من ذاكرة صفحات سورية

خالد خليفة.. وداع مبكّر -مقالات الراحل وحواراته، مقالات عن رحيل الكاتب، مقالات تناولت الكاتب ورواياته

إثر أزمة قلبية مفاجئة: رحيل الروائي السوري خالد خليفة عن 59 عاماً

توفي مساء السبت الروائي والكاتب والشاعر السوري الحائز جوائز عربية وعالمية خالد خليفة عن 59 عاماً، إثر أزمة قلبية مفاجئة، وفق ما أفاد مصدر مقرّب من عائلته لوكالة فرانس برس.

وأفاد صديقه الصحافي يعرب العيسى الذي رافقه خلال الأيام الأخيرة “لقد توفي داخل منزله وحيداً في دمشق (..) اتصلنا به كثيراً ولم يرد، وحضرنا إلى منزله فوجدناه ميتاً على الأريكة”.

وقال الأطباء في مستشفى العباسيين في دمشق، إن تشخيص الوفاة هو أزمة قلبية.

وعُرف خليفة المتحدّر من بلدة مريمين في ريف عفرين شمالي مدينة حلب، في أوساط الثقافة السورية بعد مسلسلات سورية عدة كتبها مطلع التسعينيات ولاقت رواجاً واسعاً.

روايات ومسلسلات

وذاع صيته بعد تأليف روايته “مديح الكراهية” التي ترجمت إلى ست لغات، وجذبت اهتماماً ووصلت للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى عام 2008.

وحازت رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” عام 2013 على جائزة نجيب محفوظ للرواية، أحد أبرز الأوسمة الأدبية العربية، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية.

ومن رواياته المعروفة، “لم يصلّ عليهم أحد” عام 2019، و”الموت عمل شاق” عام 2016، و”دفاتر القرباط” عام 2000، و”حارس الخديعة” عام 1993.

ومن أشهر المسلسلات التي كتبها “قوس قزح” و”سيرة آل الجلالي” الذي نقل تفاصيل مدينة حلب الاجتماعية والثقافية، ومسلسل “العراب” وغيرها.

ونعى فنانون ومثقفون وصحافيون سوريون وعرب، خليفة على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب ناشطين سياسيين داخل وخارج سوريا.

وعُرف خليفة بموقفه المناهض للسلطات وانتقاده لسياساتها في مقالاته ومقابلاته الإعلامية.

ونعى الكاتب والأكاديمي السوري سلام كواكبي بكلمات “وداعاً أيها الطيب”، وكتب الروائي خليل صويلح “يا لفجيعتنا، سنتحمل موته الشاق وحدنا”.

ومن المقرّر أن يُدفن خلفية في دمشق في وقت لاحق الأحد بدون تحديد باقي تفاصيل الجنازة والتشييع.

———————————–

خالد خليفة.. وداع مبكّر

الموت الذي ألقى بثقله على حياة السوريّين طيلة العقد الماضي، لازم الكتابة الروائية السورية أيضاً. ويعدّ الروائي السوري خالد خليفة الذي رحل مساء أمس السبت، أحد الكتّاب الذين قرأوا الموت السوري، وقد حاول باشتغالاته السردية بين أزمنة مختلفة، التمعُّن في الواقع الاجتماعي والتاريخي لسورية ككلّ، وخصوصاً لمدينته حلب.

الراحل من مواليد عام 1964، في قرية أورم الصغرى التابعة لمدينة حلب شمالي سورية، وتدرَّج في تعليمه حتى حصل على إجازة في الحقوق من جامعتها عام 1988. لكنّه أخذ مساراً مهنياً مختلفاً وانشغل في عالمِ الأدب مع إصدار روايته الأولى “حارس الخديعة” عام 1993.

لكن الخطوة الأكثر جدّية، والتي أضاءت مسيرة الراحل، وباتت محطّة يتذكّرها متابعوه وقرّاؤه، كانت مع المسلسلات التلفزيونية. ففي عقد التسعينيات بدأت تظهر ملامح أُولى لطفرة صناعة الدراما السورية، إذ صارت الكتابة تفتح لصاحبها نوافذ على جمهور عريض من خلال الشاشة الصغيرة، وفي هذا السياق وقّع عمله التلفزيوني الأوّل “سيرة آل الجلالي” (2000)، من إخراج هيثم حقّي.

وإن كان قد اعتمد في مسلسله هذا على عَرْض المجتمع الحلبي وتراث المدينة السورية من خلال عائلة آل الجلالي، فإنه حاول مع مسلسله الثاني “قوس قزح” (2001) أن يُكمل مشواره مع ابن مدينته هيثم حقّي، ولكن في إطار الدراما الاجتماعية المعاصرة هذه المرّة. وفي تلك الفترة، أيضاً، نشرَ روايته الثانية “دفاتر القرباط” (2000).

في عام 2006 نشر روايته “مديح الكراهية”، التي تناول فيها أحداثاً من التاريخ السياسي السوري بين عقدَي السبعينيات والثمانينيات، تُعدّ محظورة بعُرف النظام وسرعان مع منعت بعد أشهر من تداولها.

بعد الثورة السورية عام 2011، استمرّ خليفة بقراءة التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها سورية في ظلّ هيمنة حزب البعث. حيث عرض للقمع الذي تعرّض له المجتمع السوري، كما في عمله “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013)، ثم انتقل إلى الكتابة عن الموت الذي فرضته الحرب، وبات واقعاً يومياً من حياة السوريين، كما في روايته “الموت عمل شاق” (2016). قبل أن يعود بروايته الأخيرة “لم يُصلِّ عليهم أحد” (2019) إلى مدينته حلب قبل مئة عام، ليروي قصة لم تخرج بعيداً عن حضور الموت الثقيل في عوالمه، وإن اختار لها زمناً ماضياً، وإطاراً تاريخياً.

تابع خالد خليفة الكتابة للتلفزيون خلال العقدين الأوّلين من الألفية الجديدة، فقدّم “ظلّ امرأة” (2007)، و”العرّاب” (2016)، وتُرجمت أعماله الروائية إلى عدد من اللغات، وفازت روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” بـ”جائزة نجيب محفوظ للرواية” التي تمنحها “الجامعة الأميركية” في القاهرة عام 2013.

————————

رحيل الروائي السوري خالد خليفة عن 59 عامًا مؤلف “الموت عمل شاق” و”مديح الكراهية

توفي مساء أمس السبت الروائي والكاتب والشاعر السوري الحائز على جوائز عربية وعالمية خالد خليفة عن 59 عامًا، إثر أزمة قلبية مفاجئة، وفق تأكيد مصادر، بينها مقرّب من عائلته ودار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.

وقال صديقه الصحفي يعرب العيسى -الذي رافقه خلال الأيام الأخيرة- “لقد توفي داخل منزله وحيدًا في دمشق (…) اتصلنا به كثيرا ولم يرد، وحضرنا إلى منزله فوجدناه ميتا على الأريكة”.

وقال الأطباء في مستشفى العباسيين في دمشق إن تشخيص الوفاة أزمة قلبية.

ولد خليفة في حلب عام 1964، وتخرج في كلية الحقوق عام 1988، وكان عضوا في المنتدى الأدبي بالجامعة، وكتب الدراما التلفزيونية وبعض الأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة والطويلة.

وعُرف خليفة -المنحدر من بلدة مريمين في ريف عفرين (شمال حلب)- في أوساط الثقافة السورية بعد مسلسلات سورية عدة كتبها مطلع التسعينيات ولاقت رواجا واسعا.

وذاع صيته بعد تأليف روايته “مديح الكراهية” التي ترجمت إلى 6 لغات، وجذبت اهتماما ووصلت للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى عام 2008.

وحازت رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” عام 2013 على جائزة نجيب محفوظ للرواية -أحد أبرز الأوسمة الأدبية العربية- ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية.

ومن رواياته المعروفة “لم يصلّ عليهم أحد” عام 2019، و”الموت عمل شاق” عام 2016، و”دفاتر القرباط” عام 2000، و”حارس الخديعة” عام 1993.

ومن أشهر المسلسلات التي كتبها “قوس قزح”، و”سيرة آل الجلالي” الذي نقل تفاصيل مدينة حلب الاجتماعية والثقافية، ومسلسل “العراب”، و”هدوء نسبي”، و”ظل امرأة”، وغيرها.

ونعى فنانون ومثقفون وصحفيون سوريون وعرب خليفة على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب ناشطين سياسيين داخل سوريا وخارجها.

وعُرف خليفة بموقفه المناهض للسلطات وانتقاده سياساتها في مقالاته ومقابلاته الإعلامية.

ونعاه الكاتب والأكاديمي السوري سلام كواكبي بكلمات “وداعًا أيها الطيب”. وكتب الروائي خليل صويلح “يا لفجيعتنا، سنتحمل موته الشاق وحدنا”.

ونعاه المخرج المصري خيري بشارة في تدوينة بموقع إكس قائلا “خبر يهبط كالصاعقة، كان خالد خليفة من أجمل الأصدقاء، باعدت مشاغل الحياة بيننا كما فعلت المسافات والحرب، ومنذ وقت قصير فرحت للغاية حين بدأنا نتبادل ذكرياتنا الحلوة طامعين في تجديد العلاقة وإحياء الصداقة القديمة. فلترقد في سلام يا أجمل الكائنات”.

كما نعاه الأديب الكويتي طالب الرفاعي قائلا “كأن الموت ينتقي أحبابه، خبر صادم يا صديقي الغالي خالد خليفة، لا عزاء لساحة الرواية العربية. لروحك الطاهرة واسع المغفرة والرحمة الواسعة”.

ومن المقرّر أن يُدفن خلفية في دمشق في وقت لاحق اليوم الأحد، من دون تحديد باقي تفاصيل الجنازة والتشييع.

    غيّب الموت الكاتب والروائي السوري خالد خليفة (١٩٦٤ – ٢٠٢٣)

    درس القانون عام ١٩٨٨ في جامعة حلب. كتب الشعر وكان عضواً في المنتدى الأدبي في الجامعة.

    كتب خليفة دراما تلفزيونيّة، وبعض الأفلام الوثائقيّة والأفلام القصيرة والطويلة.

    الرحمة والسلام لروحه والصبر لأهله ومحبّيه.. pic.twitter.com/gwxLcdSTCx

    — دار ممدوح عدوان للنشر (@AdwanPH) September 30, 2023

    لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة

    كل السكاكين مغروزة في رؤوسنا ومع استعادة أي ذكرى تتحرك السكين بما يكفي لتذكرنا بأنها مازالت مغروزة وتتوقف قبل أن تجهز علينا.. وهكذا

    كم ذكرى سنستعيدها اليوم مع رحيلك ياخالد يامن جعلتنا نحب الكراهية بقدر نفورنا منها

    الله يرحمك ويرحمنا#خالد_خليفة

    — غسان ياسين Ghassan yassin (@ghassanyasin) September 30, 2023

    يا للفجيعة،

    صديقنا الأبهى والأجمل خالد خليفة يغادرنا فجأة،

    غصّة في القلب

    ولا عزاء لنا بفقدك أيها العزيز. pic.twitter.com/7rJLv221Yb

    — Ali Al Muqri علي المقري (@AliAlMuqri) September 30, 2023

    كأن الموت ينتقي أحبابه؛

    خبر صادم يا صديقي الغالي يا #خالد_خليفة

    لا عزاء لساحة الرواية العربية.

    لروحك الطاهرة واسع المغفرة والرحمة الواسعة🙏

    الموت؛ خطف عشواء!!! pic.twitter.com/dwX5H0hPth

    — طالب الرفاعي (@talrefai1) September 30, 2023

    عزائنا الحار لأسرة واصدقاء الروائي والشاعر وكاتب السيناريو والمقالات الأدبية الفقيد خالد خليفة، ولعموم الشعب السوري.

    توفي خليفة في 30 سبتمبر / أيلول 2023 إثر نوبة قلبية، لروحه الرحمة والمغفرة والسلام.

    “ولد بتاريخ 1-1-1964 في مدينة حلب في سوريا، درس في جامعة حلب وحصل على… pic.twitter.com/zWUDZe3BdM

    — Hadi Albahra (@hadialbahra) September 30, 2023

    قرأ خالد خليفة وكتب الموت السوري بكل تجلياته

    لكن بين سردية وأخرى …وعلى غفلة من الجميع وصل إمام العاشقين إلى محطة تجلى فيها موته هو.

    مات خالدًا… وخليفته كتبه ونصوصه وسيناريوهات كيف تصور سوريته في ظل امرأة.

    المدينة تحفظ أنفاس العاشقين يا خالد كما قلت أنت في “لم يصل عليهم… pic.twitter.com/Z80glXjBj4

    — Homam Kadar هُمام كدر (@homamkadar1) October 1, 2023

المصدر : الجزيرة + وكالات

——————————-

خالد خليفة في ويكيميديا،

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF_%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9

https://www.marefa.org/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF_%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9

=================

مقالات تناولت رحيله

====================

تحديث 14 تشرين الأول 2023

———————–

خالد خليفة شاعرًا: كوتر وحيد في كمنجة متروكة/ منذر مصري

سيأتي أحد ما وينكر عليّ قول هذا بحجّة: “قد يكون صحيحًا أن خالد خليفة مات كوتر وحيد في كمنجة متروكة، إلا أنه لم يعش كذلك، بل العكس، كان خالد يسهر ويأكل ويغني ويرقص مع الناس كل يوم. والدليل هو ذلك العدد الكبير الذي يمتلكه من الأصدقاء والمحبين! ألم تر الناس الذين خرجوا يودعونه في جنازته؟ ألم تقرأ ما كتبوه عنه، الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه، القريبون والبعيدون، أو باللغة السورية، الموالون والمعارضون! ألم تنتبه إلى أن كل واحد منهم يعدّ نفسه صديقًا حميمًا له”. وأحسب أني وقتها سأجده سهلًا الجواب: “وهل تظن أن هذا يعني أنه لم يكن وحيدًا؟ ألم تمر في تجربة، ألم يقل لك أحد إن في استطاعة الآخرين، إن رغبوا، أن يقدموا لك أقسى أنواع الوحدة”.

كبقية الأشياء الباقية

ربما، لهذا السبب، أنا نفسي، لا أستطيع الادعاء أنني أحد اثنين أو أربعة، أو عشرة أصدقاء خالد خليفة الحميمين، رغم معرفة الجميع أنني أحد أشد أصدقائه قربًا في الآونة الأخيرة. وأكاد، في نظر الكثيرين، أشكل معه ثنائيًا على نحو ما. كيف؟ كلانا، كاتبان معروفان، هو محليًا وعربيًا وعالميًا وأنا قد يعتبرني البعض شيئًا من هذا، وكلانا بقينا! مرة ثانية أستسهل الجواب، رغم معرفتي مقدار التباسه. ولكن، نعم، كلانا كان يستطيع، وربما كان من الأفضل له، وربما أيضًا كان يجب عليه، أن يغادر. “جميع الذين من أمثالك غادروا”، قال لي مرتابًا أحد المحققين! لكننا لم نفعل، بقينا. بقينا كما بقي الناس الذين بقوا، كأخوتنا وأهلنا وجيراننا وأصدقائنا الذين نصبّح عليهم ويمسّون علينا، أو، بتعبير أشد شاعرية، ما أزال أضعه تحت صورتي على التويتر: “لا ندم ولا مأثرة، بقينا كبقية الأشياء الباقية”.

شاعر بدليل مفقود

فاجأني خالد في إحدى زياراته إلى مرسمي، بإخراجه دفترًا ذا شريط معدني، وتسليمه لي باليد، وهو يقول دون أي أثر للمزاح: “هذا لك… أبطلت الشعر بسببك! قصائدك عن مصطفى عنتابلي جعلتني أحسم أمري بأنه عليّ أن أكون روائيًّا”. “رائع… هذا ربما أفضل ما أستطيع فعله لأجلك!” أجبته دون أي أثر للجدية! فلقد كنت محقًا، على غير عادتي، وأنقذت خالد من أن يكون شاعرًا. غير أن ذلك، كما يبدو، لم يُنس له، ولم يُسامح عليه، لأن أغلب عبارات النعي، وخاصة التي صدرت عن وكالات الأنباء العربية كالخليج، والجزيرة، والشرق الأوسط، والعالمية كفرانس 24، والسكاي نيوز، ألحقت باسمه صفة الشاعر، أما تركيا الآن، ولايف العربية، فلقد سبّقت صفة شاعر على كل الصفات: “وفاة الشاعر و… السوري خالد خليفة”. كل هذا وليس هناك مجموعة شعرية صادرة له، ولا قصائد منشورة في أي مجلة أو صحيفة أو موقع إلكتروني، أي أنه لا دليل… سواي!

“يتضمن الدفتر 53 قصيدة، قصيرة بمجملها، منها قصائد لا تزيد عن سطرين! قصيدتان فقط تحملان عنوانًا، و5 مؤرخة بالسنوات دون ترتيب، موزعة على ثلاثة أقسام”

منذ، لا يمكن لي أن أذكر، ولكن ما لا يقل عن 15 سنة، لليوم، والدفتر عندي يرقص رقصة الضياع، يتنقل من مكان إلى مكان، ومن رف إلى رف، ومن درج إلى درج، ناجيًا من غرق الغواصة مرتين واحتراقها مرة، وطوفانها مرات! إلى أن أيقظني خالد الساعة الرابعة قبل تفتق ضوء فجر أول البارحة وسألني: “أين دفتري؟” فولعت من فراشي كالمجنون ورحت أبحث عنه، حيث أنا في البيت بادئ الأمر، وفي المرسم حيث كنت أتوقع وجوده، ثم في شقة ابني الفارغة التي أضع فيها كتبي الناجية جزئيًا من الحريق، تغطي أغلفتها طبقة عنيدة من السخام، فلا تعرف ما هي حتى تفتحها وتنظر إلى صفحتها الأولى! ولا أجده. أجد بدلًا عنه أشياء كثيرة لا حاجة لي بها كنت قد نسيتها ولا حتى أذكر أنها كانت سابقًا عندي. وكأنه صحيح، ذلك الحكم الذي أطلقه الرب على البشر، ولا تسألوني أين ومتى: “الحق أقول لكم، إنكم إذا بحثتم عن شيء، تجدون كل شيء، ما عدا الشيء الذي تبحثون عنه!”.

فاجأني خالد في إحدى زياراته إلى مرسمي، بإخراجه دفترًا ذا شريط معدني، وتسليمه لي باليد، وهو يقول دون أي أثر للمزاح: “هذا لك… أبطلت الشعر بسببك!”

قرباطي بكمنجة ذات وتر وحيد

لكني وجدته! وجدته بعد استسلامي الكامل لفكرة أن هناك أشياء مخصصة للفقدان خلال حياتنا، نحن البشر، إلى أن نفقد كل شيء ذات يوم، دون أن يكون لنا حيلة لنحول دون ذلك! وكأنه كان يختبئ خائفًا بعد موت صاحبه، في زاوية خزانة غرفة الطعام الرومانية التي تتكدس فيها دفاتر مذكراتي ومغلفات مسودات قصائدي وألبومات صور العائلة. متنكرّا بغلاف آخر مختلف تمامًا عما كنت أتصور أنه غلافه!

يتضمن الدفتر 53 قصيدة، قصيرة بمجملها، منها قصائد لا تزيد عن سطرين! قصيدتان فقط تحملان عنوانًا، و5 مؤرخة بالسنوات دون ترتيب، موزعة على ثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان (كوتر وحيد في كمنجة متروكة) يتضمن 16 قصيدة متسلسلة وكأنها تشكل قصيدة واحدة تيمتها الحب. القسم الثاني (ورود للرجل الميت) يتضمن 22 قصيدة تتردد فيها كلمة “ورود” في كل قصيدة تقريبًا تزاحمها عبارة “رجل ميت”. أما القسم الثالث والأخير بعنوان (مسرات الندم) فقصائده لا تزيد عن 10 كتبها من دون اعتناء ظاهر شاعر يودع الشعر، إضافة إلى خمس قصائد متفرقة لا رابط بينها، تجاورها تخطيطات ورسوم، تذكر بالرسوم التي انكب عليها خالد بكل ما يعرف عنه من شغف، آخر سنوات حياته.

اسمحوا لي، قبل قراءتكم ما نقلته من قصائد خالد دون كثير حرص أن تكون أفضلها، بأن أقوم الآن برد استباقي على من سيعترضون، وأظنهم متوفرين من دون شك، على نشري هذه القصائد، بحجة أنه لو كان خالد يرى بأنها تستحق النشر، ولو كان يرغب بأن يراها منشورة، لنشرها في حياته! وذلك بسؤالي لهم: لماذا، تظنون، أودع خالد دفتر أشعاره عندي؟ ماذا تظنون أنه كان يفكر، ماذا تظنون كانت غايته؟ لا ريب في أنه لم يكن يقصد رميه! وأنه، بوعي منه، أو بلا وعي، كان يعلم أني، يومًا، سأفعل شيئًا بخصوصه! فهو يعرف أن هذا من عاداتي! كما فعلت سابقًا مع أختي مرام ومع رياض الصالح الحسين ومحمد سيدة وهلال بدر، وها قد جاء الآن دوره.

1- وسائل إيضاح

جلس التلاميذ على المقاعد

قال المعلم: “لدينا قالبًا من الكاتو”

تألقت العيون الصغيرة

ابتسمت…

تلميذ عار كالجرود

باهت كبذلة المعلم الوحيدة

صرخ بشراسة:

نريد وسائل إيضاح.

(1982)

2- سجين

تحتويك الرغبات

والعيون تزنر وهجك

أيها المنذور

لصبح

لرقص

ليشرب الليل أيامك

ويرفع ما تبقى من كأسك

تحتويك القلوب

ويرسل الورد ضفائره

يسيج فرحك

ومجدك

وعلى الأرائك

تبقى شجيًّا

تنتظر الحرية وحدك.

(1986)

3-

مرة أخرى

قد تنام امرأة بين ذراعيّ

وتقول أحبك

قد تكتب لي امرأة بعيدة:

“اشتقت إليك”

قد تبكي امرأة أمام ورودي الذابلة

نادمة لأنها تركتني وتزوجت عدوي

ومن أجلي قد ترمي امرأة بنفسها

من الشرفة

قد تهجر امرأة متزوجة عائلتها

قد تنتظر امرأة أمام باب منزلي

حتى الصباح

غير مبالية بنظرات الجيران

ومفاجأة

تراني أصطحب غيرها…

4-

إن تركتني أغادر هذه الغرفة وحيدًا

سترتجف من الندم

لن تكترث بك الستائر

وسريري لن يستسلم لألم مفاصلك

ستذوي وتموت

كوتر وحيد في كمنجة متروكة

قد لا تصدّق

إن رافقتني أمنحك ألف حياة

وتميتني

إن تركتني أغادر

هذه الغرفة وحيدًا.

5-

عشب

وتراب مبلل

وشاهدة

وامرأة مقرفصة تبكي

وأصدقاء

يتذكرون تفاصيل كاذبة

أليس هذا هو

الندم؟

6-

أخيرًا رأيت البحر

وطفولتي تقف على سياجه

رأيت الزمن ممدّدًا

كدت أقول لكِ

أنظري

إنه يفقد أعماقه.

7-

كيف أرسم وجهك

كيف أخطّ الحاجب

وأنزل إلى الشفتين

دون أن أنسى

أرنبة أنفك

ولوعة الفراق في أصابعك

حين أدير ظهري

وأترك ورائي

غرفتك.

8-

لا تخوني خبزنا

وخمرنا

وتتركيني لمسرات الندم.

9-

سأموت من أجل الورود

التي ستهدونني إياها

من أجل وقع خطاكم على درج منزلي

وجلوسكم في الصالون

منكّسي الرؤوس وحزانى

في حضرة امرأة

لم تبح باسمي

وبعد مماتي صافحتموها

وبكت كأي أرملة محترمة

مغمغة: “كنا سنتزوج السنة الماضية

أقصد القادمة”!

امتدحتم إخلاصها

وتهامستم بأني لم أكن جديرًا بها

وكنت أخونها مع نساء

أقل جمالًا وذكاء

وأني الآن رجل ميت

ليس من أجل الورود

ولا من أجل الأغاني

بل من أجل الموت

الذي لا يستحق أن يموت أحد

لأجله.

10-

تتساقط من يديه رائحة تشبه الموت

وخلفه تسير امرأة تحمل الورود البيضاء

ولا تصدّق أنه ميت

يلوح المشيعون بالكفن وأوراق الغار

يسرع النغش

إنه رجل ميت

لكنكم لا تستطيعون الإمساك به.

———————–

لا خليفة لخالد/ بروين حبيب

الفقد لص محترف يقترب منك متسللا على رؤوس أصابعه ينسيكَ وجوده، ويغافلك ويختار الوقت الذي تطمئن إلى أنك رتبت حياتك على نعمة حضور من تحب، حتى يصبح وجودهم عاديا مألوفا لا يثير دهشة، ولا يوقد حنينا. هناك فقط يسلبك بخفة موجعة حبيبا أو صديقا أو عزيزا، ويوقظك من حلم جميل، لا على الواقع ويا ليته كذلك فقط، بل على كابوس يترك دمعة في العين ومرارة في اللسان وألما لا يطاق في القلب. ذلك ما نستشعره لحظة الغياب، ولا يمكننا للأسف تجنب الشرب من كأسه المرة. وذلك ما نثر ملح الأوجاع فوق جراح روحي، حين فاجأتني وفاة الصديق الكاتب هاني نقشبندي، وكان قبل ليلة واحدة من غيابه يحادثني على الواتساب، ولم يمهلني القدر لأشفى من لوعة غياب هاني حتى علمتُ أن خالد خليفة رحمه الله قد مات. وكنت أعتقد أن له من اسمه نصيبا يضمن له الخلود، فيبقي بيننا طويلا، وكانت الظروف تؤجل لقاءنا رغم أسفاره الكثيرة، ومن ضمنها زيارة الإمارات، وكنت أفكر في استضافته مرة جديدة في أحد برامجي فلقاؤنا التلفزيوني اليتيم لم يرو الغليل. وكنا نخطط مع أصدقاء له حميمين – أو نترك الأقدار تخطط لنا – لنلتقي في سوريا بلده وحبيبته، أو في بيروت أو القاهرة لا فرق. لكن هذه الأمنيات المعلقة أجهضتها ثلاث كلمات لا غير «رحل خالد خليفة».

أعاد لي فقد خالد حين سمعت خبر وفاته ذكرى فقد أبي، فقد كان عندي في اليوم الذي رحل فيه خالد خليفة لقاء تلفزيوني في قناة عربية، وغالبت وجعي وذهبت بفكر مشتت وقلب متألم، وكذلك كان الوضع يوم وفاة والدي فقد كان عندي على الهواء أيضا حوار يومها لبرنامجي مع وزير الثقافة اليمني، وأجريت حواري بفكر مشتت وقلب متألم كذلك، وبعد أن أنهيت واجبي هناك فقط فاضت عيناي أنهارا، وتفجر قلبي وجعا، وتقبّلت العزاء بوفاة والدي.

عرفت خالد خليفة سنة 2001 كنت أعدّ وأقدم برنامج «وجوه» فزرت صديقي هيثم حقي المخرج المبدع وزوجته صديقتي الشاعرة هالا محمد لإجراء لقاء معهما وفي مزرعتهما التقيت بخالد خليفة، وكان هيثم وخالد قد قدما مع بعض، واحدا من أجمل المسلسلات السورية التي تناولت البيئة الحلبية قبل ذلك بسنة أعني «سيرة آل الجلالي». كما كان خالد دائم الحضور في جلسات هيثم وهالا وسهراتهم حيث تتغير الوجوه والضيوف وهو الثابت الذي لا يتبدل. وينبغي أن أذكر أني مدينة لضيوفي الفنانين السوريين فقد كانوا دوما رافعة برامجي بنجوميتهم، يلبون دعوتي دون تمنع ولا شروط.

عرفت خالد وكان يومها في نجوميته الدرامية، حيث كتب سيناريو مسلسل «قوس قزح» من إخراج هيثم حقي أيضا، وبما أن أول من أتواصل معهم حين وصولي إلى دمشق كانا هيثم وهلا فبالضرورة ألتقي بخالد خليفة الذي كانت تحرص هالا على تقديمه للجميع، واصفة إياه بمجنون الكتابة الذي يحمل همّ سوريا، ورأيت فيه يومها المبدع الحقيقي المقبل على الحياة بروح حرة يعب منها بإفراط في الأكل والشرب، مشبها في أعوامه الأخيرة شكل همنغواي كما وصفه خليل صويلح بشَعره الأشيب ولحيته الكثة ووجهه المدور، ومتقمصا روح زوربا البوهيمية التي لا ترتوي من الحياة.

ومع هذه الحياة التي تبدو فوضوية للناظر إليها من بعد، فقد كانت مكرسة للكتابة، فمنجزه الإبداعي غير قليل بدأه كاتبَ سيناريو، إذا غضضنا النظر عن روايته الأولى «حارس الخديعة» سنة 1993، إذ أنجز خمسة مسلسلات، ثم تألق روائيا في رائعته «مديح الكراهية» التي تناولت أحداث حماه الأليمة سنة 1982، ولم يكن مستغربا أن تُمنع في سوريا بلده، ويتعرض خالد إثرها لمضايقات بلغت أوجها يوم اعتُدي عليه جسديا، والمؤلم أن خالد رغم تنديده بالشمولية وقمع الحريات والاستبداد كان يعيش بين كفي كماشة: مضايقة نظام بلده له، ومطالبة المعارضة أن يتخذ مواقف أكثر جذرية، متناسين أنه فضل البقاء في سوريا متحملا لأجل ذلك أخطارا كبيرة قد تصل إلى تصفيته، لكن الموت كان أسرع فاختطفه وهو لم يبلغ الستين.

لم أستغرب حين اكتست وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك بالسواد لرحيل خالد خليفة، فرحيله فاجأ الكثير، بل حتى من كانوا على خلاف معه وهم قلة أبّنوه وحزنوا لفقده، فروح الطفل التي تسكن جوانحه تمحو كل خلاف أو اختلاف بينه وبين الآخرين. وكثيرون ذكروا أنهم كانوا على موعد معه في المكان الفلاني أو التاريخ العلاني، فقد كان يعيش حيوات في حياة واحدة، كتابةً وورشات وإقامات إبداعية ومقالات وكأنه استشعر عمره القصير فأنجز الكثير.

استضفته في برنامجي «نلتقي مع بروين» ورغم معرفتي السابقة والوطيدة به لاحظت أنه كان خجولا، مرتبكا قليلا، لكنه كان واضحا في التعبير عن أفكاره ممتلئا بمعرفته. وبعكس بعض من استضفتهم ممن يتنفسون نرجسية كان متواضعا شديد التواضع تغيب عن حديثه مفردة «الأنا» وما يدور في فلكها. مكتفٍ بذاته ليس نسخة مقلدة عن أيٍّ كان، قد يكون تأثر بكثيرين لكنه صهر تأثره بهم في بوتقة واحدة هي خالد خليفة. ولأنه يعرف قيمة نفسه تماما لم يكن يطلب لا لقاء تلفزيونيا ولا مقابلة صحافية، كما يفعل حتى من يراهم القارئ نجوما كبارا. إذ كان يترك موهبته تعلن عن نفسها فهي ليست بحاجة إلى واسطة أو استخدام نفوذ لتلمع، بل أذهب إلى القول إنه في أحيان كثيرة ظلم موهبته بعدم التسويق لها والإعلان عنها، ولعله كان يستشعر انطوائيته التي كان يغطيها بالصخب والتنقل ومخالطة كل الأطياف حين كتب «أنا شخص أجبن من أن أغادر بيتي وأكثر هشاشة، فكلما أخرج من البيت أنظر لأشيائه خلسة، وكأنها النظرة الأخيرة» لذلك استفرد به الموت وحده في بيته جالسا على أريكته وكأنهما كانا على موعد، ولعل خالد عرض على الموت التمهل قليلا وشرب فنجان قهوة مسائية مع بعض.

حمل خالد مدينته حلب في كتاباته وسيناريوهاته ومقالاته وأخيرا في لوحاته، فقد سكن دمشق لثلاثة عقود، لكن حلب سكنته إلى الأبد، وكأنه كان يخشى أن يلاقي مصير عبد اللطيف السالم البطل الميت في روايته «الموت عمل شاق» فرسم سيناريو في ما لو أراد هو أن يدفن في قريته التي ولد فيها، خاصة أن الموت عابثه من قبل في نوبته القلبية الأولى التي نجا منها. لذلك اعتبر نفسه ولد من جديد وكرس وقته لمنجزه الإبداعي، ولم يركن إلى النجاحات التي حققها من سيناريوهات مسلسلات ناجحة وورشات كتابية ملهمة وروايات حصدت جوائز وترجمت إلى لغات عالمية عدة، بل ضاقت به موهبة الرسم بالكلمات فالتفت إلى الرسم بالألوان، وبعكس ما كان يَفترض المقرّبون منه من أنّها نزوة وتزول، فقد كان جادا في مشروعه وأنجز قرابة الخمسين لوحة وبرمج لها معرضا فنيا غير أن الموت المفاجئ حرمنا من خالد خليفة الرسام لتبقى الرواية أثره الأبرز والأكمل فنيا.

منذ أن أجريت حواري التلفزيوني مع خالد لم ألتقه، معتقدة أن لقاءنا متيسّر ومتاح، أكتفي أحيانا بتعليق في صفحته فيسبوكية، ويكتفي هو بتحية مع صديقنا القريب الصحافي سيد محمود، تاركين للأقدار تحديد موعدنا المؤجل، وغافلين أن الغياب يتربص بنا ينتظر الفرصة السانحة ليختطف من نعتقد أن حضوره بإبداعه وصخبه وضحكته الطفولية وإقباله على الحياة عصي على الموت، لذلك لم أجد ما أعزي به نفسي في رحيلك سوى أن أقول لك – وسكاكين الفقد في مطبخ القلب – «سامحني!».

شاعرة وإعلامية من البحرين

————————-

خالد خليفة: سردية الاوديسا السورية المعاصرة/ عبد المنعم الشنتوف

رحل عن عالمنا الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة 1964 – 2023 أثر أزمة قلبية في منزله في العاصمة السورية دمشق. وعلى الرغم من أن الراحل لم يتجاوز التاسعة والخمسين، إلا أن سيرته تميزت بامتلاء وثراء لافتين للنظر، ويمكننا في هذا العرض أن نشدد على اختيارات رئيسية وجهت هذه السيرة، ويمكن اختزالها في إيمانه الراسخ بأن الاستبداد مرادف للموت والخراب واختيار الكتابة بوصفها فعل مقاومة وقرينة دالة على ولع بالحب والحياة.

مثلت تجربة خالد خليفة استثناء دالا في خريطة السرد العربي المعاصر، ولا يسعنا اختزال مسوغات هذا الاستثناء في الأسلوب السردي الذي اختطه لنفسه، أو في القضايا والثيمات والعوالم الممكنة التي سعى إلى التعبير عنها، إذ أن كثيرا من كتاب ومبدعي الأوديسا السورية المعاصرة يشتركون فيها، مع التشديد على فروق واختلافات يمكن للقراءة النقدية الواعية والحصيفة ان تخلص إليها.

راهن مبدع «مديح الكراهية» على زواج جميل بين الكتابة السردية والفرجة المشهدية، وأقصد هنا تخصيصا الدراما التلفزيونية والسينمائية، وقد تحددت الغاية الرئيسية في تخليص الكتابة الأدبية الروائية من نخبوية القراءة، وتوسيع دائرة التلقي والمقروئية. ويمكننا في هذا المعرض التنويه بحرص خالد خليفة على كتابة معظم أعماله باستثمار دال للفرجة الدرامية. شكلت كتابة السيناريو بالنسبة له والحالة هذه، فرصة لاستشراف هذه الغاية، وكانت المحصلة أعمالا درامية وسينمائية توزعت بين المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي والوثائقي، ونذكر من بينها «قوس قزح» و»سيرة ال الجلالي» و»العراب» و»ظل امرأة» و»هدوء نسبي».

لم يكن خالد خليفة على عجلة من أمره فيما يرتبط بمشروعه الإبداعي، وكانت روايته «مديح الكراهية» الصادرة عام 2006 عن دار أميسا للنشر والتوزيع تمثيلا دالا على ذلك. استغرقت كتابة هذه الرواية العجيبة والمثيرة ثلاثة عشر عاما. وعلى الرغم من كون هذه الرواية الثالثة في مسيرة الكاتب، بعد «حارس الخديعة» عام 1993 و»دفاتر القرباط» عام 2000 وأعقبتها ثلاث روايات أخرى «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013 و»الموت عمل شاق» 2016 و»لم يصل عليهم أحد» 2019، إلا ان حضورها القوي والثقيل هيمن على التجربة الإبداعية برمتها، وحجب وطمس القيمة الجمالية الحقيقية للأعمال الأخرى. يمكننا قراءة الفصول الأربعة لهذا العمل الاستثنائي بوصفها جدارية تتعاقب عليها حكايات ومصائر ذوات إنسانية تحيا في غمرة الصراع بين السلطة الحاكمة في سوريا وجماعة الإخوان المسلمين. وتخوض شخصيات الرواية، عمر وصفاء ومريم ومروة وخليل وبكر وعبد الله وزهرة، صراعا غير متكافئ مع السلطة القائمة بأجهزتها القمعية الرهيبة، وقدرتها على استئصال واجتثاث الحياة، وتجذير الهشاشة والخواء والتشوه. وعلى امتداد تطور وتنامي الأحداث وتعدد واختلاف الفضاءات بين دمشق وبيروت ولندن وأفغانستان وأقبية السجون والمستشفيات والمشارح، نشهد تقلص هامش الحب ولغاته وتعبيراته لصالح سطوة وهيمنة الكراهية: «أصبح الحقد عنقود عنب ناضج، يتدلى من دالية متروكة للعابرين. أرى حلب من خلف غطاء الوجه الأسود فتبدو لي مكانا لائقا للبحث عن الكراهية. امتدحها فتنتابني رعشة لذيذة».

    يمكننا في المحصلة الأخيرة القول إن الموت يمثل البوصلة التي تحدد اختيار الكتابة عند خالد خليفة. ولا تنفك النصوص الأخرى من قبيل «لم يصل عليهم أحد» و»لا سكاكين في مطبخ المدينة» عن ذلك؛ بحيث يمكننا اعتبارها تنويعات سردية على حكاية إطار عنوانها الرئيس الحرب والموت في سوريا، والاستبداد وتوابعه الكارثية.

تمثل الأعمال الروائية الأخرى لخالد خليفة تعبيرا عن عوالم تهيمن عليها القتامة والكوابيس، ويهيمن فيها العنف والموت، في أكثر صورها فظاعة. ويمكن اعتبارها والحالة هذه تأريخا سرديا للواقع السوري الراهن، الذي تمتزج فيه الكوميديا السوداء بجرعات ضافية من المأساة والعبث، وفضحا وإدانة لا لبس فيهما للآثار البغيضة للاستبداد على السيرة اليومية للذات الإنسانية، في المكان والتاريخ. تسعى رواية «الموت عمل شاق» في هذا السياق إلى تسليط الضوء على عبثية الوجود الإنساني، حين تروي تفاصيل المعاناة التي خبرها بلبل من أجل تنفيذ وصية أبيه، والقاضية بدفنه في مقبرة قريته العنابية في غمرة الحرب الأهلية الطاحنة التي عصفت بسوريا منذ 2012.

تمتلئ هذه الرواية ذات الكثافة المثيرة بمشاهد سردية مقززة وفظيعة عن الموت، ليس بوصفه نهاية طبيعية، وإنما باعتباره تتويجا لمسار من السحل والتنكيل بالكرامة الإنسانية. وفي بلاد تتماهى بالقائد ويسفر فيها طول العهد بالاستبداد عن تشوه في القيم والرؤية الى العالم، يتحول الموت بالضرورة إلى «عمل شاق». تستشرف رحلة بلبل الرهيبة في سعيه إلى تنفيذ وصية أبيه مستوى الكوميديا السوداء التي تتاخم حد السخرية الجارحة. يجد القارئ ذاته نهبا لمواقف وكوابيس مريعة: «قطعوا خمسين كيلومترا في أربع ساعات. عناصر الحواجز الثلاثة تساهلوا معهم حين رأوا الجثة منتفخة.. في الطريق بقايا المعارك واضحة للعيان. دبابات محطمة وسيارات محترقة، بقع دم متيبسة.. وفي البعيد تبدو بيوت أخرى محترقة وشوارع قرى صغيرة يتحرك فيها عدد قليل من البشر، أو الحيوانات، شبه مهجورة لا توحي حركتها الصباحية سوى بالموت والنزوح».

يمكننا في المحصلة الأخيرة القول إن الموت يمثل البوصلة التي تحدد اختيار الكتابة عند خالد خليفة. ولا تنفك النصوص الأخرى من قبيل «لم يصل عليهم أحد» و»لا سكاكين في مطبخ المدينة» عن ذلك؛ بحيث يمكننا اعتبارها تنويعات سردية على حكاية إطار عنوانها الرئيس الحرب والموت في سوريا، والاستبداد وتوابعه الكارثية. وإذا كانت جثة الأب الشخصية المحورية لرواية الموت عمل شاق، فإن جثة الأم تلقي بثقلها على دينامية السرد في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». يتحول الموت في هذه الرواية ذات العوالم الكابوسية إلى شخصية محورية تلقي وطأتها على دينامية الشخوص الأخرى، وتعيد تكييف الفضاءات مع ما يستدعيه من صور وتمثيلات: «ننتظر نهوض أمي من غيبوبتها، وتوقف هذيانها الدائم عن توابيت تعبر صالون منزلنا. تنثر رائحة الموت في كل الزوايا. تدعو بالحياة المديدة للرئيس الذي لا تصدق خديعة موته».

انتصر خالد خليفة للحرية بوصفها قيمة مناهضة وخصيمة للاستبداد، وقد بدا ذلك جليا في روايته «مديح الكراهية» التي صدرت في البداية في سوريا، قبل أن تقوم الرقابة بحظرها ويعيد الكاتب نشرها في بيروت عن دار الآداب العريقة. وكان انحيازه دون مواربة منذ بداية الربيع العربي في سوريا إلى الثورة، ودفاعه عن مبادئها وأهدافها تجسيدا جليا لذلك. بيد أن ما يحسب للكاتب الراحل إيثاره البقاء والعيش داخل سوريا عوض الإقامة في المنفى، خلافا لغيره من الكتاب والمبدعين السوريين، ممن التزموا بدورهم موقفا مؤيدا للثورة. لم يخف الكاتب الراحل ارتباطه العضوي بمحنة ونكبة بلده. وقد حرص على توثيقها إبداعيا في ارتباط بسيرة مسقط رأسه حلب. وإذا جاز لنا القول إن «النكبة السورية» قد أسهمت في ظهور تجارب متعددة في الكتابة الأدبية، سعت إلى استثمارها وتوظيفها. ونذكر على سبيل التمثيل نبيل سليمان وديمة ونوس وشهلا العجيلي وسومر شحادة ومها حسن ونهاد سيريس وشادية الأتاسي وغسان جباعي ورباب هلال وعبدالله مكسور. بيد أن اللافت للانتباه في هذا الخصوص التفاوت الكبير في ما يهم القيمة الجمالية والمعرفية، علاوة على سطوة منطق التعاطي الانطباعي الساذج مع حدث الحرب. ولا ننسى في الآن نفسه الحضور اللافت للرؤية النفعية في الكثير من هذه التجارب، التي تولي أهمية أوفر للحضور في سوق الأدب العربي المترجم إلى لغات أجنبية. وأعتقد في ما يهمني ومن خلال مصاحبتي لكل ما كتبه خالد خليفة من نصوص روائية، حرصه على استبطان الجذور التاريخية والثقافية ووصل أسبابها ليس بالشروط المباشرة والمحايثة للراهن الدموي الرهيب الذي تنوء سوريا تحت وطأته، وإنما بذهنية الواحدية وثقافة الإجماع وتقديس وتأليه الفرد الحاكم.

كاتب ومترجم مغربي

————————–

وصيّة خالد خليفة/ علي المقري

ذهبنا في باريس إلى قاعة لنبكي خالد خليفة فوجدناه يضحك علينا، أو هكذا تخيّلناه ونحن نستعيد أيّامنا معه، مرحه ورفقته الحميمة وصموده النادر في الحياة.

فليلة السبت الماضي كان لنا لقاء لاستعادة الخال، كما يناديه أصدقاؤه، لتثبيته في الذاكرة، على الصورة التي ألفناها منه. فتحدّث البعض عن ذكرياته كفرد من العائلة، وهي عائلة بدت كبيرة بحجم سوريا، التي لم يشأ أن يغادرها إلاليعود إليها.

في جزء من فيلم سينمائي قيد الإنجاز، عُرض في اللقاء، وصف خالد مدينته بـ “المظلمة” و”المفخّخة” لكنّه قال إنّه لن يغادرها.

كان يظن أن الذين غادروا سوريا إلى المنافي لديهم الشجاعة الكافية لعمل ذلك. هو لم يمتلك هذه الشجاعة، كما ردّد في معظم اللقاءات، لأنّه غير قادر على الابتعاد عن غرفته وسريره وأشيائه الخاصّة.

أراد خالد أن يقول إن الكاتب ابن بيئته وهي مصدر هواجسه الإبداعية ولن يستطيع أن ينجز ما هو أهم إذا ابتعد عن قصص بلده التي سمعها وقرأها وعاش فيها.

في كتابه الأخير “نسرٌ على الطاولة المجاورة/ دفاتر العزلة والكتابة/ الدفتر الأوّل” يتحدث خالد عن اشتراطات يراها مهمّة لعمل الكاتب بعضها شروحات وملاحظات مألوفة كتنظيم الوقت واقتناء الفكرة والمثابرة على الجلوس أمام الطاولة وعلاقة الكاتب بمحيطه العائلي والاجتماعي، إلا أنّ أهم ما يمكن ملاحظته في الكتاب هو حرص خالد خليفة على تحديد علاقة المستبدّ بالكاتب، فيقول إنّ “المستبدّ يحبّ أشباه الكتّاب، لأنّهم يدورون في فلك لغته التي غالبا ما تكون إنشائيّة، خطابية، لا قيمة إبداعيّة لها، تمنحه قوّة وهميّة، ليقودهم بعيدا عن الحقيقة”. وهؤلاء (الأشباه) “يكرّسون طريقة تفكير المستبدّ”، الذي “يمنحهم مرجعيّة واحدة للكتابة، وطريقة واحدة للتفكير”، فيتماهون “في مفرداته، ويساهمون في إنتاج ثقافة تشبههم وتشبهه”. وفي الوقت ذاته “يكره المستبدّ الكتّاب لأنّهم يجعلونه يحسّ بعجزه عن التعبير، واستحالة تدجينهم بمؤسساته، يدمّرون لغته بقوّة سردهم، ويفضحون منظومته وهشاشتها وعدم صمودها أمام امتحان التاريخ”، فهو “يكره الكتّاب لأنّهم يحطّمون سرديته وتماثيله”.

وإذ يقول خالد إنّ الكتّاب حين يشرحون مهنتهم “يبدون كلاعبي أكروبات في سيرك، يستجدون تعاطفا من جمهور لا يفقه شيئا في السيرك وقوانين التوازن”، إلا أنه في تدوينه لهذه الملاحظات عن الكتابة يقدّم لنا خبرته الكتابية في أوج اكتمالها.

فيبدو هذا الكتاب للقارئ وكأنّه الوصيّة الأخيرة لابن سوريا التي سرد حكاياتها ولم يتراجع عن إعلان موقفه من مجمل تحولاتها.

أتذكّر آراءه الشجاعة في لقائي الأوّل معه، في مهرجان الأدب العالمي في برلين عام 2009، ثم رسالته التي وجّهها في بداية فبراير/ شباط 2012 لزملائه الكتّاب والصحافيين في كلّ أنحاء العالم والتي يعبّر فيها عن اليتم الذي يشعر به السوريون أمام “العمى الذي أصاب العالم” بتشجيعه “النظام على تصفية الثورة السلمية في سوريا”، وإثر ذلك أُعتقل بعد أشهر في أثناء تشييع جنازة أحد قتلى الثورة.

لم يُنس خالد على صورته هذه، وقد أذهلتني اللافتات التي تحمل اسمه في الانتفاضات الأخيرة، كتحيّة له، أذهلني التصفيق الذي صاحب نزول جثمانه إلى القبر مع نشيج بكاء لفقد عزيز من قبل كلّ الذين حضروا في حياته.

لقد بدا خالد خليفة (59 عاما) في سنواته الأخيرة مكتملا، فصار يكتب رواية كلّ سنتين، أو ثلاث، ويذهب لإقامات أدبية عالمية ولديه وكيلة أدبية تنسّق ترجمات رواياته إلى مختلف لغات العالم، كما حظي بالتقدير بصفته كاتبا محترفا ومثابرا، لكنّه بقي في المقابل يكابد وجع بلده، بالرغم من الأمل المبثوث في كلماته وسهراته المبهجة مع رفقاء الأيّام، فمع قسوة الاستبداد لا يكتمل الكاتب إلاّ ليموت، يموت كمدا.

————————

=======================

====================

تحديث 08 تشرين الأول 2023

—————————

خالد خليفة : فعل كل ما أراد فعله ونجح به حتى في موته/ فؤاد م.فؤاد

لم يعمل في مهنة ولم يلتزم بعائلة ولا بحزب أو عقيدة ولابحبّ. حتى الصداقة عاش متخففاً منها، وأزعم أنه ترك للآخرين أن يصادقوه. لم يكتف بصديق أو خمسة أو مئة، تركهم يتكاثرون حتى صاروا عشرات الألوف في كل مكان، وبقي هو مخلصاً لذاته، ولوحدته.

حين عرفت خالد خليفة أول مرة كان عمره 19 سنة. كان اسمه خالد عبد الرزاق، يكتب الشعر وفي سنته الأولى في كلية الحقوق في جامعة حلب.

السنوات الستة اللاحقة التي أنهى فيها دراسته الجامعية، وخدمته الإلزامية في الشرطة العسكرية في دمشق، هي كل السنوات التي أُجبر فيها خالد على فعل أمر ما، بعد ذلك لم يفعل إلا ما أراد فعله.

عاش خالد ماتبقى من عمره متحرراً من أي عبء ومن أي التزام

لم يعمل في مهنة

ولم يلتزم بعائلة

ولا بحزب أو عقيدة

ولابحبّ

حتى الصداقة عاش متخففاً منها – أزعم-

ترك للآخرين أن يصادقوه. لم يكتف بصديق أو خمسة أو مئة، تركهم يتكاثرون حتى صاروا عشرات الألوف في كل مكان، وبقي هو مخلصاً لذاته، ولوحدته.

جرّب الشعر أول الأمر، ولم يجد فيه مايستهويه

كتب “حارس الخديعة” روايته الأولى، ثم أتبعها بـ”دفاتر القرباط” وحين اكتشف أنهما لم يمنحانه ما أراد، رماهما جانباً دونما تردد، وبدأ يبحث من جديد عن مساحة أخرى تروي عطشه.

رحل إلى دمشق وهناك قرر أن يخوض تجربة الكتابة للتلفزيون (الموضة الرائجة وقتها لدى كل من رحل من الكتاب الشباب إلى دمشق)، الصدفة التي قادته للتعرف على المخرج هيثم حقي ومن ثم النجاح الساحق (كما الكثير من الأعمال التلفزيونية حينها في سوريا) الذي لاقاه المسلسل وخالد، غمر روحه وحياته بالكثير من المتعة والحرية التي كان يبحث عنها، فقرر الانغماس فيها كلياً.

المتعة الصرفة في حياة السهر والشرب والتدخين وأجواء التمثيل، نساء وأضواء وشهرة نمت بسرعة كبيرة، وأصدقاء أكثر، وسهر أطول، وشرب اكثر، وانغماس اكثر، وأصدقاء، و”قصبجي” ومقاهٍ، وبارات، وأصدقاء ليل، وأصدقاء نهار، ومسلسلات أخرى، وشهرة أكبر…

بدا وكأن خالد وصل إلى مايريد ونجح به.

كان يمكن أن تنتهي الحكاية هنا،

لكن خالد أرادها أكثر تحدياً، فعاد للرواية، وصار يعتبر أن العمل للتلفزيون مجرد “أكل عيش” وأن شغفه هو الرواية وأنه روائي وليس كاتب مسلسلات.

في تلك الفترة تعرف في حلب إلى المرأة التي ألهمته “مديح الكراهية”. المرأة التي اعتُقلت في ذروة الصراع بين الإخوان المسلمين والسلطة في سوريا. المراهقة التي سُجنت “رهينة” عن أحد أفراد أسرتها “الإخوانية” والتقت في سجن “صيدنايا” بمعتقلات “رابطة العمل الشيوعي” والتحولات التي عاشتها لاحقاً.

سمع خالد قصتها وقصة عائلتها، وعاش معها طويلاً حتى أصبحت قصته ولاحقاً روايته فكتبها.

نُشرت “مديح الكراهية” في العام 2006 ، ومع أنه أشار في روايته إلى “الطائفة الأخرى” تجنباً لأن يذكر العلويين بالأسم، فإن هذه التقية لم تمنع من منع الرواية من التداول في سوريا.

وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة في بوكر العربية. وكان من الممكن أن تنتهي الحكاية هنا أيضاً لكن الحياة الثانية التي عاشتها الرواية بدأتْ ما أن اندلعتْ الثورة في سوريا حيث تحولت الرواية إلى أيقونة وتُرجمتْ ثم تُرجمتْ ثم تُرجمتْ وصارت عنواناً لما يحدث في سوريا لدى كثير من الصحفيين والمراسلين.

الحرب التي كرهها خالد لأنها أخذت منه دمشق التي يعرفها وغيرتْ من إيقاع حياته وضيقت عليه عالمه الذي تآلفه وارتاح إليه، واجهها بما يجيد فعله دائماً: أن لا يُفرض عليه خيار. أن يعود إلى دمشق كلما خرج منها مدعواً إلى معرض كتاب أو مشاركاً في ندوة أو مقيماً ابداعياً، وأن يصر على هذه العودة ويعلنها.

لكن المتعة صارتْ أقل، والحياة شاقة.

الذي بقي، كان اصرارُ خالد أن يعيش كما يريد.

ضاق السهر، لكنه مازال متاحاً، والأصدقاء موجودون في كل مكان، بما فيه دمشق الضيقة واللاذقية التي كانت ملجأ ً بين الحين والآخر،

والرواية وشهرته عبرها لم تعد تمنح متعة إضافية فقرر أن يرسم وأن يطبخ وأن يأكل أكثر.

الأزمة القلبية الأولى التي مرّ بها منذ سنوات هي الأخرى لم تفرض عليه حياة مختلفة. كان لايزال يعاند ويلحق خياراته هو . كان يريد أن يصل إلى الموت بطريقته، وأن يبرهن على عكس ما أشاع، أن الموت عمل سهل.

درج

———————-

لماذا موت خالد خليفة فجيعة؟/ يوسف بزي

باب كثيرة كان تعبير الفجيعة واسعاً وكبيراً مع خبر موت الروائي خالد خليفة. أظن أهمها هو فائض الحياة الذي كانه هذا الكائن الممتلئ حبوراً وحيوية. “انقصف” خالد خليفة في عز حضوره، في ذروته.

فجيعتنا به أن موته أتى تماماً كفصل صادم من رواياته، المفعمة بالتراجيديا والقسوة. بل بدا موته الغادر تذكيراً فاجراً بالمأساة السورية. ولذا، شعرنا بالرعب على نحو يفوق الحزن لحظة ذيوع خبر موته. رعب تلاشي كل شيء وخسارة أعمارنا عبثاً.

حياة خالد وموته، ليسا شخصيين. والحزن بفراقه لم يكن شخصياً فقط. نحن أمام كتابة سوريا ونصها وصوتها، سوريا الحقيقية والمتخيلة، عبر جيل بأكمله بدا أن خليفة ممثله الشرعي البارز.

في سوريا حافظ الأسد، كان هناك “ثورة” خفية عجز النظام عن قمعها أو إماتتها. فبعد مذابح مطالع الثمانينات واغتيال آخر ما تبقى من “سياسة”، كان مسرح الثقافة والأدب والفن مهيئاً على نحو مدهش ليقود المقاومة ضد الأسدية والبعثية، اللذين ما عاد بيدهما إلا خطاب الأمن والزنزانة. وكان واضحاً أن الثقافة البعثية تموت. لم تعد تنتج شيئاً يعتد به.

كان التمرد يشبه كثيراً “ثقافة الانشقاق” التي عرفتها دول المعسكر الاشتراكي والسوفياتي. أي الخروج على أدب السلطة وأيديولوجيتها. لكن مع فارق أن النظام السوري حينها لم يكن متنبهاً كفاية لـ”خطورة” التجريب الأدبي أو الفني. وهذا ما سيسمح هناك في حلب، بنشوء الملتقى الأدبي لجامعة حلب، الذي لعب محمد جمال باروت دوراً تأسيسياً له، لتنطلق الشرارة مع مجموعة شبان: فؤاد محمد فؤاد، خالد خليفة، لقمان ديركي، حسين بن حمزة، نجم الدين سمان، عبد اللطيف خطاب، عبد السلام حلوم، عمر قدور، أليف مسوح.. هؤلاء حسب اللقب الذي أطلقه باروت عليهم، “الأنبياء الصغار”، سيشكلون ظاهرة شعرية أدبية تفترق عن الجيل السابق.

في دمشق أيضاً، ستتبلور أكثر تأثيرات مجموعة حلب، وستجد منبرها الأبرز في مجلة “ألف” التي أصدرها سحبان سواح، بالتعاون مع أحمد معلا، أحمد اسكندر سليمان، محمود السيد.

وسيظهر شعراء وكتّاب من أمثال عابد اسماعيل ونبيل صالح وحكم البابا وأكرم القطريب وخليل صويلح وطه خليل، وإلى جانبهم ممدوح عزام وروزا ياسين حسن ورشا عمران (وعذراً إن نسينا أسماء أخرى). بل وسيعاد اكتشاف وتقدير الشعراء منذر مصري وبندر عبد الحميد وعادل محمود ونوري الجراح.

كانت مقاهي دمشق، الروضة والهافانا وبرازيليا، تعج بالفنانين التشيكليين الجدد والروائيين والمسرحيين والشعراء، والصحافيين.

لم يكن الأمر مقتصراً على هؤلاء. يمكن الانتباه مثلاً للخميرة اليسارية المعارضة التي كانت -للمفارقة- متمكنة في وزارة الثقافة نفسها، بوجود بطاركة كبار أمثال أنطون مقدسي، الذي شجع على توسيع حرية الكتابة والنشر. كما أن الوزارة، ضمت أفضل جيل سينمائي على الإطلاق مع محمد ملص وأسامة محمد وعمر أميرالاي وعبداللطيف عبد الحميد. عدا عن إصدار أهم المجلات المختصة في العالم العربي بمجالات السينما والفن التشكيلي والمسرح.

إلى جانب وجود قامة سعدالله ونوس، كان فواز الساجر، وفايز قزق وغسان مسعود وبسام كوسا وحلا عمران وأمل عمران.. ولا ننسى أدوار حنان قصاب حسن وماري الياس في الكتابة والنقد والتدريس، لتكوين العصر الذهبي للمسرح السوري التجريبي والطليعي.

بدا أن الفن التشكيلي أيضاً سيخرج من الصالات الرسمية. وستؤسس منى الأتاسي الغاليري الأهم لتقديم الفنانيين التشيكليين الجدد والمخضرمين.

عاصفة ثقافية على امتداد التسعينات منعت التصحر البعثي. وكان خالد خليفة نموذجاً للكاتب السوري الجديد. بل كان أحد أقوى بروق هذه العاصفة. مزيج من زوربا وهمنغواي، يريد الحياة دفعة واحدة، عريضة وليست طويلة. أقبل بنهم على العيش وقرر الإخلاص فقط لمهنة الكتابة. كان سر نجاحه أدراكه سريعاً أنه ليس شاعراً. تخلى عن قصائده واندفع إلى الرواية. وأيضاً، عرف فوراً سوء روايته الأولى، وضعف الثانية. نادراً ما يستطيع كاتب أن ينقد أعماله بهذه القسوة، ويتخطاها.

وبمعنى أوضح، وضع خالد خليفة مشروعه الروائي، كما روائيي جيله (خليل صويلح، مها حسن، سمر يزبك..)، كطموح لتخطي هاني الراهب ووليد إخلاصي وحيد حيدر وحنا مينا. وسيكون الأقدر على ذلك بالنظر إلى نجاحه عربياً، وعالمياً.

أيضاً، وعلى عكس ما أصاب الثقافة العراقية في زمن صدام حسين من عزلة بالغة الأذى، كان مثقفو دمشق وفنانوها ومبدعوها بالغي الانشداد إلى الخارج، إلى الصلة بالعالم، أولاً عبر بوابة بيروت وأرصفتها وصحفها ومجلاتها ومسارحها.. على نحو مصيري وبوعي جوهري لمعنى الاعتراض على التسلط في العاصمتين، وعلى مطلب الحرية.

ربما لهذا السبب، لم يغادر خالد خليفة دمشق. كانت لديه مهمة البرهان أن الحرية لا تزال ممكنة هنا..

المدن

——————-

ليس رثاء لخالد خليفة/ رشا عمران

كان لافتا في الرحيل المفاجئ والصادم للروائي والسيناريست السوري خالد خليفة، قبل أيام، أنه جمع المختلفين في المواقف السياسية حوله، ذلك أن كلمات الرثاء والحزن عليه فاضت على صفحات التواصل الاجتماعي، ومن جميع من عرف خالد من السوريين والعرب والعالم. حتى أن صحفا كبرى في العالم نعته في صفحاتها الأولى (وحده الإعلام السوري الرسمي تجاهل الخبر تماما، لحسن حظ الراحل). هذا الإجماع اللافت على نعيه، على الأقل الإجماع السوري، لم يكن فقط لأنه أحد أهم الروائيين والكتّاب السوريين حاليا، بل لأنه تمتّع بشخصية فريدة جاذبة، فيها من طاقة على العيش والحياة والفرح ما جعل من فكرة موته مُلغاة تماما، إذ كيف لكل هذه الحياة الضاجّة والحاضرة أن تنهيها خلال ثانية واحدة هي أصغر بكثير من حجم بعوضة تافهة؟ هكذا فجأة وجدنا أنفسنا جميعا، نحن أصدقاء خالد ومعارفه ومحبّيه، أمام مواجهة حقيقة موته المباغت، فكيف لنا أن نصدّق هذا الموت وكيف لنا أن لا نكتب لخالد عن محبّتنا له وعن صدمتنا بما فعله بنا؟

لم يكن حضور خالد خليفة في المشهد الثقافي السوري عاديا، فهو منذ روايته الأولى “دفاتر القرباط” (1993)، سجّل حضورا راسخا في الثقافة السورية، تعزّزت عندما دخل عالم السيناريو، حين كان الإنتاج الدرامي السوري في قمّة صعوده، حيث حظي مسلسل “سيرة آل الجلالي” (إخراج هيثم حقّي عام 2000)، بنجاح هائل عند عرضه. وثبت أقدام خليفة في عالم الكتابة الدرامية، حيث تابع بعدها الكتابة للدراما بالتزامن مع إنتاجه الروائي الذي تبلور تماما مع روايته “مديح الكراهية” عام 2006، ليكرّس بعدها أحد أهم الروائيين السوريين الشباب، وتبدأ مسيرته في الشهرة والانتشار والجوائز والترجمة للغات عديدة.

جعلته كتابتُه الدراما والرواية معا حاضرا بقوة في المشهدين الفني والثقافي السوري (لا يمكن فصل الوسط الفني عن الثقافي في سورية، حيث كانت ما تسمّى شريحة المثقفين تضم العاملين في كل أنواع الفنون والكتابة)، وجعلته صديقا لمعظم صنّاع الدراما السورية ولغالبية الكتاب والصحافيين والمثقّفين السوريين. وفي عام 2011، عندما بدأت الثورة السورية، كان خالد خليفة من أول مناصريها، وفتح بيته لاستقبال الشباب الهاربين من الملاحقات الأمنية إثر مشاركاتهم في المظاهرات. وشارك في كل الاحتجاجات المدنيّة. وعندما خرجنا جميعا من سورية، لسبب أو لآخر، رفض هو الخروج، لكنه احتفظ بقدرته على الحركة داخل سورية وخارجها، متكئا على شهرته كاتبا بات معروفا في كل العالم تقريبا. لم يجعله بقاؤه في سورية يتراجع عن قول الحق، بل ظلّ شجاعا وجريئا في حواراته المتعلقة بالثورة السورية وبالنظام؛ وظل محتفظا بودٍّ هائل لجميع أصدقائه الذين خرجوا من سورية، فلم يشتمهم كما فعل كثر غيره ممن لم يغادروها، ولم يتاجر ببقائه فيها، ولم يحمّل من غادروا مسؤولية ما حدث. ظل خالد محتفظا بمحبّته جميع من خرجوا (معظمهم أصدقاؤه)، مانحا لهم الأعذار والمبرّرات. احتفظ بتواصله معهم في كل مكان في العالم؛ في الوقت نفسه. فرض عليه بقاؤه في سورية الاحتفاظ بصداقاتٍ حتى مع المختلفين سياسيا عنه، وهذه ضريبةٌ يجب دفعها في الخيارات الصعبة، ويجب أن تكون بديهيةً لدى من يملك عقلا موضوعيا في رؤية ما يحدث في سورية.

هذه الظروف التي أحاطت بخالد خليفة، بالإضافة إلى طبيعة سماحته ورحابته وقلبه المحبّ المفتوح للجميع، انتماء سوري يرى في الجميع أبناء وطن واحد، وشجاعة نادرة في قول الحقّ وهو في قلب الخطر، وتاريخ طويل من العلاقات الإنسانية مع معظم المختلفين سياسيا في الداخل والخارج، بالإضافة إلى شخصيّته الدمثة الودودة الشغوفة بالحياة والنهمة للفرح، رغم كل المآسي والكوارث، وروحه الحرّة التي لم تقربها الضغينة يوما، وتواضعه الشديد وبساطته في التعامل مع الجميع، رغم شهرته وثقافته التي لم تكن يوما مدعاة للتشاوف والاستعراض؛ تلك الظروف كلها جمعت كل المختلفين سياسيا حول رحيله، إجماع غير مسبوق في الحالة السورية، ذلك أن لا أحد ممن سبقوه في الرحيل ملك هذه الصفات الاستثنائية: الشجاعة والحبّ والشهرة والتواضع والتسامح. هذه صفاتٌ محض خاصة لا تملكها إلا شخصية نادرة، ليست ملائكية ولا أسطورية حتما، لكن منبع سلوكها بالكامل هو الحبّ فقط.

العربي الجديد

——————–

لماذا بكى السوريّون خالد خليفة؟/ مريم مشتاوي

منذ أيام حلمت بأني أمشي بين مدافن كثيرة، وأنا أبحث عن قبر بعيد أزينه بباقة من ورود زهرية اللون. كان القبر لشخص غال. ولكني لم أعرفه.

أذكر مشاعري جيداً. كنت حزينة. حزينة جداً. أذكر أني كنت أبكيه بكاء الأطفال. بكيته حتى تدفقت خمس شلالات من الدموع من أصابع يدي اليمنى. ومع ذلك بقي وجهه غائباً. حاولت أن أستجمع تفاصيله وأن ألتقط القليل من ملامحه، لكن جهودي جميعها باءت بالفشل. ففي لحظات الفقد الكبرى قد تنام الوجوه، ربما لتستيقظ المحبة.

كانت طريق الوداع إليه مرهقة شاقة. استيقظت وأنا أتساءل لماذا يطاردني موت الأحباء، حتى في مناماتي. وقلت في نفسي ربما أمي تندهني لزيارة قبرها. لقد تأخرت عليها. وأدرك ذلك تماماً. فأنا أخشى بشدة مواجهة موتها من جديد. لكنها لم تكن أمي، هي تعرف كل المعرفة أني قد أقوى على كل شيء إلا على موتها.

تناسيت الحلم ودخلت فيسبوك لأجد رسالة من صديقي الروائي خالد خليفة. رسالة من ثلاث كلمات يليها قلب بلون زهري. قرأت رسالته وابتسمت، لأنها مثله بيضاء وناصعة، وشفافة، وطيبة، ودافئة. وهل يمكن للـ«خال» أن ينثر سوى ما اعتدنا عليه من ضوء ومحبة وفرحة واهتمام؟

مرت ساعات قليلة بعدها ورن الهاتف. كان صديقا مقربا لي أثق به أشد الثقة، وهو أيضاً صحافي مخضرم:

ألو مريم.. مات خالد!

أجبته: مين خالد؟ فقد اعتادت ذاكرتي أن تسقط اللغة بمفرداتها ومعانيها في لحظات الوجع الكبرى.

أجابني: خالد خليفة.. صديقنا.

اعتقدت أنه يمزح مزحة مُرّة ثقيلة. مزحة لا تليق به ولا بمقامه، ثم عاودت السؤال مرة ثانية، ظناً مني أن خالدنا لن يموت الآن – «بكير كتير» – ولا بد أن يكون هناك خالدٌ آخر أكثر قرباً من الموت: عن أي خالد خليفة تتكلم؟

قال لي بصوت جاد وحاسم، وغير قابل للمساومة: خالد خليفة الروائي.

أغلقت الهاتف بسرعة لأفتح فيسبوك علني أجد منشوراً يكذب الخبر. لكنني صدمت أن فيسبوك كله، ومن دون مبالغة، رسائل وداع، وتعزية ودموع وذكريات. رسائل تحاكي الخال وتنعيه وتطالبه بالعودة. مئات المنشورات ومئات التعليقات.

وقعت عيني على منشور لراتب شعبو، كتب فيه: «كنت أشعر أن وجوده يسند قلبي. هذا الجمع الساحر بين علو مكانته الأدبية وحضوره الشعبي الودود الظاهر في المسلك، والملبس، والوجه، والابتسامة. له سحر غريب في النفس.»

ومنشور آخر لبيسان الشيخ: «ننجو من الحرب ولا ننجو من ذاتنا. نرحل فرادى بغصة قلب بفائض حب أو قهر أو كراهية. سنصلي لك أو عليك نحن الذين لا نقرب الصلاة إلا ونحن سكارى. سنصلي.»

أما أماني عقل فقد دونت: «خالد خليفة مات قهراً.. هو الروائي، الذي عاش أزمة سوريا وعنفها ونزيفها».

كما كتب أحمد كامل: «عدد أصدقاء خالد كبير إلى درجة تجعلك تظن أن كل الشعب السوري أصدقاء حميمين له. صداقته سهلة، لدرجة أنها لا تحتاج إلا لدقائق وأحياناً ثوان، لتولد، ولا تموت بعدها أبداً. صدق وتواضع وبساطة خالد خليفة تجعلك تتكلم أمامه على سجيتك، لكن عندما تجد نفسك في شخوص روايته تصبح حذراً، فهذا الرجل خطير. إنه ينفذ إلى روحك وأعماقك بسهولة».

قضيت الليل وأنا أتابع فيضاً من المنشورات غصت فيها مواقع التواصل الاجتماعي كلها كتبت بالدموع والحرقة. هكذا تبادل رواد فيسبوك صور خالد ليستحيل العالم العربي الأزرق وجهاً واحداً موحداً هو وجهه.

يا الله يا خالد كيف ترحل قبل أن نلتقي. قرأت كل رسائلك عدة مرات وكأني أبحث فيها عن نبض ما يعيدك إلينا. فذلك القلب الذي يشبه الربيع في تفاصيله، يضج بالفرح، والنشاط، والدفء. هو قلب عصي على الموت.

عدت إلى صورك على فيسبوك وأنا أفكر في أمر واحد: لا يمكن أن يكون هذا الوجه الذي أجمع على حبه كل السوريين والعرب، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والدينية والقبلية والمنطقية إلا أن يكون انعكاساً للمحبة الصافية. من يرى وجهك يعرف أنه لن يتكرر. إنه وجه من نور. هل تعرف بأنك وحدت أوجاعنا حين قلت إن الموت عمل شاق؟

نعم تذكرت كلماتك، وأنا أمشي خلف تابوت أمي. أتذكر كلماتك الآن وأنا أشعر بالعجز أمام رحيلك. وسأعيشها في كل مرة أشعر فيها بالهزيمة أمام باقة الورود الزهرية، التي لا أعرف كيف أوصلها إلى مثواك الأخير. سأكررها في كل مرة أبحث عن قلبك الزهري الأخير، الذي تركته لي قبل أن ترحل. فبين ورودي وقلبك درب واحد «شاق» قد «يزهر» يوماً ما بفعل المحبة.

خالد خليفة، لم يكن مجرد كاتب، بل هو رمز للتفاؤل والثقة في الإنسانية. برحيله يخفت صوت من أصوات الأمل والتغيير القليلة في زمن الصراعات والأزمات. نعم لقد تمكن من أن يلهم الكثيرين. فهو آمن بقوة الأدب والفن في إنصاف الإنسانية.

رحيل خالد خليفة خسارة كبيرة للأدب والثقافة، ولكن إرثه سيبقى حيًا. ستبقى رواياته وأفكاره وذكرياته خالدة بيننا، وستستمر في إلهام الأجيال القادمة.

كاتبة لبنانية

القدس العربي

—————–

خالد خليفة الروائي الذي حلم بمطابخ من غير سكاكين/ فاروق يوسف

الكتابة أوّلا عند خالد خليفة الذي كان كمَن يفاجئ نفسه بوقائع وشخصيات لم يفكر بها قبل أن تقع أو تحضر.

هو الذي رسم خرائط للألم

قبل سنتين اتصل بي صديقي الشاعر بشير البكر وأخبرني أنهم ينتظروني في “بايلوت”، الحانة التي لا تبعد عن بيتي أكثر من عشرين مترا. قال لي “أنا وصموئيل شمعون وخالد خليفة في انتظارك”. ولأني كنت في فترة نقاهة بعد أن أجريت عملية لعيني فقد اعتذرت. اليوم أشعر بندم شديد لأنني لن أرى الروائي السوري خالد خليفة مرة أخرى لأن الموت خطفه.

يسخر المرء أحيانا من الموت فيعتبره “عملا شاقا” حسب تعبير خليفة، ولكن تلك السخرية المريرة لا تغيّر في المعادلات شيئا. سيكون علينا أن نعترف أنّ ما نعرفه عن الحياة أقل ممّا نعرفه عن الموت بالرغم من أننا لا نعرف شيئا عن الموت.

في مقاومة العدم

بوكس

عاش خالد خليفة سنوات في توقع موته في مدينة مهددة بأن تختفي. أما لماذا لم يغادرها وهو الذي كان يتنقل بين بلاد الدنيا فلأنه يُشبّه نفسه بالسمكة التي إن أُخرجت من المياه تموت ودمشق هي مياهه.

“لا سكاكين في مطابخ المدينة” روايته التي نال بسببها جائزة نجيب محفوظ. كان يمنّي النفس فيها ألاّ تكون هناك سكاكين.

ولكنّ شيئا من فكاهته لم ينتقل إلى الواقع. كانت هناك دائما فكاهة سوداء حسب تعبير السرياليين هي ما صنعت طابعا لسخريتهم التي غالبا ما تنتهي بالموت. وما من موت سعيد بالنسبة إلى سوري مرهف وحساس ومتعفف مثل خالد خليفة.

“ما الذي يفعله الفنان في الأوقات العصيبة؟” كان الجواب بالنسبة إلى روائي مثل خليفة هو مزيج من المرئيات والمرويات والذكريات والأوهام والكوابيس التي لا تغادر الأسرة. لقد فوجئ السوريون بما انتهوا إليه من حياة شبحية. كان خالد خليفة يمد يده إلى الغبار ليصنع منه حياة لأناس سبق له أن شاركهم لعبتهم في مقاومة العدم.

قال كلمته ومضى

ولد خالد خليفة عام 1964 في قرية أورم الصغرى بحلب شمالي سوريا. عام 1988 أنهى دراسته للحقوق في جامعة دمشق غير أنه اختط لنفسه مسارا مهنيا مختلفا حين اتجه إلى الأدب. وكانت روايته “حارس الخديعة” التي صدرت عام 1993 أولى خطواته في ذلك المسار. شهد عام 2000 بداية موازية لخليفة حين اتجه إلى كتابة الدراما التلفزيونية وهو المجال الذي انفتح فيه الكاتب على الجمهور الواسع. كان عمله التلفزيوني الأول هو “سيرة آل الجلالي”. وفي تلك السنة نشر روايته الثانية “دفاتر القرباط”.

عام 2006 نشر روايته “مديح الكراهية” التي تناول فيها التاريخ السياسي بين عقدي السبعينات والثمانينات. وهي الرواية التي تم منعها من التداول بعد أشهر قليلة من صدورها.

أما روايته الأشهر “لا سكاكين في مطابخ المدينة” فقد صدرت عام 2013. في سنة صدورها نالت الرواية جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة.

بعدها كتب “الموت عمل شاق” وهي حديث طويل عن الموت المجاني الذي صار السوريون يعيشون فصوله بسبب الحرب الداخلية. ليكمله في روايته الأخيرة “لم يصلّ عليهم أحد” التي صدرت عام 2019.

من الأعمال الدرامية التي كتبها خليفة نذكر “ظل امرأة” عام 2007 و”العرّاب” عام 2016.

في صنيعه الأدبي أجاب على واحد من أكثر الأسئلة التي تتعلق بالالتزام تعقيدا “ما الذي يفعله الأدب في الأوقات العصيبة؟”.

سيُقال إنه قال كلمته ومضى. وكلمته تلك انبعثت من الحياة الحية المباشرة ولم يتم استيرادها من الخارج. عاش خليفة فصول الحرب كلها  بكل تفاصيلها. لم يغادر سوريا من غير عودة. زار حلب بعد أن دُمّرت بعد أن كان ممتنعا عن مشاهدة مقاطع الفيديو والصور التي يتم بثها طوال الوقت والتي توثق الدمار الذي لحق بالمدينة. قال “كل أماكن طفولتي دُمّرت أو كادت تُدمّر. بعد عودتي إلى منزلي في اللاذقية بقيت لأكثر من أربعة أيام أبكي”.

الأدب مهنة شاقة

“أنا أعرف السجن من غير أن أدخله كأصدقائي الذين انتظرتهم”. يقول خليفة وهو يشير إلى حقائق جارحة في حياته وهي الحقائق التي استلهم منها موضوعاته الروائية ولا أقول حكاياته بالرغم من أن رواياته تميزت بطابع حكائي من طراز رفيع.

لم يدخل السجن غير أنه يعرفه. وهو إذ انتظر خروج أصدقائه من معتقلاتهم فليس من أجل أن يستمع إلى رواياتهم بل لأسباب إنسانية، ستنبض أعماله الأدبية بها وستكون ساحة لصورها التي هي عبارة عن طبقات تاريخية، اهتم خليفة بتفكيكها وعرض أحوالها في المسلسلات التلفزيونية كما في رواياته بالرغم من أنه أنكر غير مرة بأن رواياته ذات بعد تاريخي. لم يرغب في الانتساب إلى سلالة يقودها جرجي زيدان ومنها أتى أمين معلوف.

هو ابن الحاضر الدموي الذي كان يصرّ على أن الوقت لا يسمح بترف العودة إلى الماضي. كانت الأحداث قد سبقت الجميع ومعهم الزمن وهو لا يريد لرواياته أن تكون مجرد محاولات لتوثيق ما جرى في عصره. كان الأدب مهنته وهو يعرف أنها كالموت مهنة شاقة لذلك فضّل أن يضع مسافة بين رواياته والواقع.

الكتابة أولا

“ترتكز حياتي وتتوقف على الكتابة ولا أعرف أصلا القيام بأي شيء آخر، وأراني محظوظا لأنني لا أجيد أي شيء غير الكتابة، وهي الوسيلة الأكثر عمقا للتعبير عن ذاتي. وبالتالي التعبير عن العالم” يقول خليفة. لذلك فإنه غالبا ما كان يبدأ بكتابة رواياته من غير تفكير مسبق بموضوعاتها.

يقول “عادة ما أكتب من غير أفكار مسبقة، بالطبع لا بد أن يتبادر الموضوع إلى ذهني ولكنه يبقى غائما. عندما أنتهي من كتابة الصفحات الأولى أشعر بأنني ملكت خيوط روايتي. فالصفحات الأولى وهي ليست سوى صفحات ثلاث أو أربع فقط هي ما يقلقني في كتابة الرواية. بعدها تأتي الأشياء من تلقاء ذاتها. وغالبا الشخصيات التي لم تكن واردة في ذهني هي من يحوّل مسار الرواية”.

بوكس

الكتابة أوّلا. تلك طريقة غريبة في إقامة أبنية روائية ذات طابع تاريخي واجتماعي. كان خالد خليفة كمَن يفاجئ نفسه بوقائع وشخصيات لم يفكر بها قبل أن تقع أو تحضر. ذلك هو مصدر التدفق في استحضار ما لم يكن الروائي يتوقع أنه قادر على استحضاره. يكمن السر في تلك العلاقة الحميمية التي أقامها خليفة ما بين لجوئه إلى الكتابة حلاّ وجوديا وبين واقع شعر أنه في طريقه إلى الاحتضار.

الموت مناسبة للتعبير عن الحب

كشفت المرثيات الكثيرة التي كتبها أصدقاء خالد خليفة ومعارفه بعد موته كم كان شخصية محبوبة. كان الإنسان حاضرا في تلك المرثيات قبل الروائي الذي لم يغب ولم يتم وضعه جانبا أو تهميشه. وكما أرى فإن إنسانية الكاتب لا تنازعه على أهمية ما كتب.

لقد كتب خالد خليفة رواياته في مرحلة حرجة من تاريخ بلاده. ولم تكن رواياته بعيدة عن ذلك النزاع الذي اتخذ طابعا سياسيا غير أنه في حقيقته كان نزاعا تاريخيا بين الشعب والسلطة وهو ما تجلى في أبشع صوره من خلال الحرب الذي دمّرت أجزاء كثيرة من سوريا.

خالد خليفة هو بالنسبة إلى السوريين أيقونة خوفهم وشجاعتهم في الوقت نفسه.

العرب

——————-

======================

تحديث 05 تشرين الأول 2023

—————————–

في رحيل خالد خليفة: كاتب الحبّ والموت/ سميرة المسالمة، راسم المدهون، أنور محمد

كاتب الحب والموت/ سميرة المسالمة

في كل مرة يعود فيها إلى دمشق، كنت ألملم أطراف طلبي في بقائه آمنًا بعيدًا عن صخب الحرب، وروائح الموت، ولكن لمعرفتي به جيدًا، كنت أهذب سؤالي بقولي لمَ العجلة؟ يجيب بضحكته المعهودة: لأنتظركم عندما تعودون. نعم، هو يحمل ذلك القدر من الأمل في أن دمشق ستعود لتضج بسهرات أصدقائه في كل مكان، على الرغم من أنه من لم ينكر في أي مرة أي سوء ينال من السوريين.

كان الكاتب خالد خليفة يمارس تمارين الحياة كل يوم بين موتى، كما يذكر في أحاديثه الخاصة والعامة، كأنه يقول لنا لا موت أبديًا في سورية، الكل يستيقظون منه كأنه مجرد قيلولة صغيرة تحت ظل شجرة مشتعلة، بل كان كما يقول “يتقاسم معهم الموت”، لأن الموت ليس قدرًا وحسب في بلادنا، هو قوت يومي فرضته علينا حرب لعينة، رفض أن يكون وقودها، كما رفض الفرار من أرضها، وها هو يعود بعد كل أسفاره ليلقي بجسده في ترابها المحقون بكل أنواع الأسلحة، من حب الكراهية، إلى سكاكينها المفقودة.

هكذا يذهب خالد إلى الموت المتشبث بالأظافر بقوة تليق بأحلامه الكبيرة، جالسًا على كرسيه محدقًا بأفق الممكن والمستحيل، يجمع بين السوريين، يحررهم من “مديح الكراهية”، ويأخذنا إلى طاولة واحدة يمد جسده بيننا، ويُجلسنا حولها، وهو يراهن بموته على شفاء أجسادنا من “شقوق سكاكين متقيحة لم تندمل بعد” من انقساماتنا، على الرغم من أننا جميعًا ضحايا تنز جراحنا المثقلة بالتصنيفات الدينية والمذهبية والقومية.

ويحرج خالد بجسده المتمدد كل سياسيي العالم، ويلقي بخطبهم عن حرب أهلية في سورية في أقرب درج تنام فيه قراراتهم الأممية، ها هي سورية بشعبها، لا حرب طوائف، ولا مرجعيات قومية، لا معارض ولا مؤيد، لا صفات تفريقية، كلنا مصابون برحيلك المبكر عنا، كلنا يعرف معنى أن “الموت عمل شاق”، وأنك أكثر رهافة من أن تجبرنا على امتهانه معك، واقتسامنا مره منك.

ليست فقط الحواجز المدججة بالسلاح هي من تعيق السوريين كل السوريين عن مرافقة جثمانك، على “درب المقبرة الموحل”، لأن الحواجز التي علينا تجاوزها يا خالد ليست صعبة، بل مستحيلة، هي حدود لا يمكن دخولها من دون موافقات أمنية، وضمانات سلامة، واتفاقات دولية، ووثائق سفر تمنع حامليها من دخول بلادهم، وقرارات تحتاج إلى إجماع أممي يصعب تجاوز حق النقض فيه، ومليارات دولارات تتدفق إلى جيوب النظام السوري للسماح بإعادة إعمار جسر عودة اللاجئين، الذين كنت تنتظرهم مثقلًا بحلم العودة والسلام، وبيقظة قريبة لمن مات على أمل الرجعة.

ها أنت ترحل من دون أن تمدنا بتلك القوة على الصبر على مستحيلات العيش! لماذا تصر على أن تكون أحد الضحايا القادرين على الرحيل؟ سأعترف لك هذه المرة أنني تمنيت لو أنك طاغية لا تموت، ولكنني عدت لأتذكر أنك لا تسفح الدماء كما هم أبطال الجريمة في واقعنا الذي تصوره كما الحقيقة الناطقة، نعم “دماء الضحايا لا تسمح للطاغية أن يموت”، وأنت طاغية حب لا طاغية قتل، تعيش بالحب من أجل موت هادئ، طارئ، مؤقت، موت لا يموت فيه الأحبة، و”أن الأموات ينهضون”، يرقصون، يفرحون، ويضحكون، فمتى تنتهي قيلولتك المفاجئة، وتعود لتنتظر معنا موتنا القادم؟

كما الحب هو القاسم المشترك في أعماله الدرامية التي كتبها، وبقيت مقياسًا معياريًا على مدى عقود لألق كتابة الدراما السورية من “قوس قزح”، إلى “سيرة آل الجلالي”،) و”هدوء نسبي”، و”ظل امرأة”، كذلك كان الموت هو القضية التي يتعاطى معها بكل حبه للحياة وتمسكه بها.

كان خالد خليفة هو روح الكلمة التي يودعها بين دفتي كل رواية من رواياته الستة “حارس الخديعة”، و”دفاتر القرباط”، و”مديح الكراهية”، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”لم يصل عليهم أحد”، و”الموت عمل شاق”، يموت مع أبطالها، ويعود إلى الحياة معنا بعد تجربة موت مضنية، وكأنه يقدم لنا موته اللاحق هذا في طبق من الحب، مذاقه مر، ينتزع من عيوننا دمعها، لنستقبل رحيله بهدوء الصابرين على مصابهم، ومصيبتهم.

رحل خالد خليفة ليتركنا نتجرع تجربة الموت الشاق، نقف على أعتاب حدود المكان عاجزين عن تخطيه، نكتب عنه ومنه، يتذكر كل منا أحاديثه المشتركة، مواقفه الجريئة، نتصفح رواياته كأنها المرة الأولى، والعاشرة، الموت، الموت، الموت، حتى صار الموت صديقًا مشتركا يسامرنا في الليل، ويتناول طعامه من أطباقنا، وينهض صارخًا في وجوهنا كلما ضاقت بنا الحياة، أنا الموت الذي يحيا بكم، فمن أي شيء آخر تخشون؟

سامحك الله يا خالد، أيُّ ألمِ تركتنا نتجرعه في حياة لا تختلف عن الموت في غياب الوطن والأهل والأحبة؟

فتى الرواية السورية الجميل/ راسم المدهون

منتصف التسعينيات، تعرفت على خالد خليفة الكاتب الشاب في تلك الأيام، وصاحب رواية أولى “حارس الخديعة”. كان لافتًا ومهمًا عندي ما قاله لي الروائي الراحل هاني الراهب الذي عرّفني على خليفة: انتبه لخالد… إنه أمل الرواية السورية القادم بقوة. لاحقًا صرت وخالد خليفة صديقين، وأذكر أن عمق لقاءاتنا وأهمية صداقتنا كانت بعد نشر مقالتي عن روايته الجميلة، والتي أطلقت اسمه بقوة في عالم الرواية، وأعني “دفاتر القرباط”، وهي المقالة التي أشارت للجماليات الفنية والبناء الروائي المتماسك والمشحون بالدراما، والتي لا أزال أعتقد أنها تحتل مكانتها الخاصة بين رواياته جميعًا.

خالد خليفة الصديق والكاتب هو عندي صورة حلب، وهو بمعنى ما ابن العشق الحلبي الفائق للحياة، والذي اعتدنا أن نلمسه في تراث حلب الفني، تمامًا كما عرفناه من عشق أهلها للفنون جميعًا، وبالذات الموسيقى والغناء، ولعل ملامح المدينة التاريخية العريقة قد وجدت طريقها إلى حضور خالد خليفة الشخصي وعشقه العميق للحياة بكل أبعادها، بل حتى في تماهيه مع أصدقائه الكثر، واعتبارهم جزءًا حميمًا من حياته.

في آخر لقاء لي مع خالد، أذكر أننا التقينا فجأة، على ناصية شارع في دمشق، فدعاني لأتناول معه “ساندويشتي” فلافل ساخنة، كنا خلال التهامهما نتحدث عن شيء واحد: كم أننا في تلك اللحظة كنا نتصرف كأننا من “القرباط”، أولئك الذين استدرجتهم مخيلة خالد خليفة إلى صفحات روايته “دفاتر القرباط”.

يغيب، وأغيب، وحين نلتقي بعد ذلك نحس أننا لم نغب، فهو قرأ جيدًا كل ما كتبت، وأنا “التهمت” ما حقق من روايات، وكان ولم يزل لافتًا بعد قراءة كل رواية له أن أقف مع جمالياتها الفنية ومعمارها الروائي الراقي، باعتباره حدثًا “عاديًا”، أي أنه لم يفاجئني أبدًا، وكأنني كنت أمشي خلال ذلك على المقولة الأولى التي كانت مفتتح تعرفي على خالد خليفة، والتي قالها لي الراحل الكبير هاني الراهب: خالد هو أمل الرواية السورية القادم بقوة.

هو، أيضًا، أحد أبرز من كتبوا الرواية، ليس في بلاده سورية وحسب، ولكن أيضًا على المستوى العربي، فذاكرتي تضعه في صورة مستمرة مع كوكبة من الأسماء الروائية العربية البارزة والمرموقة، والتي يقف فيها إلى جانبه من كتاب سورية الروائي الصديق خليل صويلح، أطال الله عمره، وكلاهما من جيل الرواية السورية الجديد الذين يؤكد وجودهم وتألق رواياتهم تجاوز الرواية السورية مكانتها الأولى إلى مقام أعلى وأرفع في الثقافة العربية عمومًا.

لعلّ أهم ما قدمته تجربة خالد خليفة الروائية هو الحفر العميق في “طبقات” المجتمع السوري، وما تحمله من تطورات تاريخية، ومن أحداث ووقائع لا تستقيم قراءتها إلا لكاتب روائي عميق الرؤية وبالغ الصبر يستغرق أعوامًا طويلة لكتابة تلك الحفريات الاجتماعية رواية كما فعل مع روايته “مديح الكراهية”. وأعتقد أنه في تلك الرواية كان الكاتب الذي يتوغل وراء الأحداث والبنى الاجتماعية، ويذهب نحو استنطاق الشخصيات بما هي دلالات كبرى، واضحة ومؤثرة على ظواهر اجتماعية ووجودية. ولم أستغرب أبدًا أن الراحل حين كتب أعمالًا درامية قد نجح أن تكون أعماله منتمية تمامًا، فنيًا وسردًا، إلى ما أسميه عادة “الرواية التلفزيونية”، كما فعل هو بالذات في مسلسله الشهير “سيرة آل الجلالي”، التي برعت في تشريح طبقة التجار وعوالمهم في مدينة حلب، وهي ميزة أعتقد أنه تفرَد بها بين زملائه من كتاب الدراما السوريين، ولفتت الانتباه إلى أعماله، باعتبارها مزجًا للأدب والدراما التلفزيونية على نحو فني جميل. وأهمية هذا يمكن الوقوف عليها من خلال تأمل المكانة الفنية للدراما خلال العقود الأخيرة، وبالذات في مرحلة نهوضها الكبير، وتبوئها مكانة عليا بين الدرامات العربية التي أصبحت حاضرة ومؤثرة في كل البيوت العربية.

الحديث عن الروائي الراحل خالد خليفة لا يستقيم من دون الحديث عن رحلته مع جوائز الرواية، خصوصًا “الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر”، التي بدأت مع الدورة الأولى للجائزة، حيث وصل إلى القائمة القصيرة، وفاز يومها الروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة، على أن جائزته الأهم في تقديري كانت في اختيار روايته “مديح الكراهية” ضمن قائمة “أهم 100 رواية في العالم في كل العصور”، وهو اختيار نادر لم يشاركه فيه من الروائيين العرب سوى نجيب محفوظ، وإلياس خوري، وإبراهيم عبد المجيد، وهو اختيار لم يكن ليتحقق إلا بعد ترجمة روايته لعدد كبير من اللغات العالمية، ومنها بالطبع اللغات الأوروبية الأبرز، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ووصولها إلى أوسع دائرة من القراء.

خالد خليفة جاء إلى الأدب والكتابة في “زمن الرواية” وما شهدته الساحة الأدبية من منشورات روائية لا تحصى خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنه نجح في تحقيق بصمته الكبرى التي لا تنسى على هذا الجنس الأدبي الجميل والصعب، والذي ظل دائمًا صنوًا ملازمًا للتاريخ والسياسة وعلم النفس كما لعلم الاجتماع، بالنظر لما يحمله الفن الروائي من توغل عميق في تلك الأقانيم كلها بحثًا عن وجوده وأدواته، بل وموضوعاته السردية، كما لا يحدث مع أي جنس أدبي آخر، فاختار أن يحقق تميزه، وأن يقدم براعته ورؤاه العميقة.

رحل خالد خليفة عن عالمنا قبل أن تطأ قدماه الستين من عمره، بعد أزمة قلبية مفاجئة، وقد رحل في ذروة عطائه وتألقه الفني هو المسكون بالأدب والكتابة، وبالرغبة في التعبير عن الحياة بكل أشكالها وتفاصيلها، لأنه خلال حياته الواقعية والروائية، على السواء، ظل ابن الحياة والناطق باسمها.

تصادم المُفجع مع المُؤثِّر/ أنور محمد

في روايات خالد خليفة تقبض على حسٍّ نقدي في غاية التهكُّم من الوقائع الاجتماعية والسياسية التي مرَّت على سورية من نهايات القرن التاسع عشر إلى الآن، فنمسك بروح مثقَّف وطني تذهب شخصيات رواياته إلى مصائر مفجعة، وهو الروائي السوري الذي خلَّص الرواية من الثرثرة، ومن الإفراط في الخيال، فيتصادم كما في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” المُفجع مع المُؤثِّر.

في روايته “مديح الكراهية”، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأولى في عام 2008، سنجد أنه كتبها بحذرٍ شديد، حيث نَقَدَ وانتَقَدَ كلًا من المشتغلين في السياسة؛ الدولة التي تدير شؤون رعيتها، والمشتغلين بالدين ـ المعارضة الإخوانية التي لجأت إلى السيف الدموي، فجاء ردُّ الدولة بالسيف. هو في هذه الرواية كبالع السكين على الحدين، أو كمن يمشي في حقل ألغام وعليه أن يعبر إلى الجهة الأخرى. فكلا المتحاربين لا يسمحان بأن يتجرأ (روائي)، أو مثقف، عليهما، وبقلم النقد لا بسيفه، سيما وأنّ الرواية ترصد نشاط الإخوان في الجامعة، من توزيع بطلتها منشورات سرية بين رفيقاتها، إلى نقل معلومات سرية تُسهِّل عمليات الاغتيال، حتى تُعتقل وتدخل السجن، وهي التي  تدرَّجت في الكراهية، شربتها وشرَّبتها، بل وأوجدت مبرراتٍ لها قبل أن تكتشف في النهاية زيف هذه المبررات وهشاشتها، فتقول لنفسها: “أحتاج إلى الكراهية كي أصل إلى الحب”. خليفة كتب “مديح الكراهية” بشجاعة عقلية، كان يدافع فيها عن الناس وحقوقهم المدنية في الحياة، من دون أن يمسَّ جوهر الدين وجوهر السياسة، إلاَّ بما يكشف وينتقد تأويلات الطرفين في تبرير سفك الدماء، وبما يغني ذاتية السوريين كونهم ضحايا الاقتتال.

روايته “مديح الكراهية” كانت بمثابة ضربة مُعلِّم. وقد تمَّ منع تداولها في سورية، لأن خالد لم يكن حياديًا، بل كان ضدَّ سياسة القمع وترهيب الناس، ما يعني أنَّه في هذه الرواية، وإن جاءت بعدها رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، ورواية “لم يصلِّ عليهم أحد”، أخذ موقفًا جريئًا من الصراعات الدائرة، فالحرية ليست للذي يسيطر ويهيمن. وهو، أيضًا، كشف المستور، فجعلنا نرى السوريين وهم يُكرِّهون بعضهم بالوطن بدلًا من أن يحبُّوه حين تمَّ تقسيمهم إلى مذاهب وطوائف وعشائر وإثنيات، ليسهل اصطيادهم كما يسهل رميهم ببعضهم ـ وقد حذَّر من ذلك؛ فيغلب تقديس المذهب على تقديس سورية، وإن كنَّا ضد فكرة التقديس. وهو بهذه يعطي للرواية السورية مصداقيتها، فلا تتجسَّس على حياة البشر، بل تصير صوتهم. نقرأ، هنا، رواية من العيار المأساوي (الصوفي ـ العرفاني) الثقيل، من دون استعمال سيف الأيديولوجيا/ العقائد واستهلاكها في بناء الرواية. لقد كان خالد خليفة في هذه الرواية دقيقًا وخشنًا في قول رأيه كمثقف نهضوي، فلا يمارس السياسة في الرواية بعقلية البدوي، وإنْ مارسها، فهو يحفر في ما وراء السياسة؛ في الثقافة التي تنفذ إلى الواقع الراهن، محاولًا التأثير فيه من خلال شخصيات الرواية.

الروائي والسيناريست والشاعر خالد خليفة لم يستنسخ شخصياته في روايته “مديح الكراهية”؛ بل كانت بنت اللحظة التاريخية، وكان مندمجًا معها مثلما اندمجنا معها في كُرْهِ الذي يفرِّق ويوغر الصدور بين أبناء الوطن الواحد، وكأنَّه في هذه الرواية يؤسِّس لما يمكن اعتباره تاريخية الخطاب الروائي السوري والعربي.

ضفة ثالثة

——————–

كنّا في وداع خالد خليفة في دمشق/ عمار ديوب

هم ثلاثمائة أو أقلّ قليلاً، وأغلبهم تجاوز الثلاثين، يقفون بانتظار صديقهم خالد خليفة عند باب المشفى في دمشق. انتظرنا، بدايةً أمام الباب الخارجي، وحينما قيل لنا إن خالد سيودّعكم عند باب الإسعاف، تراكضنا، وكأنّه ينتظرنا بالفعل، وقد تأخّرنا عن الموعد قليلاً. السيدات يرتدين الأسود وعيونهن حزينة للغاية، ومودّعون عديدون قدموا من مدن أخرى، ونحن من دمشق. اتفق الجميع أنّه ما زال تحت الصدمة أو المزحة وربما خالد سيظهر بعد قليل؛ فخالد ليس من محبّي التجهّم، وهم يتنظرون تعليقاته وحكاياه، ومزحاته وفرحه الذي يلازمه كل الوقت.

الصدمة شديدة. بالكاد يتداول المجتمعون بعض الكلمات، فبعد التحية والعزاء يسود الصمت. إنّه رحيلٌ غير متوقع، ثقيلٌ للغاية، فلدى خالد شغلٌ كثير، وأصدقاؤه في البلاد وخارجها ينتظرون رواياته التي ترجمت وتترجم بكثافة لتصبح عالمية. هكذا يكون الألم مضاعفاً، حيث حضوره اللطيف ورواياته التي ستَنقل سورية إلى العالمية، فهو من أبرز المساهمين في دخول الأدب السوري العالمية.

كان بعض الأصدقاء واضحاً بأن تُمرّر الجنازة بكثيرٍ من الصمت. المقصدُ ألا تُستغلّ الجنازة لتصبح مظاهرة، أو للنداء ببعض كلمات تنديداً بالنظام، ولا سيما أنّ أدواته الإعلامية صمتت تجاه موته المؤلم. رحيله المبكّر للغاية هو مصدر الألم الحقيقي لكل أصدقائه ومعارفه؛ فهو لم يصل إلى الستين، وكان يستحقّ أن تعلو بعض الأصوات من أجله، ولم يحصل، فتتالت كلمات الوادع باردة رغم حرارتها؛ الله معك يا خالد، بكّير يا خالد، بكّير كتير يا خالد؛ وراح الجمع يصفّق، دلالة على الاحتجاج، وهو أسلوب صار يستخدمه السوريون؛ وهو ما تمّ أيضا في تشييع المخرج السوري حاتم علي.

ترك خالد خليفة ثغرةً عميقةً في النفوس، فقد كانت دمشق تعجّ به، وكذلك اللاذقية ومصياف والسويداء في فترة ماضية، والمدن التي يزورها أو يسافر إليها. هذا لا يمكن تعويضه، كما لا يمكن تعويض تهجير ملايين السوريين إلى الخارج؛ كل ما حدث في سورية يشبه رحيل خالد.

أوقفنا بعض الشباب، سائلين عن المتوفّى، وقد شهدوا هذه الجمهرة، وكأنَّ اجتماع هذا العدد جمهرة! يقول السؤال: لمَ اجتماع كل هؤلاء؟ فوداع الموتى في سورية أصبح يقتصر على بضعة أفراد، فالعائلات مشتّتة، وهو حال أخوة خالد وأخواته. نعم لا تستحق كل أشكال الرحيل هذه الأعداد القليلة، ولا انخفاض الصوت قي أثناء الرحيل، ولكن الزمن تعيسٌ للغاية في دمشق، والتعب هو السمة الوحيدة التي تظلّل الفرد؛ ذلك السؤال مؤلم للغاية، فكان الجواب، الراحل هو الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة.

تنام دمشق هذه الأيام من دون ضجيج خالد. ربما نحن من يعتقد ذلك، أمّا هو فقد كان يُكثر من التعبير والكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي عن الوحدة في سنواته الأخيرة. الحقيقة، هي أحوال كل السوريين بكل بساطة. حينما تصبح البلاد خاليةً من ملايين السكان، تصبح الوحدة حقيقة حياة الناس. الآن، ستصبح الوحدة أكثر قسوةً، فقد غاب عن حياتنا ذلك الرجل السعيد، ذلك الرجل الذي لا يطيق التعقيد بحضور الأصدقاء؛ ذلك المؤمن بأن الحياة يجب أن تُعاش بسعادةٍ وفرحٍ؛ فلا يُعقل أن تؤخذ بكثيرٍ من الجدّية؛ وهي حكمة أغلبية من تعمّق في هذا الوجود الزائل.

يقول رحيل خالد إن الموت عمل شاقّ بالفعل. لقد فقدت سورية أديباً، مشغولاً وشغوفاً بمآسي حاضرها “الموت عملٌ شاقّ” وبماضيها “لم يصلّ عليهم أحد”، وبروايات، تفكك إرث الاستبداد وتأثيره على المجتمع “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”مديح الكراهية”.

خسر الأدب السوري كثيراً، ومن الصعب تجاوز ذلك الفقد، والذي أصبحت أعماله مدرسة خاصة في الرواية السورية؛ البساطة والتكثيف، الشكل الجمالي المتقن والمضمون المحدّد بقضايا مركزية لدى السوريين، الابتعاد عن السياسة والاقتراب منها عبر مواقف شخصيات رواياته.

وداعا خالد خليفة؛ لقد تألّمت سورية بأكملها برحيلك، في الداخل والمنافي.

العربي الجديد

——————————–

خالد خليفة: حقاً إن الموت عملٌ شاقٌّ / ميساء بلال

كم تمنيت أن يكتب عن دمشق التي عاش فيها ردحاً من الزمن، لكنها لم تلهمه ربما. كم أتمنى لو أنه بقي معنا أكثر. ما زلت في صدمة وفاته أشتهي أن يكون الخبر إشاعة مغرضة.

لم يكن خالد خليفة روائياً فحسب، كان روائياً وشاعراً وتوجّه أخيراً إلى الرسم وأبدى شغفاً بهذا الفن. وكان يخطط لمعرض قريب، لكن الوقت لم يسعفه للأسف. ككاتب، ترك خالد إرثاً أدبياً كبيراً، تُرجم في غالبيته إلى الكثير من لغات العالم. أحياناً، نتجول بين عباراته ويحيّرنا الواقع والخيال حتى نتبين أننا لا نريد أن نعود إلى الواقع.

حين انضممت إلى ورشة الكتابة التي أدارها، كنت متحمّسة جداً. ولكن هذه الحماسة بهتت تدريجياً وتحوّلت إلى هوس بشخصية خالد خليفة. بعيداً عن تواضعه، كيف بإمكان كاتب بهذه الشهرة أن يتحول إلى صديق من المحادثة الأولى؟ كانت لديه هذه الأريحية في النفاذ إلى روح محدّثيه من دون أي عوائق. وكان سروره يكمن في بث الحماسة حوله بكل بساطة.

أدار خالد خليفة الكثير من ورشات الكتابة في المدن السورية كالسويداء ودمشق، فبنى المزيد والمزيد من الصداقات. إحدى ورشات الكتابة التي أدارها، كانت لمجموعة من السيدات من مختلف الأعمار في مدينة السويداء بعنوان “نكتب لننجو” بالتعاون مع القاصة سلوى زكزك.

ولد خالد خليفة في حلب وتوفي وحيداً في دمشق ولم يحتفل بعد بعامه الستين، مع أنه كان دائماً محاطاً بمعجبيه وأصدقائه. بقيت عفرين، موطن أجداده، في ذاكرته و ذاكرة المشاهد الخلفية لكتاباته.

تخرّج في كلية الحقوق في جامعة حلب ولم تفلح ضغوط أسرته في إقناعه بممارسة المحاماة. كان قد اقتنع أنه يريد أن يكتب فقط. وهكذا عزل نفسه في غرفته لمدة خمس سنين، خرج بعدها يحمل في جعبته ثلاثة مسلسلات ورواية “دفاتر القرباط”، وهذا الوجع لازمه طوال عمره.

ابتدأ مشواره مع الكتابة ولم تكن الحياة سهلة لكاتب متمرّد في بلد مثل سوريا.

 في رصيده ست روايات (حارس الخديعة 1993، دفاتر القرباط 2000، مديح الكراهية 2008، لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة 2013، الموت عمل شاق 2016، ولم يصلّ عليهم أحد 2019). تُرجمت كتبه إلى الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، النرويجية، الإسبانية وأخيراً التركية.

له مجموعات قصصية هي “حكايات قصيرة”، و”حكايات أخرى قصيرة”، وكتب للتلفزيون أعمالاً مهمة مثل سيرة آل الجلالي وقوس قزح، ظل امرأة، زمن الخوف، وهدوء نسبي، إضافة الى عشرات المقالات والمقابلات المعمقة التي تحمل الكثير من الهموم والكثير من الأمل..

جذبت روايته “مديح الكراهية” اهتماماً عالمياً وصنفت ضمن أهم 100 رواية عربية عبر التاريخ بحسب تصنيف Muse.

استغرق في كتابة هذه الرواية 13 عاماً متابعاً فيها قصة عائلة من حماة في الثمانينات وأثناء الصراع بين الإخوان المسلمين ونظام الحكم. نشر الكتاب في دمشق ثم حُظر وأعيد نشره في بيروت. كان دائماً يصرّح بأن عمله لا يناصر أي فكر سياسي وأنه يكتب فقط دفاعاً عن الشعب السوري.

لم يكن خالد خليفة روائياً فحسب، كان روائياً وشاعراً وتوجّه أخيراً إلى الرسم وأبدى شغفاً بهذا الفن.

روايته ” الموت عمل شاق” كانت الأكثر انتشاراً، إنها رواية المأساة السورية بكل المقاييس. هذا الكتاب يحكي عن رحلة جثة في ميكروباص أثناء الحرب، جثة أب أوصى أولاده بأن يدفن في مسقط رأسه في إحدى قرى الشمال الشرقي السوري الذي كان يسيطر عليه “داعش”. وكانت الحواجز الأمنية تنتشر على طول الأراضي السورية بألوانها المختلفة، وكان الميكروباص يحمل الجثة والأبناء، ويروي خلال رحلته قصة كل منهم بطريقة خالد خليفة المبهرة في ملحميتها.

صدر بعدها كتاب “لم يصلّ عليهم أحد” ليتوّج الكمال في رواياته ويكرّس الحب إلهاً يحكم تصرفات سكان حلب في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تروي القصة حكاية طفل مسيحي ناج من الطوفان في ماردين، تربيه عائلة مسلمة من حلب. لكن خلفيات الرواية تجعل منها أسطورة تروي حكايات حب وحكايات موت، وتؤرخ لمدينة حلب بعين كاتب يمتلك تقنياته الخاصة.

كم تمنيت أن يكتب عن دمشق التي عاش فيها ردحاً من الزمن، لكنها لم تلهمه ربما. كم أتمنى لو أنه بقي معنا أكثر. ما زلت في صدمة وفاته أشتهي أن يكون الخبر إشاعة مغرضة.

آخر إصدارات خالد، كانت كتاب “نسر على الطاولة المجاورة”، وهو الدفتر الأول من دفاتر العزلة والكتابة، يتحدث فيه عن تجربته مع الكتابة، ومخاوفه ورؤيته لهذا العالم الواسع. ولأن خالد لا يحب إطلاق النصائح في ما يخص الكتابة، ففي هذا الكتاب الصغير يروي خالد تجربته الكتابية ويضع النصائح الصغيرة بين الجمل كأسرار يستطيع الكتّاب الشباب تتبعها، يقول عن الكتاب: “بالتأكيد، هي كتابة ضد النصائح، لكنها تشجع من يبحث عن النصيحة على اختراع حياته العاطفية مع الكتابة. إنه تسجيل لشهادتي حول الكتابة التي هي متحولة أيضاً”.

خالد خليفة ظاهرة محيّرة. اجتمعت على حبّه كل الأطياف والألوان السورية. واليوم وبنظرة واحدة إلى صفحات التواصل الاجتماعي، يتشارك كل محبّيه الشعور ذاته تجاهه، مكتشفين أن كل واحد منهم على علاقة خاصة به. هل كان نبيّاً حقّاً؟

“أنهض صباحاً قبل الفجر، يوقظني خرير دمي، أنتظر أن ينسحب اللون الأحمر، ليتحول إلى أصفر، يختلط مع الأزرق، تصعد الشمس في موعدها تماماً، غير مكترثة بالكائنات التي تقاتل على الجبهات من أجل امبراطور، أو لنصرة دين أو زعيم سياسي أو أفكار … “.

من رواية “لم يصل عليهم أحد” 

درج

———————–

الشام كلّها شيّعت خالد خليفة/ وسام كنعان

دمشق | لو صدقت الروايات الدينية عن تيقّظ الأرواح ومراقبتها بدقّة لما يجري بعد الانطفاء مباشرة لدرجة اعتقاد الميّت أنّه أحد المشيّعين، فلن يكون هناك داعٍ لكلّ ما كُتب ونُشر عن خالد خليفة (1964 ــ 2023)… ذلك الروائي والسيناريست الذي يُعدّ إحدى علامات الفرح الفارقة في دمشق. كان يكفي لكلّ من يريد معرفة كيف يشيّع المبدع، خصوصاً إذا عاش متوّجاً بالحب، أن يمرّ بالعاصمة السورية صباح أول من أمس. ولكي يكتمل المشهد الجنائزي في الشام، كان الطقس خريفياً كئيباً. الرحلة الأخيرة لصاحب «مديح الكراهية» ستنطلق من أطراف العاصمة، وتحديداً من «مستشفى العبّاسيين» الذي أمضى ليلته الأخيرة في ثلّاجتها! هناك سيقف أهالي الأبنية والمحال التجارية المجاورة بذهول واضح.

عيونهم تتكلّم من دون أن ينطقوا حرفاً واحداً، وكأنّهم يسألون: «من توّدعون اليوم حتى يخيّم حزنكم علينا من دون أن نعرفه؟».

هذه المرّة فقط سيستقلّ «أبو خلّوف» سيارة غير سيارة «الشعب» (سواء الأوكتافيا الفضّية القديمة، أو الفولكس فاغن السوداء الأخيرة) التي كان الجميع يعرفها بهذا الاسم، لأنّها تدخل في آخر كلّ سهرة الأحياء الفقيرة والأزقة الشاحبة، لتوصل جميع من كان برفقته على «السكرة» ولا يملكون ربّما ثمن أجرة تاكسي للعودة إلى البيت، أو لا يمكن لنديمهم أن يتركهم في وقت متأخر من دون توصيلة. هذه المرّة، السيارة أوسع ولونها أبيض مثل الكفن تماماً، وقد كُتب على مقدّمتها بالأسود العريض جملة: «الله أكبر»! ما القصة يا خالد؟ متى هبط عليك كلّ هذا الإيمان فجأة؟ أم أنّها مجرّد مزحة، سنسمع ضحكتك عليها قبل أن تنهيها ونستفيق معاً؟ نسأل أنفسنا عبثاً من دون جدوى أو ردّ من صاحب «سيرة آل الجلالي»، لينهرنا صوت أحد الأصدقاء فيعيدنا إلى صوابية الفكرة المُرّة المتمثّلة بالموت، وهو يقول إنّنا سنكشف عن وجهه ليتمكّن الجميع من إلقاء نظرة الوداع! إذاً خالد ليس معنا وهو الميّت فعلاً. بعض العيون ترتفع إرادياً إلى السماء لا للدعاء فقط، بل لأنّها لا تريد أن تحتفظ إلا بصورة وجهه وهو يضجّ حياةً كما عوّد الجميع.

حتى الآن، لا يكفي حجم الجموع الموجودة لاحتفالية عارمة تشبه روح خالد خليفة. لكن بمجرّد الوصول إلى جامع «لالا باشا»، ستزداد أعداد المشيّعين وسيحضر مزيد من أهل الثقافة والفنّ. ستنتهي مراسم الصلاة، وسيخرج النعش مجدداً إلى الضوء ليباغته المشهد المهيب: تصفيق الجموع المكلّل بالبكاء الشديد. التصفيق الحار مع الرؤوس المنخفضة باحترام مشوب بالخجل والحزن، سيربك صاحب «لم يصلِّ عليهم أحد»، وهو يرى كيف تشيّعه الشام بأسرها وبكلّ ما تبقّى فيها من صدق ومهابة وقلب أبيض ناصع. سيلفّ الموكب المدينة المزدحمة ليصل إلى سفح جبل قاسيون. «مقبرة التغالبة» في «المهاجرين» هي المثوى الأخير. صعوبة الوصول إلى المكان لا تثني الأصدقاء عن مواصلة الرحلة الأخيرة مع همهمة تدور بينهم بوجل صريح: «حسناً سيرى دمشق كلّ صباح ومساء من ملكوته الأخير… هذا مجرّد مكان رمزي، فروحه هائمة وستبقى في خمّارات المدينة ومقاهيها وأحيائها تجول لتلقي التحية كلّ يوم». هنا، سيتذكّر الجميع أنّه كان يمكن لخليفة أن يهاجر ويعيش في بلد يحترم مبدعيه. لفّ نصف الكرة الأرضية أثناء الحرب وكان يعود إلى دمشق: «كي يأخذ حصّته من العار ولا يحكي له أحد عن وجع شعبه»، كما يقول في حوار مع «هيئة الإذاعة البريطانية» تمّ تداوله بكثافة شديدة في الساعات الأخيرة. لكن مهلاً! هناك من يسخر من صمت الإعلام الرسمي المطلق، ومن يحتاج إلى خبر بليد ولو على صفحات الوكالة الرسمية للأنباء، بينما تضّج حسابات كل السوريين بصورة الروائي والسيناريست الماهر. أما في خصوص التهمة الوضيعة بأنّه «جاسوس» لـ «وكالة المخابرات المركزية» (CIA) لأن هناك مَن عثر على ورقة تثبت أنه أجرى دورة في إحدى الجامعات الأميركية، فتلك روايات «عقارب» أصابها «العمى» بحمى الانحدار لأسفل الدرك. عاش خالد خليفة كما يريد من دون أن يفكّر يوماً في الموت، لأنّه ابن الحياة البار بكلّ تناقضاتها وتجليّاتها. اليوم كلّ ما في الأمر أنّه أغمض عينيه وترك وراءه منجزاً أدبياً وفنياً رفيعاً يحكي عنه إلى الأبد، عدا عن سيرة إنسانية تركت أثر العطر الآسر.

——————————–

الكتابة عملٌ شاق يا خالد/ عروة المقداد

عندما يَمَّمتُ وجهي إلى حلب، حَملتُ معي من بيروت روايةَ مديح الكراهية. وفي حيِّ طريق الباب وتَحتَ ضوء قنديلٍ مُرهَقٍ وقصفٍ جنوني وأصوات معارك محتدمة على خطوط الجبهات، أَهديتُها للصديق الكاتب والناشط خليفة خضر. كان شعورٌ دافئٌ يَغمُرنا في منزل عائلة الغجر، حيث اعتدنا اللقاء هناك لننسج أحلاماً عن لحظات النصر. وكنتُ اقرأ حينها رواية الصخب والعنف لفوكنر، ولم أفهم ما كان يرمي إليه في الرواية على لسان إحدى الشخصيات عندما قال: «وما النصرُ إلا من أوهام الفلاسفة والمجانين»، فهل كنتَ قد فهمتها فتجاهلتَ رغبتنا الشديدة بالنصر، ورحتَ تتأمل بهدوء أقدارنا ومصائرنا لتكتُبها؟

كانت المسافة من بيت عائلةِ خضر في حيّ الجزماتي إلى بيت عائلةِ الغجر في طريق الباب، تُقارب المسافة من بيت «زرزور» في الميسات حتى بار القصبجي، حيث التقيتُ للمرةِ الأولى بالكاتب والسيناريست خالد خليفة. خَرجتُ من المعتقل لأتخفّى في أحياء المدينة، حيث تشكَّلتْ دائرةٌ من الأصدقاء والكتاب والمثقفين والمخرجين كانت تدعم وتساعد الشباب المشاركين في المظاهرات على التخفّي، وكان خالد أحد أهمّ أركانها. كان يُحب أن نناديه بالخال بتواضع لا مثيل له، وكان كريماً سخياً في كل شيء. 

«يجب اعتياد الحياة دون بهارات قلتُ لنفسي مصممةً على ألّا أموت»؛ كانت محاولاتي بائسةً لاعتياد الحياة خلال الاثنتي عشرة سنةً من الثورةِ والحرب، مثلما حاولت بَطلةُ الروايةِ في مديح الكراهية. اعتدنا الموت والفقد بكلِّ أشكاله حتى بدت الحياة غريبةً. لكنَّ رحيلكَ المفاجئ أعاد إليّ اليقين بأنَّ الحياةَ لا تستقيمُ دون بهارات، دون ضحك، وهزل، ودون روتين وسياقات بسيطة مع الأهل والأصدقاء والأحبّة، دون رقص وموسيقى. وهذا ما عَكفتَ على فعله في علاقتكَ مع الآخرين، حيثُ كنت تُضفي عليها بهاراتك الخاصة التي جعلت منها مذاقاً لذيذاً لا يمكن نسيانه.

الطّريقُ إلى حلبَ كان شاقاً وطويلاً، وفيها تَحوَّلَ عنوانُ روايتك لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة إلى لازمةَ نَستخدِمها للسخريةِ من التناقضاتِ العاصفةِ بالمدينة، ثم دأبنا على استخدامها للسخرية من التطرّف ورحنا نقول: «لا نساءَ في مطابخ هذه المدينة»، ثم تَحوَّلَت الرواية إلى شيء من النبوءة.

رَفعنا الجثث المتفحّمة إلى سيارة السوزوكي، وفيما كانت الأرض بين أقدامنا تَهتزُّ خَنقتنا العبارات ولم نستطيع حتى تَبادل عبارات العزاء. وكانَ دُخان المعاركِ يَتصاعدُ من جميع أحياءِ المدينة حتى بدا أن «الموت يمتد موحشاً في شوارع حلب إلى درجة لا تطاق» ثُم تَوالت الجنازاتُ الصّامتة. وكان القصف قد قضى على نصف سكان المدينة ودفع النصف الآخر للهروب خارجها، والقلة القليلة المتبقية قد أرهقتها طقوس الوداع الآخير،  حتّى خَرجت جُثةٌ من حي طريق الباب يُشيعها خَمسة شبانٍ فقط، لم يستطيعوا البكاء الصامت  أو المشي وراء الجثة لتوديعها في مثواها الأخير. وضعنا الجثة في سيارة السوزوكي وحيدةً، واكتفينا بتشييعها بأعيننا وغابت في صمتِ الحيَّ الذي لفَّنا كما يلفّ الصمت مقبرةً جماعية. هل كان قدرُنا روائياً وتراجيدياً إلى هذه الدرجة؟ عند المساء جلسنا والحزن يعصف بأرواحنا. وكنا نُحاول الابتسام لنخفِّفَ من وطأةِ الموت اليومي الاعتيادي. كان الموت عملاً شاقاً للأحياء، فكيف يمكن أن يتحول الموت إلى فعل يومي تَفقد فيه الحياةُ معناها، لا كما اعتدنا أن يُعطي الموت معنىً للحياة؟

قُلتَ: «الموت هو اكتمال الذكريات» فَهل أكملتَ ذكرياتك الآن؟ ها أنتَ تفتحُ برحيلك سيلاً من الذكريات عن المدن التي عشنا قِصّتها مرتين، مرةً في الرواية ومرةَ على أرضِ الواقع. أعترفُ لك أنّني شعرت في كثيرٍ من الأحيان أن وجودي في حلبَ كان روائياً، وكنتُ أتتبع مصائرنا بدهشة كما لو أنني أقوم بقراءة إحدى روايتك، حيث اتخذتْ مصائرنا مساراً عشوائياً يَدفعُ للإيمانِ الشديد والكُفر الشديد. وها نحن في المنفى الآن. هل كان خيارك صائباً بالبقاء في دمشق والموت فيها؟ كَرهتُ دمشق وخرجتُ منها ساخطاً نحو درعا ثم توجّهتُ إلى حلب، لكنني تُهت بعد ذلك تيهاً لم يعرف هدأة الرجوع. فهل كنتَ تعرف أن الرحيل عن دمشق سَيورثُ كلَّ تلك الآلام والعبرات، فاخترت البقاء فيها والأوبَ إليها حتّى وإن قَست عليك، أليس ذلك ما يكونُ عليه العاشق؟ كُنتَ محظوظاً بِقُربها وكنّا تُعساءَ ببعدها، وها نحن في أقاصي الدنيا يُوجعنا الحنين إليها.

قبل عشرينَ سنة حَلمتُ بأن أكونَ كاتباً، وأن أصنعَ مِن اللغةِ عالماً مثالياً خليقاً بتجميل شقاء اليومي في بلادنا. لكنني كَفرت باللغة والكتابة مُنذ سالت أولى الدماء في المظاهرات، وتُهت في محاولة إيجاد المعنى في كل ما حدث ورحتُ أسأل عن جدوى الكتابة، فكنتُ أعود إلى وصيتك التي كتبتها لي في رسائلنا  المستمرة رغم المسافات:

    «أتمنى أن تعرف بأنك يجب أن تذهب إلى الكتابة بكل ما تملك من قوة،

    ولن أسامحك شخصياً إن فعلت غير ذلك

    هذا ليس كلام من عبث رغم أنني أعرف بأن الكتابة في زمن الحروب قد تكون عبثاً، لكن يا صديقي ليس دوماً نستطيع العثور على أناس قادرين على التقاط العالم.

    أتمنى أنك تفهم قلقي كما تقبلُه من أخ أو صديق عابر

    نعم اذهب إلى الكتابة يا عروة بكل ما يعنيه الذهاب، ولا تحرق قلب أحبتك وأصدقائك».

لمَ أُقدِّر نصيحتكَ حقَ قَدرِها. وكُنتُ محظوظاً بالنجاة من الموت، ولم أحرق قلبَ أحبتي وأصدقائي، لكنني أعترف لك: أنَّ قلبي قد احترق بعدد المراتِ التي اقتربتُ فيها من الموت ونجوت، فالنجاة تتحوّل إلى عبء لا يطاق. فهل كُنتُ مقامراً أم أرعناً ولم أستطِع الإنصات؟ الرواية التي وعَدتُك بإكمالها لم تكتمل. قرأتُ ملاحظتك على المسودةِ الأولى مراراً وتكراراً:

    «خال يجب أن تكتب العمل وتذهب له

    إلى الآن العمل جيد ولكن لا تَخَف، افرد شخصياتك، دعها تحلم وتعيش وتموت،

    لا تخف من الكتابة ولا تفكر بأي شيء سوى باللعب مع الشخصيات

    بالنسبة لما قلت سأفكر وأكتب لك شيئاً

    احترِس قليلاً»

وبقيتُ خائفاً من الكتابة. كان من السهل عليَّ الانغماس في معارك متعددة على أن أكتبَ سطراً واحداً. خمس مسودات لروايات مختلفة كتبت أجزاء متفرقة منها وعَدَلتُ عن إكمالها. لكن صوتك كان يتردد في داخلي ليعيد لي قليلاً من الإيمان:

    « ياخال اكتب

    أعود لأقول لك صدقني بأن الكتابة عالم سحري يوازي البندقية بل وأكثر».

*****

كُنت في بيروت عندما قَرأتُ للمرةِ الأولى الموت عمل شاق. وفي اللحظة التي وقعت عينيَّ على الرواية في مكتبةِ أنطوان، عادت إليَّ ذكريات القصبجي و«بيجز» وجلسات منزل الميسات والضحك والرقص والحزن، وبياض شعرك الذي بدأ يُذكِّرُني بِحصار الجُغرافيا واللّغة والقربِ المستحيلِ من دمشق، حيث اعتدتَ حَملها معكَ في زياراتكَ المتقطعة. كنتُ أَغبُطكَ أحياناً لقدرتكَ على الرجوع إليها، فيتملّكني حزنٌ شديدٌ لذلك الالتباس الذي تَخلقهُ بيروت. عَكفتُ على قراءةِ الرواية في غرفتي الصغيرة في حي الجعيتاوي دفعةً واحدة.

أثارَ فصلها الأخير الذُعرَ في روحي. يغطي الذباب جثة الأب في السرفيس، حيث كان يرقد في انتظار دفنه المُشرّف في مثواه الأخير، الأب الجميل الذي اتخذ خياراً أخلاقياً في الوقوف إلى جانب الثورة، يتنازع أولاده في رحلة طويلة وشاقة لدفنه متناسيين جسده المتفسخ خلال رحلتهم الطويلة. كانت نِهايةُ الروايةَ مثل مرآةٍ تعكس ما كانَ يَحدثُ على أرض الواقع في الثورة. أليسَ ذلكَ ما يفعلهُ الأدب العظيم؟ أن يُكثّف الواقع بلغةٍ بسيطةٍ وساحرة، ورمزيةٍ عالية تختصر ما يُمكن شَرحهُ بمئاتٍ من المقالات والتحليلات؟ ألم يكُن النزاع الذي دار بين أبناء الثورة أشدُّ تدميراً من جميع المؤامرات التي حيكت ضدها؟ وها هو الذباب ما زالَ يبتلعُ كلَّ يومٍ ما تبقى لنا من صورةٍ طاهرةٍ ونقيةٍ نحاول قدرَ استطاعتنا الحفاظَ عليها والتذكير بها.

ماذا تَعني الكتابة؟

ماذا تستطيع أن تغير الكتابة؟

بَقيَتْ تلكَ الأسئلة تَشغل بالي في السنوات الماضية، وكانَ الجوابُ يتبدّى أحياناً ويَخنسُ في كثيرٍ من الأحيان. لكن الموت، وكعادته، كفيلٌ بأن يُجلي لنا الحقائقَ المتواريةِ من أمامٍ أَعيُنِنا. في اللقاء الأخير في رواق بيروت، وفي صخب الأنخاب المرفوعة، صرختَ بي عالياً ولعنتَ الصورة وصناعة الأفلام وقلت لي: «اكتب، الكتابة وحدها من تنجي».

عدتَ وكتبتَ لي مرةً أخرى:

    «المهم أن تكتب

    وأرسل ما يطيب لك

    المهم أن تبقي بخير

    اكتب يا خال اكتب ما يحلو لك

    ولا تنتظر، الموت بعيد

    مازال الموت بعيد

    انتظرناه وقتاً طويلا ولم يأت».

لكنّ الموتَ كان قريباً منك هذه المرة يا خالد وسرقك مُبكراً. ليس الموتُ وحده عملاً شاقاً يا خال، إنما الكتابة أيضاً عمل شاق.

موقع الجمهورية

———————-

خالد/ رشا عباس

 كم هو مثير للسخرية أن يُكتبَ عنك نص تأبين، كم هو غير لائق.

ربما أثارَ هذا الكمُّ الهائل من المحبة لك الاستغراب، ولكن كلَّ ما في الأمر هو أنك لم تحتكم يوماً إلّا لقيم وحكم بسيطة، بدهية للغاية، إنما بحزم؛ جمال الواضح الذي أتقنته كما لم يفعل أحد. لذلك، وجب أن نحيي ذكرك أيضاً بما هو جميلٌ على نحو واضح، كالوشم على باطن اليد، بكلمات صادقة وبتلات ورد منثورة في الأرجاء، أو سهرة سَمَر واعترافات لمن نحبهم.

قَدَرُ الوداعات أن تكون باردة ومُتوقَّعة إلى أبعد الحدود، جزءاً من يوميات اعتيادية وقابلة للتكرار في أي وقت، كجزء من ذلك الجميل الواضح، والأليف. أكثر مناسبة كليشيه في برلين، تلك التي لمحتكَ فيها آخر مرة: حفلة تكنو. الرؤية ضبابية، إما من فرط التدخين أو مؤثرات الدخان، لمحتكَ مُستنِداً على الحائط تتفرّجُ على الحفل من الخارج، شققتُ الضباب باتجاهك، باتجاه عيون تلمع بحدّة في العتمة. دون كثير من الكلام لفرط الضجيج، تحادثنا. أشرتَ لي تسألني ماذا أشرب. أريتكَ قنينة ماء، قلتُ لكَ إنني أكتفي بشرب الماء فقط لضبط وزني. هززتَ رأسك بازدراء للفكرة. كانت لك عليَّ سلطةُ السخرية، مُسلِّمةً لك بها منذ زمن طويل منذ بداية معرفتي بك، ستة أو سبعة عشر عاماً؟ كان ضدَّ عقلك أي شيء من هذا القبيل، أي ممارسة أسر لمزاج الإنسان، الدايت والرقابة على الذات وزجرها، والقلق بشأن صورة المرء أمام الناس.

هذه كانت من ضمن الحِكَم البدهية التي شكَّلَتْ صورة حياتك. كنتَ تسأم وتشيح بوجهك دون اهتمام عن أي محاولة حصار، وإن كانت بلبوس المحبة. حرصتَ في تعاملكَ معي وأنا شابة في بداية العشرينات أن تدفعني لأكون رحيمة مع نفسي وحسب، دون اعتذار،  في مواجهة العالم وفي مواجهة أي محاولة لإحراجٍ وتَصيُّد، مُستذكِراً من تجاربكَ كيف تعرضت لعتابٍ حول قصة من ماضيك وقلت لصاحبة المعاتبة: «اسمعي، قد تسمعين عني قصصاً شديدة الروعة وأخرى شديدة الإحراج، وغالباً كلها قصص صحيحة، شأنك هو ما ترينه مني».

الكتابة، على كل حال، لم تكن من بين أمور تأخذها باستهتار كما محاولات التَصيُّد تلك. كان من المعتاد أن يراك الناس مُنكبَّاً على الكتابة لساعات في المقاهي، وأن تنشغل بالاطلاع على إنتاج الكل من حولك، من كُتَّابِ أولِ نصوصهم إلى الأكثر رسوخاً في مسارهم، مُتحمِّساً لإبداء رأيك وتشجيعهم، وتوبيخهم على التكاسل أيضاً، في علاقةٍ لم تحمل يوماً أي توجّس واستئذان. تُرسل مسجات فجائية، إيجاباً وسلباً، وكان من المعتاد أن يكون المرء جالساً بأمان الله، ويأتيه مسجٌ حاسمٌ من خالد خليفة: «قريتلَّك شي اليوم ما حبيته».

كان هذا السلوك جزءاً مما عِشتَه؛ كرهتَ أي سلوك انكفاء وجبن وكان هذا فعلاً مرذولاً حتى في كتاباتك، بما يشمل تواجدك في حياتنا كأمر واقع، إذ لم تكن يوماً تنتظر من يفتح لك الباب في علاقتك بالآخرين وفي حضورك في حياتهم والمبادرة تجاههم. وكان من المعتاد أن «يَربَى» أبناء جيلي، ممن اتجهوا للكتابة والفنون في مطلع شبابهم، في المقاهي والبارات وهُم ينادوك خالو كأمرٍ واقع؛ من المؤسف أنكَ على الغالب لم تعي يوماً كم نَفَعَنا أن نحظى بهذه النسخة من المربي غير الفاضل، بديل الخال الذي كان ليساعدك في الهرب من حصص الدراسة ورقابة الأهل ويُغطّي عليكَ لتخرجَ في موعد غرامي ممنوع، الذي يسعى ليغرس فينا قيماً  وسلوكيات حياة مفيدة حصراً في انفلاتنا من قيود أي سلطة وتَردُّد، وفي انفكاكنا من إرث طويل وعميق من انضباط مؤسسات العائلة والدراسة، وفي إدارة قصص حبنا ومغامراتنا إلى حدِّها الأقصى.

كل طلعة معك كانت احتمالات مفتوحة، تعارف مع أشخاص لا نعرفهم على طاولات مجاورة، طلعة سريعة تتحول إلى مجزرة لهو في أماكن متفرقة من المدينة حتى الصباح، ثم اضطرارنا لتنظيم حفلات مبيت ارتجالية في منزلك بعد تَعذُّر العودة إلى منازلنا لتأخر الوقت وصعوبة التنقل بين الحواجز المتنوعة، لننتهي في حفلة المبيت هذه مع جمع عشوائي من معارف وآخرين تَعرَّفنا عليهم للتو، أو صحفيين أجانب رمتهم الأقدار في هذه الزحمة، وكانوا قد التقوا بك بهدف تسجيل شهادة سريعة في قلب النهار فقط في البداية. في أحد أيامي الأخيرة في دمشق، عام 2012، حين كانت الحواجز تقطع أوصال المدينة، كنتُ خارج بار القصبجي بعد انتهاء السهرة في أول ساعات الفجر أنتظرُ تاكسي، مررتَ بسيارتك الصغيرة بالصدفة أمامي، توقفّتَ وأخذتني معك لتوصلني إلى المنزل. حينها كنتُ خائفة من الحواجز لأنني لم أحمل هويتي، وكانت ذراعك مُضمَّدة إثر كسرها يوم اعتقالك من تشييع مقبرة الدحداح. أمام أول حاجز طالبني بالهوية، وقبل أن أُصدِّرَ له ارتباكي وأُخرِّبَ الموقف، مِلتَ على المقود وصحتَ باستنكار عبرَ شُبّاكي: «معقول ما عرفت مين هي!! هي الكاتبة الشهيرة رشا عباس».

ليهز العسكري رأسه ببعض الارتياب، ويدّعي أنه «سمع بالاسم». تكرّرت محادثات كهذه على حواجز الطريق، حتى وصلتُ إلى المنزل بأمان.

    «وصلتُ متأخراً عن المجزرة بسبب اللهو»

ملاحظة عشوائية وَقَعتُ عليها وأنا أُقلِّبُ في ملاحظات واقتباسات كنتُ قد دونتها جانباً منذ فترة قريبة، وأنا أقرأ رواية لم يصلِّ عليهم أحد. في مكانِ أخر ملاحظة: «شخصيات مغامرة – تفتح ذراعيها للحياة، تفضيلات الكاتب واضحة – تتسرب إلى وصف الشخصيات. احتفاء الكاتب بالمغامرين من الصفحات الأولى، ثم سرعان ما تتكثف الفكرة أكثر مع الحديث عن غرفة مخصصة للمنتحرين في القلعة». كما كثير من الأحاديث والاستحقاقات المُؤجَّلة، لم أنشر منها شيئاً ولم نتحدَّثْ بشأنها.

دروس لا تنتهي، من جملة حِكَم الحياة البدهية البسيطة. من خلالك عرفتُ كيف يُدير المرء حتى أحسن صيغ الخصام كما صيغ المودة، كيف يمكن للناس أن تتفرق طرقاتهم، وتتجافى حتى، دون أن يكونوا أنذالاً بالضرروة. أن يكون المعيار الأول عندما نلتقي، سواء كنا قد اختلفنا أو كنا قد انقطعنا دون سبب عن التواصل لسنوات، هو الودّ و«الأصول»، الطيّبة منها لا القمعية التي كنتَ تأنفُ منها.

كانت الحياة قد جعلتك أكثر هدوءاً وتسليماً، بعد سنواتٍ من الخراب، كبرتَ وكبرنا. في زيارة قصيرة إلى أميركا عام 2016 كانت أطول فترة قضيتها معك خلال الأعوام الأخيرة. كنتَ في إقامة أدبية في بوسطن، حيث زرتكَ وفتحت لي منزلك هناك. وصلتُ متأخرة لأجد طنجرة كوسا محشي عملاقة بانتظاري، رغم أنك كنت متعباً وعلى وشك أن تغفو حين وصولي. تحدَّثنا لدقائق فقط، أخبرتني أنك تملُّ العيشة لوقت طويل خارج دمشق، التي حاولتَ إحياءها في أي مكان حللتَ به. ذهبت لتنام، وفي الأيام التالية تصرَّفت كأي خال كُلِّفَ فجأة برعاية وَلدٍ من العائلة، حريصاً ألّا أملَّ في غيابك وانشغالك، فكنت تتصل مع أصدقائنا في بوسطن، طه ومحمد، لتتأكد أنهم يفسحون مكاناً لي في مشاريعهم وفسحاتهم اليومية، كمن يحاول أن يجد لي ناساً من عمري لألعب معهم. حدث بعد ذلك أن قطعتَ الإقامة فعلاً وعدتَ إلى دمشق، التي لم يكن ليُغنيكَ عنها في الغربة ضيفٌ من هنا ومواعيد مبعثرة من هناك. عدتَ إلى حيث أسَّستَ منزلاً من جهد سنواتٍ طوال، إلى حيث احتمالات لقاءات عشوائية في الطرقات، وجمعات على مائدة تُعِدُّها بكثير من المحبة والفلفل الحار القاهر لألسنة الضيوف، حتى أنك كنت تنوي تأليف كتاب عن الطبخ، وكنت مصراً على أن المحبة أهم من الإتقان فيه.

عدتَ إلى دمشق لتحيا وفياً لكل ما آمنتَ به وكتبتَ يوماً عنه؛ الانتصار بدون مواربة لقيم الانعتاق والشهامة والمحبة، بيدٍ ممدودة للجميع، بما يشمل حبك، على طريقتك، للبلاد وأهلها دون شرط يقيدك ويحاصرك بدوره، عدتَ لتبقى مع من بقيوا ومن جاءوا بعدنا، قاسمتهم خبزك ومحبتك ونُبلك وفرحك، كما قاسمتَنا فرحك الذي كنت تنوء بحمله إن كنت وحدك. حتى في رحيلك المفجع، جميلاً، جميلنا، المُسجَّى على بتلات الورد والضحكات وأغاني الطرب وسِيَر العاشقين وذوي المروءة، تركتَ لنا ما نتقاسمه من أثر ذكراك الطيبة إن لم يكن هناك من أبدية نلقاكَ فيها بعد حين.

موقع الجمهورية

—————————-

عناوين روايات خالد خليفة تتصدر نعوات أصدقائه

كاتب «لم يصل عليهم أحد» رحل بهدوء مخلفاً صدمة وحزناً كبيرين

دمشق: «الشرق الأوسط»

*كانت الأجهزة السورية تمنحه إجازة سفر لمرة واحدة غير قابلة للتجديد، على أمل أن تكون مغادرته بلا عودة، إلا أنه كان يعود دائماً

كأن السوري خالد خليفة حين كان يضع عناوين رواياته، كان يخطّ كلمات نعواته التي تدفقت، مساء السبت، إلى حسابات طيف واسع من المثقفين والفنانين السوريين على وسائل التواصل الإجتماعي، لدى تلقّيهم نبأ رحيله المفاجئ. حيث وجده أصدقاؤه المقرَّبون مستلقياً على الأريكة مفارقاً الحياة، على أثر احتشاء في العضلة القلبية، إذن «الموت عمل شاقّ لك ولنا» كتب كثيرون من الأصدقاء مؤكدين أن قلوب كثيرين ستصلّي عليه، استعارة لعنوان رواية «الموت عمل شاق»، ورواية «لم يصل عليهم أحد».

الروائي خالد خليفة، الذي يناديه الأصدقاء بـ«الخال»، كان قد تفرّغ منذ بداية مسيرته الأدبية، لاحتراف الكتابة الإبداعية، وسخَّر لها كل طاقاته ونشاطاته، وتمكّن، بدماثته المشهودة، من نسج علاقات صداقة ودية متينة في الأوساط الثقافية المحلية والعربية، وحتى الأجنبية، بدأب في السنوات الأخيرة، على السفر، رغم تقييد حركته من قِبل الأجهزة الأمنية السورية التي كانت تمنحه إجازة سفر لمرة واحدة غير قابلة للتجديد، على أمل أن تكون مغادرته بلا عودة، إلا أن «خالد» كان يعود إلى دمشق التي اختار الاستقرار فيها، ما دام قادراً على البقاء. صديقه المقرَّب، ابن مدينة حمص، عبد الباسط فهد، أكد ذلك في نعيه لخالد، عبر حسابه في «فيسبوك»: «جمعَنا شعور مشترك وقرار حازم لا رجعة فيه بالبقاء في البلد، رغم خرابها الأخير، ورغم الفرص الكثيرة للرحيل والهجرة».

وبينما تجاهلت الجهات الرسمية السورية نبأ رحيل خليفة، وما خلفه من صدمة وحزن كبيرين في الأوساط الثقافية والفنية، نعاه المحتجّون في محافظة السويداء، ورفعوا عبارات النعي مع صور الراحل في ساحة الاحتجاجات المركزية، يوم أمس الأحد: «عشتَ حرّاً كما سنديان الجبل، وداعاً خالد خليفة». وبدورها نعته «رابطة الكُتاب السوريين»، في بيان قالت فيه إن «خالد» رحل في دمشق التي عاش فيها ولم يغادرها، «تاركاً خلفه الصدمة والحزن لدى كل من عرفه وقرأه في سوريا وفي عموم الوطن العربي والعالم». ولفت البيان إلى أن خليفة هو من أبرز وجوه الروائيين السوريين الذي قدّموا للقراء أعمالاً جماهيرية تلتزم قضايا المجتمع وتحاول أساليب مختلفة في السرد، فكان من خلال ذلك «أنموذجاً للكاتب الذي حمل روح التجدد والشباب». وتابعت الرابطة أن «خالد» لم يتردد لحظة في الوقوف مع مواطنيه في عام 2011، حين نزلوا الشوارع، وتعرَّض لاعتداء جسدي مباشر ومُضايقات متكررة على مدى أعوام طويلة، وتم تقييد حركته لفترة، قبل أن يُسمح له بالمغادرة، بموجب موافقة أمنية لا تجدَّد تلقائياً، الأمر الذي وضعه تحت طائلة حرمانه من حقه في السفر والعودة».

خالد عبد الرزاق، الشهير بخالد خليفة، وُلد في حلب 1963، لعائلة تنحدر من بلدة مريمين، في ريف عفرين (شمال حلب)، درس الحقوق في جامعة حلب، وتخرَّج فيها عام 1988، دخل عالم الأدب بكتابة الشعر، ومع بداية التسعينات برز بوصفه كاتب سيناريو، من خلال مسلسلات تركت أثراً واضحاً في الدراما السورية، منها «قوس قزح»، و«سيرة آل الجلالي»، و«المفتاح»، و«العراب»، و«هدوء نسبي»، و«ظل امرأة»، كما كتب أفلاماً وثائقية وأفلاماً قصيرة، وأفلاماً روائية طويلة؛ منها فيلم «باب المقام».

أولى رواياته كانت «حارس الخديعة» عام 1993، بعدها أصدر رواية «دفاتر القرباط» عام 2000، ليحترف كتابة الرواية، ويَذيع صيته مع صدور رواية «مديح الكراهية» التي تُرجمت إلى اللغات (الفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والنرويجية، والإنجليزية، والإسبانية)، كما وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» في دورتها الأولى عام 2008، ليواصل نجاحه، وتتوالى أعماله الأدبية التي كانت تلقى رواجاً واسعاً كرواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، التي حازت، عام 2013، جائزة نجيب محفوظ للرواية، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. و«الموت عمل شاق» الصادرة عام 2016، و«لم يصلّ عليهم أحد» عام 2019.

رحل خليفة وهو في أوج عطائه، مخلّفاً الصدمة، وكثيرون من أصدقائه لم يصدّقوا بدايةً النبأ، وظنّوا أنها مزحة سمجة، لكنْ ومع تأكد الخبر تدفق إلى وسائل التواصل الاجتماعي موجة عالية من نعوات المثقفين والصحافيين والفنانين والناشطين السياسيين داخل سوريا وخارجها، وكتب الشاعر السوري منذر المصري معاتباً: «خالد… عأساس تطبع مخطوط الرواية الجديدة (غرفة بصاق للعمة) على ورق ونشتغل عليها سوا… أي أساس!؟ حياتنا كلها حفر وخراب»، ذاكراً أنه، وخلال مقابلة صحافية، حين سُئل عن خالد قال: «أخاف أن يموت قبلي! صدقاً كنت عارف!».

الفنان التشكيلي بطرس معري نعاه بلوحة رمزية تضمنت «بورتريه» مع كتابة «خالد خليفة أحبَّ بلده فأحبَّه البلد وأهل البلد».

من جانبه أظهر الكاتب والصحافي المصري سيد محمود فيضاً من مشاعر الحزن والأسى، وكتب: «أنعى لكم قطعة من قلبي، مات خالد خليفة وتركني في العراء، لا أحد عندي مثل خالد».

وكذلك نعاه الأديب الكويتي طالب الرفاعي قائلاً: «كأن الموت ينتقي أحبابه، خبر صادم يا صديقي». المخرج السوري هيثم حقي بدا غير مصدّق النبأ: «خالد خليفة، هل حقاً رحلت؟ كيف ترحل وأنا ما زلت بانتظارك للقاء أجّلناه، ولم نتصوّر أن (الموت الشاق) لن يعطينا فرصة كنا نتمناها… أخي وصديقي الحبيب وشريكي في عدد من أعمال تلفزيونية، نجحت بك وببراعة حسّك الروائي العالي… ورغم عدم تصديقي أتلفّظ أصعب جملة: رحل خالد خليفة… الألم والمرارة أصرّا على صفعي بالحقيقة».

—————————

خالد خليفة أبرز فرسان الدراما الروائية التلفزيونية/ سامر محمد إسماعيل

كتب سيناريوات سردية تستلهم الواقع الشعبي وتناقضات السلطة ولم يغب عن السينما

يكاد يكون خالد خليفة من الأسماء القليلة في عالم كتابة السيناريو الذي انتصر للرواية التلفزيونية، بل وكرسها كاتجاه في أعماله التي كتبها في هذا السياق. فإلى جانب اشتغالاته الأدبية كروائي كما هو معروف، أتى خليفة إلى عالم الصورة التلفزيونية برهانات كبيرة، لعل أبرزها كان إبعاد أنصار الكتابة المعتمدة على التشويق والإثارة المجانية ودراما الفضائح عن هذه المهنة، واعتبار التلفزيون وسيلة حاسمة من وسائل التلاعب بالعقول، وأداة لا يستهان بها  في ما يسمى “غسيل الدماغ الجماعي” للمجتمعات. ولا سيما في بلدان العالم الثالث التي تستسيغ قضاء ساعات مديدة في المشاهدة المرئية، على أن تقرأ الروايات والقصص الأدبية.

من هنا بدأ خالد مساره بقوة ككاتب سيناريو، مسدداً رميته الأولى في مسلسل “سيرة آل الجلالي” بشراكة لافتة مع المخرج هيثم حقي، الذي كان يعد في منتصف التسعينيات من أبرز المنظّرين لأدبية الحلقة التلفزيونية، وتشابهها مع الرواية.

رأى خليفة أن الكتابة للتلفزيون ليست مهنة هواة، بل هي مهنة لها ثقلها الفني والفكري، ويمكن عبرها تمرير أفكار لا تصل بسهولة إلى السواد الأعظم من جمهور بدأ ينفض عن مائدة القراءة، مع فورة الفضائيات العربية منتصف تسعينيات القرن الفائت.

أدرك صاحب “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” هذه المعادلة، وأسهم مع كل من نهاد سيريس وريم حنا وحسن م. يوسف في تحقيق نهضة الدراما التلفزيونية في بلاده. كانت الدراما السورية المتلفزة تشهد انتعاشاً كبيراً مع بداية الألفية الثالثة، وكانت السوق تتطلب قريحة جديدة ومختلفة في تناول المجتمعات الخارجة جزئياً لتوها من حصارين، سياسي واقتصادي، طويلي الأمد، ومن رقابة لا تدخر جهداً في جعل هذا الحصار مطبقاً على كل نواحي الحياة الفنية والثقافية.

نجاح درامي

بعد محاولته الأولى مع “سيرة آل الجلالي” المسلسل الذي لاقى نجاحاً كبيراً ولافتاً بعد عرضه للمرة الأولى عام 1994، تكرر التعاون بين خليفة وهيثم حقي في مسلسل “قوس قزح”. وإذا كان خالد قد ناقش في تجربته الأولى واقع العائلة في مدينة حلب، والصراع الدائر بين أنصار الاقتصاد القديم وأنصار السوق الجديدة، فإن خليفة ذهب في العمل الثاني إلى محاولة تقديم صيغ أكثر بساطةً لقصص حب متصلة- منفصلة تدور أحداثها في دمشق، وتطل على هواجس الطبقة الوسطى، وتوقها إلى عيش كريم تسود فيه قيم المساواة والعدالة في ظل تهديدات عديدة تترصد أبناء هذه الطبقة، وتجعلهم يوماً بعد يوم يذعنون لواقع اقتصادي متغير.

بعد هذين العملين زادت شهية السيناريست السوري الراحل على الكتابة للشاشة الصغيرة، وبدأت قريحته تتفتح على أعمال أكثر تنوعاً، سواء عبر القصة، أو حتى على صعيد شراكات جديدة مع مخرجين جدد، لعل على رأسهم كان في تلك الفترة الفنان فهد ميري، الذي حقق له خليفة مسلسل بعنوان “حروف يكتبها المطر”. العمل الرومانسي الذي يحكي قصة شاب يرتبط بفتاة لا تنتمي لدينه، وعلى رغم رفض الأب تزويج ابنته من شاب لا ينتمي لهم عقائدياً، إلا أن الشاب ينجح في الاقتران منها في النهاية، ليصاب بعدها العاشق بمرض عضال، فيموت كمداً بعد عزله هو وزوجته، من مجتمع لا يرضى بتغيير نواميسه وأعرافه.

تماماً كما هي الحال في مسلسله “أهل المدينة”، الذي يكشف فيه عبر قصص اجتماعية متشابكة، عن شخصيات أجهز عليها الفساد والتخلف الإداري. ولقد حقق هذا النص الذي كتبه خليفة في ثلاثين حلقة، المخرج بسام سعد، إذ لم يوفق خالد بظروف إنتاجية قادرة على تنفيذ هذا المشروع بالصورة المثلى، تماماً كما حدث مع مسلسل “الوردة الأخيرة” الذي يروي قصة حب تجري أحداثها في أربعينيات القرن الفائت في حلب، بين فتاة سورية وضابط فرنسي يقع في حبها. لكن شقيق الفتاة يقع في الاعتقال بعد مناهضته قوات الاحتلال، فما يكون من الضابط إلا التخلي عن واجبه الوطني، وإنقاذ شقيق محبوبته، ليفتضح أمره بعد ذلك وينفى إلى جزر القمر، جزاء خيانته تعليمات قادته.

يمكن الملاحظة أن هذه الأعمال التي كتبها صاحب “حارس الخديعة” ذات متن حكائي لافت، لكنه لم يوفق بظرف إنتاجي مناسب. فرؤية بعض المخرجين التي كانت قاصرة بعض الشيء عن فهم النصوص التي كتبها خليفة من دون أن يكرر نفسه. وكان أن حققت له المخرجة إيناس حقي نصاً بعنوان “زمن الخوف” وهو سيناريو مسلسل من ثلاثين حلقة بمثابة تحية للجيل الذي ينتمي إليه خالد خليفة نفسه، جيل شباب الثمانينيات، وما لحق به من هزائم متتابعة، وعدم الاعتراف به كحساسية وافدة إلى الساحة الثقافية والفنية. إضافة إلى ما تخلل ذلك من صراعات دموية مع السلطة في فترة الصدام مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سورية.

ويمكن ملاحظة تقاطع الموضوعات بين الروايات التي كان يكتبها خالد والنصوص التلفزيونية، التي كانت بمثابة معادل موضوعي للنص الأدبي، ولكن ضمن شروط فنية تتعلق بظروف الصورة التلفزيونية ومتطلباتها. وهذا ما يمكن أن نراه جلياً في سيناريو مسلسل “ظل امرأة” للمخرج نذير عواد، الذي يتتبع فيه الكاتب عالم العميان في أسواق حلب ودمشق وشوارعهما،  بعد التمهيد لقصة حب بين شابين في مقتبل العمر، وكيف تنتهي بإصابة الشاعر الشاب بالعمى جراء حادث سير، وترك زوجته له والتخلي عنه. وفي هذا العمل نلاحظ قدرة خالد خليفة على الانتقال إلى مناخات جديدة في الرواية التلفزيونية، والإطلالة على عالم القاع من خلال فئة العميان الظرفاء التي جسدها وقتذاك، كل من خالد تاجا وعبد المنعم عمايري وعاصم حواط.

لم يكن خالد خليفة يشعر بالرضى عن مجمل نصوصه التي حققها للتلفزيون، وهذا ما صرح به غير مرة للإعلام والصحافة، لكنه ظل مصراً على عدم ترك الساحة للدخلاء على كتابة السيناريو. وهذا ما جعله يقدم عام 2009 نصاً مغايراً في مسلسله “هدوء نسبي” مع المخرج الراحل شوقي الماجري، والذي يروي في ثلاثين ساعة تلفزيونية قصة عشرة من الصحافيين يحضرون للتغطية من بلاد مختلفة إلى بغداد قبل أيام من سقوطها على يد الجيش الأميركي عام 2003. وكيف يقوم كل صحافي برواية واستعادة ما حدث معه من أهوال، استطاع خليفة عبرها أن يصور جحيم الحرب الدائرة هناك، إضافةً إلى تشريح البنية الاجتماعية العراقية، وما طرأ عليها من خلخلة جذرية للقيم المدنية بعد أفول نظام صدام حسين.

الحرب السورية

يعود خليفة لاحقاً إلى تشريح بنية الفساد، والإطلالة على الشوارع الخلفية للحرب السورية عبر عملين لافتين، الأول جاء بعنوان “المفتاح” لمخرجه الراحل هشام شربتجي، أما الثاني فجاء بعنوان “العراب- تحت الحزام” مع المخرج الراحل حاتم علي. وفي كلا النصين يتتبع صاحب “مديح الكراهية” قصة صعود طبقة أثرياء الحرب، وملابسات صعود أرباب المال والمافيا، ضمن قالب درامي منضبط في رسم شخصياته وتوجيه مصائرها. ومع أن هذين العملين الأخيرين لم يلقيا النجاح المأمول، إلا أن خليفة ظل مصراً على توجيه رسائله التلفزيونية الموازية لعمله كروائي، وتجاهل الإحباط العام بتصوير أكثر جرأة لعالم المتنفذين الجدد، وسيطرة سلطة العائلات على الاقتصاد الوطني.

في هذه العجالة يجب ألا ننسى أن صاحب “دفاتر القرباط” حقق للسينما أيضاً العديد من الأفلام التي تركت بصمة خاصة في الفيلموغرافيا السورية، لعل أبرزها نص سيناريو فيلمه الروائي الطويل “باب المقام” مع المخرج محمد ملص. وبعيداً من الخلافات التي جرت وقتها بين خليفة وملص حول حقوق ملكية النص، والتغييرات التي أدخلها المخرج على السيناريو، كان “باب المقام” لاذعاً في طريقة نقده واقع المرأة السورية، عبر قصة سيدة حلبية يقتلها عمها لأنها تغني لأم كلثوم، وما يكتنف هذا الفيلم الذي اقتبسه خالد عن قصة واقعية جرت في ريف مدينة دمشق مطلع العشرية الأولى من القرن الحالي.

كتب خالد أيضاً الفيلم الروائي القصير والوثائقي على حد السواء، ولا يُنسى سيناريو فيلمه “سهرة مهذبة”، الذي استوحاه من قصة بالعنوان نفسه لبسام كوسا، وحققه كوسا، عن عزلة الإنسان السوري وخوفه المزمن من مصير مجهول يترصده، عبر قصة جسدها الفنان فارس الحلو مع شخصيات وهمية يدير الحوار معها داخل شقته الرطبة المعتمة المضاءة بالشموع، فنكتشف مع آخر كادر من الفيلم أن الشخصية تسهر وحدها، وليس هناك من أحد يقاسمها شرابها وطعامها ووحشتها المزمنة.

تجارب الكتابة للسينما قليلة في أرشيف خالد خليفة، لكنها كانت مفارقة ومميزة، فهناك فيلم “فضاءات رمادية” للمخرج حاتم علي، الذي حققه خليفة عن قصة للكاتب السعودي سليمان الشمري أستاذ كلية الإعلام في جامعة الرياض، والذي يتعرض لتعقيدات بيروقراطية يواجهها الأستاذ الأكاديمي في نشر كتبه ومقالاته عن حرية الصحافة، وما تلعبه الفضائيات التلفزيونية من تشويه للحقائق والصور والتلاعب بها.

أما فيلمه التسجيلي الذي أنتجه وكتبه عن أطفال الشوارع في سورية، وحمل عنوان “حجر أسود” فقد حققه مع المخرج نضال الدبس. وفيه أطلق كل من خليفة والدبس، صرخة سينمائية مبكرة عن جيل من المشردين الصغار في الأحياء العشوائية حول العاصمة السورية.

 باختصار يمكن القول إن خالد خليفة أبلى بلاء حسناً في الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي على ندرته، لكن من دون أن يحظى دائماً بالنجاح المتوقع، لكن أعماله ستبقى علامة فارقة في الرواية التلفزيونية السورية، التي انقرضت أو تكاد عن خريطة البث العربي، مع تغييرات جذرية طاولت البنية الاجتماعية السورية، مثلما طاولت مزاج السوق الدرامية الجديدة، وما يفرضه اليوم من معايير تسويقية لا تسمح للكاتب إلا أن يكون أشبه بدونكيشوت يصارع عبثاً طواحين الإنتاج الجديدة. 

—————————-

خالد خليفة روى أحوال الموت السوري والخراب الشامل/ لنا عبد الرحمن

موته المفاجئ عن 59 سنة أحدث صدمة وأكد حال اليأس الذي عاناه على رغم النجاح الكبير الذي حصدته رواياته

مثل رواية لم تكتمل، كان رحيل خالد خليفة، مؤثراً وصادماً، حزيناً وشاقاً على أحبائه وقرائه، ربما لإدراكهم أنه رحل تاركاً خلفه سطور كلمات ظلت عالقة بين فضائين، لم يتسن لها الوقت لتتجسد في واقع ملموس، فبقيت حبيسة صدر صاحبها ورحلت معه، هو الذي راوغ الموت في عبارات فاتنة، ثم استسلم له في لحظة مباغتة، ومن دون إنذار.

كتب خالد خليفة، على لسان أحد أبطال روايته “لم يصل عليهم أحد”، قائلاً: “الدم الذي يجري في عروقي كان لرجل ميت، نهضتُ، للمرة الأولى صنعتُ قهوتي، جلستُ قرب النافذة، كانت الشمس تغرب، كم هو ساحر مشهد الشمس حين تغرب، لون الليل يتغير مع كل لحظة، شعرتُ بخفة لا متناهية، كما يشعر كل الأموات حين يتورطون في العيش مع البشر”.

كما لو أن ثمة جسوراً ربطته بالموت، بشكل أو بآخر، ليس على المستوى الإبداعي فقط، من خلال تصديره عنواناً لأحد رواياته “الموت عمل شاق”، أو طرحه بشكل موارب في “لم يصل عليهم أحد”، والمقصود في النص صلاة الجنازة، أو من خلال الحضور الفلسفي للموت في رواياته عبر تكرار الحديث عنه، سواء في وصف الحالات التي تسبقه وتليه، أو في وصف المدافن وأحوال الأحياء في علاقتهم مع الموتى. هل رأى أن مواجهة الموت عن كثب ليست إلا مغامرة يمكن النفاذ منها، للكتابة عنها لاحقاً؟

لذا تبدو عبارة ورطة الحياة، معبرة بدقة عن حال هذا الكاتب، سواء في رؤيته لفعل الإبداع، أو في طبيعة علائقه مع الحياة والموت، وما امتد بينهما من سنوات عمره المغموسة بحبر الكتابة عن الأسى والخوف، ثم الحفر عميقاً للكشف عن آليات الوجع والدمار الإنساني المفجع، الذي لا قِبل للفرد بصده لحظة حضوره.

رفقة التوجس

في أحد حواراته علق خليفة على حضور ثيمة الموت في معظم أعماله قائلاً: “دوماً، أفكِّر:لماذا أصبح الموت تيمة رئيسية في كلّ كتبي؟ حقيقةً، لا إجابة لديّ، لكن هناك جاذبية في الكتابة عن الموت والحبّ، وأنا متورِّط في التفكير والعيش والكتابة عن هذه المتلازمة”.

لم تكن رواية “مديح الكراهية” الصادرة عام 2006، رواية خليفة الأولى، فقد نشر قبلها روايتين هما “حارس الخديعة”، و”دفاتر القرباط”، لكن “مديح الكراهية” شكلت حضوراً إبداعياً لافتاً عربياً ثم عالمياً، فهي استطاعت الوصول إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، خلال دورتها الأولى، وهذا بحد ذاته أدى إلى بروز اسمه في مصاف أهم الأسماء الروائية عربياً. تقع أحداث الرواية في حلب خلال ثمانينيات القرن الماضي، وقد حملت رؤية خليفة للقمع السياسي ونتائجه الاجتماعية. يستطيع قارئ هذه الرواية، منذ الصفحات الأولى، ملاحظة مدى احتشاد هذا النص بالأفكار والمشاعر المتشابكة والمضطربة؛ عبر البدء مع صوت أنثوي لبطلة، تسرد تفاصيل حياتها، وعالمها الباطني وسط جوقة من النساء. ثم ينغزل جانب الفكر- سياسي داخل النص، مع الواقع اليومي لأسرة حلبية، فيأتي سلساً ومتدفقاً بحميمية بعيدة عن الخطاب المباشر. ويحمل القارئ من مدينة حلب الشهباء وعوالم نسائها السرية، إلى أفغانستان والرياض وعدن ولندن، كي ينسج تفاصيل تتعارك فيها، رغبات الحب والكراهية، ثم تفوح رائحة الدماء وعطن السجون، وتتردد الأسئلة الحارقة التي تظل بلا إجوبة، عن الأسباب المؤدية إلى كل هذه المعاناة المجانية.

 أمضى خليفة ثلاثة عشر عاماً في كتابة هذه الرواية، وكانت رؤيته أنها كُتبت من أجل الدفاع عن الشعب السوري، كوسيلة للاحتجاج على المعاناة التي تحملوها بسبب العقائد الدينية والسياسية، التي حاولت نفي حضارتهم العائدة إلى عشرة آلاف سنة. نقرأ: “الليل الذي أصفه ينسحب ببطء وأنا شاردة، في رأسي تتداخل المونولوغات، تختلط الصور والأحاديث، خالاتي وأخوالي، أمي وأبي، وأخي حسام الذي لم أتوقف عن رؤيته متهادياً نحوي، ساخراً من الموت، أيام الاعتقال الأولى، ومفاجأة أننا نستطيع العيش في جحر مليء بالديدان والعفونة… سلمت أمري لله وتأملت السجينات اللواتي رافقنني رحلة الجحيم هذه، الحجة سعاد ابتكرت طريقة فريدة لعد أيامها، كل يوم تقطب قطبة بخيط أسود في ثوبها الوحيد، قطب خيط أسود ليشهد على بؤسها في هذا المكان، وتخليها عن ولعها بأثواب الحرير والجوخ كامرأة تحب الأناقة والنظافة.”

سكاكين المدينة

تبدأ رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، بحادثة موت أيضاً، وصوت الراوي يقول: “تذكرتُ أن أمي لم تبلغ الخامسة والستين من عمرها كي تموت بهذه الطريقة المفاجئة، فرحتُ في سري واعتبرتُ هذا الحدث تأخر عشر سنوات، بسبب تشكيها الدائم من نقص الأوكسجين…”.

يروي خليفة في هذه الرواية، عبر سرد متماسك ولغة رفيعة، سيرة عائلة تمتد جذورها إلى ما يتجاوز الزمن الحاضر، وصولاً إلى حكاية الجد جلال النابلسي الذي يعمل في محطة القطارات، وعاش سبعة وثمانين عاماً. وفي ذكرى يوم الاستقلال العشرين ارتدى بذلته الجديدة، ثم بهدوء رجل يحب الأفعال المكررة، علق كل أوسمته، وذهب للاحتفال مع رفاقه، وفي طريق عودته فقد توازنه ومات تحت عجلات القطار. أما الجدة بهية فقد ماتت من الضحك قبل أن تُكمل الخمسين من عمرها، ظلت جثتها على كنبتها العريضة مبتسمة، لا يجرؤ أحد على التصديق أنها ماتت.

التوقف أمام مآلات الموت وسبله المختلفة يحضر على مدار الرواية، في شكل واقعي ونفسي، سواء عبر النهايات الملحوظة للأبطال، الذين يُلاقون حتفهم بطرق دراماتيكية أحياناً، أو عبر الخواء الذي يتفشى في حياتهم، نتيجة تلاشي أحلامهم وأمنياتهم. لنقرأ وصفه لشخصية الأم: “كانت غير مبالية، تساوت لديها خيارات الحياة والموت بعد زواجها من جدي جلال النابلسي، الذي لم يرفع عينيه لينظر إليها، ولم يُطالب بحق الخلوة الشرعية، منذ اللحظة الأولى بدا لها خروفاً لا مبالياً، تقوده عائلته لإكمال واجب يجب أن يتم بسرعة ومن دون جلبة”.

بيد أنه على رغم وجود حضور كثيف لحالات الخوف، التوجس، والرغبات المستبعدة، والقمع الذي يتعرض له معظم أبطاله، إلا أن صاحب “مديح الكراهية”، اعتاد أن يحتفي بالحب والجسد، وبتجليات الفرح في لحظات قليلة. إلا أن هذه الحالات لا تشغل لديه مساحة كبيرة في السرد، إذ سرعان ما يقع حائل ليفرق بين الحبيبين أو الزوجين، أو أن يكون أحد الأبطال متورطاً في حب من طرف واحد، يتأخر عن الجهر به.

بطولة منفردة

لا يمنح خليفة بطولة محورية لشخصية بعينها، بقدر تركيزه على عدة شخصيات، تُمكنه من الإضاءة على تفرعات سردية تتداخل فيها الذوات الأنثوية والذكورية في حضور قوي وجماعي، يبتعد عن الفردية. وهذا يعود لاختياره الكتابة عن مجتمعات يبدو الحضور الأمومي بمفهومه الممتد، ضارباً في جذورها. يختار دائماً البدء من لحظة مفرقية، تؤدي إلى حدوث تحولات في حياة الأبطال، مثل موت الأم في رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، أو موت الأب في “الموت عمل شاق”، وطلبه من ابنه بلبل أن يدفنه بجوار أخته ليلى، في قريته العنابية. وهكذا يكون على بلبل وأخويه حسين وفاطمة أن يقوموا بالقرار الصعب، التحرك في بلد يرزح تحت ثقل الحرب مع جثة أبيهم، بين مسلحين ونقاط تفتيش لتنفيذ وصية الأب. وخلال هذه الرحلة يتعرض الأشقاء لكل أنواع الأخطار، بداية من هجوم الكلاب البرية، ثم التعارك بين الأخوين حسين وبلبل. ولا تغيب عن القارئ الدلالة الرمزية لهذا العراك، ثم توقيف بلبل على يد إحدى الجماعات المتطرفة، مما يُجبر حسين وفاطمة على متابعة طريقهما لدفن الأب. بعد انتهاء الرحلة وتمكن الأبناء من دفن والدهم، يخوضون سوياً طريق العودة إلى دمشق، وفي داخل كل منهم تلوح كل خيالات الرحلة، وما مروا به جميعاً من حواجز أرضية أعاقت مسيرتهم، ونفسية كشفت عما يدور في أعماق نفوسهم. يقول: “على بوابة دمشق التي وصلوها مساء، نزل بلبل ولوح بيده مودعاً حسين من دون أي كلمة، أعجبه صمته خلال الأيام الخمسة الماضية. فتح باب منزله في التاسعة مساء، كانت رائحة أبيه تفوح في كل زوايا البيت وتزكم أنفه، أغلق الباب وجلس وسط الظلام، شعر أنه وحيد أكثر من أي يوم مضى…”.

يلاحظ قارئ رواياته، أن هناك أماكن وأسماء وحالات تتكرر في نصوصه، مثل اختياره أن تشغل مدينة حلب، مكان السرد في رواياته. كان لالتصاق خليفة بواقع وطنه سوريا، انعكاس واضح على اختياراته الحياتية، ونصوصه الإبداعية، واقعياً في رفضه مغادرة دمشق بعد اندلاع الحرب، وهجرة معظم المثقفين والفنانين نحو البلدان الأوروبية والعربية، وإبداعياً في اختيار موضوعات رواياته من ضمن الواقع أو التاريخ السوري، كما في رواية “لم يصل عليهم أحد”، التي تم اختيارها في عام 2020، لتكون ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”.

تبدأ أحداث هذه الرواية التاريخية المهمة في عام 1907، في حلب، مع كارثة طبيعية تمثلت في طوفانٍ أغرق البيوت، ولم ينجُ منه سوى ماريانا نصار وشاها شيخ موسى، بسبب تشبثهما بجذع شجرة جوز. كان من ضمن قناعات خليفة أن التاريخ لا يتوقَّف عن إعادة إنتاج نفسه، لذا تستكشف هذه الرواية عبر سرد يتخذ صفة الملحمية، سُبل الإنسان للمقاومة والنجاة من موت محقق، في مواجهة الأوبئة والكوارث، وفي تناحر التطرف والأهواء الحاقدة التي تقود إلى الموت، كما حدث مع شخصية “عائشة المفتي”، التي لقيت حتفها بسبب الغيرة. لنقرأ من هذه الرواية ما يعبر عن علاقة خالد خليفة بالحياة والموت، يقول واصفاً إحدى الشخصيات: “لو أنه قضى بقية عمره يراقب الحياة والموت من النافذة، في الأرض الموات، فسيجد البشر يعيدون العمل نفسه، يبنون منازل جديدة، يتزوجون وينجبون أطفالاً ثم يموتون واحداً تلو الآخر، أو يأتي طوفان جديد ويمنحهم لذة الموت الجماعي، مراقبة هذه الدورات أعادت إليه يقينه بأن كل شيء عبث، لا يمكن ضبطه”.

 الدراما الروائية

ثمة تناص قام به ابن مدينة حلب، بين حياته الواقعية وأبطال رواياته، الحضور الأنثوي الرهيف الذي نجده في رواياته، استمده خليفة من انتمائه إلى أسرة كبيرة فيها أكثر من عشرة أبناء وزوجتين، وعمات وخالات. أما جدته مريم المرأة المتصوفة، فنجد صدى شخصيتها القوية يتسلل إلى معظم أعماله.

لم يبتعد خليفة في مسلسل “سيرة آل الجلالي”، عمله الدرامي الأول، عن أجواء حلب أيضاً، فتناول في هذا العمل تاريخ عائلة آل الجلالي، وهي واحدة من أعرق عائلات مدينة حلب. لكن العمل الذي كان فاتحة خير عليه بسبب النجاح الذي حققه، تزامن عرض الحلقة الأولى منه مع حدث وصفه بأنه الأقسى في حياته، وفاة والدته.

استمر خالد خليفة في تقديم عدة أعمال للشاشة الصغيرة، أبرزها ظهر في عام 2009، عمل درامي بارز بعنوان “هدوء نسبي”. هذه المرة حلق بعيداً من حلب ودمشق، طائراً نحو بغداد كي يحكي عما يواجهه الإعلاميون من أخطار خلال ممارستهم عملهم الصحافي. وصف علاقته مع الدراما بأنها ساعدته في الجانب المالي، والتقني، فما كتبه درامياً حفزه على إحكام التعامل مع عدد كبير من الشخصيات الروائية.

حظي خالد خليفة باهتمام نقدي؛ فقد نال جائزة نجيب محفوظ عام 2013 عن روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة “البوكر” العربية، وتُرجمِت رواياته “مديح الكراهية”، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”الموت عمل شاقّ”، و”لم يصل عليهم أحد” إلى عدد من اللغات الاجنبية.

على مدار حياته، أخلص خليفة للإبداع، باختياره الكامل، وعلى رغم عدد رواياته القليل نسبياً، فقد دافعت هذه الروايات عن وجودها، وتمكنت من ترك بصمة في مسار السرد الروائي العربي. وقد كان مثالاً واقعياً للمثقف الجريء المنشغل بقضايا وطنه، والذي لم تتغير قناعاته وآراؤه وفقاً للتغيرات الجيوسياسية من حوله

————————-

أحد عشر سؤالاً مؤجَّلاً لخالد خليفة/ زينة الحلبي

في شباط (فبراير) 2016، دُعيَ خالد خليفة إلى ندوة في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولاينا تحت عنوان «أن تكتب رواية وبلدك ينهار». كانت سوريا في عامها الرابع على الثورة، ولم يكن الأمل قد تبدّد بعد. وكانت روايته «الموت عمل شاق» قد صدرت للتوّ، والترجمة الإنجليزية المبتورة لـ«مديح الكراهية» قد أثارت موجةً من الأسئلة في الحقلين الأكاديمي والأدبي في أميركا. كان من المفترض أن أقوم بحوار معه، آملةً في الغوص في مسيرته الروائية، كما في علاقته مع بلاده التي رفض أن يتركها، وصولاً إلى مساهمته في ما سُمّي حقاً أو جزافاً «رواية الحرب». لم تتسنّ لنا فرصة الحوار آنذاك، إلا أني أعود إلى الأسئلة في لحظة غيابه، أسئلة لن يجيب عليها ولكنها قد تفتح باباً لمزيد من التعرّف إلى أعماله والتفاعل المتجدّد معها.

    كيف أصبحت كاتباً؟

    في نصك الذاتي البحث عن ساحة للتحرير (2016) تتحدّث عن ساحة سعد الله الجابري في حلب، كمساحة تشكّل فيها وعيُكَ السياسي، فيما كنت تُستدعى، كما الآلاف من طلاب المدارس، لحضور مسيرات تأييد لحافظ الأسد. احكِ لنا أكثر عن هذا الوعي السياسي الذي نشأ على تقاطع العمران الحداثي الذي طبع تلك الساحة مع ممارسات نظام الأسد الشمولية التي استحوذت عليها. ماذا رأيت في هذه الساحة ولماذا أصريت أن تعود إليها؟

    كيف تقرأ اليوم الحقل الأدبي الحلبي في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، تحديداً على أعقاب ما سُمّي بـ«الأحداث» في حماه وحمص وحلب؟ ما هي الجماعات الأدبية، التي وجدت مكاناً فيها في ظل القمع الثقافي والسياسي؟

    انتقلتَ إلى عالم الرواية عن طريق كتابة سيناريوهات للمسلسلات، أي أنك لم تتمثّل بنمط الروائي الذي غالباً ما استمدّ مكانته وشرعيته من داخل التنظيم السياسي أو النشر الثقافي. وكأن مسيرتك تقول إنّه يمكن للكتابة الأدبية أن تتناول سرديات تاريخية كبرى، وأن تُمتِّع، من دون أن تكون نابعة بالضرورة من سلالة روائية أو بنى فكرية مكرّسة. ومع ذلك، تقول إنك حافظت على صلة الوصل مع جيل سابق من الأدباء. ماذا ألهمك من تركَتِهم وعمّا تخلّيت؟

    كيف تسرد العنف؟

    في رواياتك تشكيك بالسرديات الكبرى والتطرق للقمع السياسي وتراجيديا الإبادة من باب السرديات الصغرى، أي من خلال النظر في الممارسات الاعتيادية، اليومية، والمُعاشة. ماذا يلهمك في الاعتيادي وأين ترى السياسي فيه؟

    تضع الحواس في صلب تلك السرديات الاعتيادية: المأكولات، البهارات، العطور، الأقمشة. كيف ترى الحواس مكمناً للسرد الأدبي والقول السياسي؟

    تتناول في «الموت عمل شاق» موت أب من جيل الستينيات، كان قد آمن بالتحرر وعمل في سبيله. نرى أولاده المهزومين الثلاثة ينقلون أباهم، بمشقة وإذلال، عبر الحواجز الأمنية التي يحرسها ثوار وعساكر نظاميون، ليُدفن جثةً متحللة. ما معنى أن يتحوّل الأب الذي جاء إلينا من زمن التحرّر الذي تقوده الأنظمة، جثة متفسخة مقزّزة؟

    تبدو رواياتك، لا سيّما مديح الكراهية ولا سكاكين في مطابخ هذه المدينة وكأنها تنظّر للكراهية كشعور جمعي وسياسي. فنرى الكراهية كممارسة في التطهّر، الكراهية كدليل على تفسّخ الحب، الكراهية كممارسة في وأد الذات، والكراهية كشعور ينظّم علاقتنا مع الآخر والنظام معاً. وكأن الكراهية، كما تراها، هي أداة معرفية تنظّم حولها شخصيات رواياتك؟

    وأين السلطة من كل ذلك؟

    هناك تراث فكري عربي يرى في منفى المثقف حالة تراجيدية ولكن خصبة في قدرتها على إعلاء حس نقدي منسحب من الهويات الحزبية والقبلية وغيرها من الروابط التي تحدّ من الرؤيا. ولكنّك تقول في مقابلاتك إنك إن خُيِّرت بين أن تكون حراً في المنفى وأن تكون صامتاً في بلدك، فإنك ستختار الصمت في بلدك، وذلك في أوج النقاش المحتدم بين سوريّي المنافي وسوريّي الداخل، فبقيت في سوريا حتى اليوم باستثناء هذه الزيارة الطويلة في أميركا. اختار عدد من الكتاب السوريين في المراحل السابقة الصمت على خيار المنفى، ولكن يبدو وكأنك تضيف على موقفهم اليوم أنّ على الكاتب أن يأخد موقع الشاهد على المجزرة والمدوِّن لعنفها. هل تعني بذلك أن المنفى قد يفقدك شيئاً من قدرتك على السرد، على أحقيتك به؟

    لطالما كانت عبارة «النطق بالحق بوجه السلطة» من أركان هوية الروائي الذي يضع الالتزام السياسي في صلب أعماله. ولكنك في مقابلاتك وذكرياتك الشخصية، تتحدّث كثيراً عن «اللعب مع السلطة»، الرقابة تحديداً، كمهارة تعطي الأولوية لمنطق المناورة والمشي على حبل قد يراه الجميع واهناً فيما يبدو لك شديد المرونة، فتظهر كيف يمكن للكتابة أن تكون ممارسة في اللعب ومحاولات في النجاة معاً. وكأنك بذلك تجترح نمطاً جديداً لكاتب يراقب ويناور، وفي يديه سجلّ للخسارات. هل لا تزال المناورة مع النظام ممكنة اليوم؟

    ما ثمن أن تصبح كاتباً عالمياً؟

    أثارت الترجمة الإنجليزية لـ«مديح الكراهية» استنكارات وعدداً من الأسئلة حول ارتحال النصوص الأدبية العربية و«عالمية» الكاتب العربي. فالنسخة المترجمة للرواية حَذَفت تماماً الفصل الأخير من الرواية العربية، وهو الفصل الذي تنبذ الراوية فيه ماضيها مع التنظيم الإسلامي، وتخلع الحجاب، وتنتقل إلى بريطانيا. فانتهى السرد في الترجمة الإنجليزية على شرط بقاء الراوية في ملكوت الكراهية والإجرام. تصف النيويورك تايمز الرواية على أنها «حكاية بلزاكية مليئة بالرومانسية والإجرام، من أفغانستان إلى اليمن، وصولاً إلى سوريا»، كما أن غلاف الترجمة يحيل إلى جميع عناصر التمثيل الاستشراقي للأدب العربي (أرض صحراوية قاحلة، امرأة لا نرى من حجابها سوى عينيها الراغبتين، الأسيرتين). كيف عشت تلك التجربة مع أولى رواياتك المترجمة؟ وكيف يكون الأدب العربي عالمياً على وقع ممارسات في الترجمة ترى في بتر النص والتنميط الاستشراقي سوقاً وعائداً مادياً؟

    كيف تقرأ الاهتمام العالمي بالأدب السوري في هذا السياق؟ هل من مفرّ من مقاربة ترجمة الرواية السورية في زمن الكارثة خارج منطق التمثيل والتوثيق؟

****

لم نسمع إجابات خالد خليفة على تلك الأسئلة. إلا أن الكاتب مشى يومها بين الأساتذة والطلاب، ببنطلون جينز، وحذاء كاوتشوكي، فيما تسرّب من سحاب جاكيتته الرياضية شعر صدره الرمادي. كان يستمتع بالأكل والدخان ويبشِّر بالملذات، فيما تحلّق حوله طلاب سوريون، وأصدقاء -دائماً حوله أصدقاء- وضحكته تدوي. كان يشكو بُعدَه عن أحبابه في الشام ويعد بالعودة إلى البلاد التي يدرك أن لا ملاذ له دونها، ولو تطلّب ذلك ابتكارات في لعبة الصمت والكلام.

موقع الجمهورية

————————–

======================

تحديث 04 تشرين الأول 2023

————————

في وداع خالد خليفة، وحبّ ما تبقى من الشام/ زينة شهلا

 للمرة الثالثة، أعيد حضور مقطع فيديو مدته ثماني دقائق وخمسة عشر ثانية، وهو عبارة عن فيلم قصير عن الروائي السوري خالد خليفة، وعن دمشق، والموت، عنوانه “منفي في بيتي”.

في الدقيقة الرابعة، يبدأ خالد، وهو يجلس وحيداً في محل “القصبجي” في دمشق، بسرد بعض الأحداث “الاعتيادية” من العام 2013. “قصف جسر دير الزور المعلق، ومئذنة الجامع الأموي في حلب. قُتل الكثير من السوريين. هيثم سافر إلى مصر وستلحق به ديما وشادي. ريتا تفكر بالسفر إلى ألمانيا أو لندن. لينا سافرت إلى لندن. وفي الأخير، أنا لا أستطيع النوم منذ أسابيع عديدة”.

خالد رحل عن عالمنا يوم السبت الفائت إثر أزمة قلبية مفاجئة في منزله في حي برزة بدمشق، وأنا أعيد سماع تلك العبارات بالذات لأكثر من عشرين مرة، وأفكّر: مثل سوريين كثر، لم أكن صديقته المقرّبة، لكني كنت أشعر على الدوام بكثير من التقاطعات بيننا، مثل الأمل الذي بقي متمسكاً به حتى اللحظة الأخيرة، رغم أنه “ما بيعرف من وين بيجي”، وافتقاد عشرات من رحلوا عن المدينة وعن حياتنا، والعلاقة المعقدة مع دمشق “المظلمة والمفخّخة”، كما يصفها، والتي رفض أيضاً أن يغادرها ويبني ذاكرة جديدة في أي مكان آخر، وأصرّ على البقاء فيها “ليأخذ حصته من العار والألم”.

أفتح المحادثة بيننا على واتس آب. في بداية السنة تمنينا لبعضنا عاماً جميلاً، وأخبرني بأنه مسافر لعدة أشهر، وسنلتقي عندما يعود إلى “الشام” أي دمشق. أشعرني حينها هذا الوعد بالطمأنينة. بالنسبة لي، كانت رؤية خالد بين الحين والآخر في المقهى أو الشارع، والأحاديث القصيرة معه، وتشجيعه الدائم لي على مواصلة العمل والكتابة، مصدر إحساس ما بالارتياح. كتب أحد رفاقنا أمس: “في سوريا (الداخل) هناك أشخاص بوجودهم تطمئن على وجودك”.

كان لخالد أصدقاء كثر. كنت أشعر بأن كل من في الشام وخارج الشام هم أصدقاؤه بشكل أو بآخر. ببساطته ومرحه وعفويته وثقافته الواسعة، كان قادراً بكل سهولة على الدخول لقلب وحياة أي أحد. لعل ذلك ما جعلني أشعر بحزن قاتل حين عرفت بأنه مات وحيداً في منزله. كان أصدقاؤه يحاولون الاتصال به لساعات، قبل أن يعثروا عليه متوفى في مطبخ شقته. في الدقيقة الخامسة من فيلم “منفي في بيتي”، يقول: “أنا بحب الطبخ، شو فيكِ تعملي الساعة 12 بالليل بالشام غير أنو تطبخي؟”، وبعدها بقليل يتابع: “كتير بشعر بالوحدة… بقول يمكن بدها تصير جزء أساسي من حياتنا”.

أفكر بكثير من الأمور التي أحسد خالد عليها، إلى جانب المحبة الهائلة التي يشعر بها مَن حوله تجاهه. كنت أحسده على قدرته البالغة على التعبير عما يجول في ذهني من أفكار، بكلمات أعرفها لكني لا أعلم كيف أرتبها وأصيغها بكل هذه السلاسة. انغمست في الفترة الأخيرة بقراءة مجموعة مقالاته عن مدينة حمص، وعن الفريكة والبرغل، وعن العزلة ومن وما بقي في الشام، وتمنيت لو أنني أمتلك مثله القدرة على الحديث عن ثقافة بلد بأكمله من خلال الكتابة عن الفريكة. ومن منا لا يحبها؟

كنت أحسده أيضاً على إتقانه وتفنّنه في الطبخ، ربما شأنه شأن كل من ينحدر من حلب، عاصمة الطهو في العالم دون منازع. لا أنسى طعم “المامونية بالتمر” التي كان يعدّها. وشعرت بالمزيد من الحزن حينما علمت بأنه مات داخل مطبخه، وهو يعدّ “المكدوس”، بعد أن أحضر كمية من الباذنجان الحمصي خصيصاً لذلك، وهو عائد من اللاذقية إلى دمشق قبل أيام.

لكن، أعتقد بأن أكثر ما كنت أحسده عليه هو قدرته على اتخاذ موقف واضح وغير قابل للمساومة من كل شيء.

في يوم تشييع جثمان خالد إلى مثواه الأخير، شعرت بأنني أستعيد شيئاً من مدينتي. وكأن الشام التي قال عنها: “هي بلدي، هون بيتي، هون أهلي، هون قبر أمي”، تعيد احتضاننا، نحن من بقينا لنودعه، بحنوٍ مؤلم رغم قسوتها الشديدة.

حين اقتربت الأيادي لملامسة نعشه الخارج من المشفى، وارتفع صوت تصفيق حاد من مئات المشيعين، سمعت صوته مرة أخرى وهو يقول: “ما عندي مكان تاني، ما بدي مكان تاني، غير قادر روح على أي بلد وأعمل ذاكرة جديدة”. وحين ارتفعت تلك الأيادي للتصفيق مرّة أخرى مطولاً قبل توجه النعش إلى المقبرة، عرفت بأننا ما زلنا قادرين على الاحتفاء بمن نحب، وبمن أحب بلادنا بشكل استثنائي، كما يليق. بنا جميعنا وكأننا في مأتم جماعي، نعزّي بعضنا البعض ونواسي حزننا المشترك، ليس فقط على خالد ربما، وإنما على كل خساراتنا اللامنتهية. إن قال أحدنا: “العمر إلكم”، أجبنا: “العمر إلنا كلنا”.

لعل ما أشعرني في نهاية اليوم ببعض المواساة، هو أن جثمان خالد ووري الثرى في مقبرة التغالبة التي تقع على أحد سفوح جبل قاسيون، وتطل على المدينة التي أَحَب، تماماً كما كان منزله الصغير المشرف على دمشق من أعلى. المقبرة أيضاً مليئة بأشجار ونباتات وورود جميلة، وكأنها باحة بيت عربي في دمشق القديمة. شعرت بأنها قد تؤنس وحدته الأبدية.

رصيف22

————————

شكراً خالد خليفة…/ إيناس حقي

حصلت منذ سنوات على منحة لدراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية في باريس، وتعرفت إلى بروفيسور مختص بالمقاربات العربية للإعلام، ولكنه كان أكثر اطلاعاً على سياق الدول المغاربية.

في إحدى المرات، حيث كنت قد اجتمعت به بعد أحد الدروس لسؤاله عن أمر ما، قال لي معتذراً: “أعترف إنني مقصر بالمعرفة عن سوريا، ولكنني قرأت رواية لروائي لامع أعتقد أنه سوري، اسمها مديح الكراهية”. اندفعت بحماس وقلت: “هذه رواية خالد خليفة”، وأضفت: “خالد صديقي وهو آتٍ قريباً إلى باريس لبضعة أيام، إن أحببت، أستطيع أن أعرفك إليه”.

نظر إلي البروفيسور وهو يكاد لا يصدق: “حقاً؟”.

وصل خالد إلى باريس، رويت له القصة، فقبل بكرمه المعتاد أن يفرغ بعض الوقت للقاء أستاذي. التقينا في مقهى باريسي، ووصل البروفيسور متهيباً لقاء الأديب، ولكن خالد بأريحيته حول اللقاء إلى جلسة حميمة بين أصدقاء.

لم يتحدث خالد عن الأدب ولا عن الإبداع، بل تحدث عن موضوعه الأثير… الناس في البلد.

روى عن معاناتهم مع الحياة اليومية والصعوبات التي تواجههم في الحصول على الخدمات، وأخذ يسهب في شرح الضغوط التي يعيشها الفقراء والمقهورون. كان البروفيسور يستمع وعيناه تتوسعان من الدهشة، وبعد مرور بعض الوقت، سأل البروفيسور: “وأنت كيف تعيش في هذا الجحيم؟”. ضحك خالد ضحكته المجلجلة وقال: “لأ أنا منيح، لا يزعجني سوى أن غسلة الملابس تحتاج أحياناً إلى يوم كامل كي تنتهي بسبب انقطاع الكهرباء المستمر. استنتج البروفيسور: “لا بد أن الكتابة تخفف عنك”. ضحك خالد مجدداً وقال: “يخفف عني وجود الأصدقاء وأنني أتسلى بكبس المخلل”.

غادرَنا البروفيسور وودع خالد بكثير من الحرارة وشكره على وقته الثمين وعلى هذا اللقاء الذي لا ينسى.

كنت أنتظر أن نبقى وحدنا كي أكرر ما قاله كل الأصدقاء في كل مكان خرج إليه خالد: “خالد ابق هنا، ليش بدك ترجع؟”.

أجاب خالد: “مابقدر يا أنوس، ما بقدر أطلع من البلد، وإن غادرت من سيحرسها في غيابكم جميعاً، من سينتظركم عند عودتكم فاتحاً ذراعيه مرحباً”.

وعاد خالد بعد أيام إلى سوريا. عبر لي البروفيسور بعدها عن أنه لم يتخيل يوماً أن يقابل كاتباً تنعدم أناه إلى هذا الحد، لا يحاول التواضع وإنما لا يعنيه حقاً أن ينظر إليه الآخرون ككاتب كبير بقدر ما يعنيه أن يكون ابن سوريا الحقيقي وصوت أبنائها.

لا أتذكر متى تعرفت إلى خالد.

لعلنا التقينا وأنا طفلة في موقع تصوير مسلسل “سيرة آل الجلالي”، الذي أخرجه والدي وكتبه خالد، أو ربما في منزل أحد أصدقاء أهلي، ولكنني أتذكر جيداً أن خالد، بمجرد أن كبرت قليلاً، بدأ ببناء صداقة تجمعنا بمعزل عن الصداقة التي تجمعه بأبي وبأمي.

ولا أعتقد أن كاتباً مخضرماً آخر كان سيتحمس لأن تخرج صبية في مطلع عشريناتها نصه كعمل أول لها سوى خالد خليفة. منحني خالد خليفة نص “زمن الخوف”، الصعب والسياسي بامتياز كي يكون أول مسلسل أخرجه بكل ثقة، بل وشجعني وحمسني، وعندما بدأ موعد التصوير بالاقتراب وبدأ القلق يغزوني، كان خالد يشجعني: “قدها وقدود يا زميلة”.

ومنذ ذلك الحين أصبح خالد يلقبني بالزميلة تحبباً، كي يشعرني بأننا ندّان وأننا نعمل معاً على قدم مساواة.

مر عمر كامل ونحن أصدقاء، وفجأة رحل خالد… دون وداع، دون أن نقول ما كان لا بد من قوله.

رحل في دمشق التي أصر على عدم مفارقتها مع وعد بزيارة قريبة إلى فرنسا، وأحاديث مؤجلة.

بحثت في أرشيفي عن صورة تجمعنا فلم أجد. لم نتصور لأننا كنا نفضل أن نقضي الوقت حين نجتمع في الحديث وأحياناً بالغناء وبالاجتماع بالأصدقاء، ولأننا كنا نعتقد أننا نمتلك كل الوقت، كنا سنتصور في دمشق عندما نعود.

لن أقول وداعاً خالد، ليس لأن وداعك مستحيل فحسب، بل لأن من خلف إرثك الأدبي الكبير خالد أبداً، من “دفاتر القرباط” إلى “لم يصل عليهم أحد” مروراً “بمديح الكراهية”.

في روايتك “الموت عمل شاق” شرحت لنا يا خالد، أن الصعب في الرحيل هو معاناة من يخلفهم الراحل وراءه محاولين الحفاظ على ما أوصاهم به، ولكننا لم نفهم بالضبط ما كنت تعنيه حينها.

اليوم، تتركنا مع حمل ثقيل، حمل أن نصنع الأمل والحب رغم مديح الكراهية اللامتناهي كما طلبت، وأن نعمل على حفظ كرامة أهل بلدنا، وأن نسعى لتحقيق وطن حر يليق بكل السوريين الذين أحببتهم.

لن أقول وداعاً، لأن من خلف كل هذا الكم من المحبة في قلوب كل السوريين باق.

يدل الرثاء الذي حصدتَ يا خالد أنك حولت كل لقاء عابر، مثل لقائك مع بروفيسور الجامعة، إلى جلسة حميمة مع أصدقاء، ما جعل رحيلك يكسر قلوب كل من عرفك ولو لماماً، ولو لساعة واحدة. وهل يمكن لمن سمع ضحكتك أن ينساك؟

يواسيني يا صديقي أنك عشت الحياة كما تحب، محاطاً بأصدقائك وبالحب. عشتها منسجماً مع مبادئك التي لم تتنازل عنها رغم كل التضييقات والإزعاجات ومنع السفر وتعرضك للاعتداء من قبل الأمن في بدايات الثورة، عشتها دون أن تغادر بلدك الذي أحببت بعمق وصدق، عشتها متماهياً مع الشعب، أميناً لحكاياته وصوته، وكتبت عنه وله.

رثاؤك عصي يا صديقي لأن رحيلك لا يصدق، ولأن صورتك في ذهني وانت ترقص وتضحك هي المرادف لكلمة حياة، فكيف يمكن للحياة أن تنطفئ؟

قد منحتني شرفاً كبيراً وثقة كبيرة عندما قبلت أن أخرج نص زمن الخوف، ولكنك منحتني شرفاً أكبر هو صداقتك على مر العمر الذي مضى.

وأنا ممتنة لأن حياتينا تقاطعتا، ولأنني عرفتك، وللفرصة التي أتحتها لي بأن أتعلم منك حب الناس كما يجب.

لن أقول وداعاً يا صديقي، سأكتفي بكلمة: شكراً، شكراً خالد.

رصيف 22

————————-

عن خالد خليفة..بين ساحات الحرية والكرامة/ علي سفر

كنت خائفاً من ذلك الموعد، كما خوفي الآن من الكتابة!

تورطتُ بإرسال النص الأول إلى مجلة جديدة اسمها “ألف”، لا أعرف من فريقها سوى القاص والناشر سحبان السواح، الذي كان ينتظرني هناك في مقهى الهافانا وبصحبته خالد خليفة، ليبلغني بالموافقة على نشر النص، ولكن شرط أن أعدّل فيه.

تكفل خالد بشرح ملاحظات هيئة التحرير، فوافقت رغم نزق طبيعي تحملهُ عقول من يخوضون تجاربهم الأولى حين يعتدّون بكل حرف وفاصلة ونقطة فيما يكتبون!

رهبة البدايات أمكنني تجاوزها، لكن رهبة الحديث عن رحيل صديق عايشت تجربته، بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، ومواقف وعجز وصمت، تظل حاضرة مع كل نأمة تُسجل هنا!

حدث اللقاء الأول مع خالد في عام 1990، ورغم أن مجموعة ألف انتمت بغالبيتها إلى حيز الثمانينيات، إلا أن مخاض تجارب أفرادها لم يكن بعيداً من الناحية الزمنية عن أولئك الذين نشروا في التسعينيات، ويمكن اعتبار تجربة هذه المجلة مطبخاً جرى فيه تحضير وجبات مهجنة، لم تلق كلها الترحيب، ولم يكرس جميع من ساهم فيها، رغم أنها جمعت محاولات أدبية جاءت من بيئات سورية مختلفة، فقد جاء خالد ولقمان ديركي من تجربة ملتقى حلب الجامعي، وجاء آخرون من الساحل السوري، ومن حمص والرقة وغيرها، لكنها، رغم ذلك كانت أهم تجمع أدبي ظهر في سوريا التي يحكمها حافظ الأسد، ومن حوله جوقة كاملة من البعثيين والطفيليين الذين صادروا الحياة العامة، وبما فيها قدرة الأجيال الشابة على إنتاج نصوص تمثلها.

خلق خالد خليفة تجربته في هذا الفضاء، وفي بيئة تفرض على المرء مواجهة الخوف من الرقابة ومن خلفها الأجهزة الأمنية، والكراهية من قبل شخصيات “ديناصورية” لا ترغب بأن تزيح ولو قليلاً لتفسح المجال لغيرها، والبغض من قبل الذين لا يعترفون بالحداثة ولا يرحبون بالتجريب، والحسد من قبل الزملاء أنفسهم إن أصابه قليل من النجاح!

فلا يجد الشاب الممتلئ بأحلامه إلا أن يصاب بأعراض تأتيه من النزق العام، فيسعى لئلا تغمره الانتهازية، وفي نفس الوقت ألا تغرز الطهرانية المسامير المكبلة بقدميه، وألا ينساق إلى الغوغائية وغياب البصيرة، وألا تصبح “الحربقة” منهجه في الحياة!

على أرضية كل ما سبق كان على خالد خليفة كأحد أفراد هذا الجيل أن ينتجوا الإبداع وأن يعملوا من أجل الرزق، وأن يمشوا على حبل رخو يفصل بين أن يصبحوا أبناءً للنظام، وبين أن يحافظوا على اختلافهم عن السائد المحلي.

لم يتحول أفراد المجموعة الذين قدمتهم مجلة ألف إلى أصدقاء دائمين، بل مضت علاقاتهم الشخصية البينية، في مسارات السوريين أنفسهم، ولم يكن من الصعب أن يحاول البعض النجاة أخلاقياً من التورط في لعبة السلطة والمال، والتوجه صوب منافذ مختلفة أتت بها فورة الإنتاج الدرامي في سوريا التسعينيات، لكنها فرضت أيضاً جهداً أكبر قوامه ألا يرتهن الكاتب لشركات الإنتاج التلفزيونية التي حاولت امتطاء شخصية المثقف واستغلاله لغاياتها التسويقية الربحية، حتى وإن كانت التكلفة هي قلة الموارد والعيش تحت طائلة العوز.

كل هذا يحدث على المستوى الشخصي، في إطار حالة سياسية رجراجة، تكتنفها آمال وطموحات بحدوث التغيير السياسي الذي ينقل البلد من حال إلى آخر!

في هذا الفضاء صقل خالد خليفة عالمه، أو لنقل مركبه، وأوجد فيه دائماً أمكنة لأصدقائه.

لا يمكن تذكر خالد الروائي دون أن نحلل الظرف الإبداعي السوري العام، ولاسيما البيئة المغلقة على نمط  متخم بالأيديولوجيا، وبالنمطية، وبالتجارب المكرسة، وفي هذا المسار تحمل التجربة المختلفة طزاجتها، حتى وإن كانت تتماهى مع المختلف المكرس عالمياً، وهي في المحصلة ستصل إلى عتبتها الخاصة، وهذا ما تعنيه عبارة النضوج الأسلوبي، والتي تتضمن في سلتها القدرة على الإمساك بمزاج القارئ، والاحتفاظ بالحكاية المجتمعية المسكوت عنها، والتي يمكن أن تقود الكاتب للمواجهة مع الرقابة، وهذا ما حصل فعلياً مع روايتيه “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”!

وفي الوقت نفسه، يتوقف المرء كثيراً عند تجربته كسيناريست درامي مع تجاربه المختلفة التي تركت أثراً مهماً كمسلسل “سيرة آل الجلالي” (2000) الذي توغل عبر حكايته في بيئة المجتمع الحلبي المخترق بفساد المال والسلطة، وأيضاً في مسلسلات رؤيوية لاحقة حاول من خلالها سرد حكاية جيله نفسه كمسلسل “حروف يكتبها المطر” (2003) و”زمن الخوف” (2007).

وربما لو كانت البيئة السينمائية السورية ناشطة، لكانت الفرصة متاحة لخالد أن ينتج مادة سينمائية مختلفة عن تلك التي قدمها مع المخرج محمد ملص في فيلم “باب المقام” الذي جرى حوله سجال طويل، اتهم فيه خالد مخرج الفيلم بالاستيلاء على حقوقه ككاتب سيناريو، وذهب من أجل ذلك بالقضية إلى المحكمة.

لكن فضاء الشاشة الكبيرة كان مفتوحاً أمامه من خلال العمل في الأفلام الوثائقية، حيث نزل مع المخرج نضال الدبس في فيلم “حجر أسود” (2006) إلى قاع أطراف المدينة المخفي الذي لم يلحظه مخرجو الدراما، ولم يقتربوا منه حتى في أصدق تجارب دراما بيئة المخالفات الدمشقية.

لم يتوقع من عرفوا خالد الذي حلم بالتغيير أن يخالف طموحات السوريين الثائرين ضد نظام بشار الأسد، فوقف معهم، ودون الخوض في تفاصيل كثيرة جرت في العام 2011، ستبدأ سنة 2012 بمشاهد دموية ومنها اغتيال الموسيقي الشاب ربيع الغزي، في شارع بغداد، وفي الجنازة هاجم عناصر أمن خالد واعتقلوه بعد أن اعتدوا عليه جسدياً، وسريعاً سيطلق سراحه، لكنه سيمنع من المغادرة ولن يكون بإمكانه أن يسافر دون الحصول على موافقة تقتضي منه مراجعة فرع الأمن الداخلي الذي يتولى ضباطه التحقيق معه!

لم ينج خالد من هوس السوريين الغاضبين بسبب الخذلان بالبحث عمن يناصرهم ويتبنى صوتهم، فسأل البعض عن غياب حلب المدمرة عن أجندته الروائية، وكان له رأي معلن في أكثر من منبر عن ضرورة أن تتم الكتابة عن التراجيديا السورية في لحظة باردة بحيث تكون الرؤية أكثر دقة وحرصاً على التفاصيل، كما أراد البعض منه أن يكون جذرياً أكثر في مناكفة سلطات الاستبداد، لكن هذا الأمر كان سيؤدي بالضرورة إلى ضريبة أكبر، أقلها أن يخسر العودة إلى دمشق! وفي آخر لقاء جرى بيننا في إسطنبول قال بأنه سيبقى يناور إلى النهاية طالما يستطيع ذلك، إذ لم ير فائدة في أن يكون لاجئاً سورياً آخر ينتظر الفرج في أحد المنافي! كما كتب ذات يوم عن تعثر النتاج الأدبي السوري الراهن، وعن غياب الأصوات الجديدة، فاختلف في ذلك مع آخرين رأوا المسألة من زاوية استحالة معرفة كل ما ينتج في كل أمكنة السوريين!

وإلى وقت كتابة هذه السطور كانت وكالة “سانا” التابعة للنظام تتجاهل خبر رحيل خالد في دمشق، بينما كان الثائرون في ساحة الكرامة في مدينة السويداء ومنذ الصباح قد رفعوا صورته وأبنوه بما يليق برجل آمن بالحرية سبيلاً لخلاص السوريين.

المدن

————————–

خالد خليفة.. عجالة الموت السوري/ سومر شحادة

تُقرأ تجربة خالد خليفة، (1964 – 2023)، الذي رحل عن عالمنا مساء أمس السبت، على أكثر من مستوى؛ بدءاً من أدبه نفسه، الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل أوّلُها النسيج الشعري اللغوي في “حارس الخديعة” (1993)؛ أُولى رواياته، والعالَم الشاعري في “دفاتر القرباط” (2000)، وهو عالَم شاعري لأنَّ إحدى الشخصيات أرادت أن ترسم “الله”. وانتهت تجربته إلى صياغة تآلف سردي من المادّة التاريخية كما في “لم يُصلّ عليهم أحد” (2019)، إذ قرأ، عبر الاستدلال التاريخي وبتآلف صنعه بنفسه، علاقات البشر والجماعات في الحاضر، ومروراً بما أعطى مشروعه الروائي تميّزه وحضوره، وهو تفكيك العنف الذي مورس على المجتمع السوري في الثمانينيات، كما في روايته الشهيرة “مديح الكراهية” (2006) وروايته التي حازت جائزة نجيب محفوظ “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”(2013)، والرواية التي كتبها عن الحدث السوري عينه “الموت عمل شاقّ” (2016).

إذاً، تتوزّع أعمال خالد على هذه المعالجات الثلاث التي تُظهر تمايزاً أسلوبياً بين مرحلة وأُخرى. وهو ينتمي إلى جيل تلى، بالضبط، جيل الواقعية الاشتراكية. وأدبه يعدُّ خلاصة لدروس مرحلةٍ سبقته. بهذا المعنى تُقرأ استمرارية تجربته على أنّها التفاتٌ إلى بُعدٍ لا يحمل ثقل الأيديولوجيا، ولا يحمل ثقل الرسالة بمعناها الوعظي، من غير أن يكون أدبه بلا رسالة.

بالطبع، إنَّ لديه مقولاته كروائي، لكنّها مقولات تتنوّع بين عملٍ وآخر، وهي في عمومها مقولات تعني الشخصية التي يكتبها، والتي يهتمّ غالباً في نسج عالمها، ليأتي منسجماً مع اضطراباتها، أي، أنّ روايات خليفة تبني ذاتها بذاتها، كما لو أنَّها واقع مفارقٌ عن الواقع، أمرٌ يظهر بشكلٍ حادّ في روايته الأخيرة “لم يُصلّ عليهم أحد”، وهي رواية بدا أنّ الكاتب أرادها أن تظهر بصورة تفارق الرواية التاريخية. أقصد، إنْ قابل بها القارئ تاريخ الجماعات في بلدٍ مثل سورية مع المادّة التي كتبها خليفة، لوقَع على إشكالات عديدة. لكن كما لو أنَّ خليفة أراد أن يبني عالماً روائياً ومن ثمّ يطلقه إلى الواقع، أو إلى الآخر… لسنا نعرف. ما نعرفه أنَّ له صوته الخاص في الرواية السورية، ولأدبه خصوصية، تأتي من خصوصية حلب في وجدانه. وتأتي من خصوصية تجربته الإنسانية نفسها التي أظهرت لحظةُ موته أنَّه كان قريباً من الجميع، ومحبّاً للجميع.

مستوى آخر، صنع بريق اسم خالد خليفة ويصلح لقراءة جانب من تجربته، وهي تمثيله في العقد الأخير، للأدب السوري في اللغات الأُخرى – وهذا بحثٌ عسير خوضه في لحظة كهذه – لكن المؤكَّد، أنَّ أدبه كان إحدى الإشارات التي قَرأ منها الآخر مأساةً تُدعى سورية… مأساة أناسٍ اعتقدوا أنفسهم أنَّهم أُصيبوا بالخرس، أنّهم يولدون عمياناً – مآل إحدى شخصيات “دفاتر القرباط” – وذلك من جرَّاء سنوات الصمت الطويلة، ثمَّ في لحظة ما، تشبه نبوغ الوعي، تحدّث أولئك القوم الخرس، وكتبوا رواياتٍ عن آلامهم.

تُمثّل تجربته، في جانب منها، تجربة الكاتب الذي لا يجد كتبَه في المدن التي أحبّها وعاش فيها. فالعديد من كُتبه غير متاحة في بلده. فيما هو نفسه موجود، يعيش ويحتفل أو يحزن مع أصدقائه.

كذلك له إسهاماته الفارقة في الدراما التلفزيونية، وهو سيناريست دفعته رداءة شرط الإنتاج العامّ في سورية إلى الاعتكاف عن الكتابة التلفزيونية، إذ إنّه ينجز في الدراما أعمالاً تشبه المُشاهد، تشبه حياته وعالمه. وربما ما بقي من دراسته للحقوق (وهو خرّيج جامعة حلب عام 1988) هو مطالباته الدائمة بإحداث نقابة لكُتَّاب السيناريو، تحفظ لهم حقوقهم.

أشهر أعماله “سيرة آل الجلالي” (2000) الذي قصّ حكاية عائلة حلبية، وعبرها حكاية الأسرة السورية ككلّ. وله أيضاً عمل استلهم به سيرة الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954 – 1982)، وهو مسلسل “زمن الخوف” (2007)، وكتب “هدوء نسبي” (2009) عن سقوط بغداد. لكن بقيت حلب المجال الأثير الذي تحرّك فيه خالد خليفة، على الرغم من استقراره في دمشق سنوات طويلة من حياته، وفي السنوات الأخيرة كان مستقرّاً في اللاذقية، وكان يكتب عنها. في تجربته التي تعكس جانباً من شخصيته نفسها، بدا أنَّ خليفة يكتب عن مدن أحبّها، ويعيش في مدنٍ أحبّها. آخر إصداراته “نسر على الطاولة المجاورة” (“هاشيت أنطوان”، 2022) يَذكر فيه جانباً من شهاداته ككاتب. وبحسب ما تسرَّب من أخبار قد يكون القارئ على موعد مع رواية جديدة لخالد خليفة العام المقبل، مع ناشره “هاشيت أنطوان”.

تدفع عجالة موت خالد خليفة إلى التفكير بالموت نفسه، بالموت السوري بصورة أدقّ. فعجالة موته ومباغتته تجعلنا نفكّر بتوسيع مقولة الراحل ممدوح عدوان (1944 – 2004) عن أنَّ في حياتنا شيئاً يُجنّن، إلى مجال أكثر حسماً وحديَّة في مصائرنا، خصوصاً في مصائر الأشخاص الذين يحملون همّاً عامّاً. فالواضح من موت خالد خليفة أنَّ في حياتنا شيئاً يَقتل، شيئاً يجعل الموت أمراً داخلياً، أشبه بالمشيئة، أمراً تستدعيه النفس، من جرَّاء عنف الخارج، وتعقيد صورته ومآلاته. كما لو أنَّ مقولة المسرحي السوري فواز الساجر (1948 – 1988) عن الضيق تحتاج أيضاً إلى أفق جديد بمفردات اليوم السورية. أفق للعبارة التي تنادي إلى أن نفتح النوافذ والأبواب كي لا يقتلنا الضيق، لكن الضيق أصبح داخل أنفاسنا. الضيق يحاصرنا ويقتلنا من الداخل. وخبر الموت الصاعق للروائي السوري المليء بالطاقة والحياة والمحبّة، الكاتب الذي نراه متنقّلاً بين مدن وعواصم العالم وعائداً بتواتر إلى دمشق وإلى اللاذقية، ما هو إلّا ضيق بالعيش نفسه. هذا تأويل لحدث الموت، لأنَّه تبدَّى لنا أنَّه حدثٌ خرج من إحدى روايات خالد خليفة.

* روائي من سورية

العربي الجديد

———————-

في وداع خالد خليفة/ محمود الرحبي

نبأ بطعم الفجيعة، الرحيل المفاجئ للروائي (والسيناريست) السوري المتقد خالد خليفة عن 60 عاماً إلا شهوراً. لم يصدّق كثيرون بسهولة، وتصادت الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي بين مصعوق ومندهش، كتب مثلاً صاحب رواية “برّ دبي” السوري زياد عبد الله، الذي تجمعه بالراحل صداقة وطيدة، في صفحته بـ”فيسبوك”: “حاولت ألا أصدق خبر وفاة خالد خليفة، وأمام هذا الفيض من العتب على رحيله المبكّر والخاطف، بدا الأمر حقيقة. نعم الأمر مدعاة لمعاتبته! لا بل ما باليد سوى معاتبته هو بالذات على رحيله المبكّر والخاطف. ومع انقضاء هذا العتب، بدأ التقوّي بالذكريات أفضل ما يمكن فعله، هو أجمل صُنّاعها ممزوجة بالبهجة دائماً”.

تطلّ صورة خالد خليفة أمام العينين، بنقرة زرّ في الشاشات الرقمية، مبهجة باسمة، أو على وشك الضحك، بلحيته المبعثرة التي كأنما جاءت نتيجة انشغاله الحثيث بكتابة ما. قبل يوم من رحيله، كنت في حديث في مقهى على هامش معرض الرياض للكتاب، مع الكاتب السوري هيثم حسين، عن خالد خليفة، حين اقترحت عليه، مازحاً، أن يقتني موس حلاقة لخالد، عساه يجد لها وقتاً خارج طاولة الكتابة.

ربما عرف خالد خليفة بتتابع رواياته التي جاءت مشروعاً سورياً خاصّاً يربط الماضي بالحاضر، وجعل منه أكثر المرشّحين تداولاً لجوائز الروايات العربية، وفتح له الباب للترجمات إلى لغات عدّة. وقد رجّح فوز روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” بجائزة نجيب محفوظ للآداب لعام 2013، والتي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، أهمية أعماله، وساهم في مزيد من ذيوعها. وهي جائزة لا تسبقها قوائم، وللفوز بها، ربما لموضوعيتها وحملها اسم عميد الرواية العربية، أهمية وازنة، وتوفّر الباب للفائزين بها حصّة من الشهرة، كما حدث مع رواية السوداني حمور زيادة “شوق الدراويش” فقد كان فوزه بهذه الجائزة جواز سفر حقيقياً له إلى مزيد من القراء الذين تابعوا رواياته اللاحقة. حصل هذا مع خالد خليفة، بعد “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” التي قدّمته كاتباً مكتملاً، عرف كيف يجول بهدوء وتوسّع في العوالم السورية تاريخاً وحاضراً.

تمتاز روايات خالد بتلك الصفة التي أطلق عليها أمبرتو إيكو “سرّ الكتابة الحقيقي”، وهو ما يعني إتقان الوصف، وقد مارسه إيكو في معظم رواياته التي تتصف بالطول والبدانة المحبّبة (بسب تاريخية مواضيعها؟) مثل روايتيه “اسم الوردة” و”مقبرة براغ”، حيث يقدّم كل فصل فيهما جديداً ومختلفاً كلياً عن سابقه، وكأننا أمام رواياتٍ عدة في كتاب واحد. وقد استفاد إيكو في هذه التقنية من كتاب “ألف ليلة وليلة”، حيث كل ليلة ليست كالتي قبلها، ولا التي بعدها قطعاً، وإنْ كان منطلق الحكي واحداً. حاول خالد خليفة، في رواياته أيضاً، أن يبث جديداً ومختلفاً في كل فصل من فصولها. إنه كاتب فصول متقن. حتى في رواياته القصيرة نسبياً مثل “الموت عمل شاقّ” التي تسرد طريق جثة محمولة في سيارة إلى الدفن. رواية في هجاء المأساة السورية بكيفية مبتكرة ماكرة، تجعلك لا تخرج من أجواء هذه الحرب بمجرّد خبر عابر، إنما تعيش معها أولاً بأول، وفي لهاث، وكأنك تعوّض اللهاث المفقود للميت، عن طريق مصير جثّة يبحث لها أصحابها عن مكان تكرّم فيه تحت الأرض، ولا يجدونه بسبب الواقع الأمني المرير.

تميّز الراحل كذلك بما سمّاه النقد “أفق انتظار” فرواياته ذات الطبيعة السورية الصرفة لا يمكن أن تصدُر من دون أن تجد إقبالاً كبيراً من القرّاء فتعاد طبعاتها، وتترجم إلى لغات عدة، كما “مديح الكراهية” التي تأخذ طابعاً تاريخياً بعيداً عن السياسي المباشر. كما أن رواياته تتميز، في داخلها الموضوعي، بذخيرة البطء، لأنّها تستند إلى مرجعيات محلية سورية محقونة بخيال كاتب يجيد صناعته… يقدّم لك خالد خليفة روايته كمن يقدّم وثيقة نادرة لقرّائه، وهو بارعٌ في إسقاط الأزمنة ومزجها، فالتاريخ عنده حاضر والحاضر أزلي. رحمه الله.

العربي الجديد

——————————-

خالد خليفة.. عن حلب والحبّ والصلاة المرفوعة دائماً/ أنس الأسعد

“الطوفان” وحدَه الأجدر على غَسْل “الآثام”. هذان هُما عنوانا الفصل الأوّل والثاني من الرواية الأخيرة “لم يُصلِّ عليهم أحد” (2019)، للروائي السوري خالد خليفة الذي رحل عن عالمنا أوّل من أمس السبت، عن تسعة وخمسين عاماً. قبل أيّام من هذا التاريخ الأليم، الذي فُجِعنا فيه بكاتب ما زال في ذُروة عطائه الإبداعي ويُنتظَر منه المزيد، التأم أعضاءُ نادٍ صغير للكِتاب في بيروت، شبابٌ وشابّاتٌ مدفوعون بشغف كبير يتحدّثون ويفصّلون الحديث عن “حوش حنّا”، القرية التي ابتلعها الطوفان في الرواية، وعن صداقة زكريا البيازيدي وحنّا كريكورس. تساءلتُ: ما الذي يجعل من كتابة خليفة حيَّة بهذا القدر، حتى تنشغل بها شرائح مختلفة من عموم القرّاء العرب، إلى المُدقّقين والمختصّين في الرواية السورية؟

شخصيّاً، لم أتصوّر أنّي سأكتب عن الرواية، إلّا في مناسبة تُتيح لي أن أصل إلى صاحبها، أو “الخال” كما يُسمّيه السوريّون، لأقول له: “شكراً على هذا الجمال الذي يُشبهُك”. فخالد (باسمه الأوّل) ليس صعباً أن تتعرّف عليه أو تلقاه، وإن لم تفعل فهو سيدقّ بابك ويسعى إليك. وأن تقول عنه: “هو من عامّة الناس”، ليس في هذا التوصيف مبالغةٌ ولا ادّعاء تواضُع، ها هي صفحات الناس عامّة، على وسائل التواصل الاجتماعي، تكتب عنه وترثيه، ويضع الهُواة والمُجرّبون والقرّاء العاديّون صُورهم معه بكلّ عفوية، بالمقدار نفسه الذي يتحدّث عنه زملاؤه الروائيّون والنقّاد ومترجمو أعماله إلى اللغات الأُخرى. نعم، أشهُرٌ قليلة تفصلني عن محاولتي الكتابة عن الرواية، التي أرجأتُها ظنّاً منّي أنّي بعد وقتٍ سأصل إلى كتابة مُختمِرة مُلِمَّة بكلِّ تفصيلٍ من تفاصيل العمل. ها نحن الآن، جميعاً، نكتب ونصلّي مع أشباح البيازيدي وكريكورس على روح “الخال”، يا للأقدار!

كتب خليفة عن حلب، مدينته الأُولى، منذ البدايات التي عرفه بها الجمهور في “سيرة آل الجلالي” (2000)، العمل التلفزيوني الذي وقّعه بصرياً، ابن مدينته، المخرج هيثم حقّي. بعدها ظلّ الروائي يواصل سعيه في أعماله السردية قارئاً التاريخ السوري المعاصر وتحوّلاته الاجتماعية في ظلّ الهيمنة البعثية التي أفرزت ما أفرزت من عِلل وأمراض، لكنّه في “لم يُصلِّ عليهم أحد” لم يرجع إلى تلك المدينة على طريقة “الاحتفاء بالمحلّي”، حيث المكان يخنق صوت السارد وخيال القارئ معاً، على العكس تماماً، عاد إلى حلب ليروي جواراتها القريبة/ البعيدة، بدءاً من أريافها، مروراً بحمص وبيروت وطرابلس وحوران، وصولاً إلى إسطنبول، ومنها إلى جغرافيا أوسع.

خليفة، في عمله هذا، هو بنّاء يتقصّى لَبِنَاتِه من أبعد الأمكنة وأشدّها اختلافاً، لا يرضى لسرده أن يكتفي بالصوت المألوف، ولا الحنين المَرَضي. حلب التي كتبها جميلة نعم، ولكنها ليست مُستدعاة من “زمن جميل”، وجمالُها مُتأتٍّ من القدرة على تصوير البؤس والجوع والطواعين المتفشّية، وتمزُّقات السياسة قبل مئة عام، التي انعكست في أجساد أبناء المنطقة، من الأعيان إلى برجوازيّي المُدن ومتعلّميها، إن جاز التعبير، وليس انتهاءً بالفلاحين والمُشرّدين وبائعات الهوى.

في لقاء سابق أجرته “العربي الجديد” عام 2014 مع الروائي السوري، نراه يستعيد حلب المُهمّشة، وكيف انكفأت المدينة على ذاتها في ظلّ الحكم البعثي، يقول: “المدينة جارحة، الذكريات جارحة، الصور جارحة، إلى درجة أنّني أتساءل مع أبطالي: كيف استطعنا العيش في ظلّ هذا العار؟”.

كتب خليفة عن الحبّ، أو “الحبّ المستحيل”، عنوان الفصل الرابع من العمل، لم يكن رومانسياً قطُّ، مُعجمُه واقعيٌّ قاسٍ، بلا ثقل دم ولا تطفُّل أو استسهال. ومسرحُ هذا الحبّ عنده هو الجسد وحده، الحاضر في روايته ليحكي عن الجوع بمعانيه كلّها دفعةً واحدة، جسدٌ مكتوبٌ بلغة الفترة التي عاش فيها أصحابُها قبل مئة عام، من غير تفريط بالمبادئ الحقوقية العامّة والبدهية لعصرنا، ولا خضوع لخطاب أيديولوجي يعمل على “تنقية” الأدب بما يتوافق مع سياسات الهوية الرائجة اليوم.

خليفة الذي اشتبك منذ “دفاتر القرباط” (2000) بـ”حرّاس الفضيلة” (الخديعة) بطبعتهم البعثية، ما كان ليكتب وفق ما يقترحه الحُرّاس الجُدد. “استيقظَت شمسُ الصباح بعد أقلّ من ساعة، نهضت من فراشه، اغتسلت، ثم غيّرت الشرشف، واضطجعت قُربه. كان الفجرُ يتسلّل من النافذة، وَلَجَها مرّة أُخرى، وكانت تهذي باسمه، تتأوّه، تتلوّى تحته، تركته يقودُها إلى حيث يُريد، ويفعل بجسدها ما يشاء”.

كتب خليفة عن الصداقة، بما هي أوّلاً “الطريق الشاقّ”، عنوان الفصل السادس، وطّأ من خلالها إلى عالم آخر، يختلف عن الوطنيات المُبتذلة حول التعايُش والتآخي بين المكوّنات، والتي تُصادفنا عادةً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألم يُعِد في ذلك سيرة “التسامح”؟ اللفظة الأخيرة تُحاصرنا هذه الأيام بـ”خيريّتها” التي تُطلّ علينا من أبواب سياسية وإعلامية عديدة. يُمكننا القول إنّ خليفة قد تجاوز هذه الأُطر، لم يكن عنده الكثير من الوقت لينشغل بالنقد ونقد النقد، هذه مهمّة أُخرى اختلقها بعض النقّاد المدرسيّين والمثاليّين، فاجتهاداتُه السردية كانت تضعه مباشرة في صلب عملية الكتابة، وتُوصله (ومَن قال إنّ الطريق، هنا، ليست شاقّة؟) إلى أبعد حدٍّ مُمكن، حتى لا تأتي معالجته لهذه القضية نمطيةً. وإنْ كان مِن قول نقدي يُضاف على هذا التفصيل فليُكتب، فالرواية صدرت منذ أربع سنوات، وإلى الآن لم تُطالعنا المواقع الأدبية بأيّ مراجعة شاملة عنها!

أسئلةٌ أُخرى يطرحُها العمل: أبرزها ثيمة التاريخ والعَودات المُتكرّرة إليه وما فيها من إشكاليات، أقلّها على مستوى الخطاب والسرديّة التي تحمل الرواية وتُحرِّك شخصيّاتها. فالزمن الذي اشتغل عليه خالد خليفة في “لم يُصلِّ عليهم أحد” أخذت فيه المنطقة ترتسم وفقاً لخريطة سياسية جديدة، في ظلّ “عالمٍ يتداعى”، كما عنون الفصل الثامن. تلك هي التشظّيات الحقيقية التي حفرت مساراتٍ من لحمٍ ودم لحلب وللحُبّ وللصداقة، بل حفرت أيضاً مسارات الخيول التي استحضرها بكامل دهشتها في عمله هذا منذ الصفحة الأولى.

طبعاً لا تُمكن قراءة العودة إلى التاريخ في هذه الرواية (هو تاريخ قريب، ونحن، اليوم، امتدادٌ عنه على أية حال، ولا يأخذ أيّ معنىً فلكلوري)، بمعزلٍ عن عالَم خليفة الروائي. وهنا يُمكن أن نُقارب بعض إنتاجاته من باب التصنيف، فنتحدّث عن مجموعة أُولى (مجازاً وليس بالمعنى الحرفي) فيها: “مديح الكراهية” (2006) و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013)، مقابل أُخرى تتضمّن “الموت عملٌ شاق” (2016)، و”لم يصلِّ عليهم أحد” (2019). الأولى تبحث في التحوّلات الاجتماعية داخل سورية، وهي مثال للرواية المهمومة بالسياسة، ولكنّها ليست سياسية. أمّا المجموعة الثانية فتخرجُ من الحرب في سورية كواقع يومي مُعاش بعد أن مثّلته، ثم تتّجه إلى التاريخ بوصفه رمزاً أعلى وأبعد للمحنة، هناك تأخذ التجربة مداها. ومن بين تلك العناوين والتواريخ، يظهر حدثٌ هو العنوان والمستقَرّ، إنه تاريخٌ قلَبَ وزعزع التواريخ الراكدة من قبله في عام 2011، حيث لم يكن “الخال” خالد خليفة بعيداً ولا متأخّراً عنه أبداً.

أخيراً، الرواية التي بدأت بـ”الطوفان” وباستعارة ثنائية الماء والآثام، بما فيها من إيحاء ميثولوجي، خُتمت بـ”سرير القدّيس الليّن”، وبعودة مجازية إلى الماء أيضاً، بقدرته السحرية على الإرواء والإحياء أو حتى خطف الأنفاس “غاص في أعماق النهر، هناك كان ابنُه كابرييل وجوزفين وابنُ زكريا والخوري وخطيب إيفون وأبوه صاحب المطحنة، وباقي الغرقى ينهضون من موتهم مرحين، اصطحبوه من يده إلى ملكوتهم حيث الحياة هناك طَريّة والأسماك لا تموت”.

العربي الجديد

———————-

رحيل الكاتب السوري خالد خليفة: حكايات الماضي الراسخ والخوف من المستقبل/ محمد عبد الرحيم

 «ميلادي الشخصي قريب من استلام حزب البعث للسلطة في 1963 وبالتالي هناك في سوريا جيل كامل، عاش حياته وحتى الكهولة خلال هذه السنوات الخمسين، ولم يكن لتاريخ الولادة أي دلالة خارج سياقها، سوى الإشارة إلى بؤس هذا المولود الذي لم تكن أمه ترغب بهذا التقاطع بينه وبين الحزب» (خالد خليفة في حوار صحافي).

«دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب موارب يزداد ضيقاً حتى يخنق القاتل» (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة).

رحل الروائي وكاتب السيناريو السوري خالد خليفة (1 يناير/كانون الثاني 1964 ــ 30 سبتمبر/أيلول 2023) والذي شكّلت أعماله في السنوات الأخيرة الصوت الروائي السوري الأكثر صخباً وحدّة، نظراً لطبيعة هذه الأعمال وكشفها الكثير من حالات القمع السوري، وتسلط الحزب الأوحد ورجاله على الشعب، والتي يمكن أن تمتد إلى حالات مشابهة في الدول العربية، حيث لا صوت يعلو على صوت الحاكم. ومن ناحية أخرى تتداخل هذه الأعمال مع الحدث التاريخي ـ خاصة مدينة حلب مسقط رأس الكاتب ـ وهو ما يتماس بدوره مع تاريخ المدن السورية، أو بمعنى أدق إعادة تأريخ الحوادث من وجهة نظر روائية.

ذاعت شهرة خليفة لما لاقته رواياته من ترشح دائم في المسابقات العربية، كالبوكر، كما في روايته «مديح الكراهية» التي ترشحت لجائزة الإندبندنت العالمية، ووصلت إلى قائمة البوكر القصيرة في دورتها الأولى 2008، وكذا رواية «لم يصل عليهم أحد» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة في 2020. فضلاً عن فوز روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» بجائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2013، التي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة، إضافة إلى ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات.

لم يفصل خالد خليفة الحالة الروائية عن الواقع السوري ومعايشته، والمعاناة التي يعيشها الشعب في ظل الحكم المطلق للحاكم والحزب، ولم يفصل كذلك بين الموقف الروائي والشخصي من الثورة السورية، التي رغم كل ما أصابها ـ كحال الثورات العربية ـ كان يرى أملاً في تجاوز هذه المحنة، أو المرحلة المفصلية القاسية التي لم يزل يعيشها السوريون وأمثالهم الموصومون بالعروبة من أصحاب الحضارات.

ونحاول استقراء بعض هذه المواقف والرؤى، سواء من خلال بعض أعماله أو حواراته الصحافية..

العالم الروائي

«وبدأت تكتب رسالة طويلة لكائن مجهول كنا نظنه عشيقاً، أو صديقة قديمة تشاركها الحديث طوال الوقت عن أزمنة ماضية، لم تعد تعني أحداً، لكن أمي في سنواتها الأخيرة أقامت فيها، ولم ترغب في هجرها، لم تصدق بأن الرئيس مات كأي كائن، رغم مراسم العزاء والحداد الوطني، التلفزيون بث صوره وخطاباته القديمة، استضاف مئات من الأشخاص عدّدوا خصاله، ذكروا ألقابه اللامتناهية بخشوع كبير، غصت عيونهم بالدمع وهم يذكرون فضائل الأب القائد، قائد الحرب والسلم، حكيم العرب، الرياضي الأول، القاضي الأول والمهندس الأول.. يشعرون بغصة كبيرة لأنهم لم يقولوا الإله الأول».

هذا المقطع من بدايات رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، هذا هو المناخ الذي يحكم الذاكرة، التي لم تحتمل أن تصدق وترى الحقيقة، فالزعيم/الحزب/السلطة، لن يمسسهم موت، فهناك رعب من حرية الحقيقة. يتخذ خليفة من مدينة (حلب) مكاناً لسرد أحوالها وتغيراتها تحت حكم البعث، بعد انقلاب 1963، هذه المدينة التي شاخت وتآكلت كأرواح أصحابها، وأصبح الناس إما موالٍ مرتعب، أو معارض يعرف مصيره سلفاً، لتكمن مصائر الشخصيات ما بين الجنون أو الانتحار، فلا أمل لهؤلاء طالما هذه السلطة قائمة، فلا فارق بين الأب والابن ـ الابن الذي اتضح أنه أكثر دموية ـ وهذه حال اختصار الدولة في حزب وحيد وحاكم أوحد. وفي تنويعة أخرى لصلف السلطة وما تفعله بالناس، تأتي رواية «الموت عمل شاق»، وهي فكرة كما يذكر صاحبها جاءته عندما تعرّض لأزمة قلبية في 2013، فتساءل عما يمكن أن تفعله عائلته بجثمانه، وكيف يمكن لها أن تنقله إلى قريته في شمال حلب.. «فالسوريون في ذلك الحين كانوا يدفنون جثث ضحاياهم في حدائق منازلهم، وقبل هذه الحرب كانوا يأتون بجثامين أحبائهم من أبعد نقطة في الأرض ليدفنوها في مقبرة العائلة، وعائلتي ككل العائلات الريفية قضية الجثمان لديها قضية كبيرة».

تدور الأحداث على الطريق بين دمشق وحلب بعد ثلاثة أعوام على الثورة السورية، وتحولها إلى حرب أهلية، حيث المناطق التي تخضع لسلطات وتيارات وطوائف مختلفة. وهنا يخضع الأشقاء (نبيل وحسين وفاطمة) لوصية والدهم (عبد اللطيف) بدفنه في مسقط رأسه في قرية (العنابية) في حلب، مع ملاحظة أن الأب المتوفى كان مناضلاً قديماً ضد نظام الأسد، وبالطبع لنا أن نتخيل كم المهازل، لتبلغ الفانتازيا أو السخرية السوداء مداها، بأن يتم القبض على الجثة التي بدأت تتعفن، والتحفظ عليها، بصفة الرجل/الميت مجرم في حق الرئيس الراحل الخالد! هذه وجهة النظر الأمنية، أما على الجانب الآخر فالحظ العاثر يوقع الأخوة في يد تنظيم سلفي متشدد، فلا يجدون سوى إقامة الحد على نبيل، واعتباره كافراً. وبالتالي فلا أمل ولا مفر من عسكري أو رجل دين، فهما في القمع سواء.

مدينة الضحك

تحت عنوان «حمص مدينة الضحك التي صارت أطلالا وخرائب» يكتب خالد خليفة آخر مقالاته المنشورة قبل رحيلة في مجلة «المجلة» في 24 سبتمبر/أيلول 2023، ويذكر الرجل مدينة حمص التي ادّعى أهلها الجنون بعدما شربوا الماء من نهر العاصي خشية قتلهم من تيمورلنك، الذي خاف بدوره وتركهم لحالهم، ولم يفعل بهم ما فعله بمدن سورية عديدة، فيقول.. «هذه الحكاية تتوّج حمص عاصمة للخيال أيضا، وليس للضحك فقط. أي رواية وحكاية مكتملة الأركان هذه التي تجعل من تمثيل مدينة بأكملها دور المجانين، لمنع محتل وقاتل من دخولها. بقيت حمص ملهمة وطالبت مرارا باعتبارها عاصمة العالم للضحك… لكنّ كل شيء مضى اليوم، تحولت حمص إلى مدينة أشباح، ومأساة من مآسي العصر، من يسير في طرقها يعرف ما حصل للسوريين منذ عام 2011 إلى اليوم».

المنافقون

عُرف الرجل بمواقفه الحادة، التي لا تعرف المواربة، لا في المجال السياسي وحسب، ولكن في الوسط الأدبي أيضاً، وما يتم إنتاجه من قِبل هذا الكاتب أو ذاك، وهل يرقى بالفعل لمستوى الكتابة؟ يوضح خليفة أكثر في إحدى حواراته قائلاً.. «ومَن قال إنه لا يُروَّج للجيل القديم، ومَن قال إنه لا يُعتنى به، من شروط العناية بك هنا أن تصبح رجلاً عجوزاً لتُكرّم، للأسف لم أر كاتباً عربياً واحداً أو سورياً قال إنه لم يبق لديه ما يكتبه ويرغب بقضاء باقي أوقاته في أشياء أخرى غير الكتابة، كاللعب مع أحفاده، أو نقاش وتعليم الكتّاب الشباب تقنيات الكتابة، تأمل الطبيعة أو القراءة، الكل مصمم على الكتابة حتى الموت، ومع ذلك منذ سنوات لم يقدم هذا الجيل رواية واحدة مهمة. ذكروني برواية سورية واحدة مهمة منذ عشر سنوات قدمها هذا الجيل لأغير رأيي … الكتّاب العرب لا يحبون أن يستمعوا إلا إلى المديح، لذلك الكتّاب العرب لن يمسوا المقدسات، باختصار يريدون أن يسافروا إلى المؤتمرات، ويمتدحوا النقاد كي يكتبوا عنهم، وللأسف الكثير من أبناء جيلي منافقون أكثر من كل منافقي الأجيال القديمة».

الثورة

يقول خليفة.. «الثورة كانت ولا تزال ضرورية، ورغم ذلك أتساءل، لماذا كان يجب علينا أن نقدم هذا الكم الهائل من الضحايا؟ بكل بساطة، تبيّن مع الوقت أنه كان علينا أن نضحي بحياة 50 ألف سوري من أجل الحفاظ على مصالح إيران على سبيل المثال. وكان يجب أن يموت 50 ألف آخرين من أجل مصالح روسيا أو الصين أو غيرهما. لا نموت من أجل ثورتنا فقط. نحن نكتشف فجأة بلدنا وعلاقاته المعقدة وسياقاته السياسية من جديد. نكتشف وجود تسوية دولية بخصوص استقرار المنطقة على حساب حريتنا. توجد هذه التسوية منذ أكثر من خمسين عاما، وعندما تم الاتفاق عليها، لم يذكر أي أحد أن حرية السوريين يجب أن تكون جزءاً من هذا الاستقرار. ونختتم الموضوع بعبارات للكاتب الراحل تصف ما كنا نأمل أن يكون وما هو كائن للأسف، إذ يقول: «اعتقدنا في 2011 أننا كسرنا حاجز الخوف، لكن بُني أمامنا حاجز جديد.. نحن الآن خائفون من المستقبل وبلادنا بالكامل تقف في المجهول».

ببلوغرافيا

خالد خليفة كاتب سيناريو وروائي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1964. تخرج في كلية الحقوق، وبدأ في نشر أعماله الأدبية عام 1993 بعنوان «الخديعة»، ثم توالت أعماله.. «دفاتر القرباط» 2000، «مديح الكراهية» 2006، «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2013، «الموت عمل شاق» 2016، «لم يُصلّ عليهم أحد» 2019، «نسرٌ على الطاولة المجاورة» 2022. إضافة إلى سيناريوهات بعض الأعمال الدرامية .. «سيرة آل الجلالي» 1999، «قوس قزح» 2000، «ظل امرأة» و»زمن الخوف» 2007، «هدوء نسبي» 2009، و»العراب» 2016.

الجوائز والترشيحات..

«مديح الكراهية» القائمة القصيرة للبوكر العربية 2008، والترشح لجائزة الإندبندنت العالمية للرواية.

«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» جائزة نجيب محفوظ للرواية 2013، والقائمة القصيرة للبوكر العربية.

«لم يُصَلِّ عليهم أحد» القائمة الطويلة للبوكر العربية 2020.

القدس العربي»

——————————-

==========================

————————-

خالد خليفة… روائي الفجيعة السورية/ نوار جبور

بدأت تجربة خالد خليفة بالوحدة، هذا الميراث الذي يتحدّث عنه لمحاولته الأولى في صُنع وحدته وفي أن يتعلّم كيف يكون الكاتب والروائي وحيدا. لم تكن إجازة الحقوق التي حصل عليها، لتملك أي معنى له، كان أسيرا لشيء آخر، لأن يقول شيئا عن الولادة والأخوة والرفاق وأبناء البلد. أخوته رسموا طريقا له دون أن يوصله إليه، السياسة، ثم الأدب. قادته المكتبة إلى أن يقرأ كثيرا، وحيث تكون العزلة انهماكا وهمّا وانشغالا.

لم ينزع ترحال خالد خليفة الطويل بين المدن السورية، سيرة البدايات ولا النضج الأول، كانت القصص القصيرة هي الملجأ الأول له، بعد أن جلس طويلا مع الروايات الروسية، ثم مع عبد الرحمن منيف، وأغلب ما يعيد قراءته كل فترة، مع صديق عزلته دوستيوفسكي. في بداية أي سيرة يرويها عن نفسه، وهو يحزم يديه تحت إبطيه، يتحدّث عن السجن الرحيم الأول، الذي ألقاه على عاتق جسده وروحه من أجل الكتابة. قد تبدو سيرته سيرة راهب مُخلص أحيانا، أو سيرة تجربة في التحقق والنجاح. في دمشق واللاذقية، كان يدفع ثمن إيجار أي مقهى يختاره الشبان ليبدأ دورة سيناريو طويل، ودورات أخرى لكتابة الرواية. وذلك بعد أن بدأ يحقق حضورا آخذا في الاتساع، لاسيما مع “مديح الكراهية” (2006) الرواية الأولى التي كان فيها الصوت النسائي عاليا، وفيها تفكيك الشخصيات، التي تقلق وترتعد وتُعنف تحت نير الاستبداد. كان عليه أن يلقن جيلا طويلا من السوريين صدمة، حتى النظام السوري ذاته قد ارتبك أمامها، “مديح الكراهية” كانت العمل الأول تقريبا في بدايات القرن الحادي والعشرين، والتي لا تستخدم التضليل والمكر لإيصال فكرة مفادها أننا نحيا في مجتمع عنيف وخائف وقلق، وأننا ضحايا استبداد مخيف، وهذا بلغة بسيطة، سرديّتها من المعاش السوري والمخيلة المرعبة.

رواية المدينة

لم تكن الجولة الأولى له في الرواية منصفة لقدرته لا في التذكّر ولا في السرد. شهرة الرواية أفقدته شيئا من رهبنة العمل المنفرد، وأثقلَت عليه وزادت أسباب ما يهرب منه، ألا يختار كثرتَه التي يُحبها، ونجاح الرواية حمّله هما: متى تكون الرواية الثانية؟

 من القصة القصيرة إلى الرواية، الرواية بحدّ ذاتها حملت سيرة أخرى لدى قُرّائه ولديه هو بالذات، وحملت له بُعدا للمواجهة مع السلطة السياسية. بداية القرن العشرين حملت له خيارا أيضا، موقفه في الرواية أصبح موقفا سياسيا، وكان لسياسيي سوريا الكبار أن يملكوا روايتهم. في تلك المرحلة بدأ يزداد ظهور روايات المدن والمجتمع السوري. لكن خالد خليفة كان مواجها والأكثر مركزية، ومحققا لسيرة حداثة مروية بقسوة، منغمسة بالفقير والقاتل والطائفي والملعون والميت، ولم يملك سوى رغبة قاسية لنا وله في أن يقول: نحن لسنا على ما يُرام. انخرط خليفة في السياسة دون وجل، كلمة الرواية المنفردة لم تكفِه، كان متمرّسا في كتابة المقال، وإن حمل صفة أدبية أكثر من كونه سياسيا مخضرما، كانت السياسة واجبا أخلاقيا، فالتمرّس في القراءة السياسية منذ النشأة، جعله لا ينفكّ عن السياسة. ومع ذلك، لم تكن الروايات المتتالية ملتزمة سياسيا ولا أخلاقيا بالمعنى التقليدي للكلمة، فأسلوبه في بناء الشخصيات والحبكة يبتعد عن الدلالة الأخلاقية المباشرة، لكنه واقعي بالمعنى الأوّلي والمباشر للكلمة. إلهامُه مجتمَعه الذي لم يخرج منه، وذاكرته التي أبقت على ألفةٍ  شعوريةٍ قادَته لتحليل المجتمع السوري بحميمية، مهما حملت من قسوة وآلم. لم يكتب خالد خليفة من أجل أن يكون الحدث السياسي محققا لنوع من الجذب، لكنها ألفته، الحطام والدمار اللذان بدآ في سوريا منذ تولي العسكر السلطة وحتى اليوم، خاصة أن الأحداث السورية منذ ثمانينات القرن الماضي حملت عبئا سرديا ثقيلا لأي روائي سوري. كانت تجارب خليفة أكثر ذكاء، فما واجهته الجماعة السورية عموما وُضعَ بين يديه كانطباعٍ روائي أليف، أكثر من كونه سردا تاريخيا. وعلى الرغم من تعدّد شخصياته، إلا أنه أسبغ عليها بعدا انطباعيا فرديا، ظهر هذا في روايته الثانية “لا سكاكين في هذه المدينة”، وفيها يحضر تاريخ حلب النشط، بالمعنى الذي يكون فيه تاريخ المدينة متصلا دون أن يتوقف عن الدمار والتفجّع، وكأن لكل مرحلة في الفصول الخمسة قصة انتهاء وبداية مؤلمة ومأساوية، يختلط فيها المجتمع بالفرد من خلال الفاجعة، دون أن يلطّف غرابة البطش أو القسوة، لكنه يظهر في الرواية كذاكرة أليفة أقرب للجميع مما يتوقعون. وصولا إلى روايته “الموت عمل شاق”، كان خليفة يرسم الفاجعة السورية دون أن تحمل الحربَ فقط بل تحمل معناه، سيرة الجثة، وثقل الفكرة في أن تكون الوصية الآتية من عالم الحياة تملك سردها ومبتغاها في عالم الموتى. الطرقات والجغرافيا والحدود بين المناطق، كلّ منها يزأر بالموت ويحدّد عوالمه.

أثر آخر

كان خالد خليفة مؤثّرا في الساحة السورية من منطلق آخر: كتابة السيناريو، والذي كان يصفه بأنه طريقة مثلى لعيش الكاتب.  ما ظلّ حاضرا في هذه التجربة، صدقه في أنه يعمل في السيناريو ليمارس عاطفته، لقد استطاع مهنيا وتقنيا أن يتطوّر مرّة أخرى منفردا ومعزولا ليُتقن فن السيناريو، كان يوضح للجميع بأن هذا نداء الحياة التي يودّها، في أن يكون في حالة مادية جيدة، دون عناء انتظار مردود المقال أو الرواية. وقد كان واضحا جدا في موقفه ورؤيته: الكتاب في أزمة والرواية أيضا، ما يبدو قابلا للحياة الجيدة مهنيا هو السيناريو. ولم تكن تجربته في هذا المجال أقل من تجربة الرواية على مستوى الإبداع والتحقّق، وكان له دوما دهشة البدايات. كان المسلسل اختراقا هائلا لدراما حلبية على حساب هيمنة دمشقية في الدراما السورية، كان التأسيس الأول لفكرة الدراما التي تملك انخراطا ثقافيا مختلفا قائما مع سيرة مدينة بأهوالها وتغيراتها، واندماجا حقيقا بين المجتمع والدراما ضمن مركّب درامي شيق.

في التراكم الذي أنتجه خليفة، أصبح جماهيريا ومحبوبا ومتابَعا، انعكس هذا في قهره ضمن مرحلة تقليدية يمر بها كل مثقف سوري في العداء مع النظام، بالتالي عزله اجتماعيا، أو طرده من البلاد تحت سلطة أساليب الضغط، لكنه أصبح مكرّسا بين الجمهور الذي يقرأ والذي لا يقرأ، روائيا وكاتب سيناريو ومعلما لم يبخل بأي شيء من الممكن قوله.

إنتاج المعنى

لكن في كل التجارب التي شهدها خليفة خليفة، والتي استمرّت وصولا إلى روايته ودفاتره والمسلسلات الدرامية التي تلاحقت، استطاع أن ينتج معنى عميقا وراسخا للذات السورية، من المرأة إلى المثقف، إلى الفقراء والمقتولين، وإلى سيرة كل بطل أو بطلة تنتهي بالموت. بدا التمزّق الاجتماعي السوري في روايته أكثر ألفة، وهذه الميزة هي ذاتها التي وضعت ضمن لغة شعرية وصورية وملحمية، خالية من أي رمزية. حتى شعريته في الكتابة لم تكن جنسا، بقدر ما آلية للألفة والاقتراب من القارئ بغية سحره. طبيعةُ الإلغاء الذاتي لشخصه في النصوص، ترفع قيمة ما يكتبه، منكسرا كسارد واضح لتنويع وجهات نظر الشخصيات، واستهداف لأكبر قدر ممكن من الخطوط السردية، ومستعيضا عن شخصه الواضح لإظهار آرائه السياسية والأخلاقية جهارا، ما جعل رواياته كلها تندرج ضمن خطوط منكسرة ومتنوعة جدا.

لا يقمع خالد شخصه الخائف والرقيق في أي مقابلة صحافية، حدّته تكمن دوما في مقارعة وحشية الاستبداد، دون أن يخفي هشاشته ورقته. “أخاف من مشاهدة مقاطع فيديو لحلب” “أحب دمشق لأنها ضاجّة جدا”، “الناس أجمل من وراء الزجاج”، “لا أحب الناس الخائفين في الدولة التوليتارية”، في هذا كله يحضر الطابع الإنساني السخي، والجانب الخاص جدا في شخصيته، والذي يطغى على كل ما كتبه أو حتى ما حاول أن يقوله. الروائي الذي جعل سوريا مدنا وشخصيات، دون أن يُسرف في التزام نحوها بشيء، سوى أن يقودها إلى حتفها المتوقّع أو المفترض.

لم يعرف خالد خليفة عملا غير الكتابة، في بداية ورشات السيناريو، التي كان يبدأ فيها تعليم كل من يريد أن يكتب السيناريو أو الرواية كان يقول: “أنا أعرف السجن  دون أن أدخله كأصدقائي كلهم الذين انتظرتهم”، لقد سجن نفسه لوقت طويل ليقرأ كل ما استطاع شراءه من روايات، وأسر نفسه ليكتب روايته الأولى.

شغف العزلة

 بعد سن الخمسين، كان شغفه أن يكتب عن العزلة التي لا تشبهه، كان أقل قدرة على اكتشاف العزلة فكتب عنها، ثم أنه كان ماهرا في اصطياد الطقس الجماعي والإنساني. في السيرة التي نعرفها عنه أيضا، أن بيته، ولمرات كثيرة في الشهر، يتحول إلى حفلة استقبال لكل من يريد أن يزوره، الأفواج التي ترتاد بيته، فوجا تلو فوج تقتفي أثره الآن، والرسائل الأخيرة، والدعوات التي لا تنتهي من أجل الفرح. في الدافع السلوكي والذهني والعاطفي كان المنفرد يصنع نفسه في كثيرٍ من الناس، محاولا ببنية عاطفية هائلةِ المعنى صُنع المجتمع الأهلي الذي يُحبه. خالد خليفة الخائف من أن يشاهد حطام مدينته، عبر أي وسيلة مرئية، استعاض عن طفولته وآثار الذاكرة فيه بالبشر، بالوجوه الكثيرة التي تزوره وتعرفه. في كل المدن السورية التي مرّ أو عاش بها ثمة من يستطيع القول بثقة : خالد خليفة صديقي. لم يجعل لإنسان قرأ له عائقا معه، أو حتى عائقا تجاه معرفته. بالكاد يصدق الناس موته المفاجئ، وكأننا نتحدث عن صديق أكثر من كوننا نحلل أثره. تعلم العزلة في الأماكن الأولى التي نشأ منها، وحينما انهارت ذاكرته في المساحة والمكان، مضى نحو الوجوه والمواعيد. ولطالما قدّم الهدايا عبر مقالاته الحاذقة لكل مدينة ومهمل، وصولا للأطباق البسيطة التي باتت في شهوة السوري ومُناه. كل ما يفعله خالد خليفة خلق السيرة، حتى السيرة المعقولة لانتقاله من الوحدة إلى الخوف، منها كانت سيرة سيحكيها الكثيرون، وهم يتذكرون انتظاراتهم له.  في الازدواجية الصعبة بين أن تكون إنسانا هائل المعنى والأثر، وكاتبا متنوعا ذكيا وحاذقا، تكمن مأساة أن يتوقف قلم خالد خليفة.

    في الازدواجية الصعبة بين أن تكون إنسانا هائل المعنى والأثر، وكاتبا متنوعا ذكيا وحاذقا، تكمن مأساة أن يتوقف قلم خالد خليفة

أعماله

صدرت لخالد خليفة عدة أعمال روائية، ترجم معظمها إلى العديد من اللغات:

لم يُصلِّ عليهم أحد، 2019.

الموت عمل شاقّ، 2016.

لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة (حصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية)، 2013.

مديح الكراهية، 2008.

دفاتر القرباط، 2000.

حارس الخديعة، 1993.

كما كتب سيناريوات المسلسلات التالية:

قوس قزح، 2000.

سيرة آل الجلالي، 2000.

ظل امرأة، 2007.

العراب – نادي الشرق الموسم الثاني، 2016.

——————————-

خالد خليفة… سوريا تودّع آخر ضحكاتها/ سامر أبوهواش

في آخر حوار هاتفي جمعني بالصديق والكاتب الراحل خالد خليفة، أخبرني بأنه عائد إلى دمشق، بعد بضعة أشهر قضاها في زيوريخ، بسويسرا. كان عمليا يعدّ الأيام للعودة، وكأن نقصا جوهريا حلّ بروحه بعيدا من دمشق التي عشقها، كما عشق حلب وحمص، وكل مدن سوريا وأريافها. استغربت حماسته هذه للعودة في حين يبحث الجميع عن سبيل إلى الخروج. الحرب التي لم تفض سوى إلى حالة من الخواء التام، واليأس المضاعف، لم تترك مكانا لخالد خليفة وأمثاله، كما معظم المدن العربية، التي لم يبق لأهلها خيار سوى الرحيل. لكنّ خالد لم يستطع أن يتخيّل نفسه خارج أمكنته وأناسه وأهله وأصدقائه. خارج طقوس عيش وكتابة، باتت جزءا من هويته وتعريفه لنفسه وللعالم. زيوريخ، وأوروبا كلها، جميلة، وآمنة، وهو الحاضر فيها كاتبا مكرّسا مكرما، منذ ترجم عدد من رواياته إلى مختلف اللغات الأوروبية، وإلى الإنكليزية بالتوازي معها، لم يكن يرى نفسه كاتبا منفيا، ولا اعتبر الحرب الطاحنة التي عصفت بكلّ شيء جميل يعرفه في سوريا، بوصفها فرصة لتحقيق “شهرة” و”عالمية” لم تكن تساوي عنده سوى ما تتيحه من احتمالات وإمكانات للسهر والسمر مع الأصدقاء ولحكايات تتناسل من تلك “الفرص”، تطبخ على مهل على مائدة الليل الذي لا يريد له أن ينتهي. ليس ذلك الليل الكالح المظلم الكئيب، بل الليل بوصفه عتبة الفرح والألفة والمسرات، ليل ترتفع فيه أبراج الضحك والفرح الأصليّ بالحياة، ذلك الفرح الذي بدا أن الحياة نفسها تقصر عنه، وعن بيانه على أكمل وجه، فكانت ضحكته الهادرة، دليله ودليل كل المحيطين به والذين باتوا جزءا من تلك الضحكة بتلاوينها الكثيرة، وبكلّ ما جرته عليها الأيام من جروح وندوب.

وخالد خليفة ابن ذاته، بالمشقات التي اختبرها وحده ليكتب سيرة مدن وأفراد وأزمنة كان يعرف أنها آخذة في الزوال. بدا كأنه يؤرّخ، أو يلتقط آخر صور عالم يراه يتلاشى أمام عينيه، ولم تكن الحرب التي عصفت بسوريا، والخيبات التي انتهى إليها الربيع العربي، سوى علامة من علامات هذا التلاشي الكبير. العالم الذي كان يعرفه خالد تداعى أمام عينيه، ومعه رحل العشرات والمئات ممن شكّلوا وعيه وذاكرته وذائقته الإنسانية والأدبية وطبعوا وجدانه، بل وساهموا في صنع شخصيته. بهذا المعنى كان خالد ابن من أحبهم وأحبوه. كان ثمرتهم بقدر ما كانوا بعضا من ثماره. ولهذا السبب ربما، لم يكن خالد مجرد كاتب أو مثقف، بقدر ما كان حالة، بدت طالعة من الروايات والقصص والأفلام واللوحات والأغنيات، وهذه كلها بعض منه، أكثر مما بدت طالعة من الحياة نفسها. لأن الحياة – هذه الحياة – أفقر وأكثر بؤسا من أن تأتي بأناس جميلين شغوفين بالحياة، من أمثال خالد خليفة.

————————–

قلب خالد خليفة يخونه… صديق السوريين يرحل بصمت/ مناهل السهوي

خالد خليفة صديق السوريين والصيادين والبنائين والأطفال والعمال والسائقين، صديق البحر وحبيبه ورفيقه، يطل صباحاً من شرفة الشاليه على بحر اللاذقية ويعشق البلاد أكثر ويحب أنه خُلق فيها وتماهى معها وكتب عنها. خالد الذي أحب كونه سورياً أكثر من أي شيء آخر… نعم مات أكثر من أحب سوريا وأخلص لها.

على أريكته وسط منزله في دمشق، توقف قلب خالد خليفة، الروائي السوري والسيناريست وصديق السوريين جميعاً، وحيداً مات كما شعر دوماً، ولم يكن إحساسه بالوحدة تقصيراً من الأصدقاء بقدر كونه صفة ملازمة لخالد، سمة فيه، وهي في الوقت ذاته كانت بوابته لفهم الإنسان والحصول على الكثير من الأصدقاء.

في حواري الأخير مع خالد سألته عن علاقته بالموت، يعلم المطلع على أعماله وحياته أنه يتحدث كثيراً عن الموت وله تاريخ طويل معه، يكفي أن واحدة من أشهر رواياته سماها “الموت عملٌ شاق”. كان إجابة خالد عن سؤالي: ” في أثناء الحرب، أصبح الموت بالنسبة إلي حدثاً طبيعياً، انتظرت موتي مرات عدة. استسلمت للأمر، ولم أعد أفكر كثيراً بتلك الرهبة التي يثيرها مجرد الحديث عنه، ولم أعد متطيراً. قد يكون تطوير هذه العلاقة فعلاً مريحاً بالنسبة إلي. لكن التفكير الطويل الذي تستغرقه كتابة الموت يحوّل معناه إلى فعل يومي، كالأكل والشرب. ساعدتني الكتابة على تقبّله، وتجميله أيضاً. ابتعدت فكرة الانتحار إلى زوايا غامضة، فمنذ خمس سنوات لم أعد أفكر بذلك”.

منذ سمعت بخبر رحيله، قرأت إجابة خالد عشرات المرات، وكأنه قال هذه الإجابة بالتحديد ليواسيني عند رحيله وليخفف من صدمة فقدانه. إذاً هكذا، طوّر خالد علاقته بالموت من خلال الكتابة، وحوّلها إلى علاقة مريحة. والآن، أسأل نفسي: هل أنت مرتاح يا خالد، إنها اللحظات الأخيرة قبل أن توارى الثرى؟ هل اكتملت علاقتك الطيبة مع الموت؟ لستُ في دمشق لأودّعك، وهذا أكثر ما يحزّ في نفسي، لن أرى كيف تحول الموت في الواقع إلى فعل يومي حتى فعلته في النهاية وذهبت إليه.

لم يعد الموت عملاً شاقاً يا خالد، لقد استسلمت له تماماً، هكذا إذاً، ترحل وتتركنا لنستمر في شقائنا، تتركنا مع مشقة موتنا. نحتاج جميعاً من يواسينا، تخيل أن تترك بلداً كاملاً خلفك يحتاج إلى المواساة، وأنا أيضاً أحتاج إلى المواساة، أحتاج أن تقول لي مرة أخرى أن كل شيء سيكون بخير وأن الأيام القاسية تمضي بوجود الرفاق قربنا، لكن ماذا نفعل إذا رحل الرفاق مثلك؟ من سيذكرنا كيف يمكن أن نحب البلاد حقاً، وكيف يمكن أن يصير كاتبٌ مثلك مختصراً سورياً، أن يصبح وطناً داخل وطن متعب، نلجأ إليه لنتشارك الحياة بأبسط صورها.

خالد الاسم الكبير، بقي قريباً من الإنسان رغم كل شهرته، لم يرتدِ هيئة الروائي المشهور حتى أنه كره الثياب الرسمية وحافظ على لباسه البسيط كما حياته، لم يلتقِ بالناس لأنهم مثله روائيون أو كتاب مشهورون،  التقى بهم وأحبهم لأنهم أناس عاديون. تشارك مع قرائه ومعجبيه وأصدقائه الأحاديث، أخبر الجميع كم أحبّ سوريا، التي رفض تركها وبقي فيها يعاني ككل سوري رغم أنه امتلك مئات الفرص للعيش في الخارج، هانئ البال غير خائف أو قلق، لكنه اختار سوريا ولم يندم يوماً على ذلك. خالد خليفة صديق السوريين والصيادين والبنائين والأطفال والعمال والسائقين، صديق البحر وحبيبه ورفيقه، يطل صباحاً من شرفة الشاليه على بحر اللاذقية ويعشق البلاد أكثر ويحب أنه خُلق فيها وتماهى معها وكتب عنها. خالد الذي أحب كونه سورياً أكثر من أي شيء آخر… نعم مات أكثر من أحب سوريا وأخلص لها.

خلودة قلت لي حين طلبت منك حواراً قبل أشهر أنك لن ترفض لي طلباً، فأنا صديقتك، فإذا طلبت منك اليوم أن تعود، هل يمكن أيضاً ألّا ترفض لي طلباً لأني صديقتك؟

تعرض خالد للأذى والمساءلة من السلطات السورية طوال سنوات، فعام 2012 اعتُقل خالد ليومين على خلفية مشاركته في تشييع جنازة لشهداء الثورة، وأُفرج عنه بعدما تم كسر يده. كانت رسالة شديدة الوضوح، سنكسر اليد التي تكتب وتعبر بها، لكن خالد لم يتوقف، حمته محبة الناس له وعالميته، ولذلك ربما ترددت السلطات في اعتقاله مجدداً، لكنه كان دوماً على مرمى الأوغاد وتحت نظرهم.

منح خالد السوريين الطمأنينة والقوة، من خلال وجوده داخل سوريا، لقد قال آراءه بالسلطة وعبّر عن رفضه للقمع والديكتاتورية وعن إيمانه بالحرية، ومنحنا نحن الذين كنا ما زلنا في الداخل أملاً، حقيقةً، نعم نستطيع أن نكون أحراراً بالداخل، خالد كان صوتنا حينما عجزنا عن البوح، وكما جُبرت يده المكسورة بعد خروجه، جبّرَ أرواحنا المتعبة وقال لنا إن الحرية موجودة وأنا أشعر بها في كل لحظة.

اختلف كثيرون على كتابته، فالبعض قال إنها لا تستحق كل هذه الشهرة العالمية والاحتفاء، والبعض الآخر اعتبره كاتب سوريا الأول، لكن الجميع اتفق على شيء واحد، على إنسانية خالد، صدقه ومحبته اللامشروطة للجميع، قربه من الكتاب الصغار قبل الكبار. في عام 2020، كنتُ أمرّ بمرحلة نفسية سيئة وكنت أعاني على أكثر من صعيد، قال لي خالد: “تعي على شاليه الندم، قضي أسبوع بترتاحي”، فصعدت أول بولمن متّجهٍ من دمشق إلى اللاذقية، وجدت خالد ينتظرني في الكراج مع سيارته الصغيرة والمتواضعة، لا يحب خالد المظاهر ولا السيارات الفاخرة، “شو بدي فيها كلهن سيارات”، كان يقول ساخراً أصلاً من أنه يمتلك سيارة.

شاليه الندم هو المكان الذي عمل عليه خالد خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته، صنع منه مساحة للكتابة وللقاء الأصدقاء، هو مكان يخصه ويخص الجميع، لا أتذكر تماماً لماذا سماه الندم، لكنني أدرك ألّا اسم أفضل كان يمكن أن يطلق على ذلك المكان، وكأن خالد كان يجهزنا جميعاً لندم طويل بعد رحيله.

في شاليه الندم كان خالد قد جهز غرفة الضيوف لي، كان حريصاً على أن أشعر بالراحة والأمان وأن تكون هذه الرحلة فرصة حقيقية لأُخرج كل ما في قلبي من ألم وأعود إلى مسار حياتي. لم يشفني حينها البحر ربما وإنما رعاية خالد لي. قرب الشومينيه كنا نتحدث عن قصص حبنا الفاشلة، أخبرته عن الرجال السيئين الذين مروا في حياتي، وعن أشكال الحب المشوّهة، لكنه كان مصراً على أن الحب موجودٌ في مكان ما وسألتقيه في يومٍ ما. في شاليه الندم شربنا النبيذ والشمبانيا، هناك انقطعت الكهرباء لساعاتٍ، فأصبح المكان أكثر حميمية قرب النار، في ذلك المكان راقبتُ حياة خالد البسيطة والغنية في الوقت ذاته، يستيقظ باكراً جداً ويبدأ الكتابة، حاول أكثر من مرة إيقاظي باكراً لأكتب وأتابع العمل على روايتي، لكن أعتقد أنه استسلم في النهاية للبنت التي تحب النوم كثيراً. والآن، حين أنتهي من كتابتها، ستظل روايتي ناقصة لأنه لم يقرأها.

خالد من الأشخاص الثابتين في حياتي الذين لم تزعزعهم لا المصالح ولا النميمة ولا قذارة الوسط الثقافي، لطالما كره عداوات الوسط التي طاولته كثيراً وطويلاً، فالرجل الذي تُرجمت رواياته إلى كل لغات العالم تقريباً وحصد جوائز عربية وعالمية وعُرف على نطاق عالمي، حصد الكثير من الأعداء لكن كان له أيضاً الكثير الكثير من الأصدقاء.

ناداني “منهولة”، كما أوجد ألقابأً لكل من مرّوا بحياته، أنا متأكدة أن كل من مر في حياة خالد خليفة حصل على اسم مصغر لاسمه أو لقباً، كانت طريقة خالد في كسر اللغة الثقيلة والمسافة مع الأشخاص، فحين يناديك بلقب خاص بك، لا يكسر الجليد فقط، بل هي طريقته ليقول لك “أنسَ أني كاتب مهم ومعروف، وعاملني كإنسان من دون كليشيات المثقفين”، ولذلك كنت أناديه “خلودة”، لكن هذه المرة خلودة لن يرد عليَّ، ولن تنهمر نصائح الكتابة فوق رأسي بمحبة وصدق لا مثيل لهما.

في أول يوم بعد رحيلك، أفتح عينيّ، فتسقط الدموع فوراً كأنهما انتظرتا طوال الليل أن أفتحهما لأصدق أنك رحلت. أفتح حاسوبي المحمول وأكتب عنك، لأستطيع تقبل هذا الرحيل الثقيل، تستمر دموعي في الانهمار على الحاسوب وأستمر في استعادة ذكرياتنا الجميلة…

خلودة قلت لي حين طلبت منك حواراً قبل أشهر أنك لن ترفض لي طلباً، فأنا صديقتك، فإذا طلبت منك اليوم أن تعود، هل يمكن أيضاً ألّا ترفض لي طلباً لأني صديقتك؟

درج

——————————-

في عيون الفسابكة… خالد خليفة هل حقاً رحلت؟

شكل رحيل الروائي السوري خالد خليفة صدمة في الوسط الثقافي، هنا بعض ما كتب في الفايسبوك عنه.

Haitham Hakki

خالد خليفة هل حقاً رحلت؟

كيف ترحل وأنا مازلت بانتظارك للقاء أجلناه ولم نتصوّر أن “الموت الشاق” لن يعطينا فرصة كنا نتمناها…

أخي وصديقي الحبيب وشريكي في العديد من أعمال تلفزيونية، نجحت بك وببراعة حسك الروائي العالي…

ورغم عدم تصديقي أتلفظ أصعب جملة: رحل خالد خليفة…

الألم والمرارة أصرت على صفعي بالحقيقة: غاب صديقي الغالي صاحب سيرة آل الجلالي ومديح الكراهية… غاب الطيب النبيل الروائي الاستثنائي والصديق الحبيب عبر سنين العمر كلّها…

أكتب ولا أصدق ما يكرره القلب المرهق وأنا بعيد لا أودعك الوداع الأخير…

أفكر وأقول: لا … غير ممكن… خالد يعرف كم من الحب له في كل الدنيا “خالد ما بيعملها”…

Ahmed Saadawi

فاتتني طائرتي الثانية (من مطار الدوحة الى أربيل) بسبب أن وقت الترانزيت ضيق جداً (حوالي 39 دقيقة) فأعطوني رحلة بديلة (ترانزيت 13 ساعة)!

لم أتبرّم، لأني متعود على هذه الدراما. جلست على أحد المقاعد، وشبكت على نت المطار، ليصفعني الخبر الصادم: رحيل خالد خليفة.

ألا يكفي هذا دليلاً على لا معنى الحياة وعبثها؟!

منذ أسابيع باركت لك الترجمات الجديدة، ولديّ توّقع أن ألتقيك مرّة أخرى، حتى نثرثر عن شؤون الكتابة وشجون الكتّاب.

لا معنى لأي شيءٍ سوى أننا ننسى أحياناً، بسبب الكتابة والثرثرات مع الأصحاب، القوة الحاسمة للعدم.

الوداع يا خالد، أحزنتنا يا صديق.

Monzer Masri

خالد.. عأساس تطبع مخطوط الرواية الجديدة (غرفة بصاق للعمة) على ورق ونشتغل عليها سوا.. اي أساس!؟ حياتنا كلها حفر وخراب.

في آخر مقابلة في “المدن” ذكر لي رامي غدير اسماء ناس قريبين كتير مني لعلق على كل اسم.. خالد خليفة: “أخاف أن يموت قبلي”! صدقاً كنت عارف!

بآخر صورة.. الاثنين الماضي.. ودعني وهو يشرب كأسي.. كاسك ميزو!!!!

Habib Abdulrab

مرعب خبر وفاة الروائي والإنسان السوري الجميل خالد خليفة.

صدمة حقيقية…

هناك بشر يحبهم المرء وإن لم يرهم بعد، يتلهف لرؤيتهم، وخالد في رأسهم.

قبل أن…

كان رحيله أول خبر أقرؤه بعد الخروج من ندوة دامت ساعتين ونصف.

ليّ الأرجل، بهذه الطريقة وفي هذه اللحظة، قمة اللؤم والسفالة.

خاصة وأنه كان لي موعد مع خالد على “زووم” مرتبط بالحديث عن دعوتين في العامين الماضين، له ولي، في جامعة درَم ببريطانيا، (أضيف: وكمان لأني لم اتوقع رحيله وغيابه إطلاقًا. رأيت اسمه و”قلب” منه لمنشور كتبتهُ في صفحتي قبل أقل من يومين من وفاته فقط!).

خطر ببالي البارحة، لا أدري لماذا، أن أعجّل بموعد اللقاء معه على زووم…

بسبب منشور مؤلم عن حياة اليوم في سوريا، كتبه في صفحته، قبل بضعة أسابيع، ثم اختفى…

ظللت أفكر في هذا المنشور يوميا تقريبا.

لم يكن منشورا يبشر بأي خير…

لذلك أشعر بوجع، كما لو كان هناك غادر متربص، اسمه الموت، يشعر بسعادة ماكرة وهو يلوي أرجل البشر، على حين غرة، ويمنع إلى الأبد لقاءات طالما تمنوها…

وداعا خالد!

لروحك المجد والسكينة…

Haitham Hussein

كانت ضحكة من القلب حينها.. ومع خالد خليفة كان لا بدّ من الضحك من القلب.. لأنّه قريب من القلب في حضوره الإنسانيّ اللطيف والعذب.. لم يتوقّع أحد هذا الرحيل الصادم والمفاجئ للروائيّ خالد خليفة الذي يترك كلّ شيء ويرحل باكراً.. أرجو الرحمة لروحه والصبر والسلوان لذويه وأصدقائه ومحبّيه وقرّائه.

حسام الدين درويش 

رحيل الروائي والكاتب الخالد خالد خليفة

كان صاحب موقفٍ مبدئيٍّ ضد الظلم والاستبداد (الأسدي وغير الأسدي) ومع ذلك كان يصر، في كل مرة يغادر فيها سوريا، إلى العودة إليها بوصفها وطنه ومكان إقامته الأساسي رغم كل الاخطار والمصاعب.

كان مليئًا بالطموحات والآمال رغم أنه كان صاحب رؤية واقعية بعيدا عن الاوهام الرغبوية. كان مليئًا بالحياة ويصعب فهم كيف استطاع الموت الوصول إليه بهذه الطريقة المفاجئة وهو في ذروة عطائه وحياته.

من أهم اعماله الروائية مديح الكراهية (2008) لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة (2013) الموت عمل شاق (2016)، لم يُصلِّ عليهم أحد (2019)

كنت محظوظًا بمعرفته شخصيًّا وبلقائه أكثر من مرة في برلين وكولن خلال زيارته الأخيرة إلى ألمانيا، وكان الوعد والامل بلقاءات جديدة قريبة.

أحر التعازي لكل أحبابه ومحبيه وهم كثر بالتأكيد

Maen Albayari

ليس نبأ حزينا وحسْب، وإنما نبأ كالسّاطور على الرأس. أن يغيب خالد خليفة يعني أن مهرجانا في حبّ الحياة ينطفئ.

….

ساعاتٍ قبل حفلة إعلان جائزة بوكر في دورتها الأولى في أبوظبي في 2008، كنّا هناك. كنتُ أرغبُ أن تفوز رواية خالد خليفة “مديح الكراهية”، لأنني أحببتُها أكثر من رواية بهاء طاهر “واحة الغروب”، مع إعجابي الشديد بهذه الرواية (وبكاتبها)، ومع تقديري الخاص لرواية صديقي في القائمة، إلياس فركوح، “أرض اليمبوس”. فازت رواية بهاء طاهر، وكانت فرحة خالد عظيمةً بنيْل الأستاذ بهاء الجائزة في أول مواسمها.

تعرّفتُ عليه هناك، ووقّع لي نسختي من “مديح الكراهية”، ثم صار تواصل بيننا لم ينقطع، قرأتُ كل أعماله، والتقينا في الدوحة ومرات أخرى في أبوظبي، وتواصلنا بالرسائل. وكتبتُ عنه، وأعجبتُ به… وها هي روحي تكاد تنشلع، وأنا أقرأ نبأ وفاته الصادم المُفزع. رحمه الله.

Ziad Abdullah

حاولت ألا أصدّق خبر وفاة خالد خليفة! وأمام هذا الفيض من العتب على رحيله المبكر والصاعق بدا الأمر حقيقة! نعم الأمر مدعاة لمعاتبته! لا بل ما باليد سوى معاتبته هو بالذات على رحيله المبكر والخاطف، ومع انقضاء هذا العتب بدا التقوي بالذكريات أفضل ما يمكن فعله، فهو أجمل صنّاعها ممزوجة بالبهجة دائماً، مستعيداً أول مرة التقيته في مقهى السويس في اللاذقية ربما أواسط التسعينيات حين كنت طالباً في الجامعة. أتذكر أبو جورج نادل المقهى الشهير بحفظه طلبات زبائن المقهى إلى أبد الآبدين – وأنا طبعاً من الزبائن الدائمين متشبهاً بمثقفي تلك الحقبة –  وها أنا جالس مع الروائي خالد خليفة وكان قد صدّر روايته الأولى “حارس الخديعة”، التي قرأتها حينها كما لو أنها جملة شعرية واحدة من بدايتها إلى نهايتها. أحضر أبو جورج لي كعادته فنجان قهوة سادة وسأل خالد عن طلبه، فعلّق خالد قائلاً بلكنة حلبية خفيفة: “طلعت شغلتك كبيرة هون يا أبو الزوز”، وفي ثاني يوم اتصل بي من المقهى وقال “طلعت لا شغلتك كبيرة ولا شي من شوية جبلي أبو جورج فنجاني القهوة من دون ما أطلب”… الآن مقهى السويس اختفى وأبو جورج أصبح لاجئاً في السويد…. ويا إلهي أبو الخلود مات… وسورية!!!

Jumana Dahman

حين بدأت الدراسة في الجامعة، كان ثمّة قسم كبير يحوي كتب وروايات عربية من جميع الأقسام، سياسة فلسفة نقد أدب شعر والكثير. لكن حين وقع نظري على رواية “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، أرسلت رسالة نصيّة لوالدتي: ماما خبري بابا إنو روايات خالد خليفة موجودة هون بجامعة Rennes.

كنت سعيدة للغاية وحملتها معي إلى السكن “مديح الكراهية”، “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، “الموت عمل شاق”. قرأت لخالد خليفة وأنا ابكي وأنا أضحك، وأعدت قراءة كتبه دون ملل.

منذ قليل وأنا اتصفح الفيس بوك ظهرت أمامي منشورات تنعي خالد خليفة..

الموتُ عملٌ شاق، لماذا إذاً يا خالد اغرتك هذه التجربة!

سعيد العبود

كتب يوما “أسوأ ما في الحرب تناسل الأحداث الغرائبية، وتحول القصص المأساوية إلى حدث عادي”، واسوء ما في الشتات انه يجعل الموت شيء عادي، رحل خالد خليفة صاحب المشروع الروائي والتأريخي، مشروعه الذي حاول من خلاله إعادة انتاج واحياء الذاكرة السورية بشكل مبدع، احب مدينة حلب حتى الثمالة وتغزل بها وبتاريخه وعاداتها المهيبة، كانت حلب كالعنابة حاضرة في كل تفاصيل رواياته ومن خلالهما رصد جميع التغيرات التي مست المجتمع السوري لاكثر من عشرة عقود، هو الذي رصد “مديح الكراهية” الذي بدأ يتفشى بيننا كم رصد حالة اليأس التي جعلتنا نستسلم امام آلة التوحش والعسكرتارية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، وهو ذاته الذي وصف الموت بأنه “عمل شاق” كما أنه صاحب النبوءة التي وصفت حالنا “لم يصلِّ عليهم أحد”، “فضحايا العشق لا يصلي عليهم أحد، تمامًا كضحايا الطوفان والطاعون، والقوائم تتسع لتشمل كل ضحايا الغدر في حرب وقودها أرواح الأبرياء”.

وداعا ً خالد، وداعاً ياخالد، سلام على روحك ورحم

Ismail Haidar

خبر محزن وصادم فاجأنا هذه الليلة.

رحل خالد خليفة الودود والمحب بعد أن خذله قلبه في منتصف الطريق..

بضعة لقاءات في غربتينا كانت كافية لاكتشاف هذه الروح الطيبة وتلك المخيلة الرائعة في خالد خليفة. السوري القادم من مريمين شمال مدينة حلب. إلى فضاءات الإبداع في الرواية والسيناريو والترجمة.

في دبي التقينا؛ قبل عامين، وتحديداً في نوفمبر من العام 2021؛ ومعنا ثلة من أهل الإبداع؛ وكان لي أن أتعرف عليه عن قرب للمرة الأولى.. كانت المناسبة حفل توزيع جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دبي التي تزامنت مع معرض الشارقة الدولي للكتاب. البساطة وعدم التكلف وسهولة التواصل مع الآخر سمات تميز خالد خليفة من لحظة التماس الأولى معه، قلما تجدها في مثقفي هذه الأيام..

روح الدعابة والثقافة الواسعة ميزت لقاءاتنا مع خالد. هذه اللقاءات وأن كانت قليلة، لضيق المساحة الزمنية لرحلته، إلا انها كانت غنية بحضوره اللطيف الممتلئ بحب الحياة والناس.

خالد خليفة… لروحك السلام ولقلبك السكينة.

 محمود المرعي

ثم رحل كاتب زمن الخوف، ولا نعلم أي خوف كان قد قصد عندما عُرض هذا العمل المحذوف من اليوتيوب فدخل إلى دمشق بذكاء في فترة الثمانينيات، وقام مع المخرجة إيناس حقي ومجموعة من الممثّلين المحترفين بصنع عمل زخم فناقش مختلف القضايا الوجوديّة وطرح الكثير الكثير من الأسئلة.

ويبقى السؤال. هل يوجد خوف وريبة أكثر وأكبر مما نعيشه اليوم؟ وهل توقفت عضلة قلبه خوفاً أم يأسا. أم رغبة بإنهاء الزمن والتحايل على أي نوع من أنواعه بالرحيل؟

الرحمة لروح الكاتب الروائي والسيناريست “خالد خليفة”.

Batool Abuali

  منذ أيام ومقالُ خالد خليفة حول المنتحرين في سوريا، عالقٌ في رأسي، قرأتُه مراتٍ عدة، وبقيتْ كلماته تتردّد، مثل أجراس حادة في أذني. فكرتُ فيهم ملياً، أولئك الرقيقين، بحساسيتهم الفائقة وعالمهم الهش، الذين لا تستطيع أجسادهم حملَ ثقل الروح، وفكرتُ ملياً، في هذا الرجل، المدهش، الذي يقترب من الفجيعة، بكل هذه الرقة والإنصاف والصدق.

عرفتُ خالد من كتاباته، الدهشة التي يحيك بها الحكايات، وعرفته من أصدقائي، الذين حسدتهم جميعاً، للقائهم به.

هذا الإنسان الهائل، السوري النبيل، الشجاع، والكاتب الجميل الجميل

يرحل اليوم

يرحل باكراً

——————————-

خالد خليفة.. أحب الحياة إلى درجة الموت/ أسامة فاروق

قبل سنوات تعرّض الروائي السوري، خالد خليفة لوعكة صحية خطيرة، تواصلت معه وقتها لأطمئن فقال لي جملة تلخص شخصيته كمحب كبير للحياة متصالح مع الموت في الوقت نفسه، قال: “وضعي الصحي ممتاز، عدت إلى التدخين كما كل رفاقي الذين لا يصدقون الأطباء إلى حين ينامون ليلتهم الأولى في العناية المشددة، شغفي بالحياة لم يتغير بل ازداد، وأؤمن دوماً بأنني إذا مت فأنا عشتُ كما ينبغي لي ككائن يحب الحياة إلى درجة الموت”.

كل من يعرف خالد خليفة يعرف بالتأكيد مقدار حبه للحياة، وكل من يقرأ له يعرف عدم خشيته من الموت. يطل الموت في أعماله كلها: “حارس الخديعة”، “دفاتر القرباط”، “مديح الكراهية”، “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، وبالطبع “لم يصل عليهم أحد” و”الموت عمل شاق” عمله الأشهر. يطل كصديق حميم وكنتيجة حتمية لا تحتاج لأسباب منطقية في بلاد كبلادنا. وحتى الناجين مما يجري لن يكونوا بالضرورة على قيد الحياة تماماً مثله هو وأبطال أعماله، يفكرون في الحب والأمل رغم أن “الحياة في المجمل ليست أكثر من مجرد انتظار للموت”.

قال لي مرة أنه يتعامل مع كل رواية جديدة باعتبارها روايته الأخيرة، لذلك يتمهل ويعمل ببطء “أحاول أن يكون وداعي للكتابة لائقاً”.

بمجرد أن تأكد خبر رحيله وتوقف قلبه المنهك بالأمس، امتدّت يدى تلقائيا لأعماله القريبة مني دائما، أقربها كان “لم يصل عليهم أحد”، كنت أعيد قراءتها بعد طوفان ليبيا متعجباً من قدرته على الوصف الدقيق للمأساة التي نتابعها على الشاشات، كان يصف ما نشاهده بدقه مذهلة كأنه يراه معنا، يصف طوفاننا الحالي المماثل تماماً لطوفانه المتخيل “فتح النافذة ورأى المشهد الذي لن ينساه في حياته، نهر هادئ يجري دون مبالاة منذ آلاف السنين لكنه قبل يومين ابتلع قرية كاملة، ابتلع سكانها، وطناجر مطابخها، والفرش والبسط، والحيوانات، لم يترك شيء، ورغم ذلك كان منظره فاتنا وبريئاً… لم يغب عن ناظره النهر طوال الليل، وبشغف كان ينتظر تلك المعجزة، أن يعيد النهر ما سلبه في ليلة الطوفان، أن يتقيأ الغرقى وأشياءهم، لكن لم يحدث أي شيء”.

هنا مكاني

هل يخاف من الموت من رفض الخروج من سوريا خلال سنوات الحرب الماضية؟ عندما سألته مرة عن إصراره على البقاء هناك، رغم الفرص المتعدّدة للخروج تعجب من السؤال لأنه يرى أن الطبيعي أن يصر على البقاء وليس الخروج، قال: “هنا مكاني الطبيعي، هنا ما تبقى من رفاقي، خروجي لا علاقة له بكم الفرص التي تتيح لي العيش خارج البلاد، نعم لدي الكثير من هذه الفرص لكنني عشت كل عمري هنا ولن أترك بلدي في هذا الوقت الصعب، ومن يعتقد بأن الكاتب هو مواطن سوبر يجب أن يعيد حساباته، دمنا ليس أغلى من دم موطنينا”.

لم تختلف رؤيته كثيراً خلال كل تلك السنوات، ولم يكن يقول تلك الكلمات كثوري أو مناضل بل كمثقف ساهمت الكتابة في تكوينه الشخصي، وحررته من مفاهيم كثيرة، “ساهمت في حريتي، كما ساهمت بجعلي كائناً أكثر هشاشة وأقل كبتاً وأكثر إنسانية”. دوره أن يمتلك بوصلة تقوده للدفاع عن دم شعبه وحلمه في الديمقراطية والمشاركة في هذه الثورات، بدلاً من الترفع والاكتفاء بالتنظير عن شكل ثورة متخيلة موجودة فقط في الأذهان، دور المثقف كما يفهمه “يتجلى بفضح كل من يريد مصادرة الثورات والحلم بدولة مدنية حرة، الشعب الثائر لم يطلب الكثير من مثقفيه، فقط طلب أن لا يخونوا الدم، لكن على ما يبدو كان هذا الطلب كبيراً لم يستطع بعض المثقفين التخلي عن مكاسبهم مقابل هذا الإخلاص للدم”.

كان يتصرف على طبيعته بلا ادعاء أو تصنع باعتبار أن ما يفعله هو طبيعة الأشياء في هذا الوقت الصعب، يعيش ككل السوريين لحظات صعبة في ظل الحرب في انتظار ضربة ربما تأتي في أي وقت ومن أي اتجاه، لكنه ليس انتحارياً أيضاً أو رافضاً للحياة، بل كان على العكس يصر طوال الوقت على أن الهم الأول هو المحافظة على الحياة قدر الإمكان، لكن كانت هناك مفردات جديدة تفرض نفسها في هذه الظروف حيث كل شيء صعب، منها القلق على ما تبقى هناك من أصدقاء، وكان يحب أن يطمئن على سلامة الجميع، “في الحياة القاسية تعتاد أن تتقاسم كل ما لديك مع من حولك، الأشياء تفقد قيمتها، كما حس الملكية يتراجع إلى أدنى درجاته. هناك الكثير من التفاصيل أصبحت من البديهيات، الخلاص الفردي يتراجع كثيراً والشعور بأنك تتقاسم الموت مع كل السوريين يولد لديك إحساس جديد بالانتماء”.

حلب مدينته المعاقبة

حلب هي مكانه الأثير رغم أنه كان يعيش بعيداً عنها منذ ثلاثين عاماً، لكنها لم تنته من داخله، كان يقول دائماً إنها المدينة التي ظلمت أكثر من كل المدن، وأن روايات كثيرة عن المدينة وريفها مازالت هناك تقبع داخله وتنتظر، يؤمن بأنه ذات يوم سيجري اكتشافها من جديد وستكون متحف حكايا لن يتوقف رويها وسردها. لذلك عندما كتب “لم يصل عليهم أحد” لم يخف هدفه الذي كان واضحاً من البداية؛ رواية عن المدينة وليس رواية تاريخية، “هذا الكتاب أعتبره سرديتي الخاصة لمدينتي. أردت أن تكون أنشودة حب حزينة لمدينتي المعاقبة عبر تاريخها الطويل، ولم يتوقف عقابها حتى الآن”.

شغب الجوائز

يجيد خالد خليفة تحويل كل شيء لخدمة الكتابة، كان ينظر للجانب المشرق من كل التغييرات التي جرت حوله، باعتبارها كونت مادة أولية للكتابة تكفي خمسة أجيال على الأقل، تحسست الكتابة التغييرات وتوقع أن تكون صاعقة ومختلفة خلال سنوات قليلة، على يد تيارات جديدة يقودها مجموعة كتاب شباب لديهم أفكار طازجة “الآن يجب أن يتوقف الضجيج كي تبدأ الكتابة الحقيقية في الظهور، لكن المهم أن الكثير من الكتاب الذين تربعوا على عرش الكتابة بقوة الديماغوجيا والعلاقات أو ما أسميهم الكتاب المفروضين بقوة السيف سينسحبون لصالح الكتابة الجارحة الحقيقية التي تساهم فعلا في إعادة طرح الأسئلة وخلخلة السرد الراهن وثباته”.

حتى الجوائز التي كثيراً ما اعتبرها خارج الكتابة، اعترف أكثر من مرة بحبه لها وإن لم يسع لحصدها، يرى أنها شيء يحتاجه الكاتب أحياناً ليدافع عن نفسه، خاصة إذا كان هذا الكاتب لا ينتمي أو لا يريد الانتماء إلى شلل الفساد، لكنها في النهاية بالنسبة له شيء لا يجب التوقف عنده طويلاً، يكفي الاحتفاء مع مجموعة الأصدقاء المقربين واعتبارها ضربة حظ جيدة، ثم نسيانها.

فاز بجائزة نجيب محفوظ واعتبرها من أفضل لحظات حياته لأنه نال التقدير من بلد يحبّه وحاز جائزة لم يتقدّم لها، وترشح ضمن القائمة الطويلة لجائزة الإندبندنت العالمية عام 2013، وجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية، ووصل للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية مرتين، وهي الجائزة التي علق عليها كثيراً باعتبارها الأكثر إثارة واستقطابا للاهتمام، واقترح نشر محاضر جلسات لجان التحكيم كاملة بعد عدد محدود من السنين لإنهاء الجدل والاتهامات المصاحبة لكل دورة، وقال صراحة: “لا أُخفي شغفي الشخصي بقراءة محاضر لجان التحكيم في الدورة الأولى التي كانت الأكثر حرارة حتى الآن التي فاز فيها عن استحقاق الروائي الكبير بهاء طاهر عن روايته “واحة الغروب”، وكخاسر أود أن أعرف كيف نظر المحكمون إلى عملي “مديح الكراهية” وإلى أعمال رفاقي في القائمة القصيرة، كما لديّ شغف لأعرف ماذا حدث في الدورات اللاحقة التي جرى فيها تجاهل كتبي الأخرى”.

ما كتبه لم يكن رغبة في تحقيق المزيد من الجوائز -المستحقة بالمناسبة- بقدر رغبته في تحقيق المزيد من العدالة.

كان آخر تواصل بيننا قبل أيام عقب ترشحه مجدداً بالقائمة الطويلة لجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية فئة الأدب المترجم لعام 2023 عن روايته “لم يصل عليهم أحد”، وعدني بحوار طويل إذا قدر له الفوز لكن القدر لم يمهلنا.

———————

وداعا خالد خليفة… لقد أبكيتنا يا صديق، أبكيتنا جداً/ شاكر الأنباري

في العام 1997 أو ربما قبلها أو بعدها بقليل، لست أذكر تماماً، كنت أعمل في دار المدى للثقافة والفنون بمقرها الكائن في منطقة ركن الدين الدمشقي. كنت قرأت للتو كتاب “خريف البطريرك” لغابرييل غارثيا ماركيز الذي ترجمه محمد علي اليوسفي.

وذات نهار صيفي دخل إلى الغرفة الصغيرة المواجهة للمدخل، كاتب شاب معروف في الوسط الثقافي والفني، تعرفت عليه في مقهى الروضة، هو خالد خليفة (1964- 2023) حاملاً مخطوطة رواية سماها “دفاتر القرباط”. والقرباط هم الغجر. كان يود نشرها في المدى. كنت أقرأ معظم المخطوطات التي ترد الدار للنشر، قلت لخالد خليفة انتظرني بضعة أيام حتى أقرأ المخطوط، وقد قرأت لخالد قبل ذلك رواية اسمها “حارس الخديعة” لم استطع التفاعل معها، وهي تحمل ثغرات التجارب الأولى للكتابة، لكن “دفاتر القرباط” كانت رواية جميلة ومؤثرة، تفاعلت معها وجذبتني إلى أجوائها الأسطورية والساحرة. وتعود بأمكنتها إلى حلب التاريخية وأسرها ونسائها ومعاناة بشرها، لكنني لاحظت أن الرواية تقع تحت هيمنة ماركيز وطريقته في القص، وذلك في “مائة عام من العزلة”، و”خريف البطريرك”، و”قصة موت معلن” و”الحب في زمن الكوليرا” وغيرها من الروايات والقصص، إلا أنني لم أتجرأ على التوصية بنشرها لأن الرواية تدين بشكل واضح الواقع الحزبي والسياسي في سورية. وهو خط أحمر أعرفه جيداً، فقلت لخالد رأيي بذلك لكنني أخبرته بالحقيقة، ثم تابعت لخالد مسلسل سيرة آل الجلالي الذي أخرجه هيثم حقي، وكان يعرض على شاشة التلفزيون السوري، وتمتعت كثيراً بحلقات المسلسل، وشخصياته الحلبية، وتقلبات حياتها وفضائها الاجتماعي.

غادرت سورية إلى العراق مودعاً كتّابها وأماكنها ومقاهيها، وسمعت بوصول رواية خالد خليفة في “مديح الكراهية” إلى القائمة القصيرة للبوكر في العام 2008، ولم أقرأها حتى اليوم. لكن في العام 2014، وبعد وصول روايته “لا سكاكين في مطابخ المدينة” إلى القائمة القصيرة للبوكر تهيأ لي نسخة ب دي أف.

لم أقرأ خالد خليفة منذ “دفاتر القرباط”، لذلك جئت إلى رواية “لا سكاكين في مطابخ المدينة” بفضول، خاصة وهي تتنافس مع رواية كاتب عراقي هو أحمد سعداوي وعنوانها “فرانكشتاين في بغداد”. كنت أريد معرفة التطور الذي سار فيه خالد في كتابة الرواية بعد “حارس الخديعة” و”دفاتر القرباط”. وجدت تأثير ماركيز ما زال لاصقاً بنمط خالد في كتابة الرواية، وهو أمر لم يدهشني كثيراً، كون معظم الكتاب العرب تأثروا، بهذه الطريقة أو تلك، بأسلوب ماركيز في القص.

————————-

خالد خليفة… الفتى الشائب الذي لم يصلّ عليه أحدٌ/ نبيل مملوك

ثقيلة هي الـ”نا” اللصيقة بفعل الخسارة، نعم، خسرنا #خالد خليفة (1964- 30 أيلول 2023) إنسانًا عربيًّا وشاميًّا قبل أن نخسر ذاك الذي تورّط بالكتابة الحرّة والحادّة، الروائي والسيناريست السوري الذي مدحت شخصيّاته الكراهية وضاعت سكاكين مطابخه بحثًا عن وطن أهلكه القمع والاستبداد البعثيّ وهمجيّة الحرب الأهليّة الإثنيّة، أودعنا كلّ ما في قلبه وعقله ورحل…

والحقّ أن معظم أعماله الروائيّة ــ وبعكس ما يمكن أن يتوصّل إليه العقل المتلقّي للصدمة – اِنضوت تحت راية الفعل أو بالأحرى الفعل المضادّ بحثًا عن الصورة التامّة أو بالأحرى عن لغة هذه الصورة.

الاِنسان الذي تصدّق بقلبه

في كتابه الأخير “نسر على الطاولة المجاورة ” الصادر عن دار هاشيت أنطوان ــ نوفل (2022) تعارك خليفة مع الحياة المرتبطة بأدوات الكتابة من خلال زمكانيّة قابلة للخلود. وبأسطر قليلةٍ قدّم خلاصات سريعة كانت الأخيرة من دون أن ندري وإيّاه “إيماني لا يتزعزع بأن العلاقات العامّة لا تستطيع إنقاذ الكتابة السيّئة، وأنّ الكتابة الجيّدة لا تحتاج إليها”. (ص.53) نحن أمام مانيفستو الوحدة، التي سالت في عمق حياة مؤلف سيناريو “هدوء نسبي” رغم ما يحيطه من محبّين وأصدقاء، الوحدة التي قيل إنّها شهدت على وفاته في منزله بشكل مفاجئ أعفته من مهمّة لطالما عدّها عملًا شاقًّا وهي اِختبار مكانته بين الجموع “أعتبر لقائي مع زملائي وأصدقائي الكتّاب في المهرجانات ومعارض الكتب، مناسبة سعيدة لامتحان أفكاري عن الكتابة…” (ص.56). مات خالد خليفة كما يحب أن يكون… صفحة بيضاء خالية من الاختبارات.

إنّ هذا الكتاب رغم حساسيّته الفكريّة كونه يتناول مفاهيم حسّاسة كالكتابة والمدن والمكان والناس والزمن إلخ، إلّا أنّه كان الورقة الأخيرة، مرآة عكست حياة مؤلف “الموت عمل شاقّ” الطفوليّة الضاجّة باللهو والضحك والابتسامات، لغة تعبّر عن قلب أراد التصدّق بكل شيء لنفسه وللآخر كي يرحل بلا حقائب أو وجبات ابداعيّة مهملة.

الروائي الحادّ المباشر

لم يكن خالد خليفة صاحب قضيّة، بل باحثًا عن الوجود الفرديّ، من مديح الكراهية (دار الآداب، ط. أولى 2006) حيث اِضمحلال الأثر الإنسانيّ على حساب الأثر الشهوانيّ العدائيّ، وبروز السرديّة الكثيفة على حساب الحواريّات الدراميّة واكتمال الشعريّة، حضرت الحرب الأهليّة والديكتاتوريّة كمشكلات تطاله بشكل شخصيّ كسوريّ حلبيّ يريد الحريّة لغة عامّة ينطقها الجميع وهو ما دفع ثمنه عام 2012 من اعتداء عناصر نظاميّة بعثيّة عليه بتكسير يديه، أي وسيلته للتعبير التي بقيت حادّة وساطعة رغم منع كتبه لا سيّما مديح الكراهيّة، وقد قابل ذلك بكتابة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” وجنح نحو أوّل التاريخ ليكرّم حلب المنكوبة سابقًا بفعل كارثة طبيعيّة وهي الفيضان في “لم يصلّ عليهم أحد” (هاشيت أنطوان – نوفل 2019).

إن التقديم الموضوعاتي لهذه الأعمال الروائيّة البارزة له بعد عملين هما “حارس الخديعة” الأشبه بسيرة ذاتيّة و”دفاتر القرباط”، يبيّن أن خليفة بحث في جدليّة الهدم والمحو المستدامة – التي تقودنا إلى التفكيك نقدًا دون تساؤل عقليّ مركزي – بين الموت والحياة، وبين جماعات الموت وجماعات الهروب، بين أمكنة محروقة وأمكنة تحصّن نفسها بالألوان.

رغم موقفه، لكنّه كان باحثًا موضوعيًّا يكتب المشاهد ليتأنى بخياره ويعرف ما هي خياراتنا، هل الصمت؟ أو البكاء؟ أو الألم أو الأمل؟ أو كلّها كونها خصال إنسانيّتنا العربيّة المنهكة.

لا يختلف الأمر كثيرًا في ما يخصّ أعماله التلفزيونيّة التي تناولت قضايا المجتمع السوري والعربي خصوصًا في هدوء نسبيّ الذي تحدث بلغة الناس ومشاكلهم اليوميّة وبقيت جدليّة المحو والهدم قائمة عبر حلقات متتالية تترك تساؤلات كثيرة حول الغد.

على عجل غادر خالد خليفة، ربّما قال كلّ شيء. حتى ملاحظته في أحد حواراته عن كثرة الموت في نصوصه قالها. زرع اختلافه ومحبّته بيننا، كان الطفل الشائب الذي حمّلنا قضايانا كما هي، علّنا بقراءتها نتّعظ أو نرى ما فعلناه.

كان من كتب “دفاتر القرباط” فرنكشتاين حلب و الشامّ، يريد بحدّة القلم كتابة الألم… علّ الحريّة تسيل وتصبح #ثقافة لمدن عربيّة مرهقة.

النهار العربي

————————–

خالد خليفة صادمٌ في رحيله كما في كتابته!/ مايا الحاج

01-10-2023

فجأةً احتلّت صوره صفحات الأصدقاء. هل فاز بجائزة عالمية مهمة؟ عادةً لا تخرج الأخبار الثقافية في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. لعلّه احتفاء به في يوم الترجمة العالمي باعتباره مُترجماً الى لغاتٍ أجنبية كثيرة.

لكنّ الكلمات لا توحى بأيّ نوعٍ من الاحتفالات. كلماتٌ موجزة، حائرة، مصعوقة.

خالد خليفة مات يا أصدقاء.

صعبٌ أن تستوعب سريعاً غرض الجملة هنا. هل هي جملة خبرية؟ استفهامية؟ استنكارية؟…

ربما هي الثلاثة معاً.

وقع الصدمة كبيرٌ بحجم الكاتب الراحل. علاوة على مكانته الروائية (بين قرّائه)، ومكانته الانسانية (بين أصدقائه)، خالد خليفة مازال كاتباً ناشطاً في صداقاته وكتاباته وتعليقاته.

والمفارقة أنّ هذا الرحيل السريع، العاجل، والمباغت بدا سهلاً عليه، بما يُخالف عنوان روايته الشهيرة “الموت عمل شاق” (تُرجمت الى 17 لغة ووصلت الى القائمة النهائية لجوائز الكتب الوطنية في الولايات المتحدة). غير أنّ خبر موته هو الذي بدا “شاقاً” على قلوب أحبائه وأصدقائه وقرّائه.

فجاءت معظم التعليقات موصولة بكثيرٍ من علامات التعجب والاستفهام. معقول؟ هل الخبر صحيح؟ أليست هذه مزحة من مزحاتك يا خالد؟

بداية المسار

الكتابة في حياة خالد خليفة ( 1964) كانت خياره الأول. وهذا ما لم يُعجب دائرته التي خوّفته من هذا العمل المُرهق والمُفلِس والخطير. 

فالكاتب في عالمنا يمشي في طريقٍ غير واضحة المعالم. قد يقوده قلمه الى عتمات السجن أو ظُلُمات الفقر. لكنّ إصراره على الكتابة جعله يُكمل في تنفيذ مشروعه الأول. درس الحقوق (تخرّج في 1988) وهو يُدرك في قرارة نفسه أنه لن يُمارسها مهنةً لأنه لا يُريد أن يكون سوى كاتب.

ولا شكّ أن رغبته القوية في الكتابة نشأت جرّاء انفتاحه المبكر على القراءة، وهي التي كانت في وقتٍ من الأوقات متنفّساً للشباب العربي المقموع اجتماعياً ونفسياً وسياسياً.

في العام 1993 نشر روايته الاولى “حارس الخديعة”، ثم “دفاتر القرباط”. وكتب للتلفزيون مسلسلات مثل “قوس قزح” و”سيرة آل الجلالي”.

لكنّ “مديح الكراهية” (2006) حققت النقلة النوعية في حياة خالد خليفة الروائية. استعاد فيها الحرب التي دارت بين النظام السوري والاخوان المسلمين في حماة. ووصلت الى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية/ البوكر (2008).

نافس حينها أسماء أدبية مكرّسة مثل المصري بهاء طاهر (الذي فاز بالجائزة)، وكان سعيداً بأنّ الكتابة بدأت تُخلِص له كما أخلص لها طويلاً.

تُرجمت الرواية الى لغات كثيرة منها الفرنسية والانكليزية والايطالية والاسبانية وغيرها… ومذاك صار خالد خليفة واحداً من أهم وأشهر الكتّاب العرب.

البيئة السورية

أعمال خالد خليفة هي ابنة بيئتها. تخرج من عمق المكان كجوهرةٍ خام، تحمل أسرار الصخور التي احتضنتها. نقول الصخور وليس الأرض لأنّ المكان في روايات خليفة ليس تربةً طينية ناعمة وهشة، بل صخر تغلب عليه صفات البطش والقسوة والخشونة.

هذا الحفر العميق في طبيعة المكان السوري بأبعاده السوسيو-بوليتيكية لم يكن ممكناً من دون جرأة خالد خليفة. ولهذا، واجهت كتاباته تهديد الرقيب، فتعرضت أعماله لتضييقات كما مُنعت روايته “مديح الكراهية” في سوريا قبل أن تصدر بطبعة بيروتية في 2008.

وفي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، اختار خالد خليفة أن ينشر روايته عن دار العين القاهرية وعن دار الآداب البيروتية، وفاز عنها بجائزة نجيب محفوظ. وهذا ما جعله كاتباً مقرّباً من المصريين، ولعلّ تعليقات الروائيين والصحافيين المصريين على خبر وفاته يكشف مكانته في مصر. 

موت غير طبيعي

“الموت عمل شاق” هي الرواية التي خرجت من رحم الثورة السورية، بأوجاعها وصراعاتها. كتبها بعد نوبةٍ قلبية أدخلته الى المستشفى. وهناك تخيّل مصير الجسد بعد موته في أرضٍ لم تعد تتسّع للجثث.

حملت هذه الرواية موقف خليفة من الحرب التي تنتهك حقّ الإنسان في الموت “الطبيعي” كما في الحياة “الطبيعية”. وهذا ما يتبدّى من خلال قصة صراع عائلي حول جثة يجب دفنها في منطقة حرب.

تُرجمت “الموت عمل شاق” الى 17 لغة، وفازت ترجمتها الانكليزية بأفضل عمل مترجم في بانيبال، ووصلت الى نهائيات “ناشيونال بوك آوورد” في الولايات المتحدة، كما وصفه اليوت اكيرمان في صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه “خليفة فوكنر”.

وفي أحد لقاءاته، يقول خليفة إنّ هذا العمل هو عمل محظوظ بكمّ الترجمات والجوائز، ثم يكمل بابتسامة ساخرة: “وحدها الجوائز العربية لم تعره أي اهتمام”.

بين الوثيقة التاريخية والخيال

“لم يُصلّ عليهم أحد” هي رواية خالد خليفة الأخيرة. أخذت منه 11 عاماً من الكتابة و19 مسودة. وهذا ما يكشف عن طبيعة خالد المتأنية في التعامل مع الكتابة.

وفيها عاد خليفة الى لحظة تاريخية فاصلة وعنيفة، وهي نهاية الامبراطورية العثمانية التي تولّدت منها أنظمة وكيانات واتفاقات وصراعات أدت في النهاية إلى “المأساة” العربية.

ورغم هذا البعد التاريخي الموجود في العمل، لا تعتبر الرواية عملا تاريخياً وإنما استعادة لجزء من التاريخ بغية مقاربته مع الواقع المعقد من أجل فهمٍ أعمق له.

وكان خالد خليفة نفسه يرى أن هذه الرواية تُمثّل عملاً معاصراً أكثر منه تاريخياً، وهو المنحاز الى الخيال أكثر من الوثائق ومن التأريخ.

خالد خليفة كان يزور عواصم العالم من دون أن تغريه أيّ منها للاقامة فيها. كان قادرا على الحصول على تأشيرات العالم، لكنه ظلّ حيث هو، من دون همّ إن كان سيموت أم يعيش.

 رغم بشاعة الحرب وقسوتها، اختار البقاء في دمشق في أصعب اللحظات لكي “يأخذ حصّته من العار”، كما قال أحد أبطاله في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”. أراد أن يأخذ حصته من ألم بلاده وشعبه، أن يعيش المأساة بدلا من أن يسمع عنه.

البقاء كان قراراً صادماً، لكنّ خليفة لم يصفه بالقرار الشجاع، وإنما اعتبره مجرد قرار شخصي ناتج عن “جبن” الانفصال والخوف منه. فلا مدينة تُعادل دمشق ولا مكانا

ورغم خطورة ذاك القرار، حوّل خليفة مشاعر الألم الى أدب حقيقي وصارخ، ما كان يمكن أن يكون بهذه الحرارة لو لم يختبر هذه المأساة.

وإذا أردنا تأمّل هذا الاستسلام للموت، أو لنقل الجهوزية له، فلأنّ خالد خليفة ةهب حياته كلها، منذ مطلع الصبا، للكتابة، الشيء الأحبّ الى قلبه. وهذا ما كان يردده دوما: أنا عشتُ حياتي داخل الكتابة. فعلتُ ما أحبّ، وكتبتُ الروايات التي أحبها.

“الكتابة عمل رهيب”، كان خالد خليفة. وليست رهبته نابعة من الكتابة نفسها وإنما من نشر الكتاب. وكان خالد خليفة يُقرّ بأنّ الكتابة هي حياته. هو بطبعه ملول من أيّ شيء الا من الكتابة. ولهذا فإنّ السؤال الدائم والمُرهق يولد عنده بعد الانتهاء من كتابة العمل: “ماذا أفعل الآن؟”.

هذه المرّة، لن يسأل خالد خليفة نفسه هذا السؤال. رحل وسيترك القرّاء يُعيدون اكتشافه من جديد. ويُعيدون اكتشاف جزء من الواقع السوري كما قدّمه في رواياته.

النهار العربي

——————————–

خالد خليفة.. أحب الحياة إلى درجة الموت/ أسامة فاروق

قبل سنوات تعرّض الروائي السوري، خالد خليفة لوعكة صحية خطيرة، تواصلت معه وقتها لأطمئن فقال لي جملة تلخص شخصيته كمحب كبير للحياة متصالح مع الموت في الوقت نفسه، قال: “وضعي الصحي ممتاز، عدت إلى التدخين كما كل رفاقي الذين لا يصدقون الأطباء إلى حين ينامون ليلتهم الأولى في العناية المشددة، شغفي بالحياة لم يتغير بل ازداد، وأؤمن دوماً بأنني إذا مت فأنا عشتُ كما ينبغي لي ككائن يحب الحياة إلى درجة الموت”.

كل من يعرف خالد خليفة يعرف بالتأكيد مقدار حبه للحياة، وكل من يقرأ له يعرف عدم خشيته من الموت. يطل الموت في أعماله كلها: “حارس الخديعة”، “دفاتر القرباط”، “مديح الكراهية”، “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، وبالطبع “لم يصل عليهم أحد” و”الموت عمل شاق” عمله الأشهر. يطل كصديق حميم وكنتيجة حتمية لا تحتاج لأسباب منطقية في بلاد كبلادنا. وحتى الناجين مما يجري لن يكونوا بالضرورة على قيد الحياة تماماً مثله هو وأبطال أعماله، يفكرون في الحب والأمل رغم أن “الحياة في المجمل ليست أكثر من مجرد انتظار للموت”.

قال لي مرة أنه يتعامل مع كل رواية جديدة باعتبارها روايته الأخيرة، لذلك يتمهل ويعمل ببطء “أحاول أن يكون وداعي للكتابة لائقاً”.

بمجرد أن تأكد خبر رحيله وتوقف قلبه المنهك بالأمس، امتدّت يدى تلقائيا لأعماله القريبة مني دائما، أقربها كان “لم يصل عليهم أحد”، كنت أعيد قراءتها بعد طوفان ليبيا متعجباً من قدرته على الوصف الدقيق للمأساة التي نتابعها على الشاشات، كان يصف ما نشاهده بدقه مذهلة كأنه يراه معنا، يصف طوفاننا الحالي المماثل تماماً لطوفانه المتخيل “فتح النافذة ورأى المشهد الذي لن ينساه في حياته، نهر هادئ يجري دون مبالاة منذ آلاف السنين لكنه قبل يومين ابتلع قرية كاملة، ابتلع سكانها، وطناجر مطابخها، والفرش والبسط، والحيوانات، لم يترك شيء، ورغم ذلك كان منظره فاتنا وبريئاً… لم يغب عن ناظره النهر طوال الليل، وبشغف كان ينتظر تلك المعجزة، أن يعيد النهر ما سلبه في ليلة الطوفان، أن يتقيأ الغرقى وأشياءهم، لكن لم يحدث أي شيء”.

هنا مكاني

هل يخاف من الموت من رفض الخروج من سوريا خلال سنوات الحرب الماضية؟ عندما سألته مرة عن إصراره على البقاء هناك، رغم الفرص المتعدّدة للخروج تعجب من السؤال لأنه يرى أن الطبيعي أن يصر على البقاء وليس الخروج، قال: “هنا مكاني الطبيعي، هنا ما تبقى من رفاقي، خروجي لا علاقة له بكم الفرص التي تتيح لي العيش خارج البلاد، نعم لدي الكثير من هذه الفرص لكنني عشت كل عمري هنا ولن أترك بلدي في هذا الوقت الصعب، ومن يعتقد بأن الكاتب هو مواطن سوبر يجب أن يعيد حساباته، دمنا ليس أغلى من دم موطنينا”.

لم تختلف رؤيته كثيراً خلال كل تلك السنوات، ولم يكن يقول تلك الكلمات كثوري أو مناضل بل كمثقف ساهمت الكتابة في تكوينه الشخصي، وحررته من مفاهيم كثيرة، “ساهمت في حريتي، كما ساهمت بجعلي كائناً أكثر هشاشة وأقل كبتاً وأكثر إنسانية”. دوره أن يمتلك بوصلة تقوده للدفاع عن دم شعبه وحلمه في الديمقراطية والمشاركة في هذه الثورات، بدلاً من الترفع والاكتفاء بالتنظير عن شكل ثورة متخيلة موجودة فقط في الأذهان، دور المثقف كما يفهمه “يتجلى بفضح كل من يريد مصادرة الثورات والحلم بدولة مدنية حرة، الشعب الثائر لم يطلب الكثير من مثقفيه، فقط طلب أن لا يخونوا الدم، لكن على ما يبدو كان هذا الطلب كبيراً لم يستطع بعض المثقفين التخلي عن مكاسبهم مقابل هذا الإخلاص للدم”.

كان يتصرف على طبيعته بلا ادعاء أو تصنع باعتبار أن ما يفعله هو طبيعة الأشياء في هذا الوقت الصعب، يعيش ككل السوريين لحظات صعبة في ظل الحرب في انتظار ضربة ربما تأتي في أي وقت ومن أي اتجاه، لكنه ليس انتحارياً أيضاً أو رافضاً للحياة، بل كان على العكس يصر طوال الوقت على أن الهم الأول هو المحافظة على الحياة قدر الإمكان، لكن كانت هناك مفردات جديدة تفرض نفسها في هذه الظروف حيث كل شيء صعب، منها القلق على ما تبقى هناك من أصدقاء، وكان يحب أن يطمئن على سلامة الجميع، “في الحياة القاسية تعتاد أن تتقاسم كل ما لديك مع من حولك، الأشياء تفقد قيمتها، كما حس الملكية يتراجع إلى أدنى درجاته. هناك الكثير من التفاصيل أصبحت من البديهيات، الخلاص الفردي يتراجع كثيراً والشعور بأنك تتقاسم الموت مع كل السوريين يولد لديك إحساس جديد بالانتماء”.

حلب مدينته المعاقبة

حلب هي مكانه الأثير رغم أنه كان يعيش بعيداً عنها منذ ثلاثين عاماً، لكنها لم تنته من داخله، كان يقول دائماً إنها المدينة التي ظلمت أكثر من كل المدن، وأن روايات كثيرة عن المدينة وريفها مازالت هناك تقبع داخله وتنتظر، يؤمن بأنه ذات يوم سيجري اكتشافها من جديد وستكون متحف حكايا لن يتوقف رويها وسردها. لذلك عندما كتب “لم يصل عليهم أحد” لم يخف هدفه الذي كان واضحاً من البداية؛ رواية عن المدينة وليس رواية تاريخية، “هذا الكتاب أعتبره سرديتي الخاصة لمدينتي. أردت أن تكون أنشودة حب حزينة لمدينتي المعاقبة عبر تاريخها الطويل، ولم يتوقف عقابها حتى الآن”.

شغب الجوائز

يجيد خالد خليفة تحويل كل شيء لخدمة الكتابة، كان ينظر للجانب المشرق من كل التغييرات التي جرت حوله، باعتبارها كونت مادة أولية للكتابة تكفي خمسة أجيال على الأقل، تحسست الكتابة التغييرات وتوقع أن تكون صاعقة ومختلفة خلال سنوات قليلة، على يد تيارات جديدة يقودها مجموعة كتاب شباب لديهم أفكار طازجة “الآن يجب أن يتوقف الضجيج كي تبدأ الكتابة الحقيقية في الظهور، لكن المهم أن الكثير من الكتاب الذين تربعوا على عرش الكتابة بقوة الديماغوجيا والعلاقات أو ما أسميهم الكتاب المفروضين بقوة السيف سينسحبون لصالح الكتابة الجارحة الحقيقية التي تساهم فعلا في إعادة طرح الأسئلة وخلخلة السرد الراهن وثباته”.

حتى الجوائز التي كثيراً ما اعتبرها خارج الكتابة، اعترف أكثر من مرة بحبه لها وإن لم يسع لحصدها، يرى أنها شيء يحتاجه الكاتب أحياناً ليدافع عن نفسه، خاصة إذا كان هذا الكاتب لا ينتمي أو لا يريد الانتماء إلى شلل الفساد، لكنها في النهاية بالنسبة له شيء لا يجب التوقف عنده طويلاً، يكفي الاحتفاء مع مجموعة الأصدقاء المقربين واعتبارها ضربة حظ جيدة، ثم نسيانها.

فاز بجائزة نجيب محفوظ واعتبرها من أفضل لحظات حياته لأنه نال التقدير من بلد يحبّه وحاز جائزة لم يتقدّم لها، وترشح ضمن القائمة الطويلة لجائزة الإندبندنت العالمية عام 2013، وجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية، ووصل للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية مرتين، وهي الجائزة التي علق عليها كثيراً باعتبارها الأكثر إثارة واستقطابا للاهتمام، واقترح نشر محاضر جلسات لجان التحكيم كاملة بعد عدد محدود من السنين لإنهاء الجدل والاتهامات المصاحبة لكل دورة، وقال صراحة: “لا أُخفي شغفي الشخصي بقراءة محاضر لجان التحكيم في الدورة الأولى التي كانت الأكثر حرارة حتى الآن التي فاز فيها عن استحقاق الروائي الكبير بهاء طاهر عن روايته “واحة الغروب”، وكخاسر أود أن أعرف كيف نظر المحكمون إلى عملي “مديح الكراهية” وإلى أعمال رفاقي في القائمة القصيرة، كما لديّ شغف لأعرف ماذا حدث في الدورات اللاحقة التي جرى فيها تجاهل كتبي الأخرى”.

ما كتبه لم يكن رغبة في تحقيق المزيد من الجوائز -المستحقة بالمناسبة- بقدر رغبته في تحقيق المزيد من العدالة.

كان آخر تواصل بيننا قبل أيام عقب ترشحه مجدداً بالقائمة الطويلة لجائزة “ناشونال بوك أوورد” الأميركية فئة الأدب المترجم لعام 2023 عن روايته “لم يصل عليهم أحد”، وعدني بحوار طويل إذا قدر له الفوز لكن القدر لم يمهلنا.

المدن

———————–

====================

مقالات ل “خالد خليفة”

——————————

حمص مدينة الضحك التي صارت أطلالا وخرائب/ خالد خليفة

26 سبتمبر 2023

ليس سهلا أن تكون من أبنائها

دُهشت، حين رأيت للمرة الأولى في حياتي عائلة حمصية كاملة، كانوا عائلة خال صديقي في المدرسة الإعدادية الذي سألنا: هل تريدون رؤية الحماصنة؟ ذهبنا لرؤية عائلة حمصية كاملة في حلب، كانوا أربعة: أب مهندس في مصفاة حمص، وأمّ مدرّسة رياضيات، وفتى من جيلنا وفتاة مراهقة تكبرنا بسنتين، كانوا يبتسمون بلطف رأيته مبالغا فيه.

تحاشينا سرد النكات التي تبدأ بالجمل الآتية: “كان واحد حمصي، في واحد حمصي، حمصي…”، لنفاجأ بالأب يروي إحدى هذه النكات ويضحك قبل الجميع، كأنه يعلن هويته لنا نحن الذين نتهامس، متفاجئين بأن البشر الذين يحبون الضحك هم بشر مثلنا نحن سكان مدينة حلب المتجهّمة، البالغة الجدّية، التي تتعاطى مع كلّ شيء كمشروع خطير يجب تفنيده وإعادة اختراعه من جديد على الطريقة الحلبية، وتتبنّى المثل القائل “الضحك بلا سبب قلة أدب” ترفعه في كل مكان، في مدارسها وجامعاتها وشوارعها وبيوتها ومصانعها. أما في الطرف الآخر، فكان الفتى الصغير مع أخته، يحاولان إيجاد طريقة للتفاهم معنا، لكنهما فشلا، كانا يتحدّثان ببساطة ولطف ونحن لا نخرج من تكلّفنا واستعراضنا لمعارفنا.

منذ طفولتي بدأت ككل السوريين، أضع الحماصنة في موضعهم المفضل من قلبي، فهم لا يشبهون أحدا، محبوبين، ظرفاء، متسامحين، إلخ… نستطيع تعداد الكثير من الصفات الإيجابية التي حوّلت حمص عبر التاريخ إلى مدينة تكاد تكون الوحيدة المتفق على محبتها بين كل السوريين، نادرا ما تقابل أحدا يكره حمص، كبرنا وكبر حب حمص معنا، نتبادل نوادرها، طرائفها التي يخترعها ويروّجها الحماصنة عن أنفسهم، كإعلان هوية، وبحث عميق ودروس للآخر حول السعادة والحياة الخفيفة التي يجب أن نعيشها دون التفكير كثيرا في عواقبها.

لم تنس حمص مدينتها اللدودة التي يجب أن تكون هدفها، تمتص محبتها وعبثها، أقصد هنا حماه، وهي من لوازم ثنائيات المدن وصراعهما التاريخي، واستقرّت هذه الجدلية قرونا طويلة ولا تزال، تتبادل المدينتان المحبة العميقة في السر، والكراهية المعلنة اللازمة لاستمرار الصراع بين الهويات الضيقة. لا يمكن للحمصي أن ينتج مئات آلاف النكات لولا وجود حماه كمدينة متسامحة مع صورتها الجدلية بينهما كجارتين أزليتن، مختلفتين في الكثير من الأشياء الاجتماعية، ومتفقتين على اقتسام المصير وعلى نهر العاصي الذي ربط منذ الأزل قدر المدينتين واحدتهما بالأخرى.

هذه الثوابت والصورة المسبقة كلّفت الحماصنة الكثير من الجهد للحفاظ على صورتهم، كل شيء جمعي ليس سهلا، يتعرّض للخدش وتنكسر صورته عند أول احتكاك، لذلك هرب الحماصنة من تنميطهم مرارا، لكن لم يكن تغيير صورة المدينة سهلا، بل في السنوات الأولى من القرن الجديد بدأت حمص تستسلم لصورتها التاريخية، عاصمة الضحك التي تشبه مدنا كثيرة في العالم، يحتفل بها مواطنوها ويقيمون مهرجانات للضحك، كما في مراكش ومدن الجزائر ومونتريال، لكن حمص مسرح مفتوح طوال الوقت للضحك، يكفي أن تسير في شوارعها، أو أن ترتاد مقاهيها، أو أن تسير في أسواقها، ولن يتبرّم أحد من مزاحك، وسيشجعونك على احترام الضحك حتى لو كنت ثقيل الدم غليظا.

فرادة حكايتها الرئيسة وقصة يوم أربعائها الذي يعتبر يوم حمص الوطني، جعلها تذهب بعيدا في الاختلاف.

تقول الحكاية التي نستطيع اعتبارها نوعا من السرد الشفهي، إنه حين اقترب جيش تيمورلنك بداية القرن الخامس عشر الميلادي من مدينة حمص لاحتلالها، بعد تدمير حلب وحماه وحرقهما وسبي نسائهما، عرف أهل حمص أنهم لا يستطيعون مجابهة جيش جرار يفتك بالحجر والبشر، فاتفقوا جميعا على تمثيل دور الجنون، أو المدينة التي جُنّ أهلها لشربهم ماء نهر العاصي، ارتدوا أسمال المجانين وقاموا بتمثيل أفعالهم، وتقول الرواية إن تيمورلنك اقتنع وخاف من شرب جيشه من مياه نهر العاصي، وترك المدينة بحالها متابعا طريق غزواته.

منذ تلك اللحظة أصبح يوم الأربعاء يوما حمصيا، وطنيا بامتياز، ولا يزال متداولا بأن المدينة تجنّ في يوم الأربعاء.

هذه الحكاية تتوّج حمص عاصمة للخيال أيضا، وليس للضحك فقط. أية رواية وحكاية مكتملة الأركان هذه التي تجعل من تمثيل مدينة بأكملها دور المجانين لمنع محتل وقاتل من دخولها.

بقيت حمص ملهمة وطالبت مرارا باعتبارها عاصمة العالم للضحك، وأعتقد أنه، وسط تجهّم العالم وفرط جديته اللذين أدّيا بالبشرية إلى كل هذه المآسي، تستحق حمص لقب عاصمة العالم للضحك. لكنّ كل شيء مضى اليوم، تحولت حمص إلى مدينة أشباح، ومأساة من مآسي العصر، من يسير في طرها يعرف ما حصل للسوريين منذ عام 2011 إلى اليوم وحمص خصوصا.

لن تستطيع مداراة دموعك وأنت ترى أعشاش الغربان في المدينة المدمّرة عن بكرة أبيها. ولن تستطيع تصديق حجم الدمار الذي لحق بالمدينة. أغلب أحياء حمص سوّيت بالأرض وصارت خرابا، دون ضحكات، دون بشر، دون صباحات حمص الشهية، دون حب.

لم تتوقع حمص ولا حتى في أشد كوابيسها سوداوية، أن يحصل لها ما حصل. حتى ثورتها لم تخلُ من الضحك والفكاهة، لم تتخلّ عن طابعها المحب للحياة، لذلك سُمّيت عاصمة الثورة. ولا تزال آثار الضحك بادية في كل المواقع التي أنشأتها واشتُهرت بها مثل موقع “مغسل ومشحم الدبابات” الذي استقطب عشرات آلاف المتابعين، وترك وراءه إرثا نضاليا كبيرا لأية ثورة سلمية تريد أن يكون الضحك جزءا منها.

لم تتوقّف حمص عن إنتاج النكات اللاذعة أثناء الثورة في أطوارها كافة، منذ أولى لحظاتها السلمية النقية إلى السلاح والمعارك الشرسة، تابعت وتداول السوريون عشرات النكات عن الحواجز والحماصنة، لكنها كانت مختلفة، فيها تعبير عن الشراسة التي عوملت بها المدينة الثائرة، والتي دفعت أثمانا باهظة.

هذه المرة خرج الحماصنة بأسمالهم الفقيرة بعد حصار فظيع سيرويه التاريخ ذات يوم بطريقته، ويرويه الحماصنة بطريقتهم الضاحكة على الرغم من مأسويته التي لا يمكن تصديقها. خرج الحماصنة وتفرّقوا في أصقاع الأرض، يحملون حمص التي يحلمون بها في قلوبهم.

ليس سهلا أن تكون سوريا اليوم عموما، وليس سهلا أن تكون حمصيا خصوصا. لن يصدق العالم تجهّم الحماصنة وحزنهم، يريدهم دوما كما كانوا عبر تاريخهم الطويل، لكن في الحقيقة تحولت حمص اليوم من مدينة نادرة للفرح والضحك والتسامح إلى مدينة للبكاء. بكاء الحماصنة وبكاء من يحبون حمص من ملايين السوريين على مصيرهم وعلى مدنهم وعلى حمص خصوصا.

اليوم حين ألتقي أصدقائي الحماصنة، أشعر بانكسارهم وذبولهم، لكن ليس بهزيمتهم. لا تزال صورتهم القديمة، تلمع كالذهب من تحت الرماد.

المجلة

———————–

المنتحرون… أرواح سوريا الهائمة/ خالد خليفة

08 سبتمبر 2023

قبل سنوات طويلة رغم يقيننا بأن صديقنا غادرنا في حادث سيارة في أبوظبي، إلا أننا بقينا موقنين ومتأكدين في أعماقنا بأنه انتحر. إذ لا يمكن لذلك الشاب الفائق الحساسية، والذي يعيش في الثمانينات إلا أن ينتحر في مواجهة مجتمع قاسٍ لا يرحم.

كان جو عازف بيانو، رقيقا، كريما بشكل لا يصدق، لا نجرؤ أن نبدي إعجابنا بقميصه لأنه سيخلعه ويصمّم أن نقبل هديته. ما زلت أتذكره وأصفه بروح هائمة بلغت مستقرا قبل أن يبلغ الرابعة والعشرين من عمره، كانت سنوات عذاب هائل بالنسبة له.

منذ ذلك الوقت قبل أكثر من ثلاثين سنة أنظر للمنتحرين على أنهم طائفة مترفعة عن الحياة، أجسادهم الضيقة لا تستطيع حمل أرواحهم الثقيلة التي يجب تحريرها لتطير في فضائها المفتوح.

لا يوجد مجتمع دون منتحرين، مهما كانت صفات هذا المجتمع وخصائصه ومستواه الطبقي وديانته، والبلدان العربية وسوريا من ضمن البلدان التي لم تتخلف عن حصتها في تسجيل حالات الانتحار رغم تحريمه.

كثيرا ما تبجح الذين يهاجمون الغرب بنسب الانتحار العالية، ينسبونها للسأم والفراغ الروحي والتفكك العائلي في المجتمع الغربي حسب ادعاء أنصار الأخلاق الذين لا يتركون وسيلة لتزوير الحقائق والترويج لمعلومات كاذبة عن مجتمعات لم يعرفوا شيئا عنها، واستخدام كل المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي للمساهمة في حملات تضليل لانهاية لها.

دوما كانت أسباب المنتحرين السوريين مختلفة عن المنتحرين الدانماركيين مثلا، خاصة اليوم أو في السنوات الخمس الماضية، لكن هناك روابط مشتركة بين فئة المنتحرين، أقلها حساسيتهم الفائقة وعالمهم النفسي الهش. نادرا ما ينتحر شخص غبي، أو سارق قوت شعبه، أو قاتل.

خلال السنوات العشر الماضية تأملت في تطور أسباب الانتحار السوري الذي فاقت أرقامه المعلنة أي زمن آخر من تاريخ سوريا، في عام 2013 أو 2014 لم أعد أذكر بالضبط، علقت فتاة منتمية لعائلة دمشقية عريقة مشنقتها على سطيحة منزل عائلتها المطل على شارع مشروع دمر المزدحم، الذي يعتبر واحدا من أحياء المدينة الراقية، أشعلت ضوء السطيحة وانتحرت ببساطة، أرادت أن تعلن موتها بطريقة تراجيدية، كأنها تمثل مشهدا سينمائيا، أو تشارك سكان مدينتها الموت المجاني الذي كان ينتشر في كل زاوية. تكرّرت حالات الانتحار التي لم تجد في الحرب أي صدى، لم يكترث أحد للكثير من المنتحرين الذين مضوا في غفلة من زمنهم ومن الآخرين المقربين منهم.

لكن المدهش في الأمر تطور أشكال وأساليب الانتحار نفسه خلال السنوات الخمس الماضية، فظهر الانتحار الجماعي نتيجة مباشرة للجوع الذي يتربّص بالسوريين، واليأس من حل قريب ينهي مأساتهم. العيش في الزمن المعلق موت من نوع آخر، يشبه بشكل أو بآخر فكرة الانتحار الجماعي.

 اعتقدت دوما بأن الشعوب حين تفقد أملها تبحث عن شكل مدوي لإعلان موتها، واعتقدت بأن السوريين يحتاجون إلى ثقافة تمجّد الانتحار ولا تدينها.

قبل أقل من شهرين تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خبر انتحار عريس جديد، فاجأ عروسه حين أخبرها بأنه في طريقه إليها ومعه هدية ثمينة، قتلها وانتحر، وقبله سُجّلت حالات عديدة من الانتحار الجماعي.

تغيرت وجهة نظر المجتمع في الانتحار، لم يعد الفعل مستهجنا، نسبة كبيرة من السوريين تتغزل بالموت، تعتبره خلاصها الجمعي، وأعتقد بأن السنوات القادمة إن لم تحمل حلا عادلا لسوريا سيكون الانتحار فعلا يوميا لمجموعات كبيرة من البشر لن ترضى أن تموت وتتلاشى من الجوع، قد تظنون بأنني أبالغ في توصيف هذه الحالة، لكن المراقب لحالات الانتحار في السنوات الخمسة الماضية يلاحظ انسجاما في اعتبار الانتحار فعلا يائسا، واحتجاجا حقيقيا على سوء الأوضاع، وإلا كيف نفسر قتل رجل لأولاده وزوجته ونفسه، وهذا حدث مرات كثيرة خلال السنوات الخمسة الماضية، والأهم أنه حدث في كل مناطق سوريا، التي تحت سيطرة النظام أو التي خارج سيطرته.

لو تأملنا الانتحار السوري وحاولنا دراسة حالاته المعلنة أو التي وصلت إلى العلن تحت تأثير أي ظرف، والتي لا تتجاوز نسبتها العشرة بالمئة، بينما نسبة التسعين في المئة بقيت مخفية، سرية، جرى التغطية عليها، نلاحظ أنه قبل الحرب كانت حالات الانتحار تحدث لأسباب واضحة من بشر رقيقين، مؤهلين لهذا الفعل رغم جبروته، نعدد الأسباب التي نعرفها جميعا، فشل عاطفي، فشل دراسي، ضغط اجتماعي، ظلم داخل العائلة، وأسباب أخرى قليلة، أبطالها شباب صغار وفتيات يعيشون في مجتمعات محافظة وبيئات لا تسمح للفتاة في التعبير عن نفسها، أو اختيار شريك حياتها، غالبا ما تكون الأسباب هزيمة فردية لشخص حساس، في مجتمع ظالم.

وحالات الانتحار الجماعي قليلة جدا.

اليوم اختلفت الأسباب والاعداد، حتى لو بقيت النسبة العظمى ما زالت مخفية لعدم وجود إحصائيات، ولمنع تداول هذه الأرقام، ولغياب مرصد فعّال لمثل هذه الحالات، يصبح الفعل “السامورائي” (من “الساموراي”) علنيا، ليؤدّي رسالته، لا يمكن لأي كائن منا تخيل وضع وحجم هزيمة رجل يقتل أطفاله وزوجته ثم يقتل نفسه، في إعلان موت جماعي. كما لا يمكن لنا اعتبار هذه الحالة شخصية لا تخصنا، إنها جرس إنذار يجب التعامل معه بأقصى الجدية. لكن اليأس العام يعلن أيضا ويتساءل من الذي سيتعامل مع حالات قتل النفس الجماعية في بلد بلغ عدد ضحاياه أكثر من نصف مليون قتيل.

ما زلت أذكر حين كنا نسعى لاكتشاف خطواتنا الأولى في طريق الكتابة، كنا مولعين بالحديث عن المنتحرين، وشكل انتحار خليل حاوي الواضح والصريح، وطريقته التي جرى تداولها، “انتحر ببارودة صيد قرب البلوعة كي لا يعذب والدته في تنظيف البيت”، كانت بالنسبة لجيلنا فعلا ملهما، خاصة أن هدفه المعلن كان احتجاجه على وصول الإسرائيليين إلى بيروت عام 1982، لا يمكن تخيل طريقة أفضل للإعلان عن هزيمة أمة بكافة رموزها.

لا يمكن أن أنساه، كما لا يمكن تعداد قصائد المديح والتبجيل التي كتبها الشعراء من أبناء جيلنا لهذا الفعل الاحتجاجي غير المتوقع على الأقل من رجل كان صوته خافتا. حتى الآن أتساءل لماذا لم نبحث عن أسباب انتحار مبدعينا كما فعلنا مع سيلفيا بلاث وفرجينيا وولف.

على عكس انتحار خليل حاوي الصريح والمعد له من قبل، كانت طريقة الرسام السوري الكبير لؤي كيالي، الذي تناول حبوبا مهدئة وهو يدخن سيجارته الأخيرة، ليحترق ويموت بطريقة ملتبسة لا يمكن الجزم بها. لكن بالنسبة إلى قراءتي لما فعله، فقد اختار الموت البطيء الذي يشبه نوما أبديا هانئا، آلام لؤي كيالي العظيمة حولته إلى قربان حقيقي لجيل كامل لم تستطع حساسيته الهائلة التعايش مع حياتنا القاسية.

اليوم أتأمل من حولي، أرى العشرات، المئات، آلاف السوريين اليائسين، لقد خرجت كل سبل الحياة من يدهم، تحولوا إلى مشاريع منتحرين مؤجلين، لا يمكن الخلاص سوى في مغادرتهم البلاد التي تتحول كل يوم إلى رماد.

المجلة

————————

في مديح الفريكة… ورثائها/ خالد خليفة

04 سبتمبر 2023

كلّ بلد يعتبره طبقه الوطني

“لم نأكل فريكة منذ خمس سنوات”، يقول صديق، ويضيف: ” بقي لنا البرغل الذي يكاد يفارق موائدنا أيضا”.

هذه العبارة التي كثيراً ما أسمعها حين نتحدّث كمجموعة أصدقاء وصديقات عن الطعام وطرق تحضيره بتلذّذ كبير، وفي منتصف الحديث نكتشف أننا نتحدث عن ماضينا، وحياتنا قبل عشر سنوات، حيث كان متاحا للجميع تناول الفريكة مع الدجاج مرة كل شهر كحدّ أدنى. لا أخفي ولعي بالمشاركة في أحاديث الطعام، وأتبادل مع أصدقائي وصديقاتي وصفات تحضير المؤونة، وأعتبر هذا الحديث تعبيرا عن حميمية وصداقة مؤكدة. إذ لا يجوز التحدّث مع الغرباء عن الطعام، إلا إذا كان الهدف شرح تاريخ مجهول لبشر في الضفة الأخرى يفكرون بأننا ما زلنا نعيش حياة بدائية غامضة وغير مفهومة، أنا دوما حين أفعل ذلك أزيد من يقينهم بأننا نحن كذلك. نصنع أطعمتنا بالطريقة نفسها التي فعل فيها أجدادنا ذلك قبل آلاف السنين.

يمنحني هذا التاريخ تحديا كبيرا للنضال من أجل وقف إنتاج الهرمونات التي دمّرت الأطعمة. لا يعجبني التطور في هذا المجال، وأتهم المختبرات بالإجرام. وأعتقد بأن الأرض لديها موارد تكفي خمسة أضعاف سكانها.

غابت الفريكة عن طعام السوريين، لأسباب كثيرة، أولها خروج الجزيرة السورية وشمال حلب، وأغلب الأمكنة الرئيسية المنتجة للقمح عن سيطرة النظام، والسبب الثاني تدني دخل المواطن السوري بشكل عام وارتفاع أسعار الفريكة إلى مبالغ قياسية.

“لقد أصبحنا جميعا فقراء، وقلة من الزبائن تطلب طبق الفريكة لارتفاع ثمنه” يتابع صديقي الذي يعمل شيفا في أحد الفنادق الفاخرة “الأنواع الموجودة في السوق أغلبها تجارية، يمكن تسميتها قمح محروق وليس فريكة” والفرق بين القمح المحروق والفريكة ليس في الشكل فقط لكن في الطعم أيضاً. ما زلت أذكر موسم تحضير الفريكة وأعتبره عطر الطفولة الأزلي.

تُحضّر الفريكة في شهر مايو/ أيار قبل أن تصفر سنابل القمح، هذا الوقت لم يكن مناسباً لوصولنا إلى القرية، لذلك لم أحضر هذا الطقس إلا مرات قليلة بقيت في ذاكرتي إلى الأبد.

 المدارس تغلق أبوابها في الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران وتحتاج العائلة إلى أيام قليلة لتحضير نفسها للسفر، لذلك كنا نصل دوما إلى القرية بعد موسم تحضير الفريكة التي تُعدّ من القمح قبل اكتمال نضوجه “القمح الأخضر الطري”، يجري انتقاء أفضل أنواع سنابل القمح التي تقطف بعناية وتحمل إلى مكان بعيد عن الحقول، وتُرتّب على أحجار بينها فراغات لتنسلّ السنابل بعد احتراقها في خفة، وتترك سيقان القمح وأوراقه لتصبح رمادا، ولا يجوز أن تتحول الفريكة إلى رماد وإلا فقدت خصوصيتها وأصبحت قمحا محروقا يجب جرشه لتقديمه مع الشعير المطحون علفا للجياد والبغال المدللة.

 في المرات القليلة التي حضرت فيها هذا الطقس كنت أنظر إلى النار المقدسة التي تتحول شعلتها إلى اللون الأزرق، أتشمّم رائحتها الرائعة، سيقان وسنابل قمح خضراء تشتعل وتنثر رائحة عطر حقيقي، نار زرقاء أقرب إلى الخضراء تنبعث من تلك المحرقة، أتنفّس رائحة النار، أعبّها في أنفاسي كأنني أستنشق عطر امرأة أشتاق إليها.

 لأول مرّة أكتشف بأن للنار عطرا لا يقاوم ولونها لم أره مرة أخرى إلا في حقول الزيتون شتاءً حين نشعل ناراً في أغصان زيتون أخضر مبلّل بالماء، هذا لم يحدث كثيرا بعد هجري الطبيعة الأم، وارتكابي حماقة العيش في المدن والاندماج حتى الثمالة في حياة المقاهي والمطاعم والشوق إلى تلك الروائح والألوان.

نار مقدّسة

الجميع يراقب النار المشتعلة بخوف وتبجيل، حتى الرجل المشرف عليها، ينظر بخوف شديد إلى تلك السنابل التي يجب عزلها قبل أن تتحوّل إلى فحم، تُجمع السنابل المحترقة وتُبرّد يوما كاملا علـى الأقل، لتفصل “المدقات” السنابل عن قشورها وتعرض للهواء كي تتنثر القشور بعيداً عن حبوب الفريكة كهباء رقيق حزين.

 يجري اليوم استخدام الحصادات للحصول على الفريكة، وفي رأيي المتواضع، فإن الفريكة طبق عزيز فقد بعض قيمته حين بدأت الآلات تدخل في إنتاجه. ذلك أن إنناج الفريكة ليس عملية تجارية بحتة، بل روحية استمرت حسب الروايات أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا يجوز للشركات العبث بها.

 حبات القمح الخضراء تتحوّل من سنابل تحتفظ بطعم آخر حليبها وخصوبتها، تتمايل مع الريح، تحمل اسمها الجديد “فريكة”، تُطبخ مع اللحوم والدجاج وتمنحنا طعما لا يمكن مقاومته لذواقة الطعام.

في موسم الفريكة تفوح في القرية روائح عطر غريب، وتتسع عيون الفلاحين ببراءة وتعلن أن مواسم الأرض قادمة.

لم يكن ممكنا لعائلة فلاحين سوريين أن يشتروا هذه الأشياء من السوق، إنها جزء من أمنهم الغذائي الذي توارثوه عبر آلاف السنين، ولم يُطرح سؤال لماذا نفعل ذلك. ” الفريكة ” جزء من الفطرة الإنسانية لهؤلاء البشر الذين اعتقدوا بأنهم الوحيدون الذين يمتلكون امتياز هذا الطقس. ويتحسّرون على العالم الآخر البعيد وراء البحار لأنهم لا يعرفون هذه الأطعمة.

حكاية الفريكة

الفريكة كما كل أنواع الطعام لها حكاية، وهناك روايات متعدّدة تروى في التاريخ عن اكتشاف الفريكة لكن أشهرها وأكثرها تداولا هي الرواية التي تبنتها جميعة “سلو فود” التي تعرّف نفسها بأنها حركة عالمية لديها شراكة مع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لضمان “طعام طيب ونظيف وعادل للجميع”. تقول الرواية بأنه أثناء أحد الحروب حوالي عام 2300 قبل الميلاد، قام جنود بحرق حقول قرية شرق متوسطية قبل الانسحاب منها، واضطر السكان الفقراء لفركها وتخليصها من الهباب والقشور المحترقة، بعد طبخها اكتشفوا طعمها اللذيذ، وبدأوا بإنتاجها وتجويده حتى وصل إلينا منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.

أفكر بـأن الجنود الذين أحرقوا القرية (أعتقد أنها قرية سورية) كانوا سببا في هذا الاكتشاف العظيم، كما الحرب التي أحرقت سوريا بحجرها وبشرها، كانت سببا في منع السوريين من الوصول إلى غذائهم الملكي، وتدمير آخر سلالة قمح طبيعي في العالم بعد تدمير قمح العراق.

اليوم ابتعدت تلك الأيام التي رأيت فيها النار الزرقاء للمرة الأولى، ما زال وجه أمي وخالاتي اللواتي “ينسفن” الحبات الخضراء الناضجة، مشعا في ذاكرتي إشعاع وجوههن بأمل لطالما كان الشعلة التي أتارت حياتي. لا أشبع من التغزّل بمشهد فلاحات قويات يصنعن غذاء أطفالهن في شجاعة نادرة رغم كل الظروف. ما زالت تلك الشعلة تتقد في روحي، تحولت إلى نار مقدسة، قد تكون ذات يوم كلمة السر التي تنهض بأرضنا وبلادنا المقدسة.

المجلة

———————-

البرغل الذي غادر موائدنا: مسامير الركب ونسائم الحنين/ خالد خليفة

28 أغسطس 2023

بقيت قداسته في القلوب

بعد موسم الفريكة بأسابيع قليلة، تنضج حقول القمح كذهب خالص يعلن عن شيخوخته ورغبته بالموت، شهدتُ كل مراحل تطور الحصاد، أوائل سبعينات القرن الماضي، رأيت ظهور النساء والرجال الذين يحصدون القمح بالمناجل متشقّقة من التعب، وحتى استخدام أحدث أنواع الحصادات في الثمانينات.

بعد اختيار بذار العام المقبل، والقمح المعد لصنع البرغل بأنواعه، يرسل ما تبقى لتسويقه في “الميرا” حصرا حيث تحتكر الدولة تجارة الحبوب.

غالبا يبدأ موسم تحضير البرغل بإعلان جماعي تهبّ فيه القرية بأكملها للاحتفال بهذا الطقس، لطالما كان تحضير المؤن طقسا جمعيا متوارثا عبر آلاف السنين.

ليس موسما لتحضير البرغل فحسب، بل للحب بين شباب القرية وبناتها، تبادل المواعيد والنظرات الحارة، وبهجتنا نحن الأطفال الذين نلتقط الغمزات، ونعمل سعاة بريد شفاهيين، بتحلقنا حول الحلّة الكبيرة التي تُسلق فيها حبات القمح القاسي، بعد “تصويله” على حافة البئر.

النساء ينشلن الماء من البئر، ويُغسل القمح الموضوع بغرابيل مغطّسة في جرن حجري كبير، ثم يُغسل مرة ثانية وثالثة ليصبح نظيفا (مصولا).

تشارك الصبايا المرشحات للزواج من شباب العائلة صاحبة الطقس بهمة ونشاط، وتراقب الجدات كل شيء بصمت، يجلسن على كراسي قريبة من البئر يثرثرن ويراقبن كل شيء، تلتمع عيونهن، ويتبادلن نظرات متفاهمة.

ينتظر الأطفال وصول الرجل الذي سيسلق القمح، يأتي الرجل حاملا الحلّة الكبيرة على حماره، ينصبها قرب السطح الذي سينشر عليه البرغل المسلوق، أو قرب البئر. حركات الرجل تشي بخبرته الطويلة ونجوميته التي ينتظرها كل عام، يدور حول الحلّة، يعاونه رجال أشداء لتركيزها على أحجار ثابتة، توقد النار في قيظ الصيف، نراقب غليان الماء وننتظر بفارغ الصبر نضوج حبات القمح.

 تروى حكايات عن رجال كانوا يحرّكون الماء المغلي بأذرعهم العارية، ليستحقوا صفات الأولياء الذين كرمى لهم حوّل الله الماء المغلية إلى برد وسلام، ومن هؤلاء الرجال كان أخوال أمي التي تعيد سرد حكايا عائلتها وأساطيرها على مسامعنا، تدعوهم ليباركوا رزقنا وطعامنا، كنت مولعا بهذه الحكايات والتعرّف إلى هؤلاء الرجال الذين يكتسبون صفة القداسة، فأراهم أناسا يتمتعون بحكمة كبيرة ليحافظوا على وقارهم وحكمتهم، قلت لأحدهم مرة “يا خال لا أصدق أنك حرّكت الحلّة بذراعك العارية” فنظر إليّ مشفقا على ضلالي صامتا وخائفا من جدتي الحاملة إرث عائلتها الديني التي تحبّ أحفادها، وتدافع عنهم حين يتمادون.

 في أعماقي، كنت معجبا بالرجال الذين يقومون بأفعال خارقة كي يلفتوا نظر عشيقاتهم، فيما بعد تعرفت إليهم، رووا لي بخجل شديد قصصا خرافية عن أزمان ماضية، أشاروا إلى نساء مهملات وبائسات وعجائز كن ذات يوم يحتاج لفت نظرهن إلى أكثر من فعل خارق كحمل جوال من القمح بيد واحدة، وتحريك حلّة مغلية بذراع عارية، أحاول استعادة السنوات الطويلة التي مرت على هؤلاء الرجال والنساء الذين احتفوا بطقوسهم اليومية في “مريمين” القرية البعيدة عن العالم، بقيت حتى بداية ثمانينات القرن الماضي يصلها طريق ترابي طوله خمسة كيلومترات سرت عليه وسط العواصف بطريق عفرين – حلب، وفي الشتاء يصبح الوصول إليها معجزة حقيقية وسط الوحول والأمطار الغزيرة التي كانت لا تتوقف طوال الشتاء.

تهمد النار ويبقى القمح المسلوق يغلي في الحلة بصوت مسموع، يقوم صاحب الحلّة الذي ما زلت أتذكره نحيلا، بتغطيتها بأكياس خيش نظيفة، ينتظر نضوجها على جمر الحطب الهادئ.

 تقوم النساء بتنظيف السطح للتحضير لنشر السليقة، تُجلب الأواني، تُدعى الصبايا القريبات من العائلة لحمل القمح المسلوق على رؤوسهن إلى السطح حيث الشباب يتناولون منهن الصواني.

بعد إطفاء النار يصطف الأطفال حاملين الأوعية وصحون الجينكو والألمنيوم بالدور للحصول على حصتهم من القمح المسلوق الذي يخلطونه بالسكر ويأكلونه طازجا، ما زالت تلك المذاقات تحت لساني.

الأفضلية للأطفال الصغار الذين يبدلون أسنانهم، تحملهم أمهاتهم يكل فخر ومرح على أكتافهن، في إعلان جماعي عن طقس تبديل الأسنان اللبنية بأسنان حقيقية، يمسك الطفل بالسن المخلوع وينظر إلى الشمس ثم يرميه بقوة مرددا “خدي سن جحش وأعطني سن غزال” وسط بهجة الجميع، ثم يتناول القمح المسلوق المخلوط بالسكر وسط نظرات الإعجاب والدعاء له من قبل العجائز بحياة مديدة سعيدة.

أراقب حركة الشباب على السطح، يأخذون “طشوت” النحاس من الصبايا وينثرون القمح المسلوق على السطح، فتقوم الأمهات بفرده بأيديهن لتجفّفه الشمس، ضحكات صبايا وغمزات عشاق، أحيانا يد تلامس يد صبية أو تقرص صدرها في الخفاء، ضحكات مكتومة للعشاق الذين يتغاضى عنهم الجميع تاركين لهم فسحة الوقت والمكان بتواطؤ جماعي كي يعيش الحب، ترسل الفتيات الرسائل لمعجبين ليس لهم حظوظ بالوصول إلى قلوبهن، وتكون هذه الرسالة الواضحة بأن لا تسمح للشاب المعجب أن يأخذ منها الطشت المليء بل تتحيّن فرصة وجود شاب آخر بالدور، فينتهي العاشق المكلوم بمعرفة الجميع يأن تودّده إلى تلك الفتاة قد فشل، بما أسميه “رسائل طشوت البرغل”.

يحلّ المساء والتعب بادٍ على الجميع، تقوم أمي بالتهليل للفتيات اللواتي ساعدننا، تدعو لهن بالرزق الوفير والصحة لعائلاتهن، نبدأ أنا وأخوتي وأبناء العمومة بالتسابق على تحريك السليقة على السطح، ترتفع أصواتنا بأحقيتنا في هذا الفعل الذي يجب أن نقوم به يوميا بعد الغروب، بأقدامنا الطرية والنظيفة نفلح السليقة المنشورة على السطح، كي لا تتعفّن، تراقب الأم كل شيء، تحرّك بيدها وتتأكد أن كل الحبات قد جرى تقليبها، وإنقاذها من العفن، بعد أيام يجفّ القمح المسلوق ويُعبّأ في أكياس الخيش بانتظار الجرش.

تُحمل الأكياس إلى “العدسة”، ولها أسماء أخرى، وهي عبارة عن دائرة مبنية من حجر، في وسطها حجر بازلتي كبير دائري، يحرّكها بغل مربوط إليها بذراع خشبية، يدور أربع أو خمس ساعات حتى تصبح حبّة القمح المسلوق عارية بعد انفصالها عن قشرتها، رجل يقف بين البغل والحجر، يحني رأسه حين يمر النير، بيده يدفع حبات القمح تحت الحجر الأسود، دموع البغل صفراء، والقيظ لا يرحم، نساء يحملن الحبات بغرابيل وينتظرن الهواء لنثرها، تطير قشور القمح بعيدا، هشة وصفراء تفارقنا دون أن نكترث إلى لونها الحزين، بعد أيام تمتلئ طرقات القرية وأزقتها بهذا الهباب الذي يشبه الإسفنج، نعفس بأقدامنا ونغطس بإحساس الحرير في الطرقات والأزقة الضيقة.

بعدها يجري تحضير الحبات العارية للطحن اليدويّ على أحجار سوداء صنعت منها طواحين استعملت آلاف السنين قبل تصنيع آلة خاصة لجرش البرغل، ننتظر صاحب الطاحونة بشغف، يقوم أهالي القرية بتسجيل أدوارهم وفي الموعد المحدد تفرد “الشوادر ” الكبيرة وأكياس القمح المسلوق، يندلع صوت محرّك “البيتر أو اللستر الإنكليزي”، يغطي قشور القمح أمي وأخواتي وقريباتي اللواتي يعدن لمساعدتنا في المرحلة الأخيرة من صنع البرغل والذي يُنتج منه نوعان، البرغل الناعم المخصص لطبخ الكبة بأنواعها، والبرغل الخشن لبقية الأطعمة، الأطفال لهم حصة من  “الكريصة” التي هي عبارة عن بقايا برغل ناعم كالسميد لها طعم لذيذ. تراقبنا الأمهات كي لا نسرف في التهامها لأننا سنمرض حتما في الليلة ذاتها، سيصيبنا المغص، لكن لا أحد يستطيع مقاومة رائحة البرغل الطازج الشهية، حتى لو كنا نعرف أن المرض ينتظرنا ليلا.

قبل تعبئة البرغل في أكياس الخيش يُنقّى من كل القشور، يلتمع كحبات ذهب، تُرسل حصص العائلات الفقيرة سرا إلى منازلها تحت جنح الظلام، كي يباركوا رزقنا وطعامنا، وتُرسل الهدايا إلى منازل فتيات العائلة المتزوجات، كي يعرف الأصهار وعائلاتهم بأننا ما زلنا ندعم فتياتنا بعد زواجهن، بإشارة خفية إلى أن منزل أهل الفتاة يمتلك القدرة على إطعامها وإطعام صغارها.

 السوريون يفكرون اليوم أن حتى البرغل أصبح طبقا مكلفا، حيث لا زيت زيتون في بلاد تُصنّف في المركز الرابع أو الخامس عالميا في إنتاجه، والبرغل شقيق زيت الزيتون ومسامير الركب كما كان يُسمّى إشادة به، ويُطبخ في كل الأعياد قرب المزارات لقداسته.

نعم حتى البرغل رحل عن موائدنا. وبقيت قداسته في قلوبنا.

المجلة

—————————

أطباق أمي: تلك الطفولة البعيدة/ خالد خليفة

03 أغسطس 2023

-1-

بعد تشرّدي في المدن أصبحتُ وأخوتي في نظر أمي عبارة عن مجموعة أطباق ملونّة. اجتماعنا في الأعياد يعني فرحا عارما بالنسبة إلى هذا الكائن الذي أفنى عمره كي لا نذوق الشقاء الذي ذاقته من أجل تربيتنا، وحين كبرنا غادرناها كجميع الجاحدين.

نمضي أوقاتا قليلة في منزل العائلة ونغادر مسرعين، لا نعرف لِمَ هذه العجلة، لا نلتفت وراءنا كي لا تغمرنا روائح الطفولة فنسترخي كأيّ رجال ينتابهم الحنين إلى طفولتهم التي لا نستطيع وصفها ولا نسيانها.

تتحرّك الأم في المنزل الكبير، تراقب سكناتنا، تدقّق النظر في وجوهنا، تتشمّم روائح جلدنا، وتعيدنا إلى أطباقنا الأولى التي تختصرنا مرّة أخرى. فأنا أحب المقلوبة والمجدرة وصينية الفروج بالبطاطا، وبشكل أكثر دقة أنا أعني قهوة الصباح التي لم أعرف طعما ألذ منها على الرغم من محاولاتي العديدة لتقليدها وارتيادي أفضل مقاهي العالم، تلك القهوة لا يزال طعمها تحت لساني، كأنني الآن وبعد أربعين عاما أنهض من سريري لأحتسي القهوة التي تصنعها أمي ولم أعرف سرّها حتى الآن.

حين نعود إلى منزل العائلة، تُعدّ بصمت أطباقنا التي نحب، كلّ له طبقه، وتراقبنا ممتنة لعودتنا حتى لو كانت موقتة. تغضب بصمت وتهزّ رأسها بأريحية حين تكتشف أن أحدنا قد استبدّت به أطباق امرأة غيّرت ذائقته. لا تتكلم ولا تحتج إلا أنها توصينا خيرا بأنفسنا وتمضي إلى صنع أطباقنا القديمة متجاهلة الأطباق الجديدة التي أحببناها بسبب نساء أخريات، وفي الوقت نفسه خائفة علينا من الضياع.

أخي يعني الفاصولياء الخضراء باللحمة، والأخ الآخر يعني الفريكة باللحمة، أما أخي النباتي فيعني أطباقا تحتفي بزيت الزيتون والخضر كاللوبياء. وجميعنا نعني طبخ أمي.

نأكل أطباقنا بشهية تسعد تلك الأم الطيبة، نحتفي بابتسامتها الخجولة ونكتشف أن لا شيء يسعدها سوى سعادتنا، ولا شيء يرضيها سوى إحساسها بامتلاكها قبيلة رجال يجولون المدن ويحققون نجاحاتهم وإخفاقاتهم التي تشعر بها عن بعد كأننا لا نزال مربوطين بحبل سري يرشدها إلى كآبتنا التي تقلقها. لا تفقه أي شيء في مهننا ولا تستطيع تصديق أن مجموعة أوراق أكتبها قادرة على درء خطر الجوع عني، كما لا تصدّق أن كتابا لي يجعلني محط أنظار عشرة أشخاص. بعد احترافي الكتابة بشكل نهائي كانت تحاول تصديقي حين أقول إنني على ما يرام أو إن الأمور ستكون على ما يرام، تهزّ رأسها وتستسلم للدعاء كأنني سأخرج من باب غرفتي وأقع ميتا على العتبة.

بعد موتها أصبحنا يتامى بلا أطباق مفضلة، تساءلنا في صمت: تلك الأم التي حضّرت لنا أطباقنا المفضّلة طوال حياتها ما هو طبقها المفضّل؟

غرقنا في الوجوم حين اكتشفنا أنها بلا طبق مفضّل.

نعم، أطباقنا كانت أطباقها وكانت بلا طبق مفضّل.

-2-

في بداية السبعينات من القرن الماضي كنا أطفالا نقطن مدينة حلب، نمضي الصيف في قريتنا مريمين التي ورد اسمها في ملحق التعريف بشقيقتها قرية مريمينالأخرى التابعة لحمص في “معجم البلدان”. تبعد عن مدينة حلب أربعين كيلومترا، وعن منطقة عفرين عشرة كيلومترات من طريق السيارات، وخمسة كيلومترات إذا نزلت جبل قرية عشق قيبارمشيا.

قرية محاطة بغابات الزيتون والتين، مطرها يكفي لنمو القمح والشعير واللوبياء والبامية والبندورة والخيار والقثاء والبطيخ الأحمر والأصفر وعرانيس الذرة بشكل خاص. كانت منطقة خصبة إلى حد الكفاية دون بذخ الأراضي الواقعة على ضفاف الأنهار، ومثل هذه الأراضي تعتبر مناطق مثالية لإنتاج الأطعمة الحقيقية للتين والزيتون والعنب والخضر الصيفية.

أوائل الصيف ننحشر في سيارة القرية (البوسطة) ونودّع من النوافذ المحطّمة الزجاج منزلنا في حلب، كأننا في فيلم سينمائي يعيد مخرجه اللقطة الأساسية كل عام كي يصل إلى أفضل النتائج. من دون مشاعر حزن أو فرح نترك حلب المدينة التي كانت وقتذاك مدينة صغيرة ولطيفة لم تزدحم بعد، إلى قرية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: طرق ترابية، حقول مفتوحة على المدى، وفي الليل قناديل كاز، أصوات يعاسيب وزيزان وهواء منعش بارد، وأقرباء طيبون، جدّة يقبل الآلاف يدها كي تمنحهم الرضى من بينهم مئات الأحفاد، قصص وروايات عن سيرة عائلتنا والأجداد الذين تركوا أفضل عطر يمكن ان يمنحه أجداد لأحفاد حتى لو كانوا عاقين مثلي يحتفون بالسرد دون الإحساس بالفخر، الشيء الغامض الذي تعلقت به حقا هو عطر الأرض.

أجول ساعات طويلة في الحقول، أنتقي بطيختي في أراضي العائلة وأعتني بها، أدفنها في التراب الناعم، أتفقدها كل يومين أو ثلاثة، أشارك الفلاحين سردهم الحكايات بشغف لم يتنه حتى الآن.

نحرس حقل التين بأمر من الأب الذي يريد الخلاص من ضجيجنا غير المحتمل بإرسالنا إلى حقول لا أحد يسرق محصولها، من سيسرق التين الذابل في حقول الآخرين أو البندورة التي تترك في نهاية الموسم بعد أخذ المونة منها في الأرض؟  من سيسرق عرانيس الذرة الفائضة عن حاجة الجميع، كل هذه الوفرة كانت سببا لنتذوّق طعم العصافير التي نطاردها بفخاخنا كحل وحيد للزعرنة وقضاء الوقت الذي يتمدّد بطيئا ولامتناهيا، نسرق البغال من إصطبلات العائلة ونجول على ظهورها في القرى القريبة كدونكيشوتات صغار مستخدمين اسم العائلة حين نقع في فخ النظر إلينا كغرباء يخترقون التخوم والمحرمات، ويتجاوزون المناطق الآمنة. غالبا ما ينجح اسم العائلة في إنقاذنا من الغرباء إلا أنه لا يفلح في إنقاذنا من عقاب الأهل الذي يدمر بهجتنا القصيرة، في انتظار موسم تحضير المؤونة الذي يعتبر كرنفالا حقيقيا.

نحن الأطفال لنا مطلق الحرية بالعبث والمشاركة في طقوس تحضير غذائنا، أنا وإخوتي لنا حقوق مضاعفة كأطفال مدن وزوار لا نمكث طويلا، نلوّث ثيابنا النظيفة، نرمي بعادات المدينة وراء ظهورنا كجميع الأطفال الذين يحبون العبث ويكرهون النواهي، نهرع مع أصدقائنا الموقتين إلى كل حماقات ذلك العمر، نتبرّع للمساهمة في تقطيع المشمش المعدّ لصناعة المربّى بمرح كبير، ونتبرّع بقطف البندورة الخضراء لتحضير المخللات، كما نكون مستعدين للقتل من أجل إكمال الطقوس وعدم سلبنا حقنا في المشاركة في صنع غذائنا، كأننا في زمن بدائي يحتفي بأعياد الخصب وآلهة الطبيعة.

كنت طفلا خجولا إلا أنني صاحب أفكار غريبة، أشارك بها بعض أصدقاء الطفولة من أبناء أعمامي وأقربائي، دوما أنجو من العقاب إذ لا أحد يصدق أنني صاحب تلك الأفكار الشريرة، لا أستطيع نسيان تلك اللحظات التي تلتمع فيها عيناي حين يبدأ تحضير مؤونة الفريكة والبرغل التي تشبه في تحضيرها طقسا بدائيا موروثا من ثقافات سوريا القديمة التي لا تزال مستمرة في كل الأديان التوحيدية وتُنبهنا جميعا إلى أننا أبناء أم واحدة هي الطبيعة.

المجلة

——————————–

في الشام… حيث أصدقاء يبيعون أشياءهم الحميمة لتستمرّ الحياة/ خالد خليفة

27 يوليو 2023

الطبقة الوسطى اختفت وحلّ محلها الخراب

دمشق: قبل ثلاث سنوات دعتني والدة صديق مقرب لمشاركتها طعام إفطار رمضان، هذه الأم الرائعة كانت بالنسبة إليّ صديقة عزيزة، نتبادل الكتب والنكات طوال ثلاثة عقود وأكثر، حين نجتمع كأصدقاء في منزلها في أوقات متباعدة، كان أصدقائي يتهمونني بالفوضى ويؤلفون دعابات كثيرة عن إهمالي لكلّ شيء، فكانت تدافع عني ضدّ كل تنمر وتعتبر أنّ فوضاي جزء من حياتي ككاتب وفنان. بفضلها كسبت معارك كثيرة، لكنها بالنسبة إليّ كانت امرأة متعلقة بأشيائها، تحبّ الحديث عنها بشغف غريب، إلى درجة أنني فكّرت في كتابة رواية كاملة عنها، لكن حبي لها وحبها لأشيائها منعاني من العمل على هذه الرواية التي ما زلت أفكر فيها كمشروع كبير، يمكن من خلاله كتابة تاريخ بلاد، خاصة وأن هذه الأم الرائعة لطالما جسّدت عندي نموذج التعاطف الصادق والدعم الكبير الذي قدّمته لي مجموعات أمهات لا أنكر أفضالهن عليّ، لاسيما وأنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى، المتعلمة أرفع تعليم، ولديها مشروع مدني واضح، لا لبس فيه.

كانت الدعوة قبل سنوات إلى منزلها تربكني رغم حبي الشديد لدعواتها، كانت في الولائم تُخرج أدوات المائدة القديمة من خزانتها، تخبرنا عن تاريخ شرائها، وكيف أحضرت كؤوس النبيذ من روما، وكؤوس ماء من إسطنبول، وعن أطباق الفاكهة الصغيرة هدية عرسها من حماتها التي أوصت صديقة لها بشرائها من ميونيخ، خصيصا لزوجة ابنتها المولعة بالأناقة والأشياء المميزة.

كانت هذه الفقرة من العشاء خاسرة بالنسبة إليّ، غالبا ما أذهب إلى السطيحة المطلة على المدينة، أدخن وأهرب من فقرة المجاملة التي يخوضها أصدقائي بحماس كبير، تسامحني على تجاهلي مشاركتها شغفها بالأشياء، لم أكذب عليها يوما، كنت أروي لها نكتة متداولة بين أصدقائنا المقربين عن شرائي أطباقا وأدوات مطبخ ماركة ليمارك. كنت أحدّث أصدقائي بفخر عن اقتنائي تلك الأدوات لأول منزل اشتريته، وفاجأتني صديقة حين أخبرتني بأنها ماركة شعبية ولا قيمة لها لأفاخر بها.

يومها ضحكنا وما زلنا كمجموعة أصدقاء نتذكر تلك النكتة ونضحك وعشت عمري غير مولعا بأي ماركة. لا أفرق بين ساعة الرولكس وبين ساعة اليد التي تباع على البسطات بخمسة دولارات.

كانت تلك الدعوات كثيرة في الأزمنة التي أصبحت قديمة الآن. معظم السوريات كن فخورات بأغطية طاولاتهن، بصحونهن، وفناجين قهوتهن، وملاعقهن، وشراشف الأسرة، باختصار فخورات بكل أشياء منازلهن.

طبعا يلعب العامل الطبقي هنا دورا كبيرا في تحديد الفروقات الهائلة بين العائلات والنساء خاصة، لكن عموما كانت حتى عائلات الفلاحين الفقراء في قريتي مريمين في عفرين، تعرض أطباق روميو وجولييت على رفوف خشبية، محاطة بقماش مطرز بألوان ساحرة، على خلفية حائط مطلي بالكلس الأبيض.

أناقة تلك البيوت

 كانت الأناقة في تلك البيوت تبدو رغم فقرها وبساطتها جزءا أساسيا من حياة هؤلاء البشر المولعين ببلادهم الجميلة ومواسمها، وقد احتفظت ذاكرتي بأروع الصور، ولا أنسى فناجين القهوة النظيفة، الكبيرة، وصينية الألمنيوم التي تشعّ نظافة، إلى درجة أصبحت القهوة بالنسبة إليّ رديفة الفناجين البيضاء الكبيرة النظيفة.

في زيارتي الأخيرة قبل ثلاث سنوات لتناول الإفطار مع أم صديقي برفقة صديقة واحدة، نحن كل ما تبقى لها من أصدقاء ابنها المهاجر إلى أوروبا، وابنتها المهاجرة إلى أميركا، صعقني البيت الذي كان يشعّ بالانسجام، بدت صديقتي متعبة، تعتذر عن نسيانها، وحركتها البطيئة، كان كل شيء مختلفا، لم أتوقّع ذلك الانكسار الرهيب الذي شعرت به، قلت لنفسي بأنني هذه المرة أطلت غيابي، أنّبت نفسي، لكنني كنت دوما أقوم بالواجب من بعيد عبر الهاتف وفي كل المناسبات، كان طعم طبخها كما كان عظيما، لكن انتبهت فجأة إلى أن أشياءها تغيرت.

شرشف طاولتها يشبه تلك الشراشف الرخيصة التي تباع على بسطات سوق الحميدية، اختفت شراشف الحرير المطرزة، أطباق الطعام رغم نظافتها، هي من الأطباق الصينية الرديئة التي تباع اليوم على البسطات، حتى الملاعق التي كنت أحبها في هذا المنزل اختفت، كانت نظرة أمي الرابعة أو الخامسة منكسرة، تتحدّث ببطء، كنت أعرف أنها تعرضت لنكسة مالية، وصديقي ظروفه سيئة في مكان إقامته، يعيش على المساعدات، فهمت بأنها امرأة عجوز في مهب الريح، فقدت ذلك الشغف، لم أستطع الصمت، سألتها عن أوضاعها، أجابتني بأنها مستورة بما يعني بأنها ليست محتاجة لكنها تعاني من قلة النقود التي لم تعد تكفي لحياة كريمة، قالت لقد مضت تلك الحكاية.

لم أحتج إلى السؤال لأعرف أن صديقتي باعت كل أدوات مطبخها الفاخرة، أطقم الأطباق، وملاعقها المتعددة الأشكال، لوحة وحيدة ذات قيمة صغيرة لفاتح مدرس حصلت عليها ذات يوم بالتقسيط، كانت فخورة بها كثيرا، كان مكانها على الحائط فارغا أيضا.

قالت لي إن الحرب جرفت كل شيء. لكنها تحمد الله على نجاة ابنها الوحيد وابنتها.

سجادة أفغانية

صديقتي التي تعيش وحيدة، بدأت تفكر بتأجير غرفة في منزلها، لم يعد لديها ما تبيعه سوى سجادة أفغانية أتذكر يوم اشترتها قبل ربع قرن، بعد حصولها على نقود دورها في جمعية مع صديقاتها، ترفض بيعها بإصرار، همست لي صديقتي التي كانت ترافقني أنها أسرّت لها بأنها تتركها لطارئ طبي ما.

أخبرت صديقتي أن تخبرها بأننا هنا ولن نتركها، لكنها ببساطة قالت إنكم قد تموتون قبلي. كان جوابها صاعقا لصديقتي التي فكرت بالواقعية التي واجهتها بها.

بدأت الطبقة الوسطى في سوريا بالتدهور مع بداية الألف الثاني، حين قرّر النظام اعتماد سياسة السوق المشوّهة التي لا تشبه أي شيء في العالم، وهذه حكاية طويلة تستحق أن تروى، وبعد سنوات الحرب الأولى بدأت هذه الطبقة بالتلاشي، حتى لم يعد لها أي وجود، نسبتها اليوم لا تزيد عن الخمسة بالمائة بعد أن كانت تصل إلى التسعين بالمائة من السوريين.

عائلات كثيرة باعت ممتلكاتها، وبادلت ذكرياتها بالخبز والدواء، لكن المشهد في عموم البلاد لا يمكن تصديقه، أولئك البشر الرائعون الذين قدموا لسوريا أفضل الأطباء والمهندسين والمحامين والكتاب، لم يشاركوا في ولائم الفساد ولم يجلسوا إلى طاولة القتلة والنهابين، اليوم من تبقى منهم متمسكا ببيته، كل ما تبقى لهم، يبيعون أشياءهم قطعة تلو أخرى ليستطيعوا المحافظة على مقومات العيش الأساسية من خبز ودواء.

عدت منذ أيام لمشاركة صديقتي فنجان قهوة صباحي، كنت خجلا وأنا أحمل لها صندوقا  صغير من الشوكولا السويسرية التي تذكرت أنها تحبها، حملت كتابي الأخير لها أيضا، نظرت إلى السجادة الأفغانية، كانت في مكانها على الحائط، شعرت بطمأنينة غريبة، أسعدني أن وضعها لم يتدهور أكثر، كانت في وضع صحي أفضل وهي تخبرني بحماس أنها حصلت على تأشيرة، وستغادر آخر الصيف الشام، لكن لزيارة قصيرة وتعود إلى بيتها، كانت مصمّمة على ألا تترك البلاد.

المجلة

————————–

أسى دمشق/ خالد خليفة

03 يوليو 2023

أي جنون أن يأتي السياح الآن في زيارة إلى دمشق. أتخيل السياح يعلقون كاميراتهم في رقابهم وينظرون بدهشة إلى وجوه الناس الخارجين من حرب دامت ثلاث عشرة سنة، يستنشقون رائحة توابلها ويعربدون حتى الصباح في حانات المدينة القديمة.

تبدو الفكرة نوعا من فانتازيا لا يمكن تخيلها، رغم أني منذ سنوات توقظني الكوابيس التي لا يمكن وصفها، رؤوس مقطوعة، سكاكين تذبح أعناق أطفال، طيور تتساقط موتى فجأة دون سابق إنذار بمجرد وصولها إلى هذه المدينة الغريبة التي تدعى دمشق، والتي يقول أهلها إنها أقدم مدينة في التاريخ.

ما زلت أقطع طرقاتها يوميا، وأتذكر أنني كنت قبل ثلاث عشرة سنة لا أتوقف عن استقبال الأصدقاء من كل مكان في العالم. كانت زياراتهم بهجتي التي لا تنتهي، نرتجل البرامج في مدينة وديعة، مستكينة، تخفي صمتها أكثر مما تفصح عنه في كلامها، لكننا دوما نجد وقتا ناعسا نقضيه في الشرب ليلا والتحدث في كل المواضيع التي لا يتوقف تدفقها.

ما زلت وسط هذه الكوابيس، أحلم بأن أصدقائي عادوا إلى زيارتي، وبأنني يجب أن أخرج مسرعا إلى المطار للحاق بمواعيد وصول طائراتهم. أكاد أنفجر من الضحك، المطار متوقف منذ سنوات ما عدا الرحلات الغامضة التي تهبط بين دمشق وعواصم حلفاء نظامها، مثل طهران وبغداد. ولا نعرف ماذا تحمل بالضبط، لكن مستلزمات الحرب متشابهة، ولا تحتاج إلى تخمين. ما عدا رحلات قليلة متبقية تنقل مواطنين سوريين من القاهرة وبعض دول الخليج.

اليوم استيقظت المدينة، الجو ربيعي كعادته، قبل أيام أعلن الراديو عن منخفض جوي جديد، لم يكترث البشر الواقفون في طوابيرهم، اعتادوا على الخوض في طين الطرقات، في سيارتي بنزين يكفيني لمشوارين صغيرين بعدها ستتوقف، لا يهم، سأجد حلا، سيأخذ جيراني سيارتي مع سياراتهم ونقتسم جميعا الانتظار.

تختلط الذاكرة، تعود الصور القديمة لدمشق التي عشناها قبل عشرين، ثلاثين، أربعين سنة، تلك المدينة ذهبت ولن تعود، حتى روائحها تبخرت وبقيت دمشق المسكينة اليوم، يوحدهما الصمت والترقب غير المفهوم، طوال خمسين سنة كانت تنتظر أن يحدث شيء يعيدها مرة أخرى إلى مسارها الطبيعي. من الصعب أن تكتشف أنك تعيش على هامش مكان له عدة طبقات، وعدة وجوه، وأنت تحدق في خطوط الكفين والوجه باحثا عن حقيقة مدينتك التي يريد لها الجميع أن تندثر، لم أر مكانا أحب أعداؤه الاستحواذ عليه وتدميره كما دمشق. كل الأعداء الذين حكموها شعروا بجبروتها وخرجوا خاسرين في النهاية. سؤال دمشق هل يصمد قبرك فيها أم لا؟

إنها معادلة غريبة، أن تبقى مدينة لعشرات القرون جذابة للغزاة، كجاذبيتها لمجموعة كبيرة من العاشقين الذين حين يأتون للحديث عنها ينتابهم صمت طويل، لا ينتهي معحبل الدمع.

منذ سنوات عديدة رأيت دمشق في صور لا يمكن تخيلها. مدينة مظلمة بشكل كامل، يسير ناسها في الشوارع ليلا على ضوء الموبايلات كي لا يتعثروا. مدينة طافحة بالأسى والحزن الشديدين، بيوت مهجورة، وأغلب المناطق والأحياء المحيطة بالمدينة مدمرة بالكامل، تعيش فيها الخفافيش منذ ثلاث سنوات بعد توقف المعارك فيها.

أصبح الظلام شيئا طبيعيا لا يستدعي منا الغضب، نتعامل مع الأشياء كأننا لم نعرف الضوء ولا الكهرباء يوما، رغم أن دمشق من أوائل المدن التي عرفت الكهرباء عام 1907 وكانت تفاخر بعربات ترامها الذهبي.

كأننا كنا نعيش في كهوف حجرية، والآن خرجنا من عزلتنا، رغم ذلك نمارس الترف، ونتحدث عن مشاريع الكتابة، أحدث أصدقائي عن رواياتي الجديدة التي سأكتبها ولوحاتي التي سأرسمها، وهم في المقابل يحدثونني عن مشاريعهم المسرحية التي يعملون عليها، عن رواياتهم، عن أفلامهم، نعقد جلسات مع كتّاب شباب، نساعدهم في بناء نصوصهم السينمائية، ونصوصهم الأولى، نغرق في العمل على ضوء البطاريات ولا ننتظر شيئا، نحن أبناء هذا المكان “الخرابة”، نحن أبناء هذا الظلام، هذا القهر، نعرف أنه من هنا، من وسط كل هذه البشاعة، تشع مدينتنا كأيقونة ساحرة تطلب منا التمرن على الصبر، ليأتي زمنها وتعود مرة أخرى تنهض من ركامها.

المجلة

—————————–

جيمس جويس الذي يولد كل عام/ خالد خليفة

27 يونيو 2023

لماذا لا نحتفي بكتّابنا العرب؟

زيوريخ: تلقيت دعوة من مؤسسة جيمس جويس في زيوريخ لإحياء يوم 16 يونيو/حزيران الذي يسمى “يوم بلوم” (بلومز داي Blomassday) وهو اليوم الذي يحتفل فيه عشاق جيمس جويس بروايته الأثيرة “عوليس”. بدأ الاحتفال في هذه المناسبة عام 1954 في مناطق مختلفة من العالم، وهذه السنة احتفل عشاق جويس كالعادة في إسطنبول ولندن وزيوريخ ومدن أخرى، لكنّ الاحتفال الأبرز دوما يكون في زيوريخ لخصوصية علاقة جويس مع هذه المدينة التي تضم جثمانه، والتي تحولت إلى وطن ثان له ولعائلته. كان احتفال زيوريخ هذه السنة فرصة لإعادة التذكير بما تعرّض له الكاتب ونصه من منع ومصادرة واضطهاد من جهات وبلدان كثيرة أولها بلده أيرلندا والولايات المتحدة الأميركية التي منعت طباعة الكتاب، بعد نشر حلقات منه في مجلة “شيكاغو ليتل ريفيو ” بين عامي 1918 – 1920.

منذ تلك اللحظة بدأت المعارك حول الكتاب وحتى الآن لم تنته. ليحظى بعدها بطبعة أولى تبنّتها سيلفا بيتش التي نشرته متحدّية الحظر والمنع، ليصدر في طبعة أولى عن مكتبة “شكسبير آند كومباني” في باريس عام 1922.

الحديث عن جيمس جويس شيق على الرغم من صعوبته، متشعب أفقيا وعموديا، حياته تشبه سيرة خرافية تفترق عن سير الكتّاب المنبوذين والملعونين.

تعرض الرجل في حياته إلى مجموعة متواصلة من الكوارث والأمراض التي لم تبارحه، أوجاع في العين قادته إلى العمى، ومرض السيلان، و11 عملية جراحية، بالإضافة إلى كل هذه الكوارث الشخصية أُصيبت ابنته لوسيا بمرض عقلي، فضلا عن مشاكل اقتصادية لم تتوقف إلى درجة أن الرجل عانى الجوع أثناء إقامته في باريس بالرغم من حصوله على عمل كصحافي. وأكمل كتابه بعون من أصدقائه الذين أرسلوا إليه النقود على امتداد سبع سنوات لينهي كتابه، أعظم كتب اللغة الإنكليزية بحسب تعبير نقاد كثيرين.

الصورة التي لا تفارقني في حياة جيمس جويس هي جنازته التي اعتذرت السفارة الإيرلندية عن حضورها، أو تلبية رجاء زوجته نورا وعائلته بنقل جثمانه لدفنه في مسقط رأسه دبلن.

تعرّض الرجل في حياته ومماته إلى تجاهل بلاده، واضطرت عائلته إلى دفنه في زيوريخ المدينة التي احتضنت قبره في واحدة من أجمل مقابرها (مقبرة فلونتيرن) لا ينغص هدوء ساكنه سوى أصوات حديقة الحيوانات المجاورة.

لا تزال المدينة متمسّكة بقبره، على الرغم من النزاع مع دبلن التي تريد استرجاع رفاته لأغراض سياحية، وترفض زيوريخ السماح بنقل الجثمان بذريعة أنها احتضنت جويس حين كان بحاجة إلى مكان آمن للعيش.

أمّنت زيوريخ المأوى لجيمس جويس في أزمنة مختلفة من حياته. اعتنت بآثاره في المدينة، ومنحت نكهة خاصة للاحتفال بيوم جيمس جويس في 16 يونيو/حزيران، وهو اليوم الذي تجري فيه كل أحداث روايته الأعظم “عوليس” عام 1904، ويقال إنه اليوم الذي التقى فيه جويس محبوبته وزوجته نورا التي رافقته في حياته القلقة من دبلن إلى مدن أوروبية ليستقر به المقام ويموت ويدفن في زيوريخ يوم 14 يناير/كانون الثاني عام 1941.

ويسمّى هذا اليوم أيضا بـ”يوم ليوبولد بلوم” بطل “عوليس” التي يخبرنا فيها جويس تفاهات وتفاصيل يومية عن حياة معقدة ومتشابكة مع غابة من الرموز يحتاج حلها إلى وقت طويل من البحث العميق في تاريخ الأديان والأساطير واللغة الإنكليزية.

لا تزال “عوليس” تثير شهية الباحثين والمنقبين عن الأعمال الصعبة التي لا يمكن اختصارها ببساطة، لا تقف أهميتها عند تأسيسها لتيار الوعي مع “البحث عن الزمن المفقود” لبروست، و”الصخب والعنف” لوليم فوكنر، بل تمتد لمساعدة علماء النفس في أبحاثهم واكتشافاتهم وهو الدور نفسه الذي قامت به روايات دوستويفسكي، لذا يجري التذكير دوما بأن جيمس جويس لا يقل أهمية عن دوستويفسكي، ويضاف إليهما شكسبير الذي كتب بلغته.

حماستي لحضور هذا الاحتفال مردها إلى حرماننا من احتفالات تشبهه. أرسل المنظمون رسالة بريدية يوضحون فيها أننا نستطيع إحضار طبق محلي من طبخنا. فكرت في أن البرغل ببندورة طبق مناسب، مشبع بزيت الزيتون، ويعبق بذاكرة طفولتي البعيدة. تخيلت لو كنت صديقا لجيمس جويس الغارقة روايته بالنقانق والأطباق الأيرلندية الدسمة، المشبعة بلحم الخنزير ودهونه، كنت متأكدا من أنه سيحب هذا الطبق، خاصة أنه عانى طويلا من الأمراض المزمنة.

في احتفال زيوريخ هذه السنة كانت اللغة العربية إلى جانب اللغة الروسية والأوكرانية، ضيفة الشرف، قرأت المقاطع التي خصصوها للقراءة بكل اللغات. كما قرأوا نصوصا وجزءا من رسائله إلى زوجته نورا، ورسالة مدير دار “راندوم هاوس”، ومقاطع من جرائد قديمة حين اشتعلت معركة منع الكتاب.

كان الأسبوع الذي سبق يوم الدعوة فرصة لي لمحاولة إعادة قراءة “عوليس” بعد أكثر من عشرين سنة من قراءته للمرة الأولى. وعلى الرغم من أني لا أحب زيارة قبور العظماء، إلا أن قبر جيمس جويس أغراني لقربه من منزلي، وبسبب تخيلي ابنته لوسيا تسير شبه وحيدة مع عدد قليل من المشيعين في جنازة أبيها الرجل الآبق الذي تخلى العالم كله عنه، وسط رياح عاتية وصقيع وثلوج كثيفة، دفنته في قبره الذي تحول إلى مزار لعشاقه، وتُركت الفتاة المعتوهة إلى مصيرها.

طوال الاحتفال كنت أفكر في قوة الكتابة وفي أن الحياة غير عادلة قطعا، خاصة مع الذين يتأخر العالم في اكتشاف تأثيرهم الهائل على خيال البشرية الذاهبة في دعم وحشية الذكاء الاصصناعي المقبل الذي ينذرنا بأنه ذات يوم سيكتب كتابا يقارب ويشبه “عوليس”، ويكون له الأثر نفسه.

فكرت أيضا في أن الاتفاق على يوم 16 يونيو/حزيران هو ذريعة، كان ممكن الاحتفال يوم مولده، أو وفاته، لكن المهم هنا هو الاحتفال، كنت أسأل نفسي ومجموعة العشاق يستمعون إلى عازف غيتار وعازفة كمان يعزفان أغنيات قديمة قد تكون وردت في كتاب “عوليس” لماذا لا يحتفل العرب بكتّابهم بالطريقة نفسها. 

لماذا لا نبادر جميعا (وهذه دعوة) لاعتماد يوم نحتفل فيه بنجيب محفوظ. لا يكفي توزيع جائزة نجيب محفوظ يوم مولده في 11 ديسمبر/كانون الأول التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة مشكورة. لماذا لا نحتفل بمحمود درويش وغسان كنفاني ونزار قباني وسعد الله ونوس وبدر شاكر السياب وغيرهم كثر؟ على أن يكون يوم مولدهم أو وفاتهم، أو أي يوم آخر يجري الاتفاق عليه ذريعة أخرى، نقرأ نصوصهم في المكتبات والمدارس وفي أماكن عامة وخاصة، ونحرّض النقاد على دراستهم من جديد.

لا نملك سوى الأمنيات.

المجلة

———————————

حُبسة إبداعية/ خالد خليفة

21 يونيو 2023

في مقهى صغير على ضفة نهر ليمات في زيوريخ، التقيت الكاتب المصري الصديق وجدي الكومي، وحدّثني عن الحبسة الإبداعية التي يعاني منها منذ فترة ليست بالقصيرة. رأيت في عينيه قلق من يصابون من الكتّاب خصوصا ومن الفنانين عموما بتلك الحبسة. كان وجدي قد كتب على صفحته في “فيسبوك” يتحدث عن وضعه الصعب في فقدانه الكتابة، وفشل محاولاته في استدراجها لتعود إليه، أو يعود إليها، وطلب المساعدة من أصدقائه في تقديم المشورة والنصح.

أعرف هذا الشعور تماما، وأعراض هذا المرض الذي أودى بحياة كتّاب كانوا ذات يوم مشاريع كبيرة وطموحة، وأعترف هنا في هذه المناسبة بأن أكثر ما أخافه في الكتابة هذه الحالة، التي يتحوّل فيها الكائن إلى شخص أخرس، غير قادر على توصيف حالته، التي تبدأ باستهتار، ثم بقلق خفيف يزداد شدة مع الأيام، ثم بكذب على الذات، ثم بسكون يشبه همود جثة، فالموت والاستسلام لهذا الموت بعد فشل كل المحاولات لكسر هذه الحبسة أو تجاوزها.

لا تقتصر أعراض هذه الحبسة على كتّاب شباب كما هي الحال مع وجدي، وكما أصابتني ذات يوم حين كنت كاتبا شابا قبل ثلاثين سنة، بل تصيب كتّابا كبارا قضوا أعمارهم يعملون في الكتابة وفجأة توقفوا، كقطار يقطع البراري غير مبال، فخورا بقوته ومتانته، فجأة يصيبه عطل يحوله إلى خردة، إذا لم تأته النجدة خلال ساعات سيبدأ ركابه بالتململ أول الشيء، ثم بالشعور بضيق نفسي غريب لا يعرفون مصدره ولا علاجه، وفي النهاية سيتحولون إلى وحوش في محاولتهم لإنقاذ حياتهم.

يصعب تعداد الذين أصابتهم هذه الحبسة، لكن عشرات الكتّاب تعرضوا لهذه المشكلة بكل حالاتها وتجلياتها، ومنهم من توقف عن الكتابة بشكل كامل، والأسباب التي قيلت في حالاتهم لم تكن إلا تخمينات وتوقعات واجتهادات غير كافية لتشخيص هذه الحالة، نذكر في هذا المقام توقف ج. د. سالنجر (1919- 2010) صاحب “الحارس في حقل الشوفان” التي نُشرت عام 1951 وجلبت له شهرة ومجد أدبيين كبيرين، نشر بعدها ثلاثة أعمال قصصية وروائية، وتوقف عن النشر عام 1965، واختار حياة العزلة الكاملة التي دافع عنها بقوة.

نتذكر في هذا المقام الكاتب الألماني الكبير غونتر غراس (1927-2015) الذي توقف عن الكتابة مرات عديدة، كان يعود فيها إلى الرسم والنحت اختصاصه الأول، لكنه كان يعود دوما برواية مهمة إلى أن قرّر بنفسه التوقف عن الكتابة، لنفاد الوقت بالنسبة إليه ولخيانات الجسد التي أصابته قبل رحيله.

لو أردنا تعداد حالات المبدعين الذين أصابتهم الحبسة الإبداعية الموقتة والدائمة لن نتوقف عن ذلك. لأنها حسب اعتقادي أصابت جميع من يتعامل مع الكتابة كمهنة، ولا نستطيع تعداد أسبابها، ولا طرق علاجها.

يعتبر العاملون في الطب النفسي هذه الحالة خللا نفسيا موقتا أو دائما يصيب المبدعين عموما، وليس الكتّاب فقط. وهم يوسعون دائرة الرؤية ويتحدثون عن حبسة الرسامين والمصورين والفنانين عموما. ويقدمون مساعدات للعلاج على طريقة مقاربتها مع أزمات نفسية أخرى تتعلق بضغوط العمل، يقدمون اقتراحات كالاسترخاء، والابتعاد عن مصادر الضوضاء، والسباحة والركض، والسير في الغابات، إلى ما لا نهاية له من وصفات عمومية تناسب جميع الأمراض.

هذه العلاجات حسب تقديري كمريض سابق، غير مجدية، لأن حالات التشخيص تخص كل كاتب بمفرده، وبالتالي علاجها يأتي من الكاتب نفسه، ومن الجانب الإبداعي وليس التقني. منهم من استطاع علاج نفسه وعاد أكثر قوة، لأنه استطاع تحويل الحبسة إلى فرصة وإجازة لتأمل منجزه، ومنهم من توقف إلى الأبد عن الكتابة، أو عاد بأعمال هزيلة لا تليق بسمعته وموهبته.

سأروي حكايتي مع ذلك المرض الرهيب الذي ما زلت أخاف منه حتى لحظة كتابة هذه السطور، لذا أتعامل مع الكتابة كاحتمال غير أبدي، يمكن أن تنتهي في أي وقت. وقتها “يتحول الكاتب الذي هجرته الكتابة إلى بئر مهجورة تشقق قاعها، وبدأت الأفاعي والديدان نهشها، تحولت إلى مصدر للروائح الكريهة لا بد من ردمها” كما كتبت في كتابي “نسر على الطاولة المجاورة” الذي صدر العام الفائت.

أذكر أنني في عام 1994 كنت أكتب روايتي “دفاتر القرباط”، وكنت وقتها بحاجة إلى إكمال العمل لأستطيع التأكد من أنني سأصبح روائيا، كانت ظروف حياتي سيئة جدا، أعيش في منزل العائلة في حلب، وأكتب في غرفتي من الساعة الحادية عشرة ليلا إلى السابعة صباحا، فجأة في الفصل الثالث توقف كل شيء، كالقطار الذي تحدثت عنه في بداية المقال، كل ليلة أجلس إلى طاولتي ثماني ساعات دون أن أكتب حرفا واحدا. كان ذلك لقائي الأول مع الحبسة الإبداعية، في الأسبوع الأول بدأت أشعر بدوار حقيقي، وخوف، ودهمتني كوابيس رهيبة. نفذت كل وصايا المعلمين الذين كانوا ينصحون بالعمل اليومي وعدم ترك الطاولة، لكن دون جدوى، هاجمتني أفكار سوداء وعدت الى التفكير في الانتحار كحل وحيد لمعضلة حياتي. بعد تسعة وعشرين يوما طلبت المساعدة من المعلم الروائي عبد الرحمن منيف (1933-2004) الذي حلت منذ أسابيع قليلة ذكرى ميلاده التسعين، والذي احتفى بميلاده محرك البحث “غوغل”مثلما يليق بكاتب عظيم.

كانت تربطني به علاقة لطيفة، حدد لي موعدا في منزله في التاسعة صباحا، وحين وصلت من حلب إلى دمشق كنت مرهقا بعد سفر الليل المزعج والطويل. تحولت الساعة المخصصة لمشاركته القهوة الصباحية إلى حديث طويل استمر أكثر من خمس ساعات.

شرحت له حالتي، كان واضحا على وجهي الألم الذي يعانيه عادة مرضى هذه الحالات، سألني ما رأيك بعلاج هذه الحالة؟ أجبته بأنه في الرواية التي أكتبها، بعد عشرين صفحة سيجري حدث كبير ورئيسي للشخصية الرئيسية أبو الهايم، ممكن أن يفتح مجرى السرد مرة أخرى. أردفت بأنني أخاف أن أعتاد الحلول الكسولة، وترك صفحات بيضاء عند حدوث أية مشكلة. لكنه ابتسم بطيبة أشعرتني بالثقة، وقال بأن من يجلس إلى الطاولة لمدة شهر دون كتابة ولا يغادرها رغم حبسته يربح الماراثون، وأضاف أن الحل الذي اقترحته مقبول إذا نجحنا في فتح قناة السرد، لأنه لا يوجد حل آخر لدى صديقك عبد الرحمن منيف مشيرا إلى نفسه، ولدى صديقيك ومعلميك وليم فوكنر وغبريال غارثيا ماركيز.

عدت إلى حلب بحماسة شديدة، وبعد ليلة فتحت قناة السرد المغلقة، تدفقت الكلمات وعاد إليَّ الأمل مرة أخرى. ما زلت حتى هذه اللحظة ممتنا لوجود الروائي والانسان الرائع والكريم عبد الرحمن منيف في حياتنا وحياة بلدنا.

حالة صديقي الكاتب المجتهد وجدي الكومي صاحب الرواية الجميلة “بعد 1897 صاحب المدينة” التي تعيد تفكيك حياة الرسام الإسكندراني العالمي محمود سعيد ومدينته الإسكندرية وزمنها، صرخة شجاعة على الملأ، لأن الكتاب عموما يخفون هذه الأمراض، ويتبجحون بقدرتهم على الكتابة في أية لحظة، أو لا يقتنعون بأن توقفا بسيطا عن الكتابة ممكن أن يتحول إلى مرض عضال ينهي حياة الكاتب وإبداعه، ويحوله إلى بئر مهجورة يجب ردمها كي يتوقف انبعاث الروائح الكريهة منها.

المجلة

————————

رواية ماركيز الجديدة وجشع الورثة/ خالد خليفة

02 يونيو 2023

ماذا لو كانت سيئة؟

رواية جديدة لغابرييل غارسيا ماركيز.

في تفاصيل هذا الخبر المثير، أنه في ربيع العام المقبل 2024 ستصدر رواية غابرييل غارسيا ماركيز “نلتقي في أغسطس”، بعد عشر سنوات من وفاته في 17 أبريل/ نيسان عام 2014. حسب إعلان دار النشر العريقة “راندوم هاوس”.

كواليس

أما في كواليس الخبر وتسريباته، فتبدأ التناقضات تتكشف لعشاق الكاتب العظيم، وتعيد طرح مشكلة سيبقى نقاشها عابرا للثقافات واللغات: متى يتوقف دور الورثة عن التخريب بحجة ملكيتهم القانونية لحقوق الكاتب أو الفنان المتوفي؟

ونتبعه بسؤال هل نتاج كاتب عالمي مثل ماركيز إرث وطني وإنساني أم شخصي يخص عائلة الكاتب وورثته من بعده؟ ولا يمكن القول بالاثنين معا.

كي لا نذهب بعيدا، نتساءل ماذا لو كانت رواية ماركيز الجديدة سيئة، ولا تليق باسمه وتراِثه الإنساني العظيم؟ ماذا ستكون ردة فعل ورثته الذين حتى الآن يمكن وصف سلوكهم مع إرثه بالسيء والجشع جدا، فهم يبيعون كل شيء، دون تمحيص، مستغلين حقهم القانوني بشكل متعسف إلى أبعد الحدود.

قضى ماركيز حياته متنقلا بين المكسيك مكان إقامته الأساسية، إذ كانت المكسيك وطنه الثاني، وبلده كولومبيا، وكوبا التي ربطته علاقات كبيرة مع شعبها وزعيمها فيديل كاسترو، رغم ذلك اعتبر الورثة أن أوراق وأشياء ومسودات الرجل التي تُشكل مادة أساسية لإعادة كتابة سيرته، وبالتالي تمتلك رمزية عاطفية كبيرة، يمكن بيعها لمركز “هاري رانسون” التابع لجامعة تكساس الأميركية. بينما كان من باب أولى لهذه البلدان الثلاثة التي ذكرناها أحقية الاحتفاظ بهذا الإرث الإنساني الذي يحمل رمزية كبيرة للثقافة الوطنية اللاتينية والإنسانية.

الرواية ستصدر، وسيحصد الورثة ملايين إضافية من الدولارات، ولن يعنيهم إن كانت الرواية مهمة أم أنها مجرد مسودة لم ينته العمل عليها، ونشرها يسيء لإبداع الكاتب المكتفي بمجده ومـؤلفاته. إضافة أي كتاب غير مؤكدة أهميته ولم يأذن هو بشكل شخصي حين كان يمتلك قراره، تعتبر تعديا على كيان الشخص المادي والمعنوي، لأنها ببساطة تضعف أسطورة الرجل وتقلل من أهميتها.

جشع

لورثة ماركيز سوابق في التعامل مع إرثه بطريقة جشعة، فشعارهم نحن نبيع لمن يدفع، ومن هذا القبيل أن ماركيز لطالما صرّح بعدم رغبته في رؤية رائعته “مائة عام من العزلة ” تتحول إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، رغم تحول أكثر من رواية وقصة وسيناريو إلى أفلام. لكن الأخبار الواردة أيضاً تقول إن الورثة باعوا حقوق إنتاج هذه الرواية بعد خمسين سنة من نشرها للمرة الأولى عام 1967 إلى “نتفليكس” التي أكدت الخبر عام 2019، والعمل جار على قدم وساق لتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني.

لكن في تفاصيل الخبر نجد اللغم الموعود بأن شركة الأخوين الوريثين رودريغو ورونزالو ماركيز هي المنتج المنفذ. وهذا أسوأ ما يمكن لورثة فعله، أي الضرب بعرض الحائط برغبة مورثهم، وتعسفهم كمنتجين منفذين في استخدام حقهم.

قانونيا، الورثة هم أصحاب الحقوق ويحق لهم رمي كل ما يخص مورثهم إلى النهر، لكن في حالات خاصة يجب الحجر على الورثة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمبدع بحجم ماركيز وأهميته لثقافة قارة بأكملها ولغتها للبشرية جمعاء.

ونحن؟

أما عن حالتنا كعرب في هذا المقام، فنحن نستحق البكاء بكل ما تعنيه كلمة بكاء، يبقى الكاتب العربي رهين حظه في ورثة إما يقدّرون إنتاجه وإما يعتبرونه عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بعد عودتهم من دفنه. لا نعرف أين هي أشياء محمد الماغوط، وفاتح المدرس، ولؤي كيالي وغيرهم….

ماتت كتب الكثير من الكتاب مع وفاتهم، لأن ورثتهم غير مهتمين بوجودها في السوق، ودور النشر لا تستطيع التصرف دون موافقتهم، وهم أصلا يعتبرون مهنة الكتابة معيبة وتنتقص من قيمة الكائن، والآن بعد وفاته جرى إغلاق الباب وانتهينا.

شخصيا، أعرف حالات حزينة عن عائلات كتاب لا تعرف قيمة إرث مورثهم، يبيعون كل ما تركه بقروش قليلة لبائعي الأشياء المستعملة، بهدف التخلص من هذه البقايا غير النافعة، كما نفعل حين نوزع أثواب أمواتنا وبقاياهم على العائلات المستورة، أو نتقاسمها للذكرى.

  ماذا لو كان لدينا في اللاذقية متحف صغير يضم أشياء أبو علي ياسين والياس مرقص وهاني الراهب، أو متحف في دمشق يضم أشياء نزار قباني وكل ما يخصه، نعم إنهم ليسوا كتابا عالميين لكنهم بالنسبة إلى السوريين أيقونات لها معانيها التي لا تموت. ماذا لو انضمت إلى هذا المتحف الصغير أشياء المفكر ميشيل كيلو ابن المدينة الذي حلم بقبر فيها ولم يحظ به.

ماذا يحصل لو كان لدى مبدعي مصر متاحف تلم أشياءهم لتُعرض للجمهور، كمتحف نجيب محفوظ. ومتحف نجيب سرور، إلخ… وقائمة المبدعين تطول في عالمنا العربي.

 بعد الموت يصبح كل ما يخص المبدع ملك ورثته قانونيا، يتصرفون به تصرف المالك بملكه، لن نعدم الأمثلة عن التعسف، أو الأصح سوء الاستخدام في العالم العربي أيضا.

 لدينا مسلسل محمود درويش مثالا عن سوء استخدام سلطة الملكية هنا، رغم معرفتي الشخصية التي لا تكفي بالتـأكيد للحكم على هذه الحالة، بأن عائلة الراحل محمود درويش تعاملت بحسن نية، دون أن تفكر بالعواقب فيما بعد. ولدينا مسلسل الشاعر الكبير نزار قباني الذي تسربت أخبار عن عدم موافقة الورثة على إنتاج المسلسل، ورغم ذلك جرى إنتاجه.

المسلسلان يعتبران رمزين حقيقيين للفشل الفني، من النص إلى التمثيل، وباقي عناصر العمل الفني، وما أْعرفه عن مسلسل محمود درويش أن عائلة صاحب “سرير الغريبة”، أعطت الإذن القانونية للمنتج فراس إبراهيم لإنتاجه عن حسن نية كما أسلفت. أما عن أسباب فشله فهي كثيرة جدا ولا يمكن لنا الخوض فيها هنا، ونتائجه كانت مدمرة، وحزينة حتى بالنسبة للمنتج نفسه.

ما لا يستعاد

 وفي الجهة الأخرى نجد نجاحا يمثل بصيص أمل بسيط لنا في مجال تحويل السيرة الذاتية إلى عمل مرئي، كمسلسل “أسمهان” الذي كتبه مجموعة كتاب أبرزهم المخرج الراحل نبيل المالح، وأخرجه الراحل الكبير شوقي الماجري.

نعم، لا يجوز التقليل من أهمية الحقوق القانونية للورثة، لكن يجب تقييدها في بعض الحالات، خاصة في أشياء لا يمكن تكرارها، كأوراق وأشياء وروايات ونصوص ولوحات ونتاجات تشكل إرثا وطنيا، نعتبر خاسرين في حال فقدانه أو تلفه.

AFP AFP

جامع التحف الكولومبي خورخي سالازار يحمل نسخة إنكليزية من “مائة عام من العزلة” للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.

نستطيع مرة أخرى إنتاج مسلسل قد يكون ناجحا عن محمود درويش، أو كتابة سيرة ذاتية مهمة لنزار قباني في زمن مقبل، لكننا لا نستطيع استعادة لوحات محمود سعيد إن خرجت من مصر واختفت في خزائن جامعي اللوحات، أو لوحات لؤي كيالي وفاتح المدرس إن خرجت من سوريا. نعم نحن نعيش أسوأ أيامنا، منشغلين بأشياء أخرى خارج الثقافة، الحروب في كل مكان، والانقسام الاجتماعي على أشده، ولا أمل في حياة إنسانية قريبة، لكن لا جديد، فمنذ فجر هذه الأمة، وهي تبيع إرثها للأعداء قبل الأصدقاء.

المجلة

————————-

لجان تحكيم “بوكر” السرية/ خالد خليفة

22 مايو 2023

الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، الأكثر جدلا في الحياة الثقافية العربية، أعلنت يوم الأحد عن فوز رواية “تغريبة القافر” للروائي العماني زهران القاسمي بجائزتها لهذه الدورة. أهنئ من كل قلبي الروائي زهران القاسمي على هذا الفوز الكبير، وأتمنى ألا تصيبه “لعنة البوكر” كما أسميها، والتي لا يتسع المجال هنا لشرحها.

كل الكتاب يعتقدون بأنهم جديرون بالفوز بأرفع الجوائز، وهذا شعور طبيعي في مهنة يعتمد الفوز فيها على تقييم لجان التحكيم وذائقتهم ومعرفتهم وعدالتهم في المقام الأول، والوهم الذي يعيشه الكاتب المنتج في تقييم ذاته ونصه في المقام الثاني، لذلك يكتسب وقت إعلان الجوائز أهمية خاصة، الإحباط الذي يرافقها عموما أكبر وأعمق بكثير من الإحساس بالنجاح الذي يراود شعور الرابحين في القوائم القصيرة على الأقل. أعرف كتابا حولهم انتظار ربح الجوائز إلى معتوهين، مشدودي الأعصاب، يعملون بما يظنونه جذابا وينال رضا لجان التحكيم أو القائمين على تسيير أمر هذه الجوائز، تتراجع كتابتهم، والأثمان التي من الممكن أن يكونوا قد دفعوها ذهبت سدى، وكتاب آخرون يكثفون العمل ويطبعون حسب روزنامة وتواريخ التقدم إلى الجوائز.

 في الثقافة العربية لم تصمد الجوائز العربية طويلا، رغم أهميتها في الماضي، نتذكر بعضها كجائزة مجلة الآداب التي ربحها ذات يوم الشاعر الأردني تيسير سبول والروائي السوري الكبير هاني الراهب عن روايته “المهزومون” عام 1961، وكان عمره 24 عاما، وكان رحمه الله يردد أمامي بأن هذه الجائزة حولته إلى نجم، يرغب الكتاب العرب من المحيط إلى الخليج بالتعرف إلى ذلك الكاتب الشاب المعجزة.

لو عدنا إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي لوجدنا بأن أغلب الجوائز كانت قادمة من مصر وبيروت، لكن هذه الجوائز رغم عمرها القصر وتمويلها الضعيف (2000 جنيه إسترليني لجائزة مجلة الناقد مثلا)، كانت ذات تأثير كبير، تحولت إلى مجهول واندثرت آثارها، لا شيء في الأرشيف عن تاريخ جائزة مجلة شعر مثلا التي فاز بها شوقي أبو شقرا عن ديوانه “ماء إلى حصان العائلة” وأدونيس عن ديوانه “أغاني مهيار الدمشقي” وبدر شاكر السياب عن “أنشودة المطر” ، ليس لدينا معلومات عن منافسيهم في القائمة القصيرة، ولا عن كيفية اختيار هؤلاء الشعراء وإهمال الخاسرين الذين من الممكن أن يكون بينهم شعراء مهمون أيضا.

 من ضمن الجوائز الأقرب إلى جيلنا تأتي جائزة الناقد للرواية التي كانت للنصوص غير المنشورة، التي فاز فيها الروائي اللبناني المجتهد ربيع جابر عن روايته الأولى “سيد العتمة” والروائي المغربي بنسالم حميش عن روايته “مجنون الحكم” والروائي العراقي سليم مطر عن روايته “امرأة القارورة” والروائية هدى بركات عن روايتها “حجر الضحك”. وكانت ذات تأثير كبير رغم عمرها القصير ونقودها القليلة.

 ما دمنا في سياق الحديث عن جائزة الناقد، أذكر بأنني شاركت في دورتها الأولى عام 1990 بروايتي الأولى التي نسيت اسمها، خسرت الرواية التي أعدت قراءتها بعد إعلان النتائج، وحمدت ربي أنها لم تربح حتى لو عن طريق الخطأ، بعد قراءة متمعنة وهادئة أحرقت مخطوط هذه الرواية لاعتقادي بأنها تستعير أصوات الآخرين، لست نادما وأعتبر هذا الفعل واحدا من الأفعال الشجاعة والمهمة في حياتي.

أخلصت الجوائز لمفهوم العصبة والعمل السري الذي يجري به تسيير كل شؤون حياتنا. نحن لم نعتد وليس من حقنا السؤال مثلا عن تغيير منهاج تعليم مادة التاريخ لطلاب الثانوية، لا أحد يسألنا، في كل العملية التربوية لا أهمية لرأينا.

ما دمنا في حديث الجوائز، وللأمانة أعترف بأني كاتب يحب الجوائز، لكني لا أسعى إليها.

تعرضت لتجارب لا أحسد عليها خلال السنوات العشرين الماضية، ذات يوم سأكتبها بالتأكيد كاملة.

البوكر العربية ومنذ تأسيسها كانت الأكثر إثارة للجدل، إلا أنها في الوقت نفسه تعمل وفق المبدأ نفسه، ما يحدث في جلسات ونقاشات لجان تحكيمها شيء يخص الجائزة، ولا يجوز الخوض فيه، رغم أنه في كواليس المهتمين خاصة من الصحافيين العارفين، بعد إعلان الجائزة يجري تسريب كل تفاصيل لجان التحكيم وأسرارها، والسيء في الأمر تحوّل هذه التسريبات الشفهية إلى حقائق تاريخية يجري تداولها مؤقتا وتذهب إلى النسيان بعد وقت قصير كما حصل مع جوائز الستينات والسبعينات.

طبعا لدينا عدد كبير من الجوائز ولسنا بصدد تعدادها، نادرا ما نجد معلومات وتفاصيل عن نقاشات لجان التحكيم وحواراتهم. كما يحدث في الكثير من الجوائز العالمية، كما أسلفنا لأن الثقافة العربية تعتبر الأمر شخصيا، أسراره يجب أن تبقى طي الكتمان، ما عدا جائزة نجيب محفوظ التي أسستها الجامعة الأميركية في القاهرة لتكريم كاتبنا الكبير، تعلل الفوز بملخصات طويلة باللغتين الإنكليزية والعربية، حين لم يكن لديها قوائم طويلة وقصيرة، لكنها الآن انضمت إلى رفيقاتها من الجوائز العربية، ولا أعرف إن كانت ستعمل وفق المعايير الأميركية في كشف نقاشات لجان التحكيم، أم وفق المعايير العربية التي تقدس السرية، وهي مفضوحة على كل لسان. 

 إذا ركزنا حديثنا عن الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” نجد بأنها قد تكون الأكثر إثارة واستقطابا للاهتمام، فالخاسرون لديهم دوما حكايات طريفة، محزنة، وأحيانا مضحكة، لكنها جزء من تاريخ الجائزة.

البوكر ومنذ دورتها الأولى تثير الجدل، ولن ينتهي الاتهام لها إلا بخضوعها للمعايير الدولية التي تقول إن ما يحصل خلف كواليس لجان تحكيم جائزة البوكر شأن يخص الثقافة العربية برمتها، ويجب نشر محاضر جلسات لجان التحكيم كاملة بعد عدد محدود من السنين.

لديّ اعتقاد حقيقي بأن المؤسسة المنظمة والداعمة للجائزة لا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد بنقاشات لجان التحكيم، لكن من يختار لجان التحكيم يوجه الدفة نحو فوز مناطقي أو أيديولوجي، وهذه مسؤولية مجلس الأمناء المعلنة أسماؤهم كما هو معروف بكل شفافية.

لكن العمل على المزيد من الشفافية وكشف محاضر جلسات التحكيم بعد عدد من السنوات، يمنعان حتى لجان التحكيم من الاحتكام لمعايير خارج الكتابة، وسيصبح ما يحدث الآن جزءا مهما من تاريخ الكتابة العربية. لا أُخفي شغفي الشخصي بقراءة محاضر لجان التحكيم في الدورة الأولى التي كانت الأكثر حرارة حتى الآن التي فاز فيها عن استحقاق الروائي الكبير بهاء طاهر عن روايته “واحة الغروب”، وكخاسر أود أن أعرف كيف نظر المحكمون إلى عملي “مديح الكراهية” وإلى أعمال رفاقي في القائمة القصيرة، كما لديّ شغف لأعرف ماذا حدث في الدورات اللاحقة التي جرى فيها تجاهل كتبي الأخرى.

هل تفعلها البوكر وتعلن بأنها ستنشر محاضر التحكيم، وتشجع باقي الجوائز على فعل ذلك، وتكون هي الرائدة والسباقة في نقل الجائزة إلى مستوى أهم مما هي عليه الآن؟

المجلة

——————————

——————————

أكتب إليكم من دمشق/ خالد خليفة

26 أبريل 2023

دمشق: قبل نحو عام صدر عفو عام عن السجناء السياسيين، وبعد أيام قليلة، أفرج عن عدد قليل جدا من الموقوفين، وتُركوا لمصيرهم في بلدة صيدنايا التي لا يبعد السجن الشهير الذي يحمل اسمها سوى كيلومترات قليلة عن ساحة البلدة الرئيسية.

رجال بثياب ممزقة وعيون غائرة، رجال عبروا نهر الجحيم، هذا التعبير الصحيح لتوصيفهم، بأجسادهم الهزيلة ونظرات عدم التصديق، وجدوا أنفسهم مرة أخرى وجها لوجه مع الحياة المستحيلة. لم يصدق المارة من سكان البلدة منظرهم، قدموا لهم المساعدة الممكنة التي تعينهم في الوصول إلى عائلاتهم في جميع المدن السورية.

لاجئ سوري تعرض للتعذيب في السجون السورية يعرض صورة له على هاتف محمول بعد إطلاق سراحه من السجن.

نهر الجحيم

بالتأكيد لا يمكن تصديق ذلك، أن تجد نفسك بعد العيش في نهر الجحيم لسنوات وجها لوجه مع بلد يختلف عن الذي تركته، فالتحولات لم تكن بسيطة، ولا كان ممكنا تفهمها، أو توقعها، كل شيء اختلف في سوريا اليوم، لم يعد كما كان قبل عشر سنوات مثلا، الموجود اليوم بقايا بلد، ينتظر الجميع منه أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليجري دفنه.

المذهل حدث في اليوم التالي، بدأ الناس في كل المدن السورية يتداولون على وسائل التواصل الاجتماعي أماكن الإفراج التالي. يلاحق الناس الأخبار حتى لو كانت كاذبة. فهم لا يملكون شيئا سوى هذا الأمل المستحيل. تداولوا اسم مكان يدعى “جسر الرئيس” في دمشق كموقع لإطلاق سراح السجناء فيه. تحولت المدينة خلال أقل من ساعتين إلى ساحة انتظار كبيرة. وبقيت الأعداد تزداد. كل ساعة يتضاعف الرقم، عشرات آلاف الناس توافدوا من المدن الأخرى، في حافلات قديمة متهالكة، وصلوا إلى المكان المقصود، لكنهم لو يجدوا أحدا.

تحول المكان إلى ساحة انتظار هائلة. ناموا في الشوارع وتحت الجسر، وعلى الأرصفة، في انتظار أحبابهم، غير مستعدين لترك المكان. أمهات ملتاعات، يحملن صور أبنائهن، يعرضنها على العدد القليل (لا يتجاوزون العشرات، ومجمل من أفرج عنه في كل العفو العام لا يتجاوز المئات) من السجناء الذين أُفرج عنهم، تبدو على وجوههم علامات الخبل وفقدان الذاكرة والعقل.

ينظر المفرج عنه إلى آلاف الصور التي تعرض عليه ويتابع طريقه، بعد أن يتأكد أن من يحمل الصورة ليس فردا من عائلته. هم يبحثون عن أي خبر عن أولادهم وهو يبحث عن عائلته أيضا أو من يساعده للوصول إليها.

جروح مفتوحة

استمرت حالة المدينة التي تنتظر الإفراج عن مئتي ألف مفقود، أو التبليغ عن مصيرهم أياما قليلة. مشهد لا يمكن نسيانه، تداول الناس خلال تلك الأيام قصص أبنائهم الغائبين. وفُتح الجرح الذي لن يُغلق، سيبقى ذكرى هذه الأيام القليلة في تاريخ المدينة التي تفاخر بأنها أقدم مكان مأهول على وجه الأرض. لا يمكن تلخيص ألم الفقدان للسوريين، بعد أيام عدة مُنع التجمع تحت الجسر وفهم الناس بأن قرار العفو كاذب، كغيره من القرارات التي تنكأ الجراح وتزيد الغضب.

عادت البلاد إلى النوم حزينة، مكلومة، يائسة، تثرثر في منازلها الباردة عن مصير الغائبين الذين غادروا ولن يعودوا، وتستعد كل صباح لتوديع دفعات جديدة من الشبان المحظوظين والفتيات المحظوظات، الذين حصلوا على قبول جامعي أو فرصة عمل أو لمّ شمل عائلي في ألمانيا، وباقي دول أوروبا، التي يعتبر الحصول على تأشيرة الدخول إليها أقرب إلى المستحيل بالنسبة إلى الناس العاديين. باقي الشباب يهربهم أهاليهم، بعد أن يبيعوا مقتنياتهم أو يستدينوا، إلى أربيل وبيروت وكل مكان لا يزال يستقبل السوريين، مع وصايا بعدم العودة إلى البلاد التي تحولت إلى خراب حقيقي، لا تستطيع مرثية ت إس إليوت أن تعبّر عن جحيمه.

استعدادات مرحة

أكتب إليكم لأخبركم بأنني أعيش وسط هذا الخراب، وسط هذه الجحيم، لا أعرف إن كنت سعيدا أم حزينا، غاضبا أم راضيا. كل ما أعرفه أنه لا وقت لديَّ هنا للتفكير في السعادة كما يفكر فيها بقية البشر، منذ زمن بعيد لم أدع إلى عرس لأصدقائي أو إلى حفل خاص. كل يوم تزداد أحزاننا وحيرتنا في التعاطي مع حياتنا التي لم نعد نعرف إن كان الموت سيكون نهاية جيدة لآلامنا.

أراقب طوال الوقت الطوابير الطويلة للحصول على الخبز، أربع أو خمس ساعات في ليالي الشتاء الباردة، للحصول فقط على الخبز، وضعف هذه الساعات للحصول علىالوقود. في المرة الأخيرة لوقوفي في طابور الوقود، قمت باستعدادات مرحة، استيقظت في السادسة صباحا، وأخذت معي دفتر الاسكتشات، أردت أن أرسم، وكتابين، وترمس من القهوة. تشاركت الصباح والأحاديث مع فقراء مدينتي عن الغلاء، وأفضل الطرق للخروج من البلاد. فكرت بأن الفقراء صباحا يكونون أكثر تسامحا وأملا.

رسمت وقرأت وبعد أربع ساعات استطعت الحصول على عشرين ليترا من الوقود. رسمت أربعة اسكتشات، واحدا منها لرجل كان يحثني ألا أتخلى عن دوري في الطابور لمن يريد، يعمل حمّالا وسائق سيارة سوزوكي فقيرة وصغيرة وقديمة، قلت له أن يقف لأرسمه في لحظات الانتظار، أعجبته الفكرة، وقف مبتسما، بعد ذلك حدثني عن عائلته، أنّبني لأني لم أتزوج، عرض المساعدة في البحث عن عروس مناسبة، ضحكت وشكرته، رسمته لكني اكتشفت بأني رسمت المسيح، قلت في نفسي ومَن يحمل صليبه غير السوري اليوم، تحول كل سوري إلى مسيح. أعجبتني الفكرة لكن في الانتظار مهانة لا يمكن نكرانها ولا يمكن استحضار المسيح إلا كمخلص لا يقوى على مساعدتنا حتى في تجاوز المهانة.

طبقات الحزن

أكتب إليكم من دمشق، مدينة الطوابير التي لم تتوقف الحرب فيها رغم إعلان ذلك، المدينة التي تعيش على طبقات غير مرئية من الحزن اللامتناهي. قبل تسع سنوات للمرة الأولى رأيت دمشق معتمة بالكامل، كانت ساعات قليلة لكنها مذهلة، كتبت وقتها أن منظر مدينة معتمة يشكل التعبير الحقيقي لليأس دون حدود، كان المنظر بالنسبة إليّ وقتذاك مذهلا، عبرت في سيارتي الشوارع، انتظرت مع المنتظرين على الحواجز التي كانت تقطع أوصال المدينة، كنت أريد أن أمسك العتمة بيدي. لم أصدق أنني أعيش هذه اللحظة، وبعد ساعات قليلة حين وصلت إلى منزلي الذي يطلّ على الجزء الجنوبي – الشرقي من المدينة، لم أصدق المشهد من مكان مرتفع. كانت المدينة معتمة بالكامل، من منزلي أقصى شمال المدينة إلى المطار الذي كنت أرى أضواء المناطق التي تحيط به، كانت العتمة عامة، ما عدا بضعة أضواء منارة تعرف أنها لمستشفيات أو منشآت أمنية تستخدم مولدات كهرباء طوال الوقت وتتنعّم بالكهرباء.

اليوم ومنذ أربع سنوات تزداد العتمة كل يوم، لم تعد صورة العتمة مدهشة، أصبحت أمرا واقعا، لم أعد أريد الإمساك بالعتمة، فقط أريد الاحتراس كي لا أنزلق في حفرة وتتكسر عظامي. الأمر ليس فكاهيا البتة، صديقي الطبيب بشار المير علي  واحد من أشهر أطباء العظام في المدينة، يخبرني أنه في الأشهر الماضية من الشتاء، لم يعد هناك سرير واحد فارغ في مستشفيات المدينة، نتيجة الكسور التي تعرض لها الناس أثناء سيرهم في الظلام.

اكتظاظ

تخيلت معنى العيادات المكتظة بالبشر الذين يحملون أجسادهم المكسورة الأعضاء، ويبحثون عن طبيب أو سرير في مستشفى. إنها معان جديدة للعيش في دمشق التي أكتب إليكم منها لأخبركم بأن طعم كل الأشياء تغير، وبأننا لا نستخدم الثلاجات في منازلنا إلا كخزائن لا قيمة لها، كل السوريين عادوا إلى تجفيف الخضروات من أجل الشتاء، لم نعد نحلم بالماء البارد وكل أدوات المنزل الكهربائية أصبحت خردة. الكهرباء تأتي ساعتين وتنقطع أربع ساعات في أحسن حالات التقنين، ومن الممكن آن تتحول الساعتين إلى ساعة أو نصف ساعة. المدن الأخرى تحسد دمشق، في اللاذقية تأتي الكهرباء نصف ساعة أو ساعة كل ست ساعات، وفي أمكنة أخرى كحلب لا كهرباء في منازل وشوارع المدينة. وأستعير هنا عنوان روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لأقول لا كهرباء في منازل هذه المدينة.

جواز السفر

أكتب إليكم من دمشق لأخبركم بأن طابور الراغبين بالحصول على جواز السفر هو أطول الطوابير، مئات الآلاف تريد الحصول على جواز سفر والذهاب حتى إلى الجحيم، العدد الهائل أربك السلطات التي لا تعرف منذ سنتين ماذا تفعل، ترفع الرسوم ويصبح جواز السفر السوري الذي يحتل ذيل قائمة جوازات سفر العالم أٌغلى جواز في العالم، قد لا تصدقون أن الحصول عليه يكلف من عشرين دولارا إلى 800 دولار حسب حالاته المتعددة، كل يوم يزداد ذهولي في مراقبة قدرة البشر على الاحتمال، ومن قدرتي أنا الأكثر هشاشة على تعلم الصبر والتأقلم مع العيش البدائي.

أكتب إليكم من دمشق لأخبركم بأننا نعيش في مكان منسي، قاس، خائف من المستقبل، من الماضي، خائف من الاعتقال، من الاختفاء، من الموت جوعا وعطشا وبردا، خائف من الزوال. نعم، نحن خائفون من الزوال.

المجلة

—————————-

عن ضحايا الزلزال الذين ماتوا مرتين/ خالد خليفة

14 مارس 2023

“لم أر مثل هذا الرعب في حياتي”، يحدثني صديقي الذي عاد أخيرا للعيش في مدينتنا عفرين. فكرتُ بالرجل الذي عاش الحرب كلها، في أمكنة تحت قصف براميل النظام المتواصل لأشهر، ارتحل من مكان إلى آخر مع عائلته، شاهد بأم عينه الحرب بكل ألمها وحقارتها، رأى الأبنية تنهار كقطعة بسكويت، وأشلاء الأطفال ممزقة تحت الركام. فكرت بصديقي الذي شاهد كل شيء ويصف الزلزال بهذه الجمل المرعبة، ليقرّب لي حجم الرعب.

انتقل صديقي من بيت إلى بيت محاولا التمسك بعمله، ومدارس أطفاله الثلاثة، ليعود أخيرا إلى مدينتنا الجميلة التي نفاخر نحن أبناءها بأنها عاصمة زيت الزيتون في سورية، ونفاخر أيضا بأن لزيتها سمعة عالمية. حين كنا نتحدث، كان يرسل إليَّ صور الزيتون والرمان والتين، ولا يترك مناسبة لا يغريني فيها بالعودة إلى الينابيع الصافية كما نسميها، حيث الصباح له طعم مختلف عن أي مكان في العالم. لا نتوقف عن ممارسة الحنين الى طفولتنا، الى الأمكنة التي دمرها الزلزال بعد نجاتها من الحرب.

كنت أحسده لعيشه في الجنة على الرغم من أن فصائل معادية لها ولثقافتها الكردية تحتلها، لكننا كنا متفقين بأنهم ككل الغزاة سيرحلون ذات يوم نتمناه قريبا.

تحت الركام

صباح الزلزال رأيت صديقي معفرا بالتراب يحاول المساعدة في إنقاذ الأرواح تحت ركام بيوت بلدة جنديرس. بيديه العاريتين يعمل مع شباب الدفاع المدني الذين حظهم بالمعدات ليس أكثر من حظ صديقي؛ أياد عارية وقلوب مليئة بالحب. يقول لي: “الموت تحت الركام لا ينتظر وصول فرق الإنقاذ التي تمتلك كل الوسائل، يجب أن نفعل شيئا”.

مذ كنا في الجامعة كان صديقي يسبقنا إلى الأمكنة التي تحتاج إلى مساعدة، ويقول جملته الشهيرة: يجب أن نفعل شيئا.

كانت جنديرس أكثر الأمكنة تضررا. أكثر من نصف بيوت البلدة دُمرت وباقي البيوت لا يمكن العيش فيها. الموتى بالمئات، وبالآلاف هم الجرحى، والذين أصابهم هلع وخوف سيعيش تحت جلدهم. أشعر بأنني سأموت لا محالة مع الأجساد التي لم يسمع العالم صرخات استغاثتها، وتقددت مختلطةً مع الاسمنت والحديد والتراب. الجثث في كل مكان، الممرات في المستشفيات مليئة بالموتى المبتوري الأعضاء في انتظار تعرّف ذويهم عليهم ودفنهم. لا يمكن وصف المشهد بسوى القيامة، التي تخيلتها تماما كما حدثت في سورية؛ اثنتا عشرة سنة من الحرب، فاخرت روسيا بأنها جربت ثلاثمئة نوع من سلاحها الفتاك، عرضت بيعه لدول العالم، وحين بدأت حربها على أوكرانيا تحولت هذه الأسلحة إلى خردة حقيقية، ولم يبق إلا السلاح النووي تهدد به العالم. كان يجب أن تضيف روسيا إلى إعلان تجريبها الأسلحة في سوريا، أن أسلحتها مخصصة للفتك بالأطفال والمدنيين العزل فقط.

لا ننتظر شيئا من العالم

كان الموت في سورية خلال السنوات الماضية أمرا يدعو الى التعاطف فقط، ولا أحد يستطيع منع ذلك، حتى بات الأمر كأنه قدر حقيقي للسوريين الذين صدمتهم فكرة وحدتهم وتخلي العالم عنهم. لذلك في اللحظات الأولى للزلزال، انقسمت سوريا كما هي مقسمة بين كل أطراف السياسة، لكن الذي وحدها هذه المرة هو شعبها الذي لم ينتظر أي شيء من العالم. فهو اندفع بإعلان بلده موحدا دون الالتفات إلى السياسة التي عرفنا أنها ستجعلنا ندفع أيضا ثمنا باهظا. سنُترك مرة أخرى تحت الركام الى حين اتفاق الأطراف الذين يمسكون أمر فتح المعابر بأيديهم، يحتكرون المساعدات التي ستصل إلى سورية ويحولونها إلى مشاريع سياسية بامتياز. لا يهم عدد البشر الذين من الممكن انقاذهم لو سمحوا لفرق الإنقاذ بالوصول إلى شمال غرب سورية في إدلب وعفرين وباقي المناطق المتضررة في الشمال الغربي من سورية، وباقي المناطق في حلب واللاذقية وحماه. المناطق المتضررة وتخضع لحكم النظام، كان حظها أفضل لكن ليس بالكثير. نعم هبطت مئتا طائرة تحمل مساعدات في مطارات سورية، لكن المتضررين وصلهم عشرة في المئة من هذه المساعدات والباقي تبخر كما هي العادة في سماء الفساد الواسعة.

النظام سيستغل هذه الكارثة. إردوغان سيفعل الشيء ذاته في الانتخابات. سيمنع مرور فرق الإنقاذ إلى الشمال ويسمح بعبور جثث السوريين الذين ماتوا تحت أنقاض منازلهم في المدن التركية العشر المصابة بالزلزال. الفصائل المسلحة المتناقضة في الشمال، التي تحكم بطريقة النظام نفسها، ستستغل موت الناس أيضا.

حتى اليوم السادس للزلزال فتحت معابر الشمال فقط لإدخال جثث السوريين الموتى تحت الأنقاض في تركيا. أكثر من ألف جثة أدخلت خلال أسبوعين، غير الذين دفنوا هناك وفي مقابر تركية، ولا يزال هناك المزيد من السوريين تحت الأنقاض والمختفين في تركيا كما في سوريا.

في اليوم السادس للزلزال بدأت المحادثات بين كل الأطراف في سورية تُثمر، وبدأت المعابر تُفتح بشكل خجول، لكن الموتى لم ينتظروا، لقد ماتوا مرة أخرى، ومن كان ينتظر الإنقاذ مات للمرة الأولى وبدأ يستعد للتفسخ تحت الركام.

مزاح ثقيل

اليوم، السوريون يفاجئون العالم بمزاح ثقيل كالزلزال. إنهم غير مرئيين بالنسبة الى العالم الذي لا يحب أسياده مزاحهم، كما لا يحبون طريقة انشغالهم بالأمل الذين ينبتونه من الصخر. قامت فرق الدفاع المدني، “القبعات البيض”، بفعل البطولة الممكن الوحيد في مثل هذه الظروف. بالأيدي أُنقذ ما يمكن إنقاذه من أرواح، بمعدات بدائية. وفي المدن السورية كاللاذقية وحلب، عمل شباب وصبايا سورية ليل نهار دون اكتراث لإيصال تبرعات السوريين الفقراء الذين قاسموا أهلهم الفرش والبطانيات والألبسة والطعام والدواء. تقاسمت سورية خلال الأسبوعين الماضيين كل شيء، وأعادت توحيد البلاد التي يعتقد العالم بأن وجودها مقسمة ومحتلة من روسيا وإيران وإسرائيل وأميركا وتركيا خلال عشر سنين شيء طبيعي.

اعترفت الأمم المتحدة بالتقصير والعجز، لكن ماذا يفيد الموتى الآن الاعتذار. لا شيء جديدا. لقد ماتوا. وسيصل الضحايا السوريين إلى رقم لن نصدقه في الأيام الأولى بعد إغلاق دفتر الموتى، وسنتعامل معه بعد أيام على أنه طبيعي ولا شيء للتبليغ عنه في كل الجهات والمدن السورية. سيقول العالم إنهم مجرد سوريين ماتوا من الهلع ولم يصمدوا تحت الأنقاض مدة كافية لتصل إليهم كلابنا البوليسية المدربة.

ما تبقى من أنطاكيا ركام يُدمّر القلوب. ما تبقى من مرعش، من أرسوز، من باقي الأمكنة التركية المدمرة، صور وذكريات تصاعدت مع الموتى في صعودهم إلى السماء. لا يمكن إلا أن تشعر بأن قدر الموت غير المتساوي ظالم دوما. أصدقائي الأتراك مصابون بصدمة حقيقية. من شدة الموت، لا شك في أن تعاطف العالم سيجبر خاطرهم المكسور، لكن لا شيء سيعيد إليهم أحبابهم.

متضرر من الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا يحمل مراتب وزعتها منظمة غير حكومية، لقاطني المخيم المؤقت في مدينة عفرين في الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة من محافظة حلب في 16 فبراير 2023.

في سورية، بعد الهزة الثانية منذ بضعة أيام، بقي كل السوريين في الشوارع. تخيلت مشهد حشرهم يوم القيامة كما تصفه الكتب المقدسة، بشر يحملون على أكتافهم ذنوبهم وحسناتهم، يعبرون البرزخ بين الجحيم والجنة، شعب بأكمله متروك لقدره وتجار المساعدات والنهابين الذين لم يتركوا لهم حتى الأكفان. نعم حتى الأكفان نهبوها. نعم شعب يحمل صليبه في طريقه إلى القيامة عاريا من أي دنس.

———————————

الكتابة العارية/ خالد خليفة

2018-01-24

هذه الكتابة التي نتحدث عنها وجدت ضالتها في المواضيع الجديدة التي أفرزتها الثورة السورية والحرب التي فتحت الأبواب واسعة أمام أقلام جديدة لا ينقصها الحماس الزائد والصراخ الإيديولوجي، لكن بالتأكيد ينقصها الكثير لتصبح كتابة قادرة على مقاومة الزمن والبقاء، كما ينقص كتابها القدرة على السمع، والتمحيص، والقدرة على تقبل النقد، من يجرؤ اليوم على نقد نص لكاتب يقرأ نصوصه في مدن المانية ويتحدث عن الثورة.

لا نستطيع الحديث عن تغيير جوهري في الأدب السوري حتى الآن، رغم أن سوريا القديمة انتهت، وقرار دفنها ينتظر حضور المعزين والقتلة لإكمال تكفين الجثمان والدفن. كل التحولات في الكتابة السورية خلال السنوات السبع الماضية كانت شكلية، رافقها ضجيج كبير يمكن تلخيصه بفتح كل الأبواب أمام كتّاب شباب ومخضرمين من قبل دوائر ثقافية أوربية، قدمت المنح والدعم المطلق لهؤلاء الكتاب الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت أضواء مربكة، وغالباً ما تكون هذه الأضواء مؤقتة ترتبط بزمن الحدث، لكن لا يمكن إقناع كاتب شاب يجول أوربا ويقرأ نصوصه في منتديات ثقافية بأنه لم يصل إلى سدرة منتهى الكتابة، لا يمكن إقناعه بأن نصوصه لا قيمة لها بمعايير الكتابة وحساباتها.

هذه الكتابة التي نتحدث عنها وجدت ضالتها في المواضيع الجديدة التي أفرزتها الثورة السورية والحرب التي فتحت الأبواب واسعة أمام أقلام جديدة لا ينقصها الحماس الزائد والصراخ الإيديولوجي، لكن بالتأكيد ينقصها الكثير لتصبح كتابة قادرة على مقاومة الزمن والبقاء، كما ينقص كتابها القدرة على السمع، والتمحيص، والقدرة على تقبل النقد، من يجرؤ اليوم على نقد نص لكاتب يقرأ نصوصه في مدن المانية ويتحدث عن الثورة.

وإذا راجعنا هذه النصوص التي كتبت خلال السنوات السبع الماضية سنشعر بخيبة أمل حقيقية، أغلبها كررت القصص المرئية والمسموعة في نشرات الأخبار ووسائل الميديا والتواصل الاجتماعي المختلفة، ولم تذهب هذه النصوص إلى العمق الذي يجب أن تذهب إليه الكتابة بعد تجليات كارثة سوريا التي لا مثيل لها في التاريخ.

وإذا بحثنا عن أسباب هذا القحط الإبداعي سنحتاج إلى مئات الصفحات، والكثير من الألم بالمكاشفة، لكن يمكن تعداد بعض الأسباب التي تتلخص باعتبار التراجيديا السورية حدثاً يجب كتابته فوراً لوجود قراء جاهزين لديهم شغف بمعرفة ما يحدث في هذا البلد، والأمر الثاني أغلب الذين كتبوا عن هذه المأساة كانوا بعيدين عنها، إما كتاب غادروا البلاد بوقت مبكر جداً من إندلاع الثورة، أو إنهم أصلاً يقيمون خارج البلاد، ورأوا الحدث السوري عن بعد وتلمسوا تجلياته ومراحله المختلفة التي مر فيها من الثورة إلى الإحتلال الأجنبي للبلاد من قبل عدة جيوش متناحرة ومتنافسة على مستقبل البلاد. هذه المراحل المختلفة والتي كانت خارج كل الحسابات السياسية وغير متوقعة كانت تسبق النصوص المكتوبة، والنصوص التي ستكتب في الوقت الراهن يشعر كتابها بأنهم يجب اللحاق بالحدث وكتابته. في أعماقهم يشعرون بنوع من الاحتكار، إنهم أصحاب القضية ومن حقهم إحتكار الكتابة عنها، هذا الخليط أتحفنا بنصوص ضعيفة، مملة، ركيكة، مدعية، تتعامل مع الحدث بتعالي العارف، ووجهة النظر التي يجب تبنيها، مما حوّل الكتابة إلى عكس أهدافها وجوهرها، نصبت هذه الكتابة نفسها قاضياً لمحاكمة فيها المجرم واضح والضحية واضحة ولا داعي للغوص في العمق السوسيولوجي لما حدث، ولا يحتاج إلى الانتباه إلى جوهر الكتابة المتجلي بقدرتها على الحفر في الحدث الإنساني التراجيدي. والمتأمل لهذه  الكتابة سيجد ثلاثة أنواع: النوع الأول يتجلى بكتابة الثورة وهي شرح لما حدث وتكرار للأفكار المتداولة، ومجموعة الأفكار التي يجب أن تقف معها ولا تحاسبها رغم ضعفها التقني والتخييلي، وفي ضفة كتّاب النظام كانت الأشياء أكثر سوءاً إذا جرى تزوير كل شيء حتى البديهيات، وجرى نصب المحاكم أيضاً لمحاسبة الإرهابيين الذين دمروا البلد وجرى تبني صفات أقل ما يقال عنها أنّها قمة في الغباء، كالذي نشاهده في الأفلام السينمائية المنتجة في مؤسسات النظام وإعلامه، والقصائد والروايات التي يكتبها أنصار هذا النظام الذي يقوم حسب كتابتهم بالتصدي لهجمات الوهابيين والخونة القادمين من وراء الحدود، وطبعاً لا بد من توابل فلسطين في هذا الأدب ليصعق قراءه ويقطع شكّهم بيقين الكتّاب العارفين بأحجام المؤامرة، وتغليف الكتابة عنها بصفة القضية المقدسة.

وفي الصنف الثالث يكتب أدب ثقيل الظل، يكتبه كتاب يقفون في المنتصف، تجد في رواياتهم تعاطفاً مع الضحايا دون أن نعرف من الذي قتل وحاصر وعذب وقصف ودمر المدن وأحرق الزرع والعباد، إلى درجة نشعر بأن هناك يد خفية قتلت نصف مليون سوري وشردت الملايين.

هذه الأنواع من الكتابة تجد في ضفتها أنصاراً وقراء، لكنها في النهاية تذكرنا بأدب القضية الفلسطينية الذي مات ولم يعد يسمع به أحد اليوم، أو حتى يشعر بوجوده، وهذا ما سيحصل للكثير من الكتب التي تكتب اليوم، ستموت الروايات والقصائد، والمسرحيات ومئات الأفلام التي أنتجت. وما تبقى أو سيبقى قليل جداً.

لكن قبل خاتمة هذا الرأي السريع لا بد من تسجيل الإيجابيات الكبيرة لمجموعة الشهادات التي قدمها بشر لم يدّعوا أنهم كتاب، لكنهم تحدثوا بصدق وألم عن حياتهم وتجاربهم، وتركوا لنا كتابة عارية من الممكن أن تشكل في المستقبل النصوص الوحيدة التي سنعود إليها دوماً، هذا الإنفجار في الشهادات الذي كتبه المئات من السجناء السياسيين السابقين والحاليين، والشهادات عن الحصار والتعذيب، والعيش اليومي في ظل الحرب وقمع النظام ستبقى رغم أن جهابذة الكتابة لا يصنفونها تحت اسم الكتابة لكنها الوحيدة اليوم التي لا تتعالى على الكتابة والحقيقة.

مجلة رمان

====================

حوارات مع “خالد خليفة

—————————-

خالد خليفة: كل مرابع طفولتي دُمرتْ

مايكل صافي / الغارديان 

1 يوليو 2023   

خالد خليفة روائي وشاعر وكاتب سيناريو سوري حاصل على جائزة نجيب محفوظ للأدب، أعلى الأوسمة الأدبية في العالم العربي. تتخطى روايات خالد الساخرة والمفعمة بالحيوية الزمن، ولكنها تتمحور حول مدينة حلب السورية، قرب مسقط رأسه في عام 1964، والتي كانت ذات يوم واحدة من أعظم المراكز الثقافية والتجارية في العالم.

درس خالد خليفة وعمل في مطلع حياته المهنية في حلب، ولكنه انتقل إلى دمشق منذ 1999، وهو واحد من الكتاب القلائل الذين بقوا طوال الحرب الأهلية المروعة في البلاد.

ويقول خالد إنه قد حاول الكتابة عن العاصمة السورية، ولكنه يجد نفسه على الدوام عائدًا إلى مدينته.

“لم يعجبني ما كتبت بعد 50 صفحة، فأنا لا أعرف رائحة دمشق، لذا عدت إلى حلب وقلت لنفسي: هذا مكاني الحقيقي، سوف أكتب عن حلب، مدينتي المتغلغلة في أعماق نفسي وروحي”. 

 دُمرتْ حلب أثناء كتابة خالد خليفة لروايته الجديدة “لم يصلِّ عليهم أحد” بسبب المعارك بين الحكومة السورية والمتمردين، وقد مُنعت هذه الرواية في سوريا.

تدور أحداث جزء كبير من هذه الرواية في مدينة حلب في مطلع القرن العشرين.  فما الذي أثار اهتمامك في هذه الفترة؟

 لطالما شّدني الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقد بدأت خلال هذه السنوات معركة الليبراليين مع المحافظين أو الأصوليين ليبدأ مشروع النهضة. لم تنجح هذه النهضة، ولكنها تركت أثراً واضحًا على فكرة التعليم والمكتبات والصحافة، وعلى تفكيرنا في فصل الدين عن الدولة أو الإصلاح الديني. هناك أيضًا المجاعة الرهيبة التي وقعت حوالي عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى، عندما صادرت السلطات العثمانية كلّ ما يمكن أن يُؤكل، تاركًة الملايين يتضوّرون جوعًا وخلّفت لنا صورًا مرعبًة عن هذه المجاعة الجماعية. وبزغَ خلال هذه السنوات أملٌ للعرب في النهوض والانضمام إلى العالم كشركاء حقيقيين، ولكن كل ذلك قد أُجهض في النهاية. لقد شدّني كل شيء متعلق بالثقافة في تلك الفترة، مثل الهندسة المعمارية والموسيقى والأزياء والصحافة. كانت تلك مرحلة البداية واكتشاف أشياء مثل المدارس الحديثة والطباعة. وقد جعلتني تطلّعات مدينتي أفكّر في الخسائر المتتالية في حياتنا، والتي لم تتوقّف حتى يومنا هذا.

كيف يختلط التاريخ بالخيال في هذه الرواية؟

 لم أرغب بكتابة رواية تاريخية، لذلك صحّحتُ الأخطاء التاريخية بعد انتهائي من الكتابة، لأنني لم أرغب بالخضوع لعبء الحقيقة التاريخية. الرواية عن الحب المفقود والموت والتأمل والطبيعة في حياتنا، وعن صناعة القديسين والأوبئة والكوارث، عن محاولة الشعب ونضاله ليكون جزءًا من الثقافة العالمية، عن الصراع بين الليبراليين والمحافظين، عن التعايش الأبدي لهذه المدينة، عن المدينة في وقت كان العالم كله يسعى فيه للانتقال إلى مرحلة جديدة. ولكن تجربة حلب أُحبطتْ ودُمِّرتْ المدينة بحيث لم تعد جزءًا من العالم المعاصر.

 ماذا تريد أن يتعلّم السوريون اليوم من تصويرك لهؤلاء الأشخاص وحياتهم في حلب؟

أريد للسوريين أن يعيدوا قراءة التاريخ، وأن يسألوا من الذي طرد المسيحيين واليهود السوريين من مدينتهم، والذين هم أبناء بلدنا، ومن الذي أحبط مشروعهم الصناعي العظيم ومحاولتهم أن يكونوا جزءًا من العالم المتحضّر؟ والسؤال اليوم هو: من الذي قرر أن الديمقراطية ممنوعة على هذا البلد؟ أريدهم من خلال قراءة هذا التاريخ أن يعرفوا أنهم ليسوا مجموعة من الطوائف الدينية، بل شعب يتمتع بثقافات مختلفة وأصلية متعايشة. سوف تساعدنا إعادة قراءة التاريخ الحديث على عدم تكرار أخطاء الماضي بالاعتماد على قوى خارجية لعبت في المنطقة منذ الاحتلال العثماني ودُمَّرتْ فكرتُها عن التعايش.

هل رأيت حلب منذ تدميرها؟

نعم، رأيت المدينة لأول مرة منذ الحرب قبل ثلاث سنوات، وقد كانت لحظة عصيبة بالفعل. لقد امتنعت طيلة الحرب عن مشاهدة مقاطع الفيديو والعديد من الصور التي كانت تبثُّ ليلًا نهارًا، والتي توثّق تدمير المدينة. لقد تدمّرتْ جميع مرابع طفولتي، وبقيت وحدي أبكي بعد عودتي إلى منزلي في اللاذقية لأكثر من أربعة أيام.

ما هي الكتب الموجودة بجانب سريرك؟

لا أقرأ كثيرًا في السرير، ولكن هناك دائمًا مجموعات شعرية على المنضدة لأصدقاء مثل منذر المصري وهالة محمد ودعد حداد وتشارلز سيميك بترجمة أحمد م. أحمد.

كيف بدأت القراءة عندما كنت طفلًا؟

 اكتشفت الكتب في العاشرة من عمري، إذ لا نمتلك كعائلة فلاحين طقوسًا عريقة في القراءة، ولكن شقيقاي الأكبر سنًا وأصدقاءهما اكتشفوا في مرحلة الدراسة كتب اليسار والأدب الروسي وعلم النفس والفلسفة. وهكذا ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي الشخصية في أوائل السبعينيات فأخذت بقراءة كتب غير مخصصة للأطفال، مثل قصص تشيخوف، والتي لم أكن أفهمها تمامًا في كثير من الأحيان. أما في الجامعة فقد قرأت معظم الأدب والشعر المترجم في العالم، وأعدتُ قراءة علم النفس من وجهة نظر فيلهلم رايش، وانفتحتُ على الأعمال الضخمة مثل موبي ديك وروايات دوستويفسكي. كانت سنوات الجامعة سنوات القراءة العظيمة.

ما هو الكتاب أو من هم الكتّاب الذين تعاود قراءتهم دائمًا؟

 كتب دوستويفسكي، وغابرييل غارسيا ماركيز، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف. وحاليًا لدي شوق ورغبة في قراءة أبو العلاء المعري ودانتي مجددًا.

“لم يصلِّ عليهم أحد” لخالد خليفة ترجمتها إلى الإنكليزية ليري برايس، وصدرت عن دار فابر آند فابر.

—————————–

خالد خليفة: أعمل لكي أصبح رسامًا

مناهل السهوي

 19 يونيو 2023

ربما خذلته الحياة بأشكال مختلفة، فسرقت الحرب والهجرة أصدقاءه، لكنه تمكّن بطريقة ما من النجاة… الروائي السوري خالد خليفة تجربة سورية فريدة، ترك بصمة عربية وأوسع، وما زال بعد أكثر من ثلاثة عقود يغوص في التجارب والفنون والتجريب، ورغم أنه يجد انتظار الموت أمرًا صعبًا، لكنه يكتب ويرسم كأن الأبدية كلها أمامه.

الحوار مع خالد(*) ليس حديثًا عن كاتب وحسب، بل هو غوص في تجربة الإنسان العميقة. بداية مع رواية “حارس الخديعة”، وصولًا إلى “لم يصلِ عليهم أحد”، تتبع خالد الإنسان السوري، فتراه حينًا يصارع آثار الحرب في البلاد، وتارة يواجه التاريخ، ومرة يواجه ذاته. تقول كتابات خالد إن جميعنا مخذول، لكن ما زالت الحياة تستحق، وقلائل من يدركون لماذا تستحق الحياة خوضها، واحدٌ منهم هو خالد خليفة.

بدأ منذ ثلاث سنوات تقريبًا الرسم. حول الرسم، وكتابه الأخير “نسر على الطاولة المجاورة”، كان لنا معه الحوار التالي:

(*) على غير المعتاد، في حوار مع روائي، سأبدأ بسؤالك عن الرسم. ما الذي يدفع روائيًا وسيناريست للتوجه إلى الرسم؟

لا توجد دوافع محددة لممارسة فن معين سوى الشغف، وحب اللعب. الرسم كان بالنسبة لي لزمن طويل فكرة موؤودة، ولا يمكن لها أن تعيش مع الكتابة لشدة أنانيتها، وفرط تطلبها. لكن جاء وباء كوفيد وقدم لي وقتًا غير طبيعي مشحونًا بالألم والموت والعزلة، ففكرتُ بأنه الوقت المناسب لمحاولة العودة إلى الرسم. لم أعتقد بأن الأمور ستتطور وتصل إلى ما أنا عليه اليوم من اهتمام، والعمل بكل جدية لأصبح رسامًا، والاستعداد لدفع أثمان هذا الخيار.

(*) ما الذي قدمه لك الرسم، ولم تقدمه الكتابة؟

قوة اللعب والعبث مع الألوان، ومحاولات التجريب المستمرة والمفاجآت الصارخة التي لا تصدق. سأخبرك شيئًا، في بداية شبابي كتبت رواية كاملة، أكثر من سبعين ألف كلمة، لكني اكتشفت بعد ثلاث سنوات عمل بأنها نص ضعيف يستعير أصوات الآخرين، فقررت حرقها، وفعلت. لم أترك منها صفحة مسودة واحدة، ولم أندم. بدأت من جديد في كتابة روايتي الأولى “حارس الخديعة”. بينما في الرسم تستطيعين أن تعملي أسبوعًا على لوحة، وحين تكتشفين بأنها غير جيدة، ببساطة تعيدين تأسيسها باللون الأبيض، وهذا شيء يشبه اللعب الذي أحبه، محو من دون ترك أثر. الكتابة تركت فجوة حزينة في قلبي لم تستطع أن تحميني من التفكير في الانتحار، خاصة حين أشعر بأن العزلة هي قدري الوحيد في النهاية، بعد هجرة أغلب أصدقائي، وعدم تفكيرهم بالعودة إلى البلاد. الرسم يساعدني على تحمل العزلة، وعلى المحو الذي هو ضرورة قصوى للكتابة، وللرسم، على حد سواء.

(*) أعتبر نفسي محظوظة، إذ كنت الشاهدة الأولى على أول لوحة رسمتها، وأذكر تحديدًا السعادة التي شعرتَ بها بعد انتهاء لوحتك الأولى. هل ما زال الرسم بعد حوالي 3 سنوات يمنحك الاندفاع ذاته، والسعادة؟ وهل تعلقك بالرسم يعني أن عاطفة الكتابة خفتت مع الوقت؟

بالعكس تمامًا، عاطفة الكتابة والرغبة فيها لم تنقص مليمترًا. ما زالت الكتابة شغفي الأساسي في حياتي، ولدي كثير من المشاريع التي عاشت في الأعماق، واليوم تطفو وتطالبني بكتابتها. ما زلت أكتب يوميًا قدر المستطاع في ظروف العيش السورية، وروايتي الجديدة التي أعمل عليها منذ أربع سنوات، أنهيت مسودتها الكاملة منذ شهرين، وأعمل على مسوداتها اللاحقة وتجهيزها للطباعة، وفي الوقت نفسه أفكر برواية جديدة، بدأت أكتب أفكارها. لكن تعلقي بالرسم يشبه لعبة جديدة، جذابة، يذكرني بلعب الأطفال في الطين. الشعور الحسي رهيب لا يمكن وصفه، كحد أدنى لن تختفي لوثة الرسم من حياتي في القريب العاجل.

(*) يحتاج الرسم إلى أدوات وتقنيات بالطبع. كيف طورتَ نفسك في هذا الجانب؟

عبر عقود كنت مهتمًا بالرسم، ومحاولة تفكيك هذا الفن. ولدي محاولات قديمة من أيام الثانوية والجامعة، ما زال بعضها موجودًا حتى الآن. منذ ثلاث سنوات بدأت أتعلم، أتمرن، أفكر ماذا أريد، أية موضوعات رسمها يثير شغفي، وطبعًا أصدقائي لم يبخلوا عليَّ بأية معلومة. بعضهم سخر مني، لكن فادي يازجي مثلًا سمع لي، وحاول تعليمي كل ما أريد تعلمه، وما زلت ألجأ إليه حين أريد الاستفسار عن شيء. أهداني دفاتر اسكتشات مهمة للغاية، هذه اللفتات تثير في قلبي العاطفة والحب. أعتقد بأنني أعيد تكرار ما فعلته في الرواية، في محاولة التعلم عبر القراءة، وهنا التعلم عبر المشاهدة، وتفكيك الخطوط والألوان وعوالمها.

كل يوم أكتشف جديدًا في هذا العالم، الألوان وأنواعها، الأحبار، الورق، الكرتون، القماش، أحببت كل ما يخص الرسم، ومن قبل أحببت كل ما يخص الكتابة، أقلام الحبر الفاخرة، رائحة الورق، والآن الصفحة المنتهية على الكمبيوتر. كنت مولعًا بهذه التفاصيل وما زلت.

(*) ماذا يضيف الرسم إلى آلية التعبير لديك؟

لا شيء. إنه شيء مختلف رغم تفسيره البسيط بأسلوب وآلية تعبير. الكتابة عالم شاسع، لكنها ليست كافية. الموضوع بالنسبة لي بسيط جدًا، لدي وقت لحين موتي، وأريد قضاء هذا الوقت في مشغلي، أرسم وأكتب وأنحت، وأسخر من كل شيء. ليس سهلًا على الإطلاق انتظار الموت.

(*) تتحدث كثيرًا عن الموت والانتحار. كيف تصف علاقتك بالموت؟ هل تنتظره كشيء مسلّم به، وهل ساعدتك الكتابة على تقبله، أم العكس؟

في أثناء الحرب، أصبح الموت بالنسبة لي حدثًا طبيعيًا، انتظرت موتي مرات عديدة. استسلمت للأمر، ولم أعد أفكر كثيرًا بتلك الرهبة التي يثيرها مجرد الحديث عنه، ولم أعد متطيرًا. قد يكون تطوير هذه العلاقة فعلًا مريحًا بالنسبة لي. لكن التفكير الطويل الذي تستغرقه كتابة الموت يحول معناه إلى فعل يومي، كالأكل والشرب. ساعدتني الكتابة على تقبله، وتجميله أيضًا. ابتعدت فكرة الانتحار إلى زوايا غامضة، فمنذ خمس سنوات لم أعد أفكر بذلك.

(*) كي لا أبدو منحازة إلى الرسم، سأعود إلى آخر إصدار لك: “نسر على الطاولة المجاورة”، وهو الدفتر الأول من دفاتر العزلة والكتابة، تتحدث فيه عن تجربتك مع الكتابة، ومخاوفك ورؤيتك. هل من الممكن أن يكون فن التحدث عن الكتابة طريقة مواربة لطرح نصائح عن الكتابة من دون أن تكون مباشرًا، ومن دون أن يتحمل الكاتب عبء إلصاق النصائح به؟

بالتأكيد، هي كتابة ضد النصائح، لكنها تشجع من يبحث عن النصيحة على اختراع حياته العاطفية مع الكتابة. إنه تسجيل لشهادتي حول الكتابة التي هي متحولة أيضًا. أنا شخص مزاجي، أحيانًا لا أستطيع شرح فكرة صغيرة، وأحيانًا قادر على الحديث في موضوع واحد عشر ساعات متواصلة. ليس لدي قانون ثابت. كتبت هذا الكتاب عبر ربع قرن، ولم أفكر في نشره سوى منذ خمس سنوات. أعجبني بأن هذه الأفكار هي شهادتي عن الكتابة، قد تكون مهمة لمن يبحث عنها، أو لا تهم أحدًا. لكن ترك أثر الفراشة ليس ضارًا في كل الأحوال. يجب أن نشجع الكتاب العرب على كتابة مذكراتهم وآرائهم حول صناعتهم وطريق شغفهم بالكتابة.

(*) استنادًا إلى إجابتك هنا، يبدو أن هنالك موجة كبيرة من الكتاب الجدد، وأنت تشجع الآخرين على الكتابة. ألا تجد أن استسهال الكتابة قد يسيء إلى الأدب العربي على المدى الطويل، وبخاصة أن واقع الأدب يعاني في الأصل من كثير من المشاكل؟

لا شيء يسيء إلى الكتابة التي تمتلك قوانين دفاعها عن نفسها، فالكتابة السيئة ستمضي. المشكلة بأن أغلب الكتابة سيئة، والكتابة الجيدة نادرة. لكن أوهام الكتاب عن أنفسهم تجعل من الكتابة فعلًا بطبقات متعددة لا يمكن سوى للتاريخ أن يقول كلمته النهائية في أمر بقاء الكتابة الجيدة وتخليصها من الكتابة السيئة التي تذهب كالعادة إلى مكانها المعتاد، أي إلى النسيان.

(*) تقول في الكتاب “لكنني كنت أشعر، وبشكل لا يقبل الشك، بأنني سأغادر الشعر إلى مكان آخر”. هل شعرت بذلك أيضًا مع الرواية، هل تعتقد أنك ستغادرها يومًا بشكل لا يقبل الشك إلى الرسم؟

أبدًا! كتبت الكتب التي أحببت كتابتها، ولم يعن لي العدد أي شيء. لذلك أشعر باسترخاء كبير، أكتب براحة، لكن بقوة الشغف نفسها. ما زالت قوة التعلم لدي، والتجريب، يحرضاني يوميًا على اختبار أساليب جديدة. لن تنتهي الحكايات من حياتي، فأنا أعاني من فرط في خيالي. مازال إحساسي ببراءة الحياة يصدمني رغم كل القذارة التي تغرق هذا العالم.

(*) رفضتَ أن تصبح قاضيًا ومحاميًا في حياتك. هل تعتقد أن التوجه إلى الكتابة هو شكل من أشكال البحث عن العدالة غير الموجودة في الخارج؟ وهل وجدت العدالة في الكتابة؟

كانت الفكرة حين بدأت الكتابة تغيير العالم، لكن رؤيتي لهذا التغيير اتسعت. الطريق طويل لتحقيق لذلك، وما زلت في بدايته. بالنسبة لي، لم أفقد حلم العدالة رغم يقيني أن العالم اليوم أكثر وحشية من أي زمن مضى. لا تقنعني الأيدي الناعمة التي تخنق العدالة، وتمنع إمكانية محاسبة القتلة. ولا يمكن لي التفكير خارج رغبتي الحقيقية بالمساهمة في تغيير العالم، أو على الأقل أن أقف، ومعي كتابتي، على ضفة الضحايا مقابل ضفة القتلة. لا تصدقي كم الجنون الذي أعيشه، ففي السنوات الأخيرة عاد إليَّ الحماس والرغبة في البدء من جديد بالبحث عن تلك الأفكار غير المكتملة، والتي لم تكن ناضجة في رأسي، لكنها اليوم واضحة، هذا العالم الوسخ يجب هدمه وتدميره. لا يمكن للحياة أن تستمر بهذا التواطؤ الفاضح.

(*) تتحدث عن الحكمة، والبحث عن أجوبة الأسئلة الأولى المتعلقة بالحياة وبنفسك. هل يخيفك شعور أنك لا تعرف شيئًا بشكل يقيني، بعد كل هذه السنوات والتجارب والروايات؟

نعم، لكني لم أعد ثابتًا في يقيني وفي شكي. بعد روايتي “لم يصل عليهم أحد”، فوجئت بالأثر الكبير الذي تركته شخصيتا حنا وسعاد في أعماقي. بدأت أنظر بشكل مختلف إلى الفجر حين أستقبله في منزلي المطل على البحر، خاصة في الشتاء. أحيانًا، أتجمد لساعات، فقط أحدق في الألوان والمطر. تمامًا كما فعل حنا في حياته الجديدة. زادت أسئلتي ونقصت أجوبتي.

(*) ما الذي قد يدفعك اليوم للعودة إلى كتابة سيناريو؟

يدفعني إلى العودة إلى كتابة سيناريو عرض جيد فنيًا ومعنويًا وماليًا. أنا لم أهجر السيناريو، بل جرى تهجيري. أنا غير مكترث، ولن أتنازل عن رؤيتي للمهنة.

ما حدث خلال السنوات الماضية كان سيئًا. بعد وفاة صديقي المخرج شوقي الماجري، وشريكي في مشروع جزائري كبير، تعرضت لعملية نصب من شركة جزائرية كبيرة. كنت ضحية فساد رهيب. طبعًا، أتباحث مع المحامين، وبهدوء، حول أفضل الطرق لتحصيل الحقوق، لكني في أعماقي حزين جدًا بأن هذا العالم قذر إلى هذه الدرجة. أصبحت متمهلًا جدًا، ومتقشفًا في اختيار الشركاء.

(*) “جرى تهجيرك من السيناريو”. تشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي ظهور جهات عربية تستقطب الإنتاج التلفزيوني، بالإضافة إلى انتشار الفساد. أن يتعرض كاتب مثلك لعملية احتيال هو دليل على كارثية الوضع. ما رأيك في الأعمال التلفزيونية العربية عمومًا، والسورية خصوصًا، خلال العقد المنصرم؟

سأكتفي بالحديث عن الإنتاج السوري، لأني لست متابعًا لما يحدث في العالم العربي. عمومًا، خلال السنوات الماضية انحدر الإنتاج التلفزيوني السوري إلى أمكنة قياسية، كما انحدرت عمومًا كل مظاهر الحياة السورية. فقد الإنتاج السوري بيئته، ووحدته، والانقسام الذي عانت منه سورية وصل إلى مسلسلات التلفزيون، وهذا شيء طبيعي. والنقاش خلال الموسم الماضي دليل على هذا التراشق بين جهتين، وليس جهة إنتاج واحدة. لن يعود الإنتاج التلفزيوني السوري إلى ألقه إلّا مع سورية الحرة الجديدة.

(*) لماذا اخترت بعد كل هذا الوقت العمل على مشروع جزائري؟

حقيقة، أنا لم أختر ذلك، بل لبيت دعوة صديقي المرحوم المخرج شوقي الماجري لمشاركته العمل على مشروع الداي حسين، وهو مشروع مهم جدًا كما رأيناه وفكرنا فيه. وأحب أن أضيف بأنه لا يمكن لي رفض العمل على مشروع جزائري لما تعنيه الجزائر بالنسبة لي. حدث الذي حدث. وما حدث لن يغير رأيي في حب الجزائر، التي لن تفقد معناها بالنسبة لي. النصابون عمومًا هم فئة ضالة وعابرة ومتواجدون في كل مكان.

(*) هنالك سؤال يُطرح بشكل متكرر على الكتاب الذين تعاني بلادهم من حروب، أو ترزح تحت حكم أنظمة ديكتاتورية: كيف أثر وضع بلادك على كتاباتك؟

اليوم، أشعر بهذه التأثيرات، خلال الحرب لم أكن أشعر بهذه التغييرات، لكن اليوم أشعر بالتحديات التقنية الجديدة. حتى المواضيع، صراحة شيء كبير تغير، لكنه لم ينضج بعد.

(*) هل تعتقد أن الوضع السياسي، والدمار، وما مرّ على سورية، دمر الثقافة فيها؟

نعم، دمر كل شيء، حتى بقايا ثقافة كان ينتجها أناس شجعان.

(*) هل يمكن أن أعد إجابتك فقدان أمل من الواقع السوري؟

ليس فقدان أمل، لكنه توصيف لواقع الحال القاسي. بالعكس، على صعيد الأمل أنا متفائل، وأعتقد بأن التغيير القادم ليس بعيدًا.

(*) أخبرتنا عن رواية ستصدرها قريبًا، كما أن لديك فكرة لرواية جديدة. هذا يخص الكتابة. ماذا عن الرسم، وهل هنالك أية مشاريع، أو معارض، قريبًا؟

نعم، هنالك أفكار متداولة لأول معرض شخصي. لكن حتى الآن الموضوع مجرد فكرة يجري بحث تفاصيلها، حين كنت كاتبًا شابًا لم أستعجل النشر، وروايتي “حارس الخديعة ” لولا تدخل صديقي الكاتب وائل سواح، وإرسالها إلى النشر لتأخرت كثيرًا. بالنسبة لي المهم الإنتاج، وباقي الأشياء، كالنشر، والعرض، تحصيل حاصل.

(*) خالد خليفة: وُلد في مدينة حلب عام 1964، وهو روائي وشاعر وكاتب سيناريو. وصلت روايته الأخيرة “لم يصلِ عليهم أحد” إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2020. ومن أعماله أيضًا “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للرواية، و”مديح الكراهية”، التي رشحت لجائزة الإندبندنت العالمية، ولجائزة الرواية العربية. من أعماله التلفزيونية “قوس قزح”، و”سيرة آل الجلالي”، و”العراب”.

ضفة ثالثة

———————–

الروائي والرسّام السوري خالد خليفة: نسرٌ يتّحد مع الريشة والقلم

27/04/2023

في برنامج حوار تستضيف كابي لطيف الروائي والرسام والسيناريست السوري خالد خليفة للحديث عن مسيرته الأدبية والفنية وعن كتابه الأخير “دفاتر العزلة والكتابة” وعلاقته بسوريا.

https:/www.mc-doualiya.com/%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%AC/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1/20230427-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%91%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D8%B1%D9%8C-%D9%8A%D8%AA%D9%91%D8%AD%D8%AF-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%B4%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D9%85

مرحلة التأمل

اعتبر خالد خليفة أن مرحلة جائحة كورونا إنما هي مرحلة تأمل شديد للذات والطبيعة لدرجة أنه شعر بوحدة الذات مع شخصية حنّا في روايته “لم يصلّ عليهم أحد “. وذكر أن هذا التأمل غيّره بشكل جذري وساعده لاسترجاع شغف الرسم من بين حنايا ذكريات الطفولة ومن حينها لم يتوقف عن الرسم والتأمل معاً.

“دفاتر العزلة والكتابة”

في حديثه عن أعماله وبشكل خاص كتابه “نسر على الطاولة المجاورة”دفاتر العزلة والكتابة، قال إنه قد بدأه منذ ربع قرن في لحظة تأمل وعزلة في أحد مقاهي مدينة اللاذقية حيث كان يعيش في ذاك الوقت، ويعتبر هذا العمل مجموعة تأملات في ساعات فريدة عاشها مع الكتابة بمعنى استكشاف قوانين الكتابة المتحولة وغير الثابتة. وأضاف بأن الحياة الواقعية شديدة الألم ومفرطة بالنفاق وبالتالي هو يتخذ من الكتابة والرسم وسيلة لإشغال نفسه، والحياة بالنسبة له وقت فائض وسباق مع الزمن ومع الحياة وأضاف: ” ما تبقى لي من سنوات أريد أن أقضيه مع فني”.

الارتباط بسوريا

أكد خالد خليفة بأن سوريا هي المكان الذي يحبّ ولا يريد غيره. ومع هذا الألم الذي يعيشه الشعب السوري قال:”أنا مصاب بمرض هذا المكان، ونحن نتحدث اليوم عن ألم تراجيدي مرعب لا يمكن وصفه بكلمات”. وأشار الى أن الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله هو الكتابة والرسم، وبذلك يكون قد ساهم من خلال أعماله بأن يكون أكثر فعالية.  واعتبر أن الصراع بين الدول الكبرى لا يجب أن تدفع ثمنه الدول الفقيرة.

راديو مونت كارلو

—————————

الكاتب السوري خالد خليفة: عندما يتملكك الخوف عليك أن تغادر

10.04.2023

الكاتب السوري خالد خليفة ينتقد النظام ولكنه يرفض الهجرة حتى اليوم. كيف يعيش المرء مع القمع والترهيب كمرافق دائم؟ ولماذا لا يزال يملك أملاً حتى اليوم؟

مقابلة أجرتها مونيكا بوليغر

الكاتب السوري خالد خليفة هو منتقد معروف للنظام. إنتاجه الأدبي ممنوع في سوريا. مع هذا لم يغادر إلى المنفى أبداً. حاليا يقيم مؤقتاً لمدة ستة أشهر في سويسرا مدعوا من البيت الثقافي في زيورخ. يتحدث مع مجلة شبيغل عن الكتابة في ظل الديكتاتورية وظروف الحياة اليومية في وطن ابتُلي بالحرب. ينتقد النظام والمعارضة أيضاً.

شبيغل: كيف هو حال الكتابة في سويسرا؟

خليفة: لا أستطيع العمل في المنزل. في سوريا أصبحت الكتابة لهذا صعبة. بعض البلدات مغلقة أو يستغرق الطريق إليها وقتا طويلا بسبب الحواجز أو أنها مليئة بعناصر الأمن والمخابرات. في زيورخ هناك مكان جميل وهادئ للكتابة في البيت الثقافي وفي المنزل أرسم. في الرسم أجد نوعا من السلام الروحي. الرسم يملأ الفراغ الذي تركه أصدقائي الذين هاجروا خلال الحرب خلفهم.  

شبيغل: ولكنك ترفض الهجرة. الكل يسألك لماذا تبقى في سوريا وفي كل مرة تعطي إجابة مختلفة.

خليفة: نعم هذا ما أفعله (يضحك)، لا أعلم أيضاً لماذا.

شبيغل: يتطلب الأمر شجاعة لكتابة كتب كهذه ثم البقاء في البلد. هل أنت إنسان شجاع؟

خليفة: نعم أنا كذلك. ولكنني لست بشجاعة الشبان الذين أشعلوا ثورة عام 2011. بالنسبة لي القصة قديمة. عائلتي كانت ضد النظام. لا يمكن للمرء أن يكون كاتباً ومؤيداً للنظام وتحديداً هذا النظام. ولكن الشبان الذين واجهوا الرصاص هم أشجع بألف مرة مني. وأنا لست المعارض الوحيد الذي بقي في سوريا. في النهاية لا يمكن للنظام قتل الجميع.

شبيغل: ولكن النظام لا يعامل الجميع بالتساوي أليس كذلك؟

خليفة: هناك أشخاص يسمحون لهم بالكلام وآخرون يقتلونهم. هم يفرقون الناس. كنت أقول رأيي دائما، ربما الآن بشكل أقوى لأن الأمر أصبح دمويا للغاية. ولكنني في الواقع لست سياسياً. لو كنت أنوي تأسيس مشروع سياسي لكانوا أقدموا على قتلي فورا. لقد قاموا بكسر يدي قبل وقت ليس ببعيد في جنازة صديق. كان يمكن أن يصيبوني في الرأس لولا أنني حميته بيدي. كان يمكن أن أموت.

شبيغل: ألا تخاف؟

خليفة: عندما يتمتلك الخوف أحدنا فعليه أن يغادر. هذا لا يعني أنني لا أخاف ولكن الخوف لا يسيطر علي. الخوف هو جزء من الحياة اليومية كالبحث عن بنزين والتسوق والعناية بالعائلة. الخوف هو جزء من هذه الحياة اليومية بالإضافة لفقدان الثقة بحيث أن المرء لا يصدق شيئاً. هذا هو الثمن الذي أدفعه حتى أبقى في سوريا. يمكنهم أن يقتلوني في أي لحظة وسأكون هدفاً سهلاً فأنا أذهب كل ليلة وحيداً إلى المنزل. أنا أعيش وحيداً. يمكنهم دفني حتى من دون أن يلاحظ أحد شيئاً.

شبيغل: كيف يمكن للمرء تخيل الحياة اليومية في سوريا اليوم؟

خليفة: لم يعد الأمر قابلا للتحمل. في الأسبوع الماضي توفي طفل في مدينة طرطوس الساحلية بسبب الجوع. والآتي سيكون أسوأ. 95 بالمئة من الناس لم يعد لديهم دخل. يعيشون من الأموال التي يرسلها أقاربهم من خارج البلاد أو من المعونات الإنسانية. المحروقات تحولت لسلعة كمالية. بالكاد توجد كهرباء. قبل وقت قصير كنت في المشفى وكان علي أن أجلب السيروم الخاص بي معي. لم يكن لديهم حتى ورق لكتابة وصفات طبية. كل الأطباء يتعلمون الألمانية لأنهم يريدون الهجرة إلى ألمانيا. الوضع أسوأ منه عندما كانت الحرب في أوجها. حينها كان الناس يمتلكون بعض المال وكان هناك إنتاج. اليوم أُغلقت كل المعامل. النظام لا يدع أحدا يعمل.

شبيغل: لم لا؟

خليفة: إنهم يمتصون كل شيء. وكأنهم يرديدون دفع الناس للهجرة حتى يتخلصوا من مسؤولياتهم تجاههم. بالنسبة لهم فهالدولة هي المكان الذي ينبغي عليك فيه النهب، حتى اليوم وفي ظل الإمكانيات الضئيلة. في السابق ربما كانوا يستحوذون على الربع ويتركون الباقي، اليوم يأخذون كل شيء.

شبيغل: ثم حصلت كارثة الزلزال أيضاً.

خليفة: كان أمراً صعب التحمل. لقد وصلت للتو إلى سويسرا وتساءلت: لم أنا هنا؟ كل أقربائي وأصدقائي كانوا في المنطقة المنكوبة. كان علي متابعة مايجري عبر وسائل الإعلام أو الواتساب. لقد تخلى العالم تماما عن سوريا. بعد أيام من الزلزال لم يقدم أحد مساعدة. ولم يتحمل أحد المسؤولية، مثلا لم يقدم أحد في منظمات الأمم المتحدة استقالته. آلاف البشر كان يمكن إنقاذهم ولكنهم لا يكترثون. وكأن الزلزال ضرب مكاناُ سرياً.

شبيغل: إنتاجك الأدبي ممنوع في سوريا. هل يقرأ الناس كتبك على الرغم من ذلك؟

خليفة: الناس لا يحبون أن أقولها بهذا الشكل، ولكن الأمر كما مع الحشيش. إنه ممنوع ولكنه موجود. ليس من الصعب تهريب الكتب من بيروت. المشكلة أن معظم الناس لم تعد لديهم القدرة على شراء الكتب.

شبيغل: ما هو موضوع كتابك المقبل؟

خليفة: يتعلق الموضوع مجددا بسوريا في الثمانينات. إنه الموضوع الرئيسي لعملي، الحياة في ظل نظام دكتاتوري. يتعلق الأمر بالخوف والفشل والقمع وأحلام وأمكنة مدمرة.

شبيغل: في الثمانينيات قمع النظام السوري انتفاضة تحت حكم حافظ الأسد والد بشار. انتهى الأمر بقصف مدينة حماة ومقتل 30 ألف شخص بحسب تقديرات. حينها وطّدت عائلة الأسد حكمها المرعب. هل هناك شي مشترك بين ماحدث حينها وانتفاضة عام 2011؟

خليفة: أعتقد أن هناك استمرارية. النظام لم يتغير. لو أردنا تصور ما جرى فيبدو الأمر كما لو أن النظام كان لا يزال في نفس المكان الذي عشعش فيه عام 1971. لم يفتح النافذة ولو لمرة واحدة ولهذه فالهواء حتى اليوم فاسد. النظام غير قادر على التجديد. لو ابتعد بمقدار حجر عن هذا المكان فسوف ينهار كل شيء. ولكن السوريين فتحوا النوافذ والأبواب اليوم بأصوات عالية. أسرارهم أصبحت علنية، النظيف منها والقذر.

شبيغل: في عام 2011 كان هناك تضامن كبير ولكن بنفس الوقت عادى الناس بعضهم وانتشر الحقد بين المجموعات الدينية، لماذا؟

خليفة: خلال العقود الماضية حصل تدمير للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ماذا سيحصل للناس إذا مُنعوا من الكلام لأربعين عاما؟ يحتاجون وقتاً إذا أرادوا فتح النوافذ، يتطلب الأمر وقتاً حتى يخرج الهوء الفاسد. اليوم السوريين أصبحوا في موقع أفضل في النقاش. أصبحوا واقعيين ومنطقيين وأكثر توحداً.

شبيغل: ولكن النظام لا يزال موجودا.

خليفة: الثورة المضادة انتصرت في كل بلدان الربيع العربي. ولكن هذا مؤقت. الأنظمة لا تستوعب كيف أصبحت مضحكة وبلا معنى. كما يقول كارل ماركس، التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة كمأساة ومرة كمهزلة. نحن الأن وصلنا لمرحلة المهزلة. ما أسسته الثورة على الرغم من هزيمتها يبقى. لقد تم وضع البذار ولا عودة لما قبل عام 2011.

شبيغل: أنت ضد النظام على الدوام، هل لديك موقف من المعارضة؟

خليفة: لقد تم بيعها. إنها تشبه النظام. إنه أناس يحصلون على المال ويعملون لأجل مصالحهم الخاصة ومصالح مموليهم. هذه المعارضة لا تمثلني ولا تمثل مشروعي ولا مشروع الناس الذين أرادوا الثورة. بالطبع هناك أناس رائعون من بينهم ولكنهم عاجزون عن تحقيق أي شيء. وأنا ضد أن يحول المرء نفسه لمرتزق. الثورة السورية كانت قادرة على تغيير المنطقة بأكملها. ولهذا منع العالم حصول ذلك. ماحصل قبل فترة في جنديرس….

شبيغل: مقاتلون من المعارضة مدعومين من تركيا قاموا هناك بقتل أربعة مدنيين لأنهم احتفلوا بعيد النوروز وهو عيد رأس السنة الكردي والفارسي

خليفة: نعم، فقط لأنهم احتفلوا بالنوروز. هذا يظهر تماما أن هؤلاء الناس هم الوجه الآخر للنظام. يا لها من مصيبة.

شبيغل: هل لا يزال لديك أمل حول الوضع في سوريا؟

خليفة: لدي أمل أن تنهض سوريا مجددا. إنه ليش مشروعاً مبالغاً فيه. سوريا بالنسبة لي أفضل بلد بالعالم. لدينا بحر وغابات وصحراء. لدينا طماطم وقمح وبرغل وزيتون. لدينا أناس موهوبون يملكون أفكاراً ولكنهم سُجنوا ل 15 عاماً فقط لأنهم قالوا لا. لأنهم أرادوا الديمقراطية. لا نريد هنا اختراع الصواريخ ولكن نريد الحياة بسلام وحرية. أحلم أن أتمكن من شراء كتبي في بلدي من مكتبة وأن أتمكن من توقيعها للقرّاء بنفسي. حلمنا بسيط للغاية.

—————————–

خالد خليفة لـ”المدن”: لستُ مقتنعاً كثيراً بشُهرتي…وحَذِر من الجوائز

رامي غدير

2022/11/28

“أنا بشكل عام غير راضٍ عن كل كتبي، ونادراً ما تجد كتاباً لي في منزلي”

الكتابة؛ ألم سعيد. واحدة من العبارات التي وردت في كتاب الروائي والسيناريست خالد خليفة، “نسر على الطاولة المجاورة… دفاتر العزلة والكتابة/الدفتر الأول”، والذي يتناول فيه بعض آليات الكتابة وطقوسها من خلال تجربته الشخصية ووجهة نظره. وصدر الكتاب خلال هذا نوفمبر/تشرين الثاني 2022 عن دار نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان.

“أنا لا أتوقف عن كتابة الرواية”. “الأحلام سواء كانت فردية أو جماعية تستحق أنْ ننتظرها ونعمل لأجلها”. “الجائزة لا تضيف أي قيمة للكاتب، سوى التسويق والمردود المالي إنْ وجد”. “ما يعنيني ويدفعني للكتابة، هو أنني لا أعرف ولا أملك شيئاً آخر سوى الكتابة”. “أنا بشكل عام غير راضٍ عن كتبي”. “اللاذقية مدينة كسولة ولدي علاقة خاصة معها”. هذا بعضٌ مما جاء في الحوار الذي أجرته المدن مع الروائي والسيناريست خالد خليفة، وهنا نصه:

– لماذا اخترت أن تكتب دفتراً عن العزلة والكتابة، بدلاً من أن تكتب رواية؟ وهل أنت بصدد كتابة دفاتر عديدة ضمن هذا السياق؟

* أنا لا أتوقف عن كتابة الروايات، هناك دائماً مشروع أختبره وأفكر إن كنت سأكتبه أم لا. وفي الوقت الحالي أنا بصدد كتابة رواية جديدة. هناك كتابان “دفتران” قادمان من كتاب نسر على الطاولة المجاورة، بعد الدفتر الأول الذي كتبته على مراحل وبأوقات زمنية متباعدة على شكل فقرات وتأملات صغيرة قبل أن أقرر طباعته. في الدفترين المقبلين، سأتحدث عن أشياء كثيرة حول كتابة الرواية. وما سأكتبه لن يكون كتاباً عن الكتابة؛ وإنما كتاب عن تجربتي الشخصية في الكتابة. فلكل كاتب تجربته الخاصة، وأنا لدي رغبة في مشاركة هذه التجربة مع القرّاء.

– “ليس سراً أنّ شغفي في الطبخ يزداد يوماً بعد آخر، وسأبقى أطلق على أطباقي تسميات غريبة. الآن لدي طبق باسم “حين أسير نحو البحر وحيداً” ولن أكشف عن مضمونه. وسأعتبر ذلك تمريناً دائماً على اقتناص عناوين الكتب”. هذا ما صرحت به في أحد اللقاءات معك. “نسر على الطاولة المجاورة” عنوان غريب لافت وجذاب. حدثنا عن اهتمامك بالعناوين.

* لدي شغف بالعناوين، وأشعر بالفزع حين يكون كتابي بلا عنوان جذاب أو راضٍ عنه وموافق عليه بالحد الأدنى. لذلك العناوين قضية مهمة وليست ثانوية بالنسبة إليّ، ومن دون عنوان جذاب يبقى الكتاب ناقصاً، بالرغم من أنّ الكتابة تقول: لا يوجد كتاب مكتمل على الإطلاق والكتب ناقصة دوماً. عناوين كتبي كلها كانت خاضعة لتأملاتي الشخصية ولنقاش بيني وبين ذاتي. وأعتقد أنّ العنوان لا يرسخ في ذهن القارئ إلا بعد وقت طويل، والقارئ قد يُعجب بالعنوان في البداية ثم لاحقاً قد يكرهه والعكس صحيح.

– أنت تهتم بالجملة الأولى التي تفتتح فيها الكتابة، وتعتبر حياة الكاتب كلها مقابل جملته الأولى. هل أنت راضٍ الآن عن جُملك الأولى في كل ما كتبت؟ ولماذا هذا الاهتمام كله بالجملة الأولى؟

* أنا بشكل عام غير راضٍ عن كل كتبي، وليس فقط عن الجملة الأولى فيها، وما زال لديّ هذا الفزع من قراءة كتبي، لذلك نادراً ما تجد كتاباً لي في منزلي. وأعتقد أنّ الجملة الأولى في الكتابة، هي المفتاح الحقيقي للسرد. هناك تأملات كثيرة للجملة الأولى لكتّاب آخرين معجب فيها لدرجة تجعلني أقول: ليتني أنا من كتب هذه الجملة الأولى أو ليتَ لديّ جملة أولى بهذه القوة. أعتقد أنّ الاهتمام والجدية يبدآن من الجملة الأولى. هذا رأيي وقد لا يعني كتّاباً آخرين كما كل شيء في هذا الكتاب يعنيني فقط دون الآخرين.

– “أنتظر أنْ يحطّ نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس على كرسيه ويتأمل المارة، رغم استحالة هذا إلا أنني أنتظره، أو أنتظر فعلاً يشبهه، كحقيقة غير قابلة للجدل”. ما هو الفعل الذي يشبهه وتنتظره؟

* لا أعرف فعلاً مشابهاً لجلوس نسر على الطاولة المجاورة، سوى مثلاً أن يعود صديق غالٍ من الموت، أو أن تتحقق أحلام كاملة لشعبٍ كالشعب السوري بأكمله، وبالطبع هذا مستحيل! أعتقد أنّ هذه الأحلام سواء كانت فردية أم جماعية تستحق أنْ ننتظرها ونعمل من أجلها. في حياتي ككاتب كان الخيال جزءاً أساسياً من كتابتي، لذلك كنت أرعى الخيال وأربيه كما يقول محمود درويش عن الأمل. هناك أشياء لا يمكن أنْ تتخلى عنها ككاتب مثل الخيال وهذه الأفعال المستحيلة التي أرغب بأن تحدث دوماً رغم استحالتها.

– “في المدن المزدحمة نتأمّل الجموع من خلف زجاج المقهى. في المدن الكسولة غير المزدحمة نتأمّل الأفراد”. بصفتك روائياً وكخالد خليفة هل تُفضل تأمل الأفراد أم الجموع؟ وأيّ مدينة بالنسبة إليك هي الكسولة وأيها المزدحمة؟

* شغفي في التأمل شخصي ولا علاقة له بكوني روائياً، وأنا أحب المدن المزدحمة ولدي انحياز للحياة في المدينة، في حين أن المدن والأمكنة الهادئة جداً لا أحبها سوى لمدة قصيرة. ولديّ تأمل ممزوج بالشفقة للجموع في البلدان ذات الأنظمة التوتاليتارية التي حولت البشر لتابعين ورعايا وليس إلى مواطنين، كما كتب ذات يوم فيلسوفنا الكبير أنطون مقدسي. وأيضاً أحب تأمل الأفراد من خلف زجاج المقهى، ولدي دوماً إحساس بأن شيئاً مهماً سيحدث. دمشق أعتبرها مدينة مزدحمة واللاذقية مدينة كسولة ولدي علاقة خاصة مع هاتين المدينتين.

– “الشهرة قد تودي بالكاتب إلى التهلكة، إنْ أسرف الكاتب في خسارة ذاته كجسدٍ وروح مكثفة محقّقة”. كيف تعامل خالد خليفة مع الشهرة والجوائز التي نالها؟

* لستُ مقتنعاً كثيراً بشهرتي، وأرى أنها مازالت في نطاق ضيق. أما الجوائز فتعاملت معها بعدم تصديق وبحذر شديد وخفة لامتناهية، اكتشفت بأنني شخص أحب الجوائز، لكن كنت مدركاً أنه يجب عليّ نسيان أية جائزة بعد أسبوع مثلاً، ويجب ألا يتغير أي شيء في حياتي مهما كانت الجائزة كبيرة. هناك كثيرون يقولون: الجائزة مسؤولية. وبرأيي هذا كلام لا قيمة له، فالجائزة لا تضيف أي قيمة للكاتب سوى التسويق والمردود المالي إنْ وجد. لذلك أحتفل بالجوائز لمدة أسبوع ثم أنساها؛ لأني أعتبر التكريم والجائزة لكتبي وليس لي بشكل شخصي، وهذه المعادلة مريحة جداً بالنسبة إليّ، على كتبي أن تتصرف مع جوائزها بمعزل عني.

– تقول في كتابك بما معناه: أنه لم يعد يعنيك نجاح وفشل ما تكتبه ولم تعد تعنيك الجوائز. مع العلم أنّ ما لم يعد يعنيك، يُعتبر دافعاً ومحفزاً لغالبية المبدعين كي يكتبوا. ما الذي يعنيك ويدفعك للكتابة الآن؟

* ما يعنيني ويدفعني للكتابة الآن، هو ما كان سابقاً ولم يتغير، وهو أنني لا أعرف ولا أملك شيئاً آخر سوى الكتابة، ولا أريد أن أتعلم شيئاً آخر، وما تبقى من حياتي أريد أن أقضيه في مكان أحبه وهو بيت الكتابة. لست مع الشعارات واستعراض الكلام الكبير مثل أنّ الكتّاب أشخاص مميزون عن باقي البشر أو باقي المهن. وأرى أن هناك الكثير لأتعلمه في مدرسة الكتابة والطريق طويل كي أتخرج أو أنتهي من هذه المدرسة، وأظن أنه لن ينتهي هذا الشغف والتعلم إلا بنهاية حياتي.

– “أكره أصدقائي الكتاب الذين ينصحون الناس غير الموهوبين بالتوقف عن الكتابة”. لماذا لا تقول لمن يطلب رأيك في ما يكتبه بأنّ عليه أنْ يتوقف لأنّ ما يكتبه سيء؟

* لا أفعل ذلك لأنني لا أعتبر أنّ رأيي مهم وحاسم ونهائي، وقد يكون رأيي خاطئاً. حين تقول لشخص لا تكتب، أنت تحرمه وتصادر فرصته في أن يكتشف نفسه. هناك كثير من الكتّاب كانت بدايتهم سيئة جداً، وفي ما بعد أصبحوا كتّاباً مهمين. أنا لا أحب أن أقول أي رأي قاطع في الكتابة. هناك أعمال نتفق عليها جميعاً، لكن اتفاقنا قد يكون من زوايا مختلفة، لذلك لا يحق لأحد أن يقول لأي شخص لا تكتب، وهذا ليس ترويجاً للكتابة السيئة. أنا أقول لا تنشر بسرعة لأن النشر موضوع مختلف.

– برأيك أنّ من يبحث عن فكرة لرواية ما عليه أنْ يُعيد ذاكرة طفولته إلى الشوارع. ما هي الروايات التي كتبتها مستحضراً فكرتها من طفولتك؟

* ذاكرة الطفولة، هي النبع الحقيقي للكتابة وبالرغم من أنني لم أكتب عن ذاكرة طفولتي إلا أن هناك جزءاً من هذه الذاكرة موجود في رواية “دفاتر القرباط” و”مديح الكراهية” و”الموت عمل شاق”. هناك كتب بعد الانتهاء من كتابتها، تكتشف بأنها كانت جزءاً من ذاكرة طفولتك، وهذا طبيعي لأن هذه المرحلة نقية وصافية، وهي مرحلة اكتشاف أولى، وبالتالي طعم الاكتشاف هو ما تسعى الكتابة إلى اكتشافه مرة أخرى. دوماً هناك أشياء يجب إعادة اكتشافها، الاكتشاف في الطفولة له طعم خاص، أول مرة رأيت البحر وسبحت فيه، أول مرة اكتشفت المدينة وغير ذلك. هذه الأشياء تبقى في الذاكرة للأبد حتى لو تكرر الفعل، يبقى للاكتشاف الأول طعم خاص ومختلف.

– “الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الكتابة حتّى الآن، هو ضرورة الجلوس إلى الطاولة ساعات طويلة وبشكل ٍ يوميّ، كأيّ عامل في المصنع، على حد تعبير أرنست همنغواي”. هل كان جلوسك لساعات طويلة في كل مرة يجعلك تكتب فعلاً؟ ألم يحدث أن أُصبتَ بالضجر بعد ساعة من جلوسك، وكيف كنت تتعامل مع ذلك؟

* حتى الآن، لم أكتشف قانوناً أهم من قانون الجلوس إلى الطاولة، وأعتبره أساسياً إن أردت أن تصبح كاتباً. أنا أجلس يومياً وبشكل منتظم ولوقت طويل على الطاولة كما تعرف أنتَ وباقي الأصدقاء المقربين. مما لا شك فيه، هناك ظروف لها علاقة بطبيعة حياتي اليومية تعيق جلوسي إلى الطاولة أحياناً. ثمة درس تعلمته منذ زمن طويل وهو ألا أغادر الطاولة حين أشعر بالضجر، فبمجرد أن تترك الطاولة ستترك الكتابة، هناك أيام لا أكتب فيها حرفاً واحداً رغم ذلك لا أغادر الطاولة.

– حين كتبتَ روايتك الأولى “حارس الخديعة” اعتبرت أنّ تجربتك نجحتْ، لكن الرواية فشلت في منحك لقب الروائي. هل كان نجاح التجربة أهم من لقب الروائي بالنسبة إليك؟ ولماذا؟

* الرواية لم تفشل في منحي لقب الروائي، وكانت رواية خاصة جداً، وطريقة السرد فيها أقرب للشعر من الرواية كما قيل عنها، وبالرغم من أنها نالت مديحاً من كثيرين، إلا أنه كانت فيها إشارة ناقصة بالنسبة إلى القراء الذين يريدون رواية مختلفة بأشخاص واضحين وأحداث ودراما وأمكنة وزمان. بالنسبة إليّ كانت تجربة ضرورية لتصفية الحساب مع السنوات التي كتب فيها الشعر. العمل الأول له فرادة ويحمل الكثير من المسؤولية بمنحك لقب الروائي بالنسبة للمجتمع وللثقافة والوسط الفني والنقد، وأظن أن روايتي حارس الخديعة كانت أضعف من أن تقوم بكل هذه الأدوار لذلك قلت لم تمنحني صفة الروائي.

خالد خليفة:

روائي سوري مواليد مدينة حلب 1964، كتب العديد من الأعمال التلفزيونية مثل “سيرة آل الجلالي” “هدوء نسبي” وغيرها.. إضافة إلى الأفلام الوثائقية القصيرة، والأفلام القصيرة والروائية الطويلة. له ست روايات: “حارس الخديعة”، “دفاتر القرباط”، و”مديح الكراهية” التي رُشحت لنيل جائزة البوكر العربية، ورواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للأدب، و”الموت عمل شاق” التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة الكتاب الوطني الأميركي، ومن أفضل عشرة كتب مترجمة إلى الإنكليزية في السنوات العشرين الماضية من القرن الحادي والعشرين، وأيضاً إلى اللائحة القصيرة لجائزة أحسن كتاب مترجم إلى اللغة الإيطالية، ورواية “لم يُصلِّ عليهم أحد”. و ترجمت رواياته إلى 17 لغة. إضافة لكتابه الجديد “نسرٌ على الطاولة المجاورة”.

المدن

——————–

الرواية السورية .. لقاء مع الروائي السوري خالد خليفة والكاتبة السورية ديما ونوس

Jan 11, 2022

———————-

حوار مع الروائي وكاتب السيناريو خالد خليفة

Dec 30, 2021

—————————-

خالد خليفة: لستُ حارسَ المقابر لكنني حارسُ الأرواح

دلير يوسف

٢٦ ديسمبر ٢٠٢١

يبرز اسم خالد خليفة كواحد من أبرز الروائيين السوريين في العقد الأخير، ويكاد يكون أكثر الروائيين السوريين الذين تُرجموا إلى لغات أخرى ونالوا، أو ترشحوا لـ، جوائز عربية وعالميّة. صدر لخليفة حتى الآن ست روايات؛ “حارس الخديعة” كانت أولى رواياته وصدرت في العام 1993 ومن ثمّ “دفاتر القرباط” في العام 2000 من ثمّ “مديح الكراهيّة” في العام 2006 وتبعتها “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” في العام 2013 و”الموت عمل شاق” في العام 2016 وأخيرًا “لم يصل عليهم أحد” في العام 2019، إضافة إلى أربع مسلسلات تلفزيونيّة.

في كلّ روايات خالد خليفة يبرز المكان كأحد أبطال قصصه، حلب، مدينته الأم، دائمة الحضور في نصوصه، وكذلك ريفها القريب. في روايته الأخيرة “لم يصل عليهم أحد” يدور بقصته في أزقة حلب وفي قريّة حوش حنّا، وفي “مديح الكراهيّة” تكون حلب هي أساس القصة، وفي “دفاتر القرباط” يتنقل بين حلب وقرية العنابيّة وعفرين وخيام القرباط.

يقول خليفة في حواره معنا “إنّنا جميعًا صنيعة الأمكنة التي نعيش فيها” ولذلك يبني شخصياته بناء على المكان الذي تعيش فيه طفولتها، وربما يكون هذا سببًا إضافيًا يجعله يتعلق بالمكان الذي نشأ فيه، فيبني فيه قصصه وحكاياته.

لدى خالد الكثير ليقوله، لكنه يعمل ببطء وعلى مهل، يقول بأنّه يحب أن يعيش داخل الرواية، أو بالأحرى أن تعيش الرواية داخله، أن تُختبر وتُجرب وتتطور، ولذلك يُعتبر من المُقلين بالكتابة، فالفرق بين تاريخي صدور روايته الأولى وروايته السادسة ستة وعشرين سنة، وهو وقت طويل جدًا في عرف الكتابة والكتّاب، إن كان هناك عُرف لوقت الكتابة. رغم ذلك لم يفقد خالد خليفة جمهوره. لديه الكثير من القرّاء السوريين والسوريات، ومن الجنسيات الأخرى ومن الناطقين باللغات الأخرى، التي تُرجمت أعماله إليها.

لم يبخل عليّ خالد بأجوبته رغم المسافة الجغرافيّة التي تفصلنا، فاستمر حوارنا على مدى أيام، نراسل بعضنا عبر تطبيقات المراسلة المختلفة وعبر البريد الإلكتروني حتى وصل حوارنا إلى شكلّه الحالي، والذي آمل أن يشكّل قيمة مضافة إلى المهتمين بـ، والباحثين عن، شخصيّة خالد خليفة وأدبه، وكذلك لدارسي الأدب السوري، فضلًا عن أملي بأن يُمتع القارىء قبل أيّ غاية أخرى.

يقول إلياس خوري بما معناه أن الكاتب يستقي قصصه من الحياة فيعيد إنتاجها فيما يكتب، ليتلقفها القرّاء، فتؤثر فيهم الرواية ويعيدون إنتاج هذه الحكاية والشخصيات في الحياة. هذه مقدمة قصيرة لسؤال عن روايتك الأخير “لم يصل عليهم أحد”. ذكرت في آخر الكتاب بأنّك عملت على الرواية لمدة عشر سنوات، منذ بزغت الفكرة وحتى صدر الكتاب. كيف يحمل الكاتب/ كيف تحمل أنت/ حكايةً كلّ هذه السنوات؟ كيف تتعامل مع شخصياتها؟ أيؤثرون في حياتك اليوميّة؟ أهم جزء من أحاديتك اليوميّة مع أصدقائك؟ وما الذي تفعله بهذه الشخصيات بعد أن تصدر الرواية؟ يموتون أم يبقون معك، في حياة خالد؟

هذه طريقتي في العمل. دومًا يجب أن تعيش الرواية في داخلي قبل أن تُكتب. هذا حصل مثلًا مع “مديح الكراهية”، ومع الروايات الأخرى. الرواية الوحيدة التي لم تعش كثيرًا في داخلي هي “الموت عمل شاق”. لذلك في البداية يجب أن تعيش الفكرة ومن ثمّ عليها أن تثبت بأنّها جديرة بالكتابة، عليها أن تحاصرني، فأفكر بها لأوقات طويلة.

في العموم أكتب الكثير من المسودات. هذه المسودات تكون بمثابة اختبار للشخصيات، هل ستنمو؟ هل هي قابلة للحياة؟ وكذلك هذه المسودات هي اختبار للأفكار وللعوالم ولكلّ شيء. فيما بعد حين يُؤخذ القرار بكتابة الرواية فهذا لا يعني بأنّني أمتلك رواية.

قد أكتب عشرة آلاف كلمة أو خمسة عشر ألف كلمة وأتخلى عنها وأقول لنفسي إنّ هذا الشيء (هذه الرواية) لن تكتمل، أو أقول لقد أخطأت في هذا الخيار. لذلك فإنّ كلّ رواية تعيش في داخلي بجوار روايات أخرى لم تُكتب. يجب على الراوية أن تثبت بأنّها جديرة بالكتابة كي أكتبها.

أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال فأنا أتعامل بحياديّة، أو بشبه حياديّة، مع الشخصيات. دومًا هناك اختبارات. أصلًا تأتي الرواية عادة من أشياء غير متوقعة. مثلًا “لم يصل عليهم أحد” أتت من إحدى زياراتي إلى الجزيرة السوريّة، إلى القامشلي والمالكية وعامودا، حين رأيتُ تلك الكنائس المُهدّمة والمهجورة. روى لي شخص ما هناك قصة إحدى الكنائس، ففكرتُ حينها طويلًا بكيفيّة اختراعنا للقداسة وللقديس، والأمر نفسه موجود في الثقافة الإسلاميّة: كيف نخترع الولي؟

حملت معي هذا السؤال منذ العام ٢٠٠٦، مذ قمتُ بتلك الرحلة، والتي كانت بهدف إنتاج برنامج وثائقي مع صديقي نديم آدو. منذ تلك اللحظة بدأتْ “لم يصل عليهم أحد” تحفر في داخلي. وبشكل رئيسي بدأ كلّ من “حنا” و”سعاد” و”زكريا” في الحفر بداخلي. لذلك تعاملتُ مع هذه الشخصيات الثلاث الرئيسيّة بعناية شديدة وفي كلّ مرحلة من المراحل كنت أنظر إليهم بشكل مختلف تمامًا.

شخصيات الروايات بشكل عام تصبح جزءًا من حياتي، لكنني أتعامل بطريقة “التقنية الباردة”، فلا أسمح لشخصيّة بأن تطغى وتأخذ حيز شخصيّة أخرى لأنّ هنالك شخصيات كثيرة بعد بداية الكتابة تتحلى بمكر شديد وبجاذبيّة خاصة، مثل “بلبل” في “الموت عمل شاق” أو مثلًا “حنا” في “لم يصل عليهم أحد” أو “رضوان” في “مديح الكراهية”. هذه الشخصيات تريد أن تهيمن على الرواية وعلى كلّ الشخصيات الأخرى، لذلك يجب ضبطها ويجب العمل معها بانضباط شديد وبقسوة، يجب أن لا تأخذ فضاء وحيز الشخصيات الأخرى إلى ما تحتاجه. هذا شيء أساسي.

تكون الشخصيات جزءًا من أحاديثي اليوميّة. فأنا حين أكتب رواية يعرف كلّ أصدقائي المقربين ذلك. اختبر نفسي والراوية بأصدقائي. أحيانًا أطلب منهم قراءة فصل أو خمسين صفحة ومن ثم أحقّق معهم. دومًا أصدقائي كرماء جدًا معي. يقدمون لي هذه الخدمات بكلّ قلب طيب ومفتوح. لذلك لا توجد لدي رواية طُبعت فورًا. تبقى في الحد الأدنى سنتين بعد الكتابة خاضعة لاختبارات وكتابات مختلفة؛ كتابة أولى وثانية وثالثة… في “لم يصل عليهم أحد” وصل العدد إلى تسعة عشرة كتابة. هناك من أصدقائي من بدأ بالقراءة منذ الكتابة الثالثة أو حتى منذ الكتابة الأولى. وأقصد بالكتابة المسودة الكاملة، أي أنّ الرواية منتهية تقريبًا. هذا عمل مضنٍ جدًا، لكنه ممتع جدًا بالنسبة إلي. والمحيطين بي يعرفون ذلك جيدًا، وفي أغلب الأحيان أشكرهم بشكل شخصي في نهاية كل رواية.

لكن بعد صدور الرواية تموت بالنسبة لي. لا توجد لي معها أي علاقة بعد صدورها. بعد أشهر من صدروها تنتهي الرواية. لكن أحيانًا بعض الشخصيات تبقى. مثلًا “حنا” و”سعاد” حتى الآن، حتى هذه اللحظة، بعد سنتين من طباعة الرواية، ما زالا يزوران كوابيسي وأحلامي، وأفكر بهما كثيرًا وهذا يحدث لأول مرة لي.

أفكر أحيانًا بـ “بلبل” لكن كما يفكر المرء مع شخص عاش معه لفترة زمنيّة ثم مات، وينظر إليه من بعيد وكأنّه يستعيد ذكريات قديمة. لكن مع “حنا” و”سعاد” فالأمر مختلف تمامًا. ما زالا يعيشان معي حتى هذه اللحظة. ويجب أن يخرجا بأقرب وقت ممكن وإلّا سيكون وجودهما مشكلة حقيقة بالنسبة لي.

في روايتك الأخيرة مثل رواياتك الأخرى، تُغرق القارئ بتفاصيل الأمكنة. أحيانًا أشعر بأنّ المكان هو بطل الرواية لا الشخصيات. لماذا هذا الهوس بالمكان؟

أعتقد أنّنا جميعًا صنيعة الأمكنة التي نعيش فيها، والتي نولد فيها بالتحديد، لذلك لا توجد شخصيّة خارج المكان الذي تولد وتنمو فيه. قد تموت في مكان آخر، لكن الطفولة هي المنبع الأساسي للكتابة. بالنسبة لي دومًا أسأل شخصياتي أين قضت طفولتها وما هي الأمكنة التي عاشت فيها. لأنّني ببساطة (أحكي عن نفسي هنا) صنيعة تلك الصور الغامضة وتلك الأمكنة التي مازلت أحتفظ بها (حتى بروائحها) حتى الآن، لذلك العلاقة مع المكان ليست هوسًا كمان تقول، بل هي إعادة تمركز وإعادة تفكيك الشخصيّة بشكل رئيسي.

السؤال السابق كان ما يشبه التحضير لهذا السؤال. تعيش في دمشق رغم قدرتك على العيش في أيّ مكان تريد. تصرّ على البقاء في سوريا، رغم أنّها تكاد تكون غير قابلة للحياة. لماذا هذا الإصرار؟ هل تخاف من الخروج من هذه البلاد؟ أتتحدى شيئًا ما ببقائك هناك؟ ومن ثمّ، ما الذي تعطيك إياه سوريا ولا تستيطع الحصول عليه خارجها؟

ليس لدي جواب واضح. لدي قاعدة رئيسيّة: أنا أحبّ هذا المكان، وما زلت أحبّه رغم كلّ شيء، رغم أنّه، فعلًا مكان غير قابل للحياة، أو أنّ الحياة فيه أصبحت فعلًا شبه مستحيلة، أو صعبة جدًا. هنالك مصاعب لا يمكن تخيلها. لكن بالنسبة لي ما زال هذا المكان هو المُفضل بالنسبة لدي والقاعدة تقول: إنّ أيّ أحد في هذه الظروف الصعبة جدًا يستطيع أن يتمسك بمكانه يجب أن يفعل ذلك. إذا هاجرنا جميعًا، من سيحرس المنازل المهجورة؟ من سيحرس الأرواح؟ ومن سيحرس المقابر؟

أنا لستُ حارسَ المقابر لكنني حارسُ الأرواح، وما زلت أعتقد بأنّ هذا هو المكان الوحيد الذي يعنيني في كلّ شيء. حتى اليوم، كلّ شيء في سوريا يعنيني. أعتقد، في ألمانيا مثلًا هناك أشياء كثيرة لا تعنيني، لأنّني ببساطة لا أعرف الأشياء هناك، لا أعرف كيف بُنيت ولا أعرف كيف تشكلت. ما زال حلمي ينمو هنا كلّ يوم. ما تعطيني إياه سوريا هو هذا الإصرار بالبقاء فيها. هذا الإصرار هو جزء أساسي من حياتي، وهذا ليس وليد اليوم، ليس وليد ما بعد الثورة. أنا أنتمي لجيل مُهاجر، منذ الثمانينات هاجر قسم كبير من أبناء جيلي وكانت مواهبهم واضحة وبارزة وكبيرة، لكن وببساطة شديدة بعد سنوات انتهت مواهبهم. أنا أخاف أيضًا أن أفقد هذا الحبل السري بيني وبين الكتابة.

سوريا تعطيني، حتى الآن، كلّ شيء. الألم والأمل والذاكرة. حين ترتب ذاكرتك تسطيع أن تقول بأنّك ترتب مستقبلك وحلمك. السؤال يجب أن يكون: ماذا يعطيني الخارج؟ أعتقد بأنّني أستطيع أخذ كلّ ما أريد من الخارج وأنا هنا، لذلك لا أجد أي ضرورة لوجودي هناك.

أعرف أن وجودي في أوروبا قد يساهم في زيادة انتشار كتبي بنسبة عشرة بالمئة أو عشرين بالمئة أو ثلاثين بالمئة… صدقًا، أنا لستُ بحاجة لها.

تترجم رواياتك إلى العديد من اللغات، وتنال الجوائز هنا وهناك. ما الذي يغير هذا في طريقة كتابتك وفي شخصيتك؟ أتعنيك الجوائز والترجمات والقرّاء غير الناطقين بالعربيّة؟

الجوائز والترجمات والشهرة وكل ما إلى ذلك هي تمامًا خارج الكتابة، ويجب أن ننتبه لذلك. كلّ شهرة زائدة تشبه فائض القوة، ويجب تصريفها. وغالبًا ما يُصرف هذا الفائض بشكل سيء جدًا. لذلك يجب أن ننتبه إلى أنّ هذه الأشياء لا تعني الكتابة.

أنا شخص أحبُّ الجوائز وأحبُّ أن أرى كتبي مترجمة إلى كلّ لغات العالم وأحب أن أجادل القرّاء من لغات أخرى وتصلني أحيانًا آراء تسعدني جدًا لكن هذه أشياء أدعها على الباب في الخارج حين أعود إلى الكتابة. يجب أن لا يصطحب الكاتب هذه الأشياء معه إلى مشغل الكتابة.

مشغل الكتابة هو مكان مختلف تمامًا. يجب أن يحافظ المكان على بروده. ويجب على الكاتب أن يدرب نفسه على تلقي الثناءات دون أن تعبر هذه الثناءات الباب. يجب وضعها خارج باب مشغل الكتابة.

إجمالًا، شهرة الكاتب تختلف عن شهرة العاملين في مجال الفنون الأخرى. في مهنة التمثيل مثلًا، كلّها قائمة على الظهور وعلى الشهرة وعلى التماس المباشر مع المشاهدين لكن الكتابة قد تنمو في أكثر الأماكن المظلمة. أعتقد بأنّ هذا أمرٌ حسن. العزلة جزء أساسي من الكتابة، حتى لو كنت موجودًا بين آلاف البشر. الكاتب شخص وحيد ومعزول دومًا.

سؤالي الأخير هو سؤال عام عن الرواية السوريّة ويتكوّن من شقيّن. الشق الأول: ما هي الراوية السوريّة؟ وكيف يمكننا التعريف عن الرواية السورية؟ هل هي موجودة على خريطة العالم الأدبيّة؟ وما الذي يميزها؟ الشق الثاني: ما هي العلاقة بين الرواية وما يحدث في سوريا منذ آذار ٢٠١١، من ثورة وحرب أهلية واحتلالات؟ كيف أثّرت الأحداث على لغة الرواية السوريّة وبنيتها وأفكارها وشخصياتها وأحداثها؟

الرواية السوريّة هي الرواية التي يكتبها السوريون. لكن إن تحدثنا عن خصوصيّة معينة عن الرواية السوريّة فأنا أعتقد بأنّها مرت بكلّ المراحل التي مرت بها الرواية العربيّة وحملت كلّ أمراض الرواية العربيّة، فهي جزء من الرواية العربيّة. ولا تختلف كثيرًا، سواء بالتقنيات أو بغيرها من الأمور، عن الرواية العربيّة. لذلك نستطيع أن نقول إنّ هنالك رواية عربيّة تكتب في سوريا باللغة العربيّة.

وإذا تحدثنا عن وجودها في العالم، فوجودها قليل جدًا وهي تعتبر جزءًا من الرواية العربيّة وأعتقد بأنّ الرواية المصريّة هي المتفوقة في كلّ المجالات، باستثناء الروايات الجزائريّة والمغربيّة المكتوبة باللغة الفرنسيّة ولكن هذا بحث آخر. لذلك نستطيع أن نخلص الأمر بأنّ الرواية السوريّة هي جزء من الرواية العربيّة، وخصائصها هي خصائص المكان الذي تكتب عنه.

حسنًا، هنا يحضرني سؤال متفرع من السؤال الأصل: وما وضع الرواية الكرديّة السوريّة المكتوبة باللغة العربيّة، كيف تصنفها؟

أعتقد أنّ كلّ الروايات المكتوبة باللغة العربيّة يمكن تصنيفها كرواية عربيّة، أو يمكن القول رواية كرديّة مكتوبة بالعربيّة. أنا أعتقد إنّ هذه التصنيفات غير مهمة. في النهاية فإنّ اللغة هي العنصر الأساسي. الروايات المكتوبة بالعربيّة هي روايات عربيّة. خصائص كل بلد مختلفة. مثلًا خصوصيّة سليم بركات واضحة كمنطق وككاتب وكبيئة، وهو يختلف كثيرًا عن كاتب ما في الجزائر، لكن في النهاية نحن نتحدث عن اختلافات موجودة تحت مظلة واحدة وهي مظلة الرواية العربيّة. لأنّ اللغة هي الأساس. كما أنّني بشكل عام غير مكترث، وأعتقد بأنّ هذه التصنيفات لم تعد مهمة.

أما بالعودة إلى الشق الثاني من سؤالك فإنّ الشيء الذي يمثل الرواية السورية بعد ٢٠١١ هو الانفجار، انفجار الكتابة. هناك أعداد ضخمة من الكُتّاب. لكن أعتقد أنّه حتى الآن لا يوجد شيء هام من حيث التطورات التقنية أي لا نستطيع أن نقول بعد إنّ هنالك تطورات تقنية في لغة الرواية السوريّة أو أيّ شيء جديد آخر. هناك محاولات، لكنها ما زالت خجولة. وهذه المحاولات أيضًا تخضع للتاريخ. أي يجب أن ننتظر ونرى كيف سيصبح شكل الكتابة في سوريا فيما بعد.

شهادات في خالد خليفه ورواياته

حسين شاويش

كان ذلك في سبعينات القرن الماضي. كنت في سنتي الرابعة في كلية طبّ حلب عندما أصابتني جائحة كانت سائدة وقتها في سوريا، وكانت تفضّل طلبة الجامعة. ذلك الفيروس كان اسمه: البحث عن البديل الثوري. من تقاليد هذا النوع من الجائحات أنّ المصاب لا يتجنّب الناس، بل يسعى إليهم، وخاصّة أولئك الذين يشاركونه العدوى. وفي بحثي ذاك عثرت على شلّة كاملة عبر زميل الدراسة أحمد خليفة، وهو الأخ الأكبر لخالد.

كانت تلك الشلّة تعرف جيّداً ما لا تريد، وهو كل ما كان موجوداً في الساحة السياسيّة في السبعينيّات، سواء في السلطة أو خارجها. لكنّها لم تكن تعرف ما تريد. ربّما لم يكن من الظلم أن نصفها بأنّها خليط من فوضويّي القرن التاسع عشر وشيوعيّي القرن العشرين بتلاوينهم المختلفة، بما فيها من “مزج للألوان”، كالفرويدية والوجوديّة مثلاً. ولذلك فقد كانت تثقّف نفسها بكلّ ما كان أولئك وهؤلاء يستظرفونه من فكر وأدب وفن وتحضّر نفسها لقيام كومونة باريس في حلب.

كان خالد المراهق واحدًا من الشلّة رغمًا عنه. كنّا نراه “يكبر فينا” دون أن ندرك حقيقة أنّنا نحن من سيكبر فيه. فنحن في الواقع لم نكن سوى أعمام يحبّون الكلام الذي يستطيعون قياده. أمّا هو فكان يكره كلّ كلام سهل القياد. وكنّا نحلم، دون أن ندري، بأنّه يستطيع ما عجزنا عنه. ولذلك فلم يكن أحدنا سعيدًا بعمله الروائي “دفاتر القرباط”. وهي “سعادة” بدأت بالنموّ كلما تميّز ذلك الفتى الذي قفز برشاقة من وادي الشعراء الضبابيّ إلى قارّة الروائيين الكونيّة.

أعدت التعرّف على خالد الجديد في برلين. أسجّل لنفسي أنّني استطعت النجاة من مصيدة الأعمام الذين يقابلون “أبناء إخوتهم” بعد عمر طويل. ربّما كان السبب هو أنّ خالد استطاع تجاوز تلك المصيدة، بنفسه. كان هذا الفتى الأزلي لا زال يبحث عن كلام جديد صعب القياد. فكّرنا معاً بصوت عالٍ. كانت إحدى أفكاره تلك أن يكتب عنّا، شلّة الأعمام القديمة. وكانت إحدى أفكاره الأكثر جدوى هي الكتابة عن حلب. وقد فعل وأرسل لي النص بعد زمن لأقرأه وأبدي ملاحظاتي. وكانت “لم يصلّ عليهم أحد”. اكتشفت في قراءتها الثالثة الذات الأعمق في خالد، الذات المتمرّدة. إنّه خالد المتمرّد في تاريخ يفضّل النوم.

نوال الحلج

بمناسبة صدور الطبعة الثالثة من رواية (حارس الخديعة) للكاتب خالد خليفة، في أيلول الفائت، تذكرت قراءتي الأولى لها منذ بضع سنوات، كانت الرواية\النص تختلف عن الروايات الأخرى. ومهما كان تجنيس هذا العمل بأنّه نص مفتوح أو رواية، لكن يبقى له ملامح خاصة يمكن استكشافها وخاصة في طريقة التعامل مع الزمن.

إنّ رواية\نص (حارس الخديعة) لا تحتوي على قصة محوريّة أو على تصاعد متدرج للحدث، مما جعلها أشبه ما تكون بسرد مفكك لأحلام غير مترابطة. لكن القضيّة الأساسيّة التي لا تنفك تتكرر فيها هي قضية الزمن المعطل، لأنّ اختفاء التتابع الزمني يتجلى على صعيد المضمون، وفي الوقت نفسه في طريقة صياغة النص؛ أي أنّ هذه الرواية\النص لا تكتفي بترديد جملة “الوقت أكذوبة والساعات معطلة” فحسب، بل هي تجسّد ذلك عن طريق التداعي والتكرار وعدم التصاعد في وتيرة السرد، أي أنّها استمرارية شعوريّة متدفقة يتحكم فيها وعي الكاتب بحالته الداخلية التي لا يمكن قياسها بالزمن العادي.

إنّ الصياغة الشعريّة للنص هي أقرب إلى تداعيات شظايا أفكار وذكريات يتكرر سردها أكثر من مرة، وبالتالي لا يوجد أي تطور ملموس في الأحداث المنقولة بصيغة المضارع وكأنّها ما زالت تستمر بالحدوث، بالإضافة إلى أنّها لا تتراكم لتصبح في الزمن الماضي، عدا بعض ما يتم تذكره عن طريق التداعي، فيُنقَلُ بالزمن الماضي. وفي النهاية رغم اختلافنا على تجنيس هذا العمل الأدبي، فهو يستحق تقصي خصوصيته، وإضاءة مكامن الاختلاف فيه.

وداد نبي

عرفتُ خالد خليفة من خلال أصوات أصدقائه القدامى أولًا. تشكّلت صورته في ذهني من خلال كلماتهم عنه. في عام 2013، في مقهى في مدينة حلب أعطاني صديق مشترك بيني وبينه نسخة من روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”. أتذكر أنّني أعرتُها بعد قراءتها لصديقتين أيضًا. تولّد لدينا جميعًا ذلك الخوف من رؤية أحد ما الرواية بين أيدينا في بيئة كانت مؤيدة في غالبيتها. فجأة، أصبحت الرواية بمثابة فخ منصوب لنا!

هذا ما تأكدتُ منه نهاية عام 2013 حين أخذتُ معي الرواية إلى كوباني. في تلك الرحلة، وقفت الحافلة على حواجز عسكريّة مختلفة، حواجز للنظام وأخرى للإسلاميين وثالثة للجيش الحر. الروايّة كانت بين مجموعة كتب أخرى مخفيّة بين الثياب في الحقيبة. كنت أشعر بخطرها في تلك الأجواء المشحونة بالتعصّب والتسلّح والاستبداد.

في برلين التقيتُ لأول مرة بخالد خليفة. كان فوضويًا بشكله، مع ابتسامة مملوءة بالرِقة، مع ذلك الدفء الإنساني الذي يرافق كلامه. تحدثنا كثيرًا منتظرين صديقًا قديمًا من أصدقائه. أزاح بروحه المرحة المعتادة فخاخ اللقاءات الأولى. ونحن نسير على ضفاف “نهر شبري”، كنت أجري بداخلي مقارنات لابد منها، بين خالد الروائي المعروف بشكل كبير وبين كتّاب أخرين لم يحصلوا على ربع شهرته، كانت المقارنة لصالحه دومًا، فخالد كان ميّالًا للهوامش أكثر من المركز، وداعمًا للكتّاب الشباب كما سمعت من عدّة أصدقاء وصديقات.

برفقته تشعر أنه صديق قديم وحميمي. طبخ لنا في ذلك اليوم مجدرة البرغل مع العدس في بيت صديقنا المشترك، وتحدّث مطولاً عن بيت العائلة القديم ونسائه في حلب، عن تلك المرحلة من تاريخه وحياته. كان شغوفًا وهو يتحدث عن الماضي أكثر من الحاضر. وكنت ألاحظ هذا حين يتحدث عن تاريخ حلب أيضًا، فينسى الزمن الحاضر، لتشعر أنه حكّاء يجول بك في أروقة أزمنة قديمة. كنت تستطيع أن تشم روائح ذلك الزمن في حديثه.

حكاية ما انحكت

——————————–

الروائي خالد خليفة يناقش “ثنائية الحب والموت“ في المقهى الثقافي

18 كانون الأول/ديسمبر 2020

حلّ الروائي السوري خالد خليفة ضيفًا على حلقة هذا الشهر من برنامج “المقهى الثقافي” التابع لمركز حرمون للدراسات المعاصرة والذي يُشرف عليه ويديره بدر الدين عرودكي.

ناقشت الحلقة التي حملت عنوان “ثنائية الحب والموت “تجربة خالد خليفة الروائية، وعوالم رواياته العديدة التي حققت نجاحًا ونُشرت في أكثر من دولة، وتُرجمت إلى اللغات الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، النرويجية، الإنكليزية والإسبانية، ولاقت اهتمامًا إعلاميًا على مستوى عالمي، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية، ووصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية، ورُشّحت لجائزة الاندبندت العالمية.

تحدث الضيف في بداية الحلقة عن بدايات تجربته في مجال الكتابة منذ أن كان يافعًا، والتي كانت مع القصائد والشعر،واعتبر أن هذه المرحلة بمثابة توطئة لدخوله عالم الرواية الذي يطمح له، ثم كتب روايته الأولى عندما كان في العشرين من عمره، ونالت استحسانًا من المقربين منه، لكن هذه الرواية لم تبصر النور لأنه أدرك أنها كما قال: “استعارت أصوات الآخرين ولم تكن روايتي بل رواية الآخرين.. وأنا كنت أريد أن يكون لي صوتي الخاص، لذا قررت عدم ترك أي أثر لها”.

بعد ذلك كتب خليفة العديد من النصوص، وكانت رواية ” حارس الخديعة” عام 1993 أول عمل روائي يُنشر له، لافتًا إلى أنه كان مخلصًا للكتابة طوال حياته ومنحها كل شيئ، وهذا الأمر “هو أحد أسرار المطبخ الروائي” على حد تعبيره.

وخلال سرده مسيرته في عالم الكتابة، تحدث خالد خليفة عن دخوله مجال العمل التلفزيوني، كوسيلة وحيدة لتأمين دخل مادي، بسبب عدم وجود صحافة  تحتض الكتّاب  والمواهب الشابة في سورية، على غرار الصحافة في لبنان ومصر ودول الخليج العربي، وكان مسلسل “سيرة آل الجلالي” للمخرج هيثم حقي الذي عُرض عام 2000،  أول عمل درامي لخليفة. وأشار  إلى أن قيامه بكتابة السيناريوهات لم يكن يتعارض مع كونه روائيًّا في المقام الأول، وأشار إلى أنه “لو خُيرَ بين الدراما والرواية لاختار أن يكون روائيًّا، لكنه، في المقابل، استفاد كثيرًا من عمله ككاتب سيناريو  لأنه وفرّ له فرصة العمل على مئات الشخصيات الدرامية، وهذا كما قال: “جزء أساسي من مهنتي ككاتب، وخطوة في طريق دخولي عالم الاحتراف في الكتابة”.

وحول أسباب دخوله عالم الرواية كشكل تعبيري دونًا عن باقي الأنواع الأخرى من العمل الأدبي والبحث الفكري والعلمي، ذكر خالد خليفة أن الرواية لها جاذبية مختلفة جعلته يلتزم بها، رغم أن حياة الشعراء كان لها “بريقها الخاص” على حد وصفه، إضافًة إلى وجود عدد من الكتّاب الذين شكلت قراءته لأعمالهم تحديًا كبيرًا له، منهم الكاتب الأمريكي وليام فوكنر، والروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والكاتب السعودي عبدالرحمن منيف الذي شكلت علاقته الشخصية به حافزًا كبيرًا  له وجعلته يشعر “بأن هناك معركة تستحق أن تُقاد في هذا المكان، وأن هناك ما يستحق أن نمنحه أعمارنا”، مشيرًا إلى أن هذه الجاذبية وهذا الشغف في كتابة الرواية ما زال مستمرًا منذ قرابة 35 عامًا حتى الآن.

ووصف خليفة مرحلة كتابة الرواية بأنها مليئة بالسعادة والمتعة اللتان تتجددان كل يوم، وأشار إلى أن الصعوبة تكمن في المرحلة التي تلي الكتابة عندما تُنشر الرواية وتذهب إلى القراء، لأن الكتابة هي الشيء الوحيد في هذه الحياة الذي لا يُشعره بالملل، مضيفًا أن “هناك دوماً في نهاية كل كتاب سؤال يخطر في بالي وهو ماذا سأفعل؟”.

تحدث خليفة عن الظروف والحالة الذهنية التي يعيشها أثناء كتابته للرواية، ومراجعاته المتكررة للمسودة الأولية لكل رواية، واستعانته بآراء أصدقائه المقربين، قبل أن يختار الصيغة النهائية لها، لافتًا إلى أن رواية “لم يصل عليهم أحد” التي صدرت عام 2019 استغرقت أحد عشر عامًا من النقاش والمراجعة قبل أن تُبصر النور.

ثم جرى نقاش موسع وعميق حول رواية “لم يصل عليهم أحد” والإطار التاريخي الذي دارت حوله أحداثها التي جرت في أطراف مدينة حلب وتحديدًا عام 1907 عندما تعرضت المدينة لفيضان كبير جرف معه البشر والحجر. وأشار خليفة إلى أن هذه الرواية ليست رواية تاريخية، بل هي رواية ملحمية تطرح العديد من السرديات عبر ثنائية الحب والموت، وتصوّر ظروف العيش في حلب تحت ظل الامبراطورية العثمانية، والتحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي حدثت فيما بعد، واعتبر أن هذه الفترة كانت سببًا في كل المشكلات التي نعيشها الآن. وأنه من المهم جدًا الوقوف عند السنوات الأخيرة من تاريخ الامبراطورية العثمانية وقراءتها بدقة، لأنها تمثل بداية لمأساتنا كسوريين ولكل المشاكل التي نعاني منها حاليًا، مضيفًا أنه “من المؤسف أننا أصبحنا حاليًا نختلف على الثوابت الوطنية، إذ يجب ألا نختلف على أن العثمانيين كانوا محتلّين لأرضنا، لكننا اليوم نختلف حول ذلك، وهناك صراع إيديولوجي، وكل طرف يريد أن يلون سورية باللون الذي يريده، وهذه واحدة من الكوارث التي أصابتنا بعد الثورة السورية”.

وذكر خليفة أن مشروعه الروائي يقوم على فكرة الحفر في طريق الظلم الذي تعرضنا له كسوريين، واعتبر أن ذلك جزءًا من التزامه الإنساني كروائي، مشيرًا إلى أننا اليوم أمام تحدٍّ كبير وهو كيف ستُكتب السرديات التي حدثت الآن والتي وُثّقت، وكيف سنمنع استغلال الإيديولوجيات لهذه السرديات لأسباب ضيقة وسخيفة. وأضاف: “نحن الآن نناقش كيف سنكتب وليس ماذا سنكتب، وهناك من يريدون مصادرة الحقيقة قبل أن تجف الدماء، وأن يكتبوا السرديات كما يرونها بشكل شخصي، لذلك يجب العمل على إنقاذ الحقيقة”.

وركز النقاش على أبرزت الثيمات التي طرحتها رواية “لم يصل عليهم أحد”، منها ثيمة النضال ضد جميع محرمات المجتمع، وثيمة “الأم الفسيفساء” التي تمثل الفسيفساء النسائية في الرواية، وثيمة صناعة القديس والقداسة، ومن هو المسؤول عن هذه القداسة، وأشار خليفة إلى أن السرديات التي كان يسمعها بشكل يومي من الحكّائين البسطاء، ساهمت في تعلمه كيف تُصنع الحكاية والقداسة.

وفي الجزء الأخير، تطرق الحوار إلى التاريخ السوري المعاصر الذي جسده الروائي خالد خليفة من خلال روايته “الموت عمل شاق”، وهي عمل روائي يصور رحلة الموت بطريقة سريالية وتتحدث عن رحلة ثلاث أخوة ينقلون جثة والدهم من ريف دمشق في جنوب سورية إلى قرية العنّابية التي ينحدرون منها في ريف حلب بشمال سورية أثناء الحرب التي اندلعت بعد الثورة السورية. وذكر خليفة أنه كان حريصًا على أن تكون هذه الرواية قصيرة وتحتوي جملًا مختلفة، مضيفًا أن “كل أحد لديه رؤيته الخاصة حول كيفية كتابة الثورة والحرب والاعتقال والهزيمة، وبالنسبة لي رواية “الموت عمل شاق” هي مشروعي ورؤيتي، لكنها أصبحت عملًا منجزًا لا علاقة لي به، وحاليًا أنا أفكر في ماذا سأكتب غدًا”.

خالد خليفة: روائي سوري وشاعر وكاتب سيناريو ومقالات أدبية، ليسانس في القانون، له العديد من الروايات المطبوعة، من أبرزها “مديح الكراهية” التي مُنعت في سورية، وله رواية “دفاتر القرباط” التي تم على إثرها تجميد عضويته في اتحاد الكتاب العرب في سورية، و” الموت عمل شاق“، و” لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة“، وأخيرًا “لم يُصلِّ عليهم أحد“، كما كتب الدراما التلفزيونية مثل مسلسل (العراب – نادي الشرق)، و(سيرة آل الجلالي)، وبعض الأفلام الوثائقية والروائية.

“المقهى الثقافي” هو فضاء ثقافي جديد، يناقش مواضيع إشكالية وجدلية، في حوارات مع مثقفين وأكاديميين عرب، وله طابع ثقافي شامل، يستعرض مع ضيف كل حلقة أبرز قضايا وهموم الساعة، بسقف عال من الحرية الفكرية والتعبيرية، وينتظم بشكل دوري أول يوم خميس من كل شهر، الساعة الخامسة مساءً بتوقيت دمشق.

مركز حرمون

————————–

خالد خليفة: كُتّاب وكاتبات يعتبرون الوصول إلى الشهرة قضيّة حياة أو موت

حوار: عماد الدين موسى

09 نوفمبر 2020

خالد خليفة: كاتب سيناريو، وروائي سوري، من مواليد مدينة حلب، سنة 1964، تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات. في رصيده- حتى الآن- ستّ روايات، هي: «حارس الخديعة» (1993)، و«دفاتر القرباط» (2000)، و«مديح الكراهية» (2006) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربيّة، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (2013) التي وصلت، أيضاً، إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر»، وحازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، و«الموت عمل شاقّ» (2016)، و«لم يُصَلِّ عليهم أحد» (2019) التي أُدرجت على القائمة الطويلة لجائزة «بوكر».

للكاتب، أيضاً، عدد من المسلسلات التلفزيونيّة، منها «سيرة آل الجلالي» (1999)، ومسلسل «هدوء نسبي» (2009). أجري هذا الحوار بالتزامن مع صدور أعماله الروائية الكاملة:

فازت، مؤخَّراً، الترجمة الإيطالية لروايتك «الموت عمل شاقّ» بجائزة PremioLattesTraduzione الإيطالية المرموقة، التي تمنحها Fondazione Bottari Lattes، ماذا تعني لك هذه الجائزة؟

– الحقيقة أني كنت سعيداً جدّاً لفوز مترجمة كتبي «ماريا أفينو» بهذه الجائزة المرموقة، عن ترجمتها لكتابي «الموت عمل شاقّ» الذي لم يتوقَّف، منذ بدء صدوره باللغات الأجنبية، خاصّةً الإنجليزية، عن الحضور في قوائم كثيرة، والفوز والمنافسة على كبرى جوائز العالم كما حصل لدى وصوله إلى نهائي جائزة الكتاب الوطني في الولايات المتَّحدة. هذه جائزة مهمّة وتستحقّها «ماريا».

هل من كتب أخرى لك مترجمة إلى لغات عالمية حيّة، وحصلت على جوائز؟ حبّذا لو تحدِّثنا عن حيثيات هذ الاحتفاء الغربي بالأدب السوري، من خلال تجربتك والاحتفاء بكتبك؟

– تقريباً، أغلب كتبي مترجمة إلى الكثير من اللغات. كما تعلم، إن رواياتي: «مديح الكراهية» و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، و«الموت عمل شاقّ» تُرجمِت إلى عدد كبير من اللغات. والآن، أنتظر ترجمة «لم يُصَلِّ عليهم أحد» بأربع لغات. هناك حركة دائمة، وتبنٍّ لكتبي من قِبَل دور نشر أجنبية، ومن قِبَل المترجمين. وهذا ليس احتفاء بشخصي وكتبي، إنما هو اعتراف باللّغة العربيّة وبأدب جيلي. هناك، اليوم، رغبة كبيرة جدّاً بترجمة الأدب العربي، وبدأنا نحضر وننافس على كبرى جوائز العالم. هذا جيّد،لكنه ليس كافياً لاختراق الأسواق العالمية، والبقاء فيها.

صدرت أعمالك الروائيّة الكاملة في طبعة جديدة، عن (دار نوفل) في بيروت. من أين أتت الفكرة؟

– لا توجد أيّة فكرة، انتهت عقودي مع (دار الآداب)، ويجب أن تكون كتبي في السوق، فجرى الاتِّفاق مع (دار هاتشيت أنطون) للنشر، والأمور تجري بسلاسة كما ترى. أحبّ أن أرى كلّ كتبي قادرة على المقاومة، وفي طبعات جديدة.

أغلب مؤلَّفاتك تصدر في طبعتين؛ واحدة في بيروت، وأخرى في القاهرة. ما السبب في ذلك؟

– الموضوع، ببساطة، له علاقة بالتسويق، الكتاب اللبناني غالي الثمن، ويجب أن توجد كتب أي كاتب في مصر التي مازالت تعتبر الأمّ الكبرى للقراءة والكتابة. وبالنسبة إليَّ، شغفي بالقاهرة وعلاقتي بها جعلاني مصمِّماً على رؤية كتبي في واجهات المكتبات المصرية، يتداولها القرّاء أي بالأسعار المصريّة التي أصبحت، اليوم غالية -أيضاً- نتيجة التضخُّم.

كيف تنظر إلى واقع القراءة في العالم العربي؟، وهل غدت الرواية -حقّاً- ديوان العرب، والأكثر مبيعاً وقراءة، في ظلّ انحسار الاهتمام بالشِعر وبقية الفنون الكتابية الأخرى؟

– واقع القراءة لم يتغيَّر، لأن سياسات التعليم لم تتغيَّر منذ خمسين سنة. هناك مبادرات فردية هنا وهناك، لا تكفي ليصبح الكتاب جزءاً من حياة البشر، لن ينعم العرب بالحياة الحقيقية دون الوصول إلى الديموقراطية والحرِّيّة، ومازالت الرواية تحتلّ مكانة أهمّ في جدول اهتمامات القرّاء، والموضوع له علاقة بانتشار الرواية عالمياً، لا عربياً فقط.

المُلاحظ، في رواياتك، أنك لا تركّز على شخصيّة معيّنة، بقدر اهتمامك بكلّ الشخصيّات. هل يمكننا القول إن البطل، لديك، هم جميع الشخصيّات؟

– دوماً، هناك سؤال تقني لديّ، بداية كتابة أيّة رواية: كيف سأكتب الرواية؟، وعبر أيّة شخصيات؟. وصيرورة الشخصية، عموماً، تخضع لتطوُّرات معقَّدة في أثناء الكتابة، ولا أعرف إلى أين ستنتهي. لذلك، دوماً هناك شغف حقيقي للعمل على عدّة شخصيات، لا على شخصية واحدة، إنها لعبة أحبُّها، وتقنية تتيح لي تجريب أشكال كثيرة لبناء الشخصيات ومراقبة تطوُّر علاقاتها بينها وبين ذاتها، وبينها وبين الشخصيات الأخرى.

ثيمة الموت، تكاد لا تفارق رواياتك؛ وكأنها صفة باتت تلازمك. ولعلّ رواية «الموت عمل شاقّ» خير مثال على ذلك. ما الرابط الخفي الذي يجمعك بالموت؟

– دوماً، أفكِّر: لماذا أصبح الموت تيمة رئيسية في كلّ كتبي؟ حقيقةً، لا إجابة لديّ، لكن هناك جاذبية في الكتابة عن الموت والحبّ، وأنا متورِّط في التفكير والعيش والكتابة عن هذه المتلازمة.

في رواياتك، تعود إلى حقبات زمنية مختلفة، كالثمانينات «مديح الكراهية»، والسبعينات «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، والقرن التاسع عشر وبداية العشرين «لم يُصَلِّ عليهم أحد». هذا الشغف بالبحث التاريخي لديك، كيف تتحدّث عنه؟

– فقط، في «لم يُصَلِّ عليهم أحد» عدت إلى التاريخ، وكان يجب أن أجيب عن عدّة أسئلة بدأت التفكير فيها منذ عام 2006، حين بدأت أفكِّر في كتابة هذه الرواية، وعام 2008، حين بدأت بكتابة الملاحظات، كانت النتيجة التي أعرفها، مسبقاً، هي أن التاريخ لم يتوقَّف عن إعادة إنتاج نفسه. «مديح الكراهية»، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» من الأعمال المعاصرة، مازلنا نرى شخوصهما بيننا، لذلك لا أعتبرهما من روايات عن التاريخ، ولي عودة إلى التاريخ لكن ليس الآن، قد يكون بعد سنتين أو ثلاث. لديَّ، أيضاً، حكاية كبيرة أعمل عليها منذ سنوات. نعم، هناك جاذبية كبيرة في أسئلة التاريخ.

تبدو مُقلّاً في الكتابة، إلى حدّ ما، بعيداً عن الغزارة التي نعهدها من كُتّاب متفرّغين للكتابة، إذْ ثمّة فترة زمنية لا بأس بها بين إصدار رواية وأخرى؟

– الكتابة، عندي، ليس معناها النشر. غالباً، أعيد كتابة روايتي بمسوَّدات كثيرة: في «لم يُصَلّ عليهم أحد» أعدت كتابة الرواية 19 مرّة، وحين انتهت نسختها الكاملة، سنة 2017، كنت في المسوَّدة التاسعة أو العاشرة، لكن ذلك اقتضى مني قرابة سنة ونصف، والعمل لمدّة عام مع صديقتي المحرِّرة في (دار هاتشيت أنطوان) رنا حايك، وفيما بعد مع المحرِّرة في (دار العين) أريج جمال، رغم أن رنا كانت تتابع أوائل المسوَّدات، ونتحدَّث، مطوَّلاً، عن النسخ المقبلة. أحبّ هذه الطريقة في العمل، فحين يذهب الكتاب إلى المطبعة أفقد أيَّة علاقة معه، وللأبد.

نلت، في مسيرتك الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، جوائز عدّة، أبرزها جائزة نجيب محفوظ. كذلك ترجمت أعمالك إلى العديد من اللغات. ترى، كيف تنظر إلى تجربتك، وهل نلت الحفاوة المرجوّة؟

– الشيء المؤكَّد أن أعمالي استطاعت أن تدافع عن نفسها، ولم تستعمل وسائل الغشّ والنفاق والكذب والحسد، و(طقّ البراغي)، والاتِّكاء على شهرة كُتّاب آخرين للترويج، ولم تدخل في فلك العلاقات الاجتماعية، فكما ترى هناك أساليب جديدة للترويج، خاصّةً بالنسبة إلى كُتّاب وكاتبات يعتبرون الوصول إلى الشهرة قضيّة حياة أو موت، وهنّ مستعدّات لفعل أيّ شيء من أجل الوصول إلى الجوائز والشهرة التي أعتقد بأنها أسوأ ما يمكن أن يحدث لكاتب أو كاتبة. ليس لديَّ مظلومية، فكتبي تدافع عن نفسها، وتكسب قرّاء جدداً، كلّ يوم، ولغات أجنبية بشكل دائم، وتغري بعض الحاسدين والحاسدات ليتمسَّحوا بها من أجل أن يصيبهم نتف من شهرة.

برأيك، إلى أيّ مدى استطاعت الرواية السورية أن توثّق الألم السوري الراهن؟

– حاولت، وتحاول، وستبقى تحاول. قضيّة الكتابة عن الألم السوري الراهن لن تتوقَّف؛ لذلك هي ليست حكاية واحدة سنكتبها وننتهي منها، سيبقى السوريون، والعالم معهم، يكتبون وينتجون أفلاماً لأكثر من خمسمئة سنة عمّا حدث خلال السنوات العشر الماضية؛ لذلك، إن العمل مستمرّ.

إلى جانب أعمالك الروائية، كتبت عدداً من المسلسلات التلفزيونيّة المهمّة، إلى أي مدى يستفيد الروائي من كتابة السيناريو؟

– الروائي يجب أن يستفيد من كلّ شيء. أفادتني الدراما كثيراً، خاصّة في الموضوع المالي، والتقني. أعتبر ما كتبته للدراما كان تجربة أولى للَّعب وكيفية البناء والتعاطي مع عدد كبير من الشخصيات.

هل هي الرغبة في التنوُّع والانتقال من مجال إبداعي إلى آخر، أم ماذا؟

– الموضوع كان في غاية البساطة. حاجتي للمال هي التي أوصلتني إلى الدراما التي فتحت لي ذراعيها، وجعلتني لاعباً أساسياً في أثناء سنوات الإنتاج، وأقصد: من عام 2000 حتى 2010.

في السنوات الأخيرة من المأساة السورية، أصبح قسم كبير من السوريين خارج بلدهم، حيثُ ظهر ما يسمّى (ظاهرة الأدب السوري في المهجر). هل من الممكن أن يؤدِّي ذلك إلى تشكيل ثقافتين سوريَّتين؛ واحدة في الداخل، وواحدة في المهجر؟

– سيكون لدينا كُتّاب مهاجرون لا أدب سوري في المهجر، ولن يختلف ما سيكتبه هؤلاء الكُتّاب عن أدب الداخل، ما داموا يكتبون باللّغة العربيّة عن مواضيع الحياة السورية.

لمن يقرأ خالد خليفة؟ وهل من مشاريع جديدة لديك؟

– أعيد قراءة الكلاسيكيات، وأقرأ كلّ كتاب أستطيع تجاوز ربعه الأوَّل. نعم، هناك مشاريع أعمل عليها. أنا لا أتوقَّف عن العمل.

الدوحة

——————————

حوار خاص مع الروائي السوري خالد خليفة

خالد خليفة للناس نيوز : أصبحت أقل ثقة بخبرتي وأخاف الكتابة …

السيناريست خالد خليفة في مقابلة خاصة لجريدة الناس نيوز الإلكترونية الأسترالية

حوار عتاب لبّاد

17 حزيران 2020

فيما تذهب إليه الرواية بين الحلمِ الممعنِ في سحريته لواقعٍ مغدقٍ في حلمه بحوامل القلق المتلازمة مع إنسانه المحموم بنزعته الإنسانية على مستوى التجربة الروائية التي لم يجعل من آخر عتباتها التي أسست لترجمتها لغير لغة عربية ولا الجائزة بل تعيده إلى قلقه البكر كمبدع.. وعلى مستوى الواقع الذي يعايشه إنسانه بإصراره الواثق بضرورة حضور إنسانيته كقيمة مرفوعة..

خالد خليفة الروائي والسيناريست السوري في هذا اللقاء

    _ هل تفتقد حلب؟..

    دوماً أفتقد حلب، لكن في السنوات العشر الأخيرة بدأت أعتاد على حياتي الجديدة بعيداً عن حلب، مع يقيني بأن حلب أصبحت بعيدة ولن آْعود لأقضي سنوات شيخوختي فيها، كما يفعل المتقاعدون. لكن في كل زيارة تعود حلب لإشعال نيران القلق مرة أخرى ومن جديد تبدأ سيرة الحنين والنبش بما تبقى من ذاكرة ما أسميه سنوات حلب.

2 هل تلزم بالكتابة بشكل يومي أم أن الكتابة عمل مزاجي لخالد خليفة؟.

    منذ ثلاثين سنة وأنا أكتب يومياً لمدة ست ساعات بكل انضباط، لكن في السنوات الخمس الماضية تراخى هذا الانضباط، وبدأت الأوقات المنتظمة تتخلخل، منذ شهرين تقريباً بدأت بالعودة والتفكير في الانتظام مرة أخرى خاصة وأن المعارك الحربية توقفت، مما يوحي بأن وضع المدينة أفضل الآن عنه من السنوات العشر الماضية.

. 3 ما الذي اختلف في رواية خالد خليفة بين ( حارس الخديعة) و ( لم يصلِّ عليهم أحد)

    لا أعرف أنا أصبحت أقل ثقة بخبرتي، أصبحت أكثر ترددا وخوفا من الكتابة. أما ما طرأ من تغييرات على الأعمال لا أعرفه ولست مهتماً للتفكير فيه.

4_ ( لاسكاكين في مطابخ هذه المدينة ) أتممتها في واقع عصيب سوريا وعربيا, ما مدى تأثير الواقع والوضع السياسي على الروائي.

    بدأت كتابة لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة عام ٢٠٠٧ في برنامج أيوا للكتابة في الولايات المتحدة، وأنهيتها سنة ٢٠١٣، وهاتان السنتان القاسيتان اللتان مرت بهما البلاد كنت أراجع فيهما مسودات الرواية لم تجعلني أستسلم لحرارة الحدث، بقيت أكتب كما هو مخطط للرواية ولم يتغير شيء رغم الإغراءات بإدخال أيام الثورة الأولى إلى متن الرواية، الكتابة بالنسبة لي عمل في منتهى الجدية ولا مكان للخفة فيه.

. 5 ما هي التحديات التي تواجهك في فترة البحث عن المعلومات والشخصيات في رواية مديح الكراهية؟..

    في مديح الكراهية كانت الوثيقة متوفرة بكثرة لكن يجب لملمتها، كتب عن تنظيم القاعدة، تجربة الإسلاميين، تاريخ الأحزاب الإسلامية، وما عشته مع أبناء جيلي في حلب في تلك السنوات الحارقة التي أنهت أي أمل بعودة الحياة النقابية أو النيابية أو حتى جزء منها، النظام أفصح عن مشروعه بحجة التصدي للإخوان المسلمين. ذات يوم قريب وبدأت أكتب فصلا عن مطبخ وظروف كتابتي لمديح الكراهية وسيصدر ضمن كتابي القادم عن الكتابة الذي اقترب من نهايته.

6 ما أهمية الجوائز الأدبية..وهل تخدم الحقل الثقافي.

    الجوائز لها إيجابيات وسلبيات، وما قلته لا يعني شيئاً، سأخبرك أنا أحب الجوائز لكني لن ولم أسعَ إليها، ودوماً أقبل الخسارة، وهذه التجارب في السنوات الأخيرة واشتباك نصوصي مع جوائز عالمية ووصولها إلى مراحل متقدمة جعلتي أفكر فعلاً بخوف من الجوائز، وبدأت أستعد لمواجهة أي طارئ قد يحدث. الأمر أصبح معقداً وخرج من إطار أنني أحب التسلية مع رفاقي وأصدقائي وغالباً الجوائز تشكل سبباً لهذه التسلية والاحتفالات.

لا يمكن الحديث بعجالة وتقييم كواليس منح الجوائز وطريقة هذا المنح. القصد ليست بهذه البساطة التي نتخيلها خاصة في الجوائز العالمية الكبيرة.

. 7.. هل لديك طقس معين للكتابة

    لدي انضباط، حين أكون أعمل أكتب يومياً لساعات محددة تتراوح من خمس إلى ست ساعات، وعادة ما يبدأ العمل في وقت معين لا يجوز خرقه أو تبديله، للعادة تأثير كبير على الإنتاج، وكتبت لسنوات طويلة في المقاهي، ومتطلباتي بسيطة لكنها صارمة، طاولة متينة في مقهى مريح يحب الكتاب والكتابة، وقهوة طيبة، وماء بارد فقط. هذه متطلباتي التي تتغير اليوم وانتقل إلى الكتابة في المكتب.

8 من هو الروائي العالمي المفضل لخالد خليفة؟.

    ماركيز ووليم فولكنر وديستوفسكي ونجيب محفوظ وأسماء أخرى كثيرة أحياناً أشعر بحاجتي لٌعادة قراءة هنري ميلر، أحياناً أشتاق لقراءة ديستوفسكي. لا يمكن الاكتفاء بكاتب واحد.

9.. تتعلم التصوير والرسم.. هل تهرب من الكتابة؟

    10.حتى لو هربت من الكتابة فهي لن تتركني، اليوم أشعر بأنه لدي وقت فائض كنت أصرفه في كتابة المسلسلات من قبل, وتعثر الإنتاج اليوم جعلني أوقظ أحلاما قديمة، الرسم والتصوير والموسيقى أحلام قديمة تخليت عنهم من أجل الكتابة واليوم تفسح الكتابة لهم هامشاً صغيراً ليتواجدوا في حياتي وأشعر بسعادة لاختبار فن آخر وأقصد الرسم.

10.. من هي الشخصية في رواية الموت عمل شاق التي تتمنى أن تكون حقيقة؟

    11. بدون نقاش بلبل، أعتقد بأنني أراه كثيراً في كل مكان وزمان. \

تصوير : ربيع محمد

11.. هل ننتظر منك نصاً للدراما قريباً؟.

    12.هناك أكثر من نص جاهز لكن لا يوجد إنتاج لائق لذلك لا أعتقد هذه السنة, الأمر مرتبط كله بما سيحدث في سوريا خلال الأشهر المقبلة.

12 مديح الكراهية ترجمت إلى ثماني لغات…والموت عمل شاق ترجمت إلى ١١ لغة بالإضافة إلى أكثر من جائزة عالمية وتواجدت في آٌغلب القوائم، وهل الترجمة تنصف النص الأصلي؟

    13. لا أعرف فعلا ما هي ميزة هذه الروايات لكن اليوم كل رواياتي مدرجة في مشاريع ترجمة وفي لغات مثل الإيطالية والألمانية والهولندية, نعمل مع الناشر نفسه لذلك الترجمة ستأتي بشكل تلقائي لبقية النصوص. يجب أن نقرأ ماذا يكتبون عن النصوص التي ترجموها لنعرف لماذا يترجمونها.

الناس نيوز

——————————

خالد خليفة: أكتب عن ضحايا لم تنصفهم العدالة

بهاء إيعالي

18 مارس، 2020

يحتل الروائي السوري خالد خليفة (1964) مكانة مميزة بين الروائيين العرب والسوريين لا يختلف عليها اثنان. فصاحب “مديح الكراهية” يعود دائماً إلى المسكوت عنه في التاريخ القريب والبعيد، معرِّياً ما خفي منه، بأسلوبٍ تخييليّ خلّاق يستند إلى مرويات شفوية ومكتوبة. حضور اسم خليفة اقترن بأسماء روايات تقرأ بلغات عالمية، الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والألمانية والإيطالية، منها “مديح الكراهية”، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”الموت عملٌ شاق”، و”لم يصلّ عليهم أحد”. وهذه الأخيرة صدرت في منتصف عام 2019، واختيرت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لعام 2020. “ضفة ثالثة” التقت خالد خليفة، في حديث عن روايته الأخيرة، وعلاقته بالجوائز، وأثر كتابة السيناريو على تجربته:

الإفلات من العدالة مستمر

(*) بالحديث عن روايتك “لم يصلّ عليهم أحد”، نجد أنّها واجهة لواقعٍ متكرّر عبر التاريخ في أزمان الكوارث الطبيعية والسياسية. من هم الذين لم يُصلّ عليهم؟

– العنوان قد يكون فخاً لما نستطيع قوله. دعنا نعيد صياغة السؤال كالتالي: من هم الذين قتلوا في كل الأزمنة ولم تنصفهم العدالة، ولم يدفع قتلتهم الأثمان؟ الكوارث الطبيعية أمر قدري نستطيع تفهمه، لكن المجازر التي وقعت في القرن التاسع عشر، وما قبله، لم يحاسب مرتكبوها حتى الآن.

نحن نتحدث عن مئات آلاف الضحايا، ومنها مجازر تعرض لها السريان على أيدي العثمانيين في مراحل مختلفة من احتلالهم لسورية والعراق. وما زالت المجازر والقبور الجماعية مستمرة، وهؤلاء الضحايا لن يصلي عليهم أحد أيضاً، والإفلات من العدالة مستمر، وسيبقى مستمراً إلى وقت ليس بالقصير.

(*) تعود في الرواية إلى سورية القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين. هل أنت في صدد اختيار منهجٍ جديد في الكتابة، أم أنّ النص أخذ مساره الخاص دون أن يكون نهجاً مستمراً في الكتابة؟

– في كل رواية هنالك سؤال أولي ورئيسي يجب الإجابة عنه، قبل بدء بناء العمل: ما هي الضمائر المستخدمة؟ التقنيات؟ مستوى اللغة؟ كل هذه الأسئلة قد لا تجد أجوبة نهائية، خاصة إذا علمت مثلاً بأنني أكتب ببطء شديد، وأعيد الكتابة مرات عديدة. في هذه الرواية، احتجت إلى 11 سنة منذ ولادة فكرتها الأولى أثناء تصويري لبرنامج وثائقي في الجزيرة السورية، ورأيت هناك الكنائس المهجورة، قرى سريانية فارغة بالكامل. سمعت حكايات مؤلمة عن الأرمن واليهود والسريان والأكراد، وسمعت حكايات عن تاريخ أمكنة، ومنها حكاية كنيسة المالكية التي أشعلت الشرارة عام 2006، لتبدأ رحلة بحث طويلة، وكتابة (رشز)، واختبار تقنيات وشخصيات. وكتابة الرشز هي الكتابة الأولى الحرة، يجري فيها اختبار الحكايات والشخصيات والضمائر. تخللت تلك الكتابة رحلات إلى نصيبين، وماردين، وكانت الرواية تتقدم ببطء شديد، إلى أن تجمعت لدي صفحات كثيرة فوضوية. في عام 2015، بدأت ببنائها، وكنت مقيماً في بوسطن.

وسأختصر لأني أستطيع الحديث ساعات طويلة عن كتابتها من الفكرة الأولية إلى آخر جملة من النسخة النهائية التي انتهت عام 2017. يكفي القول بأن مسوداتها وصلت إلى 19 مسودة، وكان من الممكن ألا ينتهي زمن كتابتها. جاذبيتها بالنسبة لي حفرت عميقاً في حياتي. وعلمتني كثيراً عن التقنيات. قد يكون لهذه الرواية مسارها الخاص الذي قد لا يتكرر! لا أعرف.

(*) في الرواية شخصيتان أساسيّتان إن لم نقل رئيسيتين، وهما حنا كريكوس، الناجي من مقتلة عائلته، والرجل الماجن اللاهي الذي يتحوّل إلى ناسكٍ في دير زهر الرمان بعد موت زوجته وابنه، وشخصية زكريا البيازيدي، ابن المصرفي أحمد، والشغوف بتربية الخيول وحفظ أنسابها. ما هو معيار اختيار شخصياتك الأساسيّة في رواياتك؟

– لكل رواية معيارها الخاص. هنا كانت الشخصية الرئيسية هي حنا، ثم أحمد البيازيدي، وسعاد، وبعد ذلك أتت شخصية زكريا، ثم عازار، وسارة، ووليم، إلى درجة فكرت بأنها قد تكون رواية عن خمسة أصدقاء. كانت رواية عن هؤلاء الأصدقاء الخمسة، عن مصائرهم، وعن تحولات حنا التي كانت تنمو وتقود كل التغييرات. سأخبرك شيئاً: طلبت من صديقي عائد أبو حسون، وهو كاتب وشاعر مقيم في الكويت منذ زمن طويل، هجر الكتابة، وعاد إليها من جديد، وهو صديق عمر، طلبت منه قراءة المسودة، وفاجأني بجرده لشخصيات العمل الرئيسية والثانوية، وفوجئت بأنها تجاوزت التسعين شخصية، كنت أنظر إلى الجدول، وأحاول رسم شبكة العلاقات بين هذه الشخصيات، فحذفت بعض الشخصيات الثانوية. كان المشهد مرعباً بقدر ما كان باهراً، إنها رواية أجيال، منفتحة على إضافات قد لا تنتهي لو أردنا. أما عن سؤالك عن المعيار، إن كان هو نفسه في كل الروايات، أو إن كان يشكل قاعدة رئيسية، فإنني لا أساعد شخصيات غير قادرة على العيش. ولا يحزنني رحيل الشخصيات المبتورة، لكن تفتنني الشخصيات التي تدافع عن وجودها.

أتعامل بقسوة شديدة مع الشخصيات التي تريد أن تأخذ أمكنة غيرها، ففي “مديح الكراهية” نتذكر أن شخصية رضوان كانت تريد الهيمنة على كل شخصيات العمل. وهنا أرادت كل من شخصية سعاد، وحنا، وعازار، ووليم، وزكريا، إعادة اللعب مرة أخرى، لذا كان تدخلي صارماً. وهنا يجب ذكر شخصية عائشة وجاذبيتها، ووليم ومريم، كل هذه الشخصيات كانت تخبرني بأن الكتابة لن تنتهي لو أردت. اضطررت إلى التوقف عن الكتابة هناك، على الرغم من وجود خيار آخر، لن أتحدث عنه الآن. بالنسبة لي، أعيش هاجس المكان اللائق بالشخصية، ولم أجبر شخصية على الوجود، دوماً الباب مفتوح لأي شخصية تريد المغادرة، ولا أفكر في بطولة مطلقة لشخصية واحدة، ما عدا بلبل في (الموت عمل شاق)، التي فكرت فيها ربع قرن تقريباً، وحين وجدت لها مكانها في كانت سعادتي لا توصف، لكن في الوقت نفسه أخضعتها للمعايير نفسها. وأذكر أيضاً شخصية الراوية في (مديح الكراهية)، التي خضعت للمعايير نفسها.

نستطيع عولمة مدننا عبر الكتابة

(*) تحضر مدينتك حلب في هذه الرواية، كما تحضر في روايات سبقتها، بسرد تفاصيل دقيقة عن أماكن وشخصيات مختلفة. وتشير إلى مكانتها لديك بقول الخياط جورج “لماذا نسافر إن كان العالم يأتي إلى حلب عاصمة العالم؟”. إلى أيّ حد يمكن للروائي أن يعولم مكانه في سرده؟

– بالتأكيد، نستطيع عولمة مدننا عبر الكتابة، لكن مع حلب الوضع مختلف تماماً. فحلب، طوال تاريخها، كانت مدينة العالم (بالإذن من ربيع جابر). وفي اعتقادي، أن حلب، رغم أن الأضواء فيها تبدو منطفئة، وتقبع في الزاوية المهملة، هي مكان، وهي معنى لا يمكن للعالم أن يتجاهله. في القرن التاسع عشر، كانت حلب عاصمة العالم، مع إسطنبول، والبندقية، ومرسيليا، ومراكز أخرى. وحكاية حلب تبقى أكثر حزناً من أية مدينة أخرى، كانت تستطيع مع القاهرة والإسكندرية وبغداد والقدس ودمشق وفاس، منح العالم ما يحتاجه، لكن لم يسمح لها ولأخواتها القيام بدورها التاريخي، وجرى تهميشها وتدميرها. وما نراه اليوم من تدمير مادي حقيقي، وليس مجازياً، هو تتمة لما قام به الغزاة في القرون السابقة.

(*) تلمّح في فصل “الحبّ المستحيل” إلى انتشار الأفكار التحرّرية والقومية العربية بين مثقفي المدينة في تلك الحقبة، بشخصية عائشة المفتي المثقفة العائدة من إسطنبول. ما هو دور حلب تاريخياً في اليقظة العربية أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20؟

– كانت حلب عاصمة مهمة من عواصم التنوير، ولا يمكن الحديث عن ذلك الزمن من دون الحديث عن عبد الرحمن الكواكبي ورفاقه، وعن تجارب الصحافة في ذلك الزمن، والنوادي، والأفكار. كانت مدينة حية بكل ما تعنيه الكلمة، وعلى الرغم من آثار زلزال 1822، بقيت المدينة حية لعقود، إلا أن المنع السياسي المقصود، وتهميش دورها من قبل السلطات العثمانية، جعل نهضتها مبتورة.

كل الضحايا أهلي

(*) تذكر في الرواية المجازر التي ارتكبت في حقّ السريان في أوقاتٍ مختلفة، كمجزرة الموصل عام 1834، ومجزرة ماردين عام 1876، ومجازر سيفو عام 1915. ويبرز جانب الخوف لدى الضحايا في شخصية مارغو، الناجية من مجازر الموصل. ما الذي يدفعك إلى العودة إلى المأساة السريانية في هذه الرواية؟

– ببساطة، السريان أهلي. كل الضحايا أهلي، وأنا حفيدهم، الذي يشعر بدمائهم تسري في دمي. لم تكتب عن هذه الفظائع سوى أعمال قليلة، حتى التأريخ لهذه المجازر لم يجر بشكل ممنهج، إنه دفاعي عن المسكوت عنه في تاريخنا.

“اليهود كانوا عبر آلاف السنين جزءاً رئيسياً من سكان حلب، وبغداد، ودمشق، وسيبقى مكانهم فارغاً إلى حين عودتهم”

والحديث عن ذلك يشبه الحديث عن اليهود السوريين، مما يقع ضمن المسكوت عنه. أعتقد أن الكتابة، والروايات، قد تساعد البشر على فهم ما يحدث اليوم، لكننا نحتاج إلى شجاعة فتح كل الملفات المسكوت عنها وفضحها. ومارغو كانت ببساطة نموذجاً، مع أم الخير، للإسلام والمسيحية المتعايشين، رغم انتمائهما إلى ضفتين مختلفتين.

(*) ليهود حلب حضورٌ مهمّ في روايتك، عبر شخصية عازار إستنبولي، مهندس قلعة اللذة لحنا. هل هذا الحضور نوع من ردّ الدين لليهود الحلبيين خصوصاً، والسوريين عموماً، بمساهمتهم في بناء سورية الحديثة زمن العثمانيين؟

– إنه نوع من التذكير أن اليهود السوريين مواطنون، وسيبقون سوريين، مهما طال الزمان، لأننا لا نستطيع اقتلاع ذاكرة ممتدة عبر آلاف السنين بهذه السهولة. اليهود كانوا عبر آلاف السنين جزءاً رئيسياً من سكان حلب، وبغداد، ودمشق، وسيبقى مكانهم فارغاً إلى حين عودتهم. وأعتقد أن أغلب اليهود كانوا سيبقون في مدنهم ولو خيروا بين العيش في إسرائيل، أو مدنهم، كانوا سيختارون مدنهم. وما فعلته إسرائيل، بتواطؤ من أنظمة عربية، لتهجيرهم، لم يعد سراً.

(*) تتجلّى ظاهرةُ حبّ المغامرة والسفر نحو أوروبا لدى الحلبيين من أبناء الطبقة الميسورة، شأنهم شأن غيرهم من أبناء المدن والقرى السورية في القرن التاسع عشر. ما الذي بقي اليوم من الشتات الحلبي، والسوري عموماً، في بلاد المغترب؟

– أعجبني مصطلح الشتات الحلبي. بقي كثير، مما لا يمكن حصره بمفردات قليلة. وأعتقد، ذات يوم، سيعود كثيرون إلى مكانهم الأثير.

(*) يبرز في الرواية تعريفٌ للمقامر السعيد بخسارته، في شخصية عارف شقيق شاها، الذي يقول إن القمار خسارة أبديّة. يأتي هذا التعريف مرتبطاً نوعاً ما بتعريف دوستويفسكي للمنزلق بجحيم لعبة الروليت في روايته “المقامر”. ما هي الميّزات التي تختص بها صورة المقامرة في المجتمع الحلبي خصوصاً، والسوري عموماً، في نظرك؟

– من مراقبتي للمقامر وشخصيته، وأنا أحب الذهاب إلى الكازينوهات، وأحب المدن التي تعرف صناعة الكازينو، بعيداً عن مفهوم لاس فيغاس التي لم أحبها كمدينة، ولم أحب فكرة الكازينو فيها،

وقد تستغرب إذا أخبرتك بأنني قصدت زيارة أهم كازينوهات العالم، وتأثرت بمشاهداتي للكازينو وحياته في مدينة مثل ماكاو في الصين، ومن اختلاط ذاكرة الطفولة التي كنت أرى فيها هذا النوع من المقامرين السعداء في مطاعم (كفر جنة)، القرية التي تبعد عن قريتي خمسة كيلومترات فقط، كل هذه الصور أنتجت شخصية عارف المقامر السعيد. وهذا يختلف عن توصيف انزلاق بطل دوستويفسكي العظيم في جحيم لعبة الروليت. قد يكون نوعاً قريباً من المقامر الشعبي القريب من مفردات بيئته.

(*) تتشابك حكايات الرواية بأسلوب القفز من دائرةٍ إلى أخرى، فنجدها تبدأ بالكارثة المفصلية، وهي طوفان الفرات في قرية حوش حنا عام 1907، ومن بعدها عودة إلى الخلفية التاريخية للحادثة، قبل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الكارثة، بدءاً من الفصل السادس “الطريق الشاق”، وصولاً إلى نهاية حنّا في النهر. تحت أيّ مسمّيات ومعطياتٍ يمكن للقارئ أن يستشف أسلوب خالد الروائي هنا؟

– لا أعرف فعلاً، لكنني كنت أشعر بأنني أضع رأسي على طاولة القمار، وألعب عليه.  كنت أسأل أصدقائي الذي قرأوا مسودات الرواية إن شعروا، كقراء، بملل، أو اختلاف في التكنيك. أغلب الإجابات شجعتني على المقامرة برأسي كما أسلفت، ولا أعرف إن كنت قد نجوت أم لا.

لعبة التخفي

(*) هذه الرواية كالتي سبقتها من رواياتك، لا يحضرُ الحوارُ فيها إلا بشكلٍ مضمرٍ في سياق السرد. هل ترمي من خلال هذه التقنية لأن تترك للقارئ حريّة تخيّل الصوت لدى الشخصية في النص؟ كيف ذلك؟

– منذ روايتي الأولى، “حارس الخديعة”، أحببت لعبة التخفي هذه، وما زلت حتى الآن أعتبرها تقنية لم تنتهِ. لا أعرف إلى متى، لكن هناك أشياء تصبح مع الزمن جزءاً منك، ولا يمكن التخلي عنها ببساطة.

أحب الجوائز

(*) صنّفت “ليست ميوز” روايتك “مديح الكراهية” ضمن أفضل مئة رواية في كلّ العصور، وهي نفسها الرواية التي طرقت مجد البوكر العربية بوصولها إلى القائمة القصيرة عام 2008. كيف يمكن لخالد خليفة اليوم أن يشرح علاقته بالجوائز الأدبية العربية والعالمية التي له حضور دائمٌ فيها؟

– باختصار، حسمت هذه العلاقة الشائكة بأنني أحب الجوائز، ولا أسعى إليها، ولا يعنيني تجاهلها لي. وفي حال قدومها، يجب أن نعتبر بأن حظاً أصابنا، من دون أن ننسى بأن أعمالا عظيمة تجاهلتها الجوائز. الشيء الأخطر حول الجائزة: على الكاتب أن ينساها بعد أسبوع، إنها تثقل النص، وتغرق الكاتب في أوهام الشهرة التي لا يحتاجها الكاتب الحقيقي.

(*) لك مساهماتٌ قيّمةٌ في كتابة السيناريوهات في الدراما السوريّة، منها “سيرة آل الجلالي” مع هيثم حقي، و”المفتاح” و”هدوء نسبي” مع المخرج الراحل شوقي الماجري، وغيرها. ما أثر كتابة السيناريو على كتابة الرواية عندك؟

– قدمت لي الدراما التلفزيونية خبرات كبيرة، لكنها انتزعت مني وقتاً كنت أحتاجه. كتبت الدراما التلفزيونية من أجل المال. كنت أريد العيش. وأشعر اليوم بسعادة، لأنني غير مضطر لهذا، ولا أكتب إلا المسلسل الذي يعجبني، فما يأتيني من رواياتي يكفيني لعيش لائق.

(*) فازت المترجمة ليري برايس، أخيراً، بجائزة “سيف غباش بانيبال” عن ترجمتها لروايتك “الموت عملٌ شاق” إلى الإنكليزية. ما هي نظرتك إلى الأدب العربي المنقول إلى اللغات الأجنبية، وكيف تتعاطى مع ترجمة أعمالك؟

– سعيد جداً لفوز ليري بهذه الجائزة. إنها تستحقها عن جدارة، وأنا في طريقي إلى لندن للمباركة لها. أردت أن أكون إلى جانبها في هذه اللحظات المؤثرة.

“ما يأتيني من رواياتي يكفيني لعيش لائق”

أحب أن يشعر شركائي بأننا نقتسم المصير نفسه، وأعتقد بأن وضع أدبنا اليوم أفضل بكثير من العقود الماضية، والسنوات المقبلة ستشهد مزيداً من الترجمات، والاعتراف العالمي بلغتنا العظيمة.

————————–

عالم الكتب: الروائي السوري خالد خليفة

في الحلقة الجديدة نتحدث إلى الروائي السوري المعروف خالد خليفة من دمشق، كيف يعيش أجواء الحرب في مدينة يكتنفها الظلام واجواء المعارك.. كيف تحولت سورية على مدى نصف القرن الماضي إلى موضوع أثير لرواياته الثلاث “مديح الكراهية” و ” لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” و “الموت عمل شاق ” وهل تتحول الكتابة الى ترف عندما يموت الأحبة والاصدقاء.

https://www.bbc.com/arabic/media-39538811

———————-

الروائي خالد خليفة وقصص الموت المبتذل بسوريا

من أمسية الكاتب خالد خليفة في العاصمة البلجيكية بروكسيل

22/5/2016

فاتنة الغرة-بروكسيل

من الصعوبة بمكان أن يلتئم حشد كبير من الكتاب والأدباء العرب المقيمين ببلجيكا في أمسية واحدة، لكن ذلك تحقق بفضل الروائي السوري خالد خليفة، الذي كان أمس السبت ضيفا على رابطة الكتاب السوريين في مرسم الفنان التشكيلي السوري كيتو سينو بالعاصمة بروكسيل.

واتسمت تلك الأمسية بطابع الحميمية في الحوار، الذي أداره الشاعر هوشنك أوسي، باسم رابطة الكتاب السوريين، وبحضور أسماء بارزة في المشهد العربي مثل الروائيين العراقي علي بدر والمغربي علال بورقية وشعراء أمثال المصري عماد فؤاد والعراقي مهند يعقوب والمغربي طه عدنان.

وافتتح أوسي اللقاء بإثارة سؤال الموت في المنجز السردي لخالد خليفة، وهو ما رد عليه الضيف بالقول إن الموت هو أحد مواضيعه المفضلة، في ظل مفارقات يصل معها الموت إلى هذا الحد من الابتذال، ويفقد مهابته في الواقع السوري الذي بات يزخر بآلاف القصص التي جعلت من “الموت عملا شاقا”. وأشار إلى أنه لم يخطر بباله أن السوريين سوف يدفنون أحباءهم يوما ما في الحدائق، لأنهم لا يستطيعون إيجاد مدفن قريب.

وأوضح الكاتب أن روايته “الموت عمل شاق” بدأت من حادث شخصي عندما أصيب بأزمة قلبية؛ مما جعله يتساءل عما لو مات كيف سينقل أهله جثمانه لمقبرة العائلة.

وعن المقاربة بين “الموت عمل شاق” ورواية “مديح الكراهية”، أجاب خليفة بأن الثانية تمتح مادتها من تجربة قديمة عاشها السوريون وتمت كتابتها في لحظة باردة، بينما انبثقت الأولى من لحظة ساخنة وكُتبت في وقت حار.

وعن طقوس الإبداع، قال إن متعة الكتابة لديه تنتهي لحظة نشر الكتاب وهذا ما يجعله يكره -حسب قوله- كتبه، ولا يستطيع قراءتها بعد صدورها، ولا يرغب في الدفاع عنها، حيث إن لحظة صدور العمل تنهي علاقته به.

وعن وظيفة الكتابة، قال إنها تصفية حساب لحياته في العاصمة دمشق التي يقف يوميا فيها على عدة حواجز، ويعيش فيها تفاصيل لم يكن يتخيل أن يعيشها، لكنه لا يستطيع مغادرتها لأن بقاءه فيها يعني استمرار الأمل.

خالد خليفة:

إن سوريا تزخر بآلاف القصص التي جعلت من “الموت عملا شاقا”، ولم يخطر بباله أن السوريين سوف يدفنون أحباءهم يوما ما في الحدائق لأنهم لا يستطيعون إيجاد مدفن قريب

وقبل أمسيته مع رابطة الكتاب السوريين، كان خليفة ضيفا على مؤسسة “الباسابورتا” في بروكسيل، وفي تصريح للجزيرة نت قال إن اللقاء في مرسم الفنان كيتو سينو كان ذا طعم خاص لأنه نشاط سوري عربي دار فيه الحديث بالعربية بعفوية، ودون لغة وسيطة، وهذا ما يخلق حميمية بين الكاتب والجمهور.

روائي مهم

وفي تصريح للجزيرة قال كيتو سينو إنه استضاف هذا اللقاء في مرسمه لأن خالد خليفة “صديق جامعة قديم، كما أن الغربة تجمعنا بشكل ما لنسترجع الذاكرة، وهذا المكان هو معمل قديم حولته لمرسم، ورأيت أنه يمكن أن يحتضن فعالية من هذا النوع الذي نحتاجه هنا في بروكسيل”.

ويعدّ اللقاء مع خالد خليفة أول نشاط في العاصمة بروكسيل لرابطة الكتاب السوريين التي ارتأت أن تحتفي بالكاتب أثناء تواجده في بلجيكا بصفته “روائي مهم وله حضوره على المشهد العربي والدولي، ورواية “الموت عمل شاق” لها تأثير خاص لأنها تعالج الوضع السوري الراهن”.

يذكر أن خالد خليفة صدرت له عدة روايات، منها دفاتر القرباط (2000) ومديح الكراهية (2006) ولا سكاكين في مطابخ هذه المدينة (2013)، اللتان وصلتا للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، ونالت الأخيرة جائزة نجيب محفوظ للرواية في عام صدورها.

المصدر : الجزيرة

———————-

“عالم الكتاب” مع خالد خليفة

Apr 27, 2014

————————-

خالد خليفة: ما يجري في سوريا ثورة وليست حربا أهلية!

20.03.2014

بعدما اتفقت DW عربية مع الروائي السوري خالد خليفة على تصوير بورتريه تلفزيوني عنه، تراجع الكاتب المعروف بمواقفه المناهضة للنظام في بلاده عن ذلك، مفضلا إجراء حوار مع الموقع الالكتروني والذي اخترنا منه هذه المقتطفات.

DW عربية: لماذا تراجعت عن فكرة تصوير بورتريه تلفزيوني، كما جرى الاتفاق مع قناة DW؟

خالد خليفة: لا أظن أن هذا الأمر سيفيد في شيء. ومهما قلت (في هذا البرنامج)، فلن يكون لذلك أي معنى، فالعالم ترك سوريا لمصيرها. أشعر وكأنني أتسول، عندما أكرر نفس الكلام: “أرجوكم، افهموا ما يجري هناك. هذه ثورة وليست حرباً أهلية”. وفي كل الأحوال لا يهم الناس في سوريا ماذا يفكر الأوروبيون بشأنهم.

وماذا عنك أنت؟ هل يهمك كيف يفكر الأوروبيون بشأن السوريين؟

إنه أمر محزن أن تبدو جميع القيم التي يتم التحدث عنها باستمرار في الغرب وكأنها تسري فقط على الدول الغربية. ففي هذه الحالة تفقد حقوق الإنسان طابعها الكوني. وأرى أنه من غير المنطقي أن يكون الأمر كذلك، خاصة وأن الأوروبيين أنفسهم تجرعوا مرارة المعاناة لمدة طويلة. والآن يأتون ليقولون كل ما يحدث خارج حدودنا لا يعنينا. إذن، إذا كانت مصالحكم أكثر أهمية من قيمكم، فهذا يعني بالنسبة لي أيها الأوروبيون أنكم تعانون من أزمة أخلاقية.

سُئلت كثيراً عن سر تمسكك بالبقاء في سوريا. كيف ترى هذا السؤال الذي تكرر كثيراً على مسامعك؟

هذا السؤال يثير استغرابي. إنه أمر عادي أن أعود إلى سوريا. فهي وطني وهناك يوجد بيتي وأصدقائي. وفي سوريا تجري أحداث ثورتي، صحيح أن الوضع حاليا صعب هناك. ولكن هذا هو قدرنا. وهذه هي فرصتنا للتمسك بالأفكار التي كافحنا من أجلها منذ أربعين عاما. كافحنا من أجل التغيير ومن أجل الحق في الحرية والكرامة. سيكون من غير المنطقي تماما مغادرة الوطن في هذا الوقت الذي بدأت فيه هذه الأفكار تتحول إلى حقيقة. أنت مجرد فرد من بين كثير من الناس لازالوا يعيشون هناك، ولكن بإمكانك أن تقدم مساهمة إنسانية وثقافية.

ماذا يمكنك أن تقدم كفرد هناك؟

مجرد تواجدك هناك يعطي الأمل لكثير من الناس، خاصة الشباب منهم. بإمكانك كأديب أن تساعد الناس على التفكير بطريقة سلمية مهما حدث. وعلاوة على ذلك، فأنت شاهد على التاريخ. في الخارج لا يمكنك أن تكون شاهدا على ما يجري حتى ولو تابعت الأخبار التي لا تعكس الحقيقة بالكامل. كل يوم يفقد كثير من الشباب حياتهم، ورغم ذلك يصر آخرون على التضحية بحياتهم. لا يمكنك أن تقول: أنا كأديب أكثر قيمة من هؤلاء الناس. من يعرف، ربما بموتهم، نكون قد فقدنا المئات من الأدباء الذين ربما كانوا سيصبحون أحسن مني بكثير. فكرة أنني اخترت الذهاب بمحض إرادتي إلى مكان لا يخلو من الخطر هي فكرة ليست صحيحة تماما، وأنا أتمنى المزيد من الشجاعة والصبر حتى لا أضطر لمغادرة سوريا.

أنت تعيش في سوريا وعايشت الأحداث منذ بدايتها. ماذا تغير بالنسبة لك؟

لقد تغيرت كثير من الأشياء. سوريا حزينة الآن ولم يعد وجود لسوريا القديمة ولا نعرف كيف ستكون سوريا الجديدة. إنها مرحلة تحول صعبة عنوانها الدم والمعاناة. ثمن سوريا الجديدة مرتفع جدا الآن، ومهما حققنا من أهداف فإننا لن نوفي الضحايا حقهم.

هل يعني هذا أن كل ما تمّ تحقيقه إلى حد الآن، لا يستحق كل هذه التضحيات؟

الثورة كانت ولا تزال ضرورية. ورغم ذلك أتساءل، لماذا كان يجب علينا أن نقدم هذا الكم الهائل من الضحايا؟ بكل بساطة، تبيّن مع الوقت أنه كان علينا أن نضحي بحياة 50 ألف سوري من أجل الحفاظ على مصالح إيران على سبيل المثال. وكان يجب أن يموت 50 ألف آخرين من أجل مصالح روسيا أو الصين أو غيرهما… لا نموت من أجل ثورتنا فقط. نحن نكتشف فجأة بلدنا وعلاقاته المعقدة وسياقاته السياسية من جديد. نكتشف وجود تسوية دولية بخصوص استقرار المنطقة على حساب حريتنا. توجد هذه التسوية منذ أكثر من خمسين عاما، وعندما تم الاتفاق عليها، لم يذكر أي أحد أن حرية السوريين يجب أن تكون جزءاً من هذا الاستقرار.

تتفاوض حاليا مع دور نشر ألمانية تسعى إلى توزيع أعمالك الأدبية في ألمانيا. ماذا يعني بالنسبة لك وصول أعمالك إلى القارئ الألماني؟

لا أعرف إن كانت كتبي ستلاقي نجاحا في ألمانيا أم لا. لكن بالنسبة لي، هذه لغة جديدة وثقافة راسخة أنجبت الكثير من المفكرين. الألمان شعب مثقف عانى كثيراً وقدم العديد من الضحايا؛ فبالتأكيد أنهم سيحسون أكثر من غيرهم بما نعانيه في الوقت الراهن.

———————-

خالد خليفة: الرواية ترمم الخراب الإنساني

احاوره هيثم حسين

28/7/2013

يعود الروائي السوري خالد خليفة في روايته الجديدة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” إلى معشوقته مدينة حلب، من ذاكرتها الموشومة، يكتب عن الأسى والخوف والأحلام الموؤودة، بعد أن اقتحم في “مديحة الكراهية” من بوابة تلك المدينة مرحلة الثمانينيات الدامية وصراعاتها وأسئلتها وآلامها، وإحباطات جيل من أبنائها.

منعت “مديح الكراهية” من التداول والنشر في سوريا، لكن صاحبها الذي يساند الثورة ما زال يقيم في دمشق، على أصوات أزيز الرصاص والقصف والتفجيرات والقتل اليومي، يتعرض للإيقاف والمنع من السفر، والمضايقات لكنه يحاول أن يكتب وهو يشهد عودة “مديح الكراهية” يشكل أعمق من حقبة الثمانينيات.

صاحب مسلسلات “سيرة آل الجلالي” و”قوس قزح” و”باب المقام” و”هدوء نسبي” و”المفتاح” يعشق دمشق ولا يتركها قليلا إلا ليعود إليها رغم ما يجري فيها وحولها، تعرض قبل فترة لنوبة قلبية ألزمته المستشفى أياما عندما ضعف أمام مشهد لم يعد يحتمل للقتل والدمار اللذين يشهدهما بلده.

يعتقد الروائي والسيناريست السوري أن على الثقافة ألا تتخلى عن دورها الريادي في المجتمع، ويرفض أن يتحول المثقفون إلى أناس منفصلين عن واقعهم أو عبيد للدكتاتور. كما ينادي بوجوب الحفاظ على شرف الرواية والثقافة ودورهما في التأسيس لمراحل لاحقة بوعي ومسؤولية.

الجزيرة نت أجرت الحوار التالي مع خليفة بمناسبة صدور روايته الجديدة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” في القاهرة مؤخرا.

تناولت في روايتك “مديح الكراهية” مأساة الثمانينيات القريبة، وغامرت بدخول حقل ألغام سعت السلطة إلى التعتيم عليه، ما الجديد الذي عالجته في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”؟

– كلّ رواية إذا لم تكن جديدة أو تحمل بذور أسئلة جديدة لا داعي لكتابتها، وإن كُتبت لا داعي لنشرها، وهذا يقلقني دوما في بحثي الدائم عن روايتي الجديدة التي لم تكتب، وهذا القلق لازمني في رواياتي الأربع التي أعتقد أنّها لا تشبه بعضها، ويلازمني الآن في بداية كتابتي لروايتي الخامسة، البحث عن الفكرة الجديدة، البحث عن اللغة الجديدة والسرد وكل مكونات الرواية.

“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” رواية تختلف عما سبق من رواياتي بكل شيء، مكتوبة بلغة مختلفة وعن زمن مختلف، وإن كان الثمانينيات جزءا من هذا الزمن، هنا سيرة عائلة ومدينة وبلاد عاشت تحت وطأة قمع الحريات ومصادرة الحياة وتحطيم أحلام شعب بأكمله.

هل يمكن للكتابة تحت وطأة اللحظة الراهنة وضغطها أن تتخفّف من قيود الواقع وتكبح جماح الحماسة للانتصار للمستضعفين، ولاسيّما أنّ الراهن يظلّ محفوفًا بالمخاطر بحكم قربه وعدم انجلاء الملابسات تمامًا؟

– تختلف وجهات النظر ونجاحها بالنسبة لأفضل زمن كتابة عن حدث أو تغيير كبير أو ثورة كما يحدث الآن، أنا بطيء في الكتابة رغم أنّ حياتي سريعة جدّا، لا أستطيع كتابة رواية عن حدث حار وما زال يجري، رغم أنني قابل للتوريط والكتابة عمّا يحدث، لا توجد وصفة صحيحة هنا، هناك مَن يستطيع الكتابة، وهناك من ينتظر لقراءة سكون المشهد.

أنا أميل للكتابة الباردة عن الأحداث الحارة والكبيرة، لذلك لا فكرة لدي لكتابة رواية عن الثورة وبكل الأحوال المستضعفين يحتاجون إلى النصرة في كل الأوقات.

ما تعرّضت له روايتك “مديح الكراهية” من مصادرة ومنع وتقييد في سوريا هل جعلك حذرا في روايتك الجديدة أم أنه كان حافزا على تخطي الخطوط التي يجاهد الرقيب كي يكبّل بها المبدع؟

– لم أفكر يوما في قائمة الممنوعات، كما لم أرغب في العمل الاستعراضي لكسر هذه التابوهات أو الممنوعات، خاصة السياسية، كان همي الدائم كتابة رواية جيدة وعميقة، تستطيع البقاء والدفاع عن نفسها في المتغيرات، لذلك قللت دوما من فكرة منع روايتي.

لم أعتبر هذا المنع والمصادرة شيئا يستحق الحديث عنه، ومعركتي في الكتابة ليست مع مجموعة موظفين أمنيين وزائلين، بل معركتي مع نصي بشكل أساسي وأسئلة الكتابة وتقنياتها التي لم تتوقف يوما لتصبح نهائية.

ألا تكون أيّة مقاربة روائيّة للراهن السوري محكومة بالاجتزاء والقصور في ظلّ تعقّد الظروف، حيث الرصاصة تقتل الكلمة؟

– لن يستطيع  أحد الحكم حتى نرى هذه المقاربة، هناك كتاب لديهم قدرة فائقة على الكتابة عن الراهن، الأزمنة الحارة تثيرهم وتخرج أفضل ما لديهم، وأنا لست منهم، لذلك أعود إلى ما قلت من أنّه لا توجد وصفة ثابتة.

أحيانا تحتاج إلى حدث بسيط لكتابة رواية عظيمة، والراهن السوري يقدم بشكل يومي المئات من هذه الحكايات والأحداث، لكنّها تحتاج الصانع الأمهر، ودوما الرصاصة كانت تقتل الكلمة، لكن الكلمة في النهاية تستطيع البقاء وتجديد ذاتها وأدواتها، وهذه المعركة ستستمرّ طالما بقيت البشريّة وليست معركة طارئة تنتهي بنهاية حدث أو ثورة.

تأتي روايتك في وقت تطغى فيه أصوات البنادق على كل ما عداها، هل تراهن على أيّ دور للثقافة عموما، والرواية خصوصا، للمساهمة في أي حل مفترض أو التهيئة له؟

– بالتأكيد الثقافة لن تستطيع تقديم حلول خاصة فيما يحدث في سوريا، خاصة أن المسألة معقدة أكثر مما يظن الآخرون، لكن الثقافة يجب ألا تتخلى عن موقعها ودورها المهم أيضا.

إن لم يستطع المثقفون قيادة ثوراتهم، فعلى الأقل يجب ألا يتحولوا إلى خونة أو أناس منفصلين عن الواقع أو عبيد للدكتاتور، كحد أدنى، يجب الحفاظ على شرف الرواية والثقافة وعدم الاستهانة بالدور المقبل الذي يجب أن تلعبه في ترميم الخراب الإنساني.

المصدر : الجزيرة

—————————–

خالد خليفة يحاور المخرج السينمائي هيثم حقي

07-08-2009

لا يمكن اختصار هيثم حقي بصفة واحدة، ككل الحالمين الكبار الذين لا تكفيهم حياة واحدة للتعبير عن ذواتهم والدفاع عن مشاريعهم، لقد بدأ ضيفنا يتلمس بداياته مع تفتح وعيه الأول في منزل الفنان الكبير إسماعيل حقي، الذي وهب حياته ليلون حياتنا بلوحات ما زالت حتى الآن تربح معركتها مع التاريخ وتعتبر الآن تحفاً كلاسيكية، تقف إلى جانب لوحات الرواد التشكيليين من أبناء جيله كإرث ثقافي سوري خالد، من مكان مفعم بالصور الثابتة إلى الشغف بالصور المتحركة بدأت تجربة هيثم حقي المبدعة بأحلام كبيرة، وذلك بتفكيك العالم وإعادة تركيبه كصور متحركة تشكل أفلاماً مفعمة بحياة أخرى خالدة. المخرج السينمائي هيثم حقي

لم تتوقف تجربة هيثم حقي عند الإخراج السينمائي والتلفزيوني بل تعدته إلى الكتابة والإنتاج بمفهومه الشامل ومحاولته المستميتة للدفاع عن مشروع صناعة تلفزيونية وطنية قادرة على تجاوز الحدود وإبراز مدنية المجتمع السوري الذي لم يتوقف هيثم حقي عن الدفاع عنه لحظة واحدة، كما لم يتوقف عن دعم كل المشاريع التي تبرز هذه المدينة التي بدأ يشعر بوطأتها بعض صناع الدراما فتخلوا عنها ببساطة ورهنوا مشروعاتهم لمجموعة قيم متواطئة بشكل أو بآخر مع الأصولية التي تعصف بالمنطقة من كل جوانبها.

هذا الحالم الذي بدأ حياته طالباً في واحد من أهم معاهد السينما في العالم، وأقصد معهد «الفكيك»، فإنه لم يتوقف عن العمل بعد عودته إلى دمشق، ولم يتوقف عن الحلم، وهذه ميزة أساسية حافظ هيثم حقي فيها على الطفل المدهش الذي لم يمت في داخله حتى الآن، فصنع من هذه الرقة صلابة مهنية أدهشت أعداؤه قبل أصدقائه، وما زالت مستمرة.

فمن فيلمه القصير الأول «الأرجوحة» إلى فيلمه الروائي الطويل «التجليات الأخيرة لغيلان الدمشقي» كان العنوان العريض لمشروع هيثم حقي الدفاع عن قيم العدالة والدفاع عن حق الآخرين في الإبداع، فلم نسمع يوماً أن هيثم حقي أعاق مشروعاً منافساً، ولم يلجأ في الرد على أعداء المهنة إلى أساليبهم الرخيصة أحياناً، كان العمل الدؤوب هو الرد الدائم لصاحب مسلسل «خان الحرير» و«هجرة القلوب إلى القلوب»، و«الثريا» و«عز الدين القسام» تحفه الفنية والعدد الكبير من الأعمال التي يصعب حصرها الآن، كم كان الرد بليغاً على خفافيش الإنتاج الذين يصولون ويجولون بحقائب أفكارهم المعروضة للبيع.

المقربون من هيثم حقي – وأنا واحد منهم – يعرفون بأنه لم يستخدم نفس أساليب الإقصاء التي سادت في بداية التسعينات من القرن الماضي في أوساط العاملين في الدراما التلفزيونية، بل استخدم الحوار طريقة لنقاش كل الأسئلة وطريقة للرد على ما يحاك في الظلام.

وكما أسلفنا لم يكتف هيثم حقي بالوقوف وراء الكاميرا كمخرج بل كتب العديد من نصوص الأفلام ونظر للحياة السينمائية ولم يترفع عن التلفزيون كباقي المثقفين بل دافع عن فكرة استخدام هذا الجهاز الخطير لجعله فضاءً للنقاش وليس مكاناً لإصدار فتاوي التخوين وهدر الدم، وهذه المعركة الخفية التي خاضها هيثم حقي عبر أربعين عاماً من عمله المتواصل أثمرت في النهاية عن مكاسب لا يعرف الكثيرون أن هيثم حقي هو أول من دافع عنها ببسالة منقطعة النظير.

قد لا يعرف الكثيرون بأنه أول من خرج بالكاميرا من جدران الأستوديو الضيق إلى الفضاء الرحب للأمكنة، وبالتالي جعل من المكان شريكاً أساسياً في الدراما السورية، ودافع عن وجهة نظره بأن الدراما ابنة الحياة وبالتالي هي المكان الذي تنقل إليه النقاشات الخافتة والمسكوت عنها في المجتمع، سواء أكانت هذه المسكوتات عنها سياسية أم اجتماعية أو تاريخية، وهذا لم يحصل ببساطة، فتوسيع هامش الرقابة ومعركة كسب النقاط تجلت في أفضل صورها في معارك هيثم حقي مع الرقابة التي استخدم معها سكيناً من حرير، واعذروني إن أم أجد أفضل من هذا التعبير عما فعله في بدايات نهوض الدراما الثانية التي بدأت مع «هجرة القلوب إلى القلوب» واستمرت مع باقي الأعمال التي سيذكرها الجمهور طويلاً رغم أن الدراما هي فن النسيان، وليس سهلاً جعلها فناً قابلاً للبقاء.

تعدد الصفات التي تمتع بها هيثم حقي تجلت في عدد من نشاطاته، لا أعتقد بأن أحداً كان يستطيع المجاهرة في السبعينات من القرن الماضي بضرورة النظر إلى الدراما التلفزيونية كصناعة لا تقل أهمية عن صناعة النسيج، وخاض من أجل هذا حوارات كانت تعتبر وقتها برجوازية ومترفة، ومن أصعب الأشياء بالنسبة لمبدع أجبر كما أجبر هو على هجر السينما – فنه الأول وحلمه الذي لم يمت – إلى التلفزيون الذي هو في النهاية فن محدود، ولكن هيثم لم يستكن لمجموعة الأفكار المسبقة والثابتة، بحث في ركام فن النسيان عن الذاكرة والخلود، ومنح الأمل للكثيرين الذين ساروا على خطاه، اكتفى بالمتر المربع الذي وهب له، ولم يسكت عن حقه في العمل، فأصبح هذا المتر المربع مساحة كبيرة تمتد لتشمل مساحة البلاد، التي أشعلها هيثم حقي ورفاقه دراما وحياة وصور ملونة ونقاشات ثقافية حارة بدأنا نفقدها الآن.

وهيثم حقي أكثر العارفين بأن العمل يحتاج إلى دماء جديدة ترفده، لذلك كان المخرج السوري الأكثر انحيازاً لتلاميذه الذين سار معهم خطوة خطوة ليوصلهم إلى بر الأمان مبدعين أيضاً يملؤون البلاد صوراً ملونة ونقاشاً وفخراً بأنهم ذات يوم كانوا رفاقاً لمبدعنا الكبير هيثم حقي، الذي تدمع عيناه سعادة حين يحاججونه ويسجلون نجاحات في توسيع المتر المربع الأول الذي جعله هيثم حقي بمساحة البلاد، وينتظر هيثم حقي الآن من تلاميذه أن يوسعوا مساحة البلاد لتشمل العالم كله.

حتى هنا يختم خالد خليفة الروائي والكاتب مقدمته التي قدم من خلالها المخرج السينمائي هيثم حقي في الأمسية التي أقامها برج الفردوس مساء يوم الأربعاء الخامس من آب 2009. الروائي والكاتب خالد خليفة

وحضر هذه الأمسية حشد من المخرجين والفنانين والمثقفين والإعلاميين، الذين تابعوا بشغف تلك الحوارية الصريحة والجريئة والمفيدة في الوقت ذاته، التي أدارها خالد خليفة باقتدار ورشاقة عالية.

وقد اتخذ الحوار شكل سؤال وجواب بين هيثم حقي وخالد خليفة، ليختتم بحوار بين الحاضرين وبين هيثم حقي، وفيما يلي نص الحوار:

– بداية، أود أن أتحدث عن ذاك البيت البعيد، بيت الطفولة الأول، عن تلك الجدة والعمات، اللائي صنعن مشروعهن في الأربعينيات من القرن الماضي، عن ألوان الفنان إسماعيل حسني (حقي) وتأثيرها على أعمالك اللاحقة؟

– أنا من عائلة متوسطة، والدي أصله من الميادين لكنه عاش في حلب، وكان من أوائل الذين سافروا إلى روما لدراسة الفن التشكيلي، وهو من مؤسسي الفن التشكيلي بحلب، وأسس مركزاً للفن التشكيلي بحلب، ودرس في الجامعة، وبسبب ثقافته موسوعيته الثقافية الغربية والعربية أصبح بيتنا محطة للأدباء والمثقفين، أما عمتي فهي مؤسسة التعليم النسوي في (+(بنك:دير الزور)، فقد أنشأت أول مدرسة ابتدائية وإعدادية وثانوية، وأسست أول جمعية للمرأة وأول دار عجزة، وقد حاولت أن أتجه إلى التشكيل لكنني لم أنجح، وبسبب مجموعي العالي في الثانوية دخلت كلية طب الأسنان، لكنني لم أنه دراستي فيها، إذ تقدمت إلى بعثة للسفر إلى روسيا حيث درست الإخراج هناك.

– لجدتك تأثيراتها الأولى عليك، إضافة لكونك نشأت في بيت يسكنه اللون، كل هذا كان له الأثر لاحقاً على أعمالك، كيف تحدثنا عن هذه التأثيرات؟

– كانت جدتي تقرأ القرآن الكريم، وهي كانت لا تجيد القراءة ولكنها كانت تحفظ الكلمات كصور مطبوعة في ذاكرتها، وكانت من القاصات النادرات، وكانت تحفظ الكثير من الأشعار والحكايا، وقد أعطيت لأمل عرفة عدداً من هذه الأغاني، وخصوصاً ما له علاقة بشعر الموليا، وكانت تروي قصصاً لها علاقة بالشعر الشعبي. وبالنسبة لجو اللون، فبيتنا كان له علاقة بكثير من الفنانين التشكيليين، خصوصاً فاتح المدرس ولؤي كيالي، ومن الطبيعي أن تبرز تأثيرات كل هذا في أعمالي لاحقاً.

– هل عدت أخيراً إلى السينما، بيتك الذي هُجِّرت منه لمدة ثلاثين عاماً، وهل هذه العودة نهائية أم محكومة بظروف تهجير أخرى؟

– بعد إنهاء دراستي عينت وعدد كبير من المخرجين في التلفزيون، دائرة الإنتاج السينمائي، وهي دائرة تقوم بإنتاج الأفلام، وخصوصاً الأفلام القصيرة في تلك المرحلة، التي نفذنا عدداً منها، وأذكر منها فيلماً قصيراً بعنوان «السد» الذي لم يره الجمهور، وهي فرصة هنا لأتحدث عنه، وهو يصور سبعة عمال من مناطق مختلفة في سورية، يعملون في مواقع مختلفة من السد، حيث كان السد يمثل جزيرة خضراء للعدل، وكيف كان هؤلاء العمال يعيشون على تلك الجزيرة، أما الصراع فكان بين العمال ومستثمري السد. وعند انتهائي منه، رُفض عرضه لأن المقصود كان أن أصور عظمة السد وحسب، أنا فعلت ذلك ولكني أضفت إليه القصة ليكون فيلماً، ولهذا السبب لم يعرض. ثم أنشأنا نادي السينما لكن منع ثم عملنا برنامج السينما مع بعض المخرجين لكنه أوقف في الحلقة الثالثة، ثم اتجهت إلى الكتابة كخطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، من أجل السينما.

– هذه العودة، هل هي عودة أخيرة؟

– عندما أنجزت «عز الدين القسام» كانت الكاميرا المحمولة قد ظهرت واستفدت منها في التصوير الخارجي، ووجدت أني أقوم بعمل سينمائي وإن كان بلغة سينمائية بدائية، وقدمت بعدها عدداً من الأفلام بلغت 22 فيلم سينمائي منفذة بكاميرا واحدة. أما لماذا عدت للسينما، لأني أعود إلى قراري الأول، إلى السينما الشعرية أو الشاعرية، وهو أن أعمل ضمن هذا الجو، وقد تقدمت بفكرة لأوربت لإنتاج أفلام لكنهم لم يوافقوا. الآن أنتجت أربعة أفلام، بعد أن تفرع عن أوربت شركة تعنى بهذه الأفلام. بعد أن ازدهرت صناعة الدراما التلفزيونية في سورية (بعد عام 1987)، يوجد الآن فرصة حقيقية لصناعة السينما، فبعد أن دخلنا السوق العربية بالصناعة التلفزيونية، يمكننا أن نصل إلى الأسواق العالمية عبر السينما. وهنا لا بد وأن يكون الهامش الرقابي أعلى، السينما هي حلمي، وأنا عملت في التلفزيون لضرورة المرحلة.

– بعد أربعين عاماً من دفاعك عن تأسيس صناعة تلفزيونية وسينمائية، وبعد معاركك ومعارك رفاقك، وكتابتك المدافعة عن هذه الصناعة، أين وصلت في ظل تأكيد أغلب العاملين في الدراما التلفزيونية أننا ما زلنا دون تقاليد؟

– في سورية، لم يكن هناك إنتاج خاص، بما فيها أعمال دريد لحام، فقط صورت خارج سورية، كان هناك فكرة إنتاج سينمائي خاص، بالتعاون مع أصحاب الصالات كعمل تجاري، لكن المشروع لم ينجح، وانحسر لتشدد الرقابة في رفضها للأعمال التجارية التي تعتمد الكوميديا والعري، ومع قدوم الوزير محمد سلمان، كان اقتراحه يقتضي، أن 75% من الإنتاج التلفزيوني يجب أن يكون محلياً، وهذا ما مهد للإنتاج الخاص. هناك صعوبة بالتفاهم مع الجهات الخاصة، التي ترى في الصناعة السينمائية مجرد تجارة، مع ذلك فقد ساهمت في تأسيس 11 شركة إنتاج تلفزيوني، لأنني مسكون بهم أن يكون هناك صناعة تلفزيونية.

– استخدام اللغة السينمائية، الرواية التلفزيونية …الخ، من مصطلحات كنت أول من أطلقها ودافعت عنها، بينما يرى البعض بأنها محاولة منك لتوصيف ما لا يمكن أن توصف به الدراما لرفع شأنها، هل ما زلت مصراً على كل ما دافعت عنه، في ظل هيمنة أعمال تعيد مفهوم الحكاية الساذجة، وإعادة إنتاج التخلف، وتحقيق جماهيرية كاسحة؟

– الأعمال الساذجة تصنع بلغة سينمائية ولكنها تبقى ساذجة، ما هي اللغة السينمائية؟ أفلام المقاولات، تنفذ بلغة سينمائية لكنها ساذجة، العمل التلفزيوني لا يمكن أن تقارنه بسوية إخراج فيلليني، فالمقارنة ليست صحيحة. القصة هي أن العمل التلفزيوني مسرح مصور، هذه الطريقة كانت موجودة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهكذا كان الأمر في الأفلام الأمريكية، وكان العمل التلفزيوني أو السينمائي إعادة للشكل المسرحي، وهو بمثابة مسرح مصور كما قال إيزنشتاين، تماماً مثل أي قصيدة لشاعر بلغة شعرية قد تكون سيئة، أو قصيدة شعرية أخرى لشاعر بلغة شعرية جيدة. ما عملناه هو لغة سينمائية بدائية، وهذا حصل، لكننا نحاول أن نرتقي إلى لغة سينمائية جيدة، والرواية كنص هي أساس للعمل التلفزيوني كمسلسل، وهي نفس المشكلة التي وقع بلزاك عندما كان ينشر رواياته عبر الصحافة بحلقات، وهو ما يفعله التلفزيون، من أجل تقاضي أجر أكبر.

– هل أصبحنا طغاة نمنع النقد أن يطال الدراما؟

– أنا لا أشكي من النقد، لكن النقد السوري أصابني بالملل، لدينا مشكلة حقيقية في النقد التلفزيوني عربياً، نقاد السينما اعتبروا أن التلفزيون أدنى درجة، وهذا ما جعل بعض النقاد المهمين ينؤون عن الكتابة النقدية التلفزيونية، وهو السبب بتراجع هذا النوع من النقد.

– لو عاد الزمن مرة أخرى، هل كنت تعيد السيرة ذاتها، وما الذي سيتغير في مشهد الصورة؟

– دعني أشبه لك الأمر بالبهلوان، الذي يمشي على حبل مشدود، هو تلك الظروف، أما العصا التي يتوازن بها، فهي الإمكانيات، الحبل هو الظروف والرقابة، وأنا مشيت على هذا الحبل، ووصلت إلى النهاية. من مهمتي أن أقوم بهذا الشيء فأنا أنظر كيف يصبح لدينا إنتاج سينمائي، وأنا أتطلع إلى أن ننتج عشرين فيلماً بالسنة، وهذا ضمن الممكن.

– بعض المخرجين السوريين كتبوا سيرتهم سينمائياً، فهل ستفعل ذلك أم لا؟

– لن أكتب سيرتي الذاتية، فهي لا تدخل ضمن المشروعين اللذين أعلنهما، فمشروعاي هما: النهضة المجهضة التي أقدم من خلالها أسباب إجهاض النهضة العربية في مختلف محطاتها، أحاول أن أسلط الضوء على هذه الأسباب، الكثير من أعمالي تبحث في هذا، وعندما نعرف الأسباب ستكون لدينا إمكانية إيجاد أسباب نهضتنا، أنا ابن هذه المنطقة وهذا المجتمع، وتهمني قضاياه. أما مشروعي الثاني، فأنا أعمل على الديمقراطية الاجتماعية وهي أساس لإصلاح مجتمعنا، أنا أكتب عن الناس الذين عرفتهم.

إلى هنا أنهى الروائي خالد خليفة حواره لتبدأ أسئلة الحضور:

نبيل المالح:

بعد إشادته بتجربة هيثم حقي، وعرضه لهموم المرحلة التي عاشاها معاً والظروف القاسية التي تعرضا لها، وإشكالية وجود مشروع لدى الفنان، أو لدى المؤسسة، وتطلعه المستقبلي لسينما سورية أسس لها هيثم حقي، سأل: ما هو مقياس السينما؟

– يوجد مجموعة من المخرجين وكنا نعمل ضمن مجموعة ولكل مشروعه الثقافي في إطار مشروع سوري، مشروع يتحدث عن النهضة والديمقراطية في بلاد الشام، وأي عمل يطرح هذا الهم بمستوى فني تقدم له يد المساعدة. لقد كان الكاتب الراحل ممدوح عدوان شريكاً أساسياً في هذا المشروع، في عمل «دائرة النار» الذي يمثل نقلة نوعية في هذا الاتجاه.

سحبان السواح:

– بعد التزامك بالشركات المشفرة لم نعد على تواصل معك، لأننا لا نستطيع أن ندفع، لماذا يذهب هيثم حقي إلى القنوات المشفرة ويحرم الجمهور العربي عامة من رؤيته؟

– بدأت الإنتاج عام 1987 لكن الدراما التلفزيونية السورية رغم ذلك تعاني أزمة توزيع، ورغم أني أسست للكثير من الشركات إلا أنها كانت لا تستمر إلا إذا حصلت على تمويل، ما جعلنا نتجه إلى عرض أعمالنا في التلفزيون على القنوات الأرضية. وما حدث أنه كانوا يقتطعون من الأفلام أو يلغونها، وهو ما دفعنا أن نحجم عن عرضها على الأرضية. التلفزيون السوري لم يتعامل مع أعمالنا بشكل جيد، لذا كان لا بد من عرضها كاستثمار خاص على محطات مشفرة، حيث لا يخضع العمل للرقابة، ويكون المقابل المادي مناسباً، وأعتقد أنه بعض عرضها على المحطات المشفرة بسنة أو سنتين سوف تعرض بشكل عام، وهذا لا ينقص من قيمتها الفنية. في النهاية نحن بحاجة للتمويل حتى لا نجلس في البيت وبحاجة أيضاً إلى عدم تدخل الرقابة.

سعيد البرغوثي:

– كيف يمكن لبلد محكوم بسلطة دينية، كإيران، أن ينتج 35 فيلماً في العام، ويصل بعضها إلى العالمية؟ بينما لا نفعل نحن ذلك؟

– كنا مجموعة قوية متجانسة من المخرجين، حاولنا أن نقيم مشروعنا ولكل منا مشروعه الخاص بعيداً عن المؤسسة، هؤلاء المخرجون أصحاب مشروع وهذه هي القضية الأساسية.

طاهر ماملي:

– هل اللغة التلفزيونية غير موجودة حقيقة؟ وما هو المعيار الحقيقي لمن يعمل في الإبداع، الجمهور أم سوية العمل الإبداعي؟

– لا يوجد لغة تلفزيونية، ما تعلمته أنت، هو لغة سينمائية. المخرج الليث حجو، الذي عمل في التلفزيون كل الوقت، لا تجوز مقارنة أعماله بالأفلام السينمائية، في أعماله التلفزيونية، هناك لغة سينمائية، أقل أو أكثر بالمقارنة. اللغة السينمائية هي مجموع الوسائل التي تستخدم لإيصال مضمون الفكرة، التلفزيون والسينما يشتركان في الكاميرا والمكياج والموسيقى …الخ، وكانوا يقولون أن فيلماً ما لغته السينمائية رديئة، هناك لغة سينمائية رديئة، لكن ليس هناك تلفزيون رديء أو أدنى، هناك عمل تلفزيوني لغته السينمائية رديئة. كان العقاد يقول: «أن شباك التذاكر هو الأساس»، لكن غالبية الأعمال في العالم هي أعمال تسلوية، وهي جماهيرية، أكثر من 90% من الإنتاج الأمريكي هو تجاري، وهذا له جمهور واسع، في القرن التاسع عشر، كان هناك قصص تشبه قصص عبير، إلى جانب أعمال دوستويفسكي، لكن من يعرف الآن تلك القصص، الذي يبقى هو دوستويفسكي. هناك ذاكرة تلفزيونية وسينمائية للعمل الجيد، المخرج الإيطالي فيلليني وصلت أعماله إلى الجماهيرية، وكذلك شارلي شابلن، وهذا استثنائي، مثال الرواية الجماهيرية النخبوية.

خليل درويش:

هيثم حقي، مشروع معلن بتراتبية واضحة، لكن لنحول السؤال إلى بقية المثقفين، ونسألهم أين مشاريعهم على الأرض؟!

ريم حنا:

– عندما نتكلم عن الفن، نتطلع إلى أن يكون نخبوياً، لكن لماذا لا نحاول أن يكون جميلاً وممتعاً ومسلياً؟

– كتبت كثيراً بهذا الموضوع، العمل الفني الجيد هو الذي يقدم المتعة والمعرفة، والعمل الذي ليست فيه معرفة قد يكون جيداً كتسلية. الأعمال الإيديولوجية غير ممتعة وليست فنية، لكن الفن يجب أن يطرح المتعة والمعرفة والسؤال.

سمير عطية:

– لفتني تعبير الحيز الضيق (المتر المربع) الذي اتسع ليصل إلى العالمية، المشكلة هي في الرسالة التي تصل إلى المستوى العالمي وتخبر بحراكنا، فكيف يتم هذا، بالموضوع أم بالكيفية؟

– عندما ننتج بمستوى فني جيد هناك إمكانية ليرانا الغير، في إيران استطاعوا أن يصلوا إلى العالم رغم كل القيود، نحن بحاجة لإمكانية إنتاجية، وليس إمكانية منافسة السينما الإيرانية بمسألة بعيدة، لكن ينقصنا حرية التعبير، لنرى أفلاماً قيمة. نحن استطعنا أن نحرك جدار الرقابة إلى الوراء، فالعمل الفني الجيد يفرض وجوده.

لقمان ديركي:

– ما الذي أضافه إليك زواجك بالشاعرة هالة محمد؟

– لقائي بهالة أحدث توازناً في حياتي، منذ تسع سنوات، وعندما يكون لديك شخص تتحاور معه، وتختلف معه بديمقراطية، هذا يوصل إلى قناعات وتجدد وتحدي.

عمار حسن

المصدر: اكشتف سورية

—————————–

===============

مقالات تناولت “خالد خليفة” ورواياته

—————————-

خالد خليفة… رسالة إلى كاتب مبتدئ/ فاطما خضر

23 أيلول 2023

«لماذا لا أكتب كلّ ما أراه جديراً بالكتابة فوراً؟ لماذا أتركه يتسرّب إلى الذاكرة كي أكتبه بعد عامٍ أو عشرة أعوامٍ؟ امتحان الكتابة أم امتحان الحواسّ؟». هذان السطران الواردان في الصفحة 26 من «دفاتر العزلة والكتابة ـــــ الدفتر الأوّل»، يُلخّصان ربما حكاية النسر الذي أجلسه الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة على طاولة مجاورة، ليُقدّم للقارئ من خلال كتابه «نسرٌ على الطاولة المجاورة» (نوفل/ هاشيت أنطوان) وجبةً دسمةً للقراءة، أقرب إلى ورشة عملٍ مجانيةٍ حول الكتابة، هي حتماً مُلهمةٌ ومفيدةٌ للكُتّاب، وخصوصاً الهاوين ممّن لديهم تساؤلات حول الكتابة كمهنةٍ احترافيةٍ وكحالةٍ إبداعيةٍ. سيجد هؤلاء أنفسهم أمام سلسلةٍ من «الإرشادات» مكوّنةٍ من ستٍ وسبعين إرشاداً، جاءت في مئةٍ وسبعٍ وعشرين صفحةً، يسردها خليفة بأسلوبه الرشيق، الممزوج بالشغف، الغَني بالحكمة المتعلّقة بعالم الكتابة، والنابع من التجربة والممارسة اليومية، والخالي من التنظير المُمل والنصائح المُعلّبة.

كان الوقت فجراً، عندما انتهت سهرة خليفة مع أصدقائه، أو بدقةٍ لم تنتهِ تماماً، لكنّ شيئاً خَفيّاً كان قد تسرّب إلى ذاكرته ووشوشه للعودة إلى منزله البحريّ الكائن في «منطقة الدراسات» في اللاذقية! يومها شعر بأنّ هناك موسيقى تدعوه للرقص منفرداً؛ ليكتشف بعد خروجه أنّ ثمّة عطلاً في سيارته، ما استلزم انتظار حلول الصباح ليتمكّن من الاستعانة «بميكانسيان». وهنا أصبح أمام خيار العودة إلى منزل الأصدقاء أو الرقص؛ وهذا ما اختاره خليفة: الرقص مع الكلمات. سحب دفتراً موجوداً في سيارته، ثمّ ترجّل منها، اشترى القهوة من بائعٍ يتجوّلُ مصادفةً في مثل هذا الوقت الباكر، ونجحت مصادفةٌ ثانيةٌ بأن يستعير قلماً منه، ثمّ ببساطةٍ كتب عبارته: «دفاتر العزلة والكتابة – الدفتر الأول». هكذا بدأ الأمر ثمّ امتدّ على فتراتٍ متقطّعةٍ، وهو يكرّر كلّ يومٍ: «الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الكتابة، حتّى الآن، هو ضرورة الجلوس إلى الطاولة ساعاتٍ طويلةٍ بشكلٍ يوميّ، كأيّ عاملٍ في المصنع، على حدّ تعبير أرنست همنغواي».

هذه العبارة الذهبية، التي ما زال خليفة يكرّرها أمام نفسه والآخرين المهتمين بالكتابة بعد ثلاثة عقودٍ من عمله في الكتابة واحترافه لها، أوردها كمقدمة للإرشاد التاسع والعشرين من الكتاب.

ولفهم عبارة خالد الشعرية «اخترت الرقص مع الكلمات»، ما عليك إلّا أن تقرأ الإرشاد الثالث عشر حيث ستجد مقاربةً مذهلةً بين كتابة الرواية والرقص: «كتابة الرواية تشبه الرقص. يبدو هذا التشبيه غريباً، إلّا أنّه حقيقيّ بالنسبة إليّ. فالرقص انطلاقٌ من الثبات إلى الحركة، وعودة إلى الثبات مرّة أخرى، ضمن فضاء يحكمه الإيقاع. وكتابة الرواية انطلاقٌ من البياض إلى السواد، والعودة مرّة أخرى إلى البياض، في فضاءٍ أيضاً يحكمه الإيقاع. الهواة غير المحترفين في كلا الفضاءين. الكاتب المحترف كما الراقص المحترف، يستطيع أن يبدأ الرقص فور سماع أيّة موسيقى، لكنّه يحتاج إلى لحظة يُشرق فيها جسده وتطير روحه، عندها يصبح المتفرّجون غير موجودين، يتلاشون رويداً رويداً ويختفون من حوله. الكاتب الهاوي كما الراقص الهاوي، لا يرقص إلّا إذا استبدّت به الرغبة الشديدة، فيبدو مندفعاً، حارّاً، غير مكترث بالإيقاع الذي يلاحقه، ومهما حاول، لا يستطيع خلق إيقاعه الخاصّ لسرعة مروره على البياض، وتخطّيه للحظة الرغبة، يبقى الآخرون بالنسبة إليه موجودين، يحيطون به ولا يستطيع الإفلات من نظرات إعجابهم أو استهجانهم».

يرى خليفة أنّ الكاتب يشبه النّسر كثيراً. بينما يبدو الكاتب أنّه يجلس في يومٍ رتيبٍ، تفاصيله متكرّرةٍ ومملةٍ، يكون في الحقيقة يقظاً ومترقّباً لحدثٍ غريبٍ ينقضُّ عليه مفترساً لينقله إلى مائدة الكتابة. وهذا تماماً ما يحدث مع النّسر، الذي يبدو أنّه يُحلّق في السماء ويرى المشهد نفسه، في حين أنّه يترقّب فريسته لينقضّ عليها. وهذا ما أشار إليه في نهاية الإرشاد الثالث والعشرين: «من موقعي مقهى السويس في اللاذقية، والساعة الآن تُشير إلى التاسعة صباحاً، مع فنجان قهوتي الثاني، يتكرّر مشهد مرور الأشخاص والسيارات وباعة اليانصيب، تماماً كما في اليوم السابق، إلّا أنّني أنتظر أن يحطّ نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس إلى كرسيّه ويتأمّل المارّة، رغم استحالة هذا إلّا أنّني أنتظر أن أنتظره، أو أنتظر فعلاً ما يُشبهه، كحقيقة غير قابلة للجدل».

الحماقة جزءٌ رئيسيٌّ من الكتابة

في إرشادات خليفة، ستتعلّم أنّ الحماقة جزءٌ رئيسيٌّ من الكتابة. وستتنبّه إلى أنّ النسيان الذي يسعى الكاتب إليه في لحظةٍ ما، سيصبح الوحش الذي يخيفه لحظة احترافه للكتابة. وستتعلّم تقبّل فكرة أنّ الكثير من الناس يخافون الكتّاب، ويتجنبون صداقتهم العميقة خشية البوح بالجزء المتعلّق بسيرهم الشائنة، وسيكتفون باستعراض أمجادهم وتضحياتهم. وستعلّمك الكتابة لعبة طرح الأسئلة القديمة، التي ستغدو معاصرةً وجديدةً بمجرد طرحها. وسيبرد قلبك عندما يُخبرك أن غيظ البعض هو جزء من نصر الكاتب، الذي سيتحول تدريجاً إلى كراهيةٍ، ستصبح بدورها جزءاً من مجد الكاتب، وأنّ أقسى ما يُحيط بالكاتب وبمهنته هو الحسد. ستتعلّم الحذر من الوقوف في وجه الأفكار، وضرورة الاستعداد الدائم للسماح لها بالانسياب على الورق، تاركاً مهمة تطويرها ونموها للزمن. وستستمتع مع تفاصيلٍ أخرى، كثيراً ما جالت في خاطرك حول الكتابة وأسرارها وخباياها، لتتأكد أنّ خليفة من خلال دفتره الأول لسلسلة «دفاتر العزلة والكتابة» يُقدّم لك أسراراً عن الكتابة، كثيراً ما ستلهمك، وكثيراً ما ستُخفف عنك أعباء المشاعر السلبية والمزاج المتقلّب والشكوك التي لا تنتهي، خلال رحلتك في عالم الكتابة.

الاخبار

————————

خالد خليفة ودفاتره الباردة: حياة بلا حكايا وأبطال/ محمد تركي الربيعو

30 – يونيو – 2023

عادة ما تكون الدفاتر واليوميات التي ينشرها بعض الروائيين، بمثابة عوالم جديدة. عوالم تكشف لنا عن تفاصيل أخرى من حياة هؤلاء الكتاب، والطقوس التي يكتبون فيها وقصص بعض رواياتهم وتفاصيل أخرى استطاعوا التقاطها في سياق ما يعيشونه من أحداث وتجارب. وعلى الرغم من أن بطل هذه الدفاتر هو ساردها، إلا أنّ هذا السارد غالبا ما يكشف لنا أيضا من خلال هذه النصوص عن مجموعة من القصص التي تقربنا أكثر من الفترة الزمنية التي عاش فيها. لكن المتأمّل في دفاتر الروائي السوري خالد خليفة «نسر على الطاولة المجاورة» الصادرة عن دار نوفل، ربما سيشعر بحالة من خيبة الأمل، إن تخيّل أنّها ستكون كما وصفناه في بداية كلامنا. ففي هذه الأوراق (الجزء الأول، وهنا أجزاء أخرى) يبدو خليفة مُقّلا في كلامه وكأنه قد خاصم عالم السرد، الذي كان سببا في سطوع نجمه الروائي.

حاول خليفة في العقدين الأخيرين رسم صورة للتحولات التي عاشتها مدينة حلب، من خلال سير بعض العوائل (زهير النابلسي وزوجته المعلمة/ رواية لا سكاكين في مطابخ المدينة). وكانت هذه المدينة قد شكّلت في فترة نهاية القرن التاسع عشر واحدة من أهم مراكز الدولة العثمانية، ولذلك ارتبط ذكرها دوما بالتغيرات والحداثة والانفتاح على العالم. لكن هذا المشهد سيتغير مع انغلاق الحدود أمام المدينة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتشكل دولتي سوريا وتركيا، إذ ستجبرها الظروف على التحول إلى مدينة مغلقة على ذاتها. ولتغدو المدينة بعد الستينيات والسبعينيات مثالا عن المدينة التقليدية /التراثية، خلافا لصورتها في القرن التاسع عشر. وكأنها بذلك كانت تدافع عن نفسها مع قدوم حزب البعث للسلطة عام 1963. لكن عالم أبطال خليفة لن يقف عند حدود 2005 (وهي اللحظة التي وقف عندها في روايته المذكورة)، بل سنعثر على قصص أشخاص آخرين مع رواية «الموت عمل شاق» التي كتبها في زخم القتال اليومي الذي أخذت تعيشه المدينة السورية بعيد 2011. ومع هؤلاء الأبطال أو لنقل التعساء، كان الموت في حياة السوريين يكتسب معنى جديدا. فالموت، الذي عادة ما يكون نهاية لسيرة شخص أو قصة أو حكاية، أخذ بعد الحرب يكشف لنا عن مواقع التباس جديدة، وفق تعبير جورجيو أغامبين، بين لحظتي إعلان الموت والمثوى الأخير.

وهذا ما نراه في قصة الأخوة الثلاثة الذين قرروا تنفيذ وصية والدهم بدفنه في إحدى قرى حلب، لكن الطريق الذي كان يستغرق خمس ساعات بين منزله الواقع في دمشق وقريته، تحوّل بعد الحرب إلى عالم مليء بقطاع الطرق والحواجز الأمنية (النظام، كتائب إسلامية) التي يُكتب للإنسان فيها عمر جديد، إذا تجاوزها دون مضايقات وأسئلة او طلب رشوة.

وفي خضم هذه الظروف، استطاع خليفة أن يحول بأسلوبه السردي جسد الوالد المتوفى إلى بطل روايته الأساسي، ليروي لنا هذا الجسد ما أخذت تعيشه سوريا بعيد الحرب، فالحرب السورية استطاعت أيضا أن تفرض من خلال مقاتلي الدولة والمعارضة إعادة صنع وإنتاج الأجساد الميتة قبل الأجسام الحية. وبالعودة لدفاتر خالد خليفة المنشورة، نراه في بداياتها يكتب لنا خلاصات صغيرة عن فن الكتابة وأشياء متناثرة عن المدينة والحياة، مع ذلك تبدو أحيانا بعض العبارات لا تناسب عالمه السردي. يظهر في بعض العبارات واللوحات كشاب يقتبس من كتاب كبار عبارات واسعة لينشرها على صفحته الشخصية.. يقدم لنا نصائح ويكتب عن حكم وخلاصات وأفكار، لكنه، ليسمح لنا، يفشل في رسائله، إذ أنّ أبطال وقرّاء خليفة هم الذين يخسرون في هذه اليوميات، فكلما حاولوا الاقتراب أكثر من زمنه وعالمه، سرعان ما تصدمهم بعض العبارات الباردة والجافة. وربما هذا الشعور بالبرودة كون خليفة بعالمه السردي كان يوفر لنا ملاذا للبحث عن فهم ما جرى ويجري. لماذا حلّ كل هذا الدمار بنا، وقد يكون ردّ خليفة أنّ مهمة الروائي لا تكمن في أن يتحول إلى مؤرخ أو صحافي، فالروائي الحقيقي لا يعكس الواقع بالضرورة، ولذلك فهو لا يرغب ربما بعرض مزيد من الأحداث والتفاصيل في يومياته، لكن هذا لا يعني في المقابل أن يتخلّى الروائي أينما رحل عن مهامه الأساسية، وفي مقدمتها قص الحكايات. فالروائي دون حكايات وأشخاص ونصوص هو شخص يخون قراءه، خاصة أولئك الذين يجدون في نصوصه مصدرا يساهم في تشكيل حياتهم.

هذا الغياب للقص، لا يعني أنّ بعض العبارات لدى صاحب «دفاتر القرباط» لم تحمل دلالات غنية. فمثلا يقول لنا «أعرف أنّ كتابة دون خيال هي كتابة معينة.. تسير خطوات قليلة ثم تلفظ أنفاسها». ويعود في اللوحة 60 ليؤكد أنّ الخيال حذاء، كل يوم يفقد الكاتب جزءا منه، وبعد سنوات من الاستخدام يصاب بالاهتراء، ولذلك يجب ترميمه بأناقة بشكل دائم. ولكن كيف يجري ذلك؟ وماذا عن دور القراءة في إعادة ترميم الخيال في حياة خليفة؟ وغيرها من التفاصيل، تبقى غير قادرة على البوح عن نفسها في هذه الأوراق.

لماذا يصمت الروائي؟

يكتب لنا خليفة في بعض الصفحات عبارة أو عبارتين، ويترك باقي الصفحة فارغا. وهنا قد يطرح القارئ تساؤلا، هل غدا خليفة عاجزا عن الكتابة؟ أم هي ثقة الشهرة، التي قد تجعله ينشر أي شيء ظنا منه أنّ القارئ لن يحاسبه؟ أم هي نزوة سردية جديدة يحاول الخوض فيها. في مقابلة أخيرة، يقول خليفة: أحلم أن أصبح رساما، في إشارة ربما أيضا لشعوره بالعجز عن الكتابة، أو رغبته بتجريب أشياء جديدة تحرك عنده الخيال مرة أخرى. ولعل هذه الرغبة بالبحث عن الرمزي قد انعكست خلال اللجوء للصمت الرمزي (كتابة بلا حكايا) هذه المرة. وهو صمت عبّر عن نفسه في دفاتره وهوامشه اليومية، بينما لا يسمح عالم الروايات وطقوسه بهذه الانتهاكات. يقول خالد في اللوحة 49 «لم يعد يعنيني أي شيء كعجوز أمشي إلى زاويتي المعتمة، سأطلب من أصدقائي كيف يحتفلون بذكرى موتي». ولعل هذه العبارة توحي بحالة العجز والعزلة التي يعيشها خليفة، لكن ما نخشاه حقيقة أنه بهذه الرؤية يحكم على نفسه بالموت من الآن، إذا استسلم لعالم الكلام المتقشف، ولم يقرر العودة في الأجزاء الأخرى من يومياته للحكايا، خاصة إذا علم أن أصدقاءه لن يحتفلوا على طريقته عند موته، بل سيندبونه ربما لأنه لم يقص عليهم حكايا أخرى، توفر لهم فرصة للعبور نحو فهم واقعهم اللامعقول.

الاستثناء الوحيد.. الكتابة حرفة

ربما من بين الاستثناءات الحارة في دفاتر مؤلفنا الباردة، لقطتان تجدر الإشارة إليهما. تتعلّق الأولى بطقوسه في الكتابة، وتعريفه للكتابة، وكيف يكتب الروائي نصا جيدا؟ يتساءل كثيرون عن سبب نجاح خليفة مقارنة بالألف روائي وروائي الذين عرفتهم سوريا في السنوات الأخيرة. يذكر لنا هنا أنه يعمل كالعامل (اللوحة 31) يكتب يوميا بعد استيقاظه فورا، وغالبا ما يكون وقت الظهيرة. يجلس إلى الطاولة لساعات طويلة وبشكل يومي منذ ثلاثة عقود على الأقل، كأي عامل في المصنع، على حد تعبير أرنست همنغواي. ولعل ما يستخلصه القارئ لهذه اللوحة ولبعض اللوحات الأخرى، أنّ الكتابة في حياة هذا الروائي حرفة وليست فقط إطلاقا للأفكار. وأنّ الإخلاص للأفكار لا يكون دون تحويل الأمر إلى مهنة، ودون السير وراءها واللحاق بحياتها. وأنّ على الكاتب أن يكتب يوميا، مما يحفظ للسرد مكانته. فالكتابة اليومية تسمح للخيال وللأشخاص وللناس بالحضور، وهي التي تسمح بكل ما يحيط بنا من التسرّب إلى النصوص. ومن دون الكتابة اليومية لن يتمكن الواقع من التعبير عن نفسه ومن الإحساس به.. ولذلك فإنّ ما يُحسب لخليفة في أوراقه المنشورة، دعوته القراء والجيل الشاب إلى الكتابة عن يومياتهم، فكثيرون منهم قد توقفوا عن الكتابة وعن إكمال مشاريعهم ولجؤوا ولهثوا وراء العمل في مؤسسات ثقافية وإعلامية فاشلة، ولذلك تشكّل دعوته هنا فرصة للقراء والكتاب ليتجرؤوا على الجلوس إلى الطاولة والكتابة يوميا. فهو الطقس الوحيد الذي يمنح سعادة أبدية كما يقول، خاصة أنّ اللجوء إلى طاولة المؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية لم تمنح للكثيرين سوى قلة الخيال والكثير من الأعداء.

يوميات خالد خليفة عام 2050

اللقطة الثانية التي يدونها خليفة، والتي تستحق الوقوف عندها، اللوحة 69 عند حديثه عن مستقبل المنطقة عام 2050. يكتب خليفة «آمل أنه، في 2050، ستكون حياتنا التي عشناها خمسين سنة في ظل الديكتاتورية قد أصبحت جزءا من الماضي»، هنا يبدو متفائلا إذا ما قارناه مثلا بتجارب روائية شبيهة حاولت السؤال أو تخيل مستقبل مدينة مثل بغداد (العراق +100، تحرير حسن بلاسم). ففي هذه المحاولة لم يتمكن بعض الروائيين المشاركين من تخيل بغداد سوى عبارة عن مدينة مقسمة إلى بوابات، وأمام كل بوابة حراس وكلاب آلية. ولعل الفترة التي يتحدث عنها المؤلف ليست ببعيدة، وربما نكون حاضرين لحظتها لنرى أين غدا واقع العالم العربي، لكن التفكير في هذه اللحظة، ربما قد يطرح سؤالا آخر، وهو كيف سيقرأ قارئ شاب يومياته عام 2050.

لعل قارئ المستقبل سيبدو محتارا بعض الشي، فالدفاتر بقيت بلا تواريخ واضحة. ولعل المعلومة الوحيدة عنها هي التي يذكرها خليفة في الصفحة الأخيرة عندما يشير إلى أنه كتبها بين الفترة الواقعة 2001 ـ 2015 في اللاذقية ـ دمشق ـ أيواـ الولايات المتحدة ـ أمكنة مختلفة من العالم. ولذلك ربما سيذهب القارئ حينها إلى ربط هذه الهوامش بتاريخ نشرها. فالنصوص كما الذاكرة، هي اجتماعية كما أنها بالقدر ذاته انعكاس للتبادلات مع المؤسسة أو الجمهور الحاضر، وليست مرتبطة باللحظات التي كتبت فيها فقط. وانطلاقا من هذه الفكرة، ربما سيقول قارئ الزمن المقبل 2050، أنه لا بد من قراءة هذه الدفاتر انطلاقا من زمن نشرها 2023. وفي تلك اللحظة كانت الحرب في سوريا قد أبادت تفاصيل واسعة من حياة الناس والعمران والذاكرة التي كان يتحرك فيها خليفة، والذي بقي يعيش في سوريا، ومن معه من المعذبين. ولذلك كان من الطبيعي أن تبدو هوامشه شبيهة بواقع هؤلاء المظلومين؛ معزولة، متعبة، باردة في ظل رياح صفراء قارسة، استوطنت ما يسمى بسوريا (لعلها تكون قد اختفت آنذاك). ولذلك ستبدو دفاتر خليفة المقلّة في سرد الحكايا شيئا مفهوما للقارئ المستقبلي؛ الذي ربما يضيف: أوليس من حقه الاعتراف بالهزيمة، أم عليه أن يظل حاملا سيف السرد دون التوقف والهمس قليلا بعبارات عامة، غير مفهومة أحيانا، مبعثرة، لكن ربما لا يدركه قارئ المستقبل أنّ (قارئ خليفة عام 2023، لم يعد يرى من سبيل لاستمرار وجوده في المستقبل إلا من خلال عالم القص والكتابة عن حيوات الناس. فمن خلال هذه السرديات يمكن أن يكون هناك أمل بتشكل خيال آخر، عبر قصة بطل من أبطال العالم الروائي (كما يذهب لذلك ممدوح عزام في إحدى مقالاته الأخيرة). أما الإحجام عن الكلام والسرد البارد، فقد يعبر عما عاشه الملايين من نكبات، لكنه يبقى غير قادر على إتاحة الفرصة لنا للتنفس والخيال مرة أخرى أو أخيرة على أقل تقدير ولذلك ليس أمام خليفة سوى العودة للحكايا والسرد مرة أخرى، ولن نقبل منه كقراء أي شيء آخر.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

“ماذا لو عاش البشر دون أديان وآلهة؟”… عن حلب والموت والدين في رواية خالد خليفة/ علاء رشيدي

تبدأ رواية “لم يصل عليهم أحد”، لـخالد خليفة (دار نوفل، 2019) بالطوفان. يحدث في قرية “حوش حنا” القريبة من حلب في العام 1907، ورغم أن معظم الأحداث السياسية والاجتماعية في الرواية واقعية ومستمدة من أحداث تاريخية، إلا أن القارئ لا يكتشف إن كان هذا الطوفان متخيلاً أو حدث فعلاً في ماضي حلب.

على أي حال، خيار المؤلف بافتتاح روايته بحدث كالطوفان، يسمح له بالتطرق للعديد من الموضوعات الوجودية المتعلقة بالحياة، والموت، والاستمرارية، والعبث، والأديان.

رفض القداسة لصالح الحقيقة

يدفع الطوفان حنا، أحد الناجين وأحد الشخصيات الرئيسية في الرواية، لمواجهة الأسئلة الوجودية: “انبثقت داخلي بذرة الشك، تزاحمت الأسئلة، لم أجد جواباً، مازالت تلك الأسئلة تعيش داخلي دون أجوبة، لماذا خلقنا إن كان الشقاء ينتظرنا؟ وما هي السعادة التي يتحدث عنها البشر؟ كل فترة تعود هذه الأسئلة مرة أخرى”.

لا تتوقف شخصية حنا عن طرح أسئلة تتعلّق بالوجود، الدين، والله. وحين يقوم برحلة للحج المسيحي، تبدأ قصته مع اجتراح المعجزات. لقد قادته رؤاه ومعلومات منحتها إياه أمه قبل موتها، للعثور على كنيسة مطمورة تحت الأرض منذ القرن الرابع الميلادي، وشفى بعض الجرحى والعميان بلمسات من يديه، فذاع صيته باعتباره قديساً.

الصراع بين القداسة والحقيقة في داخل حنا، مدخل للعديد من التأملات في الرواية، عن دور الدين والمعجزات في حياة البشر، يقول ابراهيم لحنا، في محاولة لإقناعه بتلبّس ثوب القداسة: “ليس مهماً حدوث المعجزة بل الأهم هو تصديق الناس لها، لن يستطيع أحد إيقافها، دوماً نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا البشري”، لكن حنا يصر على رفضه لاستغلال آلام الناس، ويبقى يصارع كي ينزع عنه صورة القديس، التي تبدو أحياناً أنها تتلبسه بما يتجاوز إرادته، وهذا ما يحدث بعد موته، ففي الصفحة الأخيرة من الرواية يتوجه حنا إلى النهر للغوص فيه منتحراً، وإذا بعشرات الشباب يتشاورون ثم يغوصون خلفه في النهر، ومن ثم آلاف البشر ينزلون من الباصات والسيارات التي ملأت المكان، يتجهون نحو ضفة النهر يبحثون عن حنا.

هذا المشهد يماثل حكاية يرويها سلمان رشدي في “آيات شيطانية، 1988” حيث تدعي امرأة القداسة وقدرتها على اجتراح المعجزات، لتقود أرتالاً من البشر خلفها للغوص في البحر، تقودهم إلى الموت بإيمان منهم بأهمية الانتحار الجماعي، فترسلهم إلى التهلكة. أراد رشدي أن يشير للمأساة التي يشكلها الاعتقاد بالقدرات فوق الطبيعية على الجماعات البشرية، ما يقودهم للتهلكة.

يحتل الدين مكانة أساسية في الرواية، فالمؤلف يختار شخصياته الرئيسية الأربع: “وليم عيسى، زكريا البيازيدي، حنا كريكورس، ووليم استانبولي” ليمثلوا الديانات التوحيدية الثلاث: الإسلام، المسيحية، واليهودية.

فتمتلىء الرواية بحكايات تربية مشتركة وصداقات، بين شخصيات إسلامية ومسيحية ويهودية. كما تمتلئ بحكايات الحب بين ديانات متنوعة: لدينا حكاية للحبّ المستحيل بين المسلمة سعاد البيازيدي وحنا كريكورس المسيحي، الذي ربته عائلتها كابن لها بعد مجزرة قتل جميع أهله، والحكاية الثانية بين وليم البيازيدي المسلم والأرمنية مريم، التي اختارت الزواج من تركي مسلم بحثاً عن الأمان، وعاشت تمزّقها المأساوي بين زواجها وحبيبها، والحكاية الثالثة بين وليم ميشيل استانبولي المسيحي وعائشة المفتي المسلمة، التي رفضت الضابط العثماني وتم قتلها مع حبيبها ببرود من قبله.

مقبرة مشتركة لديانات مختلفة

في بداية الرواية، هناك حكاية تشكل نموذجاً جيداً لمقاربة الكاتب لموضوع الدين، وهي تتعلق بدفن الموتى الذي حصدهم الطوفان، يجد الناجيان حنا وزكريا نفسيهما أمام مأزق تكاثر الجثث، فيهمّان بمساعدة الفلاحين على دفنها: “بدت المقبرة لزكريا وحنا في غاية الروعة، وهما ينظران إليها من نافذة الغرفة، قبور المسيحيين مصفوفة بعناية جانب قبور المسلمين، وقبور المجهولين والغرباء في صف ثالث منتظم”، لكن الكاهن والشيخ يرفضان الصلاة على الجثث غير المعروفة، فيرفض الشيخ الدفن على الطريقة الإسلامية لشخص مسيحي، وكذلك الكاهن يصر على التأكد من ديانة الجثة، بينما زكريا يتابع دفن الجميع معاً دون اكتراث: “مردداً أن الموتى يخسرون صفاتهم الدنيوية، ويتحولون إلى كائنات أخرى لا تعنيهم أمور الجنة”، وكذلك يفكر حنا على طول الرواية: “ماذا لو عاش البشر دون أديان وآلهة؟”

قلعة اللذة والرغبات المنحرفة

في فيلم “سالو”  Salò للمخرج باولو بازوليني والمقتبس عن رواية الماركيز دو ساد “120 يوماً في سدوم”، تظهر فكرة إنشاء قصر أو فيلا مخصصة لممارسات اللذة، وشطحات الشهوة، والرغبات المنحرفة. كذلك هنا، يتفق الأصدقاء الأربعة، شخصيات الرواية الأساسيون، على تأسيس قلعة مخصصة للذة. ببراعة يدخلنا الروائي خالد خليفة في تفاصيل تصاميم القلعة وشكل بنائها وتوزيع غرفها، بطريقة تذكر بقدرات الأديب الأرجنتيني بورخيس، والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، على تصميم القلاع والأديرة في قصصهم، وجعل الهندسة المعمارية متعة نصية للقارئ.

لكن بينما يأخذنا بازوليني في قلعة اللذة، لمعالجة الفروق الحرجة بين شحطات الجنس وجرائم الشهوة، يستثمر خليفة هذه الحكاية لإدانة التشدد الديني. فالقلعة التي تصبح على مدار الرواية مكاناً للاحتفالات، المتعة، اللقاءات بغاية الجنس والحب، يتم اجتياحها من قبل المتشددين الدينيين الذين يقومون بتدميرها وإحراقها.

تتعدد في الرواية أفعال التشدد الديني التي يركز عليها الكاتب، والتي تقع ضد المتعة، اللذة، والفن. فهناك حكاية هجوم المتشددين على عرض أزياء وهو عرض فني تنظمه سعاد، إحدى شخصيات الرواية: “دخل رجال ملتحون يحملون السيوف والسكاكين، اقتحموا المكان من كل الزوايا، كانوا يحملون مشاعل متوهجة، قال كبيرهم إنهم لم يسمحوا بهذا الفسق في مدينتهم الفاضلة”.

عشق يرتل من منبر الجامع

طالما برع الروائي خالد خليفة بنسج حكايات الحب، لكنه في هذه الرواية يعطيها بعداً ثقافياً، حين يربط قصص الحب بالعوائق الاجتماعية والدينية المفروضة على الشخصيات، والتي تحول دون اكتمال حكايات الحب.

في الفصل المعنون “الحب المستحيل” يرسم مشهداً جميلاً لشخصية صالح العزيزي، في لحظة من الفيض العشقي، حيث يصعد إلى مئذنة الجامع الأموي ويرتل عشقه من على المنبر: “حبك نجوم تنهض من رمادها، أنا تراب وأنت ماء، اصنع من ضلعي صلصالاً، تناثر في أيامي زمناً مفرداً يتفرق ولا يجتمع، اسقني لأنبت ريحاناً في ضلوع العشاق”، وبينما العاشق يردد ذلك من على المنبر، ما يلبث أن يخرج المتصوفة من زواياهم ويلتحقون بتلك الأنشود العذبة، بينما يخاف الجنود في المكان من هذا المشهد العشقي.

حكاية الحب المذكورة ذكرت آنفاً، تلك التي تجمع بين بين “وليم المسيحي وعائشة المسلمة”، تنتهي إلى موت العاشقين على يد حكمت ضاشوالي، الذي يخدم في عسكر السلطان ويرغب الزواج من عائشة، وحين تهرب مع حبيبها وليم، يعثر عليهما الضابط ضاشوالي ويقتلهما بالرصاص.

لكن لهذه الحكاية تأثيراً اجتماعياً وحتى سياسياً، فيعطي الروائي الحب القدرة على مجابهة القيود والسلطة، حين يصور رد فعل الأهالي على جريمة القتل: “لم تعد عائشة المفتي تلك الفتاة اللطيفة التي أحبت صديقها، أصبحت رمزاً للتحرر والانعتاق لدى أصحاب نظرية التحرر من العثمانيين واللحاق بأوربا. وفتاة منحلة يجب قتلها لدى أنصار الامبراطورية العثمانية”، هكذا يوظف الروائي تيمة الحب في توثيق التغير الفكري والثقافي داخل المجتمع، وهنا هو مجتمع مدينة حلب بعد الحرب العالمية الأولى.

لذة الموت الجماعي

كما تشكل موضوعة الحب امتداداً واضحاً في روايات خالد خليفة، كذلك الموضوعات الوجودية، وإن كان قد بلغ معالجته للموضوعات الوجودية ذروتها في رواية “الموت عمل شاق، 2016″، إلا أن راويته الحالية لا تخلو من التأملات والحكايات المرتبطة بالحياة، بالموت، بالوجود والعبث. يفكر حنا بالموت غرقاً، يرى الموت قريباً منه ولا يكرهه، يرى حلماً يكتشف فيه أن الدفن لا يعني نهاية الموت، يشعر في منامه بطعم الموت يسري تحت جلده: “كنت مطمئناً إلى أنني سأموت”، إذن على طول صفحات الرواية تحفر أسئلة الحياة والموت عميقاً في ذات حنا، وحين يراقب هجرة الطيور وتقلبات الطبيعة توحي له بأن الحياة هي انتظار طويل للموت.

أما عن أسئلة الوجود الأخرى فأيضاً نلمح جزءاً هاماً منها في تأملات حنا عن الحياة والعبث: “لو أنه قضى عمره يراقب الحياة والموت من النافذة، فسيجد البشر يعيدون العمل نفسه، يبنون منازل جديدة، يتزوجون وينجبون أطفالاً ثم يموتون واحداً تلو الآخر، أو يأتي طوفان جديد ويمنحهم لذة الموت الجماعي. مراقبة هذه الدورة أعادت إليه يقينه بأن كل شيء عبث”.

البيئة، الطبيعة، والجسد الإنساني

يلفت الانتباه حضور الطبيعة في هذه الرواية، رغم أنها رواية عن المدينة بامتياز، إلا أن خليفة يخصص في الفصل المعنون “آثام” حكاية خاصة تجمع بين شخصية حنا والطبيعة. فبعد الطوفان يكتشف حنا روعة العيش في الماء: “رقيق كل شيء هنا، لا شيء صلب من حولك، ملمس النباتات التي تحوطني، جلد الأسماك الناعم. سرير الماء الذي أنام عليه، رقيق، لا يشبه صلابة ما كان يحيط بي على اليابسة”، ولا يتوقف امتداح الطبيعة على هذا الحد، ففي الحكاية تتلبّس جسد حنا وأعضاءه سمات من مميزات الطبيعة، فحين تسقط أعضاء من جسده، يتلبس بخصائص النبات، فتعود أعضاؤه مرة أخرى للنمو، فينبت له عضو جديد بدلاً عن أصابعه حين يفقدها، واحدة من حكايات الرواية القليلة الفانتازية الطابع، لكنها تحمل رمزاً عالي الجمالية في علاقة البيئة والإنسان.

في موضوع البيئة أيضاً، يحضر في الرواية النهر دوماً كرمز للخلاص، فحين تقع حلب فريسة المجاعة والطاعون، يتحول النهر القريب من المدينة إلى ملجأ الخلاص. ونذكر أيضاً مقاربة جميلة بين النساء والطبيعة يذكرها الكاتب، فحين يتأمل حنا في جسد حبيبته سعاد: “يدقق النظر في الحلمات التي تشبه زهر الرمان، ويفكر بأن النساء يتبادلن الأسرار مع النبات دوماً”.

الرسم والتصوير الفوتوغرافي وعروض الأزياء

في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013)، يدمج خليفة فن الموسيقى في روايته، حيث يبتكر شخصيتين موسيقيتين تسمح حكايتهما بالتطرق إلى فن الموسيقى، والأنواع الموسيقية المختلفة من الصوفية إلى الجاز، إلى الموسيقى الكردية والسريانية والكلاسيكية.

في هذه الرواية يدمج الروائي أنواعاً أخرى من الفنون، هناك عازار الذي يدرس فن العمارة ويدخلنا في جمالياته عبر تصميم “قلعة اللذة”، وهناك حكاية تيودور الهولندي المولع بالتصوير الفوتوغرافي، والتي تمكن صوره للرواي من سرد أجزاء من تحولات المدينة، هناك سعاد مصممة الأزياء والعروض الفنية، وهناك طفلة مغنية في الكورال أيضاً.

لكن أوسع استعمال للفنون تناقشه الرواية يكون مع شخصية وليم، الفنان التشكيلي الذي يصر على رسم لوحات بورتريه للفئات الاجتماعية الفقيرة من الصيادين والأطفال المشردين. بينما يرفض الفن الكنسي.

حكاية تذكر بتاريخ الفنان التشكيلي الحلبي لؤي الكيالي، الذي عانى من خياره في التعبير عن حياة الناس البسطاء، وتركيزه الرسم على حياة القلة والهامش، مبتعداَ عن موضوعات اللوحة البرجوازية، ما أدى إلى إهماله من قبل القائمين على صالات الفن.

التقنيات السردية: المصنفات، الرسائل، والرواية داخل الرواية

يوظف خالد خليفة عدداً من التقنيات السردية، فالرواية المؤلفة من عشرة فصول، تسرد من راوٍ كلي المعرفة في سبعة فصول منها، تحمل عناوين: “الطوفان، أمي حبة فاصولياء مفلطحة، قبر وسط حقول الكرز، الطريق الشاق، عالم يتداعى، صيف العاشق، سرير القديس اللين”. أما الفصلين بعنوان “الآثام” و”الجوع” فهما نصان كتبهما بطل الرواية نفسه، أي حنا، بلسان الشخصية، وتم العثور عليهما لاحقاً، يندمجان في متن الرواية. أما مع الفصل المعنون “الحب المستحيل”، فهو مكتوب بتقنية الرواية داخل الرواية. وأخيراً، هناك توظيف الرسائل في السرد الأدبي، فيتبادل العاشقان حنا وسعاد رسالتين غراميتين تمتزجان أيضاً في متن النص الروائي.

توثق رواية “لم يصلّ عليهم أحد” للأحداث السياسية والاجتماعية التي عاشتها مدينة حلب، وعدة مناطق أخرى من الشمال السوري بين عامي 1881 و1951. ويحسب للروائي عمله البحثي على الكتب المتعلقة بتاريخ حلب وتوظيفها في السرد الروائي، ما يظهر القدرة التقنية على الدمج بين ماهو بحثي تاريخي، وما هو روائي.

هذه المرحلة التاريخية شهدت أحداثاً كبرى، فنبدأ بحكايات مع الطبقة الاقطاعية، ونمر على المجازر المرتكبة بحق الأرمن والمسيحيين السريان، وكذلك هناك وصف خوف أهالي حلب من قدوم القرن العشرين حيث تتوهم العامة بأنه قرن يحمل الهلاك، كما نتابع حكايات عن السلطة العثمانية وأساليبها في إخضاع المدينة. ويركز الروائي بخيار ذكي، على النقاشات والأسئلة الحادة التي عاشها المجتمع العربي بين البقاء في ظل السلطة العثمانية أو الاستقلال عنها.

ولا ينسى الروائي المرور على الحرب العالمية الأولى والثانية، والمجاعة، ويبرع في رسم المشاهد الجماعية للمدينة حين يجتاحها الطاعون في صفحات مديدة من الرواية. ثم يوثق بحكايات ملائمة لدخول الفرنسيين واستيلائهم على السلطة وتغير بعض الطباع الثقافية في المدينة، والبعثات التبشيرية التي تنجح بتحويل بعض العائلات من الإسلام إلى المسيحية، ووقوف المتشددين الدينيين أمام هذه التغيرات، كل ذلك وصولاً إلى مرحلة الاستقلال، حيث يركز الروائي على يوم زيارة شكري القوتلي لمدينة حلب، والتحضيرات والاستقبالات الشعبية، ليقودنا في التفاصيل الدقيقة لهذه الزيارة من حكايات الناس والعامة في هذا اليوم التاريخي.

رصيف 22

———————

من هو حنّا؟/ حسين شاويش

2020-09-28

ستحقّ أحدث روايات خالد خليفة “لم يصلّ عليهم أحد” القراءة المتمعّنة والتشريح المفصّل على كل مستويات الدلالة. وهي مهمّة مجهِدة فعلاً. وليس سبب ذلك هو الحجم وكثافة الأحداث وكثرة الشخصيّات فحسب، وهو ما يجعل المؤلف من كبار حكواتيّي العربيّة هذه الأيام، وإنما تعدّد وتشابك مستويات الدلالة تلك. والمشكلة أن الكاتب كان من المكر بحيث أخفى ذلك التشابك من خلال طريقة السرد التي بدا أنّها تقول كل شيء.

بعد قراءتي الأولى للرواية كتبت انطباعي السريع كالتالي: هذه الرواية تصلح لحمل العناوين التالية: “التاريخ المجهول لحلب” أو “مأساة السريان” أو “صناعة القداسة” أو “الحب أحد أثواب الموت اللانهائية” أو “عندما يصاب دراكولا التعصّب الديني بالإدمان على دم العشّاق”. ولعل هذه العناوين الافتراضية تكفي للبوح بوجود تلك المستويات المتعدّدة والمتشابكة للدلالة في هذا الكتاب.

هذا المقال هو محاولة تفكيك إحدى الشخصيّات الرئيسيّة، التي تتقاطع في أحداث حياتها كل تلك المستويات، وترسم طفولتها صورة حلب العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر بوجهين متناقضين، لكنّ واقعية كليهما تكافئ تماماً تناقضهما. كما أنّ جذرية ذلك التناقض تكافئ تماماً بعده التفجيري.

تلك الشخصية تُدعى “حنّا كريكورس”. وهذا الاسم بحد ذاته دالّ. والأسماء في هذه الرواية تبدو في معظم الحالات مرمّزاتٍ جزئيةً تندرج في إحدى مستويات دلالة أشمل. فحنّا مسيحي والقارئ لديه كلّ المبرّرات ليعتبره رمزاً لكل سريان سوريا، وحلب طبعاً بالخصوص. يقتل الجنود الأتراك أباه كابرييل ضمن مجزرة ماردين عام 1876 التي “ذُبح فيها كل أفراد عائلة كريكورس باستثناء الطفل حنّا عقاباً لقتلهم ضابطاً عثمانياً حاول خطف عمّة حنّا في وضح النهار” كما تقول الرواية. يربيّه صديق الأب وشريكه أحمد البيازيدي، أحد كبار محاسبي حلب، وهو مسلم، كما يشي اسمه. لكنّ هذا الاب بالتبنّي ينحدر من عائلة كانت مسيحيّة قبل مئة سنة من ذلك التاريخ ثم أسلمت. هذا التداخل الديني يتظاهر من خلال شلّة الأصدقاء التي تشكّل أحداث حياتهم بنية هذه الرواية: حنا وزكريا ووليم وعازار، الذين “يمثّلون” الأديان الثلاثة، المسيحية والإسلام واليهودية، والذين يحافظون على صداقتهم إلى النهاية دون أن يعكّر تلك الصداقة ولو جدال ديني واحد، ربّما بسبب أنّهم جميعاً “مارقون”، وهو اللفظ الذي سيقابلنا فيما بعد. وسينضمّ إليهم فيما بعد عارف شيخ موسى الكردي لتكتمل تقريباً “الماتريكس” السورية.

لايكتفي أحمد البيازيدي بتبنّي حنّا الطفل، بل يستضيف مربّيته مارغو المرأة السريانيّة شديدة التديّن عنده في المنزل، ويرعى شؤون أملاك حنّا التي ورثها عن والده القتيل ليعيدها إليه بعد أن يبلغ الرشد ويتأكّد من استطاعته إدارتها بنفسه. تلك المربّية تعلّم حنّا اللغة السريانية وتتحدّث معه بها في بيت البيازيدي، حيث يتكلّم الآخرون العربية طبعاً. كما أنّها تحاول من خلال حكاياتها إشراك كل قدّيسي وشهداء تلك الكنيسة الشرقية في حياة الطفل الصغير. كانت تقول له “إنهم أسلافك يا حنّا ويجب أن تردّ الاعتبار لهم”. سيتذكّر حنّا البالغ هذه القصص. لكنّ حنّا الطفل كانت تهمّه شؤون أخرى طبعاً وهي اللعب مع أخويه في المنزل زكريّا وسعاد، باللغة العربية -الحلبية طبعاً. وسيشاركهما كل تفاصيل حياتهما إلى النهاية. زكريا سيلازمه كأخ حقيقي، أمّا سعاد فستكون حبّه الكبير، بينما سيكون هو خيبتها الكبرى. إذ أنه لن يجرؤ على الزواج منها بسبب اختلاف الدين ومشكلة زواج المسيحي من المسلمة. تلك الجرأة التي افتقدها ستواتي صديقاً لهما هو وليم، المسيحي، فيهرب مع عائشة، المسلمة طبعاً، بعد قصة حبّ تشبه السير في حقل من الورود مزروع بالألغام. لكنّ ضابطاً تركيّاً يقتلهما معاً. سيحفر زكريا وحنّا قبراً مشتركاً لهذين العاشقين الثائرين في مقبرة تقتصر عليهما “ليست مسيحية ولا مسلمة”. وحين سيقترح أحد الأصدقاء عليه استدعاء خوري وشيخ للصلاة عليهما، سيجيبه حنّا “إنهما عاشقان ولن يصلّي عليهما أحد”. وهذه الجملة الأخيرة هي نفسها عنوان الرواية بعد تحويل الضمير المتصل من المثنّى إلى الجمع. فمشكلة الصلاة على الموتى سنقرأ قصّتها في الصفحات الأولى من الرواية عندما يدفن الفلاحون تحت قيادة زكريا غرقى الطوفان الذي قضى على جميع سكّان قرية “حوش حنّا”، بما فيهم زوجة حنّا وابنه الصغير. ولأنّ سكّان تلك القرية هم خليط من المسلمين والمسيحيين، فقد رفض كل من الشيخ والخوري الصلاة على من لا يعرفون دينه، فتجاهلهم زكريا واستمر في الدفن.. بدون صلاة. نقرأ الفكرة نفسها فيما بعد، عندما يكتشف زكريا وحنّا أكثر من ثلاثين جمجمة ومجموعة كبيرة من العظام البشرية في موقع الكنيسة السرّية التي كان المسيحيّون الأوائل يتعبّدون فيها، وفق النقوش السريانية المكتوبة على أحد جدرانها. يفكّر حنّا كما يلي: “لماذا لا تكون تلك الجماجم والبقايا هي لقبر جماعي لبني قومه، لجماعة قُتلت ودُفنت على أيدي الإنكشاريين؟. أعجبته هذه الحكاية وفكّر أنّ هذه الأرض تغصّ بالمقابر الجماعية، تضمّ رفات بشر بؤساء لم يدفنهم أو يصلّ عليهم أحد”. ولكن لماذا هذه “الثيمة الجزئية”: الصلاة على الموتى، وخاصّة في شكلها المنفيّ المرفوض؟ ربّما يقودنا ربط تلك الحوادث الثلاث إلى فهم الجواب. فأولئك الذين لم يُصلَّ عليهم هم عاشقان ارتبطا رغماً عن أنف قانون الزواج بين الأديان، وضحايا طوفان النهر من مجهولي الدين، وضحايا القمع الديني المباشر. إنّهم “خارجون” على الدين الرسمي، سواء بإرادتهم أم بدونها. وسيختار حنّا هذا المصير نفسه في شيخوخته، بعد أن جَبُن عن ارتكابه في شبابه. أخيراً فهناك دلالة أخرى ليست بعيدة تماماً عن الأولى. إنّها غُربة الموتى التي تذكّر وبشكل لا منفذ منه بغربة الموت نفسه. وهو ما سأعود إليه في آخر فقرات هذا المقال.

 بالموت تبدأ الرواية. إنّه موت جماعي بطوفان النهر. هذا الطوفان الذي حدث عام 1907 سيكون نقطة التحوّل الكبرى في حياة حنّا. وهو تحوّل لا يمكن فهمه بمجرّد حقيقة غرق زوجته وابنه. إنّه تحوّل يتجاوز العاطفة إلى سؤال المعنى.

حنّا الشخصية التراجيدية

قبل الطوفان كان حنّا يعيش وفق مبدأ المتعة. وكان وضعه المادّي كملاّك كبير يتيح له ممارسة ذلك المبدأ دون حدود. كان، مع صديقه زكريا، يتفنّن في اختراع طرق جديدة لممارسة حياة “الآبقين”. وكان آخر تلك الإبداعات بناء قلعة حقيقية ذات دهاليز وممرّات سرّية ولها عملتها الفضّية الخاصّة ويبدو للوهلة الأولى أن قانون اللذّة هو ما يحكمها، إذ أن سكّانها هم حصراً نوعان من البشر: رجال أغنياء وعاهرات، ولعلّ كلمة قيان تناسبهنّ أكثر. لكنّ ثمة منصّة خاصّة للمنتحرين الذين يخسرون كل ما معهم في القمار. وهؤلاء “يتمتّعون” بتبجيل خاص، بما فيه التوابيت الفضّية مثلاً. هذا التبجيل المتساوي لإرادة “الحياة الآبقة” ولإرادة “الموت الآبق” يشير لا إلى درجة عالية من “حرّية الأنا” فحسب، بل وإلى قلق وجودي كامن في قاع النفس ستدفع به كارثة الطوفان إلى واجهة الشخصية.

وكما نتعوّد على شخصية حنّا في الرواية فهي لن تكتفي بالتأمّل بقلقها الوجودي. إنّها ستحوّله إلى تجوال لا يعرف الاستراحات. بل وسيحاول أن يحرم نفسه من أيّ مُنسيات لذلك القلق، كالمتع اليومية مثلاً. ولن يكتفي بذلك، بل سيُسكت لسان الجسد إلى حد الخرس، بأن يحاول محوه تقريباً. بعد اليوم لن يعود السؤال: ماذا؟ ولكن “لماذا”. وعندما يصل إلى الجواب الأعمق يحوّله إلى سلوك بنفس الجذرية، يغطس في النهر، إلى الأبد. أي أنّ الرحلة التي بدأت بطوفان النهر ستنتهي في النهر نفسه. ولكن ما بين تلك البداية وهذه النهاية ستمرّ أربعة عقود من السنين مثقلة لا بأسئلة القيمة والجدوى والمعنى فحسب، بل وبتأمّل الطيور والأزهار وبعقد صلة جديدة مع الطبيعة، كان من نتائجها أنّه كتب ثلاثة مصنّفات عن نباتات وحيوانات شمال حلب ونهر الفرات.

سيتذكّر القارئ هنا الكثير من الشخصيّات الروائية، كالقدّيس فرانسيس عند كازانتزاكيس أو سيدهارتا عند هيرمان هيسة، مثلاً. لكنّ هاتين الشخصيّتين اللتين تمرّان بتحوّل مشابه ظاهرياً لا تحملان صفة “البطل التراجيدي” التي نعرفها في الأدب، ونراها بوضوح لدى خالد خليفة في شخصية حنّا. إذ أنّنا نستطيع أن نرصد كل سمات ذلك الأنموذج، أي البطل التراجيدي” التي نعرفها منذ زمن سوفوكليس. علينا فقط أن نستبدل القدر ونبوءات الكهنة بالنظام العثماني والشرائع الدينيّة وقيود المجتمع التقليدي. وكما نعرف منذ أرسطو بأن البطل التراجيدي يحمل عوامل صراعه في ذاته، وهو صراع لا ينتهي إلاّ بالموت، لم يطل الصراع في نفس حنّا طويلاً ليخرج إلى النور. ظهر هذا الصراع في كل مراحل حياته بأشكال تناسب تلك المراحل. كشابّ مارس حنّا مع عصابته الصغيرة العابرة للأديان والقوميّات تكسيركل تابوات المجتمع، الجنسية والطبقية. ثم تحدّى كرجل رموز السلطة العثمانية وأخذ بثأره ممّن قتل أباه منهم. ولم يكن قد دخل مرحلة الكهولة الحقيقية بعد عندما بدأ يصارع ضد وحش ميثولوجي أقوى من أولئك الأعداء جميعاً، الماضي.

بهذا المعنى فقد كان حنّا مثالاً كاملاً للمتمرّد. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل خالد خليفة يصرّ على تعبير “آبق” الذي نقرأه كثيراً في الرواية. فإن كان في كثير من المواضع يعني “الفسق” فهو يحتفظ  دائماً بمعناه الأصلي، أي الخروج عن الطاعة.

النظرة الأولى لهذا التمرّد، والتي تذكّر بألبير كامو، تخرج بالسيناريو التالي: لقد تجلّى هذا النزوع الداخلي للتمرّد في مرحلة ما قبل الطوفان بعدوانيّة لا تترك حجراً على حجر في عمارة النفاق الأخلاقي الاجتماعي. لكنّ تلك العدوانيّة تتحوّل إلى إنسحابيّة سلبيّة هروبية بعد الطوفان، وكأنه في المرحلة الأولى أراد تدمير البنية الاجتماعية-السياسية التي كانت سمحت بقتل عائلته، وقد استطاع فعلاً الانتقام من ضابطين مسؤولين عن الجريمة، كما جاء أعلاه، لكنّه عندما لم يعد يجد من يدمّره دمّر نفسه، دون أن يطلب أي ثمن لذلك التدمير. وكان ذلك “الإعدام الذاتي” مجرّد نهاية لسلسلة من التفريط بكل شيء، الثروة والعائلة والمكانة الاجتماعية..الخ. وهو فعل عبثي يناسب عبث الوجود الإنساني نفسه.

لكنّها نظرة سطحيّة، ككلّ نظرة أولى.

العاشق الجبان أم الباحث عن أمّ ماتت قبل قرون؟

يقتل الجنود العثمانيّون أم حنّا في جملة ما يقتلون. لم تستطع مربّيته السريانيّة احتلال مكان الأم ولا تعويضها من ثمّة. كانت في الواقع خادمة غريبة في عائلة غنيّة، رغم الصداقة التي عقدتها أم زكريا معها. كل ما نجحت فيه هو “تحفيظ” حنّا الثقافة السريانية كما تفهمها، اللغة وقصص القدّيسين، وتذكيره -بمجرّد وجودها- بتاريخه الإقطاعي شديد الثراء.

لذلك كان حنّا يعيش في الواقع مع “أم فسيفسائية” تشكّل جزءاً منها مربّيته وجزءاً آخر أم زكريا وجزءاً ثالثاً سعاد، الطفلة ذات الموهبة الأموميّة النادرة. هذه الأخيرة ستصبح حبّه الكبير الأول والأخير.

لكنّ الأمر لم يطل كثيراً بالشاب الصغير إلى أن يكتشف أن هناك نساء أخريات في هذا العالم. وهكذا اتّسعت لوحة الفسيفساء النفسية لتستقبل قطعاً جديدة، أمهاتٍ جديدات. لكنّ هاته الأمهات الجديدات دخلن عليه من باب  أكثر إمتاعاً، يناسب مزاج المراهق، إنّه الجنس. ونعلم أنّ المراهق لا يتعامل مع الجنس كحقيقة فيزيولوجية، ولكن كمغامرة نفسية، وإن كانت تحكمها الهورمونات. حنّا، المتمرّد الذي سردنا قصّته في الفقرة السابقة، يخوض هذه المغامرة، كغيرها من المغامرات بلا خوف وإلى النهاية. وكان تشييد قلعة اللذة تتويجاً لهذه النزعة. لكنّه سيكتشف بعد وقت ليس طويلاً السلوك المناقض تجاه النساء، فهو يريد اللّذة القصوى والتنويع الدائم، وكأنّه يعرف أنّه قريباً سيترك ذلك كلّه. إنّه يهرب من مواجهتنّ كعشيقات، ولو لحظيّات، رافعاً شعار “إنّ أفضل النساء هنّ اللواتي تستطيع نسيانهنّ بعد المضاجعة” ص19. ولعلّ السبب هو أنّه كان يبحث في تلك النساء عمّا لا يمكن أن يجده. أي عن أمّه. فعاد إلى اختراعه الأثير بتركيب فسيفساء أمومية جديدة تتألّف هذه المرّة من جوزفين التي سيتزوّجها وبغي شابة لم تزل عذراء هي “شمس الصباح” يكتشف شبهها بأمّه ويحكم عليها بأن تبقى عذراء لتظل علاقتهما أقرب إلى علاقة الولد بأمه. وثمة عذراء أخرى هي ماريانا ستحاول حسم مستقبله الروحي فيما بعد عندما تكرّس حياتها لتطويبه قدّيساً.

لكنّ قطعة واحدة بعينها من هذه الفسيفساء النسائية تشخصن أكثر من غيرها إحدى الثيمات الكبرى للرواية. إنها سعاد. أمّ صغيرة، حتّى في طفولتها، ومعشوقة مستحيلة. ستصبح حبّه الأكبر وسيصبح حبّها الأوّل. لكنّه يجبن عن خوض المغامرة لأنّ الثمن الواقعي الذي يجب عليه دفعه للحصول عليها هو أن يُعلن إسلامه. لا ينقل لنا خالد خليفة في الكتاب مونولوجات الصراع النفسي التي رافقت هذا التردّد ما بين تحطيم كل شيء في سبيل الحصول على الحبيبة والثبات على رسالة مكتوبة في اللاشعور الإثني لحنّا السرياني سنقرأها فيما بعد عندما يحلم بوجود دير قديم قدم المسيحية نفسها في سوريا. حلم سيحفر عليه مع صديقه زكريا إلى أن يعثرا فعلاً على أساسات ذلك الدير ويعيدا بناءه من جديد.

سعاد تطلق عليه التهمة الوحيدة الممكنة بسبب هذا التردّد: جبان. وهو يعترف أيضاً بذلك ويعاني منه. ويحاول غسل هذه التهمة لا شعورياً بتقديم دعم غير محدود لصديقه وليم الذي استطاع اقتحام ذلك المستحيل عندما هرب مع عائشة بعد قصة حبّ لن تقف آثارها عند العاشقين وحدهما. لن يستسلم حنّا لآلية التماهي تلك. بل سيكتفي بالتعويض عن هزيمته العشقية وسيستجيب لأول صدمة كبرى، وهي الطوفان الذي أخذ معه الأهل والأحبّة، لينسحب من الصراعات الواقعية إلى بحثه الميتافيزيقي والذي ستحاول ماريانا تحويله إلى قداسة وتمأسسه على هذا الأساس، وخاصّة بعد صدق رؤياه بوجود دير قديم مدفون، كما دُفن الأصل السرياني للمنطقة نفسه.

صناعة القدّيس

إذن ستقوم ماريانا بعنادٍ عجيب و”تخطيط استراتيجي” أعجب بكل التحضيرات الضرورية، بل والثانوية، لتصنع من حنّا قدّيساً. ويتضمّن ذلك طبعاً محو كل ما وجدته غير مناسب لشخصية قدّيس أنموذجي من سيرة حنّا الشخصية، وتأليف ونشر سيرة جديدة مليئة بالمعجزات. وسينجح كاتبنا فعلاً في إقناعنا بأنّ القداسة هي إنتاج بشري كأي إنتاج آخر يمرّ بمراحل ولا يعتمد فقط على اقتناع الناس بالقوة الروحية التي يتمتّع بها شخص ما يدّعي القداسة.

ينجح المشروع طالما ينجح التلاعب “بجزء صغير” منه، وهو تعاون الشخص المقدّس نفسه أو سكوته. وقد “سكت” حنّا طويلاً على ما تفعله فيه ماريانا اتباعاً لنصيحة الأب إبراهيم الذي يلعب دور المرجعية الروحية لحنّا: “قال حنّا لإبراهيم إن هذه المعجزات لم تحدث. لكن ابراهيم شرح له آلية صناعة المعجزة. قال له ببساطة إنه ليس مهماً حدوث المعجزة بل الأهم هو تصديق الناس لها. لن يستطيع أحد إيقافها. دوماً نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا البشري… لاتحاول إيقاف الحكايات”. وعندما تتوقّف مقدرة حنّا على هذا التواطؤ يتفكّك المشروع كما تتفكّك كل البنية القديمة وشخصيّاتها، بما فيهم حنّا وزكريا طبعاً. إذ في الوقت نفسه الذي تغزل فيه ماريانا قصص القدرة الخارقة على الشفاء التي يتمتّع بها حنّا، يكون هذا القدّيس الجديد ضحيّة مونولوجات حول وجود الله تنتهي بأن الله في أحسن حالاته هو في الواقع مجرّد فكرة بشرية قد تكون مفيدة.. العبث هنا يصل إلى أقصى درجاته. ويناسب الشخصية الجديدة ليعطيها تبريراً للانسحاب النهائي من أي صراع مادّي، والتفرّغ إمّا للتأمّل بالطبيعة أو لكتابة “مصنّفاته”، أو للعناية بأولاد زكريا، انتظاراً للاستجابة لنداء النهر. لكنّ هذا المسار نفسه يمكن تأويله بطريقة أخرى تناسب إلى حدّ ما توصيف ألبير كامو لما يسميّه “المتمرّد الميتافيزيقي” الذي لا يكتفي بالتمرّد على ظلم ملموس، كتمرّد العبد على السيّد مثلاً، وإنّما يتمرّد على الحياة نفسها. والمتمرّد الميتافيزيقي، وفق كامو، ليس هو من ينكر الإله، بل من ينافسه على وظائفه. وعندما يُصاب هذا المتمرّد بالتعب أو الملل قد يختار إلغاء الوجود نفسه.

وهذا ما يفعله حنّا بالضبط. 

مجلة رمان

————————-

خالد خليفة والكتابة العارية/ هيثم حسين

2018/02/20

“مَن يجرؤ اليوم على نقد نص لكاتب يقرأ نصوصه في مدن ألمانية ويتحدث عن الثورة؟”.. سؤال أطلقه السيناريست والروائيّ السوريّ خالد خليفة في رأي سريع له بعنوان “الكتابة العارية” نشره في “مجلة رمّان” الثقافية بتاريخ 24/1/2018.

استهلّ خليفة مقالته بقوله: “لا نستطيع الحديث عن تغيير جوهري في الأدب السوري حتى الآن، رغم أن سوريا القديمة انتهت، وقرار دفنها ينتظر حضور المعزين والقتلة لإكمال تكفين الجثمان والدفن”. ثمّ أكمل بالإخبار بنوع من اليقين الذي يجب أن يقتنع به قارئه: “كل التحولات في الكتابة السورية خلال السنوات السبع الماضية كانت شكلية، رافقها ضجيج كبير يمكن تلخيصه بفتح كل الأبواب أمام كتّاب شباب ومخضرمين من قبل دوائر ثقافية أوروبية، قدمت المنح والدعم المطلق لهؤلاء الكتاب الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت أضواء مربكة، وغالباً ما تكون هذه الأضواء مؤقتة ترتبط بزمن الحدث، لكن لا يمكن إقناع كاتب شاب يجول أوروبا ويقرأ نصوصه في منتديات ثقافية بأنه لم يصل إلى سدرة منتهى الكتابة، لا يمكن إقناعه بأن نصوصه لا قيمة لها بمعايير الكتابة وحساباتها”.

حاول خليفة اختصار التحوّلات التي طرأت على الأدب السوريّ بعد الثورة السوريّة برأي سريع أطلق فيه سهام الانتقاد هنا وهناك من دون تحديد، بشكل لا يخلو من تعميم متملّص من المواجهة قد يصيب عدّة أهداف بالمصادفة، أو قد يمضي سريعاً كما أطلق من دون أن يحقّق أيّ مراد أو مبتغى.

سأحاول هنا مناقشة بعض الأفكار السريعة التي طرحها، والتي كان التعميم ميسمها وعنوانها، والتأثيم عنواناً مضمراً مرافقاً للتعميم، بحيث يكون تضليل القارئ من خلال هذا التعميم، وتمويه الرأي والإيهام بأنّ الكارثة شاملة، وهو كروائي يكتشفها وينتقدها ويدرك واجبه إزاءها، وبما أنّه يقوم بتشريحها وتشخيصها ومواطن الضعف والخلل فيها، فهذا يوحي بافتراض أنّه خارج هذه الدائرة، وقد يحتمل التخمين أنّه يشمل نفسه به لئلّا يظنّ القارئ أنّه أبقى نفسه بعيداً عن سهام النقد التي ينثرها هنا وهناك من دون تحديد يمكن أن يشكّل كوّة للإفادة والمساجلة والتجاذب.

لعلّنا لا نذيع سرّاً إذا ما قلنا بأنّ خليفة هو واحد من أكثر الروائيّين السوريّين ممّن أفاد من دوائر ثقافيّة أوروبيّة وعربيّة، ومن ظاهرة المنح المقدّمة وما وصفه بـ”الدعم المطلق لهؤلاء الكتاب الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت أضواء مربكة، وغالباً ما تكون هذه الأضواء مؤقتة ترتبط بزمن الحدث”.. وخالد نفسه لم يهدأ وهو يجول العواصم والمدن الغربيّة ويقرأ نصوصاً مكرّرة ويحاول الوقوف على مسافة وهو ينتقد النظام والمعارضات البائسة التي لم ترتقِ لمستوى الثورة السوريّة.

تصادف أن حضرت مشاركتين له في قراءات وجولات له في مدن بريطانية سنة 2014، (في مدينتَيْ ليفربول وبرادفورد الإنكليزيتين) مع بضع شباب آخرين رافقوه – لم أعد أذكر أسماءهم جميعاً – كانت ميزة بعضهم الوحيدة أنّهم يرفعون أصواتهم بـ”الصراخ الإيديولوجي”، وتجريم النظام المجرم الذي تشبه حالته حالة مَن ينطبق عليه مثل “ضفدعة يبصق عليها بعضهم فتضحك وتردّ على الباصق عليها بأنّ ماء البحر لم يستطع تبليلها فكيف لبصقة سريعة أن تبلّل وجهها”. وكأنّ معارضة النظام وحدها كافية لتصنع مبدعاً وتضعه على منصّة يقرأ شعراً أو نصّاً مسلوقاً على عجل!

وقد يغمز البعض من زاوية أنّ خالداً شارك في تعزيز حضور نماذج من تلك التي تحدّث عنها وانتقدها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال مشاركته إيّاهم، أو استغلاله وجودهم وحضورهم في الغرب، وعلاقاتهم المتداخلة مع “دوائر ثقافية”، وهم بدورهم احتاجوه كاسم “مكرّس” تمّ الاشتغال على ترويجه من خلال العلاقات في وسط الدراما والصحافة، وعبر شلل عابرة للحدود وتشابكات يحتاج المرء لوقت وجهد للتفصيل فيها وتحليلها، وذلك كي يشرعنوا لبعضهم الكفاءة والجدارة والصدارة والتحدّث باسم سوريا بصيغة ما.

لن أتطرّق إلى سهامه المطلقة باتّجاه الأدب الفلسطينيّ الذي وصفه بأنّه “مات ولم يعد يسمع به أحد اليوم، أو حتى يشعر بوجوده”، كي لا يأخذنا الحديث إلى مكان آخر بعيد عن الحالة التي حاول وأحاول التركيز عليها، وهي الحالة السوريّة، ولقناعتي أنّ هذا اتّهام مجّانيّ مطلق كذلك بتعميم لا يستند إلى أيّ دقّة واقعيّة. كما تراه في السياق ذاته يتنبّأ بيقين أنّ “هذا ما سيحصل للكثير من الكتب التي تكتب اليوم، ستموت الروايات والقصائد، والمسرحيات ومئات الأفلام التي أنتجت. وما تبقى أو سيبقى قليل جداً”. ولا يخفى أنّ الإشارة إلى “الكثير” تحتمل بدورها استثناءات قليلة، والقارئ الفطن يدرك أنّ الكاتب نفسه يعتبر كتابته ومؤلفاته ضمناً من تلك “الفئة الناجية” من النسيان، وقد يكون التبرير أنّه مشمول بذاك الذي سيحصل للكثير ويقرّع نفسه على ما سيحصل.

إن كنّا نعرف سلفاً ما سيحصل من مصائب لماذا لا نتداركه؟ لماذا لا يتداركه خليفة باعتباره يشخّص الحالة ويعرف مواطن الضعف فيها؟ فليقدّم للأجيال القادمة وصفته للأدب الخالد والروايات الخالدة؟ هل تحمل رواياته التي تدور في العوالم نفسها، وفي فلك التكرار وتقليد الذات كأنّها قصص مستنسخة عن بعضها بشيء من التحوير، أي تجديد خارق أم أنّ الصلات والعلاقات الموطّدة بـ”دوائر ثقافية” في الغرب والشرق وضعت نتاجاته في قوائم ولوائح يعرف المطّلع على واقع الصحافة والإعلام ممرّات ودهاليز مفضية إليها…؟

صنّف خليفة الأدباء السوريّين إلى ثلاثة أصناف، صنف مع الثورة، وآخر مع النظام، وثالث يزعم الوقوف في المنتصف، وبالطبع فإنّه محسوب على أدباء الصنف الأوّل، وتراه يكرّر أنّه يرفض مغادرة بلده والتحوّل إلى لاجئ في أيّة دولة أخرى، بالرغم من أنّه صال وجال أوروبا وأميركا، إلّا أنّه يعود إلى منزله في دمشق، ولا يخفى أنّ دمشق تعدّ منطقة “آمنة” إذا ما قورنت بالمدن الأخرى، كما لا يخفى أنّ الكتّاب المعارضين المقيمين في الداخل هم آخر همّ النظام الذي لا يني يدّعي محاربته الإرهاب والجماعات المتطرّفة، لذلك فلن يقوم بـ”إزعاج” أيّ كاتب إلّا ضمن حدود الإشارة إلى أنّه موجود وأنّ بالإمكان محاصرته ومعاقبته حين الحاجة. وهذه معادلة اعتاد عليها السوريّون، بين شدّ وجذب ومناورة وتورية.

يعدّ خالد نفسه خارج التصنيفات بمعنى ما، لطالما هو يصنّف ويقوم بالتشريح فهو الحكم القادر على تمييز الأصناف ونقدها وتشريح عللها وأوبئتها، لذلك فلن يكون ضمنها، أو مندرجاً في سياقاتها أو مقيّداً بقيودها.. وبالحديث عمّن بقي في البلد أو مَن خرج منه، فإنّ الظروف حتّمت على كلّ امرئ خياراته في اللجوء أو الإقامة في دول الجوار أو غير ذلك ممّا ارتضاه لنفسه، وتنظيمه لعلاقته مع محيطه والسلط والدوائر التي يقيم علاقاته معها.. لذلك فالبقاء ليس مِنّة أو تضحية من قبل أحد، ولا المغادرة مِنّة أو تضحية بمعنى آخر.

أشار خليفة إلى “القحط الإبداعيّ” وإلى “خيبة أمل كبيرة” والحاجة “إلى مئات الصفحات، والكثير من الألم بالمكاشفة”، وقد ذكّرتني مقالته السريعة بقصّة للألماني باتريك زوسكيند بعنوان “هوس العمق” التي صوّر فيها مشاهد من حياة فنانة مبدعة صارت أخرى مهووسة بأقاويل الآخرين عنها، وفقدانها ثقتها بنفسها، وذلك كله بعد أن أبدى أحد النقاد رأياً في تجربتها وأعمالها في معرضها بأنها لافتة، لكنها تفتقر للعمق. صوّر زوسكيند كيف تحول رأي الناقد العابر المطلق من غير وعي وفهم و”عمق” إلى مشكلة حقيقية بالنسبة للفنانة التي تقرّر البحث عن العمق في ما يحيط بها، يصبح العمق بالنسبة لها هوساً لا يفارقها، يطغى عليها ويقودها في دهاليز معتمة، وتصل إلى درجة تفقد فيها بوصلتها وقدرتها على الاستمرار في الحياة، وذلك بعد قنوطها من فكرة اكتشاف العمق وفهم معناه الدقيق، ولم تجدها محاولات التفتيش في كتب الفنّ ودراسة أعمال الفنانين الآخرين، في بحثها عمّا يسمّى بالعمق وفي تخليصها من هوسها القاتل الذي أودى بها.

هل يمكن أن يساعد خليفة في صياغة معنى العمق كي لا يُبقي الآخرين في معمعة هوس يفتقر لـ”العمق”؟ هلّا يصوغ بيانه الأدبيّ والروائيّ العميقين للزمن القادم؟

التعميم الذي أطلقه خليفة من دون تسمية أحدهم يكون تعبيراً عن نوع من الغضب على مآلات الأوضاع الراهنة، لكنّه يفتقر للمكاشفة، وهنا أحاول التعاون معه وتحمّل ألم المكاشفة معه، كي لا نبقى متحدّثين في فراغ يحتمل التأويلات المتناقضة، ولا يتجرّأ على التسمية والتحديد للإفادة والمناقشة وتقبّل الآراء المختلفة.

لا أختلف مع خليفة أنّ هناك مَن ركب موجة الثورة، وكان قبل ذلك نكرة في عالم الأدب والكتابة والفنّ، استغلّ الأوضاع المستجدّة وحاول الظهور وانتهاز الفرص، لكن هذا لا يعني تعميم الأمر واتّهام نتاجات مرحلة كاملة، وكأنّها خارج عالم الادب والكتابة الذي يجب أن يظلّ محتكراً لدائرة بعينها. كما لا أختلف معه أنّ الكتابة الركيكة والأدب التسطيحيّ يسيئان للقضايا العادلة، ولا يجدي الضجيج المصاحب ولا “الصراخ الإيديولوجي” بإسباغ المسحة الإبداعية على نتاجات تقوم بتمييع الفكر والأدب والثورة.

أودّ الإشارة في الخاتمة إلى أنّ هذا الرأي يتعلّق بمادّة خالد خليفة، ولا تروم الانتقاص من شخصه الكريم، وهو الذي له حضور إنسانيّ مميّز يضفي على اللقاءات بصمته الخاصّة، كما أودّ التأكيد على أنّني أكنّ له احتراماً ومحبّة خاصّين، لكنّني أحاول مناقشة بعض الأفكار التي طرحها، كنوع من المشاركة في الإجابة عن سؤاله عمّن يجرؤ على النقد في حالتنا السوريّة التي يحار المرء في وصفها لقتامتها ومأسويّتها.

المدن

————————–

“لم يُصلّ عليهم أحد”… عن مدينة حلب وماضيها الغارق بالآلام/ سامر مختار

2019-12-18

من رواية «مديح الكراهية» 2006، إلى «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» 2014، كانت مدينة حلب حاضرة دوماً في أعمال الروائي السوري خالد خليفة التي ولد وعاش فيها (مواليد 1964 – قرية أورم الصغرى – حلب) وحتى رواية «الموت عمل شاق» 2016 التي تبدأ في دمشق، لكنها تنتهي في حلب، وصولاً إلى رواية «لم يصلّ عليهم أحد» الصادرة مؤخراً بطبعتين، الأولى عن دار أنطوان هاشيت في بيروت، والثانية عن دار العين في القاهرة.

يعود خالد خليفة في روايته الجديدة إلى حلب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذه العودة، ليس هدفها الرئيسي سرد التاريخ غير الرسمي لحقبة زمنية ما فقط، بل يعمل خالد على تقصي أثر المصائب والحروب والأحداث التاريخية على البشر ومصائرهم. عن تأملهم للحياة والموت، للحب والكراهية، للإيمان وعدمه.

تبدأ الرواية بحادثة غرق قرية حوش حنّا، إثر هبوب عاصفة، تتسبب في طوفان النهر، الذي ابتلع أغلب سكان القرية. الطوفان سيغير نظرة  بطل الرواية حنّا كريكورس للحياة، الذي كان يعيش مع صديق طفولته زكريا البيازيدي حياة ماجنة، وصلت حدّها الأقصى ببناء قلعة على قمة تلّة، يقضون فيها معظم أوقاتهم في اللهو والسكر في أحضان النساء، ولعب القمار. انشغال الاثنين بحفلاتهما الماجنة سينجيهم من الطوفان، الذي لم تنجو منه زوجة حنّا جوزفين وابنهما، كما لم ينجو ابن زكريا الذي حاولت زوجته شاها في لحظة الطوفان الحفاظ عليه، والتي رأتها الفتاة ماريانا “تضم جثة ابنها إلى صدرها، نجح الصيّادون في انتزاعه من بين ذراعيها بصعوبة”.

سيكون الطوفان بمثابة نذير شؤم، يبشر ببداية قرن جديد مليء بالحروب والمجازر والقتل والجوع.

ورغم أن الزمن الرئيسي للأحداث التي أعقبت الطوفان يبدأ مع عام ١٩٠٧ وينتهي عام ١٩٥١، إلا أن سرد تاريخ الشخصيات يعود بالقصص والحكايات لما قبل الطوفان. فالرواية مليئة بالشخصيات التي تتداخل قصصها الشخصية في بعضها البعض. والشخصية التي يعتبرها القارئ للوهلة الأولى أنها شخصية ثانوية في العمل، يكتشف مع تطور أحداث الرواية، أنها شخصية رئيسية في العمل. وطالما الزمن يتقدم هناك شخصيات أخرى تحتل متن النصّ، وأخرى تترنح إلى هامشه.

القصص والحكايات الشخصية في الرواية، تتحرك بالتزامن مع وقائع وأحداث تاريخية، مثل الاحتلال العثماني، مذبحة الأرمن، الحرب العالمية الأولى، الاحتلال الفرنسي، لترصد الرواية تأثير ذلك كله على حيوات البشر، من مصائب وآلام وأحزان ويأس كبير، الحديث عنه وإخراجه من داخل الإنسان وروايته ضرورة لمحاولة فهم ما جرى، إذ “لا يمكن لأي شخص شرح التعاسة” هكذا تخبر سعاد عمتها عندما لا تجد تفسيراً لعدم سعادتها من زواجها من حسن المصابني. أو عندما يصل حنّا لخلاصة مفادها أنه “لا يمكن تجميل مجزرة، كما لا يمكن نسيان وجوه الضحايا” وذلك أثناء تذّكره لحكايات مربيته مارغو عن المقابر الجماعية للمسيحيين السريان، التي “ما زالت تحفر في أعماقه”.

تطرح الرواية تساؤلات كثيرة حول معنى الوجود، عن الله كفكرة، والدين والتديّن. كل تلك الأسئلة تتملك بطل الرواية حنّا، إذ بعد الطوفان، يتحول حنّا من رجل ماجن، سكير، يبحث عن ملذات الحياة، إلى رجل زاهد في كل شيء، ليعتقد من حوله أن حكاية تحوله هذه تشبه حكايات القديسيين، ورغم محاولات ماريانا الفتاة المسيحية المتدينة  التي تصرّ على مرافقته في رحلاته الطويلة، لجعله قديسًا، إلا أنه في قرارة نفسه لا يثق بهذه المعتقدات، فحنّا كان في رحلة داخل أعماقه، رحلة في البحث عن الذات، والبحث عنها “لا يحتاج إلى وضعها على طاولة طعام قذرة أمام العامّة. كل ما تحتاج إليه هو التكوّر على نفسك ورمي أشلائها على جدران غرفتك” حسب تعبيره.

تتضمن «لم يصلّ عليهم أحد» مصنفات كتبها حنّا كريكورس ما بين عام 1918 و1951، والتي يشير إليها خالد خليفة، إضافة إلى قصّة من فصلين بعنوان “الحب المستحيل”، ويقول خالد أنه وجد هذه المصنفات في منزل عائلته في العنابية “ضمن أوراق كثيرة كانت تخصّ جنيد خليفة أحد أخوة جدّه” مضيفاً أنه “أعاد كتابة المصنفات بأسلوبه، كما أعاد كتابة رواية “الحب المستحيل” بتصرّف…”

وفي “مصنف حنّا رقم 4” يسأل حنّا الأب إبراهيم الحوراني “إن لم يكن الله موجوداً فمن يعوّض ملايين البشر عن حياتهم الواهمة التي عاشوها” ليجيبه الأب إبراهيم: بـ”أننا نحن البشر اخترعنا الله، وحدّدنا صفاته، وإن كان غير موجود كقوة مادّية ملموسة فإن اختراعه منح ملايين البشر الراحة في سعيهم نحو الموت”.

علاقات الحب المتشابكة، تلعب دوراً هاماً في حياة شخصيات الرواية، علاقة حنّا بسعاد أخت صديقه زكريا، وصديقة طفولتهما. قصة “الحب المستحيل” بين وليم عيسى وعائشة المفتي، التي تنتهي بقتلهما، وقصة حب وليم ابن زكريا البيازيدي للفتاة الأرمنية مريم. علاقات حب أجهضتها الأديان ورجال دين متطرفين والحروب والمجازر، وماضي المدينة الجاثم على صدور أبناءها، والتوق للنجاة، هكذا نرى الصراع الداخلي لمريم، التي حلمت بحياة طبيعية، بعيداً عن العيش في الكنيسة كلاجئة وهاربة من الجنود الأتراك الذين ذبحوا عائلتها، لكن هروبها من  العيش في الكنيسة والفقر وعدم الأمان، يدفعها للزواج من رجل تركي غني، يشعر بتأنيب ضمير تجاه ما حصل من مذابح بحق الأرمن، ويريد التطهر من عار قومه، بالزواج من فتاة أرمنية، لتتخلى مريم عن وليم الذي أحبها منذ أيام الطفولة.

لا يمكن للرواية التي تجري أحداثها في مدينة حلب إلا أن تتقاطع مع حاضر المدينة اليوم. فالمدينة التي شهدت في السنوات الأخيرة دمارًا هائلاً، وقتلاً ومجازر، أشبه بالطوفان الذي بدأ في قرية حوش حنّا، وما تلاه من حروب ومجازر في وقت مضى.

ضحايا كثر، ماتوا أو قُتلوا، ولم يُصلّ عليهم أحد، كالجثث التي لفظها النهر بعد الطوفان، ولم تعرف هويتهم، هل هم مسلمون أم مسيحيون؟ ليرفض الشيخ والخوري أن يصلّ عليهم. أو كما قُتل العاشقين وليم وعائشة، ودُفنوا من دون أن يصّل عليهم أيضاً.

«لم يصلّ عليهم أحد» أشبه بمرثية لماضي وحاضر مدينة حلب، ولأهلها ولعشاقها، ولتاريخها الغارق بالآلام.

مجلة رمان

———————

خالد خليفة يكتب تمثيلات روائية لفسيفساء التاريخ السوري/ نبيل سليمان

طوائف واثنيات ومراحل في رواية شاملة الرؤيا

29 أغسطس 2019

يفتتح خالد خليفة روايته “لم يُصلّ عليهم أحد” بطوفان النهر الذي أودى عام 1907 بمن في حوش حنا، فامتلأت مقبرة القرية بصف من القبور للمسلمين، وثانٍ للمسيحيين، وثالث للمجهولين والغرباء، ورابع فاغر بانتظار الجثث.

من هذه القبور تطلع الفسيفساء السورية منذ مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، وهي الفترة التي أغوت الرواية في سوريا في سبعينيات – وثمانينيات – القرن الماضي كما في ثنائية نهاد سيريس (رياح الشمال) وثلاثية خيري الذهبي (التحولات) ورباعية كاتب هذه السطور (مدارات الشرق) وسواها مما كانت الريادة لها في رواية صدقي إسماعيل (العصاة). على الجثث المجهولة، رفض الكاهن والشيخ الصلاة، فهل تومئ رواية خالد خليفة إلى الفسيفساء السورية التي لم يُصلِّ عليها أحد، ليس فقط منذ قرن مضى ونيف، بل في زمن كتابة أوقراءة هذه الرواية؟

في الشطر الديني من الفسيفساء يكون للمسيحية ولليهودية الحضور المنافس للحضور الإسلامي. وتحتشد في الرواية علامات التفاعل بين هذه المكونات الدينية للفسيفساء إيجابياً في الغالب، وصراعياً أحياناً. ومن ذلك ما كان في ماردين من المجزرة التي ارتكبها ثلاثة من الضباط العثمانيين. وقد نجا حنا الطفل من المجزرة، ومضت به الخادمة مارغو إلى صديق والده في حلب، أحمد البيازيدي. ومع زكريا ابن أحمد نشأ حنا صديقين لم يفرقهما إلا الموت. وكانت سعاد شقيقة زكريا العشقَ الأبدي الكاوي لحنا، كما كان لها، لكنهما لم يتزوجا. ويتثنى هذا العشق بين مسيحي هو الفنان التشكيلي وليم ميشيل عيسى وعائشة بنت بشير المفتي. لكن الزواج سيتوج هذا العشق الذي تتصدى له حلب، فتصم عائشة بالفلتان، وتشهّر بعلاقة أبيها بجماعة عبد الرحمن الكواكبي ومن ترميهم بالإلحاد. وإذا كان الضابط العثماني الذي افتتن بعائشة قد قتلها مع وليم، فقد غدت عائشة رمزاً للتحرر لدى فريق متحرر، كما غدت رمزاً للانحلال لدى أنصار العثمانية.

الطريق الشاق

لم يغرق الطوفان زوجة حنا وابنه فقط، بل أغرق ماضيه الصاخب المتهتك، وتبددت شهواته، وانصرف إلى كتابة مشاهداته اليومية، ومضى في “الطريق الشاق” الذي يُعنْون الفصل السادس من الرواية، ويتأرخ بعام 1908، مع ماريانا التي نجت من الطوفان، في رحلة الحج أو سياحة المتصوف. وفي حوران من محطات الرحلة التقى حنا في الدير بالأب إبراهيم. وكانت ماريانا تروي في طريق الرحلة ما تروي عن معجزات حنا. وفي العودة، كانت جموع المشلولين والعميان والبرص والمرضى تنتظر بركات القديس عند كنيسة زهر الرمان، بينما قال حنا لماريانا إنه لا يريد أن يصبح قديساً، ولا ينشد إلا العزلة. لكن ماريانا تصنع منه الراهب القديس.

في سنة 1909 قام دير زهر الرمان، وفي سنة 1951 يصير خرابة، وتقف ماريانا التي ساست الدير على حافة العمى، منتظرةً موت الحبيب الأزلي حنا لتسعى لدى البابا كي يطوبه قديساً. وسوف يختم حنا الرواية بعدما تبادل مع سعاد إعلان الوجد المقيم، فيغوص في النهر، بينما الآلاف يتجهون إلى الضفة، كأن مدينةً انبثقت من جديد. وإذ يغوص شبان في النهر بحثاً عن حنا الذي اختفى في الأعماق، ينهض غرقى الطوفان مرحين، ويصطحبون حنا إلى ملكوتهم.

في المكون اليهودي للفسيفساء، تبرق صداقة حنا مع مهندس العمارة عازار، ابن حاييم إستنبولي الموظف في الميتم اليهودي. وعازار هو من صمم لحنا القلعة التي أرادها مملكة للذة ومتاهة. وقد شيدت القلعة على تلة مشرفة على خرائب قرية براد، وسماها حنا باسم محبوبته شمس الصباح التي جاء بها من بيت أم وحيد للدعارة. وكانت أشهر عاهرات حلب: نهوند اليهودية المغربية هي من دبّر لحنا قتل ضابطين من مرتكبي مجزرة ماردين، فأحرق الجنود منزلها. وبحسب الرواية، لدى يهود حلب أفضل الخمور. وهذا تاجر أقطان يهودي يستورد من لندن طاولة للقمار، فيتصدى له الشيوخ في خطبة الجمعة، فيبيع الطاولة إلى حنا. ومن يهود حلب في الرواية بائع الذهب أبو راؤول، وبالطبع لهم الكنيس. لكن قيام إسرائيل سيقوض المكون اليهودي. فعازار حين رأى قبيل موته صورة ابنه وابنته في جريدة إسرائيلية، يوم إعلان قيام إسرائيل، تمنّى الموت، وقال لسعاد إن اليهود سيعيشون تيهاً آخر، وأبدياً.

ربما بلغت التمثيلات الروائية للمكون الديني غايتها فيما آلت إليه القلعة بعدما هجرها حنا. فقد دعت شمس الصباح أم وحيد مع (بناتها)، أي العاهرات، ثم فكرت في تحويل القلعة إلى مأوى للعاهرات العجائز اللواتي بلا معيل، ولا يقبل أحد توبتهن، من يهوديات ومسلمات ومسيحيات.

البعد الإثني

وتتركز في المكون الكردي، ومن تمثيلاته شيخ موسى آغا الذي زوّج ابنته شاها إلى زكريا البيازيدي. وعارف شيخ موسى صديق زكريا يوقعه طموحه بامتلاك القطارات، في خديعة شركة لجمع الأموال منه ومن أمثاله. وفيما هو أقرب إلى الملخص السردي، يظهر التمرد ضد الاستعمار الفرنسي في خرائب المدن البائدة، ويظهر شيركو الذي يتحول من قاطع طريق إلى بطل أسطوري يلقى مصرعه عام 1922. وفي ذلك الزمن الذي قاد فيه شيركو عصابة “الفرارية”، يحدثه يوسف عن حق الأكراد في دولة كردية. ويحضر في الرواية أيضاً المكون الأرمني الذي كانت المذابح التركية قد دفعت به إلى شرق سورية إلى حلب، حيث تتزوج مريم الأرمنية من أورهان التركي، مما يجر عليها نكران رهطها الأرمني.

يجسد الفضاء الروائي الفسيفساء السورية، وبخاصة الإثنية، من شرق البلاد إلى شمالها إلى حلب. ومن ذلك قرية براد الكردية التي سُجلت على مواقع التراث العالمي عام 2011، ودمرت تركيا فيها ضريح مار مارون في مارس (آذار) 2018، ثم احتلها الجيش التركي ودمر كنيسة جوليانوس التي تضم ضريح مار مارون. وثمة أيضاً من فضاء الرواية قرية شران والمركز: عفرين، الكرديين. وفي المدن المنسية في ريف إدلب بخاصة، يأتي النسيج الاجتماعي البديع، كما في حلب نفسها، حيث الأحياء المسيحية والإسلامية، وفيهما اليهود. ومن تلك الأحياء الداخلية كان تطور المدينة إلى حي العزيزية الذي انتقل إليه مسيحيون، وحي الجميلية الذي انتقل إليه يهود. أما قرية العنابية، فقد سبق لها أن حضرت في روايات خالد خليفة، فكانت مسقط رأس الأب الذي تعاد إليها جثته ليدفن فيها، في رواية “الموت عمل شاق”. وحضرت العنابية في روايتي “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” و”دفاتر القرباط”. ولئن كانت الفسيفساء السورية تتألق، في ذلك الزمن الخارج من الاستعمار العثماني/ التركي/ والداخل في الاستعمار الفرنسي، فها هي تتدمر في زمن الزلزال المتفجر منذ عام 2011، ومن ذلك عودة الاحتلال التركي إلى عفرين وبراد وشران وسواها من فضاء رواية “لم يُصلّ عليهم أحد”، وقيام هذا الاحتلال بتتريك هذا الفضاء شمال حلب. ولا ننس أن الأسماء الكردية في الشمال والشرق كان قد سبقت دولة “البعث” إلى تعريبها، فماذا بعد؟

وطن للطيور… و للبشر

كان حنا المغرم بالعيش في زمانين ومكانين، يفكر أن للطيور وطناً مثل البشر، تحزن عندما تغادره. فلو تحول البشر إلى طيور، لكانوا أقل وحشية وأنانية. ولئن كان حنا يعبر هنا عن صبوة كبرى للرواية، فللرواية صبوات كبرى سواها، عبرت عنها بامتياز شخصيات عديدة، في مقدمها سعاد ذات الخيال المفرط، والتي تحب وتكره بتطرف، وتحولت بعد الزواج إلى حلزون يقتات ذاته. كذلك هو صالح العزيزي، خادم حنا الذي عشق عائشة، وصار مريداً للمعلم جنيد خليفة، ثم وشى بعائشة ووليم عندما هربا، فأصابه الجنون، وأخذ يردد من المئذنة مقاطع من رسائل عائشة، ويهتف “أنا إمام العاشقين” ثم شنق نفسه. ولكن أنّى له أن يحفظ تلك المقاطع، وهو بالكاد تعلم فكّ الحرف على يد جنيد؟

يقترن حضور حنا في الرواية بحضور زكريا البيازيدي عاشق الخيل، منذ الطفولة حتى الموت، في أمثولة ثرية بقدر ما هي نادرة للصداقة. ومثلهما تتألق الشخصيات، الثانوي منها كالمحوري، من العاهرات إلى العرافة أو المؤرخ الشفوي أو الفنان أو رجل الدين. وعبر حيوات الشخصيات تتناسل وتشتبك الحكايات، ويحدث أن تنتأ التأرخة- ما يتعلق بأبو الهدى الصيادي مثلاً. لكن الأهم هو ما رسمت الرواية من المشهديات، كما في زلزال حلب عام 1822 الذي دمر المدينة وابتلاها بالطاعون. وقد نهضت حلب إلى بلوى مماثلة في ما عرف بالسفربرلك زمن الحرب العالمية الأولى، وهو ما تألق بقوة في ما ذكرت من روايات نهاد سيريس وخيري الذهبي وكاتب هذه السطور، وفي رواية ممدوح عدوان (أعدائي) ورواية توفيق يوسف عواد (الرغيف).

لم يوفّر خالد خليفة حيلة في سرد كل ذلك، كأن يقدم الشخصية في مفاصل حادة من حياتها، ثم منها يمضي السرد، بلا فواصل، إلى شخصية قد تكون صديقاً أو عدواً أو عشقاً لمن سبق. أما جماع ذلك فقد انتظم في فصول للسارد، وفي (لعبة)، مؤداها أن خالد خليفة عثر على المصنفات التي كتبها حنا بين 1918-1951، في منزل عائلته في قرية (العنابية) فأعاد كتابة بعضها بأسلوبه، كما فعل في فصل رواية (الحب المستحيل)، عن مخطوط لجنيد خليفة، أحد أخوال الكاتب. إن جمالية اللعبة تبدد السؤال عما قد يكون فيها من سيرية وواقعية. 

———————————-

خالد خليفة في “لم يُصلّ عليهم أحد”/ عمار ديوب

محاولة لإعادة كتابة تاريخ حلب

22 أيار 2019

يذهب الكاتب والروائي خالد خليفة، في روايته الجديدة (لم يصل عليهم أحد) نحو التاريخ، وتحديدا نحو تاريخ حلب، ساردا هويتها المتعددة دينياً وقومياً واقتصادياً، ومتحدثا عن التيارات الثقافية المتعددة حينها، والصراعات بينها. رواية قدمت لنا، قدراً عالياً من الأفكار حول الهوية الوطنية للمدينة، حيث العلاقات المتينة بين العائلات المختلفة دينياً.

لا يستقيم الموت دون صلاةٍ، فكيف “لم يُصلّ عليهم أحد”؟

عنوان المقال هذا، هو عنوان الرواية الأخيرة، للصديق خالد خليفة؛ رواية تتحدث عن ضرورة الحق بحياة مختلفة. وللدقة هي سرد سلسل كالماء العذب عن تاريخ حلب بأدوات ومخيال الروائي.

بنى خليفة روايته على أربع شخصيات أساسية، زكريا وحنّا وعازار ووليم، وشخصيات أخرى مؤثرة في البنية العامة للرواية، وهناك الشخصيات الهامشية أيضاً. يمثل الأربعة (الشخصيات) الطوائف الدينية السماوية الثلاثة؛ نشؤوا في عائلات، وشكلوا عائلات بدورهم. الزمن المتغير، وتغيّر الدول والاستعمارات، هي أسباب حقيقية لاختلاف مواقفهم ومنظارهم للحياة ولكل شيء، والتغيير ليس بالضرورة نحو الأمام، فقد يكون نحو الخلف أو نحو الأمام، والرواية تتضمن ذلك.

قبر العاشقين

تغطي الرواية زمناً يمتد من، وما قبل، 1880 إلى 1951. إن مقتل الحبيبين، عائشة ووليم، على يد الضابط العثماني “حكمت ضاشوالي” الذي رفضته عائشة، حيث هربت مع وليم المسيحي، وهو ما حال دون تتويج خطوبتها الإجبارية للضابط، بالقفص المُهلك؛ ورفضُ الصلاة عليهما من قِبل رجال الدين، ودفنهما مع بعض، كان سبباً في تسمية عنوان الرواية. الصلاة التي تليت عليهما هي حالات الشعور بالفقد من رفاقهما، زكريا وحنّا، الأخير هو صاحب حقل الكرز الذي دفنا فيه، وصار قبرهما يسمّى، قبر العاشقين.

من العسف اختصار اسم الرواية بالمصير التعيس للعشق؛ العنوان كما أعتقد، يتأسس على طوفان نهر الفرات على قرية “حوش حنّا”، وإغراقه كافة سكانها باستثناء شاهاونيفين، وزكريا، وحنّا، حيث كان يلهون في حلب، وكذلك من استطاع الهرب، وهي أحصنة زكريا الأصيلة. غير الطوفان، هناك الزلزال الذي ضرب حلب في 1822 وفقا للرواية، وأيضاً المذابح والمجازر هنا وهناك، التي كان العثمانيون يرتكبونها لأتفه الأسباب، ووقعت أغلبيتها ضد الأرمن، ولماردين النصيب الوافر منها؛ وأيضاً ما فعله جماعة الحاجة أمينة، المتشدّدة، والتي كانت ترى رؤى غريبة في شبابها، ونادراً ما أخطأت رؤاها تلك! وهي عمّة زكريا، الذي كرهته وأختَه سعاد، واعتبرت أنّ الأخيرة لطّخت سمعة أبيها أحمد البيازيدي، وحوّلت متجرها إلى دار دعارةٍ. وبتصميم سعاد على إقامة عرض للفساتين التي تُفصلها، وقد احترفت الخياطة، فإن الحَاجة دفعت بمريديها، وهم أنصار أبو الهدى الصيادي، ويستقون من أفكاره فتاويهم وسلوكياتهم. وكذلك هاجموا القلعة التي بناها كل من زكريا وحنّا في بلدة العنابية، والتي سميت قلعة اللذة، وكانت تمارس فيها أفعال اللذة فقط. وقد أحرقوها “بالقوادات” الهرمات، اللواتي بقين فيها، ولم يجدن مكاناً “عائلة، طائفة، مأوىً مخصصاً… الخ، يأويهن؛ القلعة أصبحت لهن، بعد توقف كل من زكريا وحنا ورفاقهم عن الذهاب إليها بعد فقدان حنا لزوجته وابنه في الطوفان، وفقدان زكريا ابنه فيها ونجاة زوجته شاها. يريد خالد خليفة القول إن تلك الميتات لم يُصل عليها أحد، بل وما قيمة الصلاة على الموتى ظلماً؟!

لا تقاطع مع ألم اليوم!

هل هناك من إسقاطات تتضمنها الرواية، وتعكس الدمار والمجازر اللذين طافا كل المدن السورية؟ هل الكاتب أراد الكتابة عن الواقع الحالي، فناور وألبس الطوفان والزلزال والمذابح الموجودة في تاريخ حلب ليحكي عن واقع اليوم؟ أبداً أبداً.

(الرواية تعكس عالماً معقداً ومتشابكاً، وهذا متأت من محاولة الكاتب، تدوين تاريخ حلب بطريقة روائية، وبحبكة أدبية، وليس حبكة تاريخية، وسرد بحثي جاف/ والصورة مأخوة من موقع قلم رصاص وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

إن صفحات الرواية الـ 348 لم تتضمن كلمة واحدة، قد يُفهم منها ذلك. هنا أهمية الرواية بالتحديد، فهي تتقصد إعادة بناء التاريخ، وتقديم عملٍ ثقافيٍ عن مرحلة تاريخية محدّدة. ربما يمكن تأويل الإسقاطات عبر قراءة متمهلة عن تاريخ حلب، والعلاقات بين الطوائف وهويتها التي تتشكل وفقاً لتلك العلاقات، وأنها كانت مميزة، وتسير نحو المزيد من الانفتاح وليس العكس، بينما واقع حالنا، ومنذ 1951 ولاحقاً وربما قبل ذلك، شهد المزيد من التقوقع الديني والطائفي، أي تفكّكت هوية المدينة المدنية، وتعزز الأمر مع الزمن، حتى تلاشى الوجود اليهودي في سورية، وهناك تخوف من تراجع أعداد المسيحيين، والحقيقة أن التهجير طال كذلك المسلمين السنة أيضاً. التهجير هذا بمثابة هندسة ديموغرافية خطيرة، وجرى في كافة المدن السورية؛ من هذه الناحية ربما يريد الروائي القول: لو بقيت أمورنا تسير نحو ما بدأت به نهاية الدولة العثمانية فربما تم القضاء على الجماعات المتشددة التابعين للحاجة أمينة وأشباهها، وكل جماعة تعيق الانفتاح المجتمعي وتأسيس دولة حديثة.

حياكة معقدة

البنية السردية للرواية محبوكة كالحياكة المعقدة؛ فتارة تشيخ الشخصيات، لينقطع السرد، ويعود إلى مرحلة طفولتها، وتارة يأخذنا الكاتب بسردٍ جديد عن أباء الشخصيات الرئيسية في الراوية، كنجيب البيازيدي وحاييم اسطنبولي وكبرييلكريكورس، وحينا آخر نجده يبني قصصاً كثيرة لحياة الشخصيات الهامشية، كالخادمة مارغو والأب نجيب البيازيدي والخادمة أم الخير، بل وحتى كبرييلكريكورس، والد حنّا الذي قتل في مذبحة في 1876. الشخصيات التي ليست ثانوية وليست رئيسية، أيضاً لها حكاياتها، وأيضاً تظهر مراراً وتكراراً، كلما كانت البنية تستدعيها، كعارف آغا وبشير المفتي والأب إبراهيم وماريانا. ربما من الصحيح القول إن الشخصيات الرئيسية تتهمش أحياناً، وتظهر شخصيات أخرى، فتصبح رئيسية بدورها، كأحمد البيازيدي، وعارف والأب إبراهيم وأورهان ومريم ويوسف وعائشة ابنة زكريا ووليم أخيها، حيث سماهما زكريا بهذه الأسماء تخليداً لأصدقائهم، شهداء العشق، السابق ذكرهم. قصدت من كل ذلك، إن الرواية تعكس عالماً معقداً ومتشابكاً، وهذا متأت من محاولة الكاتب، تدوين تاريخ حلب بطريقة روائية، وبحبكة أدبية، وليس حبكة تاريخية، وسرد بحثي جاف.

شخصيات الرواية

شخصيات الرواية: حنّا مسيحي سرياني ووارث للكثير من الأموال والأراضي عن أبيه، ولديه ثأر مع العثمانيين، قتلة والده وعائلته، ورافض لهم، ومؤيد لكافة الأشكال المؤسسة للحركات القومية العربية، ونشأ بمنزل أحمد البيازيدي، أبو زكريا وسعاد، وتصاحب مع عازار ووليم، وشكلوا عصابة من المراهقين. وباعتباره مالكاً كبيراً، فهو عارف بأحوال مدينة حلب وخلافاتها ومشكلاتها ويساهم في إصلاحها أيضاً، ولكنه وبعد غرق زوجته وطفله، انعزل وتصوّف، وتقريباً ترهبن، ولم تجدِ كل المحاولات لجعله قديساً أو للعودة إلى ما كانه من قبل الطوفان. عاد إلى قريته حوش حنا مع رفيقه زكريا، وانتحر غرقاً بالنهر، وذهب إلى أسرته في أعماق النهر. زكريا، وارث بدوره وأسس لنفسه عملاً جديدً، وهو تربية الخيول، ولديه أراضٍ، ولكنه ابن موظف كبير في المحاسبة، ووجود أبيه كمحاسب للولاية، سمح للأب بدور كبير في المدينة وكذلك لزكريا.

عازار ابن اليهودي، حاييم اسطنبولي، لم يكن له تأثير يذكر في المدينة، بسبب عيش أبيه في الميتم، وفقره؛ وليم أيضاً من عائلة متواضعة. وإذا أضفنا شخصيات كأحمد البيازيدي، وكابرييلكريكورس، وسعاد، وأمينة، ومريانا وإبراهيم ووليم الابن وعائشة المفتي وعائشة البيازيدي، وغيرهم كثير، فسنجد أن الرواية حاولت تصوير تاريخ حلب، وهويتها المتعددة دينياً وقومياً واقتصادياً، وعكست التيارات الثقافية المتعددة حينها، والصراعات بينها، وقدمت لنا، قدراً عالياً من الأفكار حول الهوية الوطنية للمدينة، حيث العلاقات المتينة بين العائلات المختلفة دينياً.

انحدار نحو الوراء

تطرقت أعلاه لقضية الإسقاطات، ولن أعود إليها، وأضيف هنا، أن تاريخنا الاجتماعي والثقافي، لم يتقدم كما كان يتجه العصر الذي كُتبت عنه الرواية، وقد انحدر بشكل كبير بعد الستينيات خاصة، وهذا دلالته تتعلق بخلل كبير في الهوية والمجتمع والاقتصاد والنضج القومي أيضاً. لا أريد تحميل الرواية قضايا لم تكن بذهن كاتبها حينما وضع تصوراته الأولى عنها، وكان بإمكان الكاتب، وقد تصدى لقضية خطيرة، وهي هوية وتاريخ حلب روائياً، أن يفسر لنا، لماذا سار خط التطور نحو التدهور ولم يتقدم؟ صحيح، أنه قدم لنا شخصية الحاجة أمينة كرمز للسلفية والتطرف، ورافضة للصوفية ولكل شكل آخر من التدين والهوية الوطنية للمدينة وللانفتاح المجتمعي. بقية شخصيات الرواية لم تقدم نموذجاً للتقدم، فحنّا انتحر، وزكريا كاد يتوفى، وأجزاء منه تتساقط تباعاً، وسعاد هجرت الخياطة وتفرغت لأخيها، ووليم فشل في تجاوز موت أخته عائشة وكاد يتوفى، ووليم وعائشة العاشقان والمختلفان دينياً قتلا، وهيلين توفيت… هكذا؛ هناك موت كثير في هذه الرواية، رغم أن القارئ، سيجد أنّ الرواية تتحدث في أماكن كثيرة عن الحب والجنس والعاهرات والسلفية، وأيضاً سيجد النص مليئاً بعلاقات الحب الفاشلة، كزواج هيلين، والزواج الفاشل لكل من مريم وسعاد.

رواية أم تاريخ مدينة؟

لا شك أن شخصيات الرواية، تعكس، كلاً بمفردها، جزءاً من تاريخ المدينة، ومجتمعها، تعكس هوية المدينة المصاغة وفقاً لمخيال الكاتب أولاً، وربما للواقع ثانياً. أيضاً، الرواية حاولت أن تكون واقعية عبر تدوينها لجزء من مذكرات حنّا، ونص لجنيد خليفة الصحفي والقصصي وصلاح العزيزي الذي كان مراسلاً بين عائشة ووليم، ثم أحبها، ثم أفشى مكان وجودهما للضابط العثماني، ثم بشعوره بالخزي والعار، والتكفير عن ذنب الإفشاء بقتل الضابط، وبإنشاد مقاطع من رسائل عائشة ووليم من على مئذنة الجامع الأموي لتسمعه كل حلب، والانتحار بعدها عبر رمي نفسه منها، هناك أيضاً الكلام عن السلفية والصوفية، ووقائع كثيرة. الرواية بذلك تحاول أن تعكس واقعاً، وهو ما فعلته روائياً بشكل أساسي، وبالتالي تصديها للواقع حينذاك، ليس هو الأساس، بل الأساس أن للرواية بنية سردية متميزة، وشكلت هوية خاصة للمدينة. ما قصدته أن للرواية عالمها الخاص، والكلام عن أي رواية وليست روايتنا هذه، وقد أجاد الروائي، أيما إجادة، في السبك بين شخصياتها وعوالمها وعلاقاتها ومصائرها.

نستطيع القول، إن تاريخ حلب، كما كل المدن السورية، يحتاج روايات كثيرة أخرى، وما محاولة خالد خليفة، إلّا تأسيس رواية مالكة لأدوات العمل الروائي بعيداً عن مفهوم الرواية التاريخية والأمانة للتاريخ، فالرواية تنتمي لنفسها أولاً كنص أدبي متميز، وهذا ما يميز العمل. ربما يمكننا هنا طرح سؤال: أليس هناك ضرورة لروايات أخرى تتكلم عن تاريخ هذه المدينة؟ الجواب: بالتأكيد هناك ضرورة، وستكون أيضاً متماسكة روائياً وتاريخياً.

هذه الرواية هامة بالمعنى الروائي من أجل معرفة هوية حلب، وربما هوية بقية المدن السورية، وتشكل فارقاً في الرواية السورية، وربما تؤسس لرواية سورية متميزة، وتعكس التاريخ بكل تعقيداته. وهنا أقول مع ميلان كونديرا، أهمية الرواية في تصديها للتعقيد في “التاريخ، المجتمع، الثقافة، الحرب، قضايا المرأة، دواخل الأفراد، وهكذا”.

(عنوان الرواية، لم يُصلّ عليهم أحد، الكاتب خالد خليفة، دار نوفل، 2019. لبنان – بيروت)

حكاية ما انحكت

——————————–

خالد خليفة ورواية العار/ عادل الاسطة

«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» عنوان إحدى روايات الروائي السوري خالد خليفة صاحب «مديح الكراهية». كلتا الروايتين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (بوكر).

روايتا خليفة تصلحان لأن تُدرسا وفق المنهج الاجتماعي، فهما تأتيان على الواقع السوري منذ سبعينات القرن الماضي  وتصورانه وتبيّنان ما ألم به من تطورات وصلت حد الصدام المسلح  وآلت سورية إلى ما آلت إليه الآن من دمار وخراب وتمزيق وتدخل دول خارجية كثيرة في الشأن السوري.

ما إن يفرغ المرء من قراءة الرواية حتى يتساءل “لماذا لم يختر الكاتب عنوان “العار” لروايته، فهو أنسب؟

يتكرر دال العار في الرواية تكراراً لافتاً وعلى لسان السارد وبعض الشخوص.  يمكن متابعة ورود تكرار العار في الرواية لملاحظة الأمر. في الصفحة 12 يقول السارد: “كنت أدخل في عامي العاشر ولا نعرف شيئاً عن الموت والعار”. بعد صفحات ليست كثيرة يبدأ السارد بالتكلم عن بداية معرفته بالعار. في الصفحة 39 يتحدث عن أمه ويرد ذكر دال العار الذي بدأت الأم تشعر به:

“تنتبه لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب، تشعر بالرضا حين تكتشف أن الكثيرين مثلها يشعرون بالعار، زميلاتها وصديقاتها والناس في الشوارع، التي تتجاهل صور الرئيس رغم ادعاء أبديته.“

يتحول الشعور بالعار إلى ما هو أكثر، فيبدأ الناس يفكّرون في مدلولاته لأنه يتدخل إلى منازلهم ومن الذين يفكرون والدة السارد الذي لا يعلن هويته إلا في صفحات متأخرة (الصفحة 41) وتقدم اقتراحات لمعانيه ترد في الصفحة 42 والصفحة 49 ويأخذ جزء كبير من شخصيات الرواية حصته من العار.

جان يفكر في الهجرة من حلب فقد كره المدينة التي أجبر فيها على المشاركة مع حزبيين في مسيرات تمدح الحزب والرئيس (الصفحة 48) و”يشعر بأنه لن يكمل طريقه إلى الرصيف الآخر قبل إصابته بسكتة قلبية… ويشعر بالعار أيضاً“.

يكتب جان رسائل لابنه في باريس يصف فيها أحواله وزملاءه الذين يدبكون في مسيراته الحزبية الإجبارية  وقد تحدث جان في رسائله باسهاب عن “عاره الشخصي لأنه كان شاهداً على لحظة سيتناساها الجميع ليستطيع النظر في عيون بعض بعد خمسين سنة“ ويحس جان بلا جدوى أي شيء وفكّر بالانتحار،  “يتحدث بصوت هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار“.

يتوالى تكرار دال العار تكراراً لافتا  وكلما مر حدث ما لا يقتنع به شعر بالعار. فحين أعطاه رئيس فرع الحزب محاضرة عن الوطن والمواطن يخرج جان من المبنى الكئيب ويصف تلك اللحظة “بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه للمدينة العتيقة ” (الصفحة 56).

ليس الحزب وحده ما يُشعر بالعار في الرواية. يصبح نزار المثليّ عار أبيه  (الصفحة 96/ 97) وهبة التي رفضت ما طلبه عضو الحزب منها فاغتصبوها، هبة هذه تبقى عشر سنوات لم تكفّ فيها عن نسيان ذلك العار، وتبقى المدينة سنوات طويلة “تحت وطأة الموت والعار“ (الصفحة 120).

وحين يأتي السارد على حلب وما حل بها تحت حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلا الولاء للرئيس  والدبكة له، لننظر في الفقرات التالية:

“استفتاءات الرئيس التي جعلت جان حين يكتب لابنه بأنه شعر لأول مره في حياته بعار لا حدود له” (الصفحة 153).

سوسن حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار (الصفحات 158 و159 و161 و1969).

في الصفحة 232 يفوز الدكتاتور في الانتخابات، يشعرون  بـ”عار شعب بأكمله ينمو ببطء كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته. ونفاق الناس للرئيس يولّد أيضاً الشعور بالعار.

زميل السارد في مكتب المحاسبة يخبره عن زميل آخر “اكتشف أن زوجته عاهرة والولدين ليسا من صلبه” ولهذا قتل زوجته وابنه، وإن اعتقد السارد غير ذلك: “إنه لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره، التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن “العار” ومشتقاته في الحياة السورية“.

طبعاً الكتابة عن العار ليس كتابة بكراً فهناك روائيون كتبوا عن العار في الأدبين العربي والعالمي (سلمان رشدي ونسرين تسليمه وكويتزي، وإبراهيم نصر الله في “شرفة العار“).

2018-01-22

—————————

خالد خليفة “كأن مديح الكراهية كتبت عام 2013”/ لورا خضير

الروائي السوري خالد خليفة (49 عاماً) لا يعرف قيمة قائمة List Muse، لكنه يفخر بروايته “مديح الكراهية”. لقد وضعته على نفس القائمة مع أعظم روائيي القرن العشرين.

 لم يزل عنوان مكتب الروائي خالد خليفة مقاهي دمشق حيث يكتب. تجده اليوم جالساً في إحداها، بشارع الروضة الدمشقي سعيداً يتلقى التهنئة من جميع الوافدين إلى مقهى Pages الذي غالباً ما يرتاده الكتاب والممثلون والعاملون بالحركة الثقافية  في دمشق، لتصنيف روايته  “مديح الكراهية” – الممنوعة من التوزيع في سورية – ضمن قائمة List Muse مع رواد الرواية العالميين في القرن العشرين، كجان بول سارتر Jean Paul Sartre، ارنست همنغواي Ernest Hemingway، غابرييل غارسيا ماركيز Gabriel Garcia Marquez، ليو تولستوي Leo Tolstoy ونجيب محفوظ.

جميع من دخل إلى المقهى ناداه بـ “الخال” وهو يسعد بهذا اللقب ويجده حميمياً، ولا يحب كلمة أستاذ. أهلاً بالخال، أو مبروك يا خال، كانت كافية لتملأ عينيه بسعادة غامرة.

 كتب على صفحته على فايسبوك الأسبوع الماضي “خطوة أخرى، روايتي “مديح الكراهية” في قائمة أفضل 100 رواية في العالم، لا أحد يسألني شيء، لا أعرف كيف ومن ولماذا…”.

خالد خليفة  سليل أسرة حلبية تتكون من 9 أشقاء و4 شقيقات يعمل بعضهم كأطباء ومهندسون، والباقون في التجارة. حلمت أمه يوماً أن يصبح ضابطاً في الشرطة، لكنه شعر منذ دراسته في المرحلة الثانوية أنه يجب أن يكون كاتباً، فهو يعشق الروايات وقد بدأ بكتابتها منذ أن كان عمره 24 عاماً.

في سنة 1993، كتب نسخة بدائية من روايته “مديح الكراهية” تتألف من 100 صفحة ونشرها في مجلة “ألف” التي كان مدير تحريرها آنذاك، ثم ما لبث أن مزّقها وأعاد كتابتها من جديد.

يعترف “أنها زادته معرفة وخبرة بتقنيات الكتابة الروائية”. له أربع روايات “حارس الحديقة” (1993)، “دفاتر القرباط” (2000)، “مديح الكراهية” (2006) وأخيراً “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013 )، إضافة إلى تأليفه عدة مسلسلات للدراما السورية، أولها “سيرة آل الجلالي”، وآخرها “المفتاح”.

 يشعر خالد خليفة اليوم بالفخر لسببين، الأول إدراج روايته مديح الكراهية في قائمة List Muse مع ثلاثة من رواد الرواية في القرن العشرين الذين يعتبرهم أساتذته، ماركيز، فولكنر Faulkner، دوستويفسكي Dostoevsky . كان ينظر في صباه إلى رواياتهم بيأس ويقول لنفسه “من سيكتب أكثر من هذا الجمال؟”. والسبب الثاني إدراج روايات لأدباء عرب كنجيب محفوظ وابراهيم عبد المجيد من مصر، والياس خوري من لبنان، على هذه القائمة، ما يكرس مقولته “إن الأدب العربي  لديه ما يقوله للعالم، وإن العرب هم شركاء في الحضارة الإنسانية وليسوا متلقين فقط، وها هي الروايات العربية تقدم اقتراحات تقنية وجماليات إنسانية جديرة بالقراءة والمتابعة”.

لم يكن إدراج رواية “مديح الكراهية” التي صدرت عام 2006 في طبعتها الأولى واستغرقت كتابتها 13 عاماً وتمّ ترجمتها إلى سبع لغات عالمية منها الإنكليزية والفرنسية على لائحة List Muse الخطوة الأولى في تقدير هذا العمل الروائي.

فقد تم اختيارها من هيئة التحكيم للجائزة العالمية للرواية العربية – بوكر في دورتها الأولى لعام 2008 ضمن لائحة المرشحين الستة لنيل هذه الجائزة، ووصلت عام 2013 إلى القائمة الطويلة لجائزة الإندبندنت Independent العالمية.

تتناول رواية “مديح الكراهية” صراع الأصوليات في مجتمعات مغلقة سياسياً في فترة الثمانينيات، وتحديداً أحداث مدينة حلب وحماه والصراع الدموي الذي دار بين جماعة الأخوان المسلمين والنظام السوري حينها، حيث دفع المدنيون الثمن عبر المجازر والاعتقالات، ودفعت مدينة حلب الجزء الأكبر من هذا الثمن.

تدور أحداث الرواية في مدينة حلب مسقط رأس الكاتب التي قال لنا عنها “يبدو لي أن حلب لم تخرج مني بعد، رغم مغادرتي لها منذ 20 عاماً، ويؤلمني جداً ًحالها اليوم، فحجم الألم فيها باعتقادي يعادل حجم آلام جميع المحافظات السورية، وهي تدفع ثمن إهمال ومعاقبة النظام السوري لها لسنوات”. يضيف قائلاً “ظاهرة الأصولية التي انتشرت اليوم ستنتهي، فالشعب السوري يحمل قيماً مدنية في أعماقه، وسيبقى مخلصاً لها”.

نجد بطلة الرواية تتحدث عن الكراهية بلذة شديدة. هي تبدي كرهها للقيم الإنسانية التي يدعيها الإنسان، كالفضيلة والحب والجمال والإخلاص والوطنية، وكرهها للطوائف ومصطلح الطائفية الذي ظهر في تلك الفترة. تكتشف أن الكراهية أيضاً جديرة بالامتداح كقيمة إنسانية موجودة داخل كل إنسان. هي الوجه الآخر للحب، ولكننا نخجل من كراهيتنا ونجاهر بالحب. من هنا يأتي اختيار الكاتب خالد خليفة، مديح الكراهية،  عنواناً لروايته كتصالح مع الذات.

 أحداث الرواية تتشابه إلى حد كبير مع ما يجري اليوم في سوريا. يرى خليفة سبب هذا التشابه “إن النظام في سورية تعامل مع الأحداث منذ عام 2011 بنفس الطريقة التي تعامل بها في فترة الثمانينات. مارس القمع الشديد واستخدم نفس الأدوات، ناسياً أن ما يحدث اليوم ثورة، لا حزباً يصارعه. كما نسي أن مشكلة السوريين اليوم أصبحت أكبر ومطالبهم أكثر إلحاحاً، كالكرامة، وصعوبة الحصول على لقمة العيش، وإحساسهم بانعدام العدالة، لذلك نشعر عند قراءة رواية مديح الكراهية اليوم، كأنها كتبت عام 2013”.

 صدرت رواية جديدة للكاتب في مصر تحت عنوان “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، ولكنه لم يتمكن من حضور حفل توقيعها بسبب منعه من السفر منذ مايو الماضي. يقول: “إن هذا لم يزعجني أبداً، فالكاتب السوري اعتاد أن يسير في حقل الألغام. حتى منع رواية “مديح الكراهية” من التوزيع في سورية لم يزعجني يوماً، فأنا أؤمن أن الكتب لها أجنحة وتستطيع الطيران. سأبقى في دمشق ولا أرغب بمغادرتها. لقد انتظرت هذه الثورة 40 عاماً ولن أدعها وحيدة. قد يكون وجودي غير مؤثر، لكن من المؤكد أن غيابي سيكون قاتلاً بالنسبة لي”.

————————–

«الموت عمل شاق» تحتفي بالحياة/ هشام حميدان

2017-02-04

في رواية «الموت عمل شاق» للروائي والسيناريست السوري خالد خليفة الصادرة عن دار نوفل عام 2016، أعمال شاقّة عديدة ليس الموت إلا واحد منها، وهي أعمال شاقة لأن الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية (زمن الثورة السورية) يطفح عنفاً وبؤساً وقسوة، إذ استخدم النظام السوري كل ما طالت يداه من أشكال العنف أمام نزوع أبناء الثورة إلى الحرية، موظّفاً كل قدراته التدميرية في مواجهتهم، فكان لكل عائلة سورية نصيبها من المآساة الكبرى التي وقعت وما زالت مستمرة.

“الحرب تمتحن قدرة الكائن على الاحتمال”، وفي لحظة ما تفتتها، تمضي الرواية ببطء ومشقّة، تعيش شخوصها حربا تفوق قدرتها على التحمّل، تختبر هشاشة الروابط العائلية من جهة ومتانتها من جهة أخرى، تسائل الذات عن علاقتها بالآخر وتفتت مفهوم النصر والهزيمة.

بإمكاننا أن نرى في الرواية بحثا دؤوبا عن الذات، ومواجهة للمخاوف، أن نتلمّس جدران العزلة ونسلط الضوء على فعالية الحب وأذيّته، أن نرسم مساراً للجسد الآدمي، يمر بالتكريم كما يمر بالإهانة. ينتقل السرد في الرواية من مكان/زمان إلى آخر دون أن تفلت خيوط الحكاية، إنها حكاية مريرة مكتوبة بالدماء.

قُسّمت الرواية إلى ثلاثة فصول وأتت في 150 صفحة، تبدأ من عهد يقطعه الابن الأربعيني بلبل لأبيه عبد اللطيف السالم قبيل وفاته، مستجيباً لوصيّة دفنه في العنّابية، ضيعته الحلبية التي خرج منها قبل 40 عاماً واستقرّ في ضيعة “س” التي يفصلها عن دمشق كيلو مترات قليلة، طلب عبد اللطيف أن يُدفن بجانب أخته ليلى التي أحرقت نفسها ليلة عرسها قبل 40 عاماً، احتجاجاً على زواجها من رجل لا تحبه.. تنتهي الرواية بدفن الأب في ضيعته دون أن تكتمل الوصيّة، إذ تم دفن الأب بعيداً عن أخته في قبر منفرد، في زاوية بعيدة من المقبرة، إلا أن الرحلة التي قطعها بلبل بصحبة أخيه حسين وأخته فاطمة تنفيذاً للوصيّة، لن تمر دون دفع أغلى الأثمان.

عند مجيئه إلى بلدة “س”، كان أهل القرية ينادون عبد اللطيف بالعنّابي، ثم صاروا ينادونه بالاستاذ عبد اللطيف، عاش معهم أربع سنوات من الثورة، اهتم بتنظيم أمور المقبرة التي ضمّت الكثير من أبناء القرية المقتولين على أيدي النظام، شارك في كل المظاهرات، عاش أيام الحصار الخانق الذي فرضه النظام على أهلها، اضطر للخروج منها أخيراً بسبب تردي وضعه الصحي وعاش آخر أيامه مع ابنه البكر بلبل في بيته  الكائن في حي من أحياء دمشق موال للنظام. “كان هذا الأب يستحق ابن ثورة شجاعاً كالدكتور نزار” الذي تعرّف عليه في بيت ابنه بلبل حيث تشارك عبد اللطيف والدكتور الكثير من أحاديث الثورة، تكلّموا عن أيام الحصار في بلدة “س” وراقبوا الأحداث السياسية والعسكرية متفائلين بقرب سقوط النظام.

بعد وفاة الأب، ذهب بلبل إلى أخيه حسين الذي امتدّت القطيعة بينه وبين العائلة لسنوات عديدة بعد خلافه مع أبيه وخروجه عن سلطة العائلة، كان حسين يعمل سائق “ميكروباص”، جاءت أختهم فاطمة معهم ووضعوا جثة الأب في “الميكرو باص” الذي يعمل عليه حسين وبدأوا رحلة تنفيذ الوصيّة.

 بعد أربع سنوات من القتل والتهجير في سوريا “لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء”، مشى “الميكرو باص” في دمشق حيث “كل سكان المدينة ينظر بعضهم إلى بعض كموتى مقبلين”، انتظر الأبناء على حواجز النظام، عند حاجز الخروج من دمشق تم “تفييش” هويّاتهم، وكان الحدث المفصلي الأول في الرحلة حين اعتقل عناصر الحاجز جثة الأب لكونه مطلوباً لأكثر من فرع مخابراتي. بعد ساعات أُخلي سبيل الجثة والأولاد وخرجوا من دمشق ليكملوا الرحلة. “ماذا تعني جثة الأب؟ كان السؤال قاسياً لكنه حقيقي” لدى الأبناء، صار “الموت عملاً شاقاً” وفقدت القصص المأساوية بريقها لدى السوريين.

كان على الأبناء قبل الوصول إلى العنابية اجتياز حواجز الجيش الحر وحواجز فصائل إسلامية متشددة أيضاً، لن تنتهي الرحلة قبل أن يذوقوا شتّى أشكال العذاب. عند حاجز لفصيل إسلامي متشدد سيتم اعتقال الإخوة ثم سيهربون بعد قصف النظام للبناء الذي اعتقلوا فيه وفرار عناصر التنظيم من المكان، وعند حاجز لفصيل متشدد آخر قريب من العنابية، يتم اعتقال بلبل بعد فشله في اختبار الأسئلة عن شؤون الدين الإسلامي التي اجتازها “حسين” بنجاح، يتم إخلاء سبيل بلبل بعد توسّط عمه الكبير نايف لدى الفصيل المتشدد، إلا أن الأوان كان قد فات، صار الإفراج عن بلبل أمراً غير ذي أهمية بالنسبة إليه، كان في حينها غارقاً في الصمت، لا يكلّم إلا نفسه.

تعرّضت جثة الأب أثناء الرحلة التي امتدت لثلاثة أيام للتفسّخ وبدأ الدود يخرج منها، لحقت كلاب شاردة “الميكروباص” كي يأكلوا الجثة بعد أن انتشرت رائحتها، وتعارك حسين وبلبل، كان عراكهم غير مفاجئ، فالقطيعة التي كانت بين الأخوة تجذرت أثناء الرحلة، تكدّست ضغائنهم وصار واحدهم لا يعني شيئاً للآخر غير كائن ينبغي أن يزول ليكمل الآخر الحياة، أصيبت فاطمة بالخرس بعد بقاءها في “الميكروباص” برفقة الجثة المتفسّخة لعدة ساعات أثناء اعتقال أخويها عند التنظيم الإسلامي المتشدد، تناسى حسين كل شيء وحاول استعادة عافيته، دخل بلبل آخر الأمر في صمت مطبق، وعاد في النهاية إلى بيته في دمشق، “شعر بأنه جرذ كبير يعود إلى حجره البارد، كائن لا لزوم له ومن الممكن التخلّي عنه بكل بساطة”، كان الخوف الذي ازداد وتغلغل في أعماقه هو الأكثر تأثيرا عليه.

“الموت، إنه طوفان رهيب يحيط بالجميع” وبالرغم من ذلك أو بسببه، فقد الأخوة أثناء رحلتهم كلّ تهيّب أمامه، “لم تعد الجثة تعني لهم أي شيء، يستطيعون تقديمها لجوقة كلاب جائعة دون إحساس بالندم”، قطعت آخر الروابط العائلية بينهم وانتهت الرحلة.

مضى السرد بحركة دائرية في الرواية، بعد سرد جزء من الرحلة يعود مرات عديدة إلى الوراء ليتكلم بإسهاب عن بعض شخوص الرواية في أزمان مختلفة، ثم يعود لإكمال الرحلة.. قد لا تخبرنا الرواية أكثر مما نعلم عن المأساة السورية، ولكن بإمكانها أن تضعنا بجرأة أمام أسئلة المعنى وسط الخراب، أن تشرّح القهر وتحثّ على مقاومة أنظمة العنف.

التأكيد على قيمة الحياة، الحفر في الذاكرة، تسليط الضوء على فعالية الحب، مواجهة الخوف والطغيان، التأريخ للثورة السورية، وغيرها من العناوين، كلها مفاتيح لقراءة «الموت عمل شاق». إنها عمل يحتفي بالحياة، ينتصر لكرامة الإنسان ويؤكد على نزوعه للحرية.

مجلة رمان

————————————–

“الموت عمل شاق”: حكاية جثة تسافر عبر سوريا/ علي العائد

28 تشرين2/نوفمبر 2016

تعبر جثةٌ الجغرافيا السورية من دمشق إلى ريف حلب الشمالي في ثلاثة أيام كي تُدفن في قريتها. فالأب، صاحب الجثة المسافرة، أوصى أن يُدفن في قبر أخته التي “فضلت” أن تشعل النار في جسدها وترقص رقصتها الأخيرة على أن تتزوج رجلاً لا تحبه.      

هذا هو مكثف حكاية رواية “الموت عملٌ شاق” لخالد خليفة (دار نوفل، هاشيت أنطوان، بيروت – دار العين، القاهرة، 2016). لكن الرواية ليست مجرد حكاية، بل تفاصيل، وتوشيات، وحكايات داخل الحكاية، وزخارف، وحوار، ومونولوج؛ كل ذلك في سياقات حكاية الثورة السورية، التي أكلت حتى أخضر أرواح الناس.

الثورة سياقٌ في الرواية، فللناس حكاياتهم دائماً، وليسوا في حاجة إلى ثورة كي يقولوا، يختلفوا، يتشاجروا، يعشقوا، أو حتى يقتلوا بعضهم. حاول خالد خليفة أن يكون السياق خالياً من الكلام السياسي كسبب باطن من أسباب الثورة. وبقليل من التعديلات، يمكن أن تكون خلفية الحدث “حرباً أهلية”، أو تمرداً نشر الفوضى وقسم البلاد الصغيرة إلى بلدات، كما حدث في الحرب اللبنانية، التي لم تكن “أهلية” بالمعنى التام للكلمة.

لكن السياق هنا ليس مجرد موتٍ عابر كما يحدث دوماً، إنه مقتلة سوريين معممة على البلاد كلها، تجنب فيها الروائي الإفصاح عن جهة اصطفاف كل فردٍ من أبطاله، بوضوح، كمَخرجٍ فني كي لا يكون منحازاً لجهة معينة ساهمت بقدرٍ ما في حمام الدم الذي أغرق البلاد كلها، بالفعل، أو القول، أو الصمت.

صراع تحت الشمس

كان أمام الجثة الوقت الكافي كي تبدأ بإطلاق روائحها، حتى في برد الشتاء، فثلاثة أيام كفيلة بأن تتفسخ حتى أرواح أبناء الجثة، حين استحال وقت الرحلة الطبيعي الذي لا يتجاوز ست ساعات إلى ثلاثة أيام.

في هذا الوقت المديد، بدأ الأخوان بلبل – نبيل، وحسين، بإخراج نقائضهما ليكتشفا أنهما بالكاد يعرفان بعضهما. وحين يئس حسين من صعوبات الطريق، فكر أن يدفن الجثة في أقرب حفرة على طريق الرقة – حلب، فاشتبك الأخوان في عراك بالأيدي رسم مشهده “سينمائياً” خالد خليفة على غرار فيلم “صراع تحت الشمس”، وإن كان الأخوان لا يتصارعان على خلفية تنافسهما على حب امرأة واحدة، كما حدث في الفيلم الأميركي.

مصائر أبطال الرواية (جثة الأب، وبلبل، وحسين، وفاطمة) لا تتأطر فقط في موقفهم من الثورة، حيث الأب الذي دافع عن قناعته بأحقية التحول من استقرار أبد السلطة حتى موته على سرير في مستشفى، وحيث حسين الذي قذفته الحياة إلى أن أصبح مجرد سائق لراقصات الملاهي في آخر الليل، وحيث بلبل الذي عشق امرأة من غير “ملته” وظل نادماً على كبت مشاعره حتى جرفته تفاصيل الحياة واستسلم لبرودة مصيره، وحيث فاطمة التي توهمت أن زوجاً ثرياً سيسعدها، فتزوجت مرتين دون حب، ووصلت إلى نتيجة صفر ثروة، وصفر سعادة.

اقتراحات خليفة

اختار خالد خليفة أبطالاً عاديين يشبهوننا جميعاً، في بلد ندّعي أننا نعرفها، وفي ظروف ثورة غيرت مصائر الناس دون أن يصنعوها، أو دون أن يصنعوها كما يجب.

بالطبع، الفن انتقائي، كما هو أصلاً. لذلك اقترح خالد خليفة على قارئه مفردات روايته: هذا مكان روايتي في الجغرافيا السورية، المكان الذي لا يشبه المكان في الروايات المستقرة، وهؤلاء أبطالي، وهذه حواجز الجيش والشبيحة، وهذه حواجز “الإسلامويين”، وهذه حواجز الجيش الحر، وهذه أفكار شخصياتي التي قالت ما تريد دون تدخلٍ مني؛ هذا ما عشته في أربع سنوات داخل سوريا، وهذا خيالي المضاف، كروائي، وسيناريست.

انتقاءات خالد خليفة كانت محكومةً بخبرة العارف أن تقديم مشهدٍ بانورامي أمرٌ متعذر في وقت لا تزال فيه المقتلة قائمة، ففضَّل، ربما، تقديم اسكتش، أو مقدمة، لرواية باردة الأعصاب ستأتي في وقت ما تكون فيه الحرب قد وضعت نهاياتها، وكشفت ما لا نعرفه من أسرارها، وأجابت عن تساؤلات: هل كانت ثورة، أو مؤامرة على بشار الأسد، أو مؤامرة على سوريا، وهل كان الشعب السوري واحداً قبل الثورة حتى كشفت الثورة أنه شعوب، وهل كانت الثورة بداية حقبة جديدة، أم نهاية الدكتاتورية فقط… إلخ

نازية الموت

الخيار الجغرافي لخالد خليفة نصف صليب معقوف يشبه خط رحلة الجثة إلى مسقط رأسها وقبرها، وأسماء القرى “س”، و “ص”، هي محاولة لتجهيل المعلوم، وتعميم الحالة من خارج الرواية التي لا يمكنها في حال تقديم كل المآسي التي تتناسل كل يوم، وكل ساعة.

من المتعذر هنا أن نطالب الناس، حتى في الرواية، بأن يخففوا من قتامة مزاجهم، ومن الإجحاف مطالبة الروائي بسيناريو بديل لما اقترحه روائياً؛ كيف الحال لو تطرق الروائي لمتغيرات السياسة في مسارات “الثورة اليتيمة”، إن كان ثمة سياسة في الواقع!

السوريون اكتشفوا في خمس سنوات أن التباعد الجغرافي في بلدهم الصغير أكبر مما كانوا يتخيلون، وأن المسافات التي وسّعها القمع طالت أبناء الأسرة الواحدة، قبل الحديث عن مللٍ ونحل وطوائف وأحياء ومدن. هذا على الأقل ما قالته الجثة في صندوقها عندما أطلقت روائحها، بعد تلك الرحلة البطيئة القاتلة حتى للأموات.

الدم ولَّد أحقاداً، وثاراتٍ ربما. الأحقاد اتسعت حتى قسمت البلاد إلى قواطع لا يمكن أن تلتئم إلا بجراحات وجراحات متكررة، في بلاد ظن أهلها حتى وقت قريب أن فيها ما يجمعهم غير لغة القمع التي لا يعرفون غيرها.

خيارات الجثة

لم يكن في مقدور الجثة أن تنهض لتدفن نفسها، وتعفي الأحياء من هذه المهمة. ولم يكن في مقدورها أن تمحو وزر قابيل الأول من ذاكرة المصدقين لتلك الرمزية الأولى، كإحدى أهم الدروس التي أتقنها الأحفاد، حين كرروا ملايين المرات فعل القتل، وفعل الدفن، بعدما أتقن القاتل الأول تنفيذ تلميح الجد الأول للغراب.

الجثة سلمت نفسها للإخوة الأعداء الذين حملوها كواجبٍ أخير ثقيل، فاصطدموا بحواجز إخوتهم الأعداء في طريقٍ معبدة بالكراهية، والخوف، والجشع، اكتسبوا فيها مع الوقت خبرةً كافية كاد فيها أن يكون القتل مشهداً عادياً.

الأمناء على الجثة استيقظت ذاكراتهم في الفراغ الذي أحاط بهم، بتحريضٍ من عِبر الموت العادي في كل زمان ومكان، وبتحريض الجغرافيا التي وضعها الكاتب في طريق رحلتهم كي تكتسي الشخصيات بثياب تلونها في المشهد القاتم لعموم مسارات الرواية، حيث قصة الحب المجهضة عند نبيل، وبدايات الشباب المتفائلة عند حسين، وما قبل الاختيارات المتخبطة عند فاطمة.

فقط، عند ليلى، والأب، كان مثال خالد خليفة إيجابياً، أو قريباً من الإيجابية. في هذه الاستعارة الصريحة، والوحيدة، ترجيح لاحتمال ميل الراوي إلى امتداح الثورة، ذلك أن الروائي لا يحمل أفكار الراوي بالضرورة، والروائي لا يملك إطلاق أحكام قيمة على أفعال شخصياته الروائية، تاركاً المهمة للقارئ.

فتاوى المتقاتلين

تمر الجثة عبر حواجز “الإخوة” الذين مازالوا على عهدهم في زمن ما قبل الثورة، تدفع الرشوة، أو الأتاوة، فتمر البضاعة – الجثة، دون أن يختلف الأمر بين حواجز جيش النظام، وميليشياته، وحواجز المعارضين، وميليشياتهم.

حاجز للنظام السوري

خيوط السرد في الرواية تتقدم خطياً حسب خليفة، الذي يختار العودة إلى الوراء منتهزاً الفرصة لإكساء هيكل الشخصية من ذاكرتها البعيدة، فالزمن هنا محكوم بثنائية ما قبل الثورة وما بعدها، والمكان هوَ هوَ، لكن البيوت مدمرة، وبلا سكان.

الطريق من أوله إلى آخره ثكناتٌ متصلة، ولكل حاجزٍ قانونٌ ومزاجٌ وقضاة، هذا “فتواه” بضعة آلاف الليرات، وذاك إجابة تقنعه أنك مسلم تعرف أوقات الصلوات وعدد ركعات كل صلاة، ففي زمن الحرب الاصطفاف ممرٌ إجباري كي تحافظ على حياتك.

مثال ليلى التي شقت ثوبها من المنتصف حزناً على حبيبها جميل، الذي كان قد هجرها مسبقاً ليتزوج بامرأة تناسب مكانته الاجتماعية المستقبلية كضابط، ومن ثم الاحتفاء بجسدها بالنار في ليلة عرسها، يشبه المصير المجهول للبلاد التي تحترق الآن بيد أبنائها المصطفين في أنساق وأرتال تتقاطع فقط عندما تتقاطع نيران أسلحتهم. لكن المثال هنا، رغم مأساوية مصير ليلى، إيجابي، فليلى احتفلت بحريتها حتى آخر لحظة من حياتها، وظلت ممسكة بإرادتها. كذلك سوريا، أو أبناء الزمن السوري الآتي، ربما.

أخت الجثة

ولمثال ليلى وجه آخر، أو تفصيل، ربما، أراد من خلاله خالد خليفة القول إن رمز “أخت الجثة”، عمة الأولاد والبنت، الذين سافروا بـ”الجثة” إلى مسقط رأسها، لتُدفن حسب وصية “الجثة” في قبر الأخت التي كانت تحاجج الشعراء بالعتابا الرقيقة حين كانت حية، وحين ماتت لم تتبخر جثتها، أو تتفسخ، كما تفعل كل جثة؛ نفترض مع خليفة أن ليلى افتدت حريتها بموتها، وأراد الأب – “الجثة” أن يُدفن في قبر أخته التي عاشت حرة وماتت حرة، على خلاف ما عاش الأب – الأخ الذي لم يستطع منع العائلة من محاولة إجبار ليلى على الزواج بمن لا تحب.

مع ذلك، لشخصية فاطمة، إبنة الجثة، جانب إيجابي، كأنها سوريا، فهي ظلمت نفسها كما ظلمت سوريا نفسها حين سكتت على ظلم عمره أربعين سنة، بعد أن “اغتصبها” الديكتاتور الأب، ومن ثم الديكتاتور الابن، ففقدت شيئاً من سوريتها في الحالتين، دون أن يربح أبناؤها المال، أو السعادة.

محاولة تجنب الاستعارات السياسية في الرواية، التي لم ينجح خالد خليفة في تلافيها تماماً، ألجأته إلى قراءة سريعة انتقائية أبعدته عن “الجبل السحري” السوري؛ الجبل السحري الخاص بأدب سوري سيأتي ولو متأخراً، على الرغم من أن عصرنا لا يحتمل ذلك الإنشاء القاتل لأفكار فلسفية بين البشر، والحشرات، والعظاءات الأولى، في ذلك المنتجع السويسري غير البعيد من سوريا، هنا، أو لوزان، هناك.

——————–

عن مراجعة «سكاكين» خالد خليفة/ رؤوف مسعد

ما هو المُعيب في ترييف المدينة؟

حقيقة لم أكن أود ـ مرة أخرى ـ مناكفة خالد خليفة في سكاكينه، واكتفيت بالسجال المتحضر الراقي الذي دار بيننا نحن أصدقاءه وكذا من ينتقدون أعماله الأدبية. لكن الصديق د. فواز طرابلسي الذي بعث لي بعددين من مجلة «بدايات» التي يرأس تحريرها، وتساهم معه كوكبة من أصدقائي ومعارفي وزملائي اللبنانيين، طلب مني رأياً في المجلة بل وطلب ـ مشكوراً ـ مادة مني للمجلة أرسلتها له ممتنّاً.

لفت نظري في تصفّحي السريع للمجلة، العدد٨/٩ صيف ٢٠١٤، كما هو معنْون، مادة بعنوان «لا سكاكين في مدينة خالد خليفة»، كتبتها هيفاء أحمد الجندي التي عرّفت نفسها أو عرّفتها المجلة بـ«كاتبة وناشطة من سورية». أجّلت القراءة متعمّداً ألّا أدخل في جدل سكاكيني سوري ـ لبناني، لكن القراءة التي قدمتها الجندي هي قراءة مزعجة من وجهة نظري، وقد رأيت ـ آخذاً بالأحوط ـ أنها تمت بعجالة حتى تلحق بموعد الطباعة للمجلة.

سأورد ما أزعجني هنا على عجالة أيضاً:

أولاً: عنوان مقتبَس؟

إن العنوان الذي استخدمه خليفة في روايته جاء من اقتباس لخطاب أو خطبة لواحد من عائلة الأسد (نسيت من هو ـ أو لعله قائد عسكري أسدي) يهدد مدينة سورية بالويل والثبور وبأنه سيحرم مطابخ بيوتها من السكاكين. ولم أكن أعلم بهذا التهديد الذي لم يشر إليه خليفة في صدر روايته كما هو متبع في «ادبيات الكتابة وأخلاقها الرصينة»، إلا بعدما أشرت أنا في الجدل الذي شاركت فيه إلى أن جملة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» قرأتها في نص إنجليزي مترجم لرواية فرنسية، وأشرت إلى الصفحة وإلى كاتبها ومترجمها، الخ. حينئذ كتب خليفة أو واحد من أصدقائه مصححاً لي ومشيراً إلى الشخص السوري. وقد فات هذا أيضاً على هيفاء أحمد الجندي!

ثانياً، إن المؤلف أقر في حوارات صحافية بأخطاء تقنية ولوجستية في عمله الثاني هذا الذي تعتبره أنه تكملة للعمل الأول «في مديح الكراهية». من هذه الأخطاء التي أشار إليها من قرأ الرواية، تداخل السرد بين سرد الراوية، وهو واحد من شخوص الرواية، وبين «معرفة الغيب» التي هي من حق المؤلف (إن جاز التعبير).

لكن الكاتبة الجندي اعتبرت هذا فعلاً فنياً روائياً صائباً، إذ تكتب «والراوي العارف بمصائر الشخصيات وجواّنيتها يسرد دون أن يتدخل، ويترك للحاضر أن يضيء الماضي، يفسره ويعلّله وينتقل بحرية من شخصية إلى أخرى تلقي المزيد من الضوء على عوالم سرية وسردية». أي أنها هنا تبرر للكاتب أخطاءه! وتقول «وسوف تفرض تعددية الأصوات إيقاعها بالتخلي عن الترتيب الحي للأحداث دون أن يشعر القارئ بالضياع والتفكك».

هذا «الضياع والتفكك» هو ما رصده البعض وما اعترف به خالد خليفة في عدد من حواراته الصحافية.

الأسد أم البعث؟

ثم نصل إلى «سبب وجود الرواية ومنطقها السياسي» لنجد أنّ الجندي تعزو إلى خليفة رؤية سياسية وتفسيرية للواقع السوري السياسي، بأن حزب البعث السوري هو سبب كل مصائب الشعب السوري. تقول: «فكأنه يكتب فصلاً من فصول الحكاية السورية الأشد قتامة وسوداوية من تاريخ سورية الحديث عندما تولى حزب البعث السلطة».

وتضيف: «الرواية تعلن موت مجتمع تحكمه ثنائية العسكر والإسلاميين، هذه الثنائية القاتلة التي تحكّمت بمصائر الشخصيات بقيت أسيرة الانتقام من الذات ومن الآخر من موقع الرفض والتمرد السلبي، فكانت السكاكين أدوات للانتحار والقتل والخلاص الفردي». وتقول أيضاً عن المؤلف وعن الرواية: «ولا أريد هنا وضع أقوال في فم خليفة عن حزب البعث.. لكن أريد أن أقول إن الأحزاب العربية في معظمها وخاصة تلك الحاكمة هي الوجه الآخر للحاكم.

هي ليست بأحزاب من الأصل بل تشكيلات مدنية /عسكرية مخابراتية. إنها «شخصية وقبلية وعائلية وفئوية» تتبع الحاكم وتعبّر عن مزاجه الشخصي ورؤيته لبلده وأهلها».

إذن، عندما نضع كل خطايا المجتمع السوري على كتفي حزب البعث، هو تبرئة ـ مقصودة – للحاكم السوري، بداية من الأسد الأب للأسد الابن ونهاية برجل الأمن والشرطة في أية بلدة أو ضيعة سورية صغيرة. فالناس ـ كما نعرف ـ على «دين» ملوكهم!

بل إننا نجد إهانة متعمدة وتخويناً للمثقفين السوريين في علاقتهم بـ«السلطة» وعلاقتهم بما تعتبره هي أو خليفة أو كلاهما مساهمتهم في «تخريب المدن وترييفها». تقول: «عبر السرد يلحظ القارئ شخصيتين متضادتين للمثقفين: المثقفين الإيجابيين الذين رفضوا أن يكونوا شهود زور على خراب المدينة (الذي اتهمت فيه حزب البعث بتخريبها عبر ترييفها) وتحوّلاتها واختاروا المنافي والهروب من المدينة التي سكنتهم في الغربة من جهة، ومن جهة أخرى مثقفي السلطة الذين تواطأوا مع نظام القتل». هذا تصنيف جديد بالنسبة إليّ عن مثقف إيجابي ومثقف بالطبع سلبي أي سلطوي.

يدفعنا ذلك إلى حتمية سؤال عن ماهية «السلطة» في بلد عربي؟ هل هي دائرة النفوس ـ مثلاً – التي يعمل بها عدد من الموظفين وقد يكون بعضهم من المثقفين؟ أم هي «وزارات الداخلية والمخابرات وضباط الجيش الكبار»؟.

هل موظف في دائرة ما، تعمل في إطار الدولة «الباغية» مهمتها تسهيل وتنظيم حياة المواطنين مثل سيارات جمع النفايات؛ جزء من «دولاب» القتل السلطوي اليومي؟ أم أنه مجرد موظف يعتمد في معاشه المحدود على راتبه من هذه الدائرة؟

انا شخصياً ضد التعميم العشوائي، خصوصاً في بلد مثل سورية، حيث الفرص المتاحة لكسب سريع وكبير متوفرة فقط لمن له علاقة وثيقة بحزب الأسرة الحاكمة، حيث الحزب الورقي الذي يضم بين جوانبه البلاطجة ورجال أعمال بلا ذمة وكل فاسد انتهازي.

ثم نأتي إلى سؤال أخير: هل المدينة العربية هي مدينة أصيلة مكوّنة من سكان حضريين كما يعرّفهم ابن خلدون؟ أم أنها مصبّ دائم لريفيين وقادمين من الريف ومن الجبال يبحثون عن حياة أفضل اقتصادياً وإنسانياً؟ وهل من حق مؤلفٍ ما أن يعترض على «هجرة» بعض مواطنيه من مناطق متخلفة إلى مناطق «حضرية» بحجة أنهم يخربونها، كما تعلن القارئة للرواية بأنه «عسكرة المجتمع وترييفه»؟

العدد العاشر – شتاء ٢٠١٥

بدايات

———————–

تشريح المجتمع السوري وفضح القمع المحكوم بثقافة الأيديولوجيا المنافقة/ علي المسعود

26.05.2014

برز اسم الروائي السوري خالد خليفة مع صدور روايته الثالثة «مديح الكراهية» عام 2006 التي عالجت قضية القمع السياسي والديني في سوريا وترجمت إلى الكثير من اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية.

لعبت رواية “مديح الكراهية”، دورًا في تشريح النظام السياسي لحزب البعث السوري وتعامل معها البعض كنبوءة لما حدث في سوريا بعد الثورة، وهي رواية تنخر تحت طبقات عميقة في الذاكرة السورية، نحو اقتفاء أثر ألم مخفي، لأحداث مدينة حماة السورية، التي راح ضحيتها إبان الثمانينيات، ما يقرب من 30 ألف شخص.

أما روايته الرابعة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013، دار العين) فقد حصلت على جائزة ميدالية نجيب محفوظ للأدب عام 2013 التي تقدمها الجامعة الأميركية في القاهرة، وكانت ثاني عمل له يصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” بعد “مديح الكراهية”.

رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تشريح للمجتمع السوري وحفر عميق في المكان والذات ليس عبر 40 سنة عمر حكم دولة الأسد الأب والابن ولكن عبر 200 سنة في مدينة حلب التي خضعت لتغيرات سلبتها روحها، وفقد السوريون عبرها، أحلامهم وآمالهم وأصبح منتهى أملهم اليوم البقاء على قيد الحياة، عاش الكاتب (خالد خليفة) نصف عمره في حلب والنصف الآخر في دمشق، لكن حلب لم تنته بالنسبة له كمكان مفضل للكتابة عنه، يكتب خليفة الذي يحفظ تاريخ مدينة حلب بأزيائها ومطبخها، ومعمارها المحلي والعالمي، بسهولة شديدة، لا يمكن له هو نفسه شرحها.

نّ ارتباط المؤلف بالمكان أمرٌ لا يمكن أبداً إنكاره، ولعلّ هذه الحميميّة الخاصّة ونظراً للأهمية التي يتمتع بها المكان في النص الأدبي باعتباره يساهم بشكل أو بآخر في خلق المعنى داخل النص الأدبي، فإنه -المكان- حظي بدراسات عدّة عنيت به منذ “غاستون باشلار” من خلال كتابه “شعرية المكان” الذي انطلق فيه صاحبه من نقطة أساسية مفادها أنّ البيت القديم «بيت الطفولة» هو مكان الألفة، ومركز تكييف الخيَال، هذا المكان الذي إذا ما ابتعدنا عنه نظلّ مشدودين إليه نسترجع ذكراه، انطلاقا من هذا التذكر تتّخذ صفات وملامح المكان طابعا ذاتيا وينتفي بعدها الهندسي فالأمكنة ـ تبعا لذلك ـ قد تتجاوز في بعض المواقف وظيفتها الأساسية والمتمثلة في اعتبارها إطاراً أومجرّد ديكور، لتغدوعنصراً هاماً من عناصر تطور الحدث، والمكان هنا -داخل الرواية- باعتباره ملفوظا حكائيا قائم الذات، وعنصرا من بين العناصر الفنية الأخرى المكونة للنص السردي. ولا يمكن بأي حال تناول المكان الروائي بمعزل عن باقي المكونات الأساسية في الآلة الروائية، وأن ظهور الشخصيات ونمو الأحداث التي تساهم فيها هو ما يساعدها على تشكيل البناء المكاني في النص الادبي.

يحكي خالد خليفة في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» تاريخ مدينة حلب الحديث، الذي يشكل انقلاب البعث سنة 1963 المنطلق نحو الماضي والمستقبل فيه، وكيف أسهم ذاك الانقلاب في تشويه معالم المدينة ونسف بناها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخلف شروخا عميقة بين الناس الذين انقسموا بين مؤيد خائف من إرهاب السلطة الجديدة، وآخر معارض أُودِي به بالتقادم وتمّت تصفيته أو أذلاله ومحاولة أركاعه وأحساسه بعار الخيبة والخذلان !!

في الفصول الخمسة لروايته التي نشرتها دار العين بالقاهرة :

«حقول الخسّ»، و»جثث متفسّخة»، و»عنق ملوكي وحذاء أحمر»، و»الأم الميتة»، و»طرق غامضة»، لا يكتفي صاحب «مديح الكراهية» بتوصيف التقسيم المجتمعي الذي رسمه النظام وخطط له واشتغل عليه، بل يعود إلى جذور الكارثة والمأساة التي حلت بالشعب ..

الرواية تتناول بعمق ومهارة حياة معلمة هجرها زوجها، وشقيقها الموسيقي الشاذ وأبنائها الأربعة (سوسن، رشيد، سعاد والراوي). لكل شخصية امتداد زمني خاص بها، وآخر تشتبك فيه مع بقية الشخوص، كما لكل منهم خط روائي واضح من خلال الأحداث والمحطات المهمة، باستثناء الراوي الصوت الثالث- الذي تسرد الرواية على لسانه كأحد أبناء ، تولّى سرد العمل كفرد من العائلة دون أن يسلط الكاتب الضوء عليه. وجود البطل/ الظل أعطى للنص بعداً جمالياً خاصاً وهو أمر غير مطروق كثيراً في الروايات العربية .

دمار مادي ومعنوي

هي رواية عن الفقر والحزب والفساد والعجز والشيخوخة والعهر والشذوذ والكثير من الصرخات المكبوتة، أبطال مهمشين مضت أعمارهم في وهن، لوثت السياسة ملامح مدينتهم الجميلة، أُغتيلت أحلامهم برصاص الحزب، أنها ملحمة تروي قصة قتل الإنسانية وتوثيق الخراب الذي لحق بالارواح والمدينة في السنوات الخمسين الأخيرة، فحجم الدمار الذي لحق بمعمار مدينته حلب كان صاعقًا جدًا، وهو دمار لم يلحق بالمكان فقط، ولكن لحق بالناس أيضًا، فالأمكنة كما يقول «لا تخرب وحدها، فالمكان يخرب معه سكانه»،

يتميز السرد الروائي للكاتب بسلاسة متدفقة ولغة شعرية تضفي على الواقع المأساوي للعمل مسحة جمالية (كما في حديث الراوي عن شقيقته سعاد وهي «تقود قطارا طويلا محملا بمجموعة طيور دون أجنحة، مناقيرهم طويلة، ينشدون لها أناشيد تستعذبها، شعرها أبيض وطويل، تنظر إلى الأمام مبتسمة، ملاك لا يراه أحد). لقد أستطاع الروائي السوري» خالد خليفة» أن يحفر في أعماق ذاكرة الآلام السورية دونما تردد أو خوف، فلطالما كانت رؤية «خليفة» أن الروائي يجب أن يكون قاسيًا، إذ إن وظيفته لا تتضمن التساهل» او التماهل على الأفكار القديمة وإخفاء الحقائق، وإنما العكس تمامًا، انعكست تلك الرؤية في الرواية في المكاشفة والتعرية والتي سيطر على أجوائها حالة من اليأس الذي يخلفه الفساد الاجتماعي والإنساني الناتج عن انقلاب حزب البعث وتولي حافظ الأسد الحكم في الستينات، وما نتج عن ذلك من انقسام البلد إلى شطرين منها المؤيد للانقلاب «حكم الأسد» ومنها المعارض، وينتج الفساد والدمار هنا من عدم تقبل المعارضين للحكم، والقضاء عليهم بصور تصورها الرواية في مشاهد بشعة .

سوريا على مدار تجاوز أربعة عقود

يمتد الفضاء الزمني للرواية بين عامي 1963 و2005 هذه السنوات هي ما صنعت سوريا التي عاشها الكاتب أو التي عاشها أبناء جيله وهي التي تغيرت فيها أحلام السوريين كثيرا من الرغبة في بناء بلد ديمقراطي معاصر ومنفتح على كل الثقافات المحلية والعالمية إلى بلد مغلق، مقموع ومحكوم بثقافة الحزب الواحد وآيديولوجيته المنافقة. ويستعرض خليفة من خلال الحكايات والأحداث التي يرويها بروايته، تاريخ الديكتاتورية والعنف للحاكم والسلطة العسكرية منذ عشرات السنين، وما تمارسه من عنف ممنهج، ومصادر الحريات ، ليجد القارئ العربي نفسه يعيش في نفس الظروف والقهر العسكري وسيطرة الحاكم على البلد وكأنه يمتلكها، والقضاء على الصوت المعارض لها قبل أن يخرج مستخدمة كل الأساليب والطرق الممكنة لذلك، هذه الأساليب التي تقضي تدريجيا على الإنسانية وقد تدفع مجتمعات كاملة إلى الجنون، أو اليأس والقتل والانتحار، وهو ما أوحت به الرواية للقارئ !!.

الرواية أولا وقبل كل شئ كتابة مشكلة من مجموعة من الجمل ذات حمولة فكرية وأيديولوجية، وكل ما يصدر عن الأديب من أحداث وشخصيات يتخذ صفتة الأدبية بواسطة اللغة، ولهذا السبب تعتبر اللغة مكونا أساسيا من مكونات العمل الأدبي عامة والإبداع الروائي خاصة، واللغة بدورها لا تستقيم في الأعمال الروائية دون سرد والمقصود بالسرد، هو لغة الرواية وأسلوبها وطريقة كتابتها، أي الانتقال باللغة عبرمراحلها من الألفاظ إلى التراكيب، ثم التعابير فالدلالات، هذه اللغة هي التي تنقل الأحداث من المحيط الخارجي إلى الصور الفنية والجمالية ومن الجمل ذات الحمولة الفكرية التي حفلت بها رواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» وعلى سبيل المثال :

«إن القطيع أعظم اختراع لتمرير كل الافكار والفلسفات والأديان والفنون الساذجة» *

«لا يمكن الوثوق برجال تفوح من جلودهم رائحة الجرذان»*

«من العبث تزوير الموت وجعله مرادفا للحياة»*

«النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما، تفاصيل نظنها حقيقية، لا نصدق إنها وهم من أوهامنا»

«دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب مُوارب يزداد ضيقاً حتى يخنق القاتل»*

مصائر مفجعة مؤلمة يختارها الروائي لشخصياته، تعكس عمق الفجيعة التي تحياها، الجدّ يقضي في محطة القطار التي يحلم بتحديثها ويبالغ في تشبّثه بحلمه بها، وهو الذي يحمل وسام التميّز عن عمله السابق فيها، والأب الهارب إلى أميركا مع عشيقته يعكس التنكر والوفاء لأبنائه، وتركه لهم في مهبّ رياح هوجاء عاصفة، فيما الأم غارقة في أحزانها وهموم أولادها الأربعة، والخال نزار بجنونه وموسيقاه و»مثليّته»، كما أن سوسن ترمز بدورها إلى تماهي الضحية مع الجلاد وتقاطع الحلم السلطوي بالعهر واستغلال الجسد، فيما تكون الفتاة البسيطة عار الأسرة من وجهة نظر بعض أفرادها، وخاصة الأم الناقمة عليها وعلى نفسها وتاريخها ومدينتها وزوجها وأبنائها كأن الروائي يشير إلى المتلقي ألا يتفاجأ بما يشاهده من عنف في الواقع السوري، ومن حقد على المدن وتاريخها، لأن ما كان متكتما عليه لم يكن بأقل فظاعة مما يظهر للعلن.

اقتراح لحلول ممكنة

أن مصدر قوة هذا ألعمل الروائي تكمن في أنه يحافظ على وعي القارئ كاملا أثناء متابعة القراءة، لا يطفئ بصيرته ليخدعه بلحظات استمتاع عابرة يعود بعدها إلى واقعه البائس. وأيضا أنها يحافظ على الوعي كاملا ويزيده وضوحا وألما مع زيادة متعة السرد بالاستمرار في القراءة.

إن المتتبع والمتمعن لرواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» يستنتج بأن هذا العمل الأدبي، لم ينجز بشكل عشوائي ولم تتم صياغته بتلقائية، بل نلاحظ بأنه عمل محكم البناء تم الإعداد له مسبقا، احترمَ المكونات الأساسية للعمل الروائي بما فيها من أحداث وشخصيات وحبكة وفضاء روائي وحوار كما أن السرد في الرواية كان نتيجة توافق بين رؤية الروائي الفنية، وما يتطلبه موضوع الرواية. والرؤية الفنية هي التي تتحكم في سير السرد والنهوض به، ليتحكم في بناء الحبكة واختيار الشخصيات وإدارة الحوار الذي يجري بينها، سواء أكان حوارا داخليا أوحوارا ذا طابع ثنائي يتمدد عبر فضاء الرواية، إنها الطريقة المثلى التي تكيف البنية الفنية مع الرؤية إلى العالم، عبر نقل الواقع وتمثله ثم التعبير عنه أدبا، ورصد العيوب، واقتراح الحلول الممكنة رغبة في رسم صورة ممكنة لواقع يهدف إلى التناغم والانسجام.

بعيدا عن الرتابة

وموضوع السرد في الرواية يحيلنا إلى نموذج آخر اعتمده «خالد خليفة» في هذه الرواية وهو السرد المؤدي إلى السيناريو السينمائي، فنجد الكاتب يتحرك باللغة وينهض بها في اتجاه حركي درامي يشعر به القارئ من خلال أصوات الشخصيات ومن خلال حركاتهم الصامتة والتي تتخلل المقاطع الصوتية عبر بياض الكتابة الروائية. كما أن عملية السرد السينمائي تظهر من خلال توظيف أسلوب تنوع أشكال الخطاب في الرواية الواحدة، فطريقة الكتابة تشعرنا وكأننا أمام مشاهد سينمائية متنوعة يعتمد فيها السيناريست على لقطات مختلفة من الواقع يسلط عليها الضوء لكي لا يشعر المتفرج بالملل (للكاتب تجارب في كتابة السيناريو السينمائي والتلفزيوني)

تبقى رواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» رواية حداثية تمزج بين تقنيات متعددة في الكتابة دون الخروج عن مقومات الكتابة الروائية فتأخذ من الرواية التقليدية لغة السرد المكتوبة التي تحترم مقومات الكتابة بما فيها الألفاظ المأدية للمعاني، وأنماط التركيب الخاص بالأحرف والكلمات، واستفادت من الرواية الحداثية وخاصة من التحررالنسبي لزمن السرد الروائي الطويل، والاكتفاء بالزمن السردي القصيرالمؤدي إلى المعنى من أقصرالطرق، كما استفادت من الفن السينمائي من خلال حركية الشخصيات والأصوات المؤدية للحوارات، واستغلال اللغة لأداء وظيفة التوليف البصري المنتج للدلالة البصرية والذهنية المخزونة في ذاكرة المتلقي، انها عمل روائي يوثق «العار السوري والعربي» العار الذي جلبه الدكتاتور لأمته وشعبه كما أنها رواية تؤرخ «عار شعب بأكمله ينمو ببطء..

كاتب عراقي مقيم في المملكة المتحدة

القدس العربي

———————

==================

تحميل روايات “خالد خليفة”

الرابط الأول

الرابط الثاني

الرابط الثالث

———————————

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى