نقد ومقالات

نزية خاطر بطريرك النقد التشكيلي/ بشير البكر

لا ناقد للفن التشكيلي العربي يضاهي نزيه خاطر، منذ الستينيات في القرن الماضي وحتى رحيله في نيسان العام 2014، وكان شاهداً على الحركة الفنية لأكثر من نصف قرن. غطى ما شهدته بيروت من معارض تشكيلية، وتابع تطورات التشكيل وعاصر رموزه الكبار في فترة أوج الحركة الثقافية التي سبقت الحرب الأهلية، ولم يتوقف عن الكتابة والمتابعة رغم التراجع الذي عاشته هذه المدينة بعد ذلك. وكانت البداية من تسلّمه إدارة أولى صالات العرض الفني في بيروت مثل “غاليري أليكو”، و”غاليري وان” (مع يوسف الخال)، كما كان أحد مؤسسي مسرح بيروت (مع ليندا سنّو). وأسّس خاطر، نهاية الخمسينات، أول صفحة ثقافية أسبوعية بالفرنسية في جريدة “لوسوار” البيروتية، ثم انتقل العام 1964 إلى زميلتها “لوريان لوجور” التي أطلقها جورج نقاش العام 1924، قبل أن يدعوه الشاعر الراحل أنسي الحاج إلى الكتابة في “النهار”.

ظل مقال نزيه خاطر في صحيفة “النهار” جديداً، ولم يعرف الضجر أو التعب والتكرار، بل كان يعبّر عن ناقد مهني رفيع لا نظير له في عالم النقد التشكيلي الذي كان مغرقاً في المحلية في البلدان العربية الأخرى، في حين أن خاطر كان عربياً وعالمياً بامتياز، هو الذي يحمل شهادة دكتوراه في فنون المسرح من جامعة “السوربون” عن أطروحته “المسرح اللبناني بين ثورتين 1958 ـ 1975”. وتابع تخصصه الفني في فرنسا في ميدان المتاحف، وعاد نهائياً إلى بيروت العام 1978 كي يتابع التدريس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (مدة 25 عاماً)، حيث كان ممن وضعوا حجر الأساس لإنشاء معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية.

صالات العرض كانت تحسب حساب نزيه خاطر قبل غيره من نقاد الفن التشكيلي، وتنتظر وصوله إلى المعرض، وتظل تترقب صدور مقاله في “النهار”. مقال لا يترك مجالاً للمساومة، بل هو قاطع مثل حد السيف، فإما أن يرفع الفنان أو يسقطه، ومن لم يكتب عنه يكون فاته تكريم هذا الناقد له. وكانت والدته تردد عليه دائماً: تنتظرك العداوات. ففي مقالاتك كنت ترفع موهبة فنية أو تحط من قدر فنان. جميعهم يخشاك، يراعيك، أخلاقك تمنعك من شن هجوم على الأشخاص الذين لا تحبهم فتتجاهلهم لئلا تؤذيهم، وكان ذلك كالعقاب أحيانًا، فليشتمنا لو شاء، لكن فليكتب عنّا. إذا ذكرني نزيه خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع”.

ترك نزيه مئات المقالات والدراسات في الفن التشكيلي والمسرح، لكنه لم يترك كتاباً واحداً، لم يجمع مقالاته التي تصلح لتكون مرجعاً وتاريخاً للحركة التشكيلية على مدى نصف قرن، ولا أظن أن جهة ما تبرعت بجمع نتاجه لنشره في كتاب مع أنه يستحق أكثر من ذلك، بوصفه أكثر الشهود والنقاد حضوراً في تاريخ بيروت التشكيلي، والكتاب الوحيد الذي صدر عنه على حد علمي هو كتاب النحاتة والباحثة والأكاديمية اللبنانية نادين أبو زكي “نزيه خاطر جمهورية الأعداء” الصادر عن “دار النهار” باللغة الفرنسية، وترجمة نهلة بيضون، ووضعت الكاتبة نزيه خاطر في مكانة الظاهرة: “نزيه ذاكرة من ذاكرة بيروت الثقافية، وعين ثاقبة، وشاهد على سنواتها الذهبية. إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن إلى جانب أسماء بارزة أخرى، على إمبراطورية النهار: الصحيفة اللبنانية الأولى. وفيٌّ، مستقيم، سخي، لا يساوم على أفكاره، ثابت على مبادئه، متصالح مع نفسه، فخور، عنيد حتى الصفاقة، خفيف الروح، كتوم، حلو المعشر، رقيق الجانب، غامض، خفي، متحفظ، قريب، بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة”.

ولم يكتف نزيه خاطر بمعارض وصالات بيروت، بل كان يسافر، كل صيف، ليقضي اجازته في باريس ليتابع الجديد في الفن التشكيلي العالمي، ولا يغفل في أسفاره التشكيليين العرب الذين استقروا في العاصمة الفرنسية، وكان يبحث عنهم ويتقصى أخبارهم وما أنتجوه، وكيف يفكرون. وحضرتُ معه زيارتين إلى الفنانين يوسف عبدلكي، صخر فرزات، وسمير سلامة. وكان يطلب من الفنان أن يضع أمامه ما أنتجه خلال عام، ثم يمضي وقتاً طويلاً في التأمل ويسأل أحياناً حين يشكل عليه الأمر. وأحياناً، لا تكفيه جلسة واحدة، فيكرر الزيارة كي يخرج بمقال جديد في “النهار”، وهو بذلك من أكثر النقاد متابعة للإنتاج التشكيلي في لبنان وسوريا، وأكثر من ورد ذكره على ألسنة الرسامين سلباً أو إيجاباً، هو الذي تعلم الأصول والقواعد خلال دراسته في “اللوفر”، لكنه بذل جهوداً جبارة ليدرس لوحده الحركة التشكيلية العربية ذات المصادر والمدارس والاتجاهات المتعددة والمتنوعة.

يمتاز مقال خاطر أنه بعيد من المتابعات النقدية السريعة التي تفرضها الصحافة اليومية، فهو يكتب المقالة كي تعيش وتقاوم الزمن، أي أنه كان يخرج بنص عن اللوحات التي يشاهدها، مكتوباً بلغة النقد التي اسست لصحافة ثقافية جديدة ومختلفة. وهنا نسجل لنزيه أنه يكاد يكون الوحيد ممن عملوا في الصحافة الثقافية ولم يكن متلبساً بموهبة أخرى كالشعر أو الرواية او الرسم، ما حصّنه ضد التنظير والانشائية والانحياز، وبالتالي كان الوحيد الذي أعطى النقد كل وقته، ومارسه بحب واحترام وصدق، ولذلك ترك مكانه فارغاً في الحركة النقدية التي فقدت برحيله أحد أبرز مؤسسيها الذين أرّخو لأكثر من نصف قرن كحرفيّ في الفن التشكيلي، بالإضافة إلى مجالات الفنون المشهديّة والبصريّة. أما كونه ناقداً تشكيلياً لا يتقن فن الرسم فيرى متخصصون، أنها كانت نقطة ضعفه. لقد كان ذكياً وملمّاً، لكنه لم يفلح في النهاية في التأشير بشكل واضح الى مظاهر التطور والتغيير في الحركة التشكيلية، فقد ظل نقده الى حد كبير استشراقياً.

وشارك بطريقة مباشرة في إقامة المعارض للفنانين اللبنانيين من ميشال بصبوص وجان خليفة وسعيد عقل، الى ايفيت أشقر وهنيبعل سروجي وريتا النخل وآخرين، وفي فترة من الفترات ساهم في العمل التلفزيوني، وأعد برنامج “ثقافة وناس” في “تلفزيون لبنان”، الذي كان محطة ثقافية أثرت في العمل الصحفي، حتى أن هناك من سطا على اسم البرنامج واستخدمه في صحيفة ورقية حتى اليوم.

كان خاطر من الكتّاب الذين يتنفسون مع الكتابة ويعيشون لأجلها، ومن طينة الصحافيين الذين ينقصهم شيء أساسي إذا توقفوا عنها، ولذلك دخل في حالة اكتئاب حين تم توقيفه عن الكتابة في “النهار” العام 2010، وتغير إيقاع حياته كلياً، وانقطع عن التواصل ولم يعد يمارس حتى العادات اليومية التي رافقته طويلاً. كان كثير الحضور في مقاهي شارع الحمرا القريبة من بيته. يلتقي أصدقاء وعابرين أو يكتب مقالة، وفجأة عزف عن ذلك وتوقف هذا النشاط الذي كان يمده بسعادة خاصة، فأصابه ذلك بالغم، وبدأت صحته تتدهور ليرحل بعد سنوات قليلة وهو ما زال في أوج العطاء رغم سنينه الـ84. ومن المراثي المؤثرة كانت جملة الشاعر شوقي أبو شقرا الذي عرفه في “النهار”: “نزيه لم يكن إلا الشرس في ميدانه، في ساح الكلمة. ولم يكن أيضاً إلا الحنون في بطانته في حاشيته وفي من حواليه”.

وتظل قصة نزيه مع مدينة بيروت ذات شجون “المدينة التي يصعب الحديث عن مدينة واحدة فيها”، والتي “تنمو بين خيانة ذاتها والإخلاص لذاتها”، والتي “أخذناها إلى حيث شعرنا أن الحلم في متناولنا”، بحسب تعبيره. وقال عنها في أحد حواراته الأخيرة أنّها “تستولد ذاتها ولا تتكرر”، ثم أضاف بنبرة مخلوطة بمرارة: “إنها البداية والنهاية، ونحن رحّالة”. هو يعني بيروت، لكنه يعني المدينة التي كانت تشكل له مفهوماً في الحداثة والتجديد، وهنا يكمن السر وراء تخصصه في دراسة المتاحف.

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أنه ابن الأديب والمؤرخ لحد خاطر، الذي امتلك مكتبة غنية وضخمة ساعدت في نشأة نزيه الناقد الشقي والمحنك. والشيء المهم أن نزيه كان أيضاً صاحب سلطة على المسرحيين لا تقل عن سلطته على التشكيليين، فقد مارس بشكل مواز، النقد المسرحي بجدارة في صفحات “النهار”، وكان تأثيره كبيراً في إنجاح أي عمل مسرحي. إنه مثقف متعدد الوجوه وقارئ للشعر والرواية ومتابع لكافة الفنون كالتصوير والعمارة والسينما وسواها. وساعده فوق ذلك اتقانه الكبير للغة الفرنسية. وكان مع عصام محفوظ، وشوقي ابو شقرا وأنسي الحاج، من الأعمدة الأساسية في “النهار” التي كانت بدورها عمود الصحافة اللبنانية، بل العربية.

المدن

————————-

نزيه خاطر: جمهورية الأعداء/ عالية ممدوح

كتاب النحاتة والباحثة والأكاديمية اللبنانية نادين أبو زكي «نزيه خاطر جمهورية الأعداء» الصادر عن دار النهار باللغة الفرنسية، وترجمة نهلة بيضون شديد النفاسة. كتاب عملتُ في صفحاته وسطوره خطوطًا وهوامش وتعليقات شتى. كتاب شغف بلذة الكتابة ذاتها وكتاب تتلمس فيه أملاح الصداقة، كما نقول: بيننا الخبز والملح والحبر، بين صديقين وشخصين وجيلين ومثقفين، لمدينة تدعى بيروت، كلنا، نحن اليتامى وبنات السبيل عشنا أو مررنا بها وتبجحنا بما لدينا من سرديات عنها، عن سرها المنيع، فتُمجَّد بما تستحق ويغادر من يغادر، ويبقى من يبقى وهو في حالة من الاحتضار والاستسلام لها، لا هي تبوح بما تملك، ولا نحن نعرف ماذا سنعمل بكل تلك الأسرار؟ بدأت بقراءة الكتاب في بيت الصديقة الناقدة الكبيرة يمنى العيد وأنا في ضيافتها، وبما أنني أدون على أي كتاب فكان لا بد من الذهاب إلى مكتبة أنطوان في شارع الحمراء واقتناء نسختي. «نزيه ذاكرة من ذاكرة بيروت الثقافية، وعين ثاقبة، وشاهد على سنواتها الذهبية. إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن إلى جانب أسماء بارزة أخرى، على إمبراطورية النهار: الصحيفة اللبنانية الأولى. وفيٌّ، مستقيم، سخي، لا يساوم على أفكاره، ثابت على مبادئه، متصالح مع نفسه، فخور، عنيد حتى الصفاقة، خفيف الروح، كتوم، حلو المعشر، رقيق الجانب، غامض، خفي، متحفظ، قريب، بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة».

نزيه-خاطر-بناء الكتاب أخاذ بين التوثـيـق عن ألسنة الأعداء-الأصحاب وبعض الأصدقاء، واللاتي مررن في دربه التياعًا وولعًا وهن كثيرات، وبين الراوي لسرد الحكايات على قدر التواد الشديد الذي كان يشع من سطور ومفردات الصفحات: «تعاهدنا على أن نواصل حضورك الموجود في كل واحدة منا. كان لا بد من أن نجمع أجزاءك. هبة الوفاء في جميع الظروف، السخاء بلا حدود». قامت الكاتبة بمسح شعاعي وروحي وأرشيفي على جميع ما كتب من أفكار ودراسات ومقالات في النقد التشكيلي والمسرحي والفني، عن رحلاته إلى عموم البلاد العربية. الكاتبة بدت لي كالبستاني الذي يحفر عميقًا ويدفع بالغرس فيلامس في لحظة حنان بعض الزنابق الهاربة من وجدان نزيه خاطر. في رأيي، هناك بعض البشر يستحق أعداءه، وهذا الأمر يثير الدهشة وأنا أقرأ عن تلك الحقبة التي كنت أعيش فيها ببيروت وألتقي بعضًا ممن ذكرتهم، وهو نزيه، التقيته في النهار خطفًا وأنا أزور الشاعر أنسي الحاج لإجراء حواري الأول معه: «عندما تكتبين، تشعرين أنك أكثر تعقيدًا مما كتبت. حياتي، لا أريد أن أقبض عليها، هكذا أنا، متقلب، لست حقيقيًّا، أخترع نفسي أحيانًا ولا أخشى أن أكون ذلك الشخص الساكن في ذهني. كل ما أفعله، أفعله لنفسي، وكل ما أكتبه، أكتبه لنفسي. لم أكتب في حياتي لأجل أحد».

٭٭٭

كان الرسام أو المسرحي والسينمائي الفلاني ينتظر مقالة خاطر: «استمتعت بكوني ناقدًا فنيًّا. فالأمر يتطلب كثيرًا من الوقاحة. لشدة ما أعشق ذلك الجانب الاستفزازي في شخصيتي لا أقوى على إخفائه، هذا جزء من طبعي، أن أكون محرضًا. لست شخصًا محايدًا. الكتابة تفضح المرء؛ لذلك لم أكذب قط في كتاباتي من دون الادّعاء بأنني دائما على حق». بعض الخصومات بينه وبين بعض الفنانين التشكيليين والشعراء تستغرق عقودًا، لكن احتضاره وهو في المستشفى أزال جميع الضغائن. دائمًا الموت يحمل الحل والمشكلة. بعضهم كان يسعد إذا مر الناقد على المعرض ولم يكتب عنه، فهذا أفضل من الهجوم الذي يهشمه. كان العالم العربي ضاجًّا بالمعارض والمسرحيات والمؤتمرات والندوات والسينما الجديدة، ما بين بغداد ودمشق وتونس والكويت والقاهرة، فكان يحمل توكيلًا ثقافيًّا لكي يغذي الذائقة والمزاج العربيين من القراء والفنانين والنخبة على حد سواء، فقد كانت ثقافته الفرنسية العميقة وبعد دراسته في باريس ولسنوات هي مراجعه العالمية التي كانت تحت تصرفه، يعرضها ويجمع عبرها الأدلة ويدع مقالاته كالحجة والمقترح، فيبدع في الاعتراض أو الثناء. كانت والدته تردد عليه دائما: تنتظرك العداوات. ففي مقالاتك كنت ترفع موهبة فنية أو تحط من قدر فنان. جميعهم يخشاك، يراعيك، أخلاقك تمنعك من شن هجوم على الأشخاص الذين لا تحبهم فتتجاهلهم لئلا تؤذيهم، وكان ذلك كالعقاب أحيانًا، فليشتمنا لو شاء، ولكن فليكتب عنّا. إذا ذكرني نزيه خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع».

٭٭٭

يلسع ويلدغ ويقرص هذا الناقد، شاغل الرسامين وملعون من عموم الفنانين. بيروت كانت حاضنة ثمينة لتلاطم واحتدام جميع الأفكار: الماركسية والقومية، وبجميع أحزابها وأيديولوجياتها. كلهم يترافق وينفصل بالمناهج والأدوات والتفسيرات والتأويلات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمرحلة من تاريخ المنطقة الذي كان يشهد ولو خارجيًّا على نوع من التماسك النسبي باتجاه المستقبل، بالرغم من أن بذور الحرب الأهلية كانت قد بدأت تتراص كما هي طبقات الجيولوجيا الرسوبية الرخوة، فتربة بيروت ترسّب المرئي الجميل واللامرئي الخطير الذي أحرق اليابس والأخضر. بعض الصداقات لا يتكرر في هذا الوقت، كما هناك كتابات، ربما تبدو كتابة صحيحة وجيدة لكنها محشوة بالعدوانية. سطور هذا الكتاب تقطر إخلاصًا وأريحية قلّ نظيرهما. تصورت حالي في أحد مسارح المدينة الأجمل وأنا أصغي لحوار نزيه، فبعد صداقة عمرها 45 سنة، وفي حركة واحدة من يد رئيس التحرير غسان تويني يتوقف كل شيء.. ينهار جهاز مناعته بعد أن استغني عنه من الجريدة. اليوم، علينا نحن، بعض الأصدقاء في بيروت، ضبط  قائمة بأسماء من تم الاستغناء عنهم من الكتاب، فهم  يستحقون كتابًا كهذا.

—————————

تبجيل الفحم واليد التي لا تنفعل/ نزيه خاطر

(كتاب يوسف عبدلكي)

(كتاب يوسف عبدلكي)ضخم على كثافة كتاب “عبدلكي” ومكثف بأناقة. وبمحتوياته يختزن ذاكرة محترف من خلال نماذج تختزل تحولات عين وقلق يد. كتاب يحكي من دون ثرثرة. كراهب متقشف او كدرويش معتزل في حال الرؤية. تكفيه كسرة خبز ليغرق في فضاء من ورق وبياض. او في سمكة او في صدفة، تفاحة، مسمار… الخ. اي انه بالقليل يرحل بعيداً وقد يشي قليله ببخل من عرف القلة ولم يشف. لذا هو يترك لغده المؤونة والحلم. وهو ككتاب، مضغوط على مفردات منتقاة بصرامة تلي عمليات الغاء عدة ابتغت ابقاء المميز في قول المعنى، والمشع في إلباسه رداء من ضوء.

وللبياض فخاحه. انه المكان، وقد يراوح طبيعته. وهو مؤهل في الوقت عينه لقنص حتى اصغر الاشارات التي تستدعيه، الى الاستعارات التي تخصّبه وتخصب هذه الاشارات في آن واحد. انه لون في الانتظار. ساكن في مساحته، الى ان تحط عليه نقطة توقظ فيه نبضاً. مستنفر على خشية، كأن قدره ان يخصَّب، فيما تراوده بين مد وجذر رغبات مجنونة تتلاطم ولا تكنّ. بياض يحلم بفقدان عذريته على يد مغامرة اقتحامية لماعة ومتوّجة بالنشوات. بياض يشرق بعد حجب. ولو انه حجب جزئي يطفو عليه التواطؤ مع دخيل اسود يأتي اليه بما يهبه المعنى والفضاء والمدى.

هذا يؤكده لنا كتاب “عبدلكي” الصادر عن “ايام غاليري” المتوطنة دمشق، من خلال سطوة الغشاءات السود على سطوح الاعمال الثمانين التي تضع له متناً صلباً ومضغوطاً بنيةً ومتراصا تشكيلا. وهو كتاب ذو حضور ذوقي وقامة ثقافية وطلة زخرفية تضعه باستحقاق مميز في واجهة المحتويات الثمينة للمكتبة العربية: يسد فراغاً نظرا الى معالجته تجربة فريدة في التشكيل العربي لفنان سوري، عميق على مقتصد، ومتقشف غير فقير، ولبق في تفتيش مادته رغم اعتزاله كل تعاطٍ بليغ مع “اغراض” تصادر لنفسها مكان وجودها، مساحةً وفضاء. يقتحم المعاجم شبه المهملة لأشكال وادوات ومواد وظّفت طويلاً، سوى في مجال المبادرات الاستثنائية في دور الكماليات التي عند الحاجة اليها تركّز المتن الرئيسي للنص التشكيلي. يقترح الحلول ولا يردعه ضيق المعنى وتشابه الطرح وحصر الوسيلة. ففي المخزون المهني ليوسف عبدلكي (من مواليد القامشلي، 1951) من الخبرات المتراكمة تحت جناحي التجريب والموهبة، ومن التخصيب المكثف للمشاعر والملامس، ومن القدرات المتحولة والمشحونة عند التفاصيل الصغيرة في باب الموضوع، الحميمة جهة الفنان، ما لا يشي دوما بحماوة هذا المخزون. لكنه وبمفردات تدل على اليد التي شكلته، يبصم السطح وحياكته، “الغرض” ومنطق ترسيمه، والفضاء وتحريره للعين ما دامت تساكنه.

لكلٍّ من “الغرض” والسطح والفضاء اثر مخصّب في قراءة الصورة العبدلكية، كما في الكتاب، قراءة تستشف روافدها من ثقافة الصورة لدى المتصفح، في زمن تعيش الصورة سلسلة من عمليات التحول والخطف والمصادرة، تثري حضورها وتوسّع اطر دورها. كمن يقول في هذه القراءة انها محاصرة بجدل يستمد تلاوينه من وضع المعرفة في بدايات القرن الحادي والعشرين. نقطة الانطلاق العين الطبيعية: تنظر، ترى، تفهم، وتستخلص، وفي كتاب يوسف عبدلكي مادة متقبلة لـ”قراءة فرجوية” تتلذذ بالخبريات الناطقة التي ترسمها كما هي في الحياة للاشياء العادية التي نادرا ما يتوقف عندها مصورو هذه الايام. ينتبه لحظتها هذا القارئ الى الملامح الأكثر من واقعية لأغراض او اوان او فاكهة او حصاد بحري، فتدهشه براعات اليد والشطارات التقنية وقدرات الرسام السوري المهاجر الى باريس في جعل الصورة اكثر طبيعية من الاصل: “أنطق” قال لتمثاله النحات الايطالي النهضوي.

انها بداية، وجلي مما في اعمال الكتاب ان قراءة كهذه وإن كانت الأكثر انتشاراً في عالمنا العربي، ليست هي المحرك الفعلي لتفاعلات من الطينة التي تُعجَن فيها الهواجس العبدلكية. كأن لتراكم تجربة عبدلكي، كما لميله الى الاحتكاك الحي المستمر بالموجات الفكرية الاقوى تحريضاً لفنان من عالمنا، صداهما الحيويين في عملية بناء الاسئلة المعنية في نظره بالمواجهة مع العصر والصدامات الوحشية لانسانه الجديد. الى كون الرسوم تخلو من المفاتيح الى قراءات معمقة لكل منها. فهو يصف، يقص، يدل، ولا يذهب الى ابعد. كمن يكتفي تاركاً للزائر طلاقة العين والاذن وحرية التأويل. ذلك ان سرّ محتويات الكتاب هنا، اي في طاقة متصفحه على مقاربة رسومه من زوايا عدة، وبعيون عدة، اذا جاز القول. اي من زاوية ان مخزون الصورة يتجاوز المظاهر الى البواطن، فالمنظر يرتاح مطمئناً داخل المساحة التي تؤمن له كل الشروط للتوازن الطبيعي. فالسمكة في صحن على طاولة. او مسمّرة. أو داخل علبة على طاولة. والجمجمة مربوطة، أو تتربع بكل تفاصيلها العظمية فوق سطح يتمدد طولا ولا ينتهي… ومجموعة من الاواني من كل وظيفة وكل شكل، تفترش سطح طاولة كأنها في انتظار خدمة ما. وليس على المشاهد سوى اخذ العلم او التنبه الى ان لصاحب هذه الرسوم مراداً اكثر تطلبا، ومن ثم عليه ان يحاول معرفة فحوى هذا المراد.

ثمة علامات اليفة لمن يتذوق، هوايةً او احترافا، التجاربَ اللافتة لبعض الرسامين، تومئ بذكاء مهني مضبوط علنا ضمن الضوابط الاكاديمية في اعمال يوسف عبدلكي الى وجود دوافع خفية وراء هذا التأكيد الوقح على الملامح الأكثر من واقعية لعناصر الفضاء والسطوح والأشياء. من هذه العلامات الاهتمام المبالغ فيه اولا بالغلاف الفضائي الذي يهب محتويات الرسمة الاطار الفيزيائي الذي يؤكد حقيقة تموضعها في مكان ثلاثي البعد. والتشدد ثانياً، في ابراز الطبيعة المجسّمة والتي تكاد تلامسها عين المشاهد، لسطوعٍ في دور همزة الوصل بين فضاء هوائي والاشياء التي تبدو هي المدار الرئيسي لمبتغى يوسف عبدلكي. لكأن هواجس الرسام كيفما اختار المتلقي تصفح رسومه، تصب في ما يجوز تصويره، بتتويج تشكيلي لاشكال اعتبرت طويلا من التفاصيل المضافة للخدمة عند الحاجة اليها فقط. ولا يتم الحدث التشكيلي سوى لحظة تلاحم هذه العناصر الثلاثة في نص يجد كماله في اختراقه لمعجم لا من باب نقضه انما من طريق الغوص في مقوماته الموروثة، محترفا من محترف، الى حيث التقليدي والهامشي والمحجب يتربع ملكا كالاصل الاصيل بعدما كان الفرع وملحقاته.

في اللحظة التي يلتئم فيها هذا التلاحم بين عناصر الرسمة، يقع الحدث التشكيلي. لكأن الفنان يكتسب شرعيته من طاقته على الذهاب بالموروث الى ابعد. اما المحور والركيزة فهما “الغرض” المضاف، حتى ولو كان مسماراً. للاضافة هنا معنى من يأتي ليتصدّر الورقة البيضاء بعد تأهيل المكان. بدءاً من شكل هذه الورقة، وفي اختياره تحضير فيزيائي للارضية المتخيلة سلفاً لحدث تشكيلي قيد الانجاز. يلفت اعتناء عبدلكي بالملامح الهندسية لمساحة تشي مسبقاً ومن بعيد بالشيء (وصفاته) المرشح للتفاعل الخصب مع مقاييس سطحها. يخطّط واعياً لما سيلي مبادرته الاولى هذه، حيث ان لعملية الرسم عنده الطابع الممنهج المنطقي البارد، فلا حركة خارج السيطرة، والنماذج عديدة في الكتاب، لكل اشارة دور مخصّب لمحتويات رسمة تحت التصرّف، ويد الفنان، لخبرات جلية تصف مداخلاتها، هي القرار والتنفيذ. أما التعميم والتفاصيل المستهلكة فممنوعان، ذلك ان الهاجس الكمالي المتحكم في سلوك الرسام يمنعه حتى من الارتجال لطبيعة مزاولته التصوير بمادة الفحم المتحولة واللعوبة والمعرّضة مع كل انفعال لليد.

يشعر زائر الكتاب بثقل هذه العلاقة المختمرة بالخبرات والمعرّضة دوماً للاشتعال السريع بضغط من موهبة فوق الشبهات. علاقة باردة بمعنى منطقية، وحارة لرعشات حميمة تلامس الزائر هنا وهناك، رغم انها نادراً ما تبوح بسرّها ليس لقمع يمحو ملامسها الفحمية، أو لسطوة تقنية تقلّل من انفلات اليد، أو ليس لرغبة طارئة تدفع بالفحمة الى هذيان وإن عابراً، انما لرغبة عند يوسف عبدلكي في قول ما يريد بالشكل الذي يريد وضمن الغلاف التشكيلي الذي يريد. لا عجب بعد ذلك من تزيّن كتابه بأعمال من كل شكل وحجم تنتمي جميعها الى تبجيل الفحم وتمليك الغرض مهما كان معناه ورتبته وثراء جلده وملامح بنيته. فالهاجش التشكيلي لعبدلكي ذو مبررات اكثر تعقيداً لتعدّد ركائزه وتنوع طموحاته وكثافة مكان تبلوره بعد مسيرة طويلة صعبة تتوازن ضمنها عقلانية التصوّر ومنهجية التصميم ومهنية التنفيذ. تؤكد طابع المسيرة هذه، التجارب المركزة دوماً على الرسم كاداة للتنفيذ، الرسم كوسيلة للقص، للوصف، لبناء الحكاية، وعلى الكاريكاتور كاداة لابراز تفصيل من كل، بعد نفخه الى اكثر مما تحمله طبيعته. الاداتان تتكاملان في رسوم الكتاب وإن كان يوسف عبدلكي يوظفهما على نحو ثالث يخترق به الارث المتراكم، مدة عصور ومواهب، للرسمة التي تهتم بكل عنصر مفيد في مجتمع يتصفح جمعاً وتفصيلاً الاصول والنوافل.

****

شيء لدى يوسف عبدلكي يذكّر، تصوراً وتنفيذاً مع أخذ العلم بالفروق بين الازمنة والثقافات والتقنيات، بتجربة الرسام الفرنسي جان باتيست ساردان (1699 – 1779) في محاكاة الاغراض الهامشية في اللوحة الملوكية، يوم ابتكر في اواسط القرن الثامن عشر الاهتمام الكلي المحصور بالاشكال المعروفة يومئذ بالميتة، والتي اصبح يدل عليها بعدئذ بالاشكال الصامتة (انجز رسومه بالباستيل على ورق)، اشكال تجذب اليها اليوم وإن بدوافع تحت تأويل يوسف عبدلكي في صوغ مسمكته، حذائه، ثماره، مسماره، اوانيه… الخ… بالفحم على ورق.

كتاب ذكي ومبني تحت عناوين الذوق والاناقة والثقافة، فيه المعلومة المفيدة والشاهد المقنع والنموذج المضيء لمراحل عاشها الفنان خلال مسيرة عقلانية تحت السيطرة وثراء في العطاء نما متماسكاً وتشكّل صلباً مشعاً وتطوّر مضبوطاً بيد خبيرة مجرّبة وتحت اشراف عين ترى ولا تسامح.

أي أنه كتاب في محل معرض وضمان لذاكرة من فحم وورق كأنها لم تكتف بتجسيد الاشكال العادية لكنها ترفعها الى واجهة الحياة بفضل قلم مخترق مضيء يهب الاشياء عرق الايام.

****

لكتاب “عبدلكي” مدخلان لكأنهما من صناعة يد محتشمة، اول يغوص في “الرجل” تحت غشاء من الاسئلة وغرق مرغوب فيه في ظلالها، وثانٍ لا يقبل يقيناً او يمتطي منطقاً مبوبا، لكنه ورغبة منه في تفعيل ما هو ساكن وتخصيب قراءة ما يبدو صامتا، يقترب من المحتويات، من الرسوم بالفحم على ورق، كمن يتلمس فضاء ولا يخشى التأويل، يتوطن سطوحاً ويتلذذ في استيضاح مقاييسها، “يُفَلفِش” الأشياء المثبتة في مواقع مختارة بصرامة ويتصرف كمن لا يرى غيرها وهي في نظره الخبر التشكيلي والحدث الابداعي.

عنون خالد سماوي مالك “ايام غاليري” مدخله بـ”صلابة الاسم او دقة الساعات” (ص 9)، وقد يجوز اختصاره بجملة وردت في نهاية المقطع الثالث جاء فيها: “احب تلك المقدرة في تحويل مادتين، الورق والفحم، الى تلك الحديقة الشاسعة من الالوان، وما عمل الفن التشكيلي برمته غير هذا، غير تحويل الاشياء العادية الى اشياء لا تموت”.

المدخل الثاني، نص اميل منعم، هو الاصل والمدخل الفعلي الى محتويات كتاب “عبدلكي”. يشي عنوانه “الاشياء تحت سحر الدلالة” بالهاجس الرئيسي لنص يستمد من قلقه الثقافي الاسئلة ومفاعيلها والأطروحات وتخاصبها والاستنتاجات ومحطاتها. والمثير في نص ينبض بالافكار، ليكاد يجاور الانفلاش الذكي الى كل جهات الجدل الذي يخاصم ولا يعادي لكنه يفتح لأسئلته مجال النمو، وإن يكن الوصول غير مضمون. “الاشياء تحت سحر الدلالة” نص يبتغي محاورة آخر، كمن يفكك بدناً من ورق وفحم لينتحر فيه وراء ولادة بديلة. ذو عين تهوى المساءلة، وكلما بنت محطة ارتمت على الاستفهامات شبه المستحيلة. كأن للذكاء اطلالات تتضاعف حجما مع حصولها على ما يفيد ولا يردم فضولا.

قريب من نص يوسف عبدلكي كلام اميل منعم: يصفه، يزيّنه، يلتف عليه، يغازله، يجادله، يمدحه هنا ليعامله ببرودة هناك ولا يعلن رفضا، لكنه، وهنا نقطة التواطؤ بين النصين، يتبادلان التخاصب الفكري من دون شرط سوى حفاظ كل منهما على التخاطب الحميم من دون مهادنة او تفخيخ، ومن باب تبادل التقدير. جريء في فكره، واقتحامي اذا بادر، ومنطقي اذا واجه، وعقلاني في الجدال اميل منعم. لذا يبدو في افكاره ومنطقه الثقافي من طينة شبه مشابهة للملامح العبدلكية المجدولة على الارادة الصلبة والمنطق الموضوعي والسرد العقلاني والنص المركز على يقينات كأنها مخلخلة بضغط من المشاعر الانسانية لفنان عاش السياسة كفعل ثقافي.

مثير للقارئ نص اميل منعم، لنبرة ملونة بعصرنة محتشمة بين ما بعد الحداثة والحداثة المفخخة بالشك الذي ينحو دوماً الى يقين مشروط. لبقٌ منعم في طرح الاسئلة وتوظيف هذا الطرح في خدمة يقين تحت المناقشة. ولا يمنع قلمه من تركيز جهده على ركوب الاعمال بغية الوصول الى خلاصات تمتدح الفنان، وعبدلكي جدير بالمديح.

فجمله الاخيرة تختصر سلوكه الجذاب واللماع. يقول: واذ يهدي (اي يوسف عبدلكي) هذا العمل الى جيل السبعينات، فانما يقدم نفسه ايقونة تذكارية يهديها الى ابناء جيله كله.

اما يوسف عبدلكي فيتوج كتابه باهداءاته “الى كوليزار”، “قوّادة المحل العمومي في القامشلي في منتصف سنوات القرن الماضي”.

النهار

—————————

شفيق عبود في كتاب بالكلمة والصورة/ نزيه خاطر

(هذا اللبناني الريفي الغنائي التجريدي قد يكون الأفضل في مدرسة باريس الجديدة)

شفيق عبود في كتاب بالكلمة والصورة يأتي الكتاب عن شفيق عبود الذي صدر أخيرا (منشورات CLEA (أي بعد مرور أكثر من عامين على وفاته في نيسان 2004، وليد رغبة صريحة لدى ناشريه في بناء بورتريه مختزل جدا، وفي آن واحد، قريب ومحبّ وعليم. فقد تمّ تنفيذه بضربات سريعة لقلم مليء بالنيات الحسنة، يكتفي من الشيء بقطاف الملامح العريضة ذات الفائدة المستعجلة، مع إيحائه بتلك العلامات المضيئة التي وهبت الفنان وحياته بعضاً من قامة فريدة ومشعة، ومن حضور رافق مسيرته التي لفّت عالمين، الغرب الأوروبي والشرق العربي، ومدينتين، باريس يوم كانت العاصمة العالمية للفنون، وبيروت في دور المختبر الطليعي للضمير العربي الحديث. حضور لم يكتف في أن يكون، وأن يضيء، بل اخترق العاصمة الفرنسية الى مدن أوروبية رأت إليه انه من بين أفضل فناني “مدرسة باريس الجديدة”، وتوسل بالعاصمة اللبنانية ليشع في مدن عربية تبنّته كإحدى الركائز الثابتة لثقافتها التشكيلية الحديثة.

ينتمي الكتاب الى رفّ المؤلفات الفنية التي تبتغي الإحاطة الأنيقة من جهة، والرصينة الموثّقة من جهة أخرى، بفنّان اطلّ في الأزمنة الصعبة، أي مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، وفي باريس المدينة المتطلبة التي كانت لتبدو خارج المتناول بالنسبة الى شابٍ آت من بيروت، وفي الحقل الثقافي المستحيل تقريبا على لبناني طموح يحلم بغزو فني لموقع محصن، وهو ابن الأرض البور. يتزيا الكتاب عن الفنان عبود، اللبناني المولد (المحيدثة، قضاء المتن الشمالي، في 22 تشرين الثاني 1926) والفرنسي بالتجنس (في 25 نيسان 1969)، بالتعامل في وضوح كلي ومقتصد في آن واحد، مع المعلومات المفيدة والضرورية، التي تفتح النوافذ على ما يلزم من الأحداث التي تذكي بالتفاصيل المجدية هذا الوجه لعبود أو تلك الهواجس التي حكمت نموّ لوحته. ويتلبس الكتاب الشكل الجذاب للعين أولا، ويقوم على توازن مرغوب فيه بين موضوعية المحتوى المنحاز الى إعطاء الصدارة للصورة، والتصميم اللبق للإخراج الذي، على ما يبدو من تقليب بطيء لعناصره، يعطي الاهتمام الأول لإيصال مادته الى قارئ يريد ان يتآلف براحة مع فنان، سطحه هنيء وعمقه متطلب على اكتناز.

طابع الكتاب أنيق على بساطة. مليء بالمعلومات على ذكاء في التبويب. ذو حضور بصري مع تحريض زائره على الاقتراب من محتواه التشكيلي بعينه القارئة المتمعّنة. وجليّ ان الكتاب قليل الكلام النقدي، لكنه في الوقت عينه يفي بوظيفة التعريف بالفنان لدقة ما يشي به عنه، بفضل اختيار الناشرين لأبحاث نقدية مقتناة بلباقة ثقافية مضبوطة، من خلال النصوص الأربعة المصقولة في نص واحد من أربعة مقاطع للناقد الفرنسي روجيه فان غنديرتال. وهو المدخل الصلب الى لغة الفنان شفيق عبود، والغوص المتين في مفردات معجمه التشكيلي، في أدق مراحل ولادة لوحة لـ”محارب” شاب، في أيام البدايات الجريئة في وسط الخمسينات من القرن الماضي (ص 11). فيه أيضا، كنص لناقد باريسي رافق عبود طوال سنوات، التصاق حميم وعليم ومثقف بامتياز، وحيث كانت تُصنع الفنون الغربية في ذاك الزمن، بين تجربة تشكيلية لفنان في غربة مرغوب فيها وعين قارئة ترى وتتابع وتعترف بما تراه، وتسجل للفنان صعوده بين أفضل الباريسيين الجدد (في 1955)، واكتناز لوحته بلغة تختزل التصوير في زمن تدهور التشكيل (في 1961). كأنها تفرح حين يعلن عبود بعد شكّ عميق في مستقبل اللوحة، “بأن التصوير لا يزال ممكنا” (في 1977).

أقلام أخرى تضيف رؤية أصحابها النقدية الى نصوص فان غنديرتال، ملوِّنةً الجزء المكتوب باللغة الفرنسية بالمقاربات الثقافية ذات النسيج المتعدد والثري، وخصوصاً تحليلها لركائز فن يرفض اختصاره بقراءة أحادية النكهة، لما يتفاعل في بواطن قشرته اللونية من تفاصيل قائمة على لبس عاطفي وتفجّر مشاعري وفوران لوني، لتبتكر مجتمعة ما كان عبود يدل عليه ببشرة اللوحة وكأنها البديل من بشرة الفنان. يصف اللبناني جوزف طراب الفنان عبود بـ”الجسد الوثني المتناغم بحرية مطلقة مع الفضاء الكوني من دون أدنى اثر للتصوف، للأسرار، للنزاعات، للدراما، للمشاكل” (ص 15). مقال آخر لصلاح ستيتية يتحايل فيه بلغة شفافة، كالضوء النقي في لوحة عبود، وراء الايحاء بكل ما تحمله هذه اللوحة من براعات مهنية في ابتكار نص كأنه من جسد وهواء وضوء (ص 13). وأخيراً مقال للفرنسي جان بيار بورغارت الذي، الى محاولته مساءلة لوحة عبود عمّا اختزنته على مدى نصف قرن، يقدم آراء للفنان في تجربة ابتكار نص يلتحم وحياته من دون الابتعاد للحظة عن مرافقته النقدية لتجربة يصفها تكراراً بأنها مليئة بالشوق النهم الى التصوير، ولا يجد متعته سوى بتوالده من ذاته (ص 17(.

يبقى الكتاب معنياً أولاً وفي جزئه الرئيسي، بالمصوّر شفيق عبود، لكنه يفتح في بعض صفحاته النوافذ على فنون زارها عبود بفضولٍ يرى الى معاجم تقنية عدة تأتي كالصدى لعمل تشكيلي يعلم جيداً ماذا يريد. ضمن هذا الإطار، ومن خلال صداقته مع الروائي جيرار خوري، مرّ بفنون الخزف والحفر والجدرانيات، منجزاً الأعمال الخصبة المحمّلة إشارات كثيفة لرهبة تبدو كيفما اقتربت منها أنها تتفلّت من حصارها بكلام نقدي يلزمه دوماً التعامل مع تحولات ذوقية ومهنية وفنية تحت الاتهام. رغم ذلك، قد يجد بعض قراء هذا الكتاب مادة غير متداولة بين جمهور المتذوقين، لكونها الى اليوم ضمن مجموعات ضيقة، أي في متناول العدد القليل من الناس، والكتاب يضعها للمرة الاولى في المتناول، مع كمّ من الملذات الحميمة التي تبدو كأنها ملتصقة دوماً بالأعمال المشغولة بطراوة حسّ ورجفة عين من فنان لم يرغب يوماً في تجاوز تواضعه الشديد الحياء. وقد يأتي تصفح هذا الجزء من الكتاب بمعرفة تفصيلية بشخصية عبود الأخرى، تلك التي أمضى الفنان حياته بالتستر حولها، كمن يحفظ اصدق مشاعره لنفسه وللقريبين جداً من قلبه.

غير ان لكتاب عبود وجهاً أكثر علنية، وخصوصاً بالنسبة الى ذواقة لبنانيين رافقوه طوال سنوات، من خلال لوحات تركت صداها البصري في ذاكرة حفظت ألوانها من دون أن تبتعد عن غَرْف الإشعاع من عالمٍ زاول القصّ من دون قصة ولوّن القصص من دون قصّ. اللوحة المطبوعة بالألوان تصنع للكتاب محتواه الثري فترفعه من مرتبة المطبوعة الأنيقة عن فنان مغامر على بطء، وعقلاني تحت الوهج، وفضائي على حفافي الكون، وتجريدي في أطر الغنائية، وسردي كمن يغرق بكل جسده في بحر التلاوين المضيئة. لكأنها لوحة تفلتت بكل تجريدها من كمّ يصعب حصره من تيارات تجريدية قالت أكثر مما تراه العين، ووشت بالألوان كأنها الوسيلة الرئيسية لمن يركّب بعينه الألوان، للارتحال المضيء على بساط من أضواء. من هذه الزاوية يطل الكتاب محمّلاً مادة تثقله أكثر مما تنعشه، لكأنها زادت على المفيد وتجاوزت الحد المعقول لولادة الملذات البصرية، بل كأنها لوفرة حمولتها تقع في تخمة لونية خانقة.

ولكن يلفت في الكتاب انحياز كامل الى الوجه الباريسي لفنان عاش وأعطى وحاور ضمن ركيزتين تتعادل بينهما الفرنسية واللبنانية: أما اللغة الفرنسية فهي المرجع الوحيد لمعدّيه ومصمميه، مما جعل المحتوى محصورا بأقلام قليلة، بعيداً عن تلك التي رافقت تجربة الفنان في مدن أخرى وبلغات وثقافات مختلفة. الى جانب ذلك، يُلاحَظ انتماء معظم مواد الكتاب، كي لا نقول جميعها، الى مرحلة سابقة لوفاته، بينما كنا لنتوقّع أن يتضمن في اقله دراسة إستعادية تضيء على الملامح الأصلية لتجربة اخترقت بجرأة بلغت حد الصدام مع الوضع التشكيلي الرائج في هذه العشرية الباريسية أو تلك العشرية العربية، ولم تتنازل عن تطوير معنى للتصوير يستمد خصوبته من الفعل التصويري الصافي.

كتاب ذو صلة مغرية من حيث أناقة غلافه الخارجي من كرتون، تزينه لوحة تقول عبود ولا تقفل الرغبة في معرفة أعمق. كتاب ثمين، ذكي، عملي، وصالح لدور المحاولة الاولى للإحاطة بفنان قد يحتاج الى مجلد ثان لمقاربة تتجاوز بدايات الكلام الى النصوص التي تغوص في فنان اختزل بتجربة نصف قرن وأكثر زمناً يقال فيه انه عاش موت اللوحة ثم ولادتها من جديد، وإن بأشكال ومواد وأدوات تحت الاختبار.

النهار

الاثنين 8 كانون الثاني 2007

——————————-

لا يخدعنّكم العنوان: المفاجآت أغنى بكثير/ نزيه خاطر

(“الريشة تحيي القلم” في متحف سرسق)

لا يخدعنّكم معرض “الريشة تحيي القلم” الذي تنظمه المؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية في متحف نقولا سرسق في الاشرفية، فهو أوسع من مجرد معرض لـ”اثنين وأربعين فنانا لإحياء الكتاب”، كما يوحيه العنوان، وابعد في محتوياته من التعريف بكتاب ومكتبة كانا ليختزنا ذاكرة وإنسانا لو لم تمزقهما حروب أكلت الناس قبل الورق. وهو صاحب إطلالة على المدينة تتجاوز النجاح المعتاد للأحداث الفنية الموسمية والعابرة، في متحف كان أهدى جمهوره المعرضَين حول جورج شحاده وجبران خليل جبران. ذلك انه يضيف الى كل تلك المعوقات مجتمعة، التفاعل الخصب ضمن الحدث الواحد، للفاعليات الرسمية مع الخاصة، واللبنانية مع العربية والأجنبية، والثقافية مع الصالونية، والحرفية اليدوية مع الأدبية والفنية. يضيف المدينة الى المدينة، ليبني للمستقبلين القريب والبعيد ذاكرة في خامة الإنقاذ المعجل، تماما كما البلد الذي تمثّل برموزه المعنية بالحدث، في ليلة أول من أمس، موعد افتتاحه بدعوة من وزارة الثقافة ومتحف نقولا سرسق والمؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية.

مسمارية 2، بسام جعيتانييغطي معرض “الريشة تحيي القلم” الطبقتين الاولى والثانية لمتحف يعيش هو ايضا منذ أكثر من أربعة أعوام، انتظار البدء بتأهيل عمارته المصنفة “تراثية” لتلبي متطلبات فنون العصر، وحاجة العاصمة الى صرح ثقافي يحضن الوجه المتحرك لمجتمع يرفض الاستسلام للرمال المتحركة التي تجذبه الى انحطاط اعنف. خصص جان مارك بونفيس، الطبقة الاولى للتعريف بالمكتبة الوطنية، موقعاً وعمارةً جديدة بعد التأجيل ومخزوناً تاريخياً، من الوثائق النادرة الى الكتب المخطوطة كما المطبوعة، الى شريط يحكي بالعناوين الكبرى قصة مكتبة ولدت من مبادرة الفيكونت فيليب دو طرازي، وازدهرت نسبيا ما بين عام تأسيسها في 1921 وأواسط السبعينات، وتعطلت في أزمنة حروبنا الصغيرة وغوغائياتنا الكبيرة، وعرفت حياة عصرية مع تبنّي رفيق الحريري عملية إحيائها مجددا والتفاف عدد عريض من مريدي المشروع حول الإحاطة العملية أولا، بترميم المخزون المتبقي من الكنوز القليل عددها والكبير محتواها والتي هي قيد الفرز العلمي حاليا، كما حول تحديث المفهوم العام ثانيا، الدور الذي ينبغي لمكتبة وطنية ان تؤديه لملء فضاء مدينة تريد الولوج الخصب والفاعل الى عالم يواجه تحديات عولمة، وهو على علم بأن هناك على بعد ساعة طيران مكتبة الإسكندرية، وبأن العصر يعيش تحوّل العالم قرية صغيرة.

يرافق زائر هذه الطبقة الاولى، شعور بين العجب بضغط من المفاجآت، والإعجاب بما يراه من ثراء في النماذج التي تم انتقاؤها لتأكيد أهمية المخزون التاريخي للمكتبة الوطنية. شيء غير متوقع يستوقفه في زاوية من المكان: منظر أفراد من فريق المرممين ينجز أمام متابعين لعملهم إصلاح مطبوعات عرفت تلفاً، والمكان شريط الفيديو الوثائقي الذي يقدّم الشروح المفيدة حول إعادة الحياة الى المكتبة الوطنية التي ستتوطن نهائيا بحسب آخر الأخبار، المبنى المصنف اثريا لمدرسة الصنائع التاريخية والمعروفة حاليا بمعهد الحقوق التابع للجامعة اللبنانية. وإذ نشير الى ذلك فلأن في هذا الجزء من المعرض، المعنى الذي يفسر أسباب إقامة معرض تشكيلي، في الطبقة الثانية، في إشراف نادين بكداش من “غاليري جانين ربيز”، يضم اثنين وأربعين رساما لبنانيا يتمثل فيه كل منهم بعمل فني او أكثر، وذلك حتى تاريخ الجمعة 31 آذار 2006. معرض للبيع قرب متذوقين يرغبون في اقتناء أعمال يحبونها، ويساهمون في الوقت عينه من خلال تلذذهم بامتلاك قطعة يريدونها في إطلاق مشروع وطني يعيد الى لبنان جزءا من ذاكرته، والى بيروت جزءا من دورها اللبناني والعربي.

دفتر سفر 2، شفيق عبود.ميزة الطبقة الثانية، الأناقة التي تجذب اليها من يقف عند عتبتها متأملا بانورامياً المنظر التشكيلي الذي يطل عليه: فهناك صلابة في المعلقات على جدران القاعة الكبيرة والموزعة داخل أقفاص زجاجية في فضاءاتها، تترك راحة في العين، وشعوراً بأن المستوى العام للمحتويات ارفع قيمة تخيلية وأكثر جرأة في التنفيذ مما كان قبل شهرين هنا، في “معرض الخريف لعام 05”. يتأكد هذا الانطباع بعد جولة أولى يتبقى بعدها في ذاكرة الزائر عمل هنا واسم هناك، ومنها “خشبيات” (04) لعفاف زريق، المتنامية كخطوط تبحث عن معنى، و”رأس غاليله” (04) لتانباك (تانيا بكاليان) التي تبني رأس إنسانها من ورق وخشب في حال قصوى من الالتصاق، و”كتاب التحول، كتاب الديانة” (الجمع جائز) لهانيبال سروجي، على نحو متدليات (04) من ثلاثة أجزاء تتفاعل طيرانا مع جدار يكاد يندمج بها في رعشة تدعو العين الى نزهة في أجواء المخطوطات المشلعة، و”في البدء كانت الكلمة” (04) للزميلة لور غريب، ضمن غابة كثيفة من الكتابات المرمزة والحكايات البصرية الطقسية، كأنها صفحة من كتاب الأزمنة الرحالة، و”مذكرات سفر رقم 2″ (1992) لشفيق عبود في صفحة من وريقاته الحميمة التي كان يوظف فيها كل ذكرياته المشرقية لفنان لبناني في باريس، ولذا ربما دور النص الفرنسي، في لوحة تشي بالحنين الى الهناك الذي لم يعرف يوما كيف الإفلات منه.

غاليله، تانيا بكاليان.جولة ثانية تلفت الى أعمال لم يتنبه لها الزائر، وكان يلزم لذلك تنقيب أكثر اعتناء بالمحتوى التشكيلي العام، وإنما أكثر تأملا في ملامح بعض النصوص التشكيلية التي تحتاج الى وقفة أطول للتفاعل مع سرها. منها على سبيل المثال عمل “الوليمة” (بيروت 1994 – باريس 04) شعر انسي الحاج، للمفكرة والشاعرة والرسامة ايتل عدنان، والذي يطل عابرا من صفحات مختارة من كتاب على نحو الاكورديون، تزينها ضربات لونية بالكاد هنا تلتقي عفويا وببراءة مفخخة بمقاطع شعرية للكبير الرائد انسي الحاج. او “الكتابات المسمارية” (04) لبسام جعيتاني، او “وردة المتاهة” لفيصل سلطان (05) في صفحتين من 27 تطل كدعوة الى الذوبان بصريا في قصائد لها سلطان تحت العنوان نفسه، او “شجر الكلام” لجميل ملاعب (1984) التي تعيد ابتكار الشكل والمعنى لشجرة المعرفة الأثرية، مما يضعنا في مواجهة عنيفة مع “كتاب الذكرى الأخيرة” (02) لحليم مهدي الكريم الذي يروي في صفحاته المهترئة بقايا ذاكرة أكلتها الأيام قبل أن يأكلها غبار الزمن. يستوقف ايضاً هنا، رغم السهولة في التأليف، عمل رفيق مجذوب: “يوم وراء يوم، يوم وراء يوم، يوم وراء يوم…” (04) الذي يتهم ببساطته المباشرة عالما أضاع ملذات العيش فلم يبق لمن هم في عمر الفنان الشاب سوى الضجر.

في خلاصة الكلام، رغم ثراء حدث لا يختصر بسطور، هو معرض للزيارة غير الزيارات، إذ فيه من المحتوى ما يصعب الإحاطة به عبورا، فكيفما جاء الاقتراب منه، كتعريف تقني بمكتبة وطنية تحت التأهيل العلمي المحتفي، او كمعرض تشكيلي نموذجي يضم مادة جديرة بمصالحة الذواقة مع فنون غابت أخيراً عن واجهة المدينة، يبقى انه يصنع الحدث الثقافي والفني في مدينة تنشط على كل مستوياتها في سبيل استرجاع دورها.

النهار

السبت 18 شباط 2006

————————

رافع الناصري رفع الفن العراقي إلى مستوى عربي وعالمي/ نزيه خاطر

رافع الناصريلا ريب في أن رافع الناصري من الأسماء التي دلت في مرحلة الستينيات على ظهور ملامح تنشط في سبيل فن عربي حديث. نحن في الستينيات كنا مجموعة عراقية لبنانية سورية تحلم في بناء فن يتجاوز الصياغات المحلية كفن لبناني وسوري وعراقي… الخ. ولم يكن دوره ثانوياً بل كان من العناوين التي ينادي عليها لإعطاء صفة لهذه المحاولة في بناء لوحة تكون عربية بالمطلق، لا لبنانية او سورية، أي عربية بالمفرق.

نصّه متين ومتماسك، منير ولا يخلو من المزج اللاواعي لعلامات عربية وغربية، وفي ذلك ينتمي رافع الناصري إلى رعيل حلم في بناء فن عربي معاصر يتجاوز المكان الضيق ليدل بحرفية متطورة على وجود علامات ولادة لوحة عربية تتجاوز المكان الضيق والزمان المتفلت.

رافع الناصري عنوان بليغ للوحة كأنها تمتص الماضي لبناء لوحة تكون عربية بالمعنى المتين أي الذي يتجاوز المكان الذي صنعت فيه والزمان الثقافي الذي يشارك في بناء ملامحها.

لذلك يصعب على من يقف أمام إحدى لوحاته أن يربطها بزمان ومكان، وإنما في الوقت عينه هي تؤكد عراقيتها من خلال بعض الألوان التي كان يقع عليها الزائر بحذر، لكون فنه أعم تأثيراً من ان يكون لبنانياً أو سورياً أو حتى عراقياً.

ذلك أنه فنان منفتح على تأثيرات ململمة من مصادر عربية وغربية من دون ولاء لأي منها دون غيرها.

لوحته كأنها مزيج من ثقافات عربية كانت تدل على هذه المدينة أو تلك. انه فنان يمكن نعته «بالعربي» لما لديه من ميل إلى بدائية حرفية تتوسل الشطارة والبراعة من دون التخلي عن ارتباطها بهوية الفنان.

انه فنان لبق، طري، بارع في قول ما يريد من دون التخلي عن مواصفات تضعه خارج الفولكلورية المحلية. إنما لا تمنع عنه صفات اللوحة العراقية كما كانت متداولة في الستينيات، زمن كان يتردد فيه على بيروت التي كانت تحلم بأن تكون عاصمة الفنون التشكيلية العربية يومئذ.

إنه مجرد رسم في سلسلة ثرية من مواهب صنعت وأسست في آن للوحة عراقية عربية وغير بعيدة كثيراً عن الرموز الرائجة يومئذ لفن عربي يتجاوز البلدية والفولكلورية والاستسلام الكامل للغرب.

رافع الناصريعندما كنت طالباً بمعهد الفنون الجميلة في بغداد منتصف سبعينييات القرن الماضي.. ومن خلال دراستي فن الحفر والطباعة على يد أستاذي الفنان رافع الناصري، كنت قد أعجبت به كإنسان وفنان وأب يحمل بداخله وخارجه كل صفات النبل والأناقة والإبداع الفني الذي كان محط أنظار تلامذته ومحبي فنة.

إنه «الامير رافع الناصري»، هكذا أطلق عليه المهندس المعماري حسين علي حربة اسماً يليق بمبدعنا أمير الأناقة والفن الراقي، فوجد صدى كبيراً في الأوساط الثقافية العراقية والعربية.

ويبقى الأمير حاضراً.. من خلال إنجازاته الجمالية في الرسم والحفر المعلقة على جدران ذاكرتنا التي هي امتداد للحضارات الأولى في «سومر» و«أكد» و«أشور». ويبقى محفوراً كأي أيقونة على بوابة المتحف الوطني العراقي.

ترك لنا غيمة وإشارات وأرقام مساجين وبقايا أجساد وأفقاً يحمل تلك الرموز كحجاب عشق لحبيبته بغداد. لن يتوقف غزله لبغداد.. إنها رحلة عاشق. بعد ان أنهى سنوات دراسته الثانوية الأولية عام ١٩٥٩، في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتتلمذ على يد الرائدين جواد سليم وفائق حسن، لينهل منهما أبجديات الخط واللون والشكل، اختار الناصري طريقا آخر ليكمل مشوار دراسته الفنية في بكين وليس في أوروبا… وكان هذا الاختيار صعباً، سواء أكان اختياراً نابعاً عن وعي مسبق أم محض رغبة في الاختلاف.

وقتها سئل الناصري ما سبب هذا الدافع فأجاب: إن هذا الاختيار كان نتيجة مشاهدته لمعرض الفن الصيني الذي أقيم على قاعة معهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٥٩، وقد اثار إعجابي ودهشتي وحبي للفن الصيني الذي لامس مشاعري، وبعدها قررت ان اختار الصين نافذتي ومدرستي التي سأتعلم فيها وأطل من خلالها على أسرار تلك الحضارة العريقة.

بعد التخرج عاد الى بغداد واستمر في التعليم بمعهد الفنون الجميلة وأسس قسماً للحفر والطباعة، وجد نفسه أمام فرصة جديدة ليذهب الى البرتغال، ويكمل دراسة هناك لمدة سنتين من ١٩٦٧ حتى ١٩٦٩، كانتا حاسمتين بالنسبة إليه في تغيير مسيرته الفنية تغييراً جذرياً. هناك اقترب من المشهد الكبير الذي منحه الاتصال بصرياً وروحياً بأوروبا، فوجد له أسلوباً جديداً وطريقاً ما زال ينير دروب طلابه وعشاق فنه.

وتألق الناصري باختصاصه (الحفر والطباعة)، وأنتج فناً مميزاً كان قريباً من نبض الإنسان، لأنة استلهم من تاريخنا وعذاباتنا رموزاً منحها حياة معاصرة ولغة تجريدية غنائية.

وفي بدايات تجربتي كنت قد وقفت كثيراً عند نتاجه البصري الذي أبهرني في طريقة تنفيذه وإخراجه لأعماله الأكثر أناقة وترفاً ونقاءً، وحتى طريقة حفره للكلائش التي كان يحفرها كنت أُذهل بدقتها ولمعانها… حقاً كان الناصري رمزاً للأناقة والجمال.

وكنت أزوره بين الحين والآخر في محترفة، لأتعرف على أسرار الحفر والطباعة الخاصة بعوالمه السحرية، فكان قلبه مفتوحاً لكل طلابة… ولم يبخل بما يحمله من أسرار وتقنيات في ذلك الاختصاص.

حلمت كثيراً بأن امتلك تلك الأسرار وذلك المحترف، وبالفعل أسست محترفاً خاصاً بي، وكان متابعاً ومباركاً لكل خطوة قمت بها… رغم بعده عن بغداد آنذاك كان يرسل إلي تبريكاته وفرحته بهذا الإنجاز الشخصي، وقتها كنت أنفذ مجموعة كبيرة للفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك.

لا بد من أن أعلن محبتي وولائي لهذا الفنان الكبير، الأمير رافع الناصري.

هكذا هو الناصري أمير الحب والجمال والفن التشكيلي… الرحمة كل الرحمة لك أستاذي ووالدي.

——————————

(بورتريه بقلمه)/ نزيه خاطر

ينظر وينظر كمن لا يرى، أو كمن يمحو ما قطفته عينه مما يكون لملمه بكل حواسه ومن ثم بكل طاقات جسده وإطلالات روحه من المنظر أمامه وحوله ومما فيه. كمن يغض طرفا، محتارا ومحتالاً في آن واحد، وراء حصاد يبتغيه كثيفا، بما فيه من شحن للحجر والشجر والحيوان والبشر، لكأنهم جميعاً من وجود واحد يختزله هو، جميل ملاعب، بهذا الهدوء المرتعش الذي يميّز روحه والذي صداه في معظم أعماله.

كتاب وزّع من ايام عن “منشورات دار الفنون الجميلة” في بيروت، وله طابع “البورتريه”، من حيث التعريف بالإنسان جميل ملاعب، بقلمه في نص مكتوب، مع إعطاء الحضور القوي لأعمال منتقاة من تجربة تجاوزت الثلاثين عاما، تحفر عميقا في إبراز الملامح المتحولة لفنان تحت الخصب. هو كتاب مغر بخفر، ومشاغب من وراء حجاب، وتحريضي كمن بدون دراية منه. صُمّم وبُوِّب ليكون في متناول كل متصفح، من دون مفاضلة بين متذوق عن معرفة في الفن ومتفرج بريء وفضولي ومحب للكتب، شرط ان تحتوي على صور جذابة.

للكتاب عنوان يشي بمحتواه، “جميل ملاعب”، ويُقرأ باللغتين العربية والانكليزية، وينحو في مضمونه إلى التلون بانتمائه إلى المنشورات عن الفن اللبناني باللغات الأجنبية. ويتزيّا أنيقا وطريا للعين ومتواطئا، بكل معطيات الغواية في التغليف ونقاء التصوير الفوتوغرافي والدقة في إخلاص العمل المطبوع للأصل والتشكّل البارع في توزيع المادة الفنية على الصفحات. حتى انه يلبس، في مظهره الأخير، الوجه الثمين لكتاب معني بإعطاء صورة مختزنة بالمشاعر والبراعات الفنية، عن رجل جدّ واقتحم، بين تفجر وانطفاء، وغامر من دون قبول لواقع او تبعية لمحرمات.

تؤلف هذه العناصر، متجاورةً ومتعاضدة، الإطار البصري السلس بنعومة والحاضر بهدوء والقابل هنا وهناك على خرمشة المتفرج التقليدي، إلى كونها عناصر ذات طينة زخرفية، اذا كانت تتلقاها عين زائرة عابرة، وهي عين قد تنقلب إلى دور ذي هواجس ثقافية متطلبة اذا رغب المشاهد في الرحيل عموديا في مضمون كتاب يختزل فناناً يترك دمغته في مدينة تعمل على استعادة قامة ثقافية تحت الإرهاب، أي إلى كونها عناصر خصبة، وفي حيوية مبتكرة، وعلى مشارف التحولات الدائمة بين شقّ طرق في بقاع بور والنفاد المضيء إلى البراري الكونية التي تبني لنفسها ولزائريها الآفاق الفوارة.

فيه، ككتاب من مئة واثنتين وسبعين صفحة، كمّ وتنوع ونوعية، مما يوقظ اقتناعاً عند متصفحه برصانة المحتوى، ولا يترك مجالا للمغادرة من دون اقتناص نظرة، ولو خطفاً، إلى بعض من النماذج المئة والثلاثة والخمسين التي تدين بانتقائها للناقد سيزار نمور، وهو في الوقت عينه ناشر هذا الكتاب في دارة النشر خاصته. ويتم ذلك الاقتناص براحة بصرية خام وبريئة، رغم شعور يقترفه لبسٌ مربك في الطابع المشرّع على التحول من دون حدود لتجربة فنان صلب البنية ونافذ العين وبارع اليد ونهم الروح ومتحرك العقل، لكأنه ملتصق في بيئته ومرتحل في لوحته كمسافر يعشق اختراق المجهول.

تصفحته مرارا وبلذة لم تعرف خفوتاً، كما لو أني أجول في معرض استعادي يضم أعمالا جُمعت بذكاء حاد، ركيزته معرفة عميقة بمسيرة جميل ملاعب، وقُدّمت بذوق لبق وعملي، على صلة حية بالإخراج وبتجاور الصفحات ولعبة توازنات اللون والحجم، ووُزّعت على اثني عشر باباً، لتقدم أفضل صورة عن سعة تجربة فنان يعمل كمن في الوظيفة. وكان ان النتيجة جاءت مسكونة بالرعشة الفنية ذاتها التي يعرفها جيدا أصدقاء لوحة جميل ملاعب، إن هي توسلت مادة الباستيل او الغواش او الاكريليك او الزيت، إلى مواد من محترفات تقليدية غارقة في الزمن كمادة الموزاييك مثلا، والفنان مولع في التواجه معها.

تحت رداء من الإغراءات الإخراجية، يقدم الكتاب صورة صارمة ومتينة ومتماسكة ومضبوطة فنيا وإنسانيا لوجه جميل ملاعب. وهو رداء، كالمدخل إلى الغوص في النص التشكيلي لفنان نجح في بناء تجربة ثابتة في ركائزها ومتحولة في تقمصها لكتابات جمعتها اللغة وفرّقت بينها التفاصيل. وبنى لوحته على يقينين، وضوح الخط وشفافية اللون، ولم يتجاهل في الوقت عينه الطابع الحسي للحجم الذي كان يعيده دوما إلى الغوص حتى آخر عينه في الكثافة السردية لحجمٍ صاغه ماديا في الحجر والخشب وكتبه روائيا في اللون، بدءا من رتبته الخام كزيح اسود يجرح بياضاً.

للكتاب، لمن يهوى قراءة العمل الفني قراءة متحفية، معنى المعجم اللغوي الذي يحوي المفاتيح الرئيسية إلى نص جميل ملاعب التشكيلي المتناغم في إيقاعاته، رغم التنوّع العريض في مواده وأدواته. يصب في هذا المنحى، الطابع الانتقائي لأعمال ذات طينة نموذجية تسهّل للراغب وللمتمكن في آن واحد، الغوص البصري الذكي في مفردات تتخاصب لبناء بورتريه للمدعو جميل ملاعب. كمن يغمض عينيه ليرى إلى أبعد من عينيه. أو كمن ينظر في بئر، ليقطف بيد مكهربة الحواس، انعكاسات وجوه كالمناظر والحكايات ومشاهد تختزل حجراً وبشراً وذاكرة كأنها من عمر الأرض.

تأتي مقدمة الكتاب باللغتين العربية والانكليزية، وعنوانها “مسيرتي الفنية”، لتضيء على نحو غير مألوف لدى الفنانين التشكيليين اللبنانيين كما العرب، الصلات التفاعلية لفنان يقظ، مع الغلاف الثقافي للزمن الذي ينمو فيه. ومعه، ومن خلال مرويات كالاعتراف الحميم، بالمراجع التي خصبت تجربته فمسيرته الجدية إلى حيث شكّل لنفسه ذاك السلوك المختمر الذي يرسم اليوم الملامح المبتكرة التي تكفي رؤيتها في هذا المنظر أو تلك الوجوه، لنتعرّف إلى كونها بريشة جميل ملاعب.

كتاب للاقتناء لما يمثله من مصدر لملذات صغيرة وحميمة وقريبة من الحواس، تدغدغ ولا تدّعي، وتثير من دون ضجة او صخب، وتستطيع الخرمشة وترك علاماتها على الجلد كرعشات تتنزه حرة على تجاعيد مخيلة تصبو إلى الإفلات. هنا وهناك، تطل أعمال فتباغت بعد ان تلمع بكل حضورها كلحظة انفجار ضوء في العين. متين ومجذّر ومغامر وذو موهبة، من ارض وصخر وقمة جبل وضوء يتلون بصخب البراري مع كل فجر يشرق بتواضع على ابن قرية بيصور في جرد قضاء عاليه، حيث ولد ذات يوم في 1948 ليحيا ثابتاً في أرضه ومتحولاً في عالمه ومسافراً كمخترق للآفاق كلما حمل قلما او طبشورة او لونا، او كلما حفر حجراً.

والى اليوم كمن لم ترتو عينه وتتعب يده.

وكمن أمام بياض الورقة يقف على هاوية تناديه لمغامرة جديدة.

النهار- 24 تشرين الثاني 2006

————————–

نزيه خاطر: جمهورية الأعداء – كتاب لنادين أبو زكي

—————————–

مع نزيه خاطر: الشعر معادلة جسدية

* شربل داغر لماذا تكتب الشعر؟

– لأنتظم في عالم أشعر أنّه يفلت منّي كلّما حاولت السكن في مداه.

* يعني أنّك تبحث عن الاطمئنان؟

– لا، عندئذ تصبح الكتابة عملاً متقاعداً بينما أكتب لأعطي مجالي العبثي صورة على شاكلتي.

* كيف؟

– أبني مساحة العيش على صورة مساحات وتصوّرات، قصيدتي رحيل جسدي على البياض لا ينتهي. كما البحر، كما البيدر.

* سأسأل مجدّداً: كيف؟

– من يكتب قصّة أو رواية قد لا يحتاج إلى حالة جسدية معيّنة. فيما تسبق كتابة الشعر وترافقها حالات جسدية هي المعادلة الحيّة لإيقاعات القصيدة. ماذا إذا قلت لك قماش قصيدتي عصب جسدي؟ كما أعرف الطرب عند النهاية ومع استرخاء آخر العبارات. فالجسد في القصيدة نبر صوتي قد يتّخذ شكل التهدّجات إلى أن يسلس أو يتقطّع في إيقاع خاص.

* ألذلك علاقة بطرق شربل داغر في كتابة قصيدته؟

– كنت في مرحلة سابقة أتهدّج بالقصيدة، أو الأحرى بأسطرها، بحيث يتوالى تأليفها مراراً وتكراراً إلى أن أنقلها إلى ورقة بيضاء.

إلاّ أنّني منذ سنوات صرت أفضّل استحضار القصيدة فوق الورق مباشرة. الورقة البيضاء تصير مساحة مساحات، لقياسات، أبعاداً أصداء، تصير خشبة مسرحية فوقها أخيلة وأشباح سوداء وأصوات مختلطة. أختار في غالب الأحيان ورقاً خشناً للكتابة. بحيث تواجه يدي صعوبة فلا تنزلق مستسلمة بدون ارتعاشات جسدية. وأختار أقلام ذات ألوان واضحة بارزة بحيث اتحقّق دوماً من أنّ الألفاظ تحفر مجالها وبنائها المعماري الخاص.

* أهناك فضاء خاص بشربل داغر؟

– تجربتي قصيرة ومتقلّبة ولا تساعدني على الجواب. ولكن أهناك كتابة مهما كانت لا تخطّ بذاتها وفي ذاتها فضاءها الخاص؟

* ألهذا أطلقت على مجموعتك الشعرية الأولى عنوان “فتات البياض”؟

– لا أرى في قصائدي سوى ذاتي مجرّحة بزجاج الأوهام المتكسّرة، ومفتوحة على الاسئلة بعد أن أصابتها الحكمة مبكرة. أنا جيل هرم ضجرت وقرفت ويئست من المعاني والموضوعات والقضايا “الكبرى” بحيث جعلت من اللغة حلبة الحوار الوحيدة مع العالم الخارجي، أي عزلة واختناق وفتات بياض.

* تتكلّم على شربل داغر الشاعر ولكنّك تقول في إهداء “فتات البياض”: “إلى شربل: حتى لا يصير شاعراً…”

– لأنّني أخاف من الشعر فهو لا يقوم إلاّ بالتورّط.

* أيّ ورطة أنزلك “فتات البياض”؟

– ورطة اللغة. اللغة هي موضوعة نصّ “فتات البياض”، حيث يواجه الشاعر محن الكتابة، ويقفل النصّ على لا جدوى الكتابة، أو مأزقيتها. هل اللغة توصل نبر الجسد؟ أهي تبثّ ارتعاشاته؟ أم أنّها توضبها وتضبطها وتنظّمها بحيث تفتقد بعضاً من شحنتها الأصلية؟ أي هوس، أي غواية تجعلنا نتورّط في كتابة الشعر؟

* ألهذا نحلم بصمت أرثور رامبو؟

– اللغة موضوع التساؤل، بحروفها وباعتباطية إشاراتها، وبقدر ما تؤدّي إلى لا جدوى المحاولة الكتابية، إلى عبثيتها، إلى مجانيتها، وإلى العيش في دائرة المحير. أضع غالبية نصوص “فتات البياض” تحت دائرة السؤال، السؤال التشاؤمي، حتى أنّ عدداً من هذه النصوص ينتهي بأسئلة. نصوص بدون حكمة مغلقة، بدون نهايات احتفالية –انتصارية، بدون موضوع شعري مكتمل ومستنفد. أي انّها نصوص تعاكس المعنى الذي يتطوّر، يتصاعد، وينتهي. نصوص السؤال الوجودي المحيّر، التي تشي بانحدار الكلمات والتعابير صوب قرار الصمت.

* ألدى مؤلّف “فتات البياض” ما يشبه المشروع الشعري؟

– أهناك كتابة بدون مشروع يرافقها أو يساندها؟ غير أنّني أفضّل الكلام على طموحي الشكلي في هذا الكتاب. كثيرون من الشعراء، منذ السبعينات تحديداً، قالوا بضرورة إمحاء الحدود الفاصلة للأنواع الأدبية المختلفة، من دون أن يحقّق ذلك أحد منهم.

* إذن… فطموحاتك الوصول إلى أدب بدون…

– … إنّ حالات الكتابة متخالفة متقلّبة متناقضة بحيث يأتي أيّ تعبير عنها وفي نوع أدبي واحد ناقصاً أو قامعاً لتشكلاتها الممكنة. أطمح إلى “كتابة متعدّدة” يحضر النصّ فيها كمساحة للتأليف، للتأليف بين مراجع متعدّدة ومتراكبة من تاريخية وذاتية وشعرية في نسق كتابي متحوّل أبداً. هكذا تستفيد نصوص “فتات البياض” من أساليب عدّة تحضر فيها، منها: اللقطة، الحكاية، الحوار… وأنا لا أقصد تنويع الكتابة أو تفتيتها، فالكتابة تأتيني في تقلّبات وهزّات تستلزم صعوداً أو نزولاً، خفوتاً أو صراخاً، محاورة أو نشيّداً، التقاطاً أو تفجيراً. وبذلك ندخل مساحات الضمير المنتمي إلى عصر ليس أبداً كبقية العصور.

* أهو شكل ممكنن؟ أهناك صدى للآلة في صياغات “فتاتك”؟

– أفي الإمكان أن لا نقرّ بـ”عالمية” هذا العالم؟ بأنّنا مأسورون ومتعالقون فيه؟ بأنّ إيقاعات الجاز تتمدّد في أداء الدبكة؟ وبأنّ المزارع في بيئتنا يتفاعل بالضرورة مع التقنيات الجديدة أكثر ممّا تتفاعل القصيدة المعاصرة معها؟ فشكل النصوص التي أكتبها “ممكنن” في معنى أنّه يعايش إيقاعات العصر. هو شكل “مشغول” أيضاً في معنى أنّه يخضع قبل أن يستقرّ في صورة نهائية لعمليات عدّة. وشكل “متعدّد”، انتقالاته سريعة ومداخله عديدة، ما يؤدّي بنا إلى مناقشة مسألة الإيقاع في النصّ.

* أين الإيقاع في “فتات البياض”؟

– نصوصه تنتسب إلى أنماط إيقاعية مختلفة، بعضها غائب وبعضها موجود. حين يحضر الإيقاع يتّخذ مبدأ التكرار أو الترداد عبر استعادة مطالع الجمل أو مداراتها. كما يتّخذ الإيقاع أحياناً أخرى سمة البحث أو التأليف بين متشابهات صوتية معنوية. إلاّ أنّ الإيقاع يبقى غائباً عن مواقع أخرى من “فتات البياض”.

* أين يدور الشعر عندئذٍ؟ أتظنّ أنّ هناك معنى أساسياً للإيقاع في حضور الشعر؟

– لا وجود للإيقاع في عديد من قصائد النثر العربي، ولا للداخلي منه، وليس في ذلك أيّ حرج. فالبعض من منظري الإيقاع الداخلي ما زالوا مصابين بعقدة الوزن، بعقدة الرهبة، أمام ما يتلقّونه حول ضرورة وجود التلازم بين الوزن والشعر، فيغطّون كلّ قصائد النثر العربي بغطاء الإيقاع الداخلي.

* أحب الحصول على جواب أكثر ارتباطاً بتجربتك الشخصية.

– الإيقاع غناء الكلام وتعبه أيضاً. هكذا الإيقاع في نصوصي. فأنا لا أطيق الغناء الأوبرالي، وأفضّل تأتأة الصوت، تلعثمه، ارتباكه، خربشته أو طنينه فوق مدار الأذن على أن يظلّ متتالياً وخالصاً ورتيباً واصطناعياً.

* ماذا عن العين الشعرية؟

– طربها بصري، ولذا علاقتها بالشعر مبنية على قماشة القصيدة، على صياغة جسم القصيدة تشكيلياً، على انتماء الشاعر إلى مساحة ورقته، كأنّ انتماء الشاعر هو يحدّد انتماء القارئ، بل لماذا لا نقبل بأنّ الشاعر يبتدع قارئه مع تصوّر تكاوين كتابته؟

* فأيّ مساحة مساحة قصيدتك؟

– انتقال الشعر من البلاطات والساحات العامة إلى الغرف المغلقة وطاولات القراءة رافقه الانتقال من نمط إنتاجي إلى نمط إنتاجي آخر. فلنقل إنّه انتقل من الحرفي واليدوي والزراعي والتجاري المغلق والمكتفي إلى الصناعي والاستهلاكي والموحّد للعالم كلّه. ورافق هذا التحوّل انتباه الشاعر لـ “بصرية” القصيدة، أي توزّعها فوق مساحة ما. صار الشاعر يكتشف عملياً جمالية تشكيل القصيدة طباعياً حتى أنّه وقع لغياب الوعي النظري والبصري أسير الزخرفية والتزويقية مذكراً بألاعيب شعراء الانحطاط.

* أيكفي استعمال المساحة “حديثاً” لكي تكون القصيدة حديثة؟

– بعض الشعراء الحديثين يتحدّثون عن وحدة الآداب والفنون دون أن يقرأوا لوحة حديثة واحدة، دون أن يواكبوا مسيرة فنوننا التشكيلية. وحين يكتبون قصائدهم لا يفكّرون مطلقاً في مسألة أنّها لن تصدر إلاّ فوق ورق المطابع وبالحبر الصناعي. يكتبون كأنّهم يخطبون أو يرتجلون وبعقلية النمط الحرفي. وهم يتعاملون كذلك مع المساحة البيضاء، أي من زاوية كون المساحة البيضاء باتت لازمة مثلما كانت لازمة في الشعر العمودي. فالبياض الطباعي الذي كأنّه الذاكرة البصرية للبياض الكتابي الحرفي هو السمة الخارجية لغالبية شعرنا الحديث. أضف حضور الفنون البصرية بيننا وتاثيرها المباشر في ثقافتنا. حضارتنا ما عادت قولية بل كتابية ولم تبق استبطاناً تأملياً للعالم بل رؤية بصرية له.

* تهمّنا معرفة معنى المساحة البيضاء في “فتات البياض”.

– التشكيل عندي توليد الحساسية الضوئية في الشعر. أنا شاعر “رؤية” ولست شاعر “رؤيا”. ألهذا أحب شاعراً كابن الرومي؟ فالشاعر العربي يجانب عادة العالم الخارجي، فلا يتعرف مواده وأحجامه وأشكاله. ألهذا أحبّ شعر عباس بيضون؟ إنّني أعمل لامحاء هذه العلامات بحيث تولد كلّ قصيدة شكلها الخاص. فالبياض الطباعي القديم أو الحديث هو بياض زخرفي ووظائفي، وأمّا البياض الذي أبحث عنه فهو بياض يسرب ما لا تقوله العبارات، أو ما لا تريد قوله. هو بياض حرية التأليف وحرية قراءة القارئ للنصّ.

* إذن “فتات البياض” تعني فتات الحريات؟

– ألا تظنّ مثلي أنّ الفعل الكتابي هو تحديداً إعلان الحرية على المجتمع. أنت تكتب إذن فأنت تعطي البياض صورة كمن يتغلّب على الفراغ بدلالات الضمير. إنّني في هذا العالم أعايش عصري أتّصل وأطلع على إبداعاته المختلفة. وأنّني بقدر ما أحضر في هذا العالم، لا بالانكفاء عنه، أثبت وأختبر فرادتي وتميّزي.

* ولكنّك شاعر بين شعراء، لبناني بين لبنانيين، عربي بين عرب؟

– قد تتجاوب نصوصي مع تجارب شعرية أخرى في لبنان كما في تونس والعراق والمغرب، إلاّ أنّ هذا التجاوب لا يعدو كونه اشتراكاً في التململ والتخلّص من قصيدة “الرواد” واشتراكاً في الكتابة تحت راية التجريب. كما انّ العالم بات موحّداً حتى الاختناق ومتبسراً حتى حدود المعرفة القصوى، بحيث يبدو غير دقيق الكلام قصيدة مستغربة وأخرى مستعربة. وهو على كلّ حال كلام إيديولوجي اتّهامي، أي لا يتّسم بأيّ معرفة كانت. فالذين يهاجمون قصيدة النثر أو غيرها من تجارب الكتابة العربية الحديثة لا يتضايقون مطلقاً من أنّهم يستوردون حتى الأقلام والأوراق التي يصوغون بها وعليها حتى هذه الاتهامات. فنحن من هذا العالم وفيه والتحصّن خلف مواقف اتّهامية لا يصدر إلاّ عن مواقع.

(جريدة “النهار”، بيروت، 18 تشرين الأول-أكتوبر 1981).

———————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى