منوعات

نباتات مستعمَرة/ صبحي حديدي

في جامعة بيرديو البحثية، وست لافييت، إنديانا الامريكية، يتولى أستاذ العلوم البيولوجية دانييل بارك سلسلة أبحاث من طراز فريد؛ يتجاوز مراراً حدود البحث العلمي إلى ميادين تصويب التاريخ الكوني والسياسة والعلاقات الدولية، لأنه يدرس تأثير المشاريع الاستعمارية الأوروبية في تحوير مسارات الطبيعة على مستوى ملايين أصناف الأعشاب والنباتات، التي نُقلت قسراً من مواطنها الأصلية في المستعمرات السابقة، وخضعت بالتالي إلى أنساق من القسر والقهر والتحويل، تبرّر تصنيفها في خانة «النباتات المستعمَرة». وإذا كان من اليسير تلمّس أهمية المشاريع الاستعمارية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن متابعة تأثيرها في حقول أخرى حاسمة يظلّ أكثر خفاء، ولكن ليس أقلّ عمقاً وديمومة؛ كما في تأثير الاستعمار على حياة النبات والأعشاب والطبيعة عموماً، في المستعمرات بالقياس إلى الأمم الغازية المستعمِرة.

خلاصة أولى في أبحاث البروفيسور بارك، وعشرات من الباحثات والباحثين ضمن فريقه، تقول إنّ 400 مليون نوع نباتي مخزّنة، بأشكال حفظ أو تجفيف أو ضغط مختلفة، في 3500 مَعْشَبة Herbaria، على امتداد مخابر ومعاهد ومتاحف في بلدان غربية مارست استعمار الشعوب، ضمن مشاريع واسعة طويلة الأمد أو أخرى محدودة ذات آجال قصيرة. الرقم مذهل بالطبع، وهو دالّ على سلوك فظيع يصعب أن تبرّره أيّ اعتبارات علمية، إذْ يرقي ببساطة إلى مستويات النهب الأخرى التي طالت ثروات الشعوب، في باطن الأرض حيث الآثار والأركيولوجيا، أو على سطحها حيث النبات والكائنات الحية. وكما تعاون المستشرق مع ابن بلده الجنرال الكولونيالي، عكف عالم النبات على اجتثاث ملايين الأنواع النباتية ونقلها إلى الحواضر المستعمِرة؛ بحيث نملك اليوم الرقم التالي الرهيب: 60% من المعاشب الراهنة في الغرب، و70% من أنواعها المخزنة، تعود في أصولها إلى البلدان التي استُعمرت في الماضي.

فإذا استعرض المرء أعمال بعض كبار العشّابين العرب والمسلمين، أمثال ابن البيطار الأندلسي والرازي وابن سينا وداود الضرير الأنطاكي، فلن يكون عسيراً الوقوف على مكتبة زاخرة بما استقرّ تحت بند «صيدلية الأعشاب»؛ كما لن يصعب على المرء ذاته أن يلحظ كم من تلك الأعشاب صار اليوم «ترسانة» لمصانع الأدوية في الغرب، فضلاً عن معامل العطور الفاخرة. وفي «أطلس النباتات الطبية والعطرية» يحصي مركز «أكساد» العربي قرابة 800 إلى 1000 نوع منها، تتوزّع على نحو 77 فصيلة، تنمو جميعها برّياً في بيئات مختلفة، من وديان وجبال وهضاب وبوادٍ وضفاف أنهار وحقول وقنوات ريّ؛ بينها 300 نوع على الأقلّ تنمو في مناطق جافة أو قاحلة. لافت إلى هذا، ورغم الجهود الرفيعة والمخلصة خلف إعداد الأطلس، أنّ عدداً غير قليل من الفصائل العشبية أو النباتية تمّ إدراجه تحت تسميات لاتينية أو غربية؛ مثل الـ Adiantacea (رغم وجود تسمية عربية: كزبرة البئر)، أو الـ Chenopodiaceae(الرمرامية)، أو الـ Equisetaceae((ذنب الخيل).

خلاصة ثانية لافتة في أبحاث جامعة بيرديو، ولعلها أكثر خطورة لجهة توازنات التنوّع البيئي، تشير إلى أنّ العديد من القوى الاستعمارية السابقة تختزن اليوم في حقائب الأعشاب مقداراً من الأنواع يفوق ما يتوفر فعلياً في الطبيعة الأمّ، على اختلاف التضاريس والمواقع والفصول؛ وهذا بعد قيام باحثي الجامعة بدراسة 85 مليون نوع مسجّلة في مختلف الحواضن الغربية. الحال معاكسة تماماً في المستعمرات السابقة، وبالتالي أكثر وفاء لقوانين الحياة والنماء، حيث تواصل الطبيعة تفوّقها في احتضان الأنواع العشبية والنباتية، بمعدلات أعلى مما تختزنه المعاشب والمتاحف الطبيعية. قراءة أخرى لهذه الخلاصة تقود إلى حقيقة مريعة بدورها: أنّ الحواضن الغربية لا تُبقي نباتاتها وأعشابها المستعمَرة في حال من الأسر فحسب، بل تسهم في تسريع انقراضها وتعطيل ونموّها وتكاثرها.

الخلاصة الثالثة تقول إنّ التنوّع النباتي أوسع نطاقاً من حيث النمط في المناطق القريبة من خطّ الاستواء، وأقلّ في اتجاه الشمال أو الجنوب نحو القطبين؛ غير أنّ أربعة قرون من الاستعمار تكفلت بإحداث نتيجة معاكسة، لأنّ أنواع النباتات نُقلت قسراً من البلدان ذات التنوّع النباتي الطبيعي الأعلى، إلى مجموعات انتقائية حيث القليل من الأنواع النباتية تترعرع طبيعياً. صحيح أنّ بعض الأخصائيين يميلون في تصنيفاتهم الرقمية إلى مقاربات أكثر «ديمقراطية»، حسب تعبير البروفيسور بارك؛ إلا أنّ الإجحاف بحقّ النباتات المستعمَرة يظلّ هو القاعدة العامة، على غرار ما يقع لثروات المستعمرات السابقة، المادية منها والمعنوية.

وبالأمس تقدّم ملك هولندا باعتذار رسمي عن ماضي بلاده في ممارسة العبودية خلال العقود الاستعمارية، معتبراً أنّ «تجارة الرقيق والعبودية جريمة بحقّ الإنسانية»؛ وهذا سلوك حميد بالطبع، لا يطمس مع ذلك حقيقة جزئية ساطعة: أنّ الأسطول الأوّل لشركة «إيست إنديا» الهولندية أبحر في سنة 1602 وعلى متنه خبراء كُلّفوا بمهامّ جلب النباتات والأعشاب الطبية والعطرية لاستنباتها في هولندا. ولن يطول الوقت حتى هيمن على الصناعة أمثال بول هيرمان في سيلان، وهندريك دراكنشتاين في الهند، وجورج رمفيوس في أندونيسيا.

هذا في بلد استعماري صغير نسبياً، فللمرء أن يتخيل كيف كانت عليه الحال مع بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال…

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى