الناس

صعود أمير حرب فاشل وانهياره/ حسام جزماتي

قبل أن تتدهور صحته وتقضي عليه المخدرات، منذ أكثر من عشرة أسابيع، كان محمد حمّاض قد اكتفى بتعريف نفسه، على صفحته في فيسبوك، بأنه جامع طوابع. بعد سلسلة طويلة من التقلبات التي بدأها من «مجموعة أمان القابضة» التجارية، ثم تأسيس شركة «الدرع للحراسات الأمنية»، ثم قيادة فصيل «درع الأمن العسكري» الذي قاتل إلى جانب النظام في مناطق مختلفة من سوريا كالساحل وتدمر وسلمية.

ولد محمد في سنة 1979 لأب من مدينة حلب كان ضابط مشاة، ومدرباً للدورات في الكلية الحربية بحمص، هو مصطفى كمال حماض. وبعد عام، عندما كان هذا الرائد في الأربعين، تغير مسار حياته عندما اكتشف خيوط مؤامرة يعدّها بعض زملائه، فسارع إلى إبلاغ فرع المخابرات العسكرية المختص بحمص، وكان برئاسة غازي كنعان الذي أطلع رئيس الشعبة، علي دوبا، على المؤامرة.

انتظرت المخابرات حتى يحصل حماض على أكبر قدر من المعلومات ثم أطبقت على المجموعة التي كانت بقيادة العميد شعبان خطاب وتألفت من عدد من الضباط ذوي التوجه الوطني والخلفية البعثية، كما يروي معبد الحسون في مذكراته السجنية «قبل حلول الظلام

» بعد أن أتيح له الاستماع إلى روايتهم في سجنَي المزة وتدمر.

مثل غيرها من محاولات الإعداد لانقلاب مأمول في مستقبل مجهول؛ كانت المجموعة قيد التشكل ببطء وحذر. وخلال عامين لم تستقطب سوى عدد قليل من الضباط العاملين أو المسرّحين لأسباب أمنية. ونتيجة معرفتها بضعف قواها الذاتية فتحت خطاً مع النظام العراقي، وجلسات جس نبض مع تنظيم «الطليعة المقاتلة…» الناشط آنذاك.

من بين معتقليها السبعة عشر أعدم تسعة كانوا أعضاء فعليين في المجموعة، ونال اثنان البراءة، وجرى تحويل ستة من حوافها إلى سجن تدمر ليقضوا سنوات طويلة ثم يخرجوا. أما الواشي فقد نُقل، كما هي العادة في أحوال مشابهة، إلى المخابرات، معاوناً لرئيس فرع اللاذقية، ثم مديراً لمؤسسة «معامل الدفاع» العسكرية التصنيعية. قبل أن يقضي في حادث سير في حمص في عام 1988. وتعددت التحليلات بين من عدّ الأمر قضاء وقدراً، ومن افترض أن يد النظام وراءه، وبين عائلته التي اعتقدت أن خلايا إخوانية متبقية اغتالته بتدبير حادث.

كان مصطفى حماض قد ابتعد عن حلب ونقل سكنه إلى اللاذقية حيث سينشأ ابنه الذكر الوحيد محمد، الذي تأثر لفقد والده في سن مبكر، وتبلورت فيه شخصية تتسم بالطيبة و«الآدمية» التي تلازم صبياً عاش في رخاء مادي ضمن أسرة صغيرة في مدينة كانت غريبة ثم أصبحت بلده الذي لا يعرف سواه تقريباً.

لكن خياره في الزواج كان حلبياً، ومحورياً في رسم مستقبله، عندما ارتبط بفتاة من عائلة الطرابيشي سبق لأختها الزواج من سامر فوز، رجل الأعمال المعروف، الذي ضم عديله الجديد إلى أعمال العائلة اللاذقانية في «مجموعة أمان القابضة».

عندما اندلعت الثورة أخذت هذه الشبكة خيارها بالوقوف في صف النظام، الذي اشتهر سامر كأحد رجال أعماله. أما محمد حمّاض فقد أسس، في نهاية 2015، شركة «الدرع للحراسات الأمنية». وهي تهدف، كما يقول تعريفها الرسمي، إلى تقديم خدمات حماية وحراسة المنشآت والممتلكات والوثائق والأفراد، ونقل الأموال والمجوهرات والمعادن الثمينة مقابل أجر. أي ما عُرف في أجواء الحرب السورية بمصطلح «الترفيق»، وحصل على الترخيص بتأسيس شركاته مقرّبون من النظام، خاصة أنه يمكن لها استيراد «ما هو ضروري لتحقيق أهدافها» بعد الحصول على موافقة وزارة الداخلية.

في شباط من العام نفسه كان فرع المخابرات العسكرية باللاذقية قد نظَم مجموعات من الشبيحة في سلك واحد سمّاه «درع الأمن العسكري» كانت مهمته، في البداية، القتال في جبال الساحل. وبعد قيادة محلية له استطاع حماض الحصول على تكليف بالإشراف على هذه الميليشيا مقابل دعمها مادياً بنفسه وعبر علاقاته. ومرة أخرى لم يتضح إن كانت قدراته المالية تغطي ذلك أم أنه كان يتحرك بالتنسيق مع سامر فوز، كما عند تأسيس شركة الترفيق التي بلغ رأسمالها الأولي خمسين مليون ليرة.

لكن محمد حمل فوق طاقته على كل حال، فقد كانت مجموعات «الدرع» تتركز في القرداحة، وقادها رجلان لدودان قاسيان بدأت حياتيهما بالتهريب وتعرضا لمآزق عديدة مع السلطات سابقاً. هما بديع سعيد (الشهير بلقب الخال أبو إسماعيل)، ومحمد علي سلهب (أبو علي سلهب) الذي سيُقتل لاحقاً في اشتباك مع الشرطة الجنائية بدمشق في أثناء متابعتها لقضية مخدرات في أيلول 2018.

وأمام هذه الزعامات الميدانية، التي كانت تحوز ثقة عناصرها، لم يكن أمام الشاب، ذي البشرة الرقيقة البيضاء، إلا أن يسترضيهم بالمال، فكان يحظى بالولاء الشكلي بقدر ما تجري السيولة. ورغم أنه أطلق لحيته وارتدى البزة المموهة لم يستطع أن يقودهم فعلياً، فكيف عندما شحّت الموارد وبدأت أصواتهم تعلو بشراسة مطالبة بالرواتب ومتهمة حماض باختلاس تعويضات «الشهداء» والجرحى!

نعُم حماض بوقت قصير من القيادة الظاهرية المريحة للفصيل، التقط فيها صوراً وفيديوهات وهو يحمل المنظار المقرّب ويشرح سير المعارك لصحافة روسيا، الدولة التي كرّمته بوسام في تموز 2017. لكن تجرؤ قادة المجموعات على «الأستاذ» زاد بالتدريج، وتكاثرت تلميحاتهم بأنه رأس غريب فرض عليهم من دون استحقاق.

في شباط 2018 لعب محمد حمّاض بورقة والده، حين بثت شبكة «مراسلون» الموالية وثائقياً مدته ثلاث دقائق، أعدّه صحفي مغمور، عن «العميد الشهيد». وكان في الفيديو، الذي موّله القائد الخائب للدرع ودعمه بالصور والمعلومات، حفنة من الأكاذيب التي بدأت من العنوان: «إعدام رمز الإخوان عدنان عقلة على يد العميد مصطفى حماض». ومن المعروف أن اعتقال عقلة كان على يد فرع المخابرات العسكرية بإدلب بعد أن استُدرج لعبور الحدود تهريباً من تركيا. كما أن مصيره غير معروف قطعياً. وحتى من يرجّحون احتمال إعدامه يقولون إن ذلك حصل في سجن تدمر وفق الإجراءات المعتادة، ولا مجال لأن يعدمه أحد «بيده»!

غير أن محمد حمّاض حاول أن ينسب لأبيه ثاني أعلى درجات «البطولة»، بعد المشاركة في قتل النقيب إبراهيم اليوسف، في البيئة المحيطة التي ما زالت تحتفظ بالذاكرة الرضّية لمجزرة المدفعية. وأياً يكن الأمر فقد فشل الفيلم القصير في تحقيق هدفه، فيما كانت مصاعب حمّاض المالية تتزايد مع تدخل الروس في شؤون الفصيل، تدقيقاً على الأعداد المبالغ فيها للمقاتلين وما يتبعها من رواتب، وتفتيشاً وراء بعض الأنشطة غير القانونية، ودفعاً نحو الحالة النظامية.

وفي شباط 2021 أصدرت وزارة المالية في حكومة النظام قرارها بالحجز على شركة «الدرع» وأموال مالكيها، محمد حماض وزوجته، لتسديد مبلغ ضخم يكاد يبلغ عشرين مليار ليرة، بين رسوم وغرامات نتيجة استيراد بضائع مهربة.

كانت مغامرة قصيرة ذات ثمن باهظ في نهاية المطاف. فقد تخلى عنه سامر فوز أو لم يستطع مساعدته، وتوعّده بعض قادة فصيله السابقين، ولم تترك له «الدولة» التي دافع عنها سوى منزله الخاص الواقع في أحد أغنى أحياء اللاذقية، حيث قضى أعوامه الأخيرة فريسة الإحباط والقلق.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى