من ذاكرة صفحات سورية

من ذاكرة صفحات سورية: مذاهب المفكّرين السوريين في “الدولة العربية”/ ياسين الحاج صالح

كلمن عدد 0، ربيع 2010

تمايزت، في العقدين الأخيرين، ثلاث مقاربات في شأن الدولة وعلاقتها بالمجتمع في تفكير المثقفين السوريين الأبرز، وإن أحالت ثلاثتها على الدول العربية أو “الوطن العربي” جريا على سُنّة كتابية سورية أصيلة. تتكلم مقاربة أولى على دولة قمعية أو استبدادية، تحكم بالقوة العارية مجتمعات مقهورة؛ وتصدر المقاربة الثانية عن افتراض ضرب من تعادل بين الدولة والمجتمع، أو على كون تلك “تعبيرا” عن هذا؛ فيما تقرر مقاربة ثالثة أن الدولة أكثر تقدما من المجتمع، وأنها عاملة على تحديثه وترقّيه التاريخي.

نسمي المقاربة الأولى ديموقراطية، والثانية تعبيرية، والثالثة تحديثية.

لا يقرر النقد الديموقراطي (نمثل عليه ببرهان غليون) أن نُظم الحكم العربية استبدادية[1] فقط، تتوسل القوة أساسا لحكمها، وإنما هو يشكِّل محور الوعي الذاتي لحركات سياسية، تتطلع إلى تغيير “ديموقراطي” لنظم الحكم القائمة، وينخرط مناضلوها في أنشطة معارضة لها.

وضد هذه، تقرر المقاربة الثانية (ممثّلة بجورج طرابيشي) أن نظمنا القائمة لم تنزل من السماء، وأنها في الواقع انعكاس لمجتمعاتنا، لثقافتها ومستواها الحضاري بخاصة. قد تكون نظمنا استبدادية وفاسدة، لكنها تعبير أمين عنا. فـ”كما تكونون يُولّى عليكم”. وعموما يجري تعريف ما “نكون” ثقافيا. فالمقاربة التعبيرية ثقافوية جوهريا.

ولا تكتفي المقاربة الثالثة (يمثلها عزيز العظمة) بالتعويل على الدولة المتقدمة من أجل تقدّم المجتمع المحكوم ومجانسته وترقّيه، بل وتجنح إلى معاداة نقاد “الدولة” ومعارضيها.

لا تقع المقاربات الثلاث على مستوى واحد. يلتقي في الأولى تفكير نظري مع نشاط سياسي عملي. فيما الثانية عقيدة تبريرية، موجهة أساسا ضد سابقتها. أما الثالثة فهي استقراء تاريخي نظري، مبني أساسا على مفهوم الدولة المجرد. هذا لا يعني أن المقاربتين التعبيرية الثقافوية والتحديثية منزهّتين عن السياسة والصراع السياسي. ليستا كذلك بحال، وسنرى أنهما تشاركان المقاربة الأولى في ترتيب قول في الديموقراطية، فكرة وحركة[2]، على قولهما في الدولة.

المقاربة الديموقراطية… سياسوية

تؤسس المقاربة الديموقراطية لخيار سياسي مختلف أو “معارض”، موجَّه نحو تغيير صيغ الحكم، بما يضمن مساءلة الحاكمين وحريات أوسع للمحكومين ومساواة أكبر بين جمهور السكان وسيادة قوانين عامة وتداولا للسلطة، وبما يُفترَض أنه يتيح تجاوز الإعاقة التاريخية التي تشلُّ العالم العربي وبلدانه جميعا منذ عقود. كان أُعيد اعتبار فكرة الديموقراطية في سبعينات القرن العشرين، في أوساط معنية بالتقدم والتحرر العربي والوحدة العربية (لياسين الحافظ الفضل الأكبر في هذا الشأن)، وتنظر إلى الديموقراطية كمنهج عملي للتقرُّب من تلك الأهداف. ولا يُستغرَب أن العنوان الديموقراطي لم يوفّر نظرات أكثر تدقيقا في نظام العلاقة بين الدولة والمجتمع في بلداننا. فهو في أصوله الفكرية عروبيٌ عام، الأمر الذي قلما أتاح له أكثر من نظرة طائر إلى المجتمعات العربية العيانية، بما فيها السوري. وهو من جهة ثانية موجه نحو العمل، فلا ينشغل كثيرا بالتحليل النظري والمعرفة التفصيلية.

وفقا لمقاربة غليون الديموقراطية، تبدو المجتمعات العربية مقيّدة من قبل “دول”، هي بمثابة “وحش يغتال الحريات”[3]، تحكم بسبل “عنيفة وميكانيكية، بل هستيرية أحيانا”[4]. و”الدولة التعسفية” هذه، الموصوفة بأن “التعسف دستورها الحقيقي”[5] هي بمثابة “آلة تحاصر المجتمع من كل صوب وتخضعه لإرادتها وتفرغه من أية ماهية سياسية”[6]. إنها “وحش مقدس”، تريد أن “تبتلع المجتمع” وتجعل من نفسها “المعبود الأول” له[7]. وهي تحكم عبر “تضخيم أجهزة القمع ووسائله لدرجة أصبح معها معدل بناء السجون والمعتقلات ومعسكرات التجميع والمراقبة ونقاط التفتيش وأجهزة المخابرات أكبر من معدل بناء المستشفيات أو المدارس أو الخدمات الاجتماعية”[8].

غليون يعبر عن توجه عريض، هيمن في الثقافة العربية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكان أحد شعبتي التيار القومي اليساري الذي ظهر في الستينات والسبعينات، وتفرعت عنه شعبة ثانية انصرف تركيزها أكثر إلى الحداثة والعلمانية.

وإذ انصبّ نقده على “الدولة التحديثية”، القمعية جوهريا، فما أمكن للطرح الديموقراطي أن يتساءل عما إذا كانت النُظم الاستبدادية الحاكمة تستفيد من أشياء أخرى غير القمع. كان القمع تشخيصا للعلاقة بين الدولة والمجتمع، يفترض خارجية العلاقة بينهما و”غربة” تلك عن هذا، أو “أجنبيتها” حياله. وكان الفائض القمعي، الملموس فعلا، برهانا يغني عن مزيد من النظر.

والواقع أنه قلما امتنع ديموقراطيون عرب في ثمانينات القرن العشرين، حيث دانت الهيمنة للفكرة الديموقراطية دون منازع، عن قطع المسافة بين القول إن نظمنا قامعة لمحكوميها، متسلطة، وحشية…، وبين القول إنها غريبة عليه، “خارجية” أو “أجنبية” عليه[9]. لكن معنى “المجتمع” هو ما يختلف بالانتقال من العبارة الأولى إلى الثانية. في الأولى هو “شعب” مقموع، بينما هو في العبارة الثانية “أمة” مستلبة. يجري تعريفه هنا بلغة الثقافة و”الهوية” و”الذات” و”الأمة”، والمرسى المرجّح لهذه جميعا هو “الإسلام”؛ وليس بلغة الاجتماع والاقتصاد والفرد والحق والطبقات والمؤسسات الموحدة التي يفترض أنها تعرِّف “الشعب”. نحن هنا حيال أمة مواطنين محتملة، بينما هناك حيال أمة ثقافية أو دينية مُضمَرة. وبقدر ما يتمحور النقد الديموقراطي لغليون على “الدولة التحديثية[10]” التي هي “أداة عمياء”[11] لمصالح مسيطرة، يتكلم أيضا على “ذات” تبدو معطاة ومتكونة قبل الدولة، “ذات” يجري “الانتقاص” منها بل “إنكارها”[12] من قبل “نخبات اجتماعية” توصف بأنها “على صلة أكثر بالغرب”[13]. يتكلم كذلك على “رفض الذات والتمثيل بالنفس”، من قبل “بعض أجنحة هذه النخبة” التي هي بمثابة “أصولية معادية للإسلام” تتعمد “تسويد صفحة التاريخ العربي والإسلامي”[14]. ويشير إلى “اكتشاف الذاتية ومراجعة مسائل الهوية والخصوصيات التاريخية”، وإلى أن “تجاهل الذاتية (…) هو ما حول عملية التنمية إلى مسألة مراكمة للآلات الميتة والبضائع والمنتجات…”[15].

وبينما يوجه غليون أعنف نقده إلى ما سماه “حثالة الحداثة” أو “حداثة – حثالة”[16]، أو “تحديثية رثة”[17]، يثمّن كثيرا “الذاتية” و”الهوية” و”الأنا العميقة”[18].

وفي المحصلة، يسهِّل طرح غليون تصور أن “الدولة” استبدادية سياسيا لأنها “أجنبية” على المجتمع ثقافيا، مع رد الثقافة ذاتها إلى “ذاتية” لا مضمون فعليا لها غير “الإسلام”. وهو ما يضمن تماهيا ميسورا للمسلمين بـ”الأمة”، فيما يُغرِّب عنها الأقل تماهيا بالإسلام، بمن فيهم من قد يكونون مسلمين سوسيولوجيا في الأصل.

لا يوفر هذا الطرح ضمانات ضد تصور الديموقراطية بمثابة إعادة الأمور إلى نصاب “طبيعي” لها، بحيث “تعبِّر” الدولة عن المجتمع، أو “تطابقه”. ولقد سهّل هذا الانتقال الخفي وغير الشرعي من شعور عموم الإسلاميين السياسيين بأنهم ديموقراطيون لا ينقصهم شيء، لمجرد كونهم معارضين للدولة التحديثية الاستبدادية. وسيسهم هذا التساهل في تصور أكثر تبسيطا للديموقراطية بعد، يردها إلى حكم الأكثرية، الذي وفّرت مناخات تلك الفترة (عقد الثمانينات عقد “التراث” و”الهوية”، وصعود الإسلاميين، كما قد نذكر) وحتى وقت قريب انزياحا معجميا ضمنيا يحيلها إلى الأكثرية الدينية أو يكاد، وهو أمر كان لا بد أن يفاقمه تدهور الاندماج الوطني وتنامي الوعي الذاتي الفئوي في بلداننا في الفترة نفسها. وفي سياق هذا الانزياح السياسي والدلالي، وتفاعلاً معه، سيظهر تيار فكري واجتماعي يعرّف نفسه بالعلمانية، معرّفة بدورها بصيغة مبسطة وإجرائية: فصل الدين عن الدولة. وملابسات ظهور هذا التيار ستتسبب بدورها في انزياح معجمي مقابل، يطابق بين الدين والإسلام حصرا، وبصيغته السنية تحديدا[19]. يشد من أزره في هذا المسلك الاختزالي صعود حركات إسلامية (سنية) متشددة أو عنيفة وتدهور الاندماج الوطني، في الفترة نفسها أيضا.

وبعد أن كان ياسين الحافظ يوحد المطلبين الديموقراطي والعلماني معا على أرضية قومية عربية واشتراكية، شهدنا تفرّقهما في العقد الأخير من القرن العشرين. إن برهان غليون من جهة، وجورج طرابيشي من جهة ثانية، تفرّعان عن ديموقراطية الحافظ العلمانية، العروبية والماركسية في آن معا. ولا ريب أن الأصل في هذا الانقسام هو تفكك القومية العربية التي كانت حركة علمانية وقاعدة مبدئية لتشكل أكثرية أو أمة جديدة، مختلفة عن الأمة الدينية.

وفي واقع الأمر، ليست الدولة غريبة عن المجتمع بالمعنى الثقافي للكلمة. بل إن هذه، بينما كانت توغل في الاستبداد وتراهن على الخلود في الحكم (ما يتضمن توريثه سلاليا)، كانت تقترب من المجتمع المحكوم ثقافيا، أو مما يفترض أنها ثقافته، كما سنرى.

***

في السنوات الأخيرة، التالية لـ11 أيلول 2001، ولاحتلال العراق في ربيع 2003 بخاصة، أضحى التشخيص الديموقراطي الذي يتكلم على “قمع” وعلى “غربة” عائقا معرفيا، يحول دون معرفة أوسع بوقائع العلاقة بين الدولة والمجتمع، فكان من ثم عاملا مهما في تراجع الفكرة الديموقراطية ذاتها. لقد أخذ يظهر هنا شيئان جديدان أو ثلاثة. أولها، توترات دينية ومذهبية وإثنية محتدمة تخترق مجتمعاتنا، وقد تتفجر بعنف إذا رفع الغطاء عنها. هذا يثير تساؤلا عما إذا لم يكن “الاستبداد” نوعا من الحل. ثانيها تكوينات إسلامية متنوعة الوجوه، قد تكون عنيفة أو أعنف، لكنها حتى حين لا تكون، تحمل طوبى مناقضة للدولة الوطنية الحديثة، الأمة الإسلامية المنتظمة حول “الشريعة”، فتثير قلق قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وهي في جميع الأحوال لا تخفي تطلعاتها السياسية، بما فيها الوصول إلى الحكم وفرض نظام إسلامي. وثالثها تدخلات خارجية كثيفة وقوية، قد تصل الى حد الاحتلال، وبيئة دولية وإقليمية خطرة، ما يهدد البلدان الضعيفة بأن تكون “دولا فاشلة”. وتتوحد هذه الظواهر الثلاث في أنها ترفع الطلب على “الدولة القوية”. وفي مناخات سياسية وفكرية ونفسية مضطربة كمناخات المشرق في ما انقضى من سنوات هذا القرن، سيرجح للفرق بين دولة قوية ودولة قمعية أن يمحي، أو يعتبر تزيُّدا كماليا في التدقيق. وإذا ارتفع الطلب على الأمن، فهل سيبقى نقد “الدولة الأمنية” (التعبير لطيب تيزيني) محتفظا بقيمته؟ كل هذا أضعف قضية الديموقراطيين أكثر. ولعله يبيح لنا القول إن هيمنة الفكرة الديموقراطية انتهت عربيا في وقت ما بين أيلول 2001 ونيسان 2003، بعد أن كانت دامت نحو ربع قرن.

وفي حدود علمي لم يطور الديموقراطيون العرب (وأنا منهم، وعلى ولاء ثابت لتطلعاتهم) مقاربة أكثر تعقيدا. هذا يقود منذ الآن إلى تصلب فكري وسياسي في أوساطهم، يتولد عن الثبات على صيغة واحدة للفكرة ضمن واقع كثروي متغير، على نحو ما كنا رأينا بخصوص الشيوعية قبل نحو عقدين؛ أو يقود إلى هجر الفكرة الديموقراطية إلى غيرها، أو أخيرا إلى التخلي عن كل اهتمام عام[20]. البديل الجدي هو تطوير الطاقة الاستيعابية للطرح الديموقراطي، كي يكون مؤهلا نظريا وعمليا للرد على المسائل والتحديات الجديدة. فليس الاستبداد هو الحل، بل هو مشكلة تزداد تعقيدا، وتجعل بلداننا رهينة بينه وبين “الفشل” والنزاع الأهلي.

***

والواقع أن تطلّب تفكير أكثر تعقيدا لم يكن غائبا تماما عن أفق الديموقراطيين السوريين، وإن لم يُستجَب له بصورة مبدعة. لقد ميزوا، وربما بتأثير من برهان غليون أكثر من غيره، بين الدولة والسلطة[21]، حيث الدولة مؤسسة (أو مُركّب مؤسسات) عامة وسيادية، والسلطة وظيفة من وظائفها، قد يتوسلها طاقم حاكم لتحصين مصالحه الخاصة بصورة أساسية. التمييز مفيد، لكنه لا يتيح رؤية الفاعلية التدخلية والإيجابية للدولة. الدولة، بما هي كذلك، تعلَّم وتنظم وتَضبِط وتربي وتقمع، وليس فقط “تعبِّر” أو “تمّثل”. مفهوم الدولة التي ليست مجرد سلطة لا يكفي. بل قد يكون جوهر المشكلة السياسية في سورية اليوم أن هناك بالفعل سلطة جهازية مُتضخِّمة، منشغلة أولا وأساسا بدوامها إلى درجة أن تدخلاتها في المجتمع لا تنضبط بنسق عقلاني مفهوم، وهي أقرب إلى أن تكون محدودة، على عكس ما قد يستخلص من الأدب الديموقراطي الشائع. فليس لها سياسة تربوية وطنية دامجة، أو سياسة تطوير ونهوض وطني، أو سياسة ثقافية مجدِّدة، ولا ينضبط رجالها بأخلاقيات رفيعة ليصلحوا قدوة لموطنيهم، أما قمعها فموجه ضد من ينازعها السلطة، فيما تكاد تترك كل شيء آخر للمحلي والأهلي. هذا فوق أنها منخورة بالمحسوبيات والتبعيات الشخصية والفئوية وعلاقات القرابة والثقة والمعشر، ما يقوض مبدأ الدولة العام من الأساس.

بحكم أولويتها العليا تلك، تجد “الدولة” نفسها مغلولة اليد، إن لم نقل مشجعة، لتطورات اجتماعية ودينية بالغة الخطورة من نوع تنامي المللية، وتأثير متزايد لأجهزة دينية متنوعة تمارس سلطات سيادية أو ما يقاربها (مجال الأحوال الشخصية بخاصة)، فضلا عن “فساد” مجتاح بالغ العدوانية وكلي الحضور، وعن موت الثقافة أو عيشها كنبتة برية، كما عن تصحر مساحات واسعة من البلاد وهجرة مئات الألوف إلى مخيمات بؤس حول المدن.

حيال هذا الشرط يلزم الدفاع عن دولة أكثر تدخلية، لا أقل. وكذلك التحول من تصور الديموقراطية كاشتراكية سياسية، تقوم على توزيع السلطة المتاحة إلى تصورها كإنتاج لمزيد من السلطة من أجل التوحيد والضبط والتنظيم الاجتماعي. وإن كان يتعين ضبط سلطة الدولة القمعية، ففي سياق يقتضي مزيدا من وظائفها الاجتماعية من جهة، وبالخصوص مزيدا من ضبط عشوائيتها وتعسفها واستسهالها الترويع والحلول االعضلية للمشكلات الاجتماعية والسياسية[22]. أما التفكير في الديموقراطية كتقييد للسلطة، أو كدفاع عن الدولة ضد السلطة، فيجعل المطالبة بوظائف اجتماعية أكثر غير مرئي وغير ممكن معا. باختصار، المطلوب المزيد من الدولة والمزيد من السلطة، والأقل من العشوائية.

لكن هل نبقى ضمن إشكالية الديموقراطية حين نتكلم على إنتاج السلطة مقابل توزيعها، وعلى دور موحِّد ومعقلِن ومنظّم للدولة؟ ألا نعود بذلك إلى إشكالية البناء الوطني (الدولة المربية الدامجة الموحدة)، وربما نعيد الاعتبار لمفهوم الديكتاتورية الوطنية؟ وبعد تجاربنا مع هذه، وبخاصة انزلاقها المتواتر إلى ديكتاتورية طائفية مقنّعة لا إلى ديموقراطية وطنية، من يجرؤ على قول كلمة طيبة بحقها؟ هذا مبرر إضافي لمزيد من النظرالنقدي في الموضوع.

المقاربة التعبيرية… ثقافوية

المقاربة الثانية، التعبيرية، “لحظة” من معرفة سديدة، قد تتلخّص في أن الدولة في أي مجتمع تشبهه بصورة ما، أنها منه وليست “غريبة” عنه أو “أجنبية” عليه، أنها ما كانت لتتسلّط وتستبدَّ لو أن المحكومين أرفع ثقافة وخلقا وأرسخ وحدة؛ وقد يُستخلَص من ذلك أن مسؤولية تغييرها مرهونة بتغيير ما بأنفسهم وهو ما يقع على عاتقهم وحدهم. وهذا سليم تماما.

لكن المقاربة هذه تنزلق بثبات إلى تبرير الحكم الاستبدادي أو إضفاء صفةنسبية عليه.

وبينما لا نجد تعبيرا عالِماً واضحا عن هذه المقاربة، إلا أنه ظهرت في العقدين الأخيرين، واشتد عودها في سنوات ما بعد 11 أيلول 2001، نظرة ثقافوية إلى مجتمعاتنا المعاصرة، تنزع إلى استخلاص أوضاعها السياسية من ثقافتها وذهنيتها، أو من “صندوق رأس” عام، يبدو أن الإسلام أبرز محتوياته[23]. وفي السنوات الأخيرة، النصف الثاني من هذا العقد بخاصة، حازت هذه النظرية التي تعي نفسها ضد الشعبوية على شعبية واسعة[24]. ومع انتشارها الشعبي، انسلخت عن صيغتها الأصلية، وأخذت تميل نسقياً، في السياق السوري، إلى لوْم المجتمع المحكوم وتحميله المسؤولية عن أوضاعه البائسة، فوق تكوين وأفعال نخب السلطة الحاكمة له[25].

تخفق هذه النظرية في تفسير القمع الواسع الذي تمارسه السلطات. فإذا كانت تعبيرا عن محكوميها، فينبغي ألا تضطر إلى هذه الدرجة من القمع. لكن يحصل أن يقال أحيانا إن المحكومين، البعض المعارض منهم على الأقل، لا يفهمون غير لغة القوة، وأن الاضطرار إلى “تكسير رؤوسهم” متولد عن “يباستها”[26].

ثم إن هذا الطرح محافظ سياسيا، يتشكك بالتغيير السياسي، ويخصُّ دعاته بأعنف سخطه. هذه سِمة جوهرية مطّردة للمقاربة الثقافوية. لا غرابة أن يواليها طيف اجتماعي متنوع، مستفيد من الأوضاع القائمة، أو لديه ما يخشاه من تغيرها، دون أن يكون بالضرورة من صلب النظام. وهو ما ينطبق عموما على “الثقافويين العلمانيين”[27]. ولا تكاد الصيغة الأشيع لهذه المقاربة تجد شيئا تؤاخذ “الدولة” عليه، أو تطلب منها دورا إيجابيا في إصلاح أحوال محكوميها. وبينما قد يستخلص من صيغتها العامة أن المحكومين هم وحدهم المسؤولون عن تغيير أوضاعهم كما أسلفنا، فإن عموم أصحاب هذه المقاربة يكتفون من مطلب التغيير بلوم المحكومين على انعدامه. التفسير هنا تبرير محض.

ولعل أصل هذا الانقلاب يتمثل في أن الشاغل المستولي على أذهان الثقافويين العلمانيين السوريين هو “الأصولية”. كل شيء آخر يهون أمام هذا البعبع الذي يتضاءل أمامه موقع “الدولة التحديثية” في كتاب غليون المشار إليه فوق.

والحال، إن هذه المقاربة التبريرية هي نقيض وطباق المقاربة الديموقراطية الثقافوية التي تقرر أن الدولة “غريبة” عن المجتمع. فبقدر ما جنحت هذه إلى تعريف المجتمع ثقافيا، فستُؤتى من مكمنها، ويُردُّ عليها بتعريف الدولة ذاتها ثقافيا: تفسرون الاستبداد بغربة الدولة عن المجتمع؛ طيب، لكن من أين أتت “الدولة”؟ إنها استبدادية فعلا، لكن ليس لأنها غريبة على المجتمع، بل لأنها منه، غريبة مثله على الحداثة والعصر! وتاليا لا “حل” بربط الدولة بالمجتمع أو بنزع غربتها، بل بـ”العلمانية”، فصل الدين عن الدولة. تكتسب العلمانية في هذا السياق معنى موجها بصورة حصرية ضد “الإسلام”[28]، نخبويا في الغالب، ومحافظا سياسيا.

للمقاربة التعبيرية طابع سجالي، بل صراعي، عنيف ومكتوم في آن معا. أوفر إشارات طرابيشي الغاضبة موجهة، وإن دون ذكره بالاسم، إلى برهان غليون، الموصوف بالشعبوية والديموقراطوية[29]. وليس شعار الشعبوية، حسب طرابيشي، غير عبارة “الدولة ضد الأمة”[30]، العنوان الفرعي لكتاب غليون “المحنة العربية”.

وكما قلنا، تشيع هذه النظرية التعبيرية لدى من يميلون إلى تعريف المجتمع بجوهر ثقافي أو اجتماعي يقع في ما وراء السياسة، إلى درجة أن السياسة لا تكاد تؤثِّر عليه، بينما له عليها التأثير كله. فقط إذا تغير هذا الجوهر، ستتغير السياسية والدولة. ولا يبدو أن هذا يعني تغيير نظام المجتمع القانوني أو هياكله الاقتصادية، أو اهتماما أوسع بالتعليم والتربية، أو “ثورة ثقافية”، دع عنك حريات سياسية أوسع، بل هو أقرب إلى انقلاب كياني، يطال ما يفترض أنه الجوهر العميق للمجتمع، “صندوق رأسه” الفاسد أو “ثقافته الكسيحة المريضة”.

منتقداً الطرح الديموقراطي المهيمن، “الشعبوي” و”الديموقراطوي”، يقابل جورج طرابيشي بين صناديق الاقتراع التي تنتهي إليها “الحرية الديموقراطية”، ويبدو أن عموم الديموقراطيين يكتفون بها، وبين صناديق الرؤوس التي “تنطلق منها”[31]. “المجتمع أساسا نسيج من العقليات”، فإذا لم “يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع، فإن هذا الأخير لن يكون إلا معبرا إلى طغيان غالبية العدد”[32]. ولا يعيِّن طرابيشي هذه بالاسم، لكن إشاراته وتلميحاته تتحرك في أفق تشغله مدركات مثل “الأصولية” و”الغالبية العمودية” و… “الإسلام”. ومن تعريف المجتمع بكونه “نسيجا من العقليات” يمضي مؤلف “هرطقات” إلى أن “الأنظمة العربية لا تتحمل انتخابا حرا، ولكن المجتمعات العربية لا تتحمل رأيا حرا”. لا يبرهن على كلامه، ولا يبدو أنه شعر بحاجة إلى البرهنة عليه، ولا هو يعيّن أية مجتمعات بالضبط، ولا في أية فترة زمنية. والانطباع الذي تبثُّه عباراته المرسلة يوحي أن رفض “المجتمعات العربية” للرأي الحر واقعة أولية، متصلة بجوهر ثابت لها، بـ”نسيج عقلياتها”، وليس شأنا سياسيا وتاريخيا، نسبيا ومتحولا. الدول وسياساتها وأجهزتها وتكوين نخبها لا تبدو شيئا مؤثرا على “نسيج العقليات” هذا، بل لعلها ضحية له.

ويبلغ المؤلف ذروة تهنئة الذات على “هرطقته” حين يقترح “نصابا تعليميا” لحق الانتخاب الديموقراطي. ويسوق حججا لدعم موقفه من نوع أن “زهرة الديموقراطية” “لا يمكن أن تنمو في تربة الأمية”، وأن “سفينة الديموقراطية” لا تستطيع الإبحار في “بحر الانفجار الديموغرافي”[33]، وأن “الأصوليين أبرع من يركب موجة الأمية”[34]. ولسبب ما، يخطر بباله تقييد الديموقراطية بنصاب تعليمي بدل اقتراح أبسط وأكثر وجاهة، يقضي بوجوب المباشرة بخطة وطنية لمحو الأمية خلال عقد من السنين مثلا. كما لا يوضح مستوى التعليم المطلوب من أجل “ثقافة الديموقراطية”، أو يبرهن على أن المتعلمين، والمثقفين، لا يدخلون في “كيس البطاطا” ويسلسون قيادهم لـ”القطيعية”[35]، فيصوِّتون تصويتا عموديا.

ليست هذه أمورا عارضة. هي أوثق صلة بالنظر إلى مجتمعاتنا المعاصرة كطبائع، أو “صناديق رأس” و”أنسجة عقليات”، تشغل في الثقافوية الموقع التفسيري المحدِّد الذي كانت تحتله البنية التحتية في الاقتصادوية الماركسية قبل جيل واحد.

قضية إصلاح الدولة والإصلاح السياسي خارج أفق هذا التفكير الذي يفترض بإطلاق أن الروابط الأهلية تشكل خيارات الأفراد السياسية دون أن يشرح لماذا، أو يقترح شيئا لتجاوز الأمر، أو يوضح ما إذا كان هذا الواقع ينتشر أم ينحسر. ولن تقول لنا “ثقافة الديموقراطية”[36] شيئا عن كيفية إصلاح “صندوق الرأس”، ولا ما إذا كان ينبغي رفض أية انتخابات عامة حرة قد تجري هنا أو هناك، ولا تقترح شيئا لتحسين نتائج صناديق اقتراعها المزدراة، وسبل تجنب أن تكون أولاها هي الأخيرة[37].

***

والنظرية التعبيرية للدولة التي يصدر عموم أصحاب المقاربة هذه عنها، أعني اعتبار الدولة مجرد “معبِّر أمين” عن مجتمعات معرّفةٍ ثقافيا، تؤدي إلى إسقاط الأساسي في مفهوم الدولة الوطنية الحديثة. هذه ليست تعبيرا. إنها تتدخل وتبادر، تعلم وتربي وتطوّر وتنمي وتوحِّد و”تجانِس” وتحدِّث وتشرِّع وتفرض وتراقب وتضبط و… تقمع. إنها مولجة بتطور المجتمع وتقدمه الأخلاقي والمادي.

حين يحشد التعبيريون كل قواهم للتنديد بالأصولية وبالشعبوية، ثم يغلبهم الهوى النخبوي فيعمون عن مضمون عنصري لعبارة “غالبية العدد”، التي لا تتوسل غير “صناديق الاقتراع” سلما لطغيانها، ينسون الاستنجاد بـ… “الدولة”، القوة المنظمة الأكثر تأثيرا دونما ريب في مصير محكوميها، والأكثر قوة وانتشارا، والتي لطالما أظهرت عزما هائلا في سحق أية مقاومة تواجه سلطة نخبها القائدة؛ ينسون الاستنجاد بها لوضع خطط وطنية وتطوير سياسات تضعف فرص الطغيان المهدِّد. أخمن أن لهذا النسيان منطقا. من جهة يريدون الدولة نخبوية وامتيازية، طالما هذا على حساب خصومهم وأعدائهم، وليس على حسابهم هم؛ ومن جهة ثانية، ربما يدركون أن هناك القليل من الدولة في “الدولة”، وأن من شأن الاستنجاد بهذا القليل أن يفاقم قِلّته، ويكشف انحيازا مخجلا إلى طغيان فعلي.

المقاربة التحديثية… تاريخانية

بين المثقفين السوريين، عزيز العظمة هو من يصوغ بأوضح صورة فكرة أن الدولة متقدمة على المجتمع. يقول إنها “دولة تنظيماتية كانت، وما زالت إلى حد كبير اليوم، أكثر تقدما من المجتمع المعني في جماع بعض حركاته (كذا)، دولة رمت إلى تشكيل مجتمع لها”[38]، يسمّيه “مجتمع الدولة”[39]، وهذا يبتغي التحقق “عن طريق هندسة اجتماعية تتوسل التشريع والمأسسة نمطا لفعلها، فكان الهدف منه إنشاء مجتمع دولة مكون من أفراد، وليس من جماعات تستتبعها الدولة بما هي جماعات أولية”[40].

ومثل سابقتها، المقاربة هذه سجالية وعالية النبرة، ومثلها هي أيضا قول سلبي في الديموقراطية[41] الموصوف مفهومها بالشعبوية[42] والديموقراطوية[43]، مضافا إليها “التوتاليتارية الاستفتائية”[44]، ودون نسيان “استبداد الأكثرية العددية الظرفية”[45].

لكن أليس تقدم الدولة هذا مسألة تعريف لها، شيئا نابعا من مفهومها المجرد؟ يُفترَض للوهلة الأولى أنه لا يسع أي دولة، بما في ذلك دولنا، إلا أن تكون دولة وطنية حديثة بدرجة ما. ولايتها عامة لا تقبل منافسا مبدئيا، تنزع ما استطاعت إلى احتكار القمع، بما فيه القمع الرمزي، أي التخوين. وهي تدخلية حتما، تصبو إلى تحقيق “التقدم”. بل هي الوكيل التاريخي للتقدم وتجسيده السياسي. ويفترض أن التقدم هنا لا يعني التراكم المادي فقط، وإنما درجة من التجريد والتوحيد والتعميم[46]، وكذلك الترقّي الأخلاقي (تعليم، رفاهية السكان، المساواة بينهم…). ليست الدولة أكثر تقدما من المجتمع، إلا لأن “التقدم” عنصرها و”رسالتها”، “هويتها” كدولة. بل برنامجها الوراثي. قد تكون الدولة “تقدمية” أو “رجعية” إيديولوجيا، بيد أنها وكالة للتقدم في كل حال. هناك بيروقراطية منظمة، وهناك قوانين عامة مبدئيا، وأجهزة تمثيلية، ولو شكلية. هذا فوق أنها منفتحة على مجال دولي تدرك، حتى حين تكون ثورية، منطقه الواقعي والعقلاني، وتتحمل حدا أدنى من المسؤولية حياله. الدولة هذه بالفعل “متقدمة” على المجتمع، المتناثر عموما، و”الطبيعي”. ليس ثمة سؤال هنا.

السؤال هو: على افتراض أن كل ما قلناه للتو مُحقّق تماما، والحال بالقطع ليست كذلك، هل “الدولة المتقدمة” هذه فاعل تقدم مجتمعي عام اليوم في بلداننا؟ هل تطرح على نفسها مهام توحيد وعقلنة وترقي المجتمع المحكوم بصورة نسقية وفعالة، ولو عبر تذليل ما يعاكس ذلك؟ هل تعمل على نهوض محكوميها الأخلاقي والمادي، أم بالأحرى يناسبها انكفاؤهم وانفصالهم عن بعضهم وعن العالم؟ هل تجد لها مصلحة جوهرية بمحو الأمية؟ هل هي عامل “مجانسة ثقافية” كما يقول العظمة[47]، أم بالأحرى عامل استتباع وتبعثر؟ هل يتعمق ويتسع الاندماج الوطني في ظلها أم يتراجع أم يثبت على حاله؟ هل هي “حاملة مسؤولية العمل التاريخي العربي وفاعلته ورافعته” حسب عبارة العظمة المفخمة[48]؟ وهل صحيح أنها “الضامن الوحيد الباقي لامتناع الديار العربية على محاولات قيادتها (كذا) النكوص الاجتماعي والثقافي، بل والتاريخي، إلى ما قبل الدولة الجمهورية الحديثة”[49]؟ وفي المجمل، هل تحوز الدولة طاقة تقدم كامنة تمكّنها من تعميم التقدم على محكوميها؟ هل في سيرتها التاريخية المحققة ما يسوغ الرهان عليها؟

يبدو لي من المثال السوري أن “الدولة” ليست عامل تقدم وطني عام، ولم تكن منذ أواسط سبعينات القرن العشرين على الأقل. إنها منظمة أكثر من المجتمع، تملك سلطات كبيرة وموارد كبيرة، وهي دونما ريب الجهة الأكثر تأثيرا على أوضاع محكوميها جميعا، لكنها تنزع لأن تكون دولة تعبيرية وسلطانية أو “دولة استتباع” بتعبير العظمة[50]. يبدو التبعثر الاجتماعي والوطني أنسب لها من التماسك والتوحد. ولعلها من هذا الباب تقمع التجارب الاجتماعية والسياسية الأكثر تقدما وعملا على تعزيز الثقة والتماسك الوطني[51]. معلوم أنه لطالما تعرضت التنظيمات السياسية والاجتماعية التي تتيح مستوى أرفع من تعارف السوريين واختلاطهم وتعاونهم مما هو متاح وطنيا حتى على مستوى نخبة السلطة، تعرضت إلى قمع مدمر، أفضى في المحصلة إلى حصر خيارات السكان بين أطرهم “الطبيعية” (أو الأهلية) وبين التبعية لمنظمات حكومية مبرمجة على “الولاء المطلق”. وليس لهذه المنظمات أي دور مدني واستقلالي، يضمن لها اختلافا عن الأطر الأهلية، هذه التي تلقى، بالمقابل، تسامحا عريضا وتمثيلا رسميا (من وراء حجاب)، بما يبيح لنا القول إنها منظمات سياسية لا توجد إلا في الدولة وبالدولة.

وعلى هذا النحو، تشبه المنظمات الحكومية (تسمى “المنظمات الشعبية” في سورية) روابط أهلية قائمة على الولاء والتبعية الشخصية والخضوع، بينما تربط التشكيلات الأهلية الموروثة حبالها بالدولة، بما يقضي بأن إعادة إنتاج أحداهما تمر عبر إعادة إنتاج الأخرى، وليس عبر اضمحلالها. لا علاقة تنافٍ بين الدولة والأطر الأهلية، بل هي علاقة تفاعل معقدة، لا تنضبط بمبدأ المحصلة الصفرية. مزيدٌ من “الدولة” لا يعني بحال مزيدا من “مجتمع الدولة” والقليل من المجتمع الأهلي و”وحداته الاستتباعية”[52]، بل الكثير من هذه والقليل من ذاك.

هذا هو نموذج “الدولة السلطانية المحدثة”.

نحن بعيدون جدا هنا عن دولة وطنية تصهر وتوحد، تراقب وتعاقب، تكافئ وتقمع. لا شيء من “مجتمع الدولة” المكون من أفراد. لا شيء “يعقوبيا” أو جمهوريا أو “نابليونيا” في هذه الدولة.

ربما يقال إن العظمة لم يكن يتكلم على سورية. بلى. الواقع أنه لا يتكلم على أي بلد بعينه. لكن نظرياته لا تظهر حساسية تُذكَر لأوضاع أي بلد عربي أيضا، ولا تساعد في فهم شيء من تطورات أي منها، بل لم تنجح حتى في إدماج ما صادف أن لاحظته (“تحويل العملية الانتخابية [الصحيح: الاستفتائية المهرجانية القسرية] إلى بيعة جماعية في جمهورية عربية”[53]) ضمن مقولاتها. بعد هذه الملاحظة، كما قبلها، يبقى كل اعتراض على سياسات “الدولة” وطغيانها “نبذا”[54] للدولة بالذات، وعلامة على “عدمية تجاه الدولة”[55]. هذا رغم أن البيعة ولوازمها كانت مضخّةً هائلة للعلاقات الاستتباعية في المجتمع السوري.

تبدو “دولة” العظمة كيانا واحدا متجانسا يفيض عقلا ونظاما وتقدما، وليست علاقة اجتماعية أو تكوينا اجتماعيا تاريخيا مركبا. ولا يميز في أي مكان بينها وبين وظيفة السلطة أو نخبتها أو طاقم الحكم، ولا يستخدم أبدا مدرك “النظام”. المعارضون هم “ضد الدولة”، وليس ضد سياسات لها أو فريق حاكم أو “سلطة” أو “نظام”. “الخطاب الديموقراطي” الموصوف بأنه “طلسمي” مرة[56]، و”شعبوي”[57] مرة، و”ساذج”[58] دوما، يبدو عدوانيا حيال “الدولة”. ولا يتفهم المؤلف “نقد الديموقراطية غير الكاملة المتمثلة في خطاب الدولة” إلا بقدر ما “يتضمن عناصر بناءة، دون مواقف الرفض الكلي للانفراج السياسي”[59]. أي انفراج؟ أين؟ متى؟ ومن رفضه؟ هذه أشياء لا يوفر ناقد “الخطاب الطلسمي” أية إجابات عنها. ما أحلى الطلاسم!

على أن العظمة محق، في ما نرى، في نقد فكرة “انفصام الدولة عن المجتمع”، وما يترتب عليه من وجوب “إعادة لحمة التطابق بين الاثنين من أجل درء اغتراب الدولة عن الأصل المزعوم لها”[60]. غير أن تحمسه الدوغمائي لـ”الدولة” يمنعه من رؤية شيء آخر في جملة ظواهر “الاستبداد” غير مجرد “انفصال” بنيوي ووظيفي، “واقع أولي من وقائع سوسيولوجيا السياسة”[61]. لكن هل نفهم شيئا من وضع الدولة العربية عامة، أو أي دولة، بإغراقها في عمومية كهذه، تشركها مع أية دولة أخرى في العالم؟ هذا ليس فهما، بل هو هوى نخبوي جامح شغل موقع تحليل غائب[62].

***

لدينا “دولة” تتحلى بغريزة بقاء نامية جدا، لا يكاد يحضر المجتمع المحكوم إلا كركيزة حكم لا بد منها من جهة، وكمصدر أخطار محتملة يتعين التحرّز منها وتوجيه ضربات استباقية عشوائية لمظانِّها المحتملة من جهة أخرى.

هذا دون قول شيء عن تعايش “الدولة” مع تدهور التعليم، ومع نشوء نظامي تعليم: نخبوي راق لا يتعلم في غيره أبناء الطاقم الحاكم ومحاسيبهم، وآخر شعبي متدهور لا يتاح غيره لعموم السكان، وقبل ذلك عن تحزيب التعليم وربطه بمقتضيات أمن الحكم لا بالتقدم الوطني. دون أن نقول شيئا أيضا عن لبرلة جارية للاقتصاد، لا نرتاب في أنها وسيلة لتمكين وتشريع سيطرة طبقة جديدة على الاقتصاد الوطني، دون وجود مؤشرات حاسمة على انعكاسات تنموية عامة لهذه السياسات الاقتصادية الجديدة.

ويبدو أن ما يقال على سورية يمكن أن يقال على غيرها.

هذا كله لا تراه المقاربة التحديثية، التي تمسي مشكلة مضاعفة حين يُجعل منها عقيدة سياسية، أعني حين يحوّل تحليل نظري مجادل فيه إلى سياسة عملية مباشرة، تقرر أن “التاريخ” بالذات يُفْتي بضرورة الوقوف إلى جانب “الدولة” في أية صراعات اجتماعية وسياسية عينية، هنا أو هناك. هذا ما يقوم به العظمة دون تردد، مستهديا بنظرية مفرطة العمومية، تمنح الدولة (والمثقف) فاعلية اختراقية للمجتمع[63].

وبينما جعلت المقاربة الديموقراطية من تدخلية الدولة المرغوبة أمرا غير مرئي، فإن المقاربة التحديثية تجعل أي قمع منفلت أمرا غير مرئي، نوعاً من أثر جانبي لـ”اختراق” محمود أو “واقع أولي من وقائع سوسيولوجيا السياسية”. هنا لا يكاد يكون هناك قمع يمكن استنكاره، وبالكاد تسمع شكوى خافتة من المبالغة فيه في كتابات عزيز العظمة.

دولة سلطانية محدثة؟

الطرح الديموقراطي تبسيطي، فليس بالقمع وحده تحكم الأنظمة. والطرح الثقافوي التعبيري تبريري، لا يقدم شرحا مفيدا فوق إغفاله مسألة التغيير تماما. أما الطرح التحديثي فغير صحيح، ويخلط بين مفهوم الدولة المجرد والعمليات السياسية الواقعية. الدولة العيانية في بلداننا المعاصرة ليست قوة تنظيم وتفريد ومجانسة وعقلنة للمجتمع. إنها بالأحرى قوة بعثرة وعزل وتجزُّؤ. وبقدر ما يستقر الأمر لها، فإنها لا تقود مجتمعاتنا إلا إلى الركود والانقسام والانغراز في الاستبداد والبنى الاستتباعية.

هناك حاجة، إذن، إلى تحليل مختلف للعلاقة بين الدولة والمجتمع في بلداننا. نلتزم هنا بالإطار السوري لظننا أننا نعرفه أكثر من غيره[64]. أقترح في هذا الإطار مفهوم “الدولة السلطانية المحدثة” لتسمية النموذج السوري. وأرى في حزيران 2000 تاريخا مفصليا في التاريخ السياسي السوري، وربما العربي، أسس نموذجا جديدا للدولة، وإن كان مكنونا قبلُ في تطلب الحكم “إلى الأبد” كأولوية عليا لـ”الدولة”.

“الدولة” هذه تقمع من ينازع سلطتها، لكنها ليست قمعية فحسب. إنها مكونة من مركز سلطة مُشخْصَن، يحتله زعيم أب لا يقارن بغيره، قد يوصف بأنه “سيد الوطن”. ويقوم النظام جوهريا على علاقات المحسوبية والولاء، ويسند دوامه إلى أهل الثقة الذين لا يأمن لغيرهم، الأمر الذي يجعل منه مصدرا لنشر وتعميم علاقات الثقة الطبيعية (علاقات المعشر والوجه) لا علاقات المواطنة المجردة، ولا “مجتمع الدولة” المكون من أفراد. وهذا ما يتسبب في خلق أزمة ثقة وطنية عامة. الجماعات المنزوعة الصفة الوطنية التي يحولها النظام إلى وحدات ارتكازه لا تثق ببعضها لأن كلاً منها مبني تكوينيا على الثقة الداخلية وحدها. يمكن استخدام مفهوم العصبية هنا، لكن بحذر. فالعصبيات مصنوعة وليست طبيعية ولا صانعة. وهي تاليا منظمات سياسية بصورة ما. وكنا أشرنا إلى أن المنظمات الحكومية أو “الشعبية” مبنية على الولاء، وتفتقر إلى الطوعية والاستقلال، ما يجعلها أشبه بروابط عضوية. ومجموع الروابط الموروثة المحولة إلى “وحدات استتباع” للنظام، والمنظمات الحديثة الولائية المعدومة الشخصية، تشكل “مجتمع الدولة”… السلطانية الجديدة.

الحكم السلطاني المحدث يضمن عموما ضربا من التمثيل الساكن “العادل” للسكان. حين لا يقرر معاقبة هذه المدينة أو تلك، هذا القطاع من الرعايا أو ذاك، فإنه يتيح حصصا تمثيلية تضمن للجميع أنصبة في النفاذ إلى أروقة السلطة العليا. هذه بالطبع ليست تمثيلية. إنها متعالية، لا تُساءَل، وليس سؤال تغييرها مطروحا ولا لـ”دولتها” حدود زمنية أو قيود قانونية. وهي وراثية على هذا المستوى العالي. فالاستمرارية لا تكفل إلا عبر حكم سلالي، يُعْلي رابطة الدم على روابط المواطنة. على أن “البيْعة” هنا تتكرر دوْريًّا، وإن كان التكرار طقسيا ومضمون النتيجة. هو في الواقع ليس استقصاء ولا حتى استفتاء، بل مفصل زمني لضخ القوة والشباب في جسم النظام، ومسرحة لمشهد الخضوع العام وتعميمه اجتماعيا. عيد التجديد. يسمى في سورية صراحة “تجديد البيعة”.

ولعل توريث السلطة المرجح في عدة جمهوريات عربية، وقيام سلالات حاكمة فيها، يشير إلى انبعاث عام للسلطانية، ويدفع إلى الظن بأن للأمر محددات اجتماعية ثقافية عامة[65].

ومثل الدولة السلطانية القديمة تخشى الدولة السلطانية المحدثة أكثر ما تخشى “الفتنة”، ما يسمى بلغة اليوم الحرب الأهلية. وليست “الفتنة” عارضا قد يصيب الدولة هذه، بل هي قرينتها، وجهها الآخر. فهذه ذاتها “فتنة نائمة”، يخشى أن تستيقظ. أو لنقل إن “الدولة” لا تكف عن صنع “الفتنة” وعن ضبطها. لذلك يمكن لهذه أن تنفجر دوما إن خف الضبط السلطاني لسبب ما. في الوقت نفسه الخوف من الفتنة هو مصدر الشرعية الأقوى لهذه الدولة السلطانية المحدثة التي لا تكف عن صنع الشروط المولدة للفتنة وعن تنويمها. والأرجح أن من شأن زوالها المفاجئ أن يتسبب فعلا في استيقاظ فتنة واسعة[66]. ولعل الأصل في ذلك أن السلم الأهلي في ظل الدولة السلطانية هو سلم أهلي فعلا، أعني مجرد انتفاء سلبي للنزاع الأهلي المتفجر دون مساس بالتكوين الأهلي للمجتمع، بل بتنمية الطابع الأهلي أو الاستتباعي كما قلنا. ويغرينا في هذا المقام أن نعرف الدولة السلطانية المحدثة باحتكار الحرب الأهلية أو الفتنة، وبتوزيعها على العموم عند اللزوم.

وربما يمثل لبنان حالة طرفية للدولة السلطانية لافتقاره إلى مركز حكم سلالي قوي. إنه دولة سلطانية محدثة دون مر كز سلطاني قادر على احتكار “الفتنة”.

وعلى نحو ما ترعى الدولة السلطانية التقليدية فقهاء يحذِّرون من الفتنة، ويجعلونها الشر المطلق الذي يتفوق سوءا على الظلم (ظلم يدوم ولا فتنة تقوم)، ترعى السلطانية المحدثة فقهاء تقليديين يشجعون مواقف التحمل والصبر (الصبر القدري على المكارِه، وليس صبر المثابرة والدأب)، وإيديولوجيين يعلون من شأن “الاستقرار والاستمرار”، ومثقفين حديثين ينشرون مناخا ثقافيا متشائما، ويؤكدون أن البديل الوحيد عن الأوضاع الحالية هو النزاع الأهلي أو حكم إسلامي مستبد. لا بَعد لهذين الشرّيْن. فلنبق هنا!

وفي الواقع، البنية السلطانية مغلقة أو تكاد، فلا مجال فيها لنشوء ثقافة تحرر واستقلال. وهو ما يعني أن لا بديل تحرريا ناجزا يعقب السلطانية المحدثة. هناك فقط اضطراب مفتوح و”استيقاظ للسياسة” عاصف، و”فِتنٌ”، و”صراعات سياسية طويلة”. تاريخ. نقص وراء نقص.

على كل حال تحتاط السلطانية المحدثة للتغيير بكل السبل. ترفع مركز السلطة المشخص فوق المرتبة البشرية، تسيِّجه بأهل الثقة، تُفرِّق كي تسود، تقمع بقسوة متناهية. الشيء الوحيد الذي لا تنجح في ضبطه هو ذاته مصدر حداثتها المشوهة: الواقع العالمي المتغير. لكن هذا الواقع ذاته متأزم اليوم على مستويين: من جهة هناك أزمة ديموقراطية عالمية على مستوى الدول والمنظمات الدولية وتراجع للقيم التحررية والجمهورية والمساواتية في العالم ككل، ومن جهة ثانية إن مركز المبادرات الفكرية والسياسية والقيمية العالمية، الغرب، غير ودود حيال مجتمعاتنا، فلا يسهل التماهي به أو حتى الانجذاب إليه إلا لقطاعات ضيِّقة منها. في المحصلة، لا نتوقع في المدى المنظور تأثيرا إيجابيا للديناميات العالمية على بنى الدولة وعلاقاتها بمحكوميها في منطقتنا.

***

لكن ما أصل التحول السلطاني المحدث للدولة الوطنية الحديثة عندنا؟

للأمر صلة بلا ريب بتعذر القطيعة مع السلطانية القديمة، بنى اجتماعية وذهنية[67]. وهنا كان دور الحداثة العالمية ولا يزال متناقضا. فقد رجّت بقوة مجتمعاتنا وزجّتها في سياقات عالمية جديدة وكسرت انتظاماتها الموروثة وأضعفت هيمنة تقاليد قديمة فيها، لكنها في الوقت نفسه أثارت ارتكاسات دفاعية فيها وجعلت من أسسها الثقافية والدينية القديمة سندا لمواجهاتها الحديثة المُتعسِّرة. لا يغيب عن بالنا أن “الغرب” الذي هو مركز الحداثة العالمية كان مستعمِرا هنا، قبل أن يترك في قلب العالم العربي هدية مسمومة لا يكف عن رعايتها، إسرائيل، فوق نفور ثقافي متبادل وعريق، وذاكرة مسمومة بدورها منذ قرون. فوق أيضا أنه في كل مرة تنامى حضور “الخارج” وتأثيره في منطقتنا، منذ القرن التاسع عشر، انعكس ذلك زلازل في “دواخلها” الاجتماعية وحضورا أكبر للأهلي والطائفي في ثقافتها وسياستها وسيكولوجيتها.

المفعول الإجمالي لهذه العمليات أوهنَ القوى والتطلعات الأكثر انفتاحا على “الحداثة”، وعزز من وزن القوى والبنى التقليدية. وهو أيضا ما أضعف فرص عملية إصلاح ديني مستدامة، تحرر الإيمان الديني من سلطة أجهزة دينية متحكمة، وربما تسهم في تشكّل ذهنية عامة أكثر استقلالا وفردانية. وهذا أعاق كذلك توسيع القاعدة الاجتماعية والإنسانية لتفكير أكثر نقدية واستقلالية. هذا مع ما هو معلوم من أن مجتمعاتنا دخلت في ركود عميق طوال ستة قرون أو سبعة، بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع عشر. وأن “الإسلام” كان مبدأ تكامل وثبات وشرعية تقاليد متونها الاجتماعية ونظم حياتها، حتى حين كانت هذه متعارضة مع مبادئه المعيارية. من جهة لا مناص من عملية إصلاحية كبرى تَمسُّ دور الدين التثبيتي والمحافظ، وكذلك تشكُّلُه في صيغ مثبِّتة (“الشريعة”)، ومن جهة تعمل ظروف متعددة على إعاقة هذه العملية، بل على رفع الطلب العام على الثبات.

كل ذلك أبقى الطريق سالكا لتجدّد البنى السلطانية، مع احتمال اعتبار التجدد هذا مقاومة وممانعة مرغوبتين في ما وراء كون الممانعة والمقاومة عنوانين إيديولوجيين لخيارات سياسية ظرفية، هما البيئة النفسية والفكرية والاجتماعية الأنسب لانبعاث القيم والممارسات السلطانية والأبوية، ولإضفاء قيمة إيجابية على هذا الانبعاث. وكذلك للجم فرص الانشقاق والطليعية والتمرد الثقافي. ليس مصادفة أن تكون سورية مركز الممانعة وطليعة انبعاث السلطانية.

وعلى هذا النحو أخذت مقاوماتنا الوطنية تقترن بتغذية الامتثالية والخنوع الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، بينما أخذت أي مقاومة ثقافية وتجربة انشقاقية تبدو خيانة ومروقا أو كفرا، حين لا تستسلم هي ذاتها للنخبوية والانعزال المُترفِّع عن الجمهور العام. أما الجمع بين مقاومات تحررية فعالة وحساسية نقدية وطليعية مجددة وديموقراطية، تقاوم الأبوية والمحافظة الثقافية والاجتماعية (في وضع المرأة بخاصة)، فقد أقصي إلى مجال المستحيل.

فإذا التقت هذه الاستعدادات الثقافية والاجتماعية الموروثة مع تَطلّب سلطة مطلقة دائمة[68]، تُنشِّط وتعيد هيكلة الموروث ذاته في اتجاه سلطاني، حصلنا على الدولة السلطانية المحدثة. ويبدو أن البيئة العربية عموما توفر فرصا كبيرة لهذا التلاقي بين استعداد ثقافي ونزوع سلطوي. لذلك يبدو لنا أن السلطانية المحدثة عربية، وليست سورية حصرا[69].

ومن المثال السوري، القابل للتعميم في تقديري، فإن الدولة السلطانية ليبرالية اجتماعيا، وإن تكن ليبراليتها عرفية، وهي حريصة جدا على حُسْن تساكن رعاياها، ولا تقبل بحال هيمنة “إسلامية” عليهم[70]. الدولة السلطانية ليست إسلامية، بل تعبيرية، “تمثِّل” المجتمع و”تعبر” عنه بأمانة، لكن بالضبط لأنها تعمل على تشكيله في صورة ساكنة، تعبيرية، تجمِّده في صورة هويات متساكنة ومتراصفة و”طبيعية”. ليس خطأ القول إن الاستبداد الحكومي نتاج “ثقافة مريضة”، لكنه جزئي ومغرض، يهمل أن الثقافة هذه ليست طبيعة منقوشة في جِبِلاتنا، ليست “سجية” مجتمعاتنا على ما يقول بحق عزيز العظمة[71]، أن الثقافة هذه بالذات مُتشكِّلة تاريخيا، وأن “الاستبداد” بمثابة آلية تزكية وانتقاء وتثبيت لها، من مخزون حي تحتل فيه موقعا مميزا بحق[72]. هذا الموقع يسهل على الاستبداد المعاصر عمله، لكنه لا يفسر هذا العمل ذاته، ولا الرهانات التي تُحفِّزه، ولا ما يتمتع به من قدرة على المبادرة ومن استقلال في خياراته.

في واقع الأمر يجد المركز السلطاني، المبرمج على الاستئثار بالسلطة كلها كل الزمن، يجد نفسه مسوقا إلى تأليف قلوب النخب الاجتماعية الأكثر محافظة وتزمَتاً، وإلى اعتبار وجهائها الممثلين الأكثر شرعية للجماعات المحلية والأهلية. هذا لأنه يخشى قدرتها على التهييج والتحريض ضده، ويطمع في فاعليتهم الاستتباعية. لكن نوعية أولويته (الخلود في السلطة)، وليس تركيبا ما خالدا للمجتمع المحكوم، هي ما يدفع هؤلاء إلى الصدارة الاجتماعية ويعظّم تأثيرهم ويتبرّع لهم بجمهور متوسِّع من الأتباع، ضد متدينين أكثر انفتاحا وتحررا واستقلالا وتجردا. أن يخاطب الشيخ البوطي، الذي لا صفة عامة له، السوريين طوال عقود من التلفزيون الحكومي، وأن يُمنَح عام 1991 امتياز أن يعلن قبل الجميع قرب الإفراج عن ألوف من المعتقلين السياسيين (معظمهم إسلاميون)؛ وأن يكون الشيخ عبد الرحمن الكوكي من المقربين [73]، وأن يصدر تعميم حزبي بعثي يقول عن مجموعة إسلامية متزمتة تتبع الشيخ عبد الهادي الباني: “هدف هذه الجماعة هو إقامة أمة إسلامية وليست عربية، وتؤمن بعدم تحرير المرأة وعدم مخالطتها للرجال وتقف ضد عملها وخروجها من المنزل، وتعتبر وجود التلفزيون في المنزل حراماًَ”، ثم يصرِّح بأن “موقف الحزب منها ليس سلبياً طالما أنها بقيت في مجال المعتقد الديني”[74]، أقول ليس بالأمر العارض أن تتمكن أشياء كهذه وتتكاثر نظيراتها في السنوات الأخيرة. إنها نابعة من الأولوية العليا التي ترتبها “الدولة” لنفسها وتفرضها كمقدس وطني. فإذا شُفِعت بضرب صيغ الانتظام المدنية والمستقلة، لا يبقى لنا غير الترحم على دولة العظمة التنظيماتية وعلى مجتمعها المكون من أفراد.

وفي النهاية، ليست النظرية التعبيرية في الدولة غير انعكاس إيديولوجي لواقع هذه الدولة السلطانية. ومثل كل انعكاس إيديولوجي فهو جزئي ومشوّه، يُركِّز على الحصائل لا على العمليات، وعلى الماهيات لا على العلاقات، فوق أنه يقلب العلاقة بين السبب والنتيجة، ليبدو الماضي سببا للحاضر، و”نسيج العقليات” سببا أوحد للخيارات السياسية.

وبالتأكيد لم يعد لازما القول إن هذه ليست دولة وطنية تحديثية، وليس لديها برنامج تحديث وطني من أي نوع. أوليتها الجوهرية، صون مِلْكِها وتوريثه سلاليا، تحول دون بلورة برنامج كهذا رغم أي نيات طيبة محتملة.

خلاصة عامة

ميزنا بين ثلاث أطروحات في الدولة لمثقفين سوريين بارزين. واستندنا إلى كتابات لهم في مراحل النضج وما بعده. برهان غليون يرى الدولة استبدادية، وجورج طرابيشي يرى استبداد الدولة محصلة لاستبداد المجتمع المُعرِّف ثقافيا، فيما ينكر عزيز العظمة استبداد الدولة أو يضفي عليه صفة نسبية جدا على أساس تاريخاني. لا نفهم من تحليلات غليون السوسيولوجية السياسية لماذا الدولة استبدادية، ولا تساعدنا تحليلات طرابيشي الثقافية الكيفية على بلورة سياسات إصلاحية أو مجرد تخيّلها، وتُزوِّد تاريخانية العظمة الولاء غير النقدي لـ”الدولة” الاستبدادية بضمير مرتاح. نلحظ تقليصا لافتا للمناهج الثلاثة (علم الاجتماع السياسي، التحليل الثقافي، التاريخانية). نخمّن أن لـ “السياسة” وإكراهاتها وضغوطها فضلا فيه. ثمة أيضا قدر مدهش من النضالية في كتابات المفكرين الثلاثة. ويتصل بالنضالية ويؤسس لها نظرة ثنوية إلى مجتمعاتنا المعاصرة، تَردُّها “دولة” و”أمة” عند غليون، وإلى علمانية محمولة أساسا على الدولة وأصولية إسلامية مُتشهّية للسلطة تتبناها قوى نكوصية ونافلة عند العظمة، وإلى “حداثة” و”قدامة” مماثلتين لذاتيهما مختلفتين كليا عن بعضهما عند طرابيشي. وهذه النظرة تقوض منهجيا استقلال المثقفين وفرص قيام حركات سياسية وثقافية لا تلتحق بأحد طرفي الاستقطاب[75]. بل تتماهى به مادام مفكرونا، وبهوى مشبوب، يجسدون الخير الخالص في قطب والشر المحض في القطب المقابل. ولعل النظرة نفسها تفسر جانبا من أجواء التجزؤ والقطيعة المشتدة في أوساط “الانتلجنسيا” السورية.

وعلى أرضية طرح غليون نفسه، قد ننتقد مبالغته في تسييس الديموقراطية أو محورتها المفرطة حول مسألة السلطة. لكن نقد طرابيشي “يُثقْفِنها” (يفسر الاستبداد بثقافة، ويشرط الديموقراطية بثقافة أخرى)، ونقد العظمة “يُترْخِنها” (ينزع صفتها السياسية بالمرة ويدرجها في مخطط تاريخي كوني مجرد)، فتبقى أوضاع الجمهور العام وأصواته ومطالبه واحتجاجاته خارج التفكير. وعلى هذا النحو يضاف قيد نخبوي يغيّب الجمهور إلى قيدين سلطانيين، التضييق عليه قمعيا وتمزيقه ملليا.

واستنادا إلى الواقع السوري، اقترحتُ مفهوم “الدولة السلطانية المحدثة” الذي (1) ينصف المقاربة الثقافوية: بلى، حكامنا منا، تولوا علينا لأننا نحن من نحن. لكنه يحاول كشف جذورها الاجتماعية والسياسية، ويرفض نزوعها المحافظ والتبريري. يفتحها على انقطاع تاريخي وأفق تغييري تحرري.

و(2) يتيح تجاوز تبسيط المقاربة الديموقراطية، مع احتفاظه بكل أهدافها ورهاناتها. ولعله يزود تطلعاتها السياسية ببعد تأسيسي لا يبدو أنه يمكن إغفاله.

لكنه (3) يتشكك كثيرا في المقاربة التحديثية التي تخلط بين المفهوم المجرد والواقع المعاين، وتذيب الفاعلية السياسية في مخطط تاريخاني متجاوِز.

[1] قد توصف عموما بأنها تسلطية أو ديكتاتورية أو شمولية، دون تدقيق كاف. والأصل في عدم التدقيق هو تضخم البعد النضالي والعملي في المقاربة الديموقراطية على حساب بعدها النظري والتحليلي. وإذ تمنح النزعة النضالية أولوية لدواعي التحشيد وتوحيد القوى، أي للانضباط التعبوي، تنزع إلى تصوير الواقع الذي يجري النضال ضده ككلتة مصمتة من الشر السياسي، ما يغذي زهدا بالتدقيقات النظرية ويضعف مطلب الانضباط المفهومي ويدفع الانشغالات التحليلية إلى الوراء. على أننا سنرى أن المقاربتين الأخريين ليستا أقل نضالية ولا أكثر انضباطا معرفيا.

[2] وفي الثقافة وفي الدين وفي العلمانية وفي المجتمع، مما لن نتطرق إليه إلا لماما.

[3] برهان غليون: المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، الطبعة الثالثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003. ص 221.

[4] المصدر نفسه (م. ن)، ص 230

[5] م. ن، ص 239.

[6] م. ن، ص 243

[7] م. ن، ص191.

[8] م. ن، ص 218

[9] م. ن، ص221.

[10] مقدمة الكتاب، بخاصة ص ص 13-23. المفهوم مركزي في تحليله.

[11] م. ن، ص 221.

[12] م. ن، ص 254

[13] م. ن، ص 253.

[14] م. ن، ص 261

[15] م. ن، 247.

[16] م. ن، ص ص 214- 215

[17] م. ن، ص 303.

[18] م.ن، ص 248.

[19] هذه وقائع غير مدروسة بصورة منهجية، بل يبدو أن لا سبيل إلى دراستها بسبب تحرج عموم المثقفين من تناولها بالتحليل، الأمر الذي لا يندر أن يقترن بقلة تحرج عملية وشفهية في تناولها، بل وبترك الباب مفتوحا لإباحيين طائفيين، “يلغبصون” بأيديهم العارية في أحشاء بنياتنا الاجتماعية المعاصرة. لكن الأسوأ هو إفساد فكرتي الديموقراطية والعلمانية معا، وإفساد النقاش حولهما: الديموقراطية هي حكم الأكثرية (= العربية المسلمة السنية) والعلمانية هي فصل الدين (= الإسلام السني) عن الدولة. هذا معجم يعرفه الجميع في سورية ويتواطأون على إنكاره، كل لأسبابه.

[20] على هذه البدائل توزع الطيف السوري المعارض في سنوات ما بعد “إعلان دمشق” (2005). والسمة الغالبة لمن هجروا الطرح الديموقراطي ولم يقعدوا في بيوتهم هي النكوص إلى عتاد شيوعي أو قومي عربي تقليدي.

[21] “عصر التنظيم: الدولة والسلطة”، هو عنوان الفصل الثالث من كتاب المحنة العربية. لكن الشرح اللاحق في المتن أوثق صلة باتجاه تفكير المثقفين والناشطين الديموقراطيين السوريين في الفترة ما بين “ربيع دمشق” 2000-2001، و”إعلان دمشق” 2005، مما بأفكار غليون.

[22] المسألة اليوم في سورية ليست في شدة القمع (لا يزال شديدا وفائضا) بل في عشوائيته ولاعقلانيته. أذكر مما خبرت شخصيا أن المحسوبيات تحدث فروقا مهمة في أوضاع سجناء السياسيين، أنه لم يمكن في أي يوم تبين قاعدة مطردة تنضبط بها أوضاع سجناء ارتكبوا”جرائم” متماثلة، أن السلطات قلما احترمت أحكام محاكمها هي بالذات، الأمر الذي يعني أن إرادة أو نوازع أفراد نافذين كانت غالبا فوق القوانين العامة. ماذا يبقى من “الدولة” إذن؟ وألاحظ أن ما تلى “الثورة القمعية” في ثمانينات القرن العشرين هو تعمم علاقات المحسوبية والثقة المشخصة، وأن التعمم هذا ربما له “الفضل” في الحاجة إلى قدر أقل من القمع المباشر في العشرية المنقضية من هذا القرن. بعبارة أخرى لزمت “ثورة” من أجل تكريس العلاقات الأهلية اجتماعيا، حتى إذا ترسخت تحولت الثورة إلى “دولة”، هي ما أسميها “الدولة السلطانية المحدثة”. ويبدو أن هذه تحتاج إلى مستوى أدنى من القمع العام السائل.

[23] كتاب طرابيشي: في ثقافة الديموقراطية، الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت، 1998. ص 17. وبتنقيح محدود أعاد نشر المقالة الرئيسية في الكتاب، “إشكاليات الديموقراطية العربية”، في كتابه هرطقات، الطبعة الأولى، دار الساقي 2006.

[24] توفرت شبكة الانترنت على ما لا يحصى من نسخ شعبية لهذه الأطروحة. لكن من أكثرها إثارة كتاب أبي حسن: هويتي..من أكون؟ في الطائفية والإثنية السوريتين. الطبعة الأولى، دار بيسان، بيروت 2008. والكتاب وثيقة سوسيولوجية ثمينة جدا لكاتب شاب، يصرح بأنه “علوي” ينحدر من “طائفة” قدمت له “منجزات ومكاسب اجتماعية وحضارية على طبق من ذهب” فبات يخشى من فقدان “تلك المكاسب في ظل التمدد الوهابي ضمن سوريا!”. ص 156. وكذلك 226.

[25] يقول أ. حسن في المصدر السابق إن “سوريا ليست أسيرة نظام نشكو منه ولا حتى عائلة نحملها وزر ما يجري (كما يحلو للبعض التشدق)، قدر ما هي أسيرة تلك الثقافة الكسيحة المريضة. وإن النظام الذي طالما قارعناه بأقلامنا ليس سوى نتاج طبيعي لتلك الثقافة”. ويضيف: “ولأنه كذلك – أي النظام- فإنه لا يستطيع فعل شيء إزاءها سوى المناورة تارة، والحوار تارة أخرى، والمهادنة قدر الإمكان، وعندما يضيق ذرعا، تكون المجابهة التي عادة ما تفضي بأحدنا إلى السجن بتهم هي في الأساس نتاج ثقافتنا، وليس النظام هنا سوى معبر أمين عن تلك الثقافة الكائنة في أعماقنا ووجداننا” ص 225. (التشديد مني، ياسين). على أن الكاتب اجتهد في كل صفحات كتابه تقريبا في نسبة “الثقافة الكسيحة المريضة” تلك إلى الإسلام السني.

[26] أستعيد هذه التعابير من اطلاع شخصي على قاموس اللغة الأمنية المعتمدة في سورية.

[27] تمييزا عن ثقافويين إسلاميين، أو عن الإسلاميين عموما، وهم ثقافويون تلقائيا. تنظر مقالتي: “الثقافوية العربية المعاصرة: خصائص منهجية ومحددات أساسية”، ملحق النهار الثقافي، 13/12/12/2009.

[28] والإسلام هذا اسم لأشياء متنوعة جدا، يوحدها أنها الأشياء التي لا نريدها. نجازف بالقول إن الإسلام صنيعة سياسية واجتماعية غير محددة الملامح لأصناف من العلمانيين، يبنون هويتهم وروابطهم بالتمايز عنها، ويحتجون إلى غموضها كهامش مناورة لتنويع وتسويغ تفضيلاتهم السياسية واالاجتماعية التي لا تقر على حال. يشاركهم في صنع “الإسلام”، إسلاميون متنوعون، يناسبهم أن يكون الإسلام اسما لكل ما يصادف أن يريدوا.

[29]هرطقات…، ص 15. وكذلك هرطقات 2، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، 2008. ص ص 90 و106.

[30]هرطقات، ص 15.

[31]في ثقافة الديموقراطية، ص 17.

[32] م. ن، الصفحة نفسها. وتوجس المؤلف من طغيان محتمل قد تتمخض عنه صناديق الاقتراع يشغله عن قول أي شيء عن طغيان محقق دون صناديق اقتراع. كان يمكن لنقاش طرابيشي أن يحوز قدرة إقناعية لو توفر مثال واحد لـ”طغيان غالبية العدد” تم بلوغه عن طريق صناديق الاقتراع بدء من وضع أقل طغيانا. والحكم التبخيسي المضمن في عبارة “غالبية العدد” يتضمن نزوعا عنصريا غير خفي. ومعلوم أنه هو التعبير الذي كان يسوقه الحكم العنصري في جنوب أفريقيا ضد مطالب المساواة للسود. وهو ما كشف مضمراته سياسي لبناني حين تكلم عن أن “النوع” في صف جماعته في الاستقطاب اللبناني في السنوات الأخيرة، وإن لم تكن أكثرية العدد معهم.

[33]في ثقافة الديموقراطية ص 21. عبارات من نوع: لا يمكن أن.. أو: لا يمكن إلا أن.. وما في معناها متواترة جدا في كتابه. ولعلها تدل على نازع سيطرة متمكن، فوق ما تتضمنه من نزوع حتموي.

[34] م.ن، ص 22

[35] م. ن، ص 23.

[36] بالمناسبة، ليست ثقافة الديموقراطية وعيا ذاتيا بعمليات الكفاح من أجل الديموقراطية ومصاعبها وانتكاساتها وتناقضاتها، ليست شيئا متصلا بتجارب الديموقراطيين، ينظر فيها وينتقدها ويكشف حدودها، لكنه يتعاطف معها أو يضع نفسه في مستواها. هي موقف سلطوي متعالم منهم، يتعالى على كفاحهم الذي يجهله باسم جهلهم هم ثقافة للديموقراطية مصدرها تأملات المعلم والكتب الفرنسية التي قرأها. لا يورد مثالا واحدا، مهما يكن جزئيا، على صلة بحركات ديموقراطية عربية واقعية. الأرجح أن الرجل لا يعرف عنها شيئا. يطلق أحكاما عمومية وانطباعية شتى بلا برهان، ودون إحالة مرجعية واحدة. وبنبرة تقريعية دوما.

[37] الشاغل هذا حاضر في نقاش طرابيشي، م. ن، ص 15. من جهتي ومساجلة مع مجمل طرح طرابيشي أنحاز إلى نتائج “صناديق الاقتراع” أيا تكن (العراقية في آذار 2010 مثلا) ضد صناديق رؤوس رؤساء يفرضون بالقوة ما يرون، وضد صناديق رؤوس نخبوية تجعل من سجل أهوائها “ثقافة ديموقراطية”. لكن لا يجب أن نكون مقيدين بهذين الخيارين. ما آخذه على طرابيشي أنه ضد طغيان “غالبية عدد” محتملة يسكت على طغيان واقعي محقق. مثل ذلك ينطبق على عزيز العظمة كما سنرى. والمثير جدا أن المفكرين يربطان بين “صندوق الاقتراع” و”الديموقراطية الاستفتائية” وبين “طغيان الأكثرية”. يبدو أن الطغيان لا يتهددنا إلا إذا حصلت انتخابات حرة في بلادنا. وعليك أن تستنتج لمن ينحاز كبار المفكرين من حصر خياراتنا بين طغيان فعلي معاش، وبين ديموقراطية تامة النضج سوف نبلغها يوما حين تكتمل مسيرة العلمانية وتعم ثقافة الديموقراطية، ويقرأ الأميون آخر كتب جورج طرابيشي (ليس أقدمها بحال).

[38]دنيا الدين في حاضر العرب، الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت، 2002. ص 57- 58. أيضا ص 37.

[39] م. ن، ص 53.

[40] م. ن، ص 54.

[41] مقلصة إلى “خطاب”. حركات المعارضة الديموقراطية غير موجودة ببساطة. معظم الاقتباسات من مقالة بعنوان “المجتمع العربي وخطاب الديمقارطية، في كتاب: دنيا الدين…

[42]دنيا الدين..، ص 69

[43] م. ن، ص 66

[44] م. ن، ص 79. في مكان آخر يقول العظمة إن نسبة من يقترع لشعار “الإسلام هو الحل” لا يتجاوز الثلاثين بالمائة تقريبا”، مستندا في ذلك إلى “نتائج الانتخابات التي اشتركت فيها جماعات إسلامية”، وإن لم يقل أين جرت، ومتى. مقالته: “التباس الحداثة ورغبة الفوات”، في كتاب الحداثة والحداثة العربية، طبعة أولى، دار بترا، دمشق، 2005. ص 293. هل من مسوغ إذن للخوف من “طغيان الأكثرية” (م. ن، ص 299) الذي لم يتكلم عليه العظمة وطرابيشي إلا في سياق نقد “خطاب الديموقراطية” والتنديد بـ”صندوق الاقتراع” حصرا.

[45]دنيا الدين…، ص 79 أيضا

[46] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ص ص 69-79.

[47]دنيا الدين..، ص 53 ومواقع شتى

[48] م. ن، ص 72.

[49] ص 72 أيضا. هل من داع لقول شيء عن مصير “الدولة الجمهورية الحديثة” التي كانت “الدولة” الضامن الوحيد” لمنع “النكوص الاجتماعي والثقافي، بل والتاريخي” إلى ما قبلها؟ أذكر بأني أعتمد على طبعة للكتاب صادرة عام 2002.

[50] كتابه: العلمانية…، ص 113.

[51] بل ويحصل أن تمنح مقاولات قمعية لبعض مواطنيها ضد بعض آخرين منهم. تنظر مقالتي المبنية على تجربة شخصية: “على شرف حالة الطوارئ، حفلة صيد للخونة بين قصر العدل وساحة الشهداء”، ملحق النهار الثقافي، 20/3/2005. مقاولات كهذه شائعة بالمناسبة.

[52] تعبير “الوحدات الاستتباعية” للعظمة. كتابه: العلمانية… ص 123.

[53]دنيا الدين..، ص 92. لا نستطيع اتهام العظمة بأنه غير مدرك لما يقول حين يستطيع وصف الديموقراطية في خطابها المتداول بأنها “ديموقراطية استفتائية” (ص 70) بينما يجعل من “البيعة” وتجديد الولاية القسري لحكام مزمنين “عملية انتخابية”.

[54] م.ن، ص 78.

[55] م. ن، ص 72 وص 41. لا يبدو أن هناك شيئا صحيحا يقوم به معارضو “الدولة”، ديموقراطويين وشعبويين، في لغة العظمة كما في لغة طرابيشي، أو إسلاميين. لا يذكرون في سياق إيجابي أو متعاطف قط.

[56] م. ن، ص 68.

[57] م. ن، ص 69.

[58] م. ن، ص 69.

[59] م. ن، ص 68. من أجل فكرة عن “الديموقراطية غير الكاملة المتمثلة في خطاب الدولة (كذا)”، تنظر الصفحة 67.

[60] م. ن، ص 69.

[61] م. ن، ص 69.

[62] في حوار أجراه معه، يلاحظ عبد الإله بلقزيز أن من شأن انحيازات العظمة السياسية المضادة للديموقراطية أن تجعل السياسة “إقطاعة في يد نخبة خاصة تتولى إدارة الحياة العامة، وليست شأنا عاما. وهذا خطير، ومظهر لفشستة السياسة”، فلا يملك العظمة إلا التسليم بأن “هذا يعبر [فعلا] عن الاستئثار بالسياسة من قبل نخبة معينة”، هذا قبل أن يمضي إلى قول شيء عن أن الديموقراطية “نتيجة صراعات سياسية طويلة، صراعات أجيال”. والحال إن هذا ينقض توجهه النخبوي الفوقي، ولا يثبته. فلأن الديموقراطية مسألة صراع سياسي مديد فلا ينبغي تجميد هذه الصراعات على يد طغم أوليغارشية فاسدة. دنيا الدين…، ص 209.

[63]العلمانية من منظور مختلف. ص 267. الرجل إلى جانب العسكر الجزائريين ضد “الديموقراطية التوتاليتارية الاستفتائية” التي قادت إلى فوز الإسلاميين، ويزكي “فتح الباب للديموقراطية على الطريقة التونسية” (دنيا الدين…، ص 209، ولسبب ما لم تلج الديموقراطية بابها المفتوح في تونس)، ويقف مع الحكم السوري قبل 2000 وبعده ضد أي معارضين. وكان بالاشتراك مع فيصل دراج كتب عام 2001 مقالة متكلِّفة مُتعالمة تسفِّه “أنصار المجتمع المدني” في سورية، وتندد بعدوانهم على الدولة التي يبدو في المقالة أنها “تتداعى” وقد “تنهار” تحت وطأة هجماتهم، وتدعو إلى “إيقاظ السياسة”، دون أن تقول كيف، من نومها، ودون أن يبذل كاتبا المقالة أي جهد إيقاظي آخر منذ ذلك الوقت. “الحياة”، 29/6/2001.

[64] قد يبدو أننا ننتقد مثقفين سوريين على ما قالوه عن “الدولة العربية”. لكن إما أن سورية دولة عربية، وينبغي أن يصح ما يقولون عن الدولة العربية عليها، أو أن الدولة العربية غير موجودة، ما يعني أنه يقولون كلاما لا موضوع له.

[65] وقد نلاحظ أن السلالية لا تقتصر على الحكام، بل تتعداهم إلى أحزاب ومنظمات، بما فيها منظمات شيوعية. سورية، وهي أول جمهورية عربية، طليعيةٌ هنا أيضا. أورث المرحوم خالد بكداش حزبه الشيوعي لزوجته وصال، ويعتقد أنها سوف تورثه لنجلهما عمار من بعدها. هذا، ومعه التوريث الكوري الشمالي والكوبي، يرجح أن الأمر أوثق علاقة بتطلب السلطة الدائمة والتجميد القسري للمواقع والأدوار الاجتماعية، منه بأصول ثقافية ثابتة.

[66] الاجتماع السياسي السلطاني يربط بين “استيقاظ السياسة” الذي يرغب فيه عزيز العظمة وفيصل دراج وبين استيقاظ الفتنة (هامش رقم 63)، فيجعل من “الفتنة” عيدا مرغوبا للسياسة.

[67] يرفض برهان غليون أية صلة بين استبداد الدولة التحديثية والدولة السلطانية التقليدية ويقرر قطيعة ناجزة بينهما (المحنة العربية…، ص ص 35، 114- 123)، وينشغل كثيرا بإعفاء الثقافة وبلوم الدولة عن أوضاعنا الحاضرة. والحال إن تطور الدولة السورية في العقود الأخيرة وربما دول عربية أخرى يشير إلى وفرة من التماثلات مع الدولة السلطانية، الأمر الذي يشكك في قطيعة ناجزة. من جهته، جورج طرابيشي يقر بالاستبداد مع غليون، لكنه ينكر القطيعة، وفي دراسته “العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية” ينسب استمرارية تاريخية لا شعث فيها للتاريخ العربي متمحورا حول “الإسلام” و”الطائفية” (هرطقات 2 ص ص 12 و89). أما العظمة فينفي الاستبداد ذاته، لكنه أقرب إلى غليون في فكرة القطيعة (دنيا الدين..، ص 57). ونظريته حول العلمانية مبنية عليها.

[68] هذا مطلب بشري عام. عكسه يحتاج إلى تأهيل خاص أو “قطيعة”.

[69] لا يبدو أن أي بلد عربي حقق قطيعة مكتملة وغير عكوس عن الذهنية والبنى السلطانية. يبدو أن تونس، أكثرها تقدما، تشهد إعداد زوج ابنة رئيسها المزمن خليفة لهذا. وحال مصر وليبيا معروف. وربما اليمن.

[70] لكنها لا تعمل كذلك إلا من أجل ضرب من “المجانسة” السلطانية لهم، أعني أن يعرفوا أنفسهم جميعا بأصولهم وأنسابهم وهوياتهم الموروثة، أو بانخراطهم في وحدات استتباع محدثة. المواطنة غير ممكنة، وتمريناتها العابرة للروابط الأهلية تضرب بقسوة. والحق السياسي الوحيد المعترف به هو ولاء الجميع للمركز السلطاني المشخص على نحو ما تعبر عنه “البيعات” الدورية.

[71] العظمة، دنيا الدين..، ص 128.

[72] لهذا المخزون اسم شهير، هو “الإسلام”. ومن هذا الباب يتعين الاشتباك مع “الإسلام” بوصفه حاملا لمورثات وذاكرة سلطانية، ومن أجل تأهيل قيم وثقافة تحررية وإنسانية. لا نرى سبيلا للتربية العامة والارتقاء بالمستوى الفكري والروحي للجمهور العريض في بلداننا لا يمر بالصراع مع الإسلام. ولا منهج لتغيير ما بأنفسنا لا يعمل على تغييره. ولعل عسر ذلك هو ما يغذي تطلعات إلى تغيير أنفسنا ذاتها، والانفصال المطلق والعدمي عن الإسلام. هذا فضلا عن أن تحررا فكريا وسياسيا يبلغ عبر الاشتباك مع الإسلام، ميثاقنا الأكبر مع العالم، هو تحرر عزيز، ليس مثله أي تحرر آخر. وبينما قد يكون صحيحا أن الإسلاميين المعاصرين “جمهوريون” أكثر مما هم سلطانيين، السلفيين الجهاديين من أنصار “الحاكمية الإلهية” بخاصة أكثر من الإخوان دعاة “تطبيق الشريعة”، فإننا نرجح أن تتطور النزعة الجمهورية الإسلامية بعد حين إلى دولة سلطانية محدثة، لا تختلف عن السلطانيات القائمة والمحتملة إلا بغلالتها الإيديولوجية. ومن هذا المنطلق نتصور أن تمام القطيعة مع السلطانية تمر عبر نقد “الإسلام” والصراع معه. كيف يمكن خوض هذا الصراع مع الحؤول دون تلوثه بالطائفية أو تسخيره لمصلحة بنى سلطانية أخرى؟ بما في الضرب السلبي والسلطاني من العلمانية، الذي يفضل استبدادا استئصاليا عازلا للإسلاميين على فتح الملف الديني السياسي كله؟

[73] اعتقل الكوكي لبضعة شهور بين 2009 و2010، إثر ظهور له لم يكن الأول في برنامج “الاتجاه المعاكس” في قناة “الجزيرة”، فشل فيه في الرد على مساجل مصري، أقذع في مهاجمة الحكم السوري. في الحلقة عبّر الكوكي عن وجهات نظر دينية اجتماعية بالغة التزمت، ترى مثلا أن غير المبرقعات فاجرات. وقد سارع بعد الإفراج عنه إلى إعلان “ولاء ووفاء” منه “لسيد الوطن وقائده السيد الدكتور بشار الأسد”، وأنه “مع قيادته لهذا البلد، ونهجه، وأي كلام آخر ينقل عني يخالف هذا الكلام فأنا بريء منه، ولا أساس له من الصحة”. جريدة “الوطن” السورية. 22/2/2010.

[74] التعميم مؤرخ في 23/8/2009. وقد تسرب إلى نشرة “كلنا شركاء” الواسعة الانتشار. ومن المؤسف أن جميع من علّقوا عليه، وهم كثر، شخّصوا تواطؤا بعثيا مع “الأصوليين”، وساءهم ألا يتعرض هؤلاء لمزيد من القمع، بدل أن يتبيّنوا منطق الوثيقة البعثية التي لا تكتم أنها لا تهتم بجماعة الباني طالما هم لا يخرجون من نطاق المعتقد الديني. هذا يدل، في تصوري، على تقدم حاسم تحقق لمنطق التجزؤ السلطاني في أوساط عموم المتعلمين والمثقفين. ولا أرى سبيلا لمواجهة مجتمع الدولة السلطانية هذا، المكون من أمثال جماعات الشيخ البوطي والكوكي والباني… وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، في غير سياق العمل على تحويل الدولة السلطانية إلى… جمهورية أو دولة مواطنين.

[75] يسجل لغليون تمايزا في هذا الشأن، في نشاطه العملي على الأقل، المنفتح على أنشطة المثقفين والمعارضين الديموقراطيين السوريين. بين كبار المثقفين السوريين، ينفرد العظمة وطرابيشي بأنهما مضربان بالمطلق عن المشاركة في التوقيع على أي بيان يدعو إلى الحريات أو يتضامن مع معتقلي رأي، أو عريضة تدعو إلى إصلاحات وطنية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى