نصوص

رسالة طويلة إلى ريلكه/ كريستيان بوبان

ترجمة وتقديم: إسكندر حبش

—————————

قصة لا يريدها أحد

بَهتَ المخطوط. ثمة تاريخ على الصفحة الأخيرة. خمس سنوات. لقد كُتِب قبل خمس سنوات. وصلك عبر البريد. تتركه على زاوية من الطاولة، وتنسى أمره. حلّ يوم السبت. السبت هو يوم تكون فيه مشغولًا للغاية: أنت السائق المعلّم من أجل حفنة من الأطفال. نريد أن نذهب إلى هنا، نريدك أن تأخذنا إلى الحفل، نريد هذا، نريد ذاك، نريد كلّ شيء. أنت تطيع بنشوة، ما يجعل يأس الوالدين اللذين يستغرقان ساعات كي يتناقضا مع هذا الجو من الإهمال الذي تجلبه معك. تمضي الحياة بسرعة، تنطفئ الأيام باكرا. لِمَ تقلق بشأن الغد، سوف يجيب اليوم على كلّ شيء بشكل جيد.

الإهمال داخلك لا يقهر، مثل شكل مبتسم من الإيمان بالله. أنت لا تعلّم الأطفال أي شيء. أنت بالأحرى في مدرستهم. يُقال لك أحيانًا إنك تبالغ، عليك ألا تدع كلّ شيء يحدث، يجب أن تكون بالغًا أكثر. أنت تستمع إلى الدرس في صمت، ثم تنظر حولك، مطولا: ما من أثر لشخص بالغ واحد. أطفال مكتئبون، نعم، كثيرا. أطفال حزانى يعملون، يكسبون مالا، ينفقون وقتهم وقوتهم. لكنهم راشدون، لا شيء، لا أثر. في هذا السبت، يستغني الأطفال عنك، لا يتصلون.

تبقى في منزلك، خاملًا، هادئًا. صحبة العزلة. هي أيضًا عذبة بالنسبة إليك مثل صداقة الأطفال. اقرأ، نَم، امشِ، لا تفكر في أيّ شيء، اترك أنوار السماء تخفت على ورق الجدران. وافتح المخطوط، لترفّه عن نفسك، على الصفحة الأولى، ابدأ في القراءة. عندما ترفع رأسك، تكون فترة ما بعد الظهيرة قد انقضت، لم يعد هناك نهار ولم يحن الليل بعد، فليس هناك سوى امتداد سَكينة طويل، مثل ارتفاع مياه بطيء من الهدوء، فيضان متواصل ومضيء. تفكيرك في هذا الهدوء وكأنه في أوجه، ذروة نضارة وخفة: لم يعد صبورًا. لم يعد مضطربا. إنه يستريح ببساطة ويمتزج مع ما هو موجود، من دون أي مزيد من البحث. كيف تسمّي هذه الخفة. لا تناسبها كلمة السعادة، ولا يمكن لأي كلمة أن تؤدي إلى نقيضها. السعادة تتناسب مع التعاسة والفرح يتناسب مع الألم. ما يحدث لك لا يتناسب مع أي شيء أو بالأحرى مع كلّ شيء. عليك أن تقول الحقيقة، سيكون من الضروري نسخ المخطوط بأكمله، كلمة بكلمة. الكاتبة امرأة من أصل أجنبي. ليست هي التي أرسلت لك هذا النص بل صديقها، صديقها الحالي. لا يطلب منك أي شيء، رأيك فيه فقط.

المخطوط مثل وجه، تكفي دقيقة واحدة لرؤيته، صفحتان، ثلاث صفحات وتعرف. تبدأ القصة بالتخلي، كما في القصص الخيالية: من تحبه هذه المرأة، الأمير الذي اختاره دمها، ملك الفؤاد، يهجرها. يقودها إلى أحلك غابات الهجر، ثم يغادر. بقيت هناك جالسة عند سفح شجرة. تنتظر. تنتظر. تنتظر. تنهض ذات صباح، تخرج من الغابة، تدخل إلى مطبخها، تقفل النافذة، تفتح الغاز. امرأة شابة تسقط فوق البلاط وتسقط روحها إلى جانبها، روحها الثقيلة، الثقل من عصفور نافق، اليمامة البيضاء التي تنشقت الغاز، اختنقت تحت ثقل دمها. تستيقظ المرأة الشابة في المستشفى. تستند على وسائدها، تنظر حولها، تنظر في داخلها: ما من روح. الجسد موجود هنا فعلا، يعمل. يمكن لليدين أن تمسكا، للشفتين أن تقولا، للعينين أن تبكيا. كل شيء في مكانه، ما عدا الروح. كان على صديقها أن يحملها في حقائبه من دون أن تنتبه. كيف يمكن أن نكون مشتتي الانتباه إلى هذه الدرجة. تغادر المستشفى، تعود إلى الحياة اليومية. ودائمًا، ما من روح. لا يمكن رؤية ذلك، لا يمكن سماع ذلك، لكن ذلك لا يمنع أي شيء. يمكننا أن نعيش بشكل جيد بدون روح، فما من شيء لنصنع منه قصة، غالبًا ما يحدث ذلك. المشكلة الوحيدة هي أن الأشياء لم تعد تأتي إليك عندما تناديها بالاسم. يمكنك أن تتغيب عن حياتك وتخدع الجميع بهذا الغياب، الجميع ما عدا الحيوانات، ماعدا الأشجار. الجميع ما عدا نور الخريف الأشقر، هذا النور الذي يثقل بكل نعومته على لِحاء البتولا وجلد شجيرات الورد. كيف ستنضم إلى ما ينزلق بعيدًا. كيف تلمس الحياة الآنية، وكيف تعود إلى الحياة البسيطة. نعم كيف. لقد مرّ الحب عليك مثل النيران الحمراء فوق غابات بروفانس. سوف تمرّ سنوات قبل أن ينمو العشب مرة أخرى، قبل أن يعود حب جديد لتأهيل مواقع الكوارث، ومواقع الكوارث أنت كلّك، من الثوب القطني إلى الأفكار المحرمة، من مذاقك للشاي إلى كآبة الربيع. أنت بأكملك. ماذا أفعل. بداية ابدأ بالمُلّح أكثر: لا يمكنك الاستمرار بالخروج بهذه الطريقة، من دون أن ترتدي أي روح، من دون أي ضحكة في قعر العينين. عيناك بالضبط. لنتحدث عنهما. لا تصلحان إلا للبكاء، وحين لا تبكيان، تقرآن، وذات يوم قرأتا صفحة من ريلكه، ومن ثم صفحة أخرى، وصفحة بعد أيضا، وها هي عصافير الروح بأسرها تعود باتجاهك حين تفتح قفص الحبر. انتحارك كان ناجحًا، مثل كلّ الانتحارات الفاشلة. لقد خسرت ما هو أكثر من الحياة: الكلمة، طعم الكلمة الواضحة، حبّ الكلمة الحقيقة. أنت أمام الكلمة مثل طفل مريض أمام الطعام. لقد قدم لك ريلكه الطعام مجددا، قصيدة بعد أخرى، صورة بعد أخرى. مع الكلمة العارية تعود الحقيقة بأسرها. مع الحقيقة تعود الروح بأسرها. المرأة التي حدثت لها هذه القصة ترغب في أن تعود لترويها، لتتشكر. لذا كتبت رسالة طويلة إلى ريلكه، رسالة تبدأ في المطبخ المظلم الصغير وتنتهي في نهاية الحديقة تحت ضوء أشجار الليمون. قصة إعادة تأهيل بطيئة، قصة هجرة طويلة للطيور النافقة. هي معتادة على الكتابة. قبل ذلك بسنوات قليلة، كتبت كتبًا كانت رائجة لدى الناشرين والقراء. كانت تختبئ وراء هذه الكتب، لكن القصة كانت هي نفسها، قصة القيامة. قصة موت ومن ثم قصة قيامة. تكتب كما يجب على المرء أن يكتب: من دون قلق بشأن الكتابة ولكن مع إيلاء أكبر قدر من الاهتمام لما لن يظهر أبدًا على الصفحة الفارغة، وما قد تخيفه أدنى كلمة، والحياة، والحياة المجردة، والحياة بدون كلمات، والحياة مثل طفلين صغيرين، الفرح والألم، يضمان بعضهما البعض في السرير عينه. تقول المعاجم إن ريلكه هو واحد من أعظم شعراء اللغة الألمانية. إنها لا تكتب وفق المعاجم. لا توجه الكلام إلى الموتى بل إلى الأحياء، إلى ذاك الذي يسير بتردّد في شوارع المدن الكبرى. لم يرد اسمه بعد في القواميس. لم يتجمد قلبه بعد بسبب المجد. إنه مجرد عابر سبيل مثل الآخرين، في لا يقين حياته وارتجافتها. ينام في النهار، ذلك النوم الشائع من جراء الأعمال الإلزامية. يسهر في الليل، هذه السهرة الاحتجاجية الفريدة مع الملائكة. يكتب، فهو لا يسعى إلى التعزية بل إلى الحقيقة، التي هي نقيض العزاء. هذا هو الشخص الذي تتحدث إليه.

ما معنى شاعر عظيم؟ لا يعني شيئًا، لا شيء على الاطلاق. إن العظمة الفريدة لمن يختفي من أجل الكتابة، تأتي من خضوعه الكامل للحياة الخام. من يقضي ليالي كاملة في البحث عن الكلمة الصحيحة يُنمّي في نفسه هذا الاهتمام الذي يستخدمه العشاق مع بعضهم البعض، الأمهات مع أطفالهن. الفن، عبقرية الفن، ما هو إلا بقايا من حياة الحب التي هي الحياة الوحيدة. عظيم، شاعر، أدب، كل ذلك لا يعني شيئًا، فكتبت إلى ريلكه مثلما يمكن للمرء أن ينقل أخباره إلى صديق الطفولة الذي بقي في الوطن، عاشق كلّ الأرواح، أحمق جميع القرى. كلمته عن الغاز في المطبخ الصغير، وعن ضوء الفصول، وعن لطف الأشجار الكبيرة وعمّا تعتقد أنه الحب، وعمّا تخترع في داخله من خلال تصديقه.

اكتمل مخطوطها، ترسله إلى الناشرين فيخبرها الناشرون: لا نريد قصتك، لا نعرف كيف نحددّها، وأين نضعها. زيادة على ذلك، عمّن تتحدثين فيها، بالضبط، عن ريلكه أم عنكِ أنت. عليكِ أن تختاري، من المزعج رؤيتك تنتقلين من ساق إلى أخرى، ومن كلمة إلى أخرى. حاولت مرة أخرى. مرتين، ثلاث مرات، الإجابة نفسها. تخلّت عن الأمر، شُفيت تقريبا. تقريبا: في ألمها وجدت النشيد. مرّت المعاناة في جعل الكتاب قربانا، لكن أحدا لا يريد هذا القربان. تمرّ السنوات، خمس. لم تعد تفكر في الأمر، ما زالت تفكر فيه. عبر طرق غريبة، بيدين أخريين غير يديها، يصل هذا النص إليكَ، يوم سبت صافٍ من الخريف. تُخضبُ قراءة يوم السبت الأيام التالية. تكتب إلى المؤلفة التي تجيب. تعاني الرسائل من نفس مصير المخطوط: قراءة واحدة تكفي لجعلها لا تُنسى. لا يزال نفس الصوت الهادئ. دائما هذا الغياب من الأكاذيب. لم يستعر مرة واحدة كلاما عامًا، أي جسد، أي أرض، الكلام الذي يصلح للأفكار، الذي يصلح للأكاذيب. لم تتحدث سوى عن نفسها، في تفاصيل ساعاتها تتيح لك رؤية العالم بشكل أكثر وضوحًا ممّا يقوله الصحافيون بأصواتهم الفاقدة للصبر، بمرض ذكائهم. ما يمسك في هذه الكتابة هو الذي يُمسك وأنت بصحبة الأطفال: حضور حقيقي لكلّ شيء، طريقة تواجد في العالم، تجعل العالم خفيفا. كتبتْ لكَ ذات يوم أن كتابها قد تمّ قبوله أخيرًا: سيُنشر في مكان بعيد جدا عنها، في ألمانيا، بلغة لطالما كانت تخشاها، في أرض ليست أرض طفولتها. في يوم آخر، تُمرّر يدك على مفرش طاولة قطني لتمسيده، تأتيك صورة منها مضيئة، واضحة. كما لو أنها كانت حاضرة برمتها في هذه الإيماءة الأولية: منكشفة. امسح كل الطيّات وعد إلى الفضفاض، إلى المستمر، إلى حلاوة الحياة الفضفاضة والمستمرة. ستبقى هكذا لفترة طويلة، بلا حراك، صامتا، يدك مسطحة على مفرش المائدة، ممسكًا ما بين أصابعك والقطن هذا الرصيد الأثمن: روح محترقة لدرجة الشفافية، قصة لا يريدها أحد.

قد يبدو من الصعب فعلًا، تحديد نصوص الكاتب الفرنسي كريستيان بوبان، إذ إنها تقف على مفترق اتجاهات عديدة

—————————-

حياة تحت الأرض

تكتب. دفاتر ملاحظات بجميع الألوان. أحبار كلّ الدماء. تكتب في المساء، لن يكون من الممكن خلاف ذلك. بعد التسوق، حمّام الطفل، الدروس التي يجب تسميعها. تكتب على الطاولة التي تمّ تنظيفها. بعيدًا في المساء. متأخرا في اللغة. عندما يتخلّى عنها الطفل من أجل تغيير بسيط في النوم، أو اللعب. عندما لا يعرف الذين تطعمهم أي شيء عنها. عندما تكون لذاتها، بعيدة عن متناولها: وحدها أمام الصفحة. بائسة أمام الأبدية. عديدات هنّ النساء اللاتي يكتبن هكذا، في بيوتهن المتجمدة. في حيواتهن تحت الأرض. كثيرات لا ينشرن. تجعلني حياتي أعاني. حياتي تقتلني في أثناء النهار، وفي الليل أقتل حياتي. كنت أنتظر أن أكون ملكة. أنا فقط أعرف كيف أتوسل. كنت أرغب في عيش حبّ مدهش. أنا أموت من جرح قذر. ومع ذلك أنا هنا: سالمة. أعاني من حياتي السليمة داخل حياتي المدمرة. أموت من كثرة الغناء في القليل من أوراق الشجر. إنها تعيش حياتها مثل عمياء. تذهب إلى الكتابة مثل ربيع. من وقت لآخر تعرض لك دفترا. تلمسك كلّ جملة من جملها، مثل سيف المبارزة: رأسه الحاد يخترق عينيك بشكل رائع. ما يمسك هو لغز. إنه موجود هناك وفي مكان آخر. ذات يوم كتبت. في يوم آخر لم تعد تكتب. استمر هذا اليوم الثاني لسنوات. هذه المرة استغرقها آخر مولود. تدلق الحليب من المحابر. تغمر الطفل في الصفحات البيضاء. تتخلى له عن كل جُملها. يحولها إلى خيال ظلّ، صرخات، ضحكات. يفعل أي شيء بها. إنها تمنحه أغلى ما تملكه، صوتها. يجعل منه لعبة سهلة الانقياد ومرنة بشكل رائع. تتعلق بالطفل عبر كل ما تقدمه له: الدفاتر، العزلة، الصمت. كل شيء. تتأمل في مدى التعب اليومي المتزايد. تبتسم. يمكننا حتى التحدث عن السعادة. نوع فريد من السعادة. طريقة للشعور بالسعادة لا تمنع المعاناة ولا تعرقل اليأس المستمر. قصبة على حافة المياه السوداء. إنها قلقة باستمرار على الطفل، في وقفة الأرق الاحتجاجية. إنها في هذا الاهتمام لكلّ من يقترب منها. إنها طريقة تعلمتها في الطفولة. إنها طبيعة ثانية، أقوى من طبيعتها. إنها طريقتها في الحب، فهي لا تعرف أي شيء آخر: حب الخسارة المطلقة. حبّ نجا من جميع النهايات. حبّ نجا من الحب. يكبر الطفل، تحصن منها. الخطوات الأولى، الكلمات الأولى. ساعات المدرسة. لذا عادت إلى دفاتر الملاحظات. ببطء أولا. كأنها تختلس. خاطئة، متخفية. على الصفحات الأولى تلصق صورًا للطفل. ثم، في مكان أبعد قليلا، شظايا من طلاء. وأحيانًا مع عبارة من كتاب أحبتّه. حصاة في مياء القراءات الحيّة. تزداد الصور ندرة. تكبر الجُمل. دائمًا اقتباسات، تُصحّحها في بعض الأحيان. تقول: مصححة. هذا، هو بول إيلوار مصحح. وهذا، أبولينير، مصحح أيضا. تبدّل كلمة، تنفي فاصلة كي تصل إلى نداوة أكبر. يستمر الانتعاش. الزرع يأخذ شكلا جيدًا. تستعيد التواصل شيئًا فشيئًا مع صوتها، الملفوف بداية بأصوات الآخرين. في النهاية، لا تكتب سوى نفسها. وحدها وتغني. يائسة وتضحك. ينام الطفل في الغرفة المجاورة. الطفل الذي سوف يغادرها قريبًا. الحبّ الذي سيقتلها بالضرورة. كما يحلم المرء، تكتب. كما يحلم المرء بحياة أكثر حقيقية من فقدانها، يكون كل شيء أكثر وضوحًا من احتراقها. لا يدخلها الطفل في هذه الحياة ولا الزوج ولا حتى الذات. إنها حياة لا نملكها، ومع ذلك فهي الحياة الوحيدة. تكتب للحصول عليها. تكتب من أجل القوت اليومي، الذي لا يُعطى أبدًا. خبز الصمت، فتات النور. حبر القمح. نقع في حبّ أسلوبها كما يمكننا أن نقع في حبّها. انه الشيء نفسه. النهر نفسه تحت الملاءة البيضاء، تحت الثوب الأحمر. إنه أمام اللغة كما لو أنها أمام مرآة الأساطير. في طفولتها كانت تحدق في السماء، في بركة ماء. يعلق قلبها بأبسط الأضواء. هذا ما وجدته في الكتابة. هذا ما وجدته في القراءة. تقرأ كثيرًا، روايات. الكتب مثل مياه النافورة. تقرّب وجهها منها كي تشعر بالانتعاش. لا فرق أبدا بين القراءة والكتابة. من تقرأ هي مؤلفة ما تقرأ. أحيانًا يكون الكاتب متفاوتًا، تشعر بالملل من قراءتها مثلما ينام المرء نومًا شاقًا ومرهقًا. كم هي حكيمة، كيف أن والديها وضعا فيها طاعة الحكمة هذه، كذبة الواجب هذه، تذهب إلى نهاية الكتاب، لم تعد تعرف كيف تتخلى عن كتاب سيء أكثر من زوج سيء. من المؤسف أنها بقيت، تذهب إلى الصفحة الأخيرة، حتى نهاية الأزمان. غالبًا ما يتفاجأ الزوج: رواية أخرى. لا تجيب. في أي حال، لتذهب وتجب على هذا السؤال: لماذا تقرأ الروايات، لماذا هذا الهوس عند المرأة الطيبة، هذا الوقت الضائع في القراءة. من يسمع الجواب الحقيقي: أقرأ لإفساح المجال للألم. أقرأ لأرى، لأرى جيدًا، أفضل ممّا في الحياة، ألم الحياة المتلألئ. لا أقرأ لأكون متعزية، لأنني لا أعزّي. لا أقرأ لأفهم، لأنه لا يوجد شيء لأفهمه. أقرأ لأرى الحياة التي تعاني في حياتي، فقط لأرى. نعم، اذهب وأجب على ذلك. يكمن الألم في حياة النساء مثل القطة التي تنزلق بين أرجلهن عندما يقمن بكيّ الغسيل، وإعادة ترتيب الأَسرّة، وفتح النوافذ، وتقشير تفاحة. قطة تأخذ قلوبهن أحيانًا، وترسلها كي تتدحرج عدة أمتار، وتأخذها بمخالبها، وتلعب معها مثل فأر يحتضر. هذه القطة في حياة النساء حتى عندما يتركهن في سلام. إنهن يعرفن أنها هناك، في الزاوية. لا ينسين ذلك أبدًا. حتى في الفرح يسمعنها تتنفس، كما يرى المرء أغنية نبع تحت كلّ ضوضاء الغابة. الرجال لا يسمحون للمعاناة أن تسكن في داخلهم. ما إن يشعروا ذلك حتى يطردونها بعنف، بغضب، بأعمالهم. بينما النساء، تستقبلها مثل قطة جائعة، تحتاج إلى تدميرها، من أجل العودة إلى الحياة. لا يتحركن. يسمحن بحدوث ذلك، ولكي يشغلن هذا الوقت الميت من المعاناة، يقمن بفتح كتاب، رواية، ورواية أخرى. ما يجدنه فيها، يشبه ما يجدنه كل يوم من أيامهن: الأمل والخراب، القلق والنعمة، جرح الحياة الأبدي، قطة بائسة، مطاردة في كل مكان، يُعطف عليها هناك، نائمة على الصفحة، جوانب هزيلة، أمير أسود مع الألم. عندما لا تكتب في دفاتر الملاحظات، وعندما لا تقرأ في المرايا، فإنها تنظر إلى الرجال الذين يقتربون منها. تتصرف معهم بطريقتين: حارة وباردة. تغوي من دون أن تعرف إغراءها، تغوي بسبب هذا الجهل. كأنها سئمت من إرضائها، سئمت منك ومن نفسها ومن كل شيء: حاضرة، غائبة. إنها في الظل، عائدة إلى الطفولة. في العشرين من عمرها كان لديها شعر أسود طويل. نهر على الأكتاف. درع النعومة. ربما هذا ما تبحث عنه في أجهزة الدفاتر الخاملة: الوجه القديم، الصورة المفتوحة. مشط من الكلمات على الحبر الأسود. ربما يكون ذلك، أو أي شيء آخر. وحتى لا شيء. ثمة حاجة إلى القليل جدا للكتابة. هناك حاجة فقط لحياة فقيرة، فقيرة جدًا لدرجة أن لا أحد يريدها، وتلجأ إلى الله، أو إلى الأشياء. وفرة من لا شيء. حياة مختلفة عن تلك التي فُقِدَت في ضوضائها، المليئة بالضوضاء والأبواب. يكتب المرء بشكل سيء مع مثل هذه الحيوات. لا جدوى منها. لا يمكننا أن نرى جيدًا إلا في حالة الغياب. لا يسعنا إلا أن نقول في حالة النقص. لا يمكننا كي نرى وجه المتسول النقي، إلا أن نقلب صفحات دفتر الملاحظات، أن ننظر إلى هذه الكتابات التي تتراكم في المساء: الميراث الرائع الذي ينمو في نوم الطفل.

———————-

الكاتب

وصل بالقطار. حمل معه بعض النصوص، في حقيبة مدرسية. كانت قراءته مقررة في مسرح صغير. لا يصعد على خشبة المسرح. يبقى واقفا، عند الصف الأول من الكراسي. أنت جالس إلى جانبه. تنظر إلى الجسد اللامبالي، الوجه الخشن، الذي تلطفه الكلمات. في لحظات معينة من القراءة لا تعد تراه. لا ترى سوى عبارة مضيئة. في أحيان أخرى يكون عكس ذلك. الحضور الصامت يغطي الكلمات بأسرها. الحضور المباشر للجسد والنفس والتعب. وزن الظل. يرتدي ملابس بسيطة كتلك التي يضعها حين يبقى في منزله، كما عندما لا يكون هناك أحد ليخبر الطفل أن يعتني بصورته، ليُلمّع اسمه. لكن حسنا لن تخرج بهذه الطريقة. لذلك جاء هكذا من طفولته إلى مساء اليوم. مهمل في لباسه، دقيق في نظرته. الأشياء التي يكتبها هشة. يحملها بنعومة في صفاء صوته. من وقت لآخر يتوقف. ينظر حوله. هناك أقل من عشرين شخصًا. إنه قريب جدًا من السخرية، من فكرة التعب، من فكرة متعبة. إنه قريب جدًا من الأساسي، من هذا الشيء الواضح الذي لم يقله أبدًا عن نفسه: عزلة كل عبارة، فناء كل جمال. أحيانًا يضيء الجمال صوتًا. الجمال البسيط لكل يوم في الحياة. يضيء الدم. ينفجر من الكلمات ثم يصطدم بالعالم على الفور – مثل نيزك على أراض باردة، غير مأهولة. يجب أن يستأنف كلّ شيء. وكل شيء يجب أن يُعاد. يتكلم بهدوء. لديه مجاملة المتأملين، ذلك اللطف الشديد لأولئك الذين لم يفعلوا أي شيء إلا كما يحلو لهم، إلا أن يتبعوا فكرة خاصة بهم عبر أيامهم، فكرة غير مكتسبة، منعزلة. عنفه نائم في صوته. تحرك قليلا تحت الكلمات. عنفه إلى جانبه، مثل طفل يُجبر على الانتظار بالقرب من نفسه. هو في الخمسين من عمره. هو العمر الذي يقوم فيه الرجل بجرد ممتلكاته. ما معنى أن تنجح في حياتك؟ ما نكسبه في العالم نخسره في حياتنا. هو، لا شيء لديه. يقامر منذ الطفولة، بدون مكاسب أو خسائر. يربي مكعبات الصمت على الصفحة. يبني قلاعًا من الضوء، ويتأمل سحالي الحبر الأزرق. ما معنى، أن تنجح في حياتك، إن لم يكن هذا، هذا العناد في الطفولة، هذا الإخلاص البسيط: أن لا تذهب أبدًا إلى أبعد مما يسحرك في هذا اليوم، في هذه الساعة. خذ هذا المسار الذي لا نتبعه إلا كي نتوه فيه. ما من تعلّم في الحياة. ما من تعلم في الحياة أكثر من تجربة الموت. الانفصال عن النفس هو أقصر طريق للذهاب إلى أنفسنا. القطيعة مع جميع من في الحياة والعمر. في المدرسة نتعلم الجلوس على مقعد. هذا أو ذاك. نتعلم أن نطيع بقية حياتنا المرتبة التي وصلنا إليها، المكان الذي خصص لنا من الطفولة. الكاتب هو الذي لا يربح أي مكان – ولا حتى الأخير. من يقف هكذا، يقف في صف من الكراسي الفارغة. لتسمية النار بصوت جليدي. عندما ينتهي، عندما قرأ مرة في الصحراء، وابتسم في الفراغ، تتركه بلا كلمة. تحمل معك بضع كلمات لتقولها له، لا تجدها. ما مَسَّكَ في ذلك المساء لا يزال بعيد المنال لفترة طويلة. بالبحث عنه، تجعل من المستحيل العثور عليه. أنت بحاجة إلى نسيان كي تصل إليه. تحتاج الليل لرؤيته. لم تكتشف حقيقة ذلك المساء إلا بعد عدة أشهر. حقيقة الكلام مثل حقيقة الصمت. الحقيقة أمامك، في قبو دار لرعاية المسنين. الطابق العلوي للمطابخ. الأنابيب تخترق السقف. يوم رمادي يدخل عبر نافذة صغيرة. الحقيقة على حاملات تابوت لا يزال مفتوحا. للحقيقة وجه شخص ميت. وجه مقلوب من الداخل إلى الخارج مثل القفاز. وجه بغير داخل أو خارج. الميت مثل لا أحد. الميت مثل أي شخص آخر. كل شيء يسير نحو هذا الوجه، كما نحو الكمال. الخوف والانتظار والغضب والأمل في الحب والمخاوف المالية، كل شيء يسير نحو هذا الوجه كما نحو كلمة أخيرة. الرجل الميت صامت ليقول كل شيء دفعة واحدة. يتكلم الميت بالحق حين لا يقول أكثر، وإذا ألقي عليه الكثير من الصمت، فلكي لا يسمع شيئا. أنت ترى. فكرت في هذه الجملة التي قرأها الكاتب في ذلك المساء: في عمري، أدفع مقابل كل كلمة. لا يوجد فرق كبير بين الاحتضار والكتابة. هناك فرق بسيط لدرجة أنك لا تجد أيًا منهما للحظة. الكاتب هو حالة الشخص غير المتمايزة، عري روح اللامبالاة. الروح بمثابة نظرة. الروح بمثابة غياب. من يكتب يذهب أبعد من نفسه. يتقدم في الثلج. يتكلم بكلمات الذئب. يذهب نحو الكلمة الضعيفة. يتجه نحو الكلام العاري، مقلوبًا من الداخل إلى الخارج مثل القفاز. ينير من خلال التحدث عن غيابه. يقف خلفنا ملاك. لقد ولد مع ولادتنا. ينمو ويتآكل معنا. في البداية كان شابًا، طفلا تقريبًا. سرعان ما أصبح بالغًا، شخصًا ما يحاول إنقاذ أنفاسه. يحمل فأسا في يديه. ينتظر. ليلا ونهارا، من دون أن يتذمر بأدنى عتاب، بدون إبداء أي رغبة، ينتظر. لا ينسى أبدا. لا النوم ولا الحب يشتتان انتباهه. هذا حضور لا تشوبه شائبة. هذه الأمانة بلا حبّ. الكتابة تجعل الملاك صدى في كلّ خطوة على الثلج. الكتابة هي في بعض الأحيان الالتفاف، ورؤية وميض الفأس المرتفع، فجأة نهاية اللغز.

المترجم: إسكندر حبش

————————

قد يبدو من الصعب فعلًا، تحديد نصوص الكاتب الفرنسي كريستيان بوبان، إذ إنها تقف على مفترق اتجاهات عديدة. هي ملأى بالشعر أولًا، من هنا تبدو شعريته هي الطاغية، حيث وُضع مع أولى نصوصه المنشورة في خانة الشعراء. لكن اقتصار الكاتب على هذه الخانة، قد يفقده الكثير من الاعتبارات الأخرى، فهذه النصوص تملك خطًا سرديًا، ما يُقربها من القصة القصيرة، مثلما تمتلك تلك النزعة التأملية التي تجعله يقترب كثيرًا من الفلسفة.

في أي حال، قد لا تهم التسمية هنا، حين نقرأ هذه الفرادة في الأسلوبية والكتابة، التي جعلت منه، بحق، واحدًا من أبرز الكتّاب الفرنسيين في العقود الأخيرة. هو صوت لم يشبه أحدًا. جاء من عالمه الخاص، ليؤسس لغته ومناخه وفضاءه؛ فضاء لم يتوقف عن الاتساع، لدرجة أن كتبه وجدت مئات الآلاف من القراء، من دون أن يتنازل عن تلك السكة التي حفرها، كلمة وراء كلمة.

ولد بوبان في 24 نيسان (أبريل) عام 1951 وتوفي يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2022. بعد دراسته الفلسفة، عمل في مكتبة بلدية أوتون، ومن ثم في المتحف البيئي في كروزو (مسقط رأسه) ومحررًا في مجلة Milieux؛ ومن ثم ممرضًا في مصح للأمراض النفسية، قبل أن يعود إلى الصحافة ليعمل في مجلة “لوموند الأديان”.

تعود نصوصه الأولى، التي امتازت باختصارها والتي تقع بين المقالة والشعر، إلى ثمانينيات القرن الماضي. وقد نُشرت في دار Brandes، وd’Aube Paroles، وLe temps qu’il fait، وThéodore Balmoral، وبخاصة عند Fata Morgana. عرف النجاح على وجه الخصوص مع كتاب Une petite robe de fête (1991)، لكنه بقي كاتبا بعيدا عن الضوضاء والحفلات الاجتماعية، وفضل الوحدة والانزواء.

من موضوعاته المفضلة التي غالبًا ما كتب عنها: الفراغ والطبيعة والطفولة والأشياء الصغيرة. النصوص الثلاثة المترجمة هنا، من كتابي “Une petite robe de fête” (النصان الأولان) والثالث من “La Part manquante”. أما العنوان العام فهو من وضع المترجم. 

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى