صفحات الحوار

بيث فان شاك: التطبيع مع الأسد يجب ألا يكون مجاناً

حاورتها من لندن: ديمة ونوس

بعد اثني عشر عاماً على انطلاق الثورة السورية، لا يزال الطريق إلى العدالة طويلاً وشاقاً بالنسبة إلى ملايين السوريين المشرّدين في أصقاع الأرض.

حتى اللحظة، لم تشهد معظم عائلات الضحايا محاسبة المسؤولين عن تلك الأهوال، ولم تقتف أثر المفقودين من أبنائها، وسط مؤشرات إلى قرب عودة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى محيطه العربي. وما دامت أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عام فقط على غزوه أوكرانيا، فلماذا لم تصدر مذكرة مشابهة بحق الأسد، رغم أكثر من 12 سنة من إراقة الدماء والاعتقال والترهيب والتهجير؟

وما هو موقف الغرب من التطبيع العربي مع الأسد؟ وهل سيمتلك السوريون “مفاتيح” العيش المشترك بعد كل الأهوال التي اختبروها؟ للإجابة على بعض الأسئلة المطروحة اليوم في الملف السوري، التقت “العربي الجديد” السفيرة الأميركية للعدالة الجنائية العالمية بيث فان شاك.

*السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن، لماذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولم تصدر مذكّرة مشابهة بحق بشار الأسد؟

جزء من الإجابة على هذا السؤال يتعلق بالسلطة القضائية وبالطريقة التي جرت عبرها صياغة المعاهدة في تسعينيات القرن الماضي، عندما اتّفق المجتمع الدولي على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. حيث اقتصرت السلطة القضائية على الدول التي صادقت على المعاهدة، وسورية لم تصادق عليها بالطبع.

*ولا أوكرانيا صادقت على المعاهدة؟

نعم، لكنها قبلت بالولاية القضائية، لذا يمكنها القيام بذلك في حالات معينة. أما المسار الآخر فهو مجلس الأمن، وهو مسار مغلق لكل من سورية وأوكرانيا بسبب الفيتو الروسي. لذلك كانت هنالك مساعٍ في العام 2014، بقيادة سويسرية ومشاركة ما يقارب 50 دولة، للحصول على موافقة مجلس الأمن لإحالة ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكن روسيا اعترضت على ذلك، ومثلها فعلت الصين لاحقاً. لهذا السبب، يبدو الأمر وكأنه عدالة انتقائية وغير متكافئة.

*هل يمكن لبوتين أن يعتقل في يوم من الأيام؟

لدي ثقة بأنه لن يفلت من العقاب ولن يبقى في السلطة إلى الأبد. إنها لعبة طويلة الأمد إن كان بالنسبة لي أو بالنسبة لباقي العاملين في هذا المجال. إنه ماراثون وليس مجرّد سباق قصير. وإن كنت لا أعلم ما الذي سيحدث بدقة، إلا أن شخصيات مثل سلوبودان ميلوسيفيتش أو أوغستو بينوشيه أو حسين حبري، لم تكن تعبر أذهانهم بكل تأكيد فكرة الوجود داخل قاعة المحكمة، إلا أنهم جميعهم وجدوا أنفسهم داخلها.

حالياً، بوتين محاصر في بلده، لننتظر ونرى كيف ستتعاطى معه مختلف الدول في حال قرّر أن يغادر حدود بلده. الرحلة الأولى التي نعرف عنها، ومن المقرر أن يقوم بها إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية، هي للمشاركة في مؤتمر مجموعة بريكس في جنوب أفريقيا في شهر أغسطس/آب القادم، والتي تحدّث القضاة عنها قائلين إنهم ملزمون باعتقاله قانونياً في حال قرّر الذهاب. فهل سيلتزمون بتعهّداتهم؟ لذا فإن الإجابة المختصرة على سؤالك هي أنه علينا الانتظار لمعرفة مصيره، ولكن ليس هناك أي شك في أن عالمه تقلص بعد مذكرة الاعتقال هذه.

*قبل عامين، نشرتِ كتاب “تخيّل العدالة من أجل سورية”، ما الذي تغير منذ ذلك الحين؟

الجزء الأول من عملي على الكتاب كان حزيناً ومحبطاً في ما يتعلق بالسؤال عن العدالة. ولكن بعد تجاوز تلك اللحظة والمضي في البحث عن مسارات أخرى، تبدأ تلك الضبابية بالانقشاع، فتتضح الرؤيا أكثر فأكثر.

لدينا اليوم عشرات القضايا التي أحرزت تقدماً، بما في ذلك الإدانات التي شهدناها في المحاكم الوطنية. صحيح أن عجلة العدالة بطيئة في محكمة العدل الدولية، إلا أنها ليست معطّلة. لدينا الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، والتي تمتلك مخزوناً هائلاً من الأدلة، ما يمهّد الطريق أمام المدّعين العامين للقيام بعملهم ورفع القضايا المكلّفين بها. كما أن المدّعين العامين متحدون اليوم بشكل أكبر، ويجتمعون بانتظام ويتشاركون الاستراتيجيات وما إلى ذلك. لذا فقد مُهّدت الطريق أمام كل المسارات الضبابية التي ذكرتها في كتابي، ونحن نمضي اليوم في طريق أكثر رحابة وإشراقاً.

*تؤيدين نموذج المحاكم المحلية، ما هي طرق دعمك لها؟

أجد أن تلك المحاكمات والقضايا المرفوعة هي واجب أساسي على جميع دول العالم لفرض القانون الدولي. نحن جزء من الأسرة الدولية، وقد صادقنا على الالتزام بالتحقيق في الجرائم الدولية وبمقاضاة مرتكبيها، بموجب الانضمام إلى المعاهدات الدولية التي تحدد بوضوح شديد تلك الالتزامات. وهذا يتطلب منا إدراج تلك المحظورات في قوانين العقوبات لدينا، ثم نشر محقّقينا في حال توفّر أي دليل محتمل على انتهاك تلك المعاهدات.

لا يمكننا الاعتماد على المؤسسات الدولية للقيام بهذا العمل. حتى المحكمة الجنائية الدولية لا تستطيع أن تتبنّى سوى عدد قليل من قضايا أي دولة. وبالتالي، فإن أي مساءلة شاملة ستتطلب من المحاكم الوطنية أن تكون هي محركات العدالة، وهذا ما نراه الآن في الكثير من القضايا السورية.

* كيف تقيّمين قرار القضاء الفرنسي محاكمة 3 مسؤولين سوريين كبار، بمن فيهم المدير السابق للاستخبارات العامة السورية التابعة للنظام علي مملوك؟

أعتقد أنه مهم للغاية. حتى وإن كانت كل حالة فريدة وعرضية ولا تتناول سوى عدد قليل من الناجين والضحايا، إلا أن تأثيرها كبير جداً برأيي. أولاً، لأن ناجين آخرين سيرون العدالة تتحقق عبر تلك القضايا، حتى وإن لم تكن قضاياهم. ثانياً، لأن هذا الأمر يشكّل سابقة قانونية يمكن للمحاكم الأخرى الاعتماد عليها. ثالثاً، أعتقد أن قضية كهذه ستحفّز العدالة في مكان آخر، وستدفع المدّعين العامين في بلدان أخرى للقيام بالجهد ذاته.

*الصورة العامة قاتمة، نشهد حالياً “انتصار” النموذج الآخر. الصين تبني تحالفات جديدة بما يكرّس نموذجها، روسيا كذلك، والنظام السوري “انتصر” بشكل أو بآخر. ما تعليقك؟

أحد أسباب استضافتنا قمّة الديمقراطية الثانية هو محاولة إثبات الحالة التي تقدمها الديمقراطيات، وطرح الأسئلة حول الجدوى من السير في طريق الاستبداد والانحياز للأنظمة الاستبدادية. لكن ليس هناك شك في أن الصين تحاول عبر مبادرة الحزام والطريق جذب التحالفات إلى مدارها بشتى الطرق، بما فيها توزيع القطارات المجانية، إلا أن ذلك لا يعني أن الرخاء الاقتصادي الذي تعد به قد تحقق، فالقطارات تتعطّل بعد سنوات قليلة. وأعتقد أن بعض الدول التي جذبتها مبادرة الحزام والطريق تلك أدركت لاحقاً أنها كانت مخطئة. إنه تحدّ عالمي وعلينا أن نثبت أن الديمقراطية هي أفضل شكل من أشكال الحكومات التي قمنا بتطويرها.

*من موقعك كسفيرة للعدالة الجنائية، كيف تنظرين إلى التطبيع العربي مع بشار الأسد؟

سياسة الولايات المتحدة في عدم التشجيع على التطبيع واضحة. نريد أن نرى المساءلة والمحاسبة عن الانتهاكات التي أدرجت على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها الأسد ضد شعبه بمشاركة روسيا. كما أن التطبيع يجب ألا يكون هدية مجانية، بل فرصة لانتزاع بعض التنازلات الإنسانية وغيرها من نظام الأسد، كالإفراج عن المعتقلين والمغيّبين قسراً، والتواصل مع عائلات الضحايا والسماح بعودة اللاجئين وباستعادتهم ممتلكاتهم. هذا ما آمل أن تطلبه بعض دول المنطقة كبادرة حسن نية.

*لكن هل من خطوات ستتّخذها الإدارة الأميركية ضدّ الدول العربية المطبّعة؟

نراقب الوضع عن كثب ونشجع الدول على عدم التطبيع المجاني.

*ما الذي يميّز الصراع السوري عن غيره من الصراعات؟

كل الصراعات فظيعة، وعندما نتحدث إلى الناجين، وهذا ما أحاول فعله دائماً، نرى قصصهم متشابهة. كانت لديهم مسارات مختلفة في الحياة، منهم من كان يريد أن يصبح طبيباً، ومنهم من كان يحلم بالوقوع في الحب والزواج والإنجاب، إلا أن كل تلك المسارات تعطّلت بسبب الاستبداد أو العنف أو الصراع أو الجرائم ضد الإنسانية. إنها مأساة إنسانية، ولهذا الغرض وُجد القانون الدولي وحقوق الإنسان الدولية في محاولة لمنع ذلك.

وفي الحالة السورية، كان الأمر مفجعاً، وما رأيناه هو انتهاكات خطيرة لم تنج منها حتى المدن التاريخية التي تحولت إلى ركام، مثل حلب، التي أشعر بندم كبير لأنني لم أزرها من قبل. هذا عدا ملايين النازحين ممن يعيشون في ظروف غامضة للغاية. الاقتصاد يعيش أيضاً حالة من الفوضى، على عتبة الانهيار. لذا فهي مأساة إنسانية. كانت الفرصة ملائمة بداية “الربيع العربي” لكي يخوض بشار الأسد حواراً مع كافة الأطراف، إلا أنه سلك طريق الاستبداد مستخدماً العنف ضد المتظاهرين السلميين، بمن فيهم الأطفال. ولم ننس بعد قصة الطفل الصغير الذي جرى اختطافه وتسليمه إلى عائلته جثة مشوهة.

*من وجهة نظر العدالة، أو غياب العدالة في الحالة السورية، كيف سيؤثر ذلك على قدرة السوريين على التعايش مجدّداً في المستقبل؟

ما نراه وما نعرفه من خلال الأبحاث الأكاديمية هو أن المجتمعات التي لا تعالج هذه المظالم ستكون محكومة بعدم الاستقرار، وبالعودة مجدّداً إلى استخدام العنف، حتى لو بعد جيل، عبر الناجين من الأطفال، لأن مطلب العدالة والمحاسبة لا يختفي بمرور الوقت. لذا أعتقد أن الرغبة في إحلال السلام في بلد ما تنطلق من معالجة تاريخ العنف.

سيرة ذاتية:

بيث فان شاك محامية وباحثة أميركية مُتخصّصة في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان. عينت في 17 مارس/آذار 2022 في منصب السفيرة الأميركية للعدالة الجنائية العالمية. وتتمحور مهمتها في تقديم المشورة لوزارة الخارجية الأميركية بشأن القضايا المتعلقة بمنع الجرائم الفظيعة والرد عليها، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

وكانت فان شاك قد شغلت منصب نائب السفير الأميركي للعدالة الجنائية العالمية بين 2012 و2013. وقبل تسلمها منصبها الحالي، عملت فان شاك أستاذةً في حقوق الإنسان في كلية الحقوق بجامعة ستانفورد، حيث درّست القانون الجنائي الدولي، وحقوق الإنسان، والاتجار بالبشر، والأدوات القانونية والسياسية لمنع الفظائع. كما عملت في مكتب المدعي العام للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين لرواندا ويوغوسلافيا السابقة في لاهاي.

ونشرت فان شاك العديد من المقالات حول قضايا حقوق الإنسان والعدالة الدولية، بالإضافة إلى كتاب “تخيّل العدالة من أجل سورية” في العام 2020. وكانت قد شغلت، بين العامين 2014 و2022، منصب المحرر التنفيذي لـ”Just Security”، وهو منتدى عبر الإنترنت لتحليل الأمن القومي والسياسة الخارجية والحقوق.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى