أبحاث

من يملكون ومن لا يملكون… “حلف الأقليات الجديد” في الشرق الأوسط/ شكري الريان

29.02.2024

ما يحصل مع أهل غزة الآن ليس إلا مثالاً لما ينتظرنا جميعنا. كتلة بشرية لا مكان لها في صورة يريد القوي أن يرسمها لمحيطه كله وبما يخدم مصالحه وحده. وبالتالي، فإن الحل الذي سيفرضه علينا جميعاً، وليس على أهل غزة وحدهم هو… الإبادة أو الترحيل.إما أن نكتب ملحمتنا بأنفسنا، أو نموت ويطوينا النسيان.

“ملحمة التيه” أو The Exodus، هي واحدة من أعظم الملاحم التي عرفها التاريخ البشري. وإن نظرنا إليها بصفتها فعلاً إنسانياً محضاً، إبداعاً وصل فيه الخيال إلى مرحلة بات فيها الإنسان، وعبر عصاة، قادراً على شق البحر للنجاة من موت محقق على يد مستبد ظالم، فإنها بهذا قد تكون الأعظم في تاريخنا كلّه.

لكنها، ومع وصول العبرانيين، أبطال تلك الملحمة، إلى برّ أمان ما، لم تلبث أن تحولت إلى “دين قبيلة”، كما أسلف يوفال نوح هراري. وإن أردنا ترجمة عبارة هراري إلى السورية الدارجة، فإن تلك الملحمة لم تلبث أن تحولت إلى “دين أقلية”. (مفهوم “الأقلية” المستخدم في سياق هذه المقالة، سيأتي شرحه لاحقاً وبالتفصيل، المزدوجان وُضعا فقط للتأكيد على أن السياق المستخدم فيه هذا التوصيف، ليست الغاية منه “التقليل” من شأن أي فئة من فئات أي شعب من شعوب المنطقة، بالمطلق).

لم يكن غريباً على السوريين، في عمومهم، أن ينظروا بعين الشك إلى تلك العلاقة “الغامضة” التي ربطت حكم السلالة الأسدية، بدعم إسرائيلي خفيّ. هذا الدعم الذي بقي راسخاً، في نظر عموم السوريين، في أحلك المراحل التي مرّ بها هذا الحكم الاستبدادي المفترس، بدءاً من مذبحة حماة، مروراً بوصول النظام، مع الوريث، إلى حافة مرحلة الإزالة، عام 2005 إثر اغتيال رفيق الحريري وطرد القوات السورية من لبنان، وصولاً إلى ثورة السوريين العظمى 2011.

في تلك المراحل كلها، كان الموقف الإسرائيلي، الملمّح إليه تارة، والمعلن بوضوح طوراً، ينظر إلى ما يحدث في سوريا بصفته مواجهة بين نظام “علماني” من جهة، وجحافل من “الجهاديين” السنة شديدي التعصب، من جهة أخرى. بل إن موقف الحكومة الإسرائيلية إثر ثورة السوريين ضد نظام السلالة المفترسة 2011، لم يتردد في إعلان تفضيله بقاء الأسد في سدة الحكم. وهو، أي الموقف هذا، لم يكتف بالإعلان عن نفسه عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ الأيام الأولى لتلك الثورة، بل إنه شارك في فرض موقف فعلي على الأرض، إثر ما سمي بـ “اتفاق التسوية”، 31 تموز/ يوليو 2018، إذ بدأت قوات النظام بالعودة إلى الجنوب السوري، الأمر الذي ما كان يمكن أن يتم لولا وجود موافقة إسرائيلية ضمنّية عليه.

هذا كله عزّز تلك “الفرضية” القائلة بأن الأسد، بنسختيه، ما بقي في سدة الحكم لولا وجود “تنسيق” ما بين هاتين النسختين، على التوالي، وبين الإسرائيليين. ووجهة النظر هذه كانت تستند بدورها إلى قناعة راسخة، عند عموم السوريين، مردّها إلى طبيعة النظامين الحاكمين، في إسرائيل وسوريا، فكلاهما نظامان “أقلويّان” يستندان إلى أقلية حاكمة، تتمتع بكامل الامتيازات على حساب المكونات الأخرى للسكان، على أساس ديني أو طائفي. وهذا بدوره انعكس على رؤية السوريين لمصير الصراع الإقليمي في المنطقة بين إسرائيل وإيران، إذ لم يأخذه أحد من السوريين أبداً على محمل الجد. وهذا مرده إلى تلك الرؤية، أو وجهة النظر، المستندة إلى “البعد الأقلوي”. إذ لا يمكن لـ “أقليتين”، هما هنا “اليهودية الصهيونية” من جهة، و”الشيعية الإيرانية” من جهة أخرى، إلا أن تتحالفا، ولو على المدى الطويل، في مواجهة “غالبية”، العربية السنية (في فلسطين بالنسبة الى إسرائيل، وفي الدول العربية التي استطاعت إيران وميليشياتها الوصول إليها)، إذ لم يبخل كلا الطرفين بالإيغال في دم تلك “الغالبية”، الى درجة بات معها هذا التحالف ضرورة لكلَي الطرفين، بعد هذا الفحش كله في حق ضحاياهما.

وبغض النظر عما بإمكان عبارة مثل “الأقلية” أن تثيره من تحفّظات، خصوصاً في منطقة مشهورة بكونها “فسيفساء” حقيقية بكامل مكوناتها، دينياً وطائفياً وعرقياً وحتى قبلياً، إلا أنها، أي تلك العبارة، بقيت تقريباً الناظم المشترك الأعظم في توصيف الخلفيات الحقيقية التي خيضت كامل الصراعات في منطقتنا بالاستناد إليها. ربما بدءاً من مرحلة “التيه” حيث فرض على العبرانيين، وبصفتهم عبرانيين حصراً، مغادرة مصر، وتم إلقاؤهم في صحراء سيناء مجرّدين من كل شيء. وصولاً إلى المرحلة التي شهدت فيها المنطقة ذروة غير مسبوقة في تاريخها، الإمبراطورية الإسلامية، حيث بقي ذلك الكيان المهيمن محكوماً بالمقولة الشهيرة، حسب الحديث النبوي المتّفق عليه: “لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي منهم اثنان”[1].

ورفعاً للالتباس، فإن تعريفاً واضحاً، قدر الإمكان، بمعنى كلمة “أقلية”، يمكن أن يساعدنا في المضي في محاولة فهم ما يحدث في منطقتنا، على ضوء تلك المستجدات التي حصلت خلال العقد الأخير على الأقل. حيث لا غنى حقيقة عن استخدام هذا “المصطلح” في محاولة استشراف رؤية ما لمستقبل منطقتنا، ليس بالتأكيد بمعزل عن تاريخها الموغل في القدم. وهذا ما تحاوله هذه السطور، ضمن المنظور المتاح لكاتبها.

لتزخيم السخط ضد الأقليات

“أقلية” هنا لا تعني عدداً. والواضح، أن “العدد” أمر يستفز كثراً في منطقتنا، يتعاملون مع تلك الصيغة بصفتها انتقاصاً من قدر المقصودين بهذا التوصيف “الأقلية”، خصوصاً إن كان المقصودون بهذه الصفة، هم “الغالبية” في مواطن سكناهم الأصليّة. وهو أمر مفهوم إن أحلناه إلى أسباب ربما مردّها الشعور بالتهديد في ظل نظام عام لا يحمي الضعيف (في كل الأحوال، فإن الضعيف لم يكن محمياً أبداًفي منطقتنا طيلة تاريخها). وهذا بدوره يحيل إلى أن العدد هو أساس القوة والمنعة. وما يحدث في منطقتنا الآن، ومنذ تأسيس دولة إسرائيل على الأقل، يشير إلى أمر آخر في تحقيق تلك القوة والمنعة، لا علاقة للعدد فيه.

من جهة أخرى، فإن هذا المفهوم “الأقلية”، وباستبعاد العامل العددي منه، أي في محاولة جعله توصيفياً قدر الإمكان ومن دون تضمينه أية شحنة انتقاص، يشمل أي نظام أو صيغة تبقي الامتيازات، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، حصرية في يد فئة محدّدة من البشر بالاستناد إلى عامل عرقي أو طائفي أو ديني أو قبلي أو حتى عائلي- من اختراع الله في صحراء التيه، الذي صار، وبصفته نصيراً لا غنى عنه للمظلوم، حكراً على العبرانيين وحدهم؛ إلى حكم بضع كيلومترات مربعة في محيط المكتب الرئاسي في منطقة المهاجرين في دمشق، حيث سيبقى ذلك الامتياز “الأقلوي” قائماً ولو اقتصر على مساحة مكتب الرئيس فقط. ومن هنا، فإن نظاماً (ليس نظام حكم فقط، بل نظام حياة أيضاً) على طريقة داعش، أو طالبان، أو النصرة في شمال سوريا، أو حزب الله في الضاحية الجنوبية في بيروت، أو حماس في غزة، هو حكم أقلية، بامتياز، حتى ولو استند إلى غالبية عددية كبيرة في مناطق نفوذه.

وهناك عنصر مهم يجب أن يضاف إلى هذا التعريف، وهو أن “الأقلية” ليست في حال كمون، إلا إذا فرضت عليها الظروف هذا الأمر، وهي تتعامل معه كأمر عارض لا بد من تجاوزه للوصول إلى الهدف الأسمى: الهيمنة على المحيط (أي أن تصبح الفئة الغالبة). وبالتالي، فهي في حالة تكيّف مستمرة للوصول إلى هذا الهدف، وبحث دائم عن حلفاء محتملين، واستعداد لصد أعداء موجودين أو حتى محتملين. وبالتالي، فنحن أمام حالة أقرب إلى الكيان العضوي، الموجود في محيط يدافع فيه عن بقائه ويتطور. شعار داعش كان: وجدت وتتمدد. وهذه هي “الأقلية” أو “الأقلوية” في أعلى ذراها.

وبموجب هذا التعريف، وإن نظرنا إلى أحوال منطقتنا بالاستناد إليه، سنجدها، وكما كانت دائماً، حُبلى بـ “الأقليات”، من مختلف الأشكال والأحجام والأنواع والألوان. والسؤال هنا: ما هو العامل الأكثر حضوراً الآن، في تمييز تلك “الأقلية”، أو مجموعة “الأقليات” المختلفة، عن باقي تلك “الأقليات”، وبموجب عيشنا في عالم شديد التغير، وفي الوقت ذاته شديد التواصل، بحيث يمكن أن نقول إن هذه “الأقلية”، أو مجموعة “الأقليات”، ستلعب دوراً أكبر من “الأقليات” الأخرى في بسط سيطرتها على مسار الأحداث في منطقتنا؟

الفارق الآن، وفي منطقتنا، في تمييز “الأقليات” عن بعضها البعض، ما عاد عرقياً أو طائفياً أو دينياً أو حتى قبلياً (مع أن تلك العوامل يمكن أن تستمر في لعب دورها، ولو كخلفية لتشكيل بذور تلك “الأقلية” في مراحلها الأولى) العامل الأهم الآن، وبالاستناد إلى وضع منطقتنا الحالي، وبعد “ربيع” عاصف لم يبق ولم يذر، هو بين يملكون ومن لا يملكون، وبالتالي من هم مهيأون فعلاً للهيمنة، ومن هم ضحايا تلك الهيمنة. في منطقة دُمرت مراكزها الحضرية التقليدية، أو نُحّيت تماماً عن الفعل والتأثير، وبالتالي دخلت في طور مختلف تماماً من مراحل تطوّرها التاريخي.

والمُلك هنا، وفي ظل ضعف وإملاق طاغيين في عموم المنطقة، لا بد أن يعني أمرين: مال يسعى أصحابه حثيثاً الى فرض نفوذهم أينما أمكنهم ذلك (في حالة منطقتنا يمكن أن نضيف أن أصحاب المال يفعلون هذا من دون التفكير بالأثمان المدفوعة، مهما كانت باهظة، من الناحية الإنسانية، طالما أن غيرهم هم من يدفعون الثمن)؛ وقوة عسكرية ضاربة، بإمكان أصحابها أن يفرضوا مصالحهم فوق مصالح الجميع، في الزمان والمكان اللذين يناسبانهم.

وبالاستناد إلى العاملين أعلاه، فإن إيران، بكل ما لها، لا يمكن أن تصنَّف ضمن أي من التعريفين أعلاه، إن قارناها، من ناحية المال والنفوذ، بدول الخليج؛ أو لو قارنها من ناحية القوة العسكرية الفعالة والضاربة، بإسرائيل. وبالتالي، فحظوظها ضمن حلف الأقليات الجديد، هي الأضعف. وأن أضفنا أنها، إيران الملالي، حصرت خياراتها، عبر تكريس قدسية شعار “تحرير فلسطين” بما فاق حتى مغالاة أنظمة الفساد والاستبداد العسكرية، حتى تضمن لنفسها أي شكل من أشكال النفوذ بين شعوب منطقة تكاد تدمرها عن بكرة أبيها بسياساتها المبنية على عقد تاريخية لا شفاء لها؛ إن أضفنا هذا الشعار إلى الصورة، يصبح من الصعب تماماً، حتى على إيران نفسها أن تدخل في حلف مع من يُفترض أنها تورطت واعتبرتها عدوتها الرئيسية: إسرائيل.

الحليف الجديد للقلعة العسكرية إسرائيل، “بلطجي” منطقتنا، الحليف الصاعد بقوة، والقادر على المشاركة في تقرير مسارات التحرك المستقبلية في منطقتنا، لا يرتدي عمامة ملا قادم من عمق التاريخ الدموي لمنطقتنا، بل يرتدي الغترة التي ميزت اللباس التقليدي للرجال في عموم منطقتنا، بما فيها الخليج العربي. إنه الأمير الخليجي القادم من التاريخ ذاته، ولكن الدارس في الوقت نفسه في جامعات الغرب، بل وفي أعلى مستوياتها. وهذا عامل إضافي يجعل التفاهم بينه وبين “البلطجي” الإسرائيلي أسلس وبما لا يقاس. من دون أن ننسى البعد التاريخي، إذ إن إسرائيل نفسها تستند إلى هذا التاريخ أيضاً.

بل إننا إن نظرنا إلى طرفي التحالف الجديد، سنجد أن كلَي الطرفين يكملان بعضهما البعض. من ناحية النفوذ الخليجي في منطقتنا، فهو قد بقي دائماً من دون “أسنان”. وهو لم يستطع، على الرغم من ماله الوفير، أن يبسط نفوذه إلى أبعد من حدود الهيمنة الإعلامية. يكفي التذكير بأن حوثيي اليمن ظلوا، حتى بضعة أشهر خلت، قادرين على تهديد المدن السعودية والإماراتية بصواريخهم، التي يمكن وصفها بالمفرقعات، مقارنة مع ما وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية في وقتنا الحالي. بل إن الأمر، وحسب النسخة الإماراتية، تطور إلى توظيف مجموعة كبيرة من المرتزقة، من جنسيات مختلفة، لبسط نفوذ تلك الإمارة في مواضع مختلفة من منطقتنا (بعض الجزر اليمنية، ومراكز عسكرية مختلفة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر). فيما بقي فيه الطرفان، السعودي والإماراتي، عاجزين عن حسم المعركة الرئيسية لهما في مواجهة النفوذ الإيراني، وحلفائه الحوثيين في اليمن، مع ما شكّله الحوثي من تهديد عسكري مباشر لكلَي الطرفين وفي بلادهما، وليس في اليمن وحده.

من الناحية المقابلة، فإن الطرف الآخر للتحالف المفترض، إسرائيل، لم يستطع أبداً تجاوز جدار الرفض العربي المحيط به بشكل مباشر، مع عمقه الكبير، خليجياً كان أو شمال أفريقي. بقيت إسرائيل ذلك “البلطجي”، الذي لا تلبث أن ترتفع أسهم الرفض له إلى السماء ما أن يبادر في مشروع إبادة جديد ضد الفلسطينيين، في غزة أو جنين أو القدس. نعم هذه العزلة لم تمنع الطرف الإسرائيلي من التقدم والتطور، وبل وبناء أكبر قوة عسكرية وأكثرها فاعلية في منطقتنا كلها، على الرغم من وجود جيوش فيها تتنافس على لقب “أقدم جيش في التاريخ”! ولكن في المقابل، وكما أسلفنا أعلاه، فإن المنطقة دخلت في مرحلة تغير حقيقي بدورها. والربيع العربي، كأبرز وجه من وجوه هذا التغير، وإن فشل في الوصول إلى أهدافه، إلا أنه كشف وبوضوح عن هشاشة بنى الطغيان التقليدية في المنطقة. الأمر الذي سيفرض على الجميع، وأولهم الإسرائيليون، إعادة النظر في الصيغ المعتادة لإدارة شؤونهم في منطقة عادت لتثبت أنها شديدة التقلب، والخطورة في آن. هل يكفي التذكير بما حدث في صبيحة 7 تشرين الأول مثلاً؟!

في هذا الوضع، العزلة ستكون نقطة ضعف أكيدة، حتى ولو بنى الإسرائيليون أكبر قلعة منيعة يمكن تصوّرها. إذ المفروض أن تكون هناك صلات ما، تساعد على إدارة شؤون الإسرائيليين ومصالحم، سواء داخل قلعتهم (الضفة والقطاع ليسا خارج هذا الفضاء بأي حال من الأحوال)، أو في محيطها القريب؛ ومن جهة أخرى فإن المصالح في عالم كامل، وليس في منطقة محددة، لا يمكنها أن تنمو وتزدهر في ظل حالة عزلة مفروضة بسبب سياسات تعسفية، ستجد في النهاية طريقة ما ليتم تمريرها (الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين لم تتوقف لحظة واحدة منذ تأسيس دولة إسرائيل، قبل بدء مشروع الإبادة الجماعية في غزة)، وبالتالي فإن إيجاد صيغة للتحالف مع طرف قادر على الوصول إلى المنطقة المحيطة وإلى العالم كله، بما له من مال ونفوذ، يصبح أمراً مستحباً، إن عطفنا هذا النفوذ على النفوذ الإسرائيلي نفسه، في ما يقع خارج منطقتنا بالتحديد، أي العالم بكامله، فسنجد أنفسنا أمام تحالف بدأ بإمكانات هائلة من دون شك.

ولا يتوهّم أحد بأن الجرائم الإسرائيلية في غزة الآن ستلعب دور المعيق لمشروع كهذا. ما نراه أخيراً، من دور قطري في تحرير الرهائن، مع ما جنته الإمارة، الصغيرة، وأميرها من سمعة عالمية في هذا الشأن، عبر وساطة مباشرة مع الإسرائيليين؛ ومن وعود سعودية بتطبيع كامل في حالة وقف إطلاق نار دائم في غزة، هذا كله يشير بوضوح إلى أن تلك الإمكانات لم تذو، بل زادت بريقاً.  في المحصلة، وككل تحالف، فإن أطراف هذا التحالف يجدون عدداً لا يُحصى من المبررات الحيوية، لكل الأطراف، لصونه والمضي فيه إلى أهدافه. وفي الحالة الخليجية – الإسرائيلية، فإن تلك المبررات أكثر مما تُحصى.

أما على الطرف المقابل، طرف الذين لا يملكون، فإننا سنجد صيغة تكاد تكون وحيدة. من جهة حكم أقلوي بامتياز… عسكري؛ طائفي؛ نخب حاكمة معزولة ومتشبّثة بإبقاء الصيغة الحامية لمصالحها كائنة ما كانت الأثمان التي تدفعها الشعوب الخاضعة لتلك النخب؛ ميليشيات مدعومة بقوة إقليمية تكرس نفوذها مقابل جعل يد تلك الميليشيا هي العليا في مناطقها، بواسطة الدعم العسكري والمالي والسياسي. تحكّم مطلق من تلك القوى الحاكمة، بكامل الموارد، المحدودة أصلاً، والتي بات مآلها التبديد والزوال، والبحث الدؤوب عن حماية، إقليمية أو دولية، للبقاء والاستمرار في النهب. ومن جهة أخرى شعوب، أو بالأحرى جماعات بشرية ما عاد هناك أي رابط بينها سوى ذلك البؤس المعمم. جماعات مسحوقة بالكامل ومحرومة من أبسط حقوقها بكامل وجوهها: سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، بل وإنسانياً بشكل كامل.

بل إننا لو نظرنا إلى دور الذين يملكون، جهة الذين لا يملكون، فإننا سنجد أن الأولين لم يقصروا في لعب دور معيق لأي تطور إيجابي لصالح تلك الشعوب المحرومة. من التدخل السعودي الإماراتي لدعم انقلاب السيسي في مصر، إلى الدعم القطري الكامل والحصري للتيارات الإسلامية، إخوان مصر وسوريا، وجبهة النصرة في سوريا، إلى وقوف إسرائيلي علني مع نظام الافتراس الأسدي، والدفاع عن جريمة محمد بن سلمان بحق جمال خاشقجي، بذريعة أن أي تغير في السعودية لن يكون لمصلحة إسرائيل، كما صرح نتانياهو علناً إبان تلك الجريمة البشعة.

وطالما الحال هكذا، فإن الحديث عن احتمال أن يعد تحالف كهذا بأفق أوسع للمنطقة كلها، يصبح مشكوكاً، ليس في جديته وحسب، بل ومصداقيته أيضاً. إذاً، عدا عن الوصول إلى صيغة ما مع إيران (وعلى العكس مما يأمله ضحايا الهيمنة الإيرانية المباشرة، من سوريين ولبنانيين وعراقيين ويمنيين)، بحيث تحصل تسوية تعترف بنفوذ إيراني ما في المناطق المسيطرة عليها فعلياً الآن من الإيرانيين، ومن دون أن يكون هناك ضرر للطرف الإسرائيلي والخليجي، وهذا المرجح غالباً، وهذا ما دل عليه بوضوح لا يقبل لبساً، “الاشتباك” الأخير بين الإيرانيين والأميركيين إثر مقتل ثلاثة جنود أميركيين على أيدي ميليشيات عراقية مدعومة من إيران؛ إذ عدى عن هذا، فلا يمكن التفاؤل بصيغ ما للتعاون، بل وحتى التعايش، بين هذا التحالف والأطراف الأخرى الضعيفة في منطقتنا التي لا تملك.

حيث مجرد التذكير بما قام به حكام الإمارات والسعودية، من ضغط لإعادة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية، كاف للقول بأي اتجاه يسيّر هذا التحالف مصالحه، وعلى حساب مصالح الشعوب المحيطة لو اقتضى الأمر، ومن دون أي لحظة تردّد. طبعاً، تجدر الإشارة هنا إلى أن أمير قطر رفض عودة الأسد إلى الجامعة العربية، ولكنه في المقابل أنشأ تحالفاً مضاداً ورعاه، هو فعلياً الأسوأ لمصير سوريا البديلة ولصورتها أمام العالم، وأمام المترددين في دعم أية صيغة مضادة للنظام من السوريين أنفسهم. إذ كيف بإمكان شخص يريد الحرية فعلاً ويؤمن بها أن يسير خلف قيادة أبو محمد الجولاني، مثلا؟!

وإن أضفنا إلى ما ذُكر أعلاه، تلك التجارب المريرة للمحيط الذي لا يملك، مع “الرؤى” الجديدة، أو النمط الذي يحاول الطرف الخليجي تعميمه منذ سنوات (من دون نسيان البلطجة الإسرائيلية بحق أقرب جيرانهم لهم، الفلسطينيين) سنجد ألا مكان لنا، نحن الذين لا نملك، في مشاريع أو “رؤى” كهذه، إلا بصفتنا ضحايا أو مستبعدين. يكفي أن نذكر دبي، كرمز لحصرية أنماط كهذه واقتصارها على فئات محددة ومحدودة من البشر، وفوقها “رؤية نيوم”، التي صرحت النشرات الدعائية لها بأنها مدينة لنوع محدد من السكان، مثالاً على ذلك.

هذه المواقف تعطينا مؤشراً إلى مآلات الصراع في منطقتنا، إن صار هذا التحالف مهيمناً، وهو في طريقه لأن يصبح كذلك، وإن بمواجهة بعض “الشغب الموضعي” المدعوم إيرانياً، والذي سيدفع ثمنه في النهاية أبناء المنطقة بعيداً عن إيران نفسها. هذا الصراع الذي سيبقى تحت السيطرة، ولن يسمح له بأن يمتد ليعيد تشكيل المنطقة من جديد، على الضد من مصالح التحالف المهيمن. وبالتالي، فإن مصير الكتلة البشرية الأكبر في هذه المنطقة (كتلة الذين لا يملكون) لن تعدو أن تكون مجرد دماء تراق على مذابح مصالح هذا التحالف، أو أي تحالف مضاد يريد إحداث بعض الشغب للحصول على مكاسب أكثر. ولا حلّ لهذه الكتلة، بالخروج من تلك الحالة، إلا بتحالف مفتوح، كاسر لمفهوم “الأقلية” نفسه، الذي حكم التاريخ السياسي لمنطقتنا، تحالف يعبر بشكل مباشر عن مصالح هؤلاء الناس بعيش كريم وحرية، مزيلاً أية عقبة تقف في وجهه، بدءاً بأنظمة الفساد والاستبداد، الـ “أقلوية” ومن أي نوع. وهذا لن يحصل إلا بإعادة الكرّة مرة أخرى، وبعدها مرات إن تطلب الأمر، وبوعي كامل للأخطاء التي ارتكبت وأدت إلى الفشل، للوصول إلى ما نريد: ربيعنا الذي لا خيار أمامنا سوى أن ينتصر، أو نموت… وما يحصل مع أهل غزة الآن ليس إلا مثالاً لما ينتظرنا جميعنا… كتلة بشرية لا مكان لها في صورة يريد القوي أن يرسمها لمحيطه كله وبما يخدم مصالحه وحده. وبالتالي، فإن الحل الذي سيفرضه علينا جميعاً، وليس على أهل غزة وحدهم هو… الإبادة أو الترحيل.

إما أن نكتب ملحمتنا بأنفسنا، أو نموت ويطوينا النسيان. كثر، غير العبرانيين، واجهوا مصيراً كهذا. العبرانيون وحدهم، قاوموا، حتى ولو عبر مخيّلتهم، فخلّدهم التاريخ…

[1]  رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر. وهناك أيضاً عبارة “كانت في قريش وستبقى فيها”، وهي منسوبة إلى الخليفة عثمان بن عفان.

– كاتب فلسطيني سوري

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى