نقد ومقالات

درس لقمان واستنتاجات اغتياله.. نظرة سورية/ أدهم حنا

درس لقمان واستنتاجات اغتياله.. نظرة سورية كان السوريون ينظرون إلى لقمان سليم وهو يتحدث عنهم أيضاً، وجعلته السنوات الأخيرة ضمن دائرة الموت السوري

ليس من الجيد أن نقول إن اغتيالاً لشخصية ما هو خبر جيد، ولا حتى درساً ممتازاً، لكن شيئاً من هذا يطرحه اغتيال لقمان سليم علينا كسوريين. فالدرس المُستفاد يتعاظم، ليس من باب موته كشهيد لفكرة نجتمع معه عليها، كالنضال من أجل حقوق مواطنية حقيقية، وحياة حرة وكريمة ضمن مبادئ الديموقراطية وتداول السلطة والدولة المدنية. بل من حساسية مركّبه الشخصي وقوته وفكرة الثقافة/المثقف التي يحملها.

لم ينطوِ مشروع لقمان سليم على كونه صاحب دار نشر أو مركز للبحوث، كان عليه أن يحرص على توكيد مشروعه الأهم، أي توثيق جرائم الحرب اللبنانية ونتاج الدولة اللبنانية بعدها، وإعادة هيكلتها بوصفها فعلاً سياسياً في المتاح اللبناني، وفعلاً ثقافياً بفعل فكرة الخصوصية التي تُلهم ثقافة الطوائف والجماعات. أما لقمان، فقد أشار الى أفكار مشروعه بثقافة مضادة بوصفها تنطلق من ذكرى الحرب وحقيقتها، بالمعنى الذي لا يكون فيه لقمان مثقفاً تقنياً محدداً متخصصاً غير لازم لأحد. بل ينخرط في الاشتغال الثقافي بوصفه موقفاً ضد آليات الدولة ووسائل تواصلها العامة، دون أن يلبس لباس المثقف البائس –حسب سارتر- حينما يبدو تقنياً وباحثاً مقنناً وممتنعاً عن قول الرأي في السياسية والعمل اليومي.

ينتمي لقمان إلى فكرة الثقافة بوصفها معياراً للبشر، وليس للسياسة بوصفها تحيزاً وانغلاقاً ومراعاة. بالتالي يتعامل مع الحدث اللبناني الآني برمته بوصفه امتداداً لذاكرة شكلت الطوائف، وشكلت الدولة ذاتها. كل هذا من دون أن تطغى على لقمان مفتاحية الذاكرة بوصفها بحثاً عما مضى وفهماً له فقط، بل أن تبدو الذاكرة درساً تهذيبياً من أجل الثقافة. القتل، الموت، الحرب الأهلية، الهمجية الإسرائيلية، الصراعات التي مرت من دون عدالة، أو أي نظرية مختلفة عما أرادته سلطة الطوائف، أو طبيعة السلطة. كاستنتاج لما هو حاضر واستنتاج لمعيار البشر وأهمية حقوقهم ومعرفتهم. فعمل لقمان ذاته نقد للثقافة بالمعنى الذي يقبله المثقفون العاديون المرتهنون لسياسة الدولة، وأُطر ثقافة الجماعات.

يبدو لقمان علامة فارقة، لانتمائه لفكرة الثقافة والمثقف في التعريفات العديدة التي من الممكن اصطلاحها وفهمها، خصوصاً أن موته يطرح فكرة المثقف بطريقة قلما نراها في سوريا مع أحوال مثقفينا حالياً. فخلت سوريا مثلاً من أي مثقف مُهيمن في الداخل. كلمة المثقف الحديث ستأخذ بُعداً مختلفاً في سوريا منذ الأسد الأب. فلا مثقف في الداخل السوري، وحتى وإن وجدِ في أحايين كثيرة، فهو إما خارج من السجن، او انزوى عما يجعله في داخله أي السياسة أو العمل في حقوق الإنسان، أو خرج من البلاد، ومن تبقوا تجاوروا مع السلطة رغم كُرههم لها، وبعضهم عمل معها، ليس بأحزابها مثلاً، بل في المؤسسات الحديثة التي تصنعها. وبعيداً من رمي الاتهامات أو المقارنة بين الوضع السوري واللبناني حسب وظروف الحكم والعيش، إلا أن لُقمان المُغتال سياسياً وأخلاقياً، نجح في ملء ما عليه دور المثقف من دون أن يتجاور مع السلطة أو حتى يقبل بمؤسساتها، ولا حتى سلطة مكوناتها وحدود مناطقهم.

لم يكن لزاماً على المثقف السوري أن ينتمي إلى واقع الصراع بالمعنى الحرفي والدخول في مواجهة مع النظام، لكن الوجهة النظرية استحوذت على تفكير بعض المثقفين السوريين. سمة المثقف مالت إلى تبعية المناظرة والسجالات التي لا تمتد إلى الواقع الاجتماعي بأي طريقة أو افتعال. وكثيراً ما تم التخلي عن الخصوصية السورية في العلاقة مع الاستبداد بقضايا أكثر تجرداً، كالعلمانية والدين، الحرب الباردة، والقضية الفلسطينية، الإسلام والإرهاب.

هذا لا يعني أن درس لقمان سليم بوصفه مثقفاً وناشراً ومترجماً وناشطاً حقوقياً، يحقق ندرة بالمقارنة مع سوريا، بل يُشير إلى تجربة شديدة العمق والأخلاقية، في التضاد مع السلطة وقيمها ووسائلها، وإصرار سليم على الاتصال بمجتمعها التي تُهيمن عليه. بخلاف الكانتونات التي خُلقت في سوريا للساسة، أو الاختفاءات التي شكلها المثقف.

وقد يستغرب قارئ لمجمل الأسماء التي يُمكن ذكرها من كبار مثقفي سوريا، ممن عملوا في دور النشر الحكومية وصحفها، وكياناتها الثقافية. هذا لا يعني أيضاً أننا نُنكر أدواراً مهمة لعبوها، لكن مفارقة لقمان تبدو أكثر خصوصية وأهمية لدراستها ومقارنتها كتجربة مديدة. فلم ينخرط لقمان داخل مؤسسات الدولة العامة أو كيانات الجماعة الطائفية. ولم يتحوّل إلى مثقف منزوع من رأيه مثل التجارب السورية، والتي استهلكت مثقفيها في بداية الاستقلال، ثم التنظير للمرحلة الناصرية والتي لم تجعل لأي مثقف سوري أي قيمة، رغم عشرات الأسماء التي حاولت التقرب من عبد الناصر أو فهم تجربته أو الكتابة من أجلها، متناسين إذلالاها وما فيها من ديكتاتورية عمياء وشعبوية واضحة، منذ بداية وضع رجل أُمّي وبلا أخلاق كمسؤول عن بلادهم (عبد الكريم عامر)، وصولاً إلى “البعث” الذي شرع قتلاً واغتيالاً واعتقالاً لكل المثقفين. الأكثر وضوحاً بعد كل هذه التجربة وتجربة الثورة السورية مؤخراً، بقاء مثقفين صامتين على كُل ما يشمل حقوق الإنسان، حقوق المواطنين، تجربة الماضي، الموت ضمن آلة العسكر المفزعة… أو مثقفين خرجوا من البلاد يتقهقرون يوماً بعد يوم من أجل قضية سورية مفتقدة لكل عناصر الواقع. فلقد بات الجميع على وعي سياسي بأن خطوط النظام كُلها أكثر نضجاً في السياسة وفي الاعتراف السياسي الدولي. والمثقفون الذين مكثوا في الداخل، قد لا يملكون إطاراً عاماً لقول آرائهم، او حتى الانسياق نحو أي حالة رفض للنظام في الداخل، لكن هذا يعني أيضاً أن سوريا خالية من قول المعرفة والثقافة في داخلها، سوريا المتجانسة التي عنها تكلم الأسد تشمل المثقفين من دون شك وتشمل صمتهم. هذا ليس تنديداً بالمثقف بقدر ما هو وصف لواقع مكرر وراكد لا يُحركه أحد.

في العلاقة اللبنانية السورية تتقارب أطراف منتصرة لتسيطر على البلدين، في هذا كان السوريون ينظرون إلى لقمان سليم وهو يتحدث عنهم أيضاً، كان على السنوات الأخيرة أن تجعله ضمن دائرة الموت السوري. تلك الجرأة الهائلة افتقدها السوريون أيضاً، بموت أكثر رجالهم ثقافة، ميشيل كيلو، الكاريزما، والقدرة الصوتية والدرامية التي كانت تستحوذ على المشاهدين وتثير لدى السوريين سؤالاً فطرياً… متى يقتلون لقمان سليم؟ هذا التوقع للموت يعرفه السوريون أكثر من أخوتهم اللبنانيين، تحسس القتيل أو (علم نفس الضحية) كتضاد غير مفكك مع علم نفس القاتل. يبدو اغتيال لقمان درساً قاسياً للسوريين، لما قد يبدو عليه المثقف أيضاً. يُشير إدوارد سعيد دوماً إلى نقيض غرامشي لجوليان بندا، الذي لا يعترف بالمثقف “إلا بوصفه ملكاً أو فيلسوفاً، وموته شهيداً لفكرته جزء من حمايته لضمير البشرية”. في لقمان شيء من هذا النقيض للمثقف الذي قد نجده كثيراً الآن في سوريا، والذي يبدو فيه الموت جرأة زائفة أو غير مصلحية بالمطلق. لن يكون الموت مصلحة لفرد وهذا اعتقاد أحياناً. لكن نستطيع القول أنه، خلافاً لياسين حاج صالح وميشيل كيلو وبرهان غليون، والعشرات ممن نعرف أسماءهم كُلنا، كان هناك خلاء في الداخل السوري ندفع ثمنه كُلنا. كان الدرس أن البقاء في هذه البلاد موت حتمي للمثقف، وخروجه موت أيضاً. الفارق أن لقمان أثمر مشروعاً طويلاً لم يكتفِ فيه بأن يكون عاجياً في أفكاره، أو حتى قليل النشاط في ما يستطيع فعله.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى