أفلام

Poor Things

فيلم «أشياء بائسة»: الغرائبية معكوسة/ سليم البيك

9 – فبراير – 2024

صنع اليوناني يورغوس لانثيموس لنفسه أسلوباً سينمائياً متميزاً، يمكن وسمه بالغرابة، بالعبثية لا في مآل الشخصيات، لا في تطور الحبكة، بل في أساسها، في طبيعة ما يحصل على الشاشة، لا في «كيف يحصل». مكونات هذه الحبكة من شخصيات وأحداث هي بحد ذاتها عبثية غرائبية، لا ما تمر به الشخصيات، أو ما يطرأ على الأحداث. الغرائبية بنيوية هنا.

رأينا ذلك في أبرز أفلامه، بدت معالمه في «كينيتا» (2005) و»دوغتوث» (2009) و»ألبز» (2011)، ثم في ما أمكن القول إنها مرحلة جديدة للمخرج، نضجت فيها الغرائبية، في «ذا لوبستر» (2015) و»قتل الغزال المقدس» (2017)، إلى فيلمه الأخير، «أشياء بائسة» الذي نال الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا الأخير. ويمكن أن يشمل ذلك حتى فيلمه الأسبق، «المفضلة» (2018) الذي تركزت الغرابة فيه بكسر المسلمات السلوكية في أفلام المراحل التاريخية، ما قبل القرن العشرين.

هذا الأسلوب متصاعد في نضجه، والنضج هنا مسار إلى المغامرة والتجريب في طبائع الشخصيات وتفاصيل الأحداث، لا في الطمأنة الداعية إلى الاستقرار. في فيلمه الأخير، والمنافس باستحقاق على أوسكار أفضل فيلم، جمع لانثيموس أفلامه، المكونة لخطه السينمائي، ليخرج منها بعصارتها، بفيلم تتوازى ميزاته، من الاختيار البديع للممثلين الأربعة الرئيسيين، إلى التصوير الأقرب للعوالم الفانتازية، إلى القصة الجانحة التي احتاجت تلك العوالم لتكتمل، وليس انتهاء بالأصوات والموسيقى والأزياء. الفيلم، رغم عبثيته البنيوية لا المقارباتية، مكتمل بوصفه صناعة سينمائية فنية.

يحكي الفيلم (Poor Things) عن عالِم وجرّاح، يجد امرأة منتحرة، بيلا باكستر، يزرع مخ جنينها في رأسها، ضمن تجاربه العديدة، ليعيدها إلى الحياة بجسد امرأة وعقل طفل. تلتقي لاحقاً برجل تسافر معه لاكتشاف العالم، يعيشان أقصى اتجاهات المشاعر والتجارب إلى أن تعود أخيراً للجرّاح. المرأة الساعية لاكتشاف العالم بروح الطفلة، امتازت على طول الفيلم، ببراءة الطفولة في الكلام والسلوك، وبالرغبات العفوية في التمرد والرفض والفضول، لكن أساساً في عدم التوافق مع ما يراه عالم الكبار تهذيباً ضرورياً، أو أخلاقاً مسلَّما بها. فتقول رأيها صراحة وإن تسبب بالإحراج، تمارس الجنس بحرية لأنه ببساطة يسبب لها شعوراً جيداً. ترفض حالة الأسر، الذكورية، منذ كانت عند الجرّاح مروراً بعلاقتها مع رفيقها، حتى عودتها. لا تقبل تقييدات واجهتها بغرابة، مفروضة مجتمعياً عليها لكونها امرأة. تتمرد على هذا كله بروح الطفلة وعنادها.

الفيلم فانتازي بدرجة كبيرة، كوميدي كذلك بدرجة كبيرة، وهو دراما وخيال علمي، وقصة حب يائسة، ويتنقّل بين البلدان والمساحات، يصوَّر في قصر الجرّاح، في مدن، في باخرة، قسم منه بالأبيض والأسود وقسم بالألوان، وهذا الأخير يتفاوت بألوانه وعدساته. وخلالها كلها تسيطر رغبة غريزية في التحرر والتصرف بعفوية، وفي رفض تعاليم اجتماعية كبر أحدنا ليجدها جاهزة، النساء خاصة، فإما أن يخضعن لها أو يوصفن بالعهر، كما هو حال بيلا باكستر.

ملصق الفيلم

لم تكن بيلا بائسة أو مسكينة تبعاً لعنوان الفيلم، بل الأشياء، أو «المخلوقات» (بالترجمة الفرنسية للعنوان) الداعية للشفقة هي ما ومن يحيط بها، هي العالم الذي نعيشه، أما الغرائبية فهي كما سنفهمها تباعاً وتدريجياً، لا تكمن في سلوك المرأة الساعية لرغباتها، من دون الحاجة لتبرير منطقي لها، بل في عكسها، في فارضي القوانين من حولها والحراس عليها فلا يتم خرقها، ومن قبل النساء تحديداً. الغرائبية التي تظهر من سلوك المرأة هي في النهاية انعكاس للأحوال البائسة والغريبة للمجتمع، فحين تلمّ المرأة مال رفيقها كله لتبحث عن الفقراء فتمنحه لهم، كان، في سياق المجتمع، سلوكاً مغضباً تُعاقَب عليه، لكنه طبيعي بالنسبة لها، في أن يكون المال لمن يحتاجه، كذلك الحال مع استغرابها استنكار رفيقها دخولها للعمل في بيت دعارة كسباً للمال، وكذلك استنكار مديرة البيت إرادة بيلا اختيار الزبائن بدل أن يصطف النساء ليختار الزبون، الرجل، منهن لتصعد معه إلى غرفتهما. عليه أن يعجبها، تقول، لا العكس.

الغرائبية هنا موقف اجتماعي وسياسي، نسوي بالدرجة الأولى، أساسه الغريزة في السلوك بمعزل عن تقييدات تجعل من بيلا، مثلاً، تكذب على طاولة الطعام، مجاملةً، بما أبانه الفيلم رياءً اجتماعياً لبورجوازية القرن التاسع عشر. بيلا كانت، بعقلها الطفولي ومجالستها الكبار وعيشها معهم، متحررة بشكل قد يسميه البعض، كما في الفيلم، بافتقار للتهذيب أو العهر، لكن من دون أن يجد أحد، في الفيلم وربما خارجه، سبباً لتبرير هذه التقييدات، وسبباً لئلا تفعل بيلا وتقول ما تفعله وتقوله، كما هو تماماً. الغرائبية في الفيلم كلّه، كان كل ما عدا بيلا، مهما فعلت وقالت.

كاتب فلسطيني/ سوري

القدس العربي

لمشاهدة الفيلم اتبع الرابط التالي

Poor Things

للمزيد من المعلومات عن الفيلم والمخرج والممثلين اتبع الرابط التالي

Poor Things

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى