أبحاث

في تنوع دوافع الانضمام للثورة/ عروة المقداد

أعادت الاحتجاجات المتنامية في الجنوب السوري، وتحديداً في محافظة  السويداء، رغبةً كبيرةً في إحياء مطالب وشعارات سنة 2011. تنامت الاحتجاجات بسرعة لتشمل مختلف  الفئات الاجتماعية في السويداء، وتتفق على مطلب إسقاط النظام. تنوعت النظرة نحو هذه الاحتجاجات والمطالب، بين مَن أطلق عليها ثورة جديدة، ومن رأى فيها براغماتية سياسية مبنية على ظروف إقليمية محددة، ومن جرَّدها من قيمتها الأخلاقية ليَسِمَها بأنها ثورة الجياع.

لكنّ محاولات التغيير التي انطلقت منذ اثنتي عشرة سنة أخذت أطواراً عديدة، وفجرت صيرورتها أسئلةً وإشكالياتٍ جوهرية تتعلق بتوجهات وتطلعات وآمال مناصريها والفاعلين فيها. كشفت تلك الأطوار عن دوافع متعددة تستحق الدراسة والتأمل، لا بل إن هذا ضرورة مُلحَّة لرتق ما تمزَّقَ من أحلام وآمال تتعلق بمفهوم الوطن والمواطنة. وهي في عمقها لا تتعلق بالمقارنات أو التوصيفات القيمية، وبمن يتفوق من ناحية القوة والشجاعة أو بمن هو السبب المباشر أو غير المباشر وراء سقوط النظام (وإن لم يحدث هذا حتى هذه اللحظة).

منذ عملي مع الشهيد باسل الصفدي على توثيق أحداث الثورة وتغطيتها في مختلف المحافظات السورية، وحتى خروجي من حلب الشرقية نهاية العام 2015، وعملي مع عدة جهات إعلامية توثيقية وكيانات عسكرية ومنظمات مجتمع مدني، وكذلك من خلال الأفلام الوثائقية التي صنعتها عن الثورة، عايشتُ دائماً تلك الإشكاليات وفكّرتُ في الدوافع والأسئلة المتعددة التي فجرتها الثورة. لم تستطيع الكيانات الثورية والسياسية السورية، سواء داخلياً أو خارجياً، إيجاد حلولٍ لتلك الإشكاليات أو بناء تصورٍ عملي جامع للتنافر الشديد في تلك الدوافع والأسباب، فهي متعددة ومختلفة، وهي متناقضة أحياناً ومتعاكسة أحياناً أخرى. وفي محاولة فهم حالة الاستقطاب في المواقف الثورية تجاه ما حدث وما يحدث، سواء في سوريا أو في دول المنفى، أجدُ من الضروري فهم وتحديد تلك الدوافع الرئيسية لخروج السوريين في الثورة.

لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذه الدوافع تتداخل في ما بينها بطريقة شديدة التعقيد، وتحتاج مزيداً من البحث والتقصي والدراسة، وليست محاولة ترتيبها وتصنيفها سوى مدخلاً لفهم ملامحها  الرئيسية وبالتالي فهم حالة الاستقطاب الشديد والانقسام العميق حولها.  كما لا بدّ من الإشارة إلى أن النظام كان لديه من الذكاء الكافي للتعامل مع هذه الدوافع، وهذا ما يمكن اعتباره حجةً أخرى تدعم هذا النوع من التحليل، وسأمرّ على تلك الأساليب مع كل دافع من الدوافع.

دوافع الانضمام للثورة

1- وقود الثورة

لم تكن دوافع خروج السوريين في الثورة واحدة إذن، بل اختلفت تبعاً للمنطقة والمدينة والطبقة الاجتماعية والانتماء العرقي والديني. وفي سياق استعراض تلك الدوافع، أَقترحُ حجةً وهي أن للثورة السورية مُحرِّكاً أساسياً سأطلق عليه توصيفاً مجازياً هو: «وقود الثورة». تحمّلت هذه الشريحة عبء تحريك التغيير من مرحلة السكون التام إلى الحركة الكاملة، والتي لم يعد ممكناً من بعدها العودة رغم محاولات النظام المستميتة للتفاوض والتفاهم وتقديم التنازلات في الشهور المبكرة من الثورة.

هذه الشريحة ستفرض معياراً أخلاقياً بالدرجة الأولى، مع أن لديها بالتأكيد دوافع سياسية واقتصادية واجتماعية بالدرجة الثانية. قد يبدو هذا المعيار طوباوياً تماماً، لكني أعتقدُ أن محاولة التغيير في سوريا كانت في عمقها محاولةً طوباويةً إلى أبعد درجة، وعليه فإنني أعتبرُ دافع هذه الشريحة أخلاقياً بالدرجة الأولى تحديداً نتيجة حجم التضحيات التي قدمتها هذه الشريحة بالمقارنة مع المكاسب المحتملة.

ويمكن توصيف هذه الشريحة ودوافعها كالتالي:

كانت تنتمي إلى مختلف المناطق والمدن السورية، وتنحدر من مختلف الفئات الاجتماعية والدينية والطبقية (وهذه أحد أهم نقاط قوة الثورة)، وهي متأثرة بطريقة أو بأخرى بالبُعد العربي وتُشكِّلُ قضية فلسطين جزءاً أساسياً من نضوجها الفكري والسياسي، لا بل إن الكثيرين من أبناء تلك الشريحة كان متأثراً بتجربة النضال الفلسطيني، وحاول الاستفادة منها في التكتيكات المبكرة سواء على الصعيد المدني أو العسكري. بالإضافة إلى أن التراث الديني جزءٌ من تكوين هذه الشريحة، لكنه ليس الدافع الأساسي في مطالبها أو توجهها وتحركاتها. كما يمكن ملاحظة أن الغالبية العظمى من هذه الشريحة لديهم مستوى تعليمي وثقافي جيّد، ولديهم من المرونة الاجتماعية ما يجعلهم قادرين على التواصل مع مختلف الانتماءات الفكرية والسياسية والدينية بسهولة شديدة. ويمكن القول إن هذه الشريحة كانت العقل المدبر للكثير من التكتيكات الثورية، وتحوَّلَ كثيرون منهم من الحراك المدني إلى الدفاع عن النفس، أي حمل السلاح الذي لم يكن لديه في بداية الثورة أي أبعاد إيديولوجية بل كان نتيجة الاعتقالات الرهيبة ونتيجة الانشقاق الناتج عن رفض المشاركة في قتل المتظاهرين. أتحدثُ عن فئة أولئك الذين لم يتغير مطلبهم الأخلاقي والسياسي على الرغم من التبدلات العاصفة في مسار الثورة، ورغم استهدافهم سواءً عن طريق القتل أو الخطف أو الاعتقال. أتحدّثُ عن الفئة التي وقفت أمام المشاريع الإيديولوجية التي تفجرت في سياق الثورة السورية.

كان مصير الغالبية العظمى من هذه الشريحة الاستشهاد أو الاعتقال، والقلة القليلة التي نجت ما زالت تعاني من صدمات كبيرة، ومن إحساس عميق بالخذلان الناتج عن اختلاف الدوافع لدى بقية الشرائح التي شاركت في الثورة.

انطلقت هذه الشريحة إلى إشعال شرارة الثورة من دافع أخلاقي، يقوم على مبدأ التضحية بالنفس من أجل المصلحة العامة. هذه المصلحة لا تتعلق بمطلب سياسي أو اقتصادي واحد مُحدّد، وإنما بالرغبة العميقة بالتغيير. وحجَّتي في ذلك أمثلة عديدة منها ما فعله ناشطو داريا في توزيع الورود والماء لعناصر الأمن والجيش، وصولاً إلى ما جسَّده الانشقاق في مختلف مراحله، واستمرار خروج المظاهرات في مواجهة محسومة مع الموت؛ تُجسِّدُ هذه الأمثلة ما أطلقت عليه تسمية الدافع الأخلاقي.

شكلت هذه الفئة الشريحة الأخطر على النظام الأمني، إذ قامت الأفرع الأمنية بدراسة سلوك هذه الشريحة وتتبُّع أسبابها وغاياتها بدقة شديدة، وهو ما توصلنا إليه في المشروع الذي بدأتُه مع  الشهيد باسل الصفدي لمراقبة سلوك الأفرع الأمنية وتصنيف عملها، فقد لاحظنا أن النظام كان يستخدم تكتيكات مختلفة لفهم عمق المحرك لهذه الشريحة.

في العاصمة دمشق كان للأفرع الامنية الرئيسية مجموعاتٌ تشارك في الاعتقالات، وهي اعتقالات في الغالب كانت عشوائية تهدف لتوفير أكبر قدر من المعلومات عن المزاج العام للمظاهرات، ومن ثم الضغط بأكبر قدرٍ ممكن لظهور العناصر الفاعلة في المظاهرات، ومن ثم توجيه الضربة الرئيسية لهؤلاء الفاعلين أو المؤثرين، سواء عن طريق الاغتيال المباشر في المظاهرات أو الاختطاف أو التصفية الجسدية المباشرة في المعتقل.

2- الفزعة

جاء الانضمام للثورة بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين تلبيةً لمفهوم «الفزعة»، الفزعة المرتبطة بتراكم من العادات والتقاليد ذات الجذر الديني، أو الجذر المحلي المتعلّق بمفاهيم الشهامة والأخلاق والمروءة. هذا المصطلح استُخدِمَ في الأحياء الشعبية السورية على اختلاف أماكنها، فقد بلورت مسألة القتل أحد أهم الدوافع والمحرضات للمشاركة في الثورة، وتحديداً قتل الأطفال والتنكيل بالنساء. شهدت درعا على سبيل المثال استخداماً واسعاً لمثل هذا المصطلح، حيث نودي على منابر الجوامع «بالفزعة» خلال المجازر التي ارتكبها النظام في الجامع العمري وفي قرى مختلفة في المحافظة، وهو ما دفع الكثير من التشكيلات الاجتماعية للانخراط في الثورة بغض النظر عن المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

استمرَّ مفهوم الفزعة كمفهوم أساسي في التحركات العسكرية أيضاً طوال سنوات الثورة، على اختلاف استخدام الكلمة تبعاً للمحافظة أو المدينة. ففي الوقت الذي كان يقال عنها فزعة في درعا والدير، كان يُطلَق عليها في أحياء حلب على سبيل المثال «البلشة». الفزعة كانت سبباً لتحرُّك فئات بسيطة مهمّشة لم تكن مرتبطة بالثورة بأي شكل من الأشكال، ومنهم من عُرِفوا في السابق كزعران أو متعاطين للمخدرات أو أصحاب سوابق. سيتكرر هذا النموذج في أغلب المناطق، لكن الفزعة لم تكن مرتبطة بالعمق الثوري في محاولات التغيير على مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية، بل كانت مرتبطة بالعائلة أحياناً وبالعشيرة أحياناً أخرى. ومع تَعقُّد المشهد في الثورة السورية، ودخول التمويل الإيديولوجي والإقليمي، لم يعد لمن يمكن حسبانهم في هذه الشريحة الدوافع ذاتها، وتحوّلت أهدافهم بشكل جذري.

حاول النظام استقطاب تلك الفئة، فإلى جانب استهدافها بالاعتقالات قام بتقديم تسهيلات معينة لها. مثلاً، في الوقت الذي كنتُ فيه معتقلاً في مطار المزة العسكري، حيث بدأت تصفية العديد من الناشطين، كان يتم الإفراج عن شباب تورّطوا بحمل السلاح ممّن يحملون صفات توحي أن ما جاء بهم إلى الثورة كان في الأساس هو الفزعة.

بعض الأشخاص من هذه الفئة تحوَّلوا إلى قادة عسكريين في حلب ودرعا وريف دمشق وغيرها، ومنهم على سبيل المثال أبو علي خبية وحسن جزرة، ويمكن ملاحظة هذا النوع من القادة الشعبيين في كل محافظة أو مدينة. بعضهم تعرَّضَ للتصفية من جهات إيديولوجية محسوبة على الثورة، فيما سعى النظام طوال سنوات الثورة لاستمالتهم عن طريق المصالحة أو التسوية، وهو ما تبدَّى واضحاً في المصالحات التي حدثت بعد اجتياح المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، حيث انضمَّ الكثير من هؤلاء للعمل تحت إشراف الأفرع الأمنية.

3- الدولة المدنية الديمقراطية

مثَّلت الثورة بالنسبة لشريحة أخرى محاولةً لبناء دولة مدنية ذات أسس ديمقراطية، ويمكن ملاحظة تلك الشريحة في مراكز المدن بالذات. كان ذلك بتأثير النخبة السياسية القادمة من محاولات التغيير في السبعينيات والثمانينيات، والذين كان جلُّهم معتقلين سياسيين وذوي خلفية يسارية – شيوعية، ممّن أثَّرت أفكارهم في العديد من الشباب، الذين تبنوا الحراك السلمي في الثورة، ومن ذلك أولئك الذين شاركوا في حراك أحياء دمشق، وكانوا ينخرطون فيما كان يُعرَف بالمظاهرات الطيّارة، أو في الاجتماعات التي كانت تُناقش مآلات التغيير. لكن مع تطور وتعقيد مسارات الثورة، بدا الاختلاف واضحاً بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأخرى. شكلت هذه الفئة واحدةً من أكثر الفئات دفاعاً عن الدولة المدنية، ولكن مع تحول الثورة الى مسلحة وانتشار الكيانات ذات البعد الديني، لم تعد هذه الفئة مشاركة بشكل فاعل على أرض الواقع. يكاد يكون الخيط رفيعاً بينها وبين «وقود الثورة» أعلاه، ولكن الاختلاف كان في الأدوات، ففي حين كان الآلاف من الشباب ينخرطون في العمل المسلح ضد النظام، كانت هذه الشريحة مؤمنة بأنه من خلال الحراك المدني يمكن إسقاط النظام.

تعاملَ النظام مع هذه الشريحة ودوافعها بحذر شديد، وكان يعي خطورة بعض الفاعلين فيها فقام باعتقالهم وتغييبهم، فيما تركَ للبعض الآخر مساحة للتحرّك بهدف خلق مناخ يستطيع استخدامه عند الحديث عن التغيير السياسي، كما حاول الضغط على البعض الآخر وترهيبه وتهديده وتقديم مكتسبات معينة له.

4- الدولة الدينية

مثلت الثورة لشريحة واسعة فهماً دينياً في تفسير التغيير، فدعا كثيرون إلى إقامة دولة على أساس ديني. وقد مثلهم بشكل واضح الإخوان المسلمون، الذين أحدثوا شرخاً جذرياً في الثورة السورية، مما مهد لخروج جبهة النصرة وداعش كنتيجة للتبني والدعم والتحريض على إقامة دولة دينية. دفعَ ذلك الخطاب والتحريض آلافاً من الشباب للانضمام الى تلك الكيانات، حيث تحولت المعركة مع النظام بالنسبة لهم من ثورة تدعو إلى تغيير شامل إلى معركة دينية سياسية ذات أبعاد تاريخية. هكذا انفجرت المشكلة السنّية بإرثها التاريخي، وما حملته من مراجعات فكرية حادة في مفاهيم العقيدة وشكل الدولة. كان يمكن أن نلمح ذلك الانقسام الفكري الحاد في المسألة الدينية السنية في حلب، فمنذ التحرير بدأ ظهور الجماعات الدينية التي انشقت الى شقين: الإخوان والنصرة ولاحقاً داعش. انخرط في هذه المشاريع آلاف المنتمين لطبقات اجتماعية ومناطق متنوعة، وذلك مع غياب المشروع السياسي الواضح واشتداد العنف غير المسبوق من قبل قوات النظام وحلفائه لاحقاً.

عندما دخلتُ إلى سجن عدرا شاهدتُ مئات المعتقلين الإسلاميين يغادرون السجن. كانت تلك واحدةً من أخطر الاستراتيجيات التي تعامل بها النظام مع فئة يفهمها ويفهم دوافعها، وقد مهَّدَ طفوّها على السطح لشرخٍ حاد في بيئة الثورة، ونقلَ الحراك العسكري إلى مكان مختلف كلياً عمّا بدأ عليه. أسّسَ ذلك لضرب الفئات الثورية على كافة المستويات، ومهَّدَ لظهور الفصائل الاسلامية المسلّحة والقضاء نهائياً على ما عرف في ذلك الوقت بالجيش السوري الحر، فالجيش الحر كان نواة فكرة لم تعد موجودة فعلياً منذ العام 2013، وإنما تغيرت بنيتها وتوجهاتها وأهدافها جذرياً.

5- المنفعة

انضوت شريحة واسعة في الحراك الثوري أو الحراك المعارض عموماً تبعاً لمصالح يمكن وصفها بالذاتية، وانطلقت من مصالح خاصة، وقد لعب عنف النظام وتراكم سنوات الخوف في تحديد خياراتها. ومع تَعقُّد مسار الثورة ظهرت لكثيرين من هؤلاء استحالة سقوط النظام، وعليه بدأ الانسحاب من الدوافع أو المصالح المشتركة العامة نحو دوافع  أكثر ذاتية نفعية.

ويمكن تقسيم هذه الشريحة إلى قسمين؛

الأولى تنوعت خياراتها بين البقاء في البلد والتزام الحياد أو مغادرة سوريا والانخراط في بناء حياة لا تتأثر بالمُعترك الأخلاقي والعسكري والسياسي الحاصل في البلد من الناحية الأمنية، ولكنها كانت متذبذبة الموقف السياسي تبعاً لتغيّر موازين القوى على أرض الواقع، وهذا ما قدم لها  مكاسب وسمح لها بالحضور في  فرص عمل أو منح دراسية أو التواصل مع جهات التمويل، وبالتالي القدرة على بناء مشاريع ومؤسسات.

الثانية كانت لديها قدرة أكبر على العمل داخل سوريا والانتقال بين مختلف الفئات والهيئات والتكتلات السياسية، وقد اتخذت مبدأ المنفعة المادية أساساً لكلّ تحركاتها، واستطاعت أن تلعب على عدة أطراف في سبيل تحقيق أكبر قدر من المنفعة. شكلت هذه الشريحة كيانات سياسية أحياناً، وتكتلات عسكرية ومنظمات مجتمع مدني أحياناً أخرى، ووجِّهت أصابع الاتهام للكثير من تلك المنظمات أو الهيئات في التورط في أعمال استخباراتية أحياناً وفي أعمال تطبيع مع النظام.

كما شارك النظام وسهَّلَ شبكات فساد معقدة عملت مع أطراف الثورة، سواء عسكرياً أو مدنياً، ما ساهم في إفراغ الثورة من عمقها الحيوي، وهو ما بدأ بمعلومات عن ناشطين اعتُقلوا وتمت تصفيتهم وانتهى بقادة عسكريين عرفوا على سبيل المثال في الغوطة بـ«الضفادع»، أو قادة كانوا مع داعش أو مع الاخوان أو حتى قادة في الجيش الحر. وتحول الكثير منهم لاحقاً إلى مرتزقة يعملون تحت أجندات دول مجاورة، ويمكن ملاحظة ذلك في الشمال السوري حيث أن غالبية الكيانات العسكرية باتت تعمل كمرتزقة.

المشكلة المناطقية والاجتماعية

الانتماء للعائلة – العشيرة

وفضلاً عن تعدد هذه الدوافع، برزت في السنوات المبكرة من الثورة العديدُ من الإشكاليات الجذرية التي ترتبط بعمق تكوين المجتمع السوري، ومنها المشكلة المناطقية التي عكست سياسات النظام في مختلف مدن ومحافظات سوريا.

في حين كانت الثورة في درعا لا تُدار بالمبدأ الديني، فقد رفض أبناء المنطقة دخول أي مقاتلين أجانب وطرَدوا مقاتلي جبهة النصرة وخاضوا معارك طاحنة ضدها، إلا أنه بالمقابل عادت مع السنوات اللاحقة سيطرة القوة العائلية إلى الواجهة، في حين أن المشكلة  الإيديولوجية الدينية تفجّرت في الشمال السوري، كما شكلت حمص على سبيل المثال مسرحاً لمحاولات إثارة التوتر الطائفي الذي أجَّجه النظام بمختلف الطرق والوسائل.

عمل النظام على التعامل مع المناطق تبعاً للتوترات والحساسيات السائدة فيها، كما عمد إلى قطع التواصل بين مختلف المناطق لعزلها عن بعضها بعضاً، مما أدى إلى اختلاف النماذج الثورية في كل منطقة ومحافظة.

ربما كانت أهم وأعمق مواجهة خاضتها الثورة هي مواجهة السلطة العائلية (الأب – كبير العائلة أو وجهاء العائلة – وجهاء العشائر)، وهذه المواجهة ربما تحتاج مقالات كثيرة لمحاولة تفسيرها وشرحها. حاول النظام مراراً استخدام تلك السلطة في وأد الثورة منذ اللحظات الأولى، حيث حاول التفاوض مع وجهاء درعا ووجهاء العشائر الكبيرة في الشمال السوري، لكن فشلت السلطة العائلية في ثني الشباب عن الإصرار على الخروج في المظاهرات. تمت مواجهة تلك السلطة في مختلف المحافظات، مع الاختلاف في نسبة تلك المواجهة تبعاً لكل محافظة ولشكل السلطة العائلية العشائرية فيها.

عادت السلطة العائلية في جميع مستوياتها بعد استهداف النظام الشريحةَ الشابة، وقود الثورة كما أسلفت. سيطرت العائلات الكبيرة على جزء كبير من الحراك المسلح، وفي مناطق الشمال عادت السلطة العشائرية للواجهة وأصبح لها أجندات وأولويات مختلفة تماماً. وفي حين كان يُلاحظ هيمنة الفئة الشابة على قادة الحراك السلمي والمسلح، وخصوصاً الضباط المنشقون الذين خاضوا معارك التحرير في مختلف أنحاء سوريا في 2012، حين كان يمكن رصد مئات الانشقاقات لضباط برتبة ملازم أول أو نقيب. ومع استهداف تلك الفئة من خلال معارك طاحنة وتصفيات وخطف من مختلف الجهات، عادت سلطة المشايخ والحجاج، مثل زهران علوش في دوما وغيره. غيّرت تلك السيطرة من الطبيعة الجوهرية للثورة السورية.

كذلك شكلت محافظة السويداء معضلةً حقيقيةً في مسار الثورة، فالمحافظة تتمتع بموقع استراتيجي وكانت جزءاً من العمق اللوجستي لغوطة دمشق، وكذلك صلة الوصل مع محافظة درعا، وفي جميع الخطط العسكرية المبكرة لمحاولات السيطرة على مدينة دمشق كان هناك تعويل كبير على تلك البقعة الجغرافية الغنية من الناحية البشرية والموقع الحيوي. لكن على مستوى الطائفة اتُّخذَ قرارٌ سياسيٌ بعدم التدخل، إذ قامت مفاوضات بين شيوخ الطائفة والنظام. كثيرون من ثوار السويداء انخرطوا منذ اللحظة الأولى في الثورة، وكان العديد من أبنائها ينتمون الى ما أطلقتُ عليه شريحة «وقود الثورة»، لكن لم يكن لديهم قدرةٌ على التأثير في هذا القرار، لا بل تعرَّضَ كثيرون منهم للتشبيح من جانب المصرّين على النأي بالنفس. كان يمكن لموقف آخر من هذا العمق الاستراتيجي لدرعا والغوطة أن يرفع من احتمالات سقوط العاصمة على يد مقاتلي الثورة.

على أي حال، لا ترتبط هذه الإشكاليات والدوافع بمرحلة معينة، بل يمكن ملاحظتها في دول المنفى وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ومع كل احتجاج يتفجر في منطقة ما. وبالتالي لا يمكن أن نرى موقفاً واحداً وواضحاً تجاه ما يحدث، سواء في السويداء أو في أي منطقة أخرى. فما يحدث الآن ليس ببعيد عما حدث في 2011، ولا يغير من توصيفه سواء أطلقنا عليه ثورة كرامة أم ثورة جياع، لأن ما يمكن التمحيص فيه هو الدافع، والدوافع تتكشف مع مرور الوقت من خلال مراقبة ما يحدث ومساءلته، فالثوار ليسوا معصومين عن ارتكاب الأخطاء القاتلة التي كلفت وقد تكلف دماء كثيرة.

وما قد يبدو أننا بحاجة إليه هو عدم الوقوع في فخ الرومانسية التي وقعنا بها بدايةَ الثورة، عندما اعتقد الكثيرون، وأنا واحدٌ منهم، أنه يمكن إسقاط النظام خلال شهرين، وأن لا نعتقد بأي حال من الأحوال أن النظام يتصرف بطرق وسلوكيات غبية، إذ أثبتت التجربة أن الواقع عكس ذلك تماماً. النظام ليس فقط بشار الأسد ولا يتوقف عنده، وإنما هو تركيبة أشد تعقيداً وأكثر تجذراً وفهماً للمجتمع السوري، ولديه القدرة على التماهي والتحوُّل والتشكُّل تبعاً للظروف المختلفة التي يمرّ بها.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى