 1967. ثانياً، بدأت أساليبهم في تطوير رأسمالية الدولة في الركود. ونتيجة لذلك، اختاروا التقارب مع الدول الغربية وحلفائهم الخليجيين واعتنقوا النيوليبرالية، ووضعوا حدّاً للعديد من الإصلاحات الاجتماعية التي أكسبتهم شعبية بين قطاعات العمّال والفلاحين. كما انقلبت الأنظمة على الحركة الوطنية الفلسطينية الساعية للتسوية مع إسرائيل. في الوقت نفسه، دعمت جميع الأنظمة العربية والقومية الأخرى، كما هو الحال في تونس، عن طيب خاطر الحركات الأصولية الإسلامية أو سمحت بتطويرها ضد الجماعات اليسارية والقومية. في مصر، على سبيل المثال، بعد وفاة عبد الناصر في العام 1970، أقام النظام الجديد بقيادة أنور السادات تحالفاً ضمنياً مع الإخوان المسلمين ضد القوى القومية والتقدّمية في البلاد.

كان آخر تطوّر مهمّ أدّى إلى صعود الأصولية هو التنافس السياسي المتزايد بين المملكة العربية السعودية وإيران. استخدمت كل دولة أصولها الطائفية كأداة لتحقيق أهدافها المضادة للثورة. لقد استخدموها في المقام الأول لصرف الطبقات الشعبية عن أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعندما تم تحدّيهم من قبل حركات المعارضة الشعبية، حاولوا تقسيمها وقهرها وفق الانقسامات الطائفية. ثانياً، لقد استخدموا الأصولية الدينية لحشد الدعم في كلّ من بلادهم وفي كتل خصومهم لزيادة قوّتهم في المنطقة. هذه هي الظروف المادية التاريخية الحديثة التي ولّدت الأصولية الإسلامية السنية والشيعة.

القاعدة الطبقية للأصولية الإسلامية

القاعدة الاجتماعية التاريخية للأصولية الإسلامية منذ فجر القرن العشرين هي البرجوازية الصغيرة. بالطبع، للتشكيلات الأصولية في كلّ بلد تاريخها الخاص، لكنها تشترك جميعها في جذورها في عناصر مختلفة من البرجوازية الصغيرة. في مصر، على سبيل المثال، تطوّرت بين العناصر الريفية من هذه الطبقة التي انتقلت إلى المدن في ظل التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية في الستينيات والسبعينيات. وبمجرّد أن تحوّلت إلى المدن في الثمانينيات والتسعينيات، أصبحت قيادتها تميل إلى أن تأتي من طبقات مهنية مثل الأطباء والمهندسين والمحامين. جاء عدد متزايد من أعضاء الإخوان المسلمين خلال هذه الفترة من الشباب المتعلّم الذين تركوا من دون فرص مستقبلية من خلال تبنّي الأنظمة لليبرالية الجديدة.8

على غرار البرجوازية الصغيرة بشكل عام، تنجذب المنظمات الأصولية الإسلامية في اتجاهين – نحو التمرّد على المجتمع القائم ونحو التسوية معه. في كلتا الحالتين، فإن مشروعهم الرجعي لا يقدّم أي حل لقطاعات الفلاحين والطبقة العاملة الذين ينجذبون إليه. تسعى الأحزاب الأصولية الإسلامية إلى إعادة تأسيس الأمة، كيان ديني سياسي يجمع كلّ المسلمين ويتجاوز الانقسامات التي تفرّقهم اليوم. لذلك فإن الصراع الطبقي يعتبر أمراً سلبياً لأنه يقسّم الأمة.

بمرور الوقت، عمد قادة البرجوازية الصغيرة في الحركات الأصولية إلى تعميق روابطهم مع البرجوازية، حتى وهم يحاولون الحفاظ على قاعدة دعمهم في مختلف الطبقات الاجتماعية. لعبت المملكة العربية السعودية دوراً رئيسياً في هذه العملية. لقد وفرت المملكة العربية السعودية لأعضاء الإخوان المسلمين المصريين والمجموعات الأخرى وصولاً متميزاً إلى الأعمال والفرص المهنية خلال طفرة النفط في السبعينيات والثمانينيات، ممّا أدّى إلى تسريع عملية إعادة تأهيل الحركة الأصولية. وبدأ المزيد من الرأسماليين في لعب دور قيادي في الحركة. حدّدت المخابرات المصرية نحو 900 شركة تنتمي إلى أعضاء الإخوان المسلمين في البلاد قبل الانتفاضة الشعبية في العام 2011.9

في لبنان، شهد حزب الله تحوّلاً مماثلاً. في الأصل، كان لديه قيادة وكوادر مأخوذة بغالبية ساحقة من البرجوازية الصغيرة التي اجتذبت قاعدة اجتماعية شعبية بين الطبقات المتوسّطة والفقيرة من الشيعة اللبنانيين. بمرور الوقت، أصبحت شريحة شيعية من البرجوازية في لبنان والشتات مؤثّرة بشكل متزايد في الحزب. يتمتّع حزب الله الآن بقاعدة دعم كبيرة بين رجال الأعمال اللبنانيين الشيعة وكذلك بين الطبقات الوسطى العليا، لا سيّما بين المهن الليبرالية (المحامون والأطباء والمهندسون المعماريون ، إلخ …).

تفسر مصادر التمويل البرجوازية المتزايدة سبب دعم الأصوليين للنظام الرأسمالي ونظام التراكم النيوليبرالي الحالي. إنهم يتلقّون تبرّعات كبيرة ليس من دول مختلفة فحسب، ولكن أيضاً تبرّعات دينية خاصة (الزكاة)، وشبكات خاصّة تتكوّن من قطاعات برجوازية وشركات صغيرة في المجتمع. على سبيل المثال، يتلقّى حزب الله تمويلاً هائلاً من إيران وكذلك من البرجوازية الشيعية اللبنانية والبرجوازية الصغيرة. كما يتلقّى «تبرعات من أفراد وجماعات ومتاجر وشركات وبنوك بالإضافة إلى نظرائهم في دول مثل الولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية وأوروبا وأستراليا. من خلال عملية الترقية، يمتلك حزب الله العشرات من محلات السوبر ماركت ومحطّات الوقود والمتاجر والمطاعم وشركات البناء ووكالات السفر».10 توجد ديناميكيات مماثلة في فروع معيّنة من الإخوان المسلمين. كل هذه العناصر تشجع اندماج الأصوليين في النظام القائم.

إن التوترات بين القيادة البرجوازية المتزايدة للأصوليين من ناحية وقاعدتها الاجتماعية في القطاعات البرجوازية الصغيرة والفقيرة من الفلاحين والطبقات العاملة من ناحية أخرى، أنتجت تناقضات في برامج وأنشطة سياسية للحركات الأصولية الإسلامية. فمن ناحية، تصرّح هذه المنظّمات بالتزام بالمساواة والعدالة الاجتماعية وتتعامل معها بشكل أساسي عبر تدابير من فوق من خلال المشاريع الخيرية. ومن ناحية أخرى، فإنها تدافع عن المبادئ الاقتصادية النيوليبرالية وتدين الحركات الاجتماعية من أسفل، وخصوصاً الحركات النقابية.11

تمرّ هذه التناقضات مباشرة من خلال نظرية وممارسة الأصولية. على سبيل المثال، جادل مؤسّس الإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السباعي بأن اشتراكية الإسلام تؤدي بالضرورة إلى تضامن الفئات الاجتماعية المختلفة وليس إلى الحرب الطبقية مثل الشيوعية».12 يقترح كتابه «اشتراكية الإسلام» الصادر في العام 1959 فكرة أن المساواة الاجتماعية يمكن تحقيقها من خلال مناشدة الالتزام الأخلاقي للفرد بالتبرّع للفقراء بدلاً من الإصلاحات الحكومية والاجتماعية، مثل الضرائب التصاعدية، والتأميم وإنشاء برامج دولة الرفاهية. ومع ذلك، كانت رؤية السباعي للاشتراكية الإسلامية مناورة بلاغية بحتة مرتبطة بالتأثير المتزايد للبعثيين والشيوعيين في البلاد.13

مع تراجع تأثير القومية العربية واليسار، تخلّى المفكّرون الأصوليون الإسلاميون في الوقت نفسه عن مثل هذا الخطاب الراديكالي، وأكّدوا بشكل متزايد أنّ حل مشكلة الفقر يكمن في العودة إلى القيم والتقاليد الإسلامية. قال راشد الغنوشي، رئيس الفرع التونسي لجماعة الإخوان المسلمين، حركة النهضة، على سبيل المثال: نحن بحاجة إلى التأكيد على أن الفقر، في نظر الإسلام، يرتبط بالكفر». مضيفاً: «أننا (الحركات السياسية الإسلامية) الضمانة لنظام اجتماعي خاص ولنظام اقتصادي ليبرالي».14 ومؤخراً، أعلن الغنوشي أن «الاستثمار الأجنبي مرحّب به في تونس، ويجب على الشركات تحقيق الأرباح، وأحياناً تكون النقابات مُفرطة في مطالبها، ومن بينها الاتحاد العام التونسي للشغل». بالفعل، فقد اتهم الغنوشي الاتحاد العام التونسي للشغل بأنه من تركة الاستعمار الفرنسي، وليس مؤسّسة طبيعية للمجتمع الإسلامي.

يمكن العثور على اتجاه مماثل بين الشخصيات والحركات الأصولية الإسلامية الشيعية. على سبيل المثال، خلال الثورة الإيرانية، قدّم الخميني الإسلام من خلال عدسة العدالة الاجتماعية، مدح الفقراء المضطهدين، وأدان الأغنياء، سكان القصور الجشعة ورعاتهم الأجانب. استخدم هذا الخطاب لتعبئة الطبقات الشعبية الحضرية ضد نظام الشاه في وقت كان فيه تأثير التيّارات اليسارية كبيراً.

بعد ترسيخ النظام الإسلامي الجديد على يد الخميني وحركته وقمع حركات اليسار المتنافسة، تخلّى القائد الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية عن خطاب المساواة ووصف السوق الحرّة بأنها ركيزة أساسية للمجتمع ومن أجل تمجيد الملكية الخاصة. وحوّل تعريفه لـ«المضطهد» من فئة اقتصادية تضمّ الجماهير الفقيرة، إلى تسمية سياسية لمؤيدي النظام الجديد، بمن فيهم تجار البازار الأثرياء.15 وشدّد على أن النظام يسعى لعلاقات منسجمة بين أصحاب المصانع والعمّال وبين الملاك والفلاحين. بل إن النظام حكم بأن الإصلاح الزراعي يجب ألا يحدّ من الملكية، لأن مثل هذه القيود من شأنها أن تنتهك حقوق الملكية الخاصة المقدّسة المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.

النيوليبرالية والخيرية

لقد دعمت الحركات الأصولية الإسلامية السياسات النيوليبرالية وأنشأت جمعيات خيرية لملء الفراغ الذي خلّفه تدمير برامج وخدمات دولة الرفاهية الاجتماعية. إنهم يستخدمون الجمعيات الخيرية لكسب ولاء قطاعات من الطبقات الشعبية لمشروعهم الرجعي. ربما تكون حركة الإخوان المسلمين المصرية أفضل مثال على مثل هذه السياسة. وقد ذهب حسن مالك، وهو رجل أعمال، وقيادي في جماعة الإخوان المسلمين، إلى حد القول في العام 2012 إن المبادئ التوجيهية للسياسات الاقتصادية، في ظل مبارك، كانت سليمة وعلى الطريق الصحيح، ولكن الفساد والمحسوبية أضر في تنفيذها. اعترافاً بحليف محتمل، نظّم بنك القاهرة الاستثماري، المجموعة المالية- هيرميس، اجتماعاً في حزيران/ يونيو 2011 بين 14 صندوق استثمار دولي مع خيرت الشاطر، النائب الأول للمرشد الأعلى للإخوان المسلمين في ذلك الوقت. زعم المستثمرون أنهم «فوجئوا بشكل إيجابي عندما اكتشفوا أن بعض الأفكار التي تشاركها حركة الإخوان المسلمين هي في الأساس رأسمالية بطبيعتها». علاوة على ذلك، كفل الشاطر بالمثل التزامات منظّمته برأسمالية السوق الحرّة في اجتماع مع السناتور الجمهوري ليندسي غراهام، إلى جانب مجموعة من المشرّعين الجمهوريين في الغالب. كما عزّز الدستور الذي أقرّه الإخوان المسلمين والجمعية التأسيسية التي يهيمن عليها السلفيون في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وصوّت عليه في 23 كانون الاول/ ديسمبر بنسبة 64% من الأصوات (33% من إقبال الناخبين) رؤية نيوليبرالية للاقتصاد، ولا سيما من خلال تضمين المادة  14 «ربط الأجور بالإنتاجية»، وحظر إنشاء النقابات العمّالية المستقلة وربط النقابات الرسمية بـ «واحدة لكل مهنة» (المادة 53)، وتسهيل اللوائح القانونية المتعلقة بالحق في الإضراب (المادة 63)، وتقليص التزام الدولة الراسخ لتوفير رعاية صحية مجانية للجميع من خلال اقتراح تعهد بتقديم رعاية مجانية فقط «لأولئك الذين لا يستطيعون الدفع» (المادة 62).

كما دعم حزب الله اللبناني باستمرار سياسات السوق الحرّة والملكية الخاصة، بينما أعلن بشكل خطابي التزامه بأهداف العدالة الاجتماعية. لقد دعم حزب الله سياسات مثل الخصخصة والتحرير الاقتصادي والانفتاح على رأس المال الأجنبي. لا تتعارض الحركة الإسلامية اللبنانية مع هذه السياسات بأي شكل من الأشكال على الرغم من التزامها المزعوم بالمساواة الاجتماعية وإفقار الطبقات الشعبية التي تولّدها هذه السياسات.

استخدم الأصوليون الجمعيات الخيرية لمحاولة الحدّ من التأثير الاجتماعي للنيوليبرالية. على الرغم من أن هذه المنظمات لا تستطيع التغلّب على مشكلة الفقر، فقد استخدمها الأصوليون لتحقيق شكل من أشكال الهيمنة في قطاعات معيّنة من الطبقة العاملة. لم يتردّدوا في عقد صفقات مع الأنظمة القائمة لتخصيص الأموال لجمعياتهم الخيرية التي تروِّج للمبادئ الإسلامية الأصولية.16 في مصر، عندما قلّل النظام من قدرة وخدمات دولة الرفاهية، استخدم الإخوان المسلمين شبكاتهم الواسعة من الجمعيات الخيرية لنشر مبادئهم الأصولية بين الطبقات الشعبية.

في الوقت نفسه، اكتسب حزب الله مكانة قيادية بين السكّان الشيعة في لبنان من خلال مزيج من الموافقة والإكراه، وحصل على دعم واسع في قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية الشيعية من خلال توفير الخدمات الاجتماعية اللازمة، ومن جهة أخرى قمع من تحدّوا معاييرها الأخلاقية وإملاءاتها السياسية. كما أنه جمع الموافقة والإكراه في السيطرة على المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل. وهكذا نجح حزب الله، بإيديولوجيته الأصولية، في أن يصبح القوة المُهيمنة بين الشيعة في لبنان.

قوّة الثورة المضادة

استخدمت القوى الإمبريالية والإقليمية الأصوليين الإسلاميين لزيادة نفوذهم وتقليل نفوذ خصومهم في الشرق الأوسط. لقد دعمت إيران حزب الله في لبنان والمنظمات الإسلامية الشيعية الأصولية مثل حزب الدعوة في العراق. دعمت المملكة العربية السعودية جماعة الإخوان المسلمين حتى العام 1991، ثم العديد من الحركات السلفية بعد انحياز العلاقات مع غالبية حركات الإخوان المسلمين. حلّت قطر محل المملكة العربية السعودية باعتبارها الدعامة الأساسية للإخوان المسلمين بعد العام 1991، مع تمويل منظّمات سلفية أخرى. هذه الدول الرأسمالية لا تدعم الأصوليين لأسباب دينية، ولكن كوسيلة لزيادة قوتهم الإقليمية، وإضعاف خصومهم، واختطاف أو قمع الحركات الاجتماعية الديمقراطية من أسفل.

على سبيل المثال، استخدمت قطر جماعة الإخوان المسلمين في خلال الانتفاضات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة. لقد اعتبرت الدوحة الإخوان المسلمين بديلاً آمناً للهياكل المتدهورة للأنظمة القديمة. كانت قطر تأمل في استبدال الديكتاتوريين السابقين بحليف أصولي مؤيّد للرأسمالية. كانت مملكة قطر تأمل في استقرار المنطقة مع جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من التنظيمات الأصولية بعد الانتفاضات الشعبية وتوسيع دورها الإقليمي على حساب القوى الخليجية الأخرى مثل السعودية والإمارات. تفسِّر هذه التنافسات التوترات بين هذه الأنظمة الملكية.

كما دعمت القوى الإمبريالية الحركات الأصولية لأغراضها الخاصة. فضّلت الولايات المتحدة انتخاب قوى إخوان المسلمين للحكومة في مصر وتونس في بداية الانتفاضات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، معتبرة إياها وسيلة لتحقيق الاستقرار والحفاظ على النظام الحالي في ظل قيادة جديدة. لقد رأتها واشنطن في كلمات جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا تانكريدي في عمله «الفهد»: «إذا أردنا أن يبقى كل شيء كما هو، يجب أن يتغير كلّ شيء».

كانت الولايات المتّحدة تأمل في أن تحذو جماعة الإخوان المسلمين حذو حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب أردوغان في تركيا. نظام أردوغان مؤيّد للرأسمالية، ويتعاون أحياناً مع الإمبريالية الأميركية، وبالتأكيد لا يتحدّاها بعنف، ويظل عضواً قوياً في الناتو. لكن حزب العدالة والتنمية يختلف عن جماعة الإخوان المسلمين في عدة نواحٍ مهمّة. إنه ليس حزباً أصولياً إسلامياً، بل هو حزب محافظ وقومي وسلطوي. وهكذا، في سنواته الأولى في السلطة قبل حملاته القمعية بعد محاولة الانقلاب في 2016 من قبل جزء صغير من الجيش، تمكّن حزب العدالة والتنمية من الحصول على دعم بعض القطاعات الليبرالية وحتى اليسارية في المجتمع لجهودها للحدّ من قوة الجيش في البلاد.

كما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في وضع غير ثوري وتمكّن، على الأقل لبعض الوقت لسنوات الطويلة، من إقامة هيمنة سياسية مستقرّة نسبياً على البلاد. نتيجة لهذه الاختلافات، لم يتمكّن الإخوان المسلمون في مصر وتونس من استبدال الأنظمة القديمة أو الحصول على شكل من أشكال الهيمنة بين الطبقات الشعبية. ومع ذلك، من المهم أن الولايات المتّحدة نظرت إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنها حل ممكن لتحقيق الاستقرار في الدول التي تهدّدها الثورة في تونس ومصر.

لا «فاشية إسلامية»

أدّى صعود الأصولية الإسلامية إلى مناقشات محتدمة بين الاشتراكيين الثوريين حول كيفية توصيفها ومواجهة هذه الحركات. وصف بعض الاشتراكيين مثل الماركسي المصري سمير أمين الاتجاهات المختلفة للأصولية الإسلامية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، بـ «الفاشيين الإسلاميين».

يرى أمين أن برنامج الإسلام السياسي ينتمي إلى نوع الفاشية الموجود في دول معتمدة. في الواقع، إنها تشترك مع جميع أشكال الفاشية في خاصيتين أساسيتين: (1) غياب رفض الجوانب الأساسية للنظام الرأسمالي (وفي هذا السياق، هذا لا يجادل في نموذج التطور المتراكم المرتبط بامتداد الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة)؛ و(2) اختيار الأشكال المعادية للديمقراطية والقمعية للإدارة السياسية (مثل حظر الأحزاب والتنظيمات والأسلمة القسرية للأخلاق).

هذا التعريف عام لدرجة أنه يمكن تطبيقه على العديد من الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، بما في ذلك ما يُسمى بالأنظمة العلمانية، التي تدير اقتصادات ريعية وتدافع عن السياسات الدينية المحافظة متل بشار الأسد. على هذا النحو، فإن هذا التعريف لا يساعد في تفسير الفاشية أو الأصولية الإسلامية. الفاشية أكثر تحديداً من تعريف أمين. تاريخياً، ظهرت الفاشية ضمن البرجوازية الصغيرة في خلال فترة أزمة اجتماعية عميقة. إنها تهدف إلى حماية البرجوازية الصغيرة (أو على نطاق أوسع «الطبقة الوسطى») ضدّ الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الرأسمالي: تلك المرتبطة برأس المال الكبير (على أي حال لأي مشروع أولي للفاشية) والطبقة العاملة. بينما يمكن أن تتبنّى الخطاب المعادي للرأسمالية في أي لحظة، فإن هدفها الرئيسي هو بناء حركة شوارع جماهيرية لسحق الطبقة العاملة ومنظّماتها، وخنق الحرّيات السياسية بشكل عام، وتعيين كبش فداء و/ أو قمع الشعوب المضطهدة.

الأصولية الإسلامية ليست شكلاً من أشكال الفاشية. كما يوضح جيلبرت الأشقر:

«التشابه مع الفاشية يتجاهل الاختلافات الرئيسية بين التيارين ويركّز فقط على خصائص تنظيمية معينة مشتركة لأحزاب مختلفة للغاية على أساس التعبئة الجماهيرية والتلقين، بما في ذلك التقليد الستاليني. على عكس الفاشية التاريخية، لم تظهر الإخوان المسلمين في البلدان الإمبريالية كرد فعل على حركة عمّالية تتحدّى الرأسمالية ولتجسيد نسخة أقسى من الإمبريالية».17

على سبيل المثال، تأسّست جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 1928 كردّ فعل على انهيار الإمبراطورية العثمانية، والاحتلال البريطاني، وانتشار الأيديولوجيات والمنظّمات العلمانية، والتأثيرات الثقافية الأجنبية.18 انتشرت الحركات الأصولية الإسلامية الشيعية من النجف بالعراق عبر شبكة رجال دين عابرة للحدود بهدف معارضة الإيديولوجيات والمنظّمات العلمانية والشيوعية. هذه العناصر مختلفة تماماً عن الفاشية الأوروبية.

بالإضافة إلى ذلك، تهدف الحركات الأصولية الإسلامية عموماً إلى توحيد الأمة بغضّ النظر عن الحدود الإقليمية والعرقية. كما يشيرون إلى و/ أو يريدون استعادة نظام سياسي مُحيِّر في الماضي: الخلافة.19 وهذا تناقض واضح مع الحركات الفاشية التي تريد تعريف الأمة بمصطلحات عرقية وبناء نظام جديد وحضارة جديدة.

الفاشية هي أيضاً توصيف غير دقيق للجماعات الجهادية مثل داعش والقاعدة. بالطبع، هذه جماعات عنيفة  وطائفية، ولها نظرة شمولية سلطوية للمجتمع. ومع ذلك، فهي مختلفة تماماً عن الفاشية في أصلها وطبيعتها. ظهر تنظيم القاعدة على أنه نتاج دعم سعودي وأميركي وباكستاني للمقاتلين الأصوليين ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان. وفي وقت لاحق، انقلبت القاعدة على الولايات المتحدة.

وُلدت الدولة الإسلامية (داعش) من الاحتلال الأميركي للعراق. لقد انبثقت عن القاعدة، وقاتلت، نسبياً، الاحتلال الأميركي، ولكنّها قاتلت خصوصاً السكان الشيعة. وانتشرت فيما بعد إلى سوريا حيث حاولت إقامة خلافة إسلامية سنية. هذه التشكيلات هي نتائج الإمبريالية والثورات المضادّة في الشرق الأوسط.

لا تتمتّع الحركات الجهادية بالخصائص النموذجية للفاشية. إنهم لا يحاولون بناء حركات جماهيرية. لم يحرّك داعش ولا جبهة النصرة، المنتسبان رسمياً سابقاً لتنظيم القاعدة،20 مظاهرات حاشدة أو، في الواقع، نفّذا نضالات شعبية من طبقات مختلفة، حتى عندما تمت مواجهة هذه الحركات للمعارضة الشعبية لسياساتهم الرجعية.21 إنها تعمل في الأساس كجيش أو شبكة إرهابية وليس كحركة سياسية جماهيرية ذات جناح مسلّح.

بناءً على هذا التعريف الخاطئ للأصولية على أنها فاشية، دعم أمين وآخرون بشكل كارثي الأنظمة القديمة في المنطقة. يفعلون ذلك على أمل أن تكبح الأنظمة القديمة نفوذ و/ أو تقدّم الأصوليين. أدّى ذلك إلى نتائج كارثية، لا سيّما في مصر، حيث أيّدت قطاعات كثيرة من اليسار انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي ضدّ قوة الإخوان المسلمين، أو حتى شاركت في الحكومة المؤقّتة بعد الانقلاب اعتباراً من تموز/يوليو 2013.22 كما كان متوقعاً، أدّى صعوده إلى السلطة حتى اليوم إلى حملات كاسحة من القمع وإنكار الحقوق الديمقراطية والحريات المدنية – ليس فقط لأعضاء الإخوان المسلمين، ولكن لأي شخص آخر، بما في ذلك الثوّار العلمانيين.

بالمثل، دعم العديد من الأفراد والمنظّمات اليسارية نظام بشار الأسد باعتباره البديل الوحيد ضد القاعدة وداعش. وهكذا خانوا الثورة السورية وأصبحوا مدافعين عن الثورة المضادّة للنظام التي لم تستهدف داعش أو القاعدة في السنوات الأولى للثورة، بل الثوّار، ممّا أدّى إلى تدمير البلاد في هذه العملية. إن الدعم الضمني أو الصريح من أمين وآخرين للدكتاتوريين مثل السيسي والأسد يوفّر لهم غطاءً يسارياً لتقييد وإغلاق مساحة تنظيم القوى الديمقراطية والتقدمية. والأسوأ من ذلك، أنه يعطي غطاء يسارياً لتبرير النظام في قمعه و«الحرب على الإرهاب» وضد «التطرف»، وإعادة تأهيل الأساس المنطقي الرئيسي للإمبريالية الأميركية في سياسات الحرب العالمية.

لا يجب أن  يختار الاشتراكيون بين قطبي الثورة المضادة، ولا سيما القطب الرئيسي، الأنظمة القديمة. وبدلاً من ذلك، يجب على اليسار معارضة الديكتاتوريات وثورتهم المضادة والدفاع عن الحقوق الديمقراطية. على اليسار، حتى لو رفض الدعم السياسي للإخوان المسلمين، أن يعارض حملة السيسي القمعية. لماذا؟ لأن السيسي استخدم، وسيواصل، هجماته على جماعة الإخوان المسلمين كسابقة للحدّ من حقّ الجميع في التنظيم، بما في ذلك القوى التقدّمية والديمقراطية. وبالتالي، فإن الدفاع عن الحقوق الديمقراطية للجميع، بما في ذلك الحركات الأصولية الإسلامية «التدريجية» مثل جماعة الإخوان المسلمين ضدّ قمع الدولة، هو الدفاع عن حقوق الحركات الاجتماعية والنقابات والطبقات الشعبية واليسار.

مثلما يجب على الاشتراكيين معارضة الحروب التي تشنّها الدول من أجل أهداف إمبريالية واستعمارية وسلطوية، مع الحفاظ على الحقّ في مقاومة الإمبريالية بغض النظر عن أيديولوجية الفاعلين الذين يشنّونها. على سبيل المثال، في حالة الحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان وقطاع غزة في الماضي، يجب على الاشتراكيين الوقوف متضامنين مع الشعبين ودعم الحق في المقاومة، بما في ذلك من خلال حركات مثل حزب الله وحماس.

عدم القيام بذلك يعني الوقوف مع الظالم ضدّ المظلوم. ولكن، سواء في حالة معارضتنا للقمع أو الدفاع عن حقّ المقاومة، لا ينبغي أن يترجم هذا إلى خلق أوهام، ولا دعم لمشروع التشكيلات الأصولية الإسلامية وبرنامجها السياسي.

يجب على الاشتراكيين أن يفهموا أن الوقوف إلى جانب الأنظمة القديمة لن يتحدّى الأصولية الإسلامية، بل سيحافظ على الظروف التي أوجدتها الإمبريالية والدكتاتورية والنيوليبرالية، والتي أدّت إلى تطوّرها. لا يمكننا تهميش الحركات الأصولية الإسلامية إلّا من خلال بناء الحركات اليسارية والاجتماعية من أجل التغيير الاجتماعي التقدّمي. لذلك يجب على الاشتراكيين أن يتّحدوا مع الجماعات الديمقراطية والتقدّمية على الأرض التي تكافح من أجل إسقاط الأنظمة الاستبدادية، وبناء بديل للأصوليين الإسلاميين، وهزيمة النيوليبرالية والتفاوتات الطبقية والقمع الاجتماعي والطائفية والتمييز على أساس الجنس التي تروِّج لها هذه الحركات. في الوقت نفسه، يجب أن نعارض كل التدخّلات المضادة للثورة من قبل جميع القوى الإقليمية والإمبريالية.

لا «إصلاحية»

إن تصنيف الأصولية الإسلامية على أنها فاشية ودعم الأنظمة القائمة لن يؤدي إلّا إلى انتكاس وتأخير مشروع بناء يسار تقدمي ومستقل. حاولت أقلية يسارية تقديم بديل لهذا الرأي من خلال وصف المنظّمات الأصولية الإسلامية بأنها إصلاحية وحتى معادية للإمبريالية. في هذا الرأي، يمكن لليسار أن يتعاون مع المنظّمات الأصولية الإسلامية في جبهات موحّدة، في ظل ظروف معينة. يصفها جاد بوهارون بأنها قوة  إصلاحية، بينما يؤكّد في الوقت نفسه أنها ليست إصلاحية بالمفهوم الماركسي الكلاسيكي للمصطلح، ولا يمكن مقارنتها بالديمقراطيات الاجتماعية الأوروبية.

ومع ذلك، فهو يستخدم مصطلح «الإصلاحي» بطريقة مرنة نوعاً ما تقلّل من الطابع الرجعي لمشروع الإخوان المسلمين. وبالتالي، يجادل بأنهم إصلاحيون بقدر ما يعدون أنصارهم وأعضائهم بتغيير حقيقي من خلال الإصلاحات المؤسّسية للدولة القائمة. ويصف كلا من الإخوان المسلمين والناصريين اليساريين بأنهم «إصلاحيون مؤسّسيون»

كما ترفض آن ألكساندر التشبيه بالديمقراطية الاجتماعية. على سبيل المثال، تجادل هي والآخرين:

«لم يجادل قطّ بأن حركة الإخوان المسلمين لديها برنامج أو قاعدة حزبية اجتماعية ديمقراطية. إن إصلاحية الإخوان المسلمين هي تعبير عن التناقضات الاجتماعية الداخلية التي تجرها باستمرار بين المواجهة والتسوية مع النظام، غالباً على الرغم من إرادة قيادته».

ضمن السياق نفسه، أقامت ألكسندر المقارنة التالية بين الرئيس الاشتراكي السابق ألليندي ومرسي: «بالطبع، كرّر مرسي خطأ سلفادور ألليندي الذي عيَّن الرجل الذي سيطيحه. والاشتراكيون الديمقراطيون الإصلاحيون يكرِّرون هذه الأشياء، والأسوأ، [يحصل ذلك] في خلال ذروة الاستقطاب الطبقي والنضال».

أولئك اليساريون الذين يصفون جماعة الإخوان المسلمين بالإصلاحيين قارنوها مراراً وتكراراً بالأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. فيل مارفليت، على سبيل المثال، يدعي أن برنامجها السياسي في العام 2011 كان له صدى:

«برنامج الديمقراطية الاجتماعية موجود في جميع أنحاء العالم – باستثناء الإشارة إلى الزكاة والوقف. كان من الممكن أن يكون هذا البرنامج برنامجاً إصلاحياً تروِّج له الأحزاب السياسية في جميع أنحاء أوروبا».23

وهكذا، فإن الاشتراكيين الذين يصفون التيّارات الأصولية التدريجية على أنها إصلاحية يستخدمون المصطلح ببطء، وينكرون التشابه مع الديمقراطية الاجتماعية بينما يستخدمونه بشكل متكرّر. في الواقع، كان برنامج الإخوان المسلمين لعام 2011 بعيداً عن الديمقراطية الاجتماعية. كان نيوليبرالياً. إن المقارنات المتكرّرة مع الديمقراطية الاجتماعية إشكالية ومربكة.

أولاً، لنكن واضحين ما هي الإصلاحية وما هي ليست كذلك. في الأصل، اعتقد الإصلاح الديمقراطي الاجتماعي أنه من الممكن استخدام صندوق الاقتراع للحصول على السلطة المنتخبة في الدولة البرجوازية واستخدامها لتفكيك الرأسمالية وبدء المجتمع الاشتراكي. لم تأتِ قيادتها بشكل عام من الطبقة الرأسمالية، ولكن من البيروقراطية النقابية والمثقفين البرجوازيين الصغار، بينما كانت قاعدتها الشعبية تنتمي إلى الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة.

لقد شكّلت الأصول الاجتماعية لقيادتها وخصوصاً دور البيروقراطية كمفاوض مع الرأسماليين في النضالات النقابية السياسات المحافظة وممارسات الديمقراطية الاجتماعية. كما يشرح الماركسي إرنست ماندل الإصلاحيون:

يدافعون عن مصالحهم عندما يؤسّسون التعاون الطبقي. تتوافق هذه المصالح تاريخياً مع الدفاع عن النظام البرجوازي. إلا إنها لا تتوافق بالضرورة في جميع الأوقات مع الدفاع عن المصالح المباشرة للغالبية، أو حتى كل البرجوازية الكبرى».

في ظل الظروف المحدّدة للطفرة الطويلة بعد الحرب، نجحت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وأشكالها البيروقراطية «النضالية» في توفير أجور أعلى ومزايا أفضل وظروف عمل مستقرّة ودولة رفاهية موسّعة في أوروبا. ولكن بعد اندلاع الأزمة في السبعينيات، عمدت الأحزاب الإصلاحية إلى تعديل سياساتها بشكل متزايد لتلائم الوضع الجديد وساهمت في السياسات التي أدّت إلى تدهور ظروف المعيشة والعمل. ولذلك لم يكن أمام البيروقراطية العمّالية والسياسيين الإصلاحيين في أوروبا أي بديل سوى تقديم تنازلات لهجوم صاحب العمل في إدارة سياسات التقشّف داخل الدول الرأسمالية.

لذلك يجب ألا يكون لدى الاشتراكيين أوهام في الديمقراطيين الاجتماعيين أو استراتيجيتهم. في الواقع، لعب الإصلاحيون دوراً مضاداً للثورة في تاريخ الحركة العمّالية. بالإضافة إلى ذلك، دعمت الحكومات الديمقراطية الاجتماعية دولتها الإمبريالية في الحروب وحافظت على علاقات استغلالية مع المستعمرات وشبه المستعمرات ودول العالم الثالث» الأقل قوة. في الآونة الأخيرة، اعتنقت الغالبية العظمى من الحركات الديمقراطية الاجتماعية السابقة الليبرالية الجديدة وسياساتها التقشّفية.

على الرغم من أوجه القصور العديدة للمنظّمات الإصلاحية ودورها المضاد للثورة في فترات مختلفة من التاريخ، فمن المُضلّل مقارنتها بالنسخة للأصولية الإسلامية «التدريجية». لم تبحث أحزاب وحركات مثل الإخوان المسلمين وحزب الله في تاريخها قط، ولم تدّعِ حتى أنها سعت إلى تفكيك الرأسمالية تدريجياً، بل على العكس تماماً، في الواقع؛ دعمت الحركات الأصولية التدريجية، تاريخياً، الرأسمالية، بما في ذلك نظام التراكم النيوليبرالي الحالي.

كما رأينا، فإن الأصل الاجتماعي وتكوين القيادة وأعضائها من الحركات الأصولية يختلفان اختلافاً كبيراً عن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. القاعدة الاجتماعية للأصوليين هي البرجوازية الصغيرة، بينما القاعدة الاجتماعية للديمقراطية الاجتماعية هي الطبقة العاملة. بالإضافة إلى ذلك، مرّت قيادة الحركات الأصولية التدريجية، كما رأينا، بعملية تحديث. لقد لعب الرأسماليون ولا يزالون يلعبون دوراً متزايداً وواضحاً في هذه الأحزاب والحركات.

الحركات الأصولية التدريجية، على عكس معظم الإصلاحيين النيوليبراليين، تفضّل برنامجاً سياسياً محافظاً وطائفياً ومتحيّزاً ضد الجنس والمثليين ومعادي للعمّال. لو أردنا البحث عن ملامح الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية في مصر، فلا يمكن للمرء أن يستحضر الإخوان المسلمين، ولكن كان لدى السياسي الناصري حمدين صباحي برنامج إصلاحي وارتكب أخطاء إصلاحية، لا سيما دعم انقلاب السيسي والقمع الرهيب للإخوان المسلمين. ومع ذلك، فقد مثل التطلّعات الديمقراطية الاجتماعية في انتخابات 2012 الرئاسية. وذلك حين وعد بتنفيذ إصلاحات اجتماعية كتحديد الحدّ الأدنى والأعلى للأجور، وزيادة فرص العمل في القطاع العام، واسترجاع المؤسّسات إلى الدولة، وفرض ضريبة بنسبة 20% على ثروات الأغنياء الذين يشكلون 1 في المئة من السكّان.24 كما أنه لم يروِّج لأي مشروع طائفي أو مناهض لحقوق المرأة. وقد تشكَّل حزبه «الكرامة»، بشكل عام، من الطبقة الوسطى، في وقت تمتّع صباحي بدعم واسع من الحركة العمّالية، والنقابيين المستقلّين والناشطين أكثر بكثير من الإخوان.

يمكن العثور على تشابه أوثق مع صباحي في الزعيم الاشتراكي التشيلي سلفادور أليندي في أوائل السبعينيات. من ناحية أخرى، فإن أي مقارنة بين الإصلاحي التشيلي والإخوان المسلمين، من ناحية أخرى، مضلّلة. أولاً، يتجاهل الانقسام الأيديولوجي الهائل والسياسات التي يطبّقها الفاعلان الحاكمان. علاوة على ذلك، فإن سياستهم تجاه الجيش مختلفة جذرياً. كان ألليندي قد اختار الجنرال أوغستو بينوشيه بعد انقلاب سابق على أمل أن يكون «قانونياً» يحترم حيادية الجيش في السياسة. بالطبع، كان ذلك كارثياً وساذجاً، وهو يختلف كثيراً عن العلاقة بين الإخوان المسلمين والجيش المصري. لم يلعب الجيش التشيلي أبداً دوراً مركزياً في الاقتصاد السياسي التشيلي كما يفعل الجيش المصري في مصر. جيش السيسي هو القوة الحقيقية المُهيمنة وقلب الدولة العميقة. لم يلجأ مرسي والإخوان المسلمون إلى الجيش على أمل تجنّب الانقلاب. لقد حاولوا تشكيل تحالف مباشر مع الجيش منذ الأيام الأولى للتمرّد في العام 2011، وهم يعلمون جيّداً وزنه السياسي ودوره القمعي على مدار العقود الماضية.

منذ الأيام الأولى للثورة، عمل الإخوان المسلمون كحصن منيع ضدّ الانتقادات والاحتجاجات من الجيش حتى الإطاحة بمرسي في تموز/ يوليو 2013. وقبل ذلك، كانوا يدينون الذين يتظاهرون وينتقدون الجيش. مثل أعداء الثورة ونشر الانقسام. وبالفعل، عيّن مرسي السيسي قائداً للجيش وهو يعلم جيداً أنه سجن المتظاهرين وعذّبهم.

التمييز أكثر وضوحاً فيما يتعلّق بالسياسات الخاصة بمرسي وألليندي لصالح الاحتجاجات الجماهيرية. في حين لم يخطىء ألليندي في الدعم الكامل والمراكمة على التعبئة العمّالية الشعبية في التشيلي، والإضرابات والمقاومة ضد البرجوازية، من أجل تحدّي سلطتها بشكل حقيقي، ومواجهة تخريبها للاقتصاد، عارض مرسي والإخوان و/أو قمعوا النضالات الشعبية والعمّالية في مصر، ودافعوا عن الجيش.

من المؤكّد أن مرسي لم يعد أو يحاول تنفيذ إصلاحات ديمقراطية اجتماعية مثل ألليندي. وقول سان جوست المشهور لا يمكن أن ينطبق على الإخوان «إن الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم»، إنما ينطبق القول التالي: «إن الذين يتعاونون مع الأنظمة القديمة، يحفرون قبورهم بأيديهم». على الرغم من جهود الإخوان المسلمين للتعاون مع الجيش، أطاح الجيش بمرسي. في النهاية، مثّل الجيش والإخوان المسلمين أجنحة مختلفة من الطبقة الرأسمالية، مع داعمين إقليميين مختلفين، لم يجدوا أي نوع من التفاهم. قرّر الجيش، الذي كان أقوى بكثير، أخيراً تأكيد سلطته الديكتاتورية المباشرة، على حساب جميع الحركات الأخرى في مصر.

لا معاداة للإمبريالية

ومن الخطأ أيضاً اعتبار الأصولية تعبيراً منحرفاً أو مشوّهاً عن معاداة الإمبريالية. لدى الأصوليين نظرة دينية إلى العالم، بما في ذلك هدف العودة إلى «العصر الذهبي» الأسطوري للإسلام كوسيلة لشرح العالم المعاصر وحلّ مشاكله. أولاً، يجب أن ننتقد الفكرة القائلة بأن تحرير الدول العربية وتنميتها يعتمد بالدرجة الأولى على تأكيد الهوية الإسلامية المقدّمة على أنها «دائمة» و«أبدية». هذا الرأي رجعي محض وبسيط، ويتناقض بشكل واضح مع الحركات المناهضة للإمبريالية في الماضي. قاتل القوميون والاشتراكيون في العالم الثالث من أجل تحوّل اجتماعي تدريجي للهياكل الاجتماعية والاقتصادية للقمع والهيمنة. الأصوليون من جانبهم يضعون النضال على مستوى معركة الثقافات والأديان. إنهم ينظرون إلى الإمبريالية على أنها صراع بين «الشيطان» والمعتدين المضطهدين، وليس كما اعتبرها القوميون والاشتراكيون تقليدياً على أنها صراع بين القوى العظمى ونظامهم الرأسمالي والدول المضطهدة. في هذا الصدد، يردّد الأصوليون الإسلاميون مفهوم صموئيل هنتنغتون للعالم على أنه «صراع حضارات»، حيث يقوم النضال ضد الغرب على رفض قيمه ونظامه الديني بدلاً من العلاقات والعمليات الدولية.

وبالتالي، ليس لديهم نظرة عالمية مناهضة للإمبريالية. في الواقع، ليس من المستغرب أن يكون للجناح الجهادي والتدريجي للأصولية الإسلامية رعاة من الدول الإمبريالية والإقليمية. كما ذكرنا سابقاً، دعمت الولايات المتّحدة والمملكة العربية السعودية وباكستان الحركات الأصولية الإسلامية في أفغانستان كأداة في صراعها بين الإمبريالية مع روسيا ضدّ نظام كابول المدعوم من موسكو. موَّلت الولايات المتّحدة إنتاج كتب مدرسية، قرأها ملايين الأطفال الأفغان، تمجّد الجهاد والاستشهاد. لقد خلق أمراء حرب إسلاميين من خلال ضخّ المليارات في البلاد وإغراقها بالسلاح.

الأمر نفسه ينطبق على الحركات الأصولية الإسلامية التدريجية. بعيداً عن معاداة الإمبريالية المستمرّة، فقد أقاموا علاقات مع الإمبريالية والقوى الإقليمية. تم دعم جماعة الإخوان المسلمين من المملكة العربية السعودية حتى العام 1991 ومؤخراً من قطر، وأبرموا صفقة مع الولايات المتحدة في خلال فترة وجيزة كرئيس للحكومة المصرية. حزب الله مدعوم من إيران ويتعاون مع الإمبريالية الروسية في الثورة السورية المضادة.

الأصوليون ليسوا إصلاحيين ولا معاديين للإمبريالية. إن تحديد دعوتهم الخطابية من أجل «الإصلاحات» و«مكافحة الفساد»، كدليل على تفانيهم في ساحة سياسية ديمقراطية أكثر انفتاحاً، هو أمر صعب على أقل تقدير. لماذا؟ لأن مطالبهم مرتبطة بإقامة دولة إسلامية و«أسلوب حياة إسلامي». وكما قال المرشد الأعلى السابق للإخوان محمد مهدي عاكف:

«إذا كنا نرغب في إحراز تقدّم في حياتنا، يجب أن نعود إلى إيماننا ونطبق الشريعة الإسلامية … إقرار قانون الله هو الحل الحقيقي لجميع معاناتنا، سواء كانت بسبب مشاكل داخلية أو خارجية. ويتحقّق هذا [إدخال الشريعة] من خلال خلق الفرد المسلم، والبيت المسلم، والحكومة الإسلامية، والدولة، التي تقود الأمة الإسلامية وتحمل لواء الدعوة حتى يكون للعالم فرصة الحصول على أفضل ما في الإسلام وتعاليمه».

بطبيعة الحال، فإن الحركات الأصولية الإسلامية المتدرّجة تتخطّى التناقضات الاجتماعية الداخلية بين قيادتها البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وقاعدتها الشعبية. لكن هذا ينطبق على جميع الأحزاب السياسية التي تقودها النخبة، من الأحزاب الرأسمالية الكبرى إلى الأحزاب الشعبوية اليمينية في جميع أنحاء العالم. لا يقتصر وجود التناقضات الطبقية داخل الأحزاب على الأحزاب الإصلاحية. ووجودها بين الحركات الأصولية التدريجية لا يبرّر تسميتها بالإصلاحيين.

من الواضح أن الحركات الأصولية التدريجية تخضع لتوترات متأصّلة في تكوينها الطبقي المتناقض. لكننا نحتاج إلى التمييز بوضوح بين الأصوليين الذين يستخدمون الأيديولوجية الرجعية لكسب الطبقات الشعبية والأحزاب الإصلاحية التي لديها أجندة علمانية تقدّمية، والذين ، مهما تعرّضوا للخطر، يعكسون مصالح الطبقات والجماعات المضطهدة.

في الواقع، تشكّل القوى الإسلامية الأصولية المختلفة الجناح الثاني للثورة المضادة، الأول هو الأنظمة القائمة. إن أيديولوجيتهم وبرنامجهم السياسي وممارستهم رجعيون ومعارضون تماماً لأهداف التحرّر الثوري: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. سياساتهم تنفر المجموعات الأكثر وعياً من العمّال والجماعات المضطهدة مثل الأقليات الدينية والنساء والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وغيرهم.

بناء بديل تقدّمي

تعرّضت الثورات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لهزائم على يد الأنظمة وداعميها الإمبرياليين والأصوليين. تمرّ العمليات الثورية بموقف معقّد وصعب، ولا توجد إجابات سهلة حول كيفية إخراجها من قبضة الثورة المضادة.

ترى عواصم إقليمية أن بوسعها الحفاظ على سيطرتها الاستبدادية بلجوء دائم إلى عنف كثيف ضد سكّانها. هذا محكوم بالفشل، ويمكن توقّع انفجارات احتجاج شعبية جديدة كالتي شهدتها في 2018 و2019 في السودان والجزائر والعراق ولبنان.

يجب أن نحاول استخلاص عدد من الدروس من هذا الوضع وأن نقدّم على الأقل مساراً لليسار. يجب أن تبدأ برفض كلّ الأوهام لدعم الأنظمة الاستبدادية القائمة. لكن يجب علينا أيضاً أن نرفض الأوهام المماثلة تجاه القوى الإسلامية الأصولية.

أدّى التعاون مع الدول الاستبدادية إلى نتائج كارثية وسيؤدّي إلى تقليص المساحة الديمقراطية للعمّال والأشخاص المضطهدين للتنظيم من أجل إطلاق سراحهم. الأنظمة القديمة تبقى العدو الرئيسي للقوى الثورية في المنطقة. في الوقت نفسه، لا تقدّم الحركات الأصولية الإسلامية بديلاً. في السلطة أم لا، تستهدف الحركات الأصولية الإسلامية العمّال ونقاباتهم والمنظّمات الديمقراطية، بينما تروِّج للاقتصاد النيوليبرالي والسياسات الاجتماعية الرجعية. هم أيضاً جزء من الثورة المضادة.

وبدلاً من اللجوء إلى أي من هاتين القوّتين، يجب على اليسار التركيز على بناء جبهة مستقلّة وديمقراطية وتقدّمية تحاول مساعدة العمّال والمجتمعات على التنظيم الذاتي. فقط من خلال هذه العملية يمكن لمعسكرنا أن يرى نفسه كطبقة لها مصالح مشتركة مع العمّال الآخرين وتعارض الرأسماليين. يجب أن تقوم السياسات التقدّمية على الدفاع عن التنظيم الذاتي للطبقات الشعبية وتشجيعه بهدف النضال من أجل الديمقراطية.

لن تكفي نضالات الأجراء وحدهم لتوحيد فئات الأجراء. يجب على الاشتراكيين في هذه النضالات أن يدافعوا عن تحرير كل المضطهدين. وهذا يتطلّب التلويح بصوت عالٍ وواضح بمطالب حقوق المرأة والأقلّيات الدينية ومجتمعات المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والجماعات العرقية والإثنية المضطهدة. إن أي حل وسط بشأن الالتزام الصريح بهذه المطالب سيمنع اليسار من توحيد الطبقة العاملة من أجل إحداث تحوّل جذري في المجتمع.

كيف يتصرّف مثل هذا اليسار في مواجهة القوى الأصولية الإسلامية، الجناح الثاني للثورة المضادة؟ لا تشكّل الحركات الأصولية التدريجية خطراً مشابهاً لخطر الأنظمة القائمة. فعندما لا يكون الأصوليين مسيطرين على الدولة كما في إيران أو المملكة العربية السعودية، فإنهم عموماً لا يتمتّعون بالقدرات التدميرية نفسها مثل الأنظمة القائمة. لكن هذا لا يعني أن اليسار يجب أن يراهم أهون الشرين. ومعاملتهم على هذا النحو ويخاطر بزرع الأوهام بأنهم سيكونون حلفاء مُحتملين في تغيير النظام السياسي لصالح المزيد من الحقوق الديمقراطية والاجتماعية. هم ليسوا كذلك. والاعتقاد بأنهم يضعفون من قدرة اليسار على كسر روابط الأصولية مع الطبقات الشعبية.

ماذا يعني هذا التحليل للقضايا الاستراتيجية والتكتيكية في النضال؟ هذا لا يعني أن على الاشتراكيين رفض وحدات العمل في سياق معيّن لمطالب محدّدة مع القطاعات التدريجية للأصولية الإسلامية. إذا كانت هذه الإجراءات يمكن أن تعزّز قضية المستغلّين والمضطهدين، فإن وحدة العمل التكتيكية هذه صحيحة. طريقة العمل مع المنظّمات التي لا يشترك معها التقدّميون في الكثير من الأمور المشتركة بخلاف العدو المشترك، لخّصها البلاشفة منذ أكثر من قرن مضى. يلخّص جيلبرت الأشقر النهج:

1- لا تدمج المنظّمات. امشوا بشكل منفصل لكن أضربوا معاً.

2- لا تتخلّى عن مطالبنا السياسية.

3- لا تخفي خلافات المصالح.

4- انتبهوا لحليفنا كأنهم أعداء.

5- كن أكثر اهتماماً باستغلال الوضع الناتج عن الصراع أكثر من الاهتمام بالحليف.25

يضيف الأشقر إلى هذا:

«إذا تم الالتزام بهذه القواعد، يبقى على التقدّميين أن يثبتوا للجماهير أنهم مخلصون لمحاربة العدو المشترك مثل الأصوليين، بينما يدافعون بحزم عن مصالح العمّال والنساء وجميع الفئات المستغلّة والمضطهدين في تناقض مباشر مع الأصوليين وفي كثير من الأحيان ضدهم».26

يمكن إقامة تحالفات تكتيكية قصيرة الأمد مع الشيطان، لكن لا ينبغي أبداً الخلط بين هذا الشيطان والملاك. لا ينبغي أن يكون هناك توجّه طويل الأمد يقوم على الوحدة الاستراتيجية مع الأصوليين التدريجيين. لذلك، فإن النهج القائم على الوحدات التكتيكية العرضية في مواقف معيّنة يختلف مع ذلك عن استراتيجية الجبهة الموحّدة، التي تسعى إلى الاتحاد مع القوى الإصلاحية والديمقراطية الراغبة في تنظيم نفسها لمحاولة تلبية المطالب الفورية التي تفيد العمّال والمجموعات المضطهدة وتزيد من وعيهم والثقة والقدرة القتالية.

لا ينبغي إدراج الأصوليين الإسلاميين، مثلهم مثل الحركات الشعبوية واليمينية المتطرّفة في جميع أنحاء العالم، في استراتيجية الجبهة الموحّدة هذه لجميع الأسباب الواردة في هذا المقال. إن الحديث عن استراتيجية جبهة موحّدة مع هذه القوى هو خلق أوهام فيها. بدلاً من ذلك، يجب على اليسار أن يبني تنظيمه السياسي الخاص وأن يشارك في النضال من أجل التحرير والديمقراطية، أحياناً في وحدة تكتيكية مع الأصوليين التدريجيين، ولكن دائماً بهدف كسب المستغَلين والمضطهدين وإبعادهم عنهم.

جمال عبد الناصر يؤمِّم قناة السويس في العام 1956 بعد أن كانت تحت سيطرة البريطانيين والفرنسيين

الخصخصة: معالجة مكانية أم توصية فنّية؟

لاجئون فلسطينيون قرب جسر اللينبي في العام 1967

الديموغرافية السياسية في المشرق العربي

مأساة الطبقة العاملة في سوريا

جوزيف ضاهر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى