نقد ومقالات

الناقد الأدبي واختبار الأصالة/ نادية هناوي

توصف الممارسة النقدية بأنها هضم فكري للنظريات والفرضيات والاتجاهات، ثم إعادة تمثيلها بكتابة (نقدية) في ظل توفر إمكانيات خاصة. وهذا ما أدركه الناقد العربي القديم حين شرع بتأليف كتب ذات نهج محدد، تبين عن توجهات مبتكرة في ممارسة النقد بوصفه إبداعا، وبهذا النهج لم يعتر النقد العربي على مدى العصور السحيقة التي مورس فيها، أي وهن أو ضحالة؛ بل ظل يتجدد باستمرار وقد نجح هنا وأخفق هناك، غير أنه بقي يجتذب المشتغلين فيه بهويات خاصة لا تعرف التسطيح، بل تناوئ المكوث عند ضفة بعينها من ضفاف الممارسة النقدية.

بيد أن ما تصطبغ به الممارسة النقدية في مرحلتنا الراهنة غير ذلك، فالناقد منعزل في برج عاجي، متمغنط بالرتابة، متحنط بالتنميط المنهجي، متقيد بالتحييد، متحجر عند مقولات لا يني يكررها الى درجة الابتذال، وقد يتقوقع عند أصنام نقدية يجلُّها ويكبر نفعيتها ويقدس منجزها، سائرا على ما سارت عليه، وهو يتوهم أنه هو السائر بها نحو ما يريده منها.

ويبقى إخلاص الناقد وعيا وطموحا لوظيفته هو الذي يجعل ممارسته النقدية متميزة وممتعة، لتكون إضافة نوعية للمشهد النقدي، موصوفة بأنها تنويعية تحرك المشهد الأدبي وتديم فاعليته، بعيدا عن النظر الصحافي والإعلامي وأبواقه الرهيبة، التي بإمكانها أن تنقل ممارس النقد من الثرى إلى الثريا فتجعل ممارسته النقدية السطحية نوعية، ولكن ذلك لن ينفع على المدى البعيد، كونه لن يغير الضحالة إلى عمق مهما كان منصب صاحب الممارسة عاليا وموقعه الوظيفي فعّالا، إذ أن الذبول والهرم سيظلان يهددانه، ما دام الفعل النقدي ليس أصيلا، وما دامت النية النقدية غير بريئة ولا سليمة.

وما كان لنقادنا الكبار أن يضمنوا لأنفسهم مكانة نقدية لا يختلف عليها اثنان؛ إلا بسبب إخلاصهم الحقيقي وطموحاتهم الفذة، فعلا شأن أعمالهم بلا افتعال إعلامي ولا فذلكات. وظلوا طليعيين في ممارساتهم النقدية الأصيلة واقفين على قمم النجاح لا مشارفها، وكذلك سيبقون مهما مرّ الزمان وتبدلت الأحوال.

وما يحتاجه ناقدنا العربي الراهن هو المزيد من التثبت الذي به يستوي ميزان نقده ويقوى وعيه وتتوكد معايير نظره، مؤهلا ممارساته النقدية لأن تكون إضافة نوعية للمشهد النقدي، لا مجرد فائض كتابي أغنته الترجمات ووسعته الاستجماعات من هنا وهناك. فالممارسة النقدية عمل جذري وأصالة بنائية مفعمة بالتجديد والامتثال، تقبض على المتضادات بتوازن وتتمثل المعطيات بضمير ثاقب، لا يقبل المهادنة أو المواربة، أو الانعزال.

وعند ذاك لن يكون الناقد سلطانا يغتر بصولجانه وطاووسا يعجب بغروره يريد لممارسته النقدية أن تكون فريدة وحيدة لا مثيل لها، لأن معيار النقدنة يتحدد في ما تضيفه الممارسة النقدية لما سبقها من جديد، فتكون كمثل سنديان يعمر وهو محتفظ بجماله رونقا وإشراقا وتألقا يعطي لناظره البهاء الذي فيه للمحتسب اعتبار وللمتأمل مثال. وبهذا الوصف يكون الناقد الحق حيا متبرعما دوما متساميا بوعي شمولي، فيغدو هو الفيلسوف والأديب والمحلل والمؤرخ والكاتب والقارئ والهاوي المجرب والمحترف المتدبر، المفعم بالتعدد والمفكر المتمثل للتناقض والانسجام، والطامح للتجديد الذي يرنو للموروث، والمتملص من المعايير والمستجيب للتقانات والمتعدد في المنظورات، فالممارسة النقدية معقدة ومتشابكة وغير نهائية، وهي تاريخ من الاختلافات وأنظمة من الصراعات وشهادات من الوقائع وصلات من القيم والموضوعات واندماجات من الاتجاهات والهويات والأطروحات والمرتكزات.

ولا يعني هذا الوصف عسر الممارسة النقدية؛ بل هو تطمين للقارئ بأن النقد ليس فعلا عابرا، وبأن من الحق الثقة بمن هو ناقد، استيعابا لمعنى مفردة (النقد) وفحوى عمل (الناقد) كاستراتيجيات وتمثلات تعكس علمه ونهجه وثقافته وضميره. فيجد القارئ في النقد أرضا معطاء وليس يبابا، كمظهر لإنتاج فكري يستحق القراءة والصبر عليها، يستحضر طفولة الإنسانية جنبا إلى جنب الحضارة المدنية، مرتقيا بالفكر من التبسيط إلى التعقيد، ومن التشتت إلى التركيز، ومن المعاداة إلى التسامي ومن الركود إلى التحريك ومن التلقائية إلى القصدية.

وهذه الأخيرة هي التي نشدد عليها؛ فلولاها ما كان لنا أن ندرك حجم الممارسة النقدية وجسامة فعلها، وهول عملها وشجاعة المتحلي بها. وكيف أنها نفسها تزدري كل من يتطفل عليها طارئا ويحسب عليها عارضا، ساخرة منه ونافرة عنه حتى لا تنفعه معها هيبته الوجاهية، أو مكانته الاجتماعية، أو حظوظه القدرية. فالمحك هو قصدية الممارسة وجديتها بمعزل عن مسميات صاحبها الجذابة ورغباته المعلنة، أيا كانت أغلفة كتبه براقة وتنطعاته لماعة ومساعيه مموهة وفذلكاته غلابة. وما ندين به لنقادنا الأُصلاء هو قصديتهم التي ضمنت لهم الأصالة والأمانة والنقاء، فكانوا مثالا وسيظلون كذلك، مدللين بشكل غير مباشر على ما يضادهم من النقاد الخلطاء، الذين وإن صعب الإمساك بهم، لكنهم مشخّصون بفضل ما يمدنا به أولئك الأصلاء الذين يحضرون في وعينا من أمثلة نقدية، هي نماذج تيسّر علينا مهمة رصد الخلطاء والتدليل عليهم فعلا وقولا.

إذن الفيصل في تسمية أحدهم ناقدا أصيلا هو في نوعية الممارسة التي تمهد لها مقدمات منطقية وبمداخل جادة وابتداءات مرصودة، تُساق بصورة طبيعية فتغدو بمرور الزمن مستفيضة في محصلاتها، تحصي المسببات وتؤشر إلى المؤثرات، وتجترح الآليات فلا تهرم بمجرد انتهاء موسمها، لأنها ليست مستجلبة من أروقة جامعات عتيدة حسب، بل هي أيضا مؤسسة على مخزون ثقافي ومرجعيات تراكمية ودقة علمية، تجعل صاحبها حاضرا في حيثيات عمله النقدي.

وهنا تتبادر إلى الذهن عشرات الاسماء النقدية التي طواها النسيان لمجرد انتهاء فاعلية أصحابها الإعلامية والتقليعية، فبدا ما كنا نعتقده نوعيا وأصيلا في ممارساتهم مجرد كم بارد شأنه شأن أسماء كثيرة مثلهم. وهذا أمر طبيعي لأن المعيار الزماني خير مختبر به تتأكد حقيقة ما في نقدنا العربي من أصالة، وما أنجزه خلال حقبة ما من تميز أو لا تميز. ومن هنا يكون ممكنا أيضا لممارسات أصيلة كان قد طواها تيار الممارسات غير الأصيلة أن تبزغ مجددا، لتؤكد ما تركه أصحابها من نوعية غيرت مجرى العملية النقدية. وكثيرة هي الممارسات الراهنة التي تبهر القراء بصيتها الذي طبق الآفاق ولمعان أسماء أصحابها، ومن ثم لا يكون أمام القراء سوى احترامها غاية الاحترام، لا لشيء سوى أنهم سمعوا عنها آيات التحميد، وقرأوا كثيرا من التبجيل والتهليل لها، وهم في هذا غير ملومين طبعا لأنهم لم يجدوا ناقدا يحترم وظيفته النقدية، فيضع أمامهم حقيقة ما لتلك الأسماء من قيمة أو إضافة أو لا.

وما من غرابة في أن تنطلي إعلامية الممارسات غير الأصيلة لا على القراء بمستوياتهم المعهودة حسب، بل تنطلي أحيانا على القراء الكبار ممن هم أدباء لهم وزنهم الإبداعي وذوقهم الأصيل ووعيهم الثاقب، فنجدهم يصفون فلانا الفلاني بأنه ذو إسهام نقدي، به سد النقص في مجال نقد الشعر أو نقد السرد مع أن عشرات النقاد هم في مثل مستوى هذا الفلاني وبموازاته في اعتيادية الممارسة النقدية، ولكن لا يقال عنهم إنهم أسهموا وسدوا نقصا لسبب مهم هو أنهم ليسوا محظوظين مثل (هذا الفلاني) إذ لم تتوفر لهم مكائن إعلامية ترفع أسماءهم؛ إما بالجوائز أو بالمناصب أو بالإمكانيات، ولا وجدوا من يكترث بأعمالهم فيمنحهم مزيدا من اللمعان، وأغلب هؤلاء هم من المتعطشين لاجترار ما هو جديد ولا فرق عندهم إن كان الجديد مغشوش الموسوعية، أو كان مفتعلا كنقد أدبي ثقافي. أقول إن مهمة الناقد ليست إعلامية بالترويج والتطبيل سائرا وراء السائرين، يمارس النقد كموضات وتقليعات، بل هو قارئ صاحب أدوات، مُختبَر في ممارسته إياها ومؤتمن في مقاصده النقدية التي يبتغي تحقيقها. وهذا لوحده هو ما يضمن له الأصالة والنجاح، فيبقى اسمه حاضرا على مرّ الأيام.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى