من ذاكرة صفحات سورية

عن كتاب لا مستوطن ولا محلاني: صناعة الأقلّيات الدائمة وتفكيكها: محمود ممداني -مقالات تناولت الكتاب مع حوار مع المؤلف

محمود ممداني: لا مستوطن ولا أصلي: صناعة الأقليّات الدائمة وتفكيكها

By : Mahmood Mamdani

نصوص صدرت حديثا (جامعة هارفرد للنشر، 2020)

جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟

محمود ممداني (م.م.): لقد كتبت أكثر من عشرة كتب على امتداد أربعين عاما من حياتي الأكاديميّة، ويبدو الآن أنني لا أفعل شيئا سوى الكتابة-بمعنى آخر، الكتابة هي “سبب وجودي”، ولا داعي لوجود أي حافز إضافي! وقد ركّزَت أعمالي السابقة على الاستعمار وما بعد الاستعمار، مبنيّة على فرضيّة أن القوميّة حلّت أولا ثم تبعها الاستعمار. كانت القوميّة هي الجانب الجيّد، والاستعمار هو الجانب السيء. تجلّى الجانب الجيّد في أوروبا، والجانب السيء خارج أوروبا. هذا الكتاب يبدأ بمساءلة لهذه الفرضيّة، بعد إدراك أن الاستعمار والقوميّة ولدا بالفعل معا، ويمثلان وجهين لعملة واحدة.

ج: ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟

م.م.:  يركّز هذا العمل على الدولة القومية، بشكليها الحضري المديني والاستعماري. أبدأ في سنة 1492 كونها تاريخ ولادة الدولة القوميّة في ايبيريا، وهي دولة تصهر كلا من القوميّة والدولة وتعيد النظر بالدولة كحافظة للقوميّة، مما يؤدّي إلى عمليات تطهير عرقي للأقليّات. وسنة 1492 هي أيضا تاريخ غزو الهنود في الأميركيتين.

ثم يتتبع الكتاب تاريخ الدولة القوميّة في أوروبا، من تاريخ من الحروب الدينيّة، إلى معاهدات وستفاليا والأعمال النظريّة لجون لوك، أناقش المبادئ الأساسيّة للنظريّة الليبراليّة للدولة القوميّة-سيادة الغالبية، الأمّة، والتسامح مع الأقليّات الّذين يتمتعون بحقوق لكنّهم لا يشاركون في السيادة.

أشكك بمؤلفات وأدبيات كاملة تتناول المواطنة، بدءاً من تي. هـ. مارشال الذي قدّم لنا سلالة المواطنة، بدء من الحقوق المدنية فالسياسيّة ثم الإجتماعيّة.

أنقل السؤال من “أي حقوق” إلى “حقوق من”، وبالتالي من قصة تطور إلى قصّة إقصاء يترافق مع احتواء. أربط ذلك بأدبيات حول العنف، مسائلا منطلق محاكمات نورنبرغ، والقائل بأنّه يجب اعتبار كل أنواع العنف بمثابة (عمل) جنائي وفردي. وأناقش أن العنف المطلق هو في الواقع سياسي: هو عنف تقوده جماهير كاملة معبأة إزاء قضايا معيّنة، ولا يمكن فهمه عبر تسميّة المحرّضين والتشهير بهم، كما تزعم في معظم الأحيان جماعات حقوق الإنسان. أجادل أن نورنبرغ فشلت لأنّها ركّزت على الأفراد المحرّضين، حتى لو كان عدّدهم يفوق المليون.

تجاهلت نورنبرغ المشروع السياسي النازي، وهو تطهير الدولة القومية من أقلياتها: اليهود، والغجر وإلى آخره. ومشروع تفكيك النازيّة انتهى بأنّه أنجز المشروع السياسي النازي، عبر خلق ألمانيا خاليّة من اليهود وتأسيس الأرضيّة لإسرائيل بلا فلسطينيين. هذا هو حلّ الدولتين الذي تحاول إسرائيل تحقيقه اليوم، بالانتقال من إسرائيل كدولة يهوديّة وديموقراطيّة، إلى إسرائيل كدولة يهوديّة.

ج: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟

م.م.: في كتابيّ السابقين، “مواطن وتابع” (جامعة برنستون للنشر، 2008)، “عرّف واحكم” (جامعة هارفرد للنشر، 2012)، حددت أصل دولة الحكم الاستعماري غير المباشر، بدء من الردّ البريطاني على أزمة الاستعمار العامّة في القرن التاسع عشر، من الانتفاضة الهنديّة إلى تمرّد خليج مورانت في الهند الغربيّة (جامايكا)، إلى الانتفاضة المهديّة في السودان.

ولكن، في هذا الكتاب أبدأ بإيضاح أننا نحتاج لأن نستوعب أن الحكم الاستعماري غير المباشر هو حلّ دولتين، وأن أصل حلّ الدولتين هو المحميات الهنديّة التي ابتكرت في أميركا الشماليّة. ألاحق أثر أصل حلّ الدولتين من الولايات المتّحدة إلى جنوب أفريقيا، مرورا بألمانيا النازيّة وما بعد النازيّة، وصولا إلى إسرائيل\فلسطين. وأظهر أيضا أنه يتعين على المهتمين ببدائل لحل الدولتين تأمل الصراع المناهض للتفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا، بالرغم من أوجه قصوره العديدة.

ج: من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟

م.م.: آمل أن يقرأ هذا الكتاب ثلاثة أنواع من القراء: الباحثون في مجال الدولة الليبراليّة، والباحثون في مجال الاستعمار الاستيطاني، والباحثون في حكم الاستعمار غير المباشر. أتمنّى أن يعلّم هذا الكتاب كل فئة منهم بأنّ هناك الكثير مما يتعين أن تتعلمّه من الأخرى، إذا وضعوا هدف تحليلهم في سياق امبريالي أوسع. وآمل أيضا أن يقرا الكتاب أشخاص لديهم وعي سياسي مع تركيز على مسائل العنف المتطرف والعدالة.

ج: ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟

م.م.: أعمل حاليا على مشروعين. الأولّ هو دراسة الأدبيات حول العبوديّة الأفريقيّة قبل عبور المحيط الأطلسي في العالم الأكاديمي الأميركي والغربي، وكيف تم تحريفها بمنظور صيغ في بداية دراسة العبوديّة الأطلسيّة. الثاني هو دراسة عن القائدين عيدي أمين ويوري موسيفني وقد كانا مركزيّين لمشروع صناعة دولة سوداء في أوغندا ما بعد الاستعمار.

ج: ما هو درس جنوب أفريقيا لإسرائيل\فلسطين المعاصرة؟

م.م.: هناك ثلاثة دروس أساسيّة. الأوّل، هو أن النضال المعادي للتفرقة العنصريّة انتصر حين حوّل نفسه من نضال عسكري إلى آخر سياسي. ثانيا، كان نظام التفرقة العنصرية قادرا عل النجاح طالما أنّه كان قادرا على تقسيم ضحاياه في مجموعات منفصلة، وقد بدأ النضال المناهض للتفرقة العنصرية بالصعود عندما أدرك أن مفتاح النجاح هو توحيد الصفوف وإبعاد العدو. الدرس الثالث تطلب أن تعي القوى المعادية للتفرقة العنصرية أن الصراع هو سياسي وليس عسكريا، وأن هدفها هو توحيد القوى في سلسلة من المناورات المترابطة، بدء بتوحيد المضطهدين كلهم (أفارقة، وهنود وسود)، ثم الانتقال إلى تحالف أوسع يتضمّن البيض-ليس فقط أولئك المعارضين للتفرقة العنصريّة، بل أيضا أولئك الّذين لا يؤيدونها بشكل مباشر. يقول ستيف بيكو أن “الأسود” ليس لونا، إذا كنت مضطهدا، فأنت أسود.

    تجاهلت نورنبرغ المشروع السياسي النازي، وهو تطهير الدولة القومية من أقلياتها: اليهود، والغجر وإلى آخره. ومشروع تفكيك النازيّة انتهى بأنّه أنجز المشروع السياسي النازي، عبر خلق ألمانيا خاليّة من اليهود وتأسيس الأرضيّة لإسرائيل بلا فلسطينيين. هذا هو حلّ الدولتين الذي تحاول إسرائيل تحقيقه اليوم، بالانتقال من إسرائيل كدولة يهوديّة وديموقراطيّة، إلى إسرائيل كدولة يهوديّة.

وعموما، فإن الهوية ليست بلا تاريخ. هي سياسيّة. انتقل البيض في جنوب أفريقيا من كونهم شركاء صغار في بناء نظام التفرقة العنصرية إلى الانضمام للتحالف المعادي للتفرقة العنصريّة. وبدأت القوى المعادية للتفرقة العنصرية بالتفكير بدولة مغايرة للدولة القوميّة، دولة ليست للغالبية القوميّة (بيض، أو سود) بل دولة منفصلة عن القوميّة.

مقتطفات من الكتاب (من الفصل الخامس، “مسألة إسرائيل\فلسطين)    

تقدّم جنوب أفريقيا فرصة مقارنة مضيئة بشكل خاص لدى بحث مسألة إسرائيل\فلسطين. فتفرّد جنوب أفريقيا تحدّى فرضيّة أن الاختلاف الثقافي يعني حكما اختلافا سياسيا. في المقابل، على النقيض من ذلك، فإن هدف الصهيونيّة هو تحديدا ترجمة التالي: تحويل تجربة أن تكون يهوديا-وهي تاريخيا مسألة ممارسات دينيّة، ونشأة، وأصل (نسب)-إلى تجربة قوميّة وربط هذه القومية بدولة. في إسرائيل، الدولة قائمة لحماية وتدعيم مصالح الأمة اليهودية، التي تشكّل هويّة الغالبيّة الدائمة لإسرائيل.

وتصوّر تسيبي ليفني، وهي سياسيّة إسرائيليّة ليبراليّة، الأمر على هذا النحو: “أوّد أن أرى دولة إسرائيل وطنا للإسرائيليين العرب، لكن لا يمكن أن تكون وطنهم القومي.” وإسرائيل بحدّ ذاتها، بدون الضفة الغربيّة وغزّة، هي في الواقع وطنا لفلسطينيين، نحو مليونين منهم. ولكن، ولأنّ إسرائيل ليست وطنهم القومي، فهم لا يحظون بالسيادة فيها.

والصهينة هي أكثر من مسألة قانونيّة. فهي، بصفتها مشروع دولة قوميّة، تتضمّن أيضا انصهار الدولة والمجتمع في هويّة واحدة. أن تكون صهيونيا لا يعني أن تؤمن بأن إسرائيل يجب أن تكون الوطن القومي لليهود فحسب، بل أيضا أن تساوي الشعب اليهودي بدولة إسرائيل. الحفاظ على المجتمع اليهودي يعني أن تحافظ على الدولة اليهوديّة.

إذا كان يتعين على إسرائيل أن تكون دولة لليهود وحدهم، فعليها أن تجيب على سؤال “من هو اليهودي؟”. ولا يمكن لجوابها أن يتجنّب تسطيح تنوع يهود العالم وتحويلهم إلى اليهود الّذين تعتمدهم الأمّة. هذا هو الوجه الآخر للتهويد: ليس إلغاء غير اليهود فحسب، بل أيضا الأوجه غير المقبولة من اليهودية. النوع المقبول متّصل بالأشكيناز، والذين تعود أصولهم إلى الأجزاء الناطقة بالإيديشيّة في أوروبا. وكان الأشكيناز هم مؤسسو الدولة، الذين اتخّذوا دور الممدّنين الذين يجعلون اليهود الآخرين يتماشون مع النموذج القومي. وعلى وجه الخصوص، سعى الأشكيناز إلى تمدين المزراحيين، أي اليهود العرب. ويطرح اليهود العرب تحديا خاصا للصهيونيّة، بما أن الصهيونيّة تفترض أن الهويتين العربية واليهوديّة لا تتوافقان وهما حكما معاديتان كل للأخرى-وإلّا لن يكون هناك حاجة لدولة يهوديّة في فلسطين التاريخيّة.

إن انصهار الدولة والمجتمع ومشاريع الصهينة والتهويد المرافقة لم تكن ضرورات تاريخيّة. يمكن للشعب اليهودي أن يعيش، وهو يعيش، بحريّة وأمان في دول ليس لها طابع يهودي، دول بإمكانهم ممارسة السيادة فيها عبر أداء أدوار فعّالة في السياسة الديموقراطيّة. وهم إذ أدركوا ذلك، فقد غادرت أعداد كبيرة من اليهود إسرائيل إلى دول غير صهيونيّة لا تقدّم امتيازات لليهود. وفعليا، كان من الممكن وجود مجتمع يهودي في فلسطين من دون دولّة يهوديّة. كان هناك مجتمع يهودي في فلسطين في غياب دولة يهودية-في غياب أي جهد حتّى لبناء دولة كتلك…. اليهود الّذين حجّوا إلى فلسطين لم يكونوا مستوطنين. كانوا مهاجرين. اختاروا أن ينتموا إلى جماعة محليّة سياسيّة كانت موجودة من قبلهم، وليس إنشاء جماعتهم الخاصّة. وهذا الواقع حاسم لتمييز الصهيونيّة عن الوجود اليهودي المبكر في فلسطين. المهاجرون ليسوا مسلّحين، المستوطنون يأتون مسلّحين بالأسلحة من جهة، وببرنامج قوميّ من جهة أخرى. المهاجرون يأتون بحثا عن وطن، وليس دولة، بالنسبة للمستوطنين لا يمكن أن يكون هناك وطن بلا دولة. بالنسبة للمهاجرين، الوطن تمكن مشاركته، بالنسبة للمستوطنين، الدولة يجب أن تكون دولة قوميّة، محميّة الأمّة حيث الآخرين كلّهم هم على الأكثر ضيوف سمح بوجودهم.

وهكذا، فإن ما أطلق جدليّة عدائيّة بين اليهود وغير اليهود ليست هجرة اليهود إلى فلسطين، بلّ بالأحرى الافتراض القائم بين اليهود بأنّ الأرض هي حقهّم الحصري. قبل قيام الدولة، أسّس الصهاينة هويّة قوميّة يهوديّة في فلسطين تدعمها مؤسسات يهوديّة، مما فجّر التوتر مع السكان المحليّين. وأدّت الجهود الصهيونيّة الرسميّة لتهويد المزراحيين إلى تقويض الإرث العلماني للصهيونيّة –وبالتالي إلى مباركة الميول الدينيّة المتطرفة لدى كل من المزراحيين وجاليات أخرى-وأدّى ضخّ التديّن في المستوطنات وضخّ المستوطنين في الأراضي المحتلّة إلى تأجيج الإحساس بوعي وطني فلسطيني.

إن إمكانية حل الدولتين انتهت مع اتفاق أوسلو في منتصف التسعينيات، حيث تخلّى ممثلو الفلسطينيين عن السيادة على دولتهم المستقبليّة المنشودة لصالح الإسرائيليين. وقد نتج عن ذلك اهتمام متنام في مجموعة من احتمالات قيام دولة واحدة، بما فيها احتمال دولة مزدوجة القوميّة، وهي فكرة سبقت إقامة الدولة.

عوضا عن تلك الأفكار، أشير إلى تفكيك الصهينة، الذي يمكن أن يفصل الدولة عن الأمّة. في صلب تفكيك الصهينة، هو جعل إسرائيل دولة لجميع مواطنيها. أتطلّع إلى فرادة جنوب أفريقيا كنموذج لتفكيك الصهينة.

[نشرت على «جدلية». ترجمة هنادي سلمان]

——————————

لا مستوطن ولا محلاني: صناعة الأقليات الدائمة وتفكيكها

مريم الهاجري

باحثة دكتوراه في قسم علم الاجتماع، جامعة إدنبرة، المملكة المتحدة.

عنوان الكتاب: لا مستوطن ولا محلاني: صناعة الأقلّيات الدائمة وتفكيكها.

عنوان الكتاب في لغته: Neither Settler nor Native: The Making and Unmaking of Permanent Minorities.

المؤلف: محمود ممداني Mahmood Mamdani.

الناشر: مطبعة بيلكناب التابعة لمطبعة جامعة هارفارد Belknap Press of Harvard University Press.

مكان النشر: ماساتشوستس ولندن.

سنة النشر: 2020.

عدد الصفحات: 416 صفحة.

مقدمة:

يأتي كتاب لا مستوطن ولا محلاني: صناعة الأقلّيات الدائمة وتفكيكها، للأنثروبولوجي الأوغندي محمود ممداني، امتدادًا لسلسلة مهمة من دراساته التي تبحث في آليات الحكم الاستعماري المباشر وغير المباشر واستتباعاته. ففي كتابه البارز المواطن والرعية، قدم ممداني دراسة تاريخية استُخدمت مرجعًا مركزيًا في الدراسات المُتهمة بالإرث الاستعماري المتأخر في أفريقيا بخاصّة، وتبعاته السياسية على دول ما بعد الاستعمار بعامّة.

في هذا الكتاب، يعود ممداني إلى الاشتغال بالتحليل المقارن للمواطن والرعية، مع التركيز على التجليات المختلفة للحكم الاستعماري غير المباشر؛ آليات بنائه وعواقبه ومحتواه (ص 13)، لكن بتوسع أكبر في وحدات التحليل ودراسات الحالة، ليقدم أطروحة ذات نطاق أكثر عالمية تُعيد مساءلة العالقة بين القومية والدولة الحديثة والاستعمار بوصفه جزءًا لا ينفصل عن المبنى السياسي الحديث (ص 18).

https://omran.dohainstitute.org/ar/038/Documents/Omran-38-2021-AlHajri.pdf

——————————-

لا مستوطن ولا مواطن” لمحمود ممداني: في صناعة الأقليات وتفكيكها/ سناء أمين

يدعو الأكاديمي الأوغندي محمود ممداني (1946)، بناء على مقولة إن الدولة القومية ولدت من الاستعمار، إلى إعادة التفكير في العنف السياسي وإعادة تصور المجتمع السياسي خارج الأغلبيات والأقليات.

وإلى مشروعه الجينيالوجي الذي يحاول فيه تشريح الحداثة السياسية من وجهة نظر غير غربية عبر سلسلة من الكتب، يضيف كتاباً جديداً هو “لا مستوطن ولا مواطن” يصدر قريباَ عن منشورات جامعة هارفارد، الجامعة التي تخرج منها عام 1974 بدكتوراة في القانون، حيث كانت أطروحته تتناول “السياسات وصناعة الطبقة في أوغندا”.

الصورة

غلاف الكتاب

يجادل محمود ممداني بأن الدولة القومية والدولة الاستعمارية خلقتا بعضهما البعض؛ دولة بعد دولة في جميع أنحاء العالم – من العالم الجديد إلى جنوب إفريقيا، ومن ألمانيا إلى السودان – فقد تم بناء الدولة الاستعمارية والدولة القومية بشكل متبادل من خلال تسييس أغلبية دينية أو عرقية على حساب أقلية مصنوعة بالمثل.

ويقول الأستاذ في “جامعة كامبالا الدولية” في أوغندا، إن هذا النموذج يظهر في أميركا الشمالية، حيث خلقت الإبادة الجماعية والاعتقال في المحميات طبقة دنيا محلية دائمة والمساحات المادية والأيديولوجية التي تبلورت فيها هويات المهاجرين الجديدة كأمة مستوطنين.

أما في أوروبا، فبحسب ممداني، استخدم النازيون هذا النموذج للتعامل مع المسألة اليهودية، وبعد سقوط الرايخ الثالث من قبل الحلفاء لإعادة رسم حدود الدول القومية في أوروبا الشرقية وتطهيرها من الأقليات. بعد نورمبرغ تم استخدام النموذج للحفاظ على فكرة أن اليهود أمة منفصلة. ويقول إنه ومن خلال إنشاء “إسرائيل” من خلال تقنين العرب الفلسطينيين، حذا المستوطنون الصهاينة حذو أمريكا الشمالية؛ وكانت النتيجة دورة أخرى من العنف.

يرى الكاتب أنه في ظل هذه الاستمرارية التاريخية لا يبدو أنه للمسطوطنين ولا لأهل البلد أي رؤية لإيقاف هذه العملية التاريخية. ممداني يرفض الحل “الإجرامي” الذي تمت محاولة تنفيذه في نورمبرغ، والذي حمّل الجناة المسؤولية دون التشكيك في النازية كمشروع سياسي وبالتالي عنف الدولة القومية نفسها.

بدلاً من ذلك، يطرح ممداني مقولة أن العنف السياسي يتطلب حلولاً سياسية: ليس العدالة الجنائية للجناة ولكن إعادة التفكير في المجتمع السياسي لجميع الناجين – الضحايا والجناة والمستفيدين – على أساس الإقامة المشتركة والالتزام ببناء مستقبل مشترك بدون هويات سياسية دائمة: مستوطن ومواطن.

وفي سياق حديثه، يشير ممداني إلى النضال ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا باعتباره مشروعًا غير مكتمل يسعى إلى دولة بلا أمة.

إلى حد كبيرة تبدو أطروحة ممداني مثالية وبعيدة المنال، وربما لا أحد يريد أن يعيش في عالم لا يفكر فيه أحد في الحلول السياسية حتى وإن كان من المستبعد تحقيقها. فالواقع اليوم يقول إن أوضاع الأقليات حول العالم بأكمله وصلت إلى مرحلة من أسوأ مراحلها، وقد كشفت أزمة فيروس كوفيد – 19 عن أن ضحايا الأنظمة وممارساتها وعنصريتها هم أنفسهم ضحايا الوباء.

ممداني يميل في كتبه دائماً إلى التفكير في قطبين ويقارن بينهما، رأينا ذلك فيه كتاب “منقذون وناجون”، كما في “المواطن والموضوع”، ويلجأ إلى التفكير بمساعدة التاريخ، رافضاً دائماً النقد الموجه إليه بصفته مؤرخاً.

في اللحظة التي ندرك فيها أن أي واقعة ليست مظهراً آخر من مظاهر الشر المطلق بل صراع معقد يكون لكل طرف فيه مطالب مشروعة ومصالح مشروعة، إذن علينا أن نعود إلى السياسة العادية بأخذها وعطاءها، بدلاً من الاختباء وراء مصطلحات، وبالمثل يجب التخلي عن استخدام المحكمة الجنائية الدولية كمكان غير متجسد وأثيري للعدالة عبر المحيطات، الخلاصة بالنسبة إلى ممداني أنه لا يمكن للعدالة أن توجد خارج السياسة ولا يمكن أن تحل محلها.

من جهة أخرى يطرح الكاتب مسألة “التدخل الإنساني”، ويرى بأنها بحسب ما تعرفها نصوص الأمم المتحدة “مسؤولية الحماية”، والتي تلغي مفهوم السيادة ونتيجتها الطبيعية أي المواطنة. تعامل مسألة التدخل الإنساني السكان المتضررين على أنهم قاصرون تحت وصاية الآخرين. هذا هو نفس المنطق الذي كان أساس المشروع الاستعماري. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كان الحق في حماية الأقليات المهددة أو المحرومة هو الطرف الأضعف لإسفين الاحتلال الاستعماري.

ومن المفارقات وفقاً للكاتب أن المشروع الاستعماري، سواء في رواندا أو دارفور، هو الذي مهد الطريق للإبادة الجماعية وغيرها من الفظائع من خلال إقامة انقسامات عنصرية مصطنعة.

يتضمن الكتاب ستة فصول هي: المسألة الهندية في الولايات المتحدة، نورمبرغ: فشل نزع النازية، المستوطنين والسكان الأصليين في الفصل العنصري جنوب أفريقيا، السودان: الاستعمار والاستقلال والانفصال، قضية إسرائيل / فلسطين، إنهاء استعمار المجتمع السياسي.

————————-

في “المستوطن والساكن الأصليّ”: قراءة في كتاب ممداني

سال حبرٌ كثير حول نموذج الاستعمار – الاستيطاني الأميركي، بوصفه أكبر عملية استئصال راديكالي قام بها مستوطنون أوروبيون تجاه السكان المحليين، فقد جرى تجفيف أميركا الشمالية وبشكلٍ ممنهج من كل أهلها “الهنود”.

في “المستوطن والساكن الأصليّ”: قراءة في كتاب ممداني

جزء من غلاف الكتاب

“بهذه الطريقة دفعت الإمبراطورية البريطانية إستراتيجية ’فرِّق تسد’ الرومانية القديمة خطوة إلى الأمام، فصار الاسم الأكثر ملائمة لمشروعها الاستعماري الحديث هو ’عرّف تسد’”. عرّف تسد، هو التعريف البديل للتصنيف الاستعماري المُنتج للعنف المفرط في المجتمعات الاستعمارية، وما بعد الاستعمارية، حديثا، بحسب المفكر الأوغندي والأستاذ في في جامعة كولومبيا الأميركية، محمود ممداني، في كتابه الذي تُرجم ونُشر مؤخرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بعنوان “لا مستوطن ولا مواطن – صنع أقليات دائمة وتفكيكها”.

تابعوا تطبيق “عرب ٤٨”… سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

يستجوب ممداني في كتابه بعضا من حالات عنف المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية وما بعد الاستعمارية، بدءا بالولايات المتحدة الأميركية، حيث النموذج البِكر للعنف الاستعماري – الاستيطاني في التاريخ الحديث. ثم النموذج النازي في ألمانيا الهتلرية، والشكل الذي جرت عليه محاكم نورمبرغ للنازيين بعد هزيمتهم، مرورا بجنوب إفريقيا، دون أن يغفِل ممداني استثنائية النموذج الجنوب إفريقي عن النماذج الأخرى؛ ثم السودان وانفصال جنوبه كنموذج لعنف ما بعد الاستعمار؛ وصولا إلى إسرائيل كنموذج استعماري ما يزال عنفه الاستيطاني في حالة تفاقم دائم.

لا يغفِل ممداني في كتابه مُمايزة كل نموذج في عنف أدواته عن الآخر. غير أن خيط العنف المفرط الذي يربط بين كل هذه النماذج، مردّه بالنسبة للكاتب هو الاستعمار، بوصفه بُنية مُسيّسة للهويات، وصانعة للأقليات الدائمة التي تداوم على إنتاج العنف السياسي.

محمود ممداني

كما يُمايز صاحب الكتاب العنف الجنائي عن العنف السياسي، في محاولة منه من لإثبات فرضيته عن “سياسات الهوية” المُدانة بكل هذا العنف المفرط. فالعنف الجنائي هو تصنيف قانوني متصل بمحاسبة ومعاقبة الأفراد والمسؤولين عن فعل العنف وتنفيذه، دون أن يمس المنظومة المُنتجة للعنف؛ فيما العنف السياسي هو ذلك المتصل حرفيا بسياسات الهوية المُشكَّلة والمُشكِّلة للعنف في سياق استعماري.

وعليه، فإن العنف الاستعماري هو سياسي في جوهره، لكونه عنفا صانعا للقانون، لا حاميا للقانون كما تُريد البنُى الاستعمارية تمويه مُستعمَريها. بحسب ممداني، إن وحشية العنف الاستعماري ثم استمراره في كثير من حالات مجتمعات ما بعد الاستعمار، مرده لسببين:

الأول، التشكيل الذهني لسياسات الهوية والعضوية في الجماعة السياسية – عرقية وطائفية وقبلية – التي ورّثها الاستعمار لأبناء المُستعمرات، والتي ما انفكت في غالب الأحيان عن إنتاج عنفها السياسي؛ والثاني، هو مداومة مجتمع حقوق الإنسان الدولي المُسيطر، على ترحيل العنف من السياسي إلى الجنائي، تماما مثل الطريقة التي أُقيمت واشتغلت فيها محاكم نورمبرغ التي استجوبت واجتثت النازيين الأفراد، لا الدولة التي أفرزت التجربة النازية بعد هزيمتها.

ما بين الولايات المتحدة والنازيّة

سال حبرٌ كثير حول نموذج الاستعمار – الاستيطاني الأميركي، بوصفه أكبر عملية استئصال راديكالي قام بها مستوطنون أوروبيون تجاه السكان المحليين، فقد جرى تجفيف أميركا الشمالية وبشكلٍ ممنهج من كل أهلها “الهنود”. بالتالي، فإن المؤسسيون للأمة الأميركية والمنظرين الأوائل لمفهومها مثل توماس جفرسون وأندرو جاكسون وأبراهام لينكولن، هم ليسو إلا صيّادين، قاموا بدور فعّال بتقليل عدد “القطيع الهندي”، والذين أشرفوا بدورهم على تشييك سياج محميات من تبقى من بقايا الهنود المحليين الذين أُعيد إنتاجهم ضمن هوية الساكن المحلي أو الأصلي.

كان مصطلح “الوطن الهندي” قد استُخدم للمرة الأولى على لسان الملك جورج الثالث في البيان الملكي لعام 1763. وتحت هذا النظام الذي حدده الملك، كان الوطن الهندي أرضا يملك الهنود حق استخدامها، ولكنهم لم يملكوا حق الملكية عليها. بعد الثورة الأميركية، تبنت الولايات المتحدة المشروع نفسه. وحتى اليوم، يملك الهنود بالمحميات “حق الملكية الهندي”، أو “الحق في السكن”، يخضع قرار حلها للكونغرس فقط.

غير أن النقطة الأساسية التي يجادل فيها ممداني في كتابه حول النموذج الأميركي، هي تلك المتعلقة بالخطأ الفكري الشائع الذي عمل على تخريج النموذج الاستعماري الأميركي تحت مظلة “التمييز العنصري”، والذي يجعل بدوره كلا من الهنود والسود الأفارقة على مسطرة واحدة، كمجموعات عرقية مقموعة وجب تحريرها. لكن ما ينبّه إليه صاحب الكتاب، هو أن القمع العرقي والاستعمار، ليسا الأمر نفسه، ويجب ألا تكون الحلول المطلوبه لهما نفسها، فحكاية الهنود المحليين غير قصة السود الأفارقة في أميركا.

وذلك من حيث أن السود قد جرى شحنهم من بلادهم كعبيد على يد المستوطنين الأوروبيين البيض، وبالتالي هم مهاجرون وليسو مستوطنين. لأن ممداني يقيم تمييزا بين المستوطن والمهاجر، فالأول يسعى للاجتثاث من أجل بناء كيان بديل، بينما المهاجر يأتي للإقامة والعيش في كيان قائم. وعليه فحكاية السود الأفارقة لها بداية معروفة في النموذج الاستعماري الأميركي، لكن قصة الهنود لا يمكن قولها لأنها لم تبدأ من الأصل، يقول ممداني.

لقد نظر المستوطنون البيض للسود موردا للعمالة، بينما الهنود كانوا موردا للأرض، مما أدى إلى ممارسة حوكمة سياسية استعمارية مختلفة عليهما، فكان ميلاد “المحمية” متصلا بالهنود.

امرأة من قبيلة بايو لاكومب تشوكتاو، من لويزيانا، في موكب سنوي للسكان الأصليين في الأميركيتين في مانهاتن بنيويورك، في 15 أكتوبر 2022 (Getty Images)

في ظل ابتكار فكرة “المحمية”، فإن أميركا هي أول أمة استعمارية حديثة اخترعت حل الدولتين لمسألة السكان الأصليين، حيث عمل نظام المحمية على الباقين من السكان المحليين “الهنود”، بوصفه سياسة تنظيف ما بعد سفك الدم. وعلى الرغم من أن المحمية أصبحت حل الدولتين الدائم، إلا أنها كانت خطوة جوهرية نحو حل دولة واحدة، وهذا ما يمكن مقاربته مع نموذج الصهيونية القائم إلى يومنا في فلسطين.

إن سؤال السكان المحليين “الهنود”، سؤال متصل بالأرض واستعمارها، بينما السود الأفارقة كانت قضية وما زالت متعلقة بالاستغلال والتمييز العنصري، وجرى تسليط “الكشافات” حديثا على حالة السود فقط كمسألة حقوقية، كي تظل البُنية الاستيطانية للأمة الأميركية بمنأى عن سؤالها الاستعماري، فمناهضة العنصرية ليست مثل التحرر من الاستعمار. ومن هنا كان سؤال ممداني في كتابه: لماذا جرى تقليل عدد الهنود قانونيا إلى الحد الأدنى وزيادة عدد الأفريقيين السود إلى الحد الأقصى؟ لأنه ما دام هناك جماعة هندية، فهذا يؤسس دعوى لها في الأرض، ومن ثم نقدا لسيادة المستوطن الأبيض، وعائقا أمام نمو اقتصاد المستوطن. ويختم ممداني عن النموذج الأميركي بالقول: “إن أميركا ستكون قادرة على التحرر من الاستعمار، عندما يدرك رؤساؤها ومفكروها ومواطنوها العاديون أنهم لا يعيشون في الأمة الجديدة الأولى، بل في المستعمرة الاستيطانية الأولى”.

أما عن ألمانية النازية، فقد خصص ممداني فصلا من كتابه للنموذج النازي، إذ اعتبر أن هتلر ورفاقه، قد استلهموا سياسات التطهير العرقي وتبريرات تحسين النسل للإبادة الجماعية، من النموذج الأميركي تجاه السكان المحليين في الأميركيتين. بعد هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية، استنكر الشعب الألماني المهزوم الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون، وكذلك يستنكر الشعب الأميركي غير المهزوم، الإبادة الجماعية تجاه السكان المحليين “الهنود”، لكن لم يعترف أي من الشعبين بأن الإبادة الجماعية هي سلوك من صناعة الدول – الأمم التي يعيشون فيها. والدليل الذي يحاجج ممداني من خلاله تورط “الدولة – الأمة” في صناعة الإبادة الجماعية، هو محاكم نورمبرغ ضد ألمانيا، بعد هزيمتها في الحرب.

لقد نزعت دول الحلفاء في محاكم نورمبرغ صفة “السياسي” عن الإبادة (الهولوكوست) التي ارتكبها النازيون، وجعلتها عنفا “جنائيا”. بمعنى إعادة اختراع النازية، لتصبح تراكما لجرائم فردية بدلا من كونها مشروعا سياسيا. وهذا ما قالهُ من قبل زيجمونت باومان، في كتابه “الحداثة والهولوكوست”، والذي ردَّ فعل الإبادة والتطهير النازيين إلى الدولة الألمانية والحداثة ذاتها، ردا على محاولة الحداثة التنصل من عنف النازيين بوصفه عنفا جنائيا – مرضيا نقيضا للحداثة.

بالتالي، يرى ممداني بمحاكم نورمبرغ، أنها “عدالة المنتصر”، لا “عدالة حقيقية”. لقد جرى تعميم إعادة تعريف النازية بعد هزيمتها وفق رواية المنتصرين عليها. إن ضيق تفسير النازية على أنها مجموعة من الجرائم المرتكبة من قبل ألمان بمعزل عن ألمانيتهم القومية قد حمى “الحلفاء” أنفسهم من الرقابة على ما اقترفوه هم في الحرب.

اللحظة الجنوب إفريقيّة

يخصص صاحب “لا مستوطن ولا مواطن” الفصل الثالث من كتابه للنموذج الجنوب إفريقي واستثنائيته عن باقي النماذج الأخرى، إذ يقول ممداني: “في مسار النضال ضد الأبارتهايد، قام الجنوب إفريقيين بشيء فارق: لقد حاولوا بنجاح لم يكتمل أن يدمروا المستوطن والساكن الأصلي، بإعادة تعريفهما على أنهما ناجيان”.

هذا الاقتباس من قول ممداني، يلخص فكرتين أساسيتين عن استثناء جنوب إفريقيا ونجاحه غير المكتمل، الأولى: في نضال الجنوب إفريقيين ضد التصنيف الذي صنعته سلطات الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، بين مستوطن وساكن أصلي، فخطاب “السكان الأصليين” لم يكن خطابا نضاليا ضد المستوطن، بقدر ما كان من صناعة هذا الأخير، تمثَّل في سياسات الفصل العنصري، التي مثلتها “البانتوستانات” على طريقة “المحميات” في النموذج الأميركي. بالتالي، أسقط الجنوب إفريقيين ركنا من أركان تمييز المستوطن، مقابل الساكن الأصلي في بلادهم، وهو العرق كهوية سياسية. وبالمناسبة، إن خطاب الفصل العنصري “الأبارتهايد” والساكن الأصلي في فلسطين، هو استدخال قامت به الحركة الوطنية في الداخل عن النموذج الجنوب إفريقي، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي.

مسيرةفي جنوب إفريقيا، رُفعت فيها لافتات كتبت عليها شعارات من قبيل؛ “الفصل العنصري شر، والاستعمار شر” (Getty Images)

أما الفكرة الثانية، فهي تلك المتصلة بـ”عدالة” تفكيك نظام الفصل العنصري في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد نضال خاضه الجنوب أفريقييين لأكثر من نصف قرن، والتي استقرت على نجاة كل من الساكن الأصلي والمستوطن معا، كشرط لتجاوز نظام الأبارتهايد، أي نجاة الضحية وجلّادها معا. وهذا على خلاف عدالة محاكم نورمبرغ ضد النازيين الألمان، التي اجتثت القيادة دون المساس بالمنظومة.

بينما تفكيك الأبارتهايد في جنوب إفريقيا لم يُحاسَب المسؤولون عنه، إنما نظام الفصل نفسه هو الذي تمت محاسبته بتفكيكه. أي لم يتخلص النضال ضد الأبارتهايد من المستوطنين البيض، إنما من بياض حوكمة السلطة وأجهزتها. يعتبر ممداني ذلك نجاحا لم يكتمل، لأن نفوذ المستوطنين البيض، ظلّ قائما في مؤسسات دولة ما بعد الأبارتهايد في جوانب مختلفة في جنوب إفريقيا. لكن ما فات ممداني عن النجاح غير المكتمل، هو تحديدا في الجانب الذي اعتبره نجاحا، فمحاسبة النظام دون محاسبة الذين قاموا عليه، كان ثمنه نفوذا متجذرا لسلطة المستوطنين البيض، حتى في نظام ما بعد تفكيك نظام الفصل.

السودان، حالة أخرى

تناول ممداني في الفصل الرابع من كتابه، السودان وسرديته منذ استعماره على أيدي البريطانيين، مرورا بنضاله واستقلاله، وصولا إلى انفصاله. ظلّ السودان نموذجا لإنتاج العنف السياسي الاستعماري وما بعد الاستعماري، ففي جنوب ما بعد الانفصال -انفصال جنوب السودان- اقتتلت في سنة 2013، كل من الدينكا والنوير في حرب قبلية راح ضحيتها 20 ألف شخص في ثلاثة أيام فقط.

اشتغل البريطانيون منذ أن استعمروا السودان في مطلع القرن العشرين، على تسييس حدوده الإثنية، كما أعادوا تأسيس الاختلافات الثقافية فيه على أنها اختلافات قبلية. فكان الانقسام الكبير بين العرب والإفريقيين من اختراع المُستعمِر. بالتالي، أعلن الحكم الاستعماري البريطاني شمال السودان عربيا، بينما جنوبه إفريقيا. كان هذا التصنيف الجِهوي يقوم على أُسُس عِرقية صنعها المُستعمِر. لم يكن الشمال كله عربا، كما كان في الجنوب أفارقة يتكلمون العربية، بحُكم أنها لغة الصلاة في الإسلام. أي أن الاستعمار البريطاني عمل على إعادة تصنيف وتعريف العروبة بوصفها عِرقا، وهذا ما استقر في وعي السودانيين لاحقا.

على خلاف الحالتين الأميركية والجنوب إفريقية، لم يكن المستوطن في مواجهة الساكن الأصلي في السودان هو المُستعمِر هذه المرة، فالبريطانيون لم يحاولوا الاستيطان في الأراضي السودانية. بدلا من ذلك كان المستوطنون هم المتحدثين بالعربية في الشمال، إذ نظر إليهم البريطانيون على أنهم مجرد مهاجرين، ففي السردية البريطانية – الاستعمارية، وصل العرب أفواجا قبل وصول البريطانيين بأعوام، جالبين معهم الإسلام، واللغة والثقافة العربيتين، والتنظيم السياسي المركزي، أي مظاهر الحضارة. بهذه القصة، مع وصول “المستوطنين” العرب، تمت إزاحة السكان الأصليين جنوبا، أي الأفارقة.

يقول ممداني: لا يتطلب الاستعمار الاستيطاني مستعمرا حقيقيا، وإنما فقط مجموعة تُعرف بأنها مستوطِنة، وأخرى تُعرف بأنها من السكان الأصليين. وقد استبطن العرب في السودان هذه الصيغة الاستعمارية، وحافظوا عليها بعد الاستقلال. بالتالي، فإن جذور النزعة الانفصالية في السودان بعد استقلاله، تعود إلى تلك هذه المرحلة من التأسيس الاستعماري.

في الوقت الذي صُنف فيه عرب الشمال كمهاجرين – مستوطنين وأبناء عرق واحد. وزّع البريطانيون الأفارقة – السكان الأصليين في الجنوب ضمن تصنيفات عرقية وقبلية. بالتالي، يفسر المستوى من الأول من التصنيف الجهوي الاستعماري شمال – جنوب (عرب مستوطنين وأفارقة سكان أصليين) النزعة الانفصالية وتطبيقها في مطلع القرن الحالي. بينما يفسر التصنيف العِرقي – القبلي الذي صنعه البريطانيون في الجنوب، فشل دولة جنوب السودان بعد انفصالها في حرب أهلية ما زالت تدور رحاها إلى يوم الجنوبيين هذا.

أخيرا، إسرائيل

ما تزال إسرائيل ببُنيتها الصهيونية، النموذج الأشد وضوحا لعنف الاستعمار – الاستيطاني في صراعٍ غير محسوم بعد. هذا على خلاف النموذج الأميركي، حيث يجري خطاب الساكن الأصلي (الهنود)، والتمييز العنصري (السود) في صراع بات محسوما استعماريا.

(Getty Images)

يتناول ممداني علاقة اليهودي بأرض فلسطين حديثا على ثلاثة مستويات: المُقيم والمهاجر ثم المستوطن، فالأول هو ذلك اليهودي الذي عاش تاريخيا في فلسطين، وكان جزءا من نسيجها الحضاري المتنوع. بينما اليهودي المهاجر هو ذلك الذي هاجر إلى فلسطين خلال الهجرة الأولى على خلفية اللاسامية في أوروبا، منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فالمهاجر بمفهوم ممداني هو يهودي قرر الهجرة إلى فلسطين، دون أن يحمل تصورا أيديولوجيا صهيونيا لتغيير النظام فيها -إقامة وطن قومي لليهود-. فيما اليهودي المستوطن هو ذلك الذي سعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي شرطه كان تطهيرها من سكانها العرب، وقد ارتبط نموذج المستوطن اليهودي بما يُعرف بالهجرة الثانية والثالثة.

وما يميز استثناء حالة إسرائيل بالنسبة لممداني لناحية تشكيل سؤال “هوية المستوطن في مقابل الساكن الأصلي”، هو أن المستوطن نظر إلى نفسه بوصفه الساكن الأصلي العائد، إذ لا يرى اليهود الصهاينة بالفلسطينيين سكانا أصليين في البلاد. وقد تجسَّد هذا التصور في كون اليهود المستوطنين، سكانا أصليين عائدين في “قانون العودة” سنة 1950، بعد إعلان تأسيس إسرائيل.

بالتالي، يعني التهويد القائم على قدمٍ وساق في فلسطين إلى يومنا، المداومة على صناعة أغلبية قومية يهودية في الدولة. وشرط ذلك كان وما زال تطهير الأرض من سكانها العرب، وهذه البُنية الاستعمارية – الاستيطانية الماثلة في الدولة إلى يومها. ثم الفصل العنصري في نظام الدولة الذي صارت عليه إسرائيل منذ ما بعد إعلان تأسيسها سنة 1948 تجاه مواطنيها الفلسطينيين العرب، ولاحقا تجاه السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بعد احتلالهما سنة 1967، وهذا ما أشار إليه الدكتور عزمي بشارة بشكلٍ مفصَّل في مقالته: “استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟”.

في الأخير

يخلص صاحب كتاب “لا مستوطن ولا مواطن” إلى أن التحدي الذي يواجه المعادين للاستعمار، هو إعادة تخيّل الجماعة السياسية من دون التصنيفات الاستعمارية، وسياسات الإصلاح على هذا الأساس. وإن كنا نتفق مع مقولة ممداني عن تحرير السياسي من الاستعمار. إلا أن محاججته لتوضيح ذلك التحدي بالقول: إنه من الممكن أن نتخيل جماعة سياسية جديدة بديلا عن الأمة بمفهومها الحديث، يظلّ إشكاليا.

إذ لا يرى ممداني إمكانية للتخلص من العنف السياسي، وبناء ديمقراطية حقيقية، ما لم يتم فك الأمة عن الدولة، باعتباره أن عنف الثانية مردّهُ للأولى، أي مفهوم الأمة. غير أن الديمقراطية كتجربة حديثة، وُلدت في سياق الدولة – الأمة وليس خارجها، هذا أولا.

ثانيا، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية ما لم يتم حسم جملة من المسلّمات، وعلى رأسها هوية الأمة التي يجري تداول السلطة تحتها. وإلا ستكون أي انتخابات بغرض تداول السلطة، دعوة للاحتراب. وثالثا، إن الوعي بمفهوم الانتماء لأمة ما، كثيرا ما يكون بمثابة قطع على طريق التفتيت الإثني أو الطائفي أو القبلي، الذي يمارسة المستعمِر على أمم المستعمرات، فعلى سبيل المثال، وعي المواطنين العرب في إسرائيل على أنهم جماعة سياسية تنتمي إلى أمة عربية في المنطقة، هو تحدٍّ بذاته لكل محاولات تفتيتهم من إسرائيل إلى جماعات طائفية وقبلية.

ملف من اعداد موقعنا “صفحات سورية”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى