سياسة

اليمين المتطرف الأوروبي يتمدد في حكم القارة/ بشير البكر

حصل اليمين المتطرف في فنلندا على مواقع مهمة في حكومة رئيس الوزراء الجديد بيتيري أوربو، بعد أكثر من شهرين من المفاوضات، على أثر الانتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر إبريل/نيسان الماضي، وحقّق فيها حزب “الفنلنديين” اليميني المتطرف الموقع الثاني بنسبة 20.1، وبفارق بسيط عن حزب “الائتلاف الوطني” (يمين وسط) الذي حصل على نسبة 20.8 من أصوات الناخبين، الأمر الذي يؤهله قانونياً لتشكيل الحكومة.

كان لدى أوربو خياران لتشكيل ائتلاف: إما أن يتحالف مع يسار الوسط، أي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي (حزب رئيسة الوزراء السابقة سانا مارين) الذي حلّ في المرتبة الثالثة بنسبة 20 في المائة، أو أن يختار الاتحاد مع حزب “الفنلنديين”، الذي كانت نقطة الخلاف الرئيسية معه متعلقة بالهجرة. واختار أوربو التحالف الثاني، ليشكل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ فنلندا منذ 80 عاماً.

يعني هذا التحالف مع اليمين المتطرف، وصول تشكيل جديد مناهض للهجرة إلى مركز القرار السياسي في بلد أوروبي آخر، في سياق صعود الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في دول عدة من القارة، وبذلك يصبح ثالث حزب من أحزاب اليمين المتطرف يحكم أحد بلدان الاتحاد الأوروبي.

وسبقت فنلندا إلى ذلك، كلٌ من السويد وإيطاليا. وفي إسبانيا، يستعد الحزب الشعبي المحافظ للانتخابات، التي ستجري في نهاية شهر يوليو/تموز المقبل، وأبرم من أجل ذلك سلسلة من الصفقات الائتلافية على المستويين الإقليمي والمحلي مع حزب “فوكس” اليميني المتطرف الذي حصل في انتخابات عام 2019 على نسبة 15 في المائة من الأصوات، وحاز 52 مقعداً في البرلمان من أصل 350.

4 ملاحظات على هامش صعود اليمين المتطرف

يستدعي هذا الوضع تسجيل عدد من الملاحظات المهمة. الأولى هي مشاركة اليمين المتطرف في الحكم بتسهيل من اليمين المحافظ، الذي تراجع رصيده تدريجياً في العقدين الأخيرين في أكبر دول أوروبا مثل فرنسا، التي تراجع فيها حزب الجمهوريين إلى مستويات دنيا.

والملاحظة الثانية هي أن هذه المشاركة تشكّل تطبيعاً بين اليمين المتطرف والرأي العام، وتقدم مثالاً يتم القياس عليه بالنسبة للبدان الأخرى، التي يشكل فيها اليمين المتطرف قوة برلمانية مهمة كما الحال في فرنسا. ومنذ وصول اليمين المتطرف للحكم في إيطاليا (بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني)، بدأت النظرة بالتغير، وصار يمكن اعتبار اليمين المتطرف (حزب ميلوني يدعى “إخوة إيطاليا”) الآن حزباً قومياً محافظاً على شاكلة حزب المحافظين البريطاني.

أما الملاحظة الثالثة فهي أن القاسم الثاني المشترك بين هذه الأحزاب بعد العداء للهجرة والمهاجرين، هو الدعوة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويشكل هذا الأمر تحدياً كبيراً للمؤسسة الأوروبية، ستبرز نتائجه أكثر خلال انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل.

أما الملاحظة الرابعة فهي أن فنلندا تسير على خطى السويد، التي وصل فيها حزب “ديمقراطيو السويد” اليميني المتطرف إلى المرتبة الثانية في انتخابات سبتمبر/أيلول الماضي، بحصوله على 20.5 في المائة من الأصوات خلف الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي هيمن على الحياة السياسية في البلاد منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

وجرى الذهاب في هذا البلد إلى تشكيل حكومة من اليمين واليمين المتطرف برئاسة زعيم المحافظين السويديين أولف كريسترسون (تحالف من 4 أحزاب) بعدما ظلّت السويد نحو شهر تنتظر ما ستؤول إليه انتخابات 11 سبتمبر على صعيد تشكيل الحكومة المحافظة، والدور الذي سيلعبه اليمين المتشدد بزعامة جيمي أوكيسون.

وقد تزامن ذلك مع فوز حزب “إخوة إيطاليا” الذي يعتنق العقيدة الفاشية بزعامة جورجيا ميلوني، والذي وصل إلى الحكم في سبتمبر الماضي، وحاز نسبة 26 في المائة من الأصوات ضمن تحالف اليمين المتطرف، الذي فاز بنسبة 45 في المائة من مقاعد البرلمان الإيطالي، وهي أعلى نسبة لهذا التيار منذ الحرب العالمية الثانية.

يضاف إلى ذلك دور اليمين المتطرف في حكم المجر وبولندا. ففي إبريل الماضي، حصل حزب “فيدز” في المجر، بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، على 59 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، وفي رابع فوز لهذا الحزب على التوالي منذ 2010. وتمكن الحزب مع تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة من الحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان المكون من 199 مقعدا.

ومن أبرز المخاطر هو أن أوربان طور شكلاً من أشكال الاستبداد الناعم منذ توليه السلطة يصفه بـ”الديمقراطية غير الليبرالية”.

وفي بولندا، يراهن التحالف الحاكم الذي يقوده رئيس الوزراء ماتيوس مورافيسكي على الفوز بالانتخابات المقبلة في خريف هذا العام. ومعروف عن مورافيسكي كراهيته لما يسميها سلطة “أوروبا المركزية”، بل ويطالب علناً بإعادة تشكيل “اتحاد أوطان” أوروبي، ويدعو إلى استفتاء شعبي بعنوان “بوليكست” للخروج من مظلة بروكسل، مثل “البريكست” البريطاني.

ميلوني في إيطاليا… حدثٌ فاصل

يعد تولي ميلوني رئاسة الحكومة في إيطاليا حدثاً فاصلاً، نظرا لأسباب عدة، أولها أن إيطاليا التي هي ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وعضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي، قد أصبحت منارة جديدة لليمين المتطرف في أوروبا، وبات يحكمها حزب ولد من رماد الفاشية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية.

والسبب الثاني هو تصاعد الخطاب المناهض للمهاجرين. فقد سبق أن حذرت ميلوني بشدة من أن الإيطاليين الأصليين معرضون لخطر “الاستبدال” بسبب الهجرة، وهي بذلك تلتقي مع أطروحة أحد وجوه اليمين المتطرف في فرنسا، إريك زيمور، وهي تعمل على تطوير فكرة فرض حصار بحري لمنع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الإيطالية.

والسبب الثالث هو الخطر الذي تمثله ميلوني على وحدة الموقف الأوروبي، خصوصاً على مستوى السياسة الخارجية. ويتجلى هذا في الموقف من حرب روسيا على أوكرانيا. ولم يخف زعماء هذا التيار تأييدهم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خصوصاً رئيس الوزراء الإيطالي السابق الراحل سيلفيو برلكسوني.

انتعاش في أوقات الأزمات

زادت أحزاب اليمين المتطرف من رصيدها في أوروبا خلال العقد الماضي، ويعود السبب إلى تراجع القوى السياسية من اشتراكيين وشيوعيين، وتحول اليمين التقليدي المحافظ للتقارب مع أحزاب اليمين المتطرف. وقد حصل ذلك في أكثر من بلد لدوافع انتهازية من أجل كسب شارع اليمين المتطرف.

وساهم في تمدد اليمين المتطرف خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تفاقم الأزمة المالية، ونتائج وباء كورونا، والتداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا، وأزمة تكلفة المعيشة، خصوصاً ارتفاع أسعار الطاقة وفاتورة الغذاء، وانهيار أنظمة الصحة وبروز الفوارق الاجتماعية على نحو كبير.

وقد ظهر أن هذه الأحزاب تنتعش في أوقات الأزمات، وتسوق بعض هذه الأحزاب اليمينية الشعبوية حلولاً بسيطة للغاية للمشاكل المعقدة، من خلال خطاب ديماغوجي يقوم على استعادة السيادة ضد التهديدات المتصورة والحقيقية من الخارج.

ويرى خبراء أوروبيون أن أحد الأسلحة التي يلجأ إليها اليمين المتطرف هي القيم الدينية، كما هو الحال في إسبانيا وبولندا، حيث يمثل الاستنجاد بالقيم الدينية والقومية برنامجاً لبعض القوى السياسية لخداع الرأي العام، من خلال تصوير أن القيم الليبرالية تمثل تهديداً مستتراً للعائلة والوحدة الوطنية. وعلى هذا الأساس، تقوم الدعاية ضد الديمقراطية والوحدة الأوروبية، التي يعتبرونها المسؤولة عن الانفتاح.

هناك تقدير في أوساط الخبراء أن هذه الموجة سوف تمتد إلى سنوات مقبلة، خصوصاً أنها لم تصل إلى الذروة بعد حتى تنكسر، وحتى تبدأ الهبوط التدريجي مثلها مثل أيديولوجيات سابقة، حاولت الحكم على نحو دائم مثل الشمولية والشيوعية.

ومن المتوقع أن التقدم الذي يحصل في الأطراف الأوروبية من فنلندا والسويد إلى إسبانيا، سيتمدد نحو المركز في اتجاه بلدان الثقل الأوروبي: فرنسا، ألمانيا، وبريطانيا، ولذلك يجري النظر إلى وصول الفاشيين لحكم إيطاليا بعين الخطر، لأنه يعني الاقتراب من المركز الأوروبي.

وكما في فترات تاريخية سابقة مثل هزيمة النازية، فإن الاستحقاقات الأوروبية الكبرى تتقرر في بلدان المركز. ومن هنا، فإن هزيمة هذه الموجة بصورة نهائية لن تحصل إلا من قبل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ولكن المدى المحدد لذلك ليس منظوراً حتى الآن.

على العكس، تبدو الظروف مواتية لصعود هذه الموجة أكثر في هذه البلدان، والدليل على ذلك حصول أحزاب اليمين المتطرف على نسب عالية في البرلمانات، خصوصاً في فرنسا، وكذلك ظهور حركات متطرفة ذات طابع عنفي، كما هو الحال في ألمانيا.

وحتى تنكسر هذه الموجة، فإن ضررها سيكون كبيراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهذا واضح جداً في بطء عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وضعف مردودها، ومن خلال التضخم الكبير وارتفاع الأسعار ونسب البطالة وتراجع الموارد الأوروبية ومستوى خدمات الصحة والتعليم والأمن.

ومن العوامل التي ستغذي صعود اليمين المتطرف في المرحلة المقبلة، حالة الانهيار السياسي والاقتصادي في بعض بلدان الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، والتي تنجم عنها موجات كبيرة من الهجرة، كما هو الحال في سورية ولبنان، وغيرهما.

موجات الهجرة الكبيرة أهم محرض على صعود اليمين المتطرف، والدليل على ذلك إيطاليا، التي وصل اليمين المتطرف للحكم فيها بالتوازي مع موجات الهجرة. وكلما ازداد عدد المهاجرين، ارتفع منسوب التطرف، ولولا وصول 77 ألف مهاجر خلال أشهر معدودة، لما وصلت جورجيا ميلوني للحكم.

ومن الآثار السلبية ما تتعرض له الديمقراطية الليبرالية من تهديد فعلي، وهذا واضح جداً في بريطانيا، التي واجهت حالة من التضليل واستغلال النفوذ السياسي، مارسها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، الذي عاقبه مجلس العموم بالطرد من عضويته، ولكنه خلّف وراءه سيلاً عارماً من الرداءة الشعبوية التي نمت في عهده بلا حدود، وأدت إلى نتائج كارثية، منها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وصفة جونسون قابلة أن تتكرر في بلدان أوروبية أخرى مثل بولندا على سبيل المثال، التي تعمل منذ سنوات عدة على استبدال القوانين الأوروبية بقوانين محلية. كما أن المجر كمثال للتراجع عن القوانين الأوروبية، تشهد تحولاً تدريجياً من الديمقراطية المفتوحة إلى حكم أكثر استبدادية. ومن هنا، فإن فنلندا والسويد تشكلان قوة دافعة لنهضة التطرف في أوروبا.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى