من ذاكرة صفحات سورية

من ذاكرة صفحات سورية: شتاء عدرا الأحمر/ عروة خليفة

ما كانت ضاحية عدرا العمّالية لتظلّ بعيدةً عن الحرب التي امتدت إلى معظم أنحاء البلاد، والتي كانت تدور بعضٌ من أقسى فصولها في غوطة دمشق الشرقية المحاصرة، الملاصقة لعدرا ومساكنها. فشلت محاولات الفصائل المُعارِضة لكسر حصار الغوطة جنوباً عندَ بلدة العتيبة، لتتجه شمالاً نحو مساكن عدرا العمالية بحثاً عن نصرٍ كانت بحاجته لتحافظ على تماسكها في الغوطة، التي كان أهلها قد تعرّضوا لمذابح عديدة من بينها المذبحة الكيماوية قبل أشهر قليلة فقط. كانت نتيجة تلك المحاولة ضحايا مدنيين وقطعَ رؤوس وخطفاً وقتلاً على الهوية على يد بعض الفصائل، ونازحين ومعتقلين وقتلى على يد قوات النظام، واستمراراً للحصار والمذابح في الغوطة فوق ذلك.

كانت سوريا تغلي بالمعارك في العام 2013، وفي الغوطة كانت قوات النظام قد ضربت طوقاً عسكرياً على البلدات التي استطاع مقاتلون محليون استعادتها بعد عمليات اقتحام واسعة نفذها جيش النظام عام 2012، في محاولة منه لإخضاع البلدات التي انتفضت سلمياً لأشهر طويلة خلال ربيع وصيف 2011، ثم واصلت انتفاضتها بالسلاح بعد ذلك. خلّفت المعارك دماراً واسعاً وأعداداً كبيرة من النازحين والضحايا نتيجة القصف المدفعي والجوي المستمر على المنطقة، فيما بدأ طوق النظام العسكري يتحول تدريجياً إلى حصار خانق، عبر منع دخول أي مواد غذائية إلى الغوطة، والتضييق على حركة المدنيين الذين لم يعودوا يستطيعون اصطحاب مجرد ربطة خبز معهم إلى بلداتهم المحاصرة. أُغلقت تلك الطرقات مراراً أمام حركة المدنيين، لتُغلَق بشكلٍ نهائي بعد المجزرة الكيماوية التي ارتكبها النظام في الغوطة في آب (أغسطس) 2013، وراح ضحيتها مئات المدنيين.

في تلك الظروف، كانت الفصائل المحلية الصغيرة في بلدات الغوطة الشرقية قد تضخمت، واكتسبت أعداداً كبيرةً من المقاتلين في صفوفها، سواء من أهل المنطقة أو من مدينة دمشق القريبة التي لم يعد بالإمكان التظاهر فيها دون أن يعني ذلك موتاً أو اعتقالاً محتوماً. لم يَعُد الدفاع عن الخيار السلمي شائعاً في أوساط الثورة، وبدلاً من ذلك ارتفعت الأصوات التي ترى الحل العسكري خياراً وحيداً لإنهاء الحصار وكسر النظام ثم إسقاطه، حتى أن كثيرين انتقلوا خلال هاتين السنتين، بين 2011 و2013، من الدفاع الحازم عن السلمية إلى الانخراط في العمل العسكري، ومن أمثلة ذلك ما قاله لي أحد الشهود على مظاهرات الجمعة العظيمة في نيسان (أبريل) 2011، عندما تحدّثَ عن شخص كان ينهرُ قريباً له أصيبَ بالرصاص خلال تلك المظاهرات، لأنه صار ينادي بالحل العسكري مع النظام، وكيف أن هذا الشخص نفسه سيصبح فيما بعد قائداً في أحد فصائل الغوطة.

أيضاً، قبل نحو شهر من مجزرة عدرا العمالية، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، بدأت قوات النظام عمليات عسكرية في منطقة القلمون، ساندتها خلالها ميليشيات عراقية طائفية وميليشيا حزب الله اللبناني، واستطاعت السيطرة على بلدة قارة وإغلاق الطريق القادم من جرودها. كان ذلك الطريق مهماً جداً لفصائل المعارضة في منطقة ريف دمشق كلها بما فيها الغوطة الشرقية، التي كانت تصلها طرقات غير مستقرة بالضمير والقلمون الشرقي ومن ثمّ الحدود اللبنانية. كانت نتيجة معارك القلمون إطباق مزيد من الحصار على الغوطة، التي كانت فصائلها أيضاً قد خسرت الطرقات التي تقود إلى البادية بنتيجة معارك العتيبة.

على خطوط التماس تلك، كانت مساكن عدرا العماليّة على موعد مع أيامها الدامية في أواسط كانون الأول (ديسمبر) 2013.

عدرا العمالية قبيل اقتحامها

كانت الضاحية العمّالية، قرب بلدة عدرا على أطراف الغوطة الشرقية، واحدة من مشاريع الإسكان العمومي التي بنيت في الثمانينات في سوريا. وهي تضم سكّاناً من مختلف مناطق البلد، من العاملين في مؤسسة النفط أو المنطقة الصناعية في عدرا أو في الوظائف الحكومية في مدينة دمشق، بالإضافة إلى عدد غير قليل من أهالي دوما والغوطة الذين تملّكوا بيوتاً فيها، إذ إنها وفّرت فرصاً أفضل للحصول على مساكن أقل كلفة، بعد أن ارتفعت أسعار العقارات في الغوطة نتيجة استقبالها للنمو السكّاني القادم في دمشق التي ضاقت بسكّانها منذ الثمانينات والتسعينات.

هكذا ضمّت عدرا العمّالية خليطاً بالغ التنوع من سائر مناطق سوريا وطوائفها. وقد ساهم نمط بناء الضاحية السكنية، وبعدها النسبي عن دمشق (25 كلم)، وقبل كل ذلك انتماء جميع السكّان إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، في تعزيز العلاقات بين السكّان على تنوّعهم. ومع بداية الاقتحامات التي نفذها جيش النظام في بلدات الغوطة الشرقية، انتقل عددٌ كبيرٌ من نازحي الغوطة إلى بيوت يملكونها أو استأجروها في منطقة التوسّع ضمن مساكن عدرا العمالية، والتي كانت قريبة من مدينة دوما لكنها تقع خارج نطاق الاقتحامات العسكرية، وإن قامت قوات الأمن بمداهمات متفرقة فيها لاعتقال عدد من النازحين.

ورغم أن عدرا العمّالية ملاصقة للغوطة الشرقية وقريبة جداً من دوما أكبر مدنها، وأيضاً رغم أنها تطلّ على طريق دمشق-حمص الدولي (M5)، لكنّها في الواقع لم تكن تعطي أيّ تفوق استراتيجي لمن يسيطر عليها في سياق معارك السيطرة على محيط العاصمة، إذ إنها تبعد عن دمشق أكثر من كل بلدات الغوطة الأخرى، وتجاورها مناطق صناعية ومساحات خالية لا تعطي عملياً أي تفوق استراتيجي. ويبقى أنها قريبة فعلاً من جسر بغداد، وهو نقطة تقاطع مهمة بين الطريق القادم من محافظة دير الزور والعراق وطريق دمشق-حمص الدولي، إلا أنه يمكن الوصول إلى تلك النقطة دون أي معارك في عدرا العمّالية، فيما لا تعطي طبيعة المنطقة أي أفضلية على هذا الصعيد لمن يسيطر على الضاحية.

اقتحام الضاحية

قبل أسابيع قليلة من نهاية العام 2013، صباح يوم الأربعاء الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر)، سُمعت أصوات رصاص بعيدة في الضاحية، وخلال أقل من ساعتين بدأ السكّان في عدرا العمالية يشاهدون مجموعات تابعة لفصائل مناوئة للنظام السوري تتحرك في شوارع ضاحيتهم، وتنادي على السكّان كي ينزلوا إلى الأقبية. كان المشهد مرعباً بالنسبة لكثيرين، ليس من المنتمين إلى أجهزة الأمن والجيش النظامي فقط، بل لكثير من المدنيين المنحدرين من الطوائف العلوية والدرزية والإسماعيلية والمسيحية، مع تصاعد الوجه الطائفي للصراع في البلد وتزايد حضور القوى الجهادية والسلفية في أوساط الثورة والمعارضة. ستقود الأحداث التالية في ضاحية عدرا إلى إثبات تلك المخاوف لدى من نجى من المدنيين.

«أيقظني أخي الصغير ليأخذ مفاتيح السيارة، فلديه اليوم امتحانٌ في الجامعة. بعد دقائق عاد أخي إلى المنزل ليخبرنا أنّه شاهد الحاجز على مدخل عدرا العمالية محروقاً، وأنّه قد تفادى الرصاص بأعجوبة. هنا بدأنا نعرف أنّ الفصائل تحركت نحو عدرا. تجمَّعَ الجيران في بنائنا لتقصّي الأخبار، ولم تأتِ الساعة العاشرة صباحاً إلا وكانت الفصائل تسيطر تماماً على قلب مساكن عدرا العمالية». يقول مهران عيون، وهو عضو سابق في مجلس دوما المحلي، وأحد سكّان عدرا الذين شهدوا العمليات العسكرية.

في مناطق أخرى من عدرا، استطاع السكّان ملاحظة مقاتلي فصائل الغوطة في وقتٍ أبكر، وهو ما تؤكده شهادة منشورة على الانترنت لطبيب كان يعيش في المدينة، واستطعتُ تأكيد هويته من أحد الشهود الذين تحدثتُ إليهم بناءً على أوصافه وقصته. يقول الطبيب المسيحي الذي يسكن عدرا العمالية إنّه شاهدَ عناصر فصائل المعارضة يمشون في الشوارع، ويصيحون بالسكان للنزول إلى الأقبية، منذ السابعة صباحاَ.

خلال ساعات بدأت دوريات تابعة للفصائل بالدخول إلى الأبنية وتفتيشها، وقد أكد الشهود الذين تحدثتُ إليهم، بالإضافة إلى الشهادات المنشورة، أنّ الفصائل كان لديها قوائم أسماء وعناوين، غالبيتها العظمى لضباط في الجيش أو مقاتلين في ميليشيا «الدفاع الوطني» الموالية للنظام. يتابع مهران عيون شهادته عن الساعات الأولى لما حصل في عدرا: «جاءت دورية لم يمكن واضحاً لمن تتبع، لجيش الإسلام أو جبهة النصرة، وتوجَّه عناصرها مباشرةً إلى منزل جيراننا من قرية الفوعة الشيعية، وسألوا عن ابنهم الذي يعمل في الخدمات الطبية التابعة للجيش. لم يكن الشاب في المنزل عند مداهمته، بل كان في دمشق، وكان ذلك ذريعة مقاتلي الفصيل لاعتقال الأب وابنته، اللذين فُقِدا منذ تلك اللحظة ولم نسمع أخباراً عنهما».

فواز خيّو هو صحفي من محافظة السويداء، من سكّان عدرا العمّالية، تحدّثَ عن تعامل مشابه من قبل مقاتلي الفصائل وعن قوائم الأسماء التي كانت بحوزتهم. وهو يضيف أن الدوريات التي داهمت الأبنية السكنية اعتقلت حتى من امتلك ذخيرة لبندقية صيد، وأنه شاهد سيارات عديدة تحمل معتقلين معصوبي الأعين، فُقدت غالبيتهم منذ تلك اللحظات كما يقول خيّو.

لم يُسمَح للمدنيين طوال ساعات بالتحرك خارج أبنيتهم، وفي هذه الأثناء بدأت تعزيزات جديدة من فصائل الغوطة بالوصول إلى عدرا العمالية، معظمها جاء عبر الطرق الفرعية التي تصل منطقة التوسّع في الضاحية بمدينة دوما، بعد أن كانت الفصائل قد اقتحمت الضاحية من ثلاثة محاور: طريق التوسّع، والمدخل المقابل لمستودعات النفط من خلال التنكر بزي النظام واستخدام عربات عسكرية تابعة للجيش النظامي ومفاجئة الحاجز هناك وإحراقه، والطرقات الفرعية التي تصل مساكن عدرا ببلدة الضمير القريبة.

المجزرة

بعد ظهر ذلك اليوم أصبح السكّان قادرين على التحرّك قليلاً، خاصةً في الشوارع التي لا تطلّ على خطوط التماس الجديدة. «تكشّفت الشوارع عن مذبحة رهيبة» يقول فواز خيو، وهو ما يؤكّده مهران عيون الذي استطاع الانتقال إلى جوار مخفر عدرا العمالية حيث منزل أخته وزوجها للاطمئنان عليهما. تعرَّضَ عيون للتوقيف عدّة مرات في الطريق من قبل عناصر فصائل الغوطة، إلّا أنّ هويته التي تظهر أنّه من دوما ساعدته على الحركة بحرية أكبر.

يقول عيون إن شاهد جثثاً في الطرقات، بعضها لجنود تابعين للنظام والبعض الآخر لمدنيين: «بالقرب من أبنية تُدعى المروحيات، بسبب شكلها الذي يشبه شفرة الطائرة المروحية، وتحديداً في الحديقة الخلفية لتلك الأبنية، وجدتُ جثامينَ لشباب صغار بلباس مدني، بعضهم كان واضحاً أنه لم يبلغ الثامنة عشرة، مقيدين وقد تم إطلاق النار على رؤوسهم. في ذلك البناء نفسه، كان هناك عنصر تونسي تابع لجبهة النصرة يحمل سيفاً، وقد قام بإعدام مدنيين فقط لانتمائهم للطائفة العلوية».

سيطر عدم الانضباط وارتكاب الانتهاكات الفظيعة على مقاتلي الفصائل خلال دخولهم إلى عدرا، وبالذات جيش الإسلام وجبهة النصرة، المتهمان الرئيسيان بالقيام بإعدامات ميدانية على الهوية واعتقالات واسعة للمدنيين، إلّا أنّ مقاتلي فصائل أخرى مثل الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وحركة أحرار الشام الإسلامية، الذين شاركوا في المعركة، متّهمون أيضاً باختطاف مدنيين من عدرا. وقد تعرَّضَ هؤلاء المدنيون لعمليات تعذيب، فضلاً على العمل القسري في حفر الأنفاق على يد تلك الفصائل. يقول أحد الشهود، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه كونه يعيش اليوم في مناطق سيطرة النظام السوري، إنّه وعلى الرغم من انتمائه لأحد بلدات الغوطة إلّا أنّه خُطف من قبل أحد الفصائل في عدرا، وجرى بيعه لفصيل آخر ليقوم بالعمل بالسخرة في حفر الأنفاق لمدة عامين بعد خطفه، ولم يستطع الخروج من هذا الأسر إلّا بعد توسّط أهله ودفعهم مبلغاً مالياً كبيراً للفصيل الذي كان يحتجزه.

يتحدث مهران عيوان في شهادته عن العمل القسري أيضاً، إذ إنه كاد يؤخذ لحفر الأنفاق من قبل عناصر الفصائل الذين أوقفوه في أحد شوارع عدرا، وذلك لولا تدخل قريب له يعرف قائداً ميدانياً في فصيل الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام.

بيان ريحان ناشطة من دوما، وعضوة سابقة في تنسيقية المدينة، روت لنا شهادة أحد أقاربها عن المعركة، الذي فضَّلَ الانسحاب من عدرا والتوقّف عن القتال إلى جانب فصيله بعد مشاهدته لانتهاكات، من بينها تحرّش أحد العناصر بزوجة ضابط في الجيش كانوا يريدون اعتقاله، بالإضافة إلى شهادته على سرقات كبيرة قام بها العناصر بأمر من قادة فصيله جيش الإسلام، إذ قاموا بنقل الخزنات والمجوهرات التي كانوا يجدونها في سيارات القادة إلى دوما. «كانت مجزرة عدرا بداية النهاية بالنسبة لنا»؛ تقول ريحان خلال حديثنا عن الشهادات التي سَمِعتها عمّا جرى في عدرا ذلك اليوم، فقد غيّر تلك الانتهاكات والجرائم موقع المقاتلين الذين ارتكبوها من مظلومين يدافعون عن أهاليهم إلى ظالمين بطريقة مشابهة للنظام، وهو ما دفع مقاتلين عديدين آخرين خلال فترات متلاحقة من تلك الحادثة إلى ترك فصائلهم، وترك العمل العسكري نهائياً، كما تقول بيان. كما أشارت أيضاً إلى أنّه لم يتم توزيع أي شيء من المستودعات التي استولى عليها جيش الإسلام في عدرا على سكّان الغوطة المحاصَرين، لتُفاجأ بعد فترة، في لقاء حضرته لتجمّع نساء مقربات من جيش الإسلام، بوجود معلبات ومنتجات من معمل في منطقة عدرا العمالية لديهم.

بعد أيام قليلة من سيطرة الفصائل على عدرا العمالية، أتى أحد العناصر ونادى على فواز خيّو بالاسم من باب البناء؛ «أصابتني القشعريرة. خرجتُ إليهم. أخذوا هويتي وفتشوا بيتي، وقال قائد الدورية واسمه أبو البراء: تفضَّل معنا، الشيخ يريد أن يراك. نُقِلت بعدها أنا وابني سرجون إلى سجن في أحد الأقبية السكنية، وتعرضنا لأيام للتعذيب والضرب والتحقيق، إلى أن أتى محقق جديد باشر دورة أخرى من التعذيب من خلال ضربنا بأنابيب المياه البلاستيكية الصغيرة. نُقِلت إلى غرفة قيلَ وقتها إنها مخصصة لمن سيتم إعدامهم، وعشتُ ثلاثة أيام وأنا موقنٌ بالموت. كنتُ مرتاحاً رغم ذلك لأنّ ابني بقي في الغرفة الأخرى، ثم قابلتُ أحد شرعيي الفصيل وقلتُ له: لست ضابطاً في في الجيش أو الأمن ولستُ موجوداً على قوائمكم، فلماذا تعدمونني؟ ربما تكون تلك الكلمات قد أنقذتني، إذ أعادوا نقلي إلى الغرفة الأخرى، وأخرجوني أنا وسرجون بعد أيام على أن لا أغادر قبو البناء وإلا سيقتلونني. في تلك الأيام كانت زوجتي تذهب إلى مقرات الفصائل لتسأل عنّا أنا وابني، وفي إحدى المرات أدخلوها إلى قبو المقر بعد أن قصف الطيران محيطه، وبقيَت عندهم. كانت وقتها تسأل عنّا لدى جيش الإسلام فيما كنّا محتجزين عند جبهة النصرة. عندما ذهب ولدي لاحقاً للسؤال عنها اعتقلوه هو أيضاً مجدداً، وبقيت أنا وابنتي الصغيرة لوحدنا، وبعد أيام اضطررتُ أن أهرب بها خارج عدرا العمالية بين الثلوج، فيما بقي ابني وزوجتي مخطوفين لأكثر من سنة قبل خروجهم لاحقاً»؛ يقول فواز خيو في شهادته للجمهورية حول ما جرى معه خلال الأيام الأولى من معركة عدرا العمالية، التي أطلقت عليها الفصائل اسم: «الله أعلى وأًجَلّ».

خلال دخول فصائل الغوطة إلى عدرا، دارت إحدى أولى المعارك بالقرب من المخبز الآلي، وكان يشرف على المخبز مجموعة من عناصر فرع المخابرات الجوية، حسب ما جاء في شهادة الطبيب المسيحي المشار إليها أعلاه. يقول مهران عيون في شهادته إنه توجّه مع صديق له، بعد أيام من دخول الفصائل، إلى المخبز للبحث عن طحين يمكن استخدامه في صناعة الخبز، وعند دخوله وجد منظراً مهولاً: «كانت جثث محترقة ومربوطة على سلسلة الفرن الآلي بعد أن مرت تحت لهب الفرن». لم يستطع عيون التعرّف على الجثامين، لكنه ظنَّ وقتها بأنهم عمال الفرن ومدنيون آخرون وقد أُحرقوا على يد الفصائل، فيما تقود شهادة الطبيب إلى التخمين بأنّ بعضهم قد يكون من أفراد مجموعة المخابرات الجوية المشرفة على الفرن. لا مجال في الظروف الراهنة لتحديد هوية هؤلاء الأشخاص على أي حال، إلّا أن هذه الجريمة الشنيعة قد وقعت بالفعل.

لا توجد تقارير مستقلة حول عدد ضحايا عدرا العمالية من المدنيين، لكن الشهود أكّدوا قيام فصيلَي جيش الإسلام وجبهة النصرة بعمليات إعدام على الهوية نتيجة الانتماء الديني أو الطائفي، كما تم إعدام مدنيين فقط لكونهم عاملين في مؤسسات حكومية. وأفادت التقديرات الأولية للمرصد السوري لحقوق الإنسان بوقوع ثلاثين قتيلاً بين المدنيين، لكنّ تقديرات شهود عيان منهم مهران عيون تقول إنّ الرقم أعلى من ذلك، وقد يصل إلى ثمانين قتيلاً بين المدنيين الذين أُعدموا مباشرةً، فضلاً عن الضحايا من المفقودين والمخطوفين.

مختفون

طوال الأيام الأولى، التي شهدت معارك السيطرة على عدرا العمالية، لم تستطع سوى أعداد قليلة من السكّان الهروب إلى خارج المنطقة خوفاً من المعارك والقصف وانتهاكات الفصائل. لكنّ مع مجيء اليوم التاسع من العمليات، استطاعت مجموعات كانت تحتشد عند مدخل عدرا مغادرتها نحو الطريق الدولي، ومن ثمّ إلى مناطق متفرقة. يقول مهران عيون: «استطاعت هذه الدفعة من الهاربين الذهاب إلى الطريق الدولي، وسمحت لهم قوات النظام بالعبور، بل وقدمت مساعدة لهم من خلال توقيف وسائل نقل عامة وإجبارها على نقلهم حيث أرادوا، وهو ما شجَّعَ كثيرين من بينهم عائلتنا على المحاولة في اليوم التالي».

لكنّ الذي حدث مع الدفعة الثانية من المدنيين الخارجين من عدرا العمالية لم يكن مماثلاً لما حدث مع سابقيهم، إذ تحوّلَ تَعامُلُ قوات النظام إلى العكس تماماً، وتم إجبار النازحين عبر حواجز قوات النظام على التوجه إلى معمل الاسمنت قرب عدرا العمالية مشياً على الأقدام، وجرى منعهم من أي محاولة للتوجه نحو الطريق الدولي. هناك على باب معمل الإسمنت جرى توقيفهم وأخذ هوياتهم الشخصية، ومن ثمّ فصل النساء عن الرجال وتوزيعهم في صالات المعمل التي كانت باردة للغاية في ذلك الوقت من الشتاء، الذي صادف أنّه جاء أكثر برداً من المعتاد خاصةً مع هطول الثلوج على المنطقة قبل أيام قليلة. «لو أننا لم نُحرِق أكياس الإسمنت والأخشاب التي وجدناها، فالأرجح أن أحداً منا كان سيموت من البرد في تلك الصالات التي تم احتجازنا فيها. أبقونا طوال أربع أيام من دون أي طعام، لا للكبار ولا حتى للأطفال» يقول عيون.

طوال أيام، انتظر المدنيون في ساحات المعمل النداء على أسمائهم من خلال مكبرات للصوت: «كان الضابط المسؤول يُسلّم البعض هوياتهم، فيما يُجبر آخرين على الوقوف جانباً. عرفتُ لاحقاً أن الذين يقفون جانباً لن يُسمح لهم بالخروج»، يتابع مهران شهادته عن تلك اللحظات التي عاشها فوراً بعد نزوحه مع عائلته من عدرا العمالية.

قام الضباط والعناصر بتوجيه إهانات لأهالي دوما بالذات، بينما جرى السماح للمنتمين للطائفة العلوية والطوائف الأخرى بالخروج فوراً، حتى أن كثيرين منهم لم يُجبروا على الدخول إلى معمل الإسمنت أصلاً، فيما بقي أبناء الغوطة، وخاصةً أبناء مدينة دوما، ينتظرون إذاعة أسمائهم دون معرفة مصير الخارجين بالضبط. «بعد أيام سمعنا أسماءنا، أنا وأخي وعدد ممن كانوا معنا. توجهنا نحو الضابط الذي دفعنا للوقوف جانباً دون تسليمنا الهويات. بعد ذلك خرجنا في رتل، يحيط بنا الجنود بعد أن قال الضابط لهم: من يتحرك خارج الرتل اقتلوه على الفور»، يقول مهران.

مشى النازحون الذين أصبحوا الآن معتقلين لدى قوات النظام نحو مدرسة قيادة السيارات، التي تبعد كيلومترات عن معمل الإسمنت، ومنذ دخولهم من باب المدرسة وجدوا معتقلين آخرين مُعلَّقين من أقدامهم، ثم بدأت جلسات التعذيب للجميع. وبعد أيامٍ من التعذيب، جرى نقل مهران عيون إلى فرع الخطيب في قلب دمشق التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وبقي أكثر من عام ونصف متنقلاً بين الأفرع الأمنية والسجون إلى أن خرج من سجن عدرا المركزي بعد رشوة قاضٍ في محكمة الإرهاب. يقول مهران عند حديثه عن تفاصيل خروجه من السجن، ومن ثمّ إلى خارج سوريا: « كنتُ الناجي الوحيد من تلك المجموعة التي خرجت من معمل الإسمنت إلى مدرسة القيادة. لم نسمع خبراً عن أحدٍ منهم، بما في ذلك أخي، منذ ذلك الحين».

على الطرف الآخر من خط التماس، كانت الفصائل التي بدأت تخلي المنطقة لصالح تنظيم جيش الإسلام وحده تستلم أعداداً من المخطوفين. جرى اعتقال النساء وتعذيبهنّ، وإجبار الرجال على العمل سخرةً في حفر الأنفاق وإنشاء الدشم على خطوط التماس العسكرية. تشير الشهادات إلى أنّ حصة تنظيم جيش الإسلام وتنظيم جبهة النصرة من المخطوفين كانت الأكبر، لكن لا توجد إحصاءات دقيقة، أو حتى تقريبية، عن العدد الفعلي للمخطوفين، إذ تتفاوت التقديرات بين 500 إلى أربعة آلاف. خرجت أعداد قليلة من المخطوفين خلال الأعوام التالية، من بينهم زوجة وابن الصحفي فواز خيو، فيما لم يكن حظ كثيرين آخرين مواتياً. أيضاً، أفاد مصدر من الغوطة الشرقية بأنّ أدلة ظهرت عدّة مرات على أن الفصائل قامت بالمفاوضة على فديات مالية مقابل المخطوفين.

في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2015، قام فصيل جيش الإسلام بتوزيع أقفاص حديدية في محيط المدينة تحتجز مدنيين من مخطوفي عدرا العمالية، وذلك رداً على قصف النظام الشديد للغوطة، لتكون هذه الواقعة المشينة جريمة أخرى تضاف إلى السجلّ الإجرامي لهذا الفصيل.

في شهر نيسان (أبريل) عام 2018، وبعد تهجير الدفعة الأخيرة من أهالي الغوطة الرافضين للاتفاق الذي فرضته قوات النظام على فصائل الغوطة، بعد أسابيع من القصف الوحشي الذي تضمن استهداف المدنيين بالسلاح الكيميائي، جرى الإفراج عن دفعة أخيرة من مخطوفي عدرا، لكنّ أعدادهم القليلة صدمت الأهالي الذين لم يحصلوا حتى الآن، لا من النظام الذي سيطر على المنطقة ولا من الفصائل التي غادرتها باتفاق مع النظام، على أي معلومات بشأن مصير أبنائهم.

*****

في كانون الأول (ديسمبر) 2013، في مساكن عدرا العمالية ومحيطها، وعلى طرفي خط التماس، قام مجرمون باعتقال وإعدام وتعذيب عشرات السوريين. كانت حفلة البشاعة تلك عاراً على الجميع، عاراً سيلاحق المجرمين دوماً، فيما لا يزال مجهولاً مصيرُ كثير من المدنيين الذين اختطفتهم تنظيمات جيش الإسلام وجبهة النصرة، أو جرى اعتقالهم وتغييبهم على يد قوات النظام.

موقع الجمهورية

—————————-

عشر سنوات على جمعة سوريا العظيمة/ عروة خليفة

بعد قرابة شهر على انطلاق الاحتجاجات في سوريا، كان واضحاً أن النظام قرّر استخدام العنف الدموي  في مواجهة المظاهرات التي وصلت البلاد في محيط يغلي من تونس إلى اليمن، فيما راح المتظاهرون يجاهرون بشكل واضح بأن الشعب يريد إسقاط النظام. عاشت سوريا ساعات مفصلية في مسار الاحتجاجات التي بدأت تتصاعد في المدن والبلدات لتُشكّل الثورة السورية، وذلك في اليوم الذي صادف «الجمعة العظيمة»، التي تسبق عيد قيامة المسيح، وهو الاسم الذي استخدمه منظِّمو المظاهرات الموجودون داخل وخارج سوريا ليكون شعار الحراك في الثاني والعشرين من نيسان (أبريل) 2011، اليوم الذي شهد حملة القمع الأكثر عنفاً ضد المتظاهرين حتى ذلك الوقت.

في داريا مثلاً، سقط أول ثلاثة شهداء من أبنائها، فيما خسرت بلدات الغوطة الشرقية كلها تقريباً شهداء في مظاهرات ذلك اليوم، التي اتسع نطاقها في عموم البلاد، حيث انطلقت عشرات المظاهرات في أحياء وبلدات وقرى من أغلب محافظات سوريا، من بينها عامودا في محافظة الحسكة والبوكمال في محافظة دير الزور، وفي بانياس وجبلة وحمص وحماة وسلمية، وفي نقاط عدة من محافظتي درعا وإدلب، كما في سقبا وحمورية وعين ترما وزملكا وعربين ودوما والتل وجديدة عرطوز وغيرها في ريف دمشق، وفي أحياء جوبر وبرزة والقابون والميدان في دمشق.

كان توسع الاحتجاجات على هذا النطاق ردّاً واضحاً من السوريين على الخطاب الاستفزازي لبشار الأسد نهاية شهر آذار (مارس)، قبل أسابيع من الجمعة العظيمة، الذي دفع أعداداً أكبر من المحتجين إلى الشارع على ما يبدو. لم ينجح تعنُّت الأسد، الذي كان في خطابه حذراً من ترداد أي كلمات يمكن اعتبارها تفهّماً للمتظاهرين، خلافاً لما فعله رؤساء دول أخرى وصلت إليها الثورات مثل مصر وتونس.

في ذاك اليوم المفصلي، شهدت دمشق أولى محاولات الوصول إلى ساحة رئيسية والاعتصام فيها، وهي المحاولة التي قام بها متظاهرو الغوطة الشرقية باتجاه ساحة العباسيين، وذلك على الرغم من الأحاديث المروِّعة عن مجزرة ارتكبها النظام بحق المعتصمين في ساحة الساعة في حمص قبل أيام قليلة.

بعد صلاة الجمعة، بدأت مظاهرات بلدات الغوطة الشرقية بالتجمع بين نقاط محددة ثم متابعة المسير. وصلت مظاهرة بلدة حمورية إلى سقبا، وانطلقت الجموع إلى جسرين، ومنها نحو المتحلق الجنوبي الفاصل بين دمشق وغوطتها الشرقية. يقول فادي أمين، وهو ناشط من الغوطة الشرقية شارك في تلك المظاهرة: «كان الجميع يعلمون أننا نتجه نحو ساحة العباسيين عبر منطقة الزبلطاني. كان هدفنا التجمع هناك والاعتصام في إحدى أكبر ساحات دمشق، في محاولة لاستخدام تكتيك ساحة التحرير في مصر». وعلى الرغم من أن جميع المتظاهرين كانوا يعلمون هدف تلك المظاهرة، وهو الخبر الذي انتشر بينهم مثل الإشاعة، لم يكن هناك منظِّمون ظاهرون على الأرض ولا قيادة واضحة للمظاهرة. كان المنظمون في تلك الفترة يحاولون الابتعاد عن الواجهة، لأنّ أجهزة أمن النظام كانت تستهدفهم بشكل مباشر.

من جوبر، الحي الدمشقي المتاخم للغوطة والمُلاصِق لساحة العباسيين من الجهة الأخرى، انطلقت مظاهرات أخرى باتجاه طريق المناشر، بعد أن اجتمع في عدة نقاط من الحي متظاهرون من زملكا وعربين وآخرون قادمون من دوما، وذلك بهدف التوجه نحو ساحة العباسيين أيضاً. محمد اسم مستعار لشاب من حي جوبر، شارك في تلك المظاهرات وهو يعيش اليوم في مدينة دمشق. يقول للجمهورية.نت: «انتظرنا متظاهري زملكا وعربين من أجل الانطلاق نحو طريق المناشر. كان العديد منا يعلمون الوجهة بعد أن تواصلنا عبر الإنترنت بشكل مباشر مع منظمي المظاهرة، الذين كان بعضهم في سوريا وآخرون خارجها. كانت الفكرة أن تكون هناك حلقات وصل من ناشطين خارج البلاد، من أجل عدم اكتشاف كل منظمي الاحتجاجات إذا ما اعتُقل أحدهم». اعترضت كمائن للأمن مجموعات من متظاهري جوبر ففرّقتهم واعتقلت بعضهم، فيما انطلق قسم آخر منهم نحو طريق المناشر، نسبة إلى مناشر الخشب الموجودة فيه، وكان واحداً من طريقين رئيسيين يصلان حي جوبر بالساحة الأكبر في مدينة دمشق، والتي يطلّ عليها أيضاً ملعب العباسيين الدولي.

على الطرف الآخر، إلى الجنوب الشرقي من ملعب العباسيين، كان متظاهرو بلدات سقبا وحمورية وجسرين قد اجتمعوا بمتظاهري عين ترما، ثم واصلوا سيرهم باتجاه دمشق، مارّين بالقرب من ثكنة عسكرية معروفة اسمها ثكنة كمال مشارقة. هناك هتف المتظاهرون، الذين لم يروا أي حاجز أقامته قوات الجيش قرب الثكنة، «الشعب والجيش إيد وحدة». يقول فادي في حديثه للجمهورية.نت: «عندما وصلنا إلى جوار الثكنة ولم نشهد أي مظاهر قمع للاحتجاجات، ازدادت شجاعتنا في التقدم نحو ساحة العباسيين، إذ كنا نتوقع صداماً مع الجيش أو الأمن في تلك النقطة. تقدمنا على أمل الوصول والاعتصام في ساحة العباسيين، حتى وصلنا إلى سوق الهال (سوق تجارة الخضار بالجملة في مدينة دمشق)، وهناك تغير كل شيء».

هناك، بدأت قوات الأمن المتواجدة بالقرب من بناء برجي في منطقة الزبلطاني، يسمى مجمّع الثامن من آذار، بإطلاق النار بشكل كثيف جداً: «اختبأنا خلف حاويات منتشرة بالقرب من سوق الهال. كنت في الصف الثاني، وأرى مطلقي النار بوضوح إذ لم يفصلنا عنهم سوى مسافة 300 متر. للوهلة الأولى تجمّدنا بسبب صوت إطلاق النار الكثيف، لكنني عرفت أنّ معظم تلك الطلقات كانت في الهواء. كنا لنموت جميعاً لو صُوِّبت نحونا بشكل مباشر». لم يستطع المتظاهرون بسبب الذعر الذي تسبّب به إطلاق النار الكثيف جداً، والذي بدأ يتسبّب بسقوط مصابين بعد ذلك. بعض المتظاهرين راحوا يشيرون إلى قناص موجود فوق بناء الثامن من آذار، ثم بدأ بعضهم يسقطون قتلى بالرصاص، وعندها وهنا بدأ المتظاهرون الذين كانوا قد وصلوا إلى منطقة الزبلطاني وسوق الهال بالهرب من المكان.

يتابع فادي تذكر تلك اللحظات: «هربنا باتجاه البساتين القريبة، ومنها نحو منطقة الكبّاس، لنُفاجأ بأنّ باعة متجولين في المنطقة بدأوا يضربون كل من يرونه هارباً ويشاركون في اعتقاله. حاول البعض منّا شراء الخبز من أفران منطقة الكبّاس، بهدف إيجاد حجة أمام حواجز الأمن التي طوقت المنطقة بالكامل».

حاول بعض المتظاهرين الواصلين إلى الزبلطاني الهروب والالتفاف من خلف سوق الهال، بهدف التوجه نحو متظاهري جوبر الذين كانوا في تلك الأثناء متّجهين أيضاً إلى ساحة العباسيين عبر طريق المناشر، لكن كمائن للأمن قامت باعتقال كثيرين منهم، فيما واجه متظاهرو جوبر ردة الفعل ذاتها. يقول محمد: «خرج العناصر فجأة أمامنا وبدأوا بإطلاق النار علينا، ولم يكن أمامنا سوى العودة إلى جوبر، أما من حاول التوجه عبر طرق فرعية إلى جهة أخرى تلقّفته كمائن تابعة للأجهزة الأمنية بالرصاص والاعتقال».

يقدّر مشاركون في تلك المظاهرات بوصول ما يقارب الألف متظاهر إلى منطقة الزبلطاني، ومثلهم عبر طريق المناشر، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى ساحة العباسيين بسبب مقتل وإصابة واعتقال العشرات منهم. تتحدث التقديرات عن 25 شهيداً في محاولة الوصول إلى العباسيين وحدها، فيما بلغ عدد ضحايا ذلك اليوم في عموم البلاد نحو مئة شهيد، إذ تمت مواجهة غالبية المظاهرات بعنف شديد من قوات الأمن التابعة للنظام السوري. كانت تلك أكبر حصيلة يومية للضحايا في سوريا حتى تاريخها.

«عندما كنا في الطريق نحو ساحة العباسيين، لاحظتُ شباباً يحملون علب مرتديلا وآخرين يحملون زجاجات مياه غازية. كان الجميع يريد التجهز للاعتصام في ساحة العباسيين، وفي حين توقع الكثيرون مواجهتنا بعمليات قمع، لكن لم نكن نتوقع مثل هذا العنف الشديد، ليس حتى وصلنا إلى منطقة الزبلطاني حين أطلق الرصاص علينا مثل المطر»، يقول فادي أمين للجمهورية.نت.

لم تكن تلك المحاولةَ الأخيرة للوصول والاعتصام في ساحة العباسيين، لكنّ قمع النظام الشديد، الذي وصل بعدها أحياناً إلى استخدام أسلحة متوسطة في مواجهة متظاهرين عزّل، أدى إلى فشل جميع محاولات الوصول إلى ساحات دمشق الرئيسية. بدلاً من ذلك، صار لكل بلدة وحي وقرية ساحة رئيسية صغيرة، إذ لم يمنع القمع الشديد المتظاهرين من العودة مجدداً إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام طوال الأشهر التالية، التي شهدت حراكاً ثورياً واسعاً واجه بعضاً من أعنف عمليات القمع التي يمكن تخيلها.

بدء الانطلاق من سقبا الى العباسيين في الجمعة العظيمة

ذكرى 22-4-2011 المتظاهرون قرب ثكنة كمال مشارقة

مظاهرات الجمعة العظيمة

موقع الجمهورية

————————

أسوار الساحات/ عروة خليفة

كيف شوهدت لحظة 25 يناير من سوريا؟

يناقش عروة خليفة أدناه الهاجس الذي دفع الثوار السوريين لاحتلال الساحات على طريقة ميدان التحرير في القاهرة، ويسرد صادق عبد الرحمن تسلسل الأحداث التي جرت في سوريا بالتوازي مع أحداث الثورة المصرية.

استعداداً لإطلاق شرارة ثورة جديدة في المنطقة بعد الثورة التونسية، كان المتظاهرون الذين خرجوا في عيد الشرطة في مصر يتجهون للتجمع في ميدان التحرير، أحد الساحات الرئيسية في العاصمة المصرية. كان هذا التجمّع يلعب دوراً آخر غير تثبيت أقدام المحتجين وإغلاق البلد تنفيذاً لتكتيك احتجاجي معروف، فقد كانت المشاهد القادمة من تلك الساحة ملهمة لكثيرين يعيشون في بلدان أخرى تتحيّن ساعة الانتفاض، حيث يمكن لما نجح في كبرى مدن المنطقة أن ينجح في مدن أخرى – هكذا ظننّا جميعاً على الأقل.

لم تهدف أولى المظاهرات الهاتفة بالحرية في مدينة دمشق، في الخامس عشر من آذار (مارس)، إلى احتلال أي ساحة، بل إلى تسجيل احتجاج مفاجئ في قلب عاصمة نظام الأسد.

في اليوم التالي، انطلقت مظاهرة نظّمها حقوقيون ومعارضون وأهالي معتقلين سياسيين من محيط ساحة المرجة، إحدى أقدم ساحات المدينة وأحد مراكز ثقلها التاريخي والرمزي، وإن لم يكن لإغلاقها أن يتسبب بشلّ حركة المرور في مدينة دمشق. لم يكن هدف تلك المظاهرة إغلاق الساحة على أية حال، بل إعلاء صوت المعتقلين السياسيين والاعتراض على أوضاعهم.

كلتا المحاولتين جرى قمعها وفضّها بالعنف، ومن ثم اعتقال بعض المشاركين فيها خلال وقت قصير. لكن تلك الاحتجاجات كانت كافية لتحريك المياه في بركة السياسة الراكدة في البلاد، والتي سرعان ما باشرت الغليان إثر تصاعد التظاهرات في مدينة درعا جنوباً، لتشمل كامل المحافظة ومن ثمّ البلد كلّه. بدأ كل ذلك بعد اعتراض مجموعة من الأهالي على انتهاكات قامت بها قوات الأمن بحقّ أطفال طلاب في المرحلة الإعدادية، وذلك على خلفية كتابتهم شعارات معادية للنظام تأثراً بموجة الثورات في المنطقة. هذه الموجهة كانت قد شملت في ذلك الوقت تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والمغرب، وسقط جراءها بالفعل رئيسان اثنان.

كان الحراك الذي بدأ ينتقل من حمص إلى بانياس ودوما ودير الزور ودمشق، وطبعاً درعا، يحتاج إلى هدف واستراتيجية عمل. كُتيّب التعليمات الأكثر نجاحاً في ظل تلك الظروف والمتوافر بين أيدينا، كان ما جرى في القاهرة، عاصمة نظام استبدادي يُفترَض أنه الوالد الشرعي لأنظمة المنطقة التي استنسخت التجربة الناصرية. كانت صورة ميدان التحرير تشعل النيران في المنطقة بالطريقة ذاتها التي أشعلت بها خطب جمال عبد الناصر لهيب «ثورة التحرر» في قلوب «الجماهير». كان ميدان التحرير ناصرنا في تلك اللحظة، على ما يحمله هذا التشبيه من تناقضات وسخرية وتراجيديا.

هكذا جرى اعتماد تكتيك الساحات، وساعد على ذلك خط التحرير في المؤسسات الإعلامية العربية الأكثر تأثيراً، والتي ربطت بين إطلاق اسم الثورة على الاحتجاجات وبين التشابه مع النموذج المصري. كان هذا دافعاً إلى محاولة المحتجين الوصول إلى الساحات الرئيسية في المدن السورية الأساسية، والاعتصام فيها، وهو ما نجح مؤقتاً في بعض المدن، وفشل في أغلبها، تحديداً مدينتي دمشق وحلب، اللتين أصبحت ساحاتهما ثكنات عسكرية خلال وقت مبكر من اندلاع الاحتجاجات في البلاد.

لم يحتج النظام إلى مُخبِرين يكتبون التقارير لفروعه الأمنية المنتشرة كي يتوقع خطة المحتجين والثائرين في البلاد. كان النموذج المصري واضحاً له هو أيضاً، وكان نظام الأسد مصرّاً على أنّ النتيجة المصرية لن تتكرر في سوريا.

نجحت بعض تلك المحاولات لساعات كما في ساحة الساعة في مدينة حمص، ولأسابيع كما في ساحة العاصي في مدينة حماة، لكن كان المتظاهرون يتعرضون دوماً إلى عنف وحشي إلى درجة ارتكاب مجازر. فاق التوحش الذي اعتمدته أجهزة النظام الأمنية والعسكرية الخاصة كلَّ تصور، تحديداً عندما كان هدف المظاهرات الوصول إلى ساحات رئيسية في مدينة دمشق خلال الأشهر الأولى من الثورة عام 2011. هذا التوحش تراجع قليلاً عندما التزمت التظاهرات بعدم الخروج من مناطق معينة في أحياء دمشق الطرفية، أو في محيطها في بلدات الغوطة الشرقية والغربية.

وعلى الرغم من أنّ احتلال ساحة العباسيين لم يكن ليُسقط نظام الأسد بشكل مؤكد، فقد بدت تلك المعركة مصيرية للغاية بالنسبة للنظام وأجهزته. معركة كانت نتيجتها تحول التظاهرات إلى التجمع في ساحات صغيرة للأحياء والبلدات، وهو ما حرصت عليه الحواجز الأمنية التي قطعت أوصال المدن والمحافظات السورية.

بدت تلك الساحات بديلاً مصغراً لنموذج ميدان التحرير، حيث امتلكت كلّ حارة أو بلدة أو مدينة سورية ساحة تحريرها الخاصة، وأحياناً ساحاتها.

ساحة حي الخالدية في مدينة حمص، التي جلب إليها المتظاهرون نموذجاً للساعة الموجودة في ساحة المدينة الرئيسية، مثال جيد على هذا التحول. وعلى الرغم من زيادة مناطق التظاهر وارتفاع أعداد المتظاهرين، كانت المحاولات للتوجه واحتلال ساحات رئيسية في دمشق وحلب تتراجع تدريجياً، وإن لم تتوقف تماماً حتى أفول آخر مظاهر الطور السلمي من الثورة.

لم يتسبب اللجوء إلى الساحات الفرعية بإغلاق البلد، فقد بقي الموظفون يذهبون إلى أعمالهم نهاراً، ويتظاهر عدد غير قليل منهم ليلاً، فيما كانت التهديدات الشديدة للتجار في دمشق وحلب حلّاً ناجحاً – للمرة الثانية منذ الثمانينات – في منع حدوث إضراب عام في البلاد. أضرب المحتجون، وأغلقت المحال في البلدات والأحياء الصغيرة، لكن ظلّت الأسواق المركزية تعمل. كان سيكون حدثاً رمزياً أكثر منه تغييراً في ميزان القوة لو حصل، لكنه لم يحصل على كل حال، فمن طلب من الله المدد ليرسل له حافظ الأسد لن يغير رأيه لأنّ مبارك استقال، أو لأنّ العمّال والطلاب وأفراد الطبقة الوسطى المصرية يحتلون ميدان التحرير.

كان الحراك في سوريا ينتقل ضمن ما يمكن اعتبارها المساحات المشتركة للحي القديم. لم يكن في المدن الشامية قبل القرن العشرين ساحات عامة أو مساحات عامة خارج جدران البازار. ساحاتها كلها حديثة، بينما امتلكت كل حارة أو بلدة صغيرة ساحة صغيرة هي مساحتها للحياة العامة. في تلك المساحات استمرت نيران الثورة في سوريا، احتفالاً يومياً بامتلاك الناس أصواتهم. كانت تلك المساحات، على صغرها، تغييراً جذرياً للأوضاع التي فرضها نظام سجن تدمر ومذبحة حماة؛ تغييراً جذرياً لمعادلة «الحيطان إلها أدان».

أدت هذه الأوضاع إلى انتقال الحراك للتفاعل على المستويات الأكثر محليّةً، خاصةً بعد تراجع أدوار أجسام عابرة للمدن مثل لجان التنسيق المحليّة. يمكن مشاهدة ذلك بصورة أوضح بعد ظهور أولى تجارب المقاومة الشعبية المسلحة، والتي تمثلت في مجموعات مسلحة محلية لا تمتلك أي استراتيجية خارج حدود مناطقها. فقد النظام توازنه نتيجة ضرباتها، وتراجع أمام زخم الاحتجاج والمقاومة التي توزعت على مساحة البلاد، لكنه لم يسقط. ستساعد استعادة تسجيلات أبو علي خبية المصورة التي يهدد فيها بشار الأسد على فهم ما جرى.

ميدان التحرير، قبل هذا وبعده، ظلّ الحلم الذي لم يتحقق في سوريا. كان ذلك الحلم مطلوباً بشدّة، رغم غياب أي دليل على أنه سينجح في سوريا. واليوم، تحوّلت سوريا من بلد صغير يحكمه حافظ الأسد ثم ابنه، إلى سوريات عديدة يحكم بشار الأسد بعضها بمعية محتليه المفضلين إيران وروسيا، فيما يحكم آخرون قطعاً منها بمعية محتلين آخرين.

أما الساحات التي أفلَتَ فيها بشار الأسد كلابه علينا، فإن فيها سيارات بالكاد تسير إذا وجدت وقوداً، ومحال تبيع ألبسة وأطعمة يفوق سعر بعضها مجمل الدخل الشهري لمن كانوا يوماً طبقة وسطى.

بالنظر إليها مجدداً، لم تكن تلك اللحظة مفهومة تماماً لأحد، بالذات للأنظمة التي تحكم المنطقة منذ ما يزيد عن نصف قرن (وأكثر): ناس يحرقون أنفسهم، يذهبون إلى الموت الأكثر إيلاماً، والأكثر جهريةً واعتراضاً. كانت أنظمة المنطقة تفقد سلاحها الرئيسي في مواجهة الناس؛ الموت المؤلم أو الألم الذي يفوق الموت. أو هذا ما يمكن أن يظهر لنا الآن بعد مدة طويلة، لكنها ليست كافية بعد لتكون تلك اللحظة مجرد تاريخ مضى.

على الطرقات المؤدية إلى ميدان التحرير في القاهرة، سارت «مواكب عليها الكلمة والمعنى». سِرنا كلّنا وراءها، لكننا لم نصل

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى