سياسة

أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الثالث

القسم الأول من هذا الملف على الرابط التالي:

أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الأول

القسم الثاني من هذا الملف على الرابط التالي:

أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الثاني

صنفت هذه المقالات في هذا الملف حسب الموقع الذي نشرت فيه ورتبت حسب التاريخ، الأحدث في الأعلى.

تحديث 15 نيسان 2024

————————–

القدس العربي

————————–

الأمّة الألمانية: فارق «الذنب الجَمْعي» وجلد الذات/ صبحي حديدي

12 نيسان 2024

حاضر ألمانيا، الحكم السياسي والمجتمع العريض على حدّ سواء، لا يعدم مناسبات متعاقبة تعيد التشديد على، وردّ الذاكرة إلى، مصطلح «الذَنْب الجَمْعي» Kollektivschuld؛ الذي تصنفه المعاجم، المبسطة الشعبية منها أو المعقدة المختصة، تحت باب التكفير الذاتي عن فظائع الرايخ الثالث أثناء الحرب العالمية الثانية عموماً، وآثام الهولوكوست بحقّ اليهود خصوصاً. وإذا كانت أحدث المناسبات الرئيسية هي الدعوى، التاريخية والفريدة والشجاعة، التي رفعتها حكومة نيكاراغوا ضدّ ألمانيا بتهمة تسهيل حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، عن طريق زيادة تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال بمعدّل 10 أضعاف خلال أشهر العدوان تحديداً؛ فإنّ سلسلة من المناسبات الفرعية سبق أن أعادت المصطلح إلى الصدارة، من خلال مصادرة حرّيات تعبير عامة مناهضة للعدوان ومساندة للشعب الفلسطيني، لم تمارسها السلطات الحكومية الألمانية وحدها، بل انخرطت فيها أيضاً جمهرة من هيئات وقطاعات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالفكر والثقافة والاجتماع السياسي.

وكما هو معروف، كان اللاهوتي والكاهن اللوثري مارتن نيموللر قد دشّن، في سنة 1945 وعبر الوثيقة التي عُرفت باسم «إعلان شتوتغارت حول الذنب» ما ارتقى إلى مستوى جَلْد الذات بتوقيع حفنة من ممثلي الكنيسة البروتستانتية الألمانية؛ هو الذي ساند صعود أدولف هتلر في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، وأعرب عن عداء صريح للسامية. إلى جانب صياغة الإعلان، كتب نيموللر القصيدة الشهيرة (التي يحفظها متحف الهولوكوست الأمريكي) والتي تقول: «في البدء استهدفوا الاشتراكيين، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن اشتراكياً. ثمّ استهدفوا ممثلي النقابات، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن نقابياً. ثمّ استهدفوا اليهود، فلم أتكلم ــ لأني لم أكن يهودياً. ثمّ أتوا يستهدفوني ــ فلم يتبقّ أحد يتكلم دفاعاً عني».

هذه حال من الإقرار بالذنب، الفردي أو الجَمْعي، وجدت، على الدوام في الواقع، من يتفهمها أو يبررها أو حتى يبيح توظيفها لخدمة أغراض شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإيديولوجية؛ كما وجدت، في معدلات أقلّ مستوى وأضيق نطاقاً وأخفض صوتاً، مَن يرفضها جملة وتفصيلاً لأنها إنما تعمم الذنب على نحو مطلق، وبالتالي تُسقط المسؤولية الشخصية والفردية عن طريق إلقائها عشوائياً على عاتق الجميع. لكنّ كلا الموقفَين، على تلاوينهما العديدة المتشابكة والمتغايرة، خيار مختلف تماماً عن كتلة مواقف ثالثة تشتغل على تأثيم الأمّة الألمانية بأسرها، كابراً عن كابر، وعلى غرار ما فعل الحلفاء بعد سقوط الرايخ الثالث حين وزّعوا ملصقات تُظهر فظائع الهولوكوست وتحتها عبارة «هذا ذنبكم!».

السياقات الراهنة من تواطؤ الحكومة الألمانية، وقطاعات واسعة من ممثلي المجتمع المدني، مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وما يتقاطع معها من زجّ جَمْعي للأمّة الألمانية في عقدة الذنب؛ يقتضي استعادة واقعة شهيرة طُرحت، في ثناياها ومن حولها، أسئلة عجيبة المنطق، تسير هكذا على سبيل الأمثلة: ما الذي يضير في قيام جهات ألمانية مختلفة، أكاديمية وبحثية في المقام الأوّل، بتكريم الضحايا الألمان (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية، ذاتها، المصابة بالإثم؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟

النفي كان إجابة أوساط صهيونية عالمية، أطلقت حملة أخرى شعواء ضدّ المشروع، استهدفت بصفة خاصة السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية البارزة ورئيسة «رابطة المطرودين»؛ التي تُعنى بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم، ليس في ألمانيا وحدها بل في مختلف أرجاء العالم. ولم يكن عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية تلك لم يكن أيّ اعتبار آخر سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش كلّ وأيّ ضحية أخرى، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن.

قرأنا، في مثال أوّل عالي الدلالات، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت: «إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة يوم ذكرى لإحياء الفترة النازية، لكنها ذكرى منعتقة من الرأي الاتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان». ومرغاليت هذا (وهو في عداد المؤرّخين المعتدلين!) يختار لمقاله عنواناً استفزازياً هو «ازدياد عذابات الألمان» ويضع كلمة عذابات بين أهلّة، على سبيل التشكيك في صحّة معنى العذاب، وربما صحّة وجود عذابات ألمانية في الأساس!

في جانبها الإحصائي الصلب، كانت الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 إلى 3.5 مليون من بولندا، 2.3 مليون من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الاتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، المتحفظة لهذا الاعتبار أو ذاك، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو… 15 مليون ألماني.

ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، كي لا يتحدّث المرء عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟ لا يتفق مرغاليت مع هذه البديهة البسيطة، لأنه دائم الارتياب في نوايا شتاينباخ، تساوره شكوك بأنها إنما تستهدف إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية، وذلك رغم أنّ مشروع مركز مناهضة الطرد يضع اليهود في رأس ضحايا هذه الممارسة غير الإنسانية. كذلك يتوقف مرغاليت بصفة خاصة عند موقف شتاينباخ «المتطرّف» حسب تعبيره، القائل بأنّ عمليات طرد الألمان جري التخطيط لها قبل الحرب، ولا يمكن النظر إليها كجرائم ناجمة عن ضرورات محاربة النازية، بل كجرائم في حدّ ذاتها. أكثر من هذا، طبقاً لخطّ السجال الذي يعتمده، تزعم شتاينباخ امتلاك أدلة قاطعة على أنّ 2.5 مليون من الألمان المطرودين من ديارهم، «قضوا تحت التعذيب أو التشغيل الإجباري أو الاغتصاب»… فكيف تجاسرت على سَوْق أرقام تداني نصف أرقام ضحايا الهولوكوست من اليهود!

جانب آخر من المأساة كان يخصّ القصف الوحشي الذي مارسه الحلفاء ضدّ المدن والبلدات والبنى التحتية الألمانية، وكأنهم كانوا يُنزلون العقاب بالشعب الألماني نفسه، بعد انهيار الرايخ الثالث. وتلك معركة لم تنفرد بإثارتها «رابطة المبعدين» ومن خلفها الأوساط المحافظة الألمانية كما زعم مرغاليت، بل انخرط في حملاتها رجال يساريون من أمثال غونتر غراس الروائي الكبير وحامل جائزة نوبل للأدب، وساسة ليبراليون أمثال هانز ديتريش غينشر، وكتّاب على شاكلة يورغي فردريش الذي وضع كتاباً مصوّراً عن قصف ألمانيا اعتبر فيه أنه لا يوجد فارق أخلاقي بين ونستون تشرشل وأدولف هتلر.

وفي المحصّلة يظلّ موقف الأوساط الصهيونية من الأمّة الألمانية قياسياً وكلاسيكياً ومشوباً بالكثير من التساؤلات، منذ أن طُرح السؤال الكبير: «كيف أتيح لأمّة عظيمة أنجبت غوته وشيللر أن تنفّذ تلك المجازر؟». الجانب الآخر المكمّل لهذه الحال أن يعمد ألمان كُثر إلى اجترار القياسات الصهيونية الركيكة ذاتها، لكن بقصد استعذاب جلد الذات وتعميم الإحساس الجَمْعي بالذنب.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————–

سياسة الساق على الساق فيما يقوله صاحب «الفتاق»/ رياض معسعس

8 – أبريل – 2024

من الصعب وضع الساق على الساق لمن أصيب “بالفتاق” ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أصيب بالفتاق مرتين، وفي كل مرة كانت بعد حرب على غزة: الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 بعد عملية عمود السحاب، والثانية بعد عملية طوفان الأقصى قد أخفق في كل ما قال. ويبدو أن غزة نذير شؤم على زعماء إسرائيل، فاسحق رابين كان يتمنى”أن يستيقظ ذات يوم من النوم فيرى غزة قد ابتلعها البحر”، ووزير التراث عميحاي إلياهو يطلب أن تقصف بقنبلة نووية، واليوم نتنياهو يتمنى أن يمحي أثرها عن بكرة أبيها ليحقق النصر، فبسببها فقد كل ما بناه من مجد سياسي في هزيمة ستلاحقه حتى القبر. فوضع الساق على الساق في لغة الجسد، في مواجهة شخص آخر في أحد معانيها هي الرغبة بالسيطرة، أو شعور الشخص أنه ذو سلطة على الطرف الآخر. وهذا ما يحاول نتنياهو ممارسته ليظهر نفسه، كما يفعل رؤساؤه في أمريكا عندما يستقبلون نظراءهم من الدول الأخرى أن يظهروا أنهم أسياد العالم بلف الساق على الساق، بينما نرى النظير جالسا يضم ساقيه احتراما أو رهبة، فنتنياهو في الواقع يعتبر نفسه سيد العالم أيضا لأن العالم بنظره، ونظر العقدة اليهودية أنه من شعب الله المختار، وأن الله خلق الخلق جميعا ليكونوا خدما لبني إسرائيل كما يرددون، ونتنياهو يعتبر نفسه أيضا سيد إسرائيل، فلا يوجد ما يوازيه من زعماء تعاقبوا على هذا المنصب في هذا البلد المغتصب سوى المؤسس دافيد بن غوريون.

وهذه النظرة إلى نفسه ربما هي التي جعلته يفقد الصواب خلال الأشهر الستة الماضية حيث تعرض لهزة عنيفة عندما استيقظ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على وقع عملية طوفان الأقصى.

في البدء مع غزة كانت كلمة صداع هي المستخدمة لدى زعماء الاحتلال حتى قبل حماس، ففي اتفاقية أوسلو حاولت إسرائيل أن تتخلص من غزة أولا، فكان عنوان الاتفاقية غزة – أريحا أولا، وبهذا فتتخلص من الشقاق والشقيقة. لكن صدع غزة لم يرأب فاستمر الصداع مع تصاعد الصراع، فما كادت تنسحب من القطاع في العام 2005 حتى استفاقت على كابوس جلعاد شاليط المختطف من الجيش الإسرائيلي من قبل حماس، ومع سيطرة حماس على القطاع في 2007 أعلنت إسرائيل القطاع:” كيانا معاديا”.

ففي كانون الأول/ ديسمبر من العام 2008 شنت عملية الرصاص المصبوب لإنهاء حكم حماس لغزة، والبحث عن شاليط، فواجهتها حماس بعملية “الفرقان” ففشلت عملية الاحتلال باستخدام ألف طن من المتفجرات بتحقيق الهدفين: القضاء على حماس، وتحرير شاليط، فحماس بقيت صامدة، ولم تسترد شاليط “ولا ماليط”. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 شنت إسرائيل عملية”عمود السحاب” لتدمير منصات الصواريخ الحمساوية، فردت حماس بعملية “حجارة من سجيل” فوصلت صواريخها إلى تل أبيب، ثم تطورت كما ونوعا.

في تموز/ يوليو 2014 أطلق نتنياهو عملية “الجرف الصامد” لتدمير أنفاق غزة، فردت حماس بـ “العصف المأكول” واستمرت حوالي الشهرين شنت خلالها 60 ألف غارة على القطاع، فلم تدمر الأنفاق بل تمددت في كل الاتجاهات في جميع أنحاء غزة كشبكة عنكبوتيه أدخلت جيش الاحتلال في متاهة كبيرة. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أطلقت حماس عملية “معركة صيحة الفجر” بعد عملية اغتيال القيادي وعائلته بهاء أبو العطا بغارة إسرائيلية أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع إسرائيلية.

في العام 2021 اندلعت اشتباكات بين مستوطنين إسرائيليين وفلسطينيين بعد أن اقتحموا حي الشيخ جراح، واقتحام المسجد الأقصى، فقامت حماس بإطلاق معركة: “سيف القدس” بإطلاق آلاف الصواريخ في العمق الإسرائيلي، وأطلقت دولة الاحتلال اسم: “حارس الأسوار” عليها. في شهر آب/أغسطس من العام 2022 قامت دولة الاحتلال باغتيال القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي بسام السعدي في عملية أطلقت عليها “الفجر الصادق” وردت حركة الجهاد بعملية تحت اسم “وحدة الساحات” لأنها كانت بمشاركة فصائل فلسطينية أخرى، وتم خلالها قصف العديد من المدن داخل دولة الاحتلال. في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر انطلقت عملية “طوفان الأقصى” التي أدخلت العالم أجمع في طوفان سياسي، وجماهيري، واجهته إسرائيل بعملية تحت مسمى:”السيوف الحديدية”، هذه العملية أدخلت الإدارة الأمريكية والكابينت الإسرائيلي في هيستيريا غير مسبوقة، أدت إلى مقتل وإصابة عشرات الآلاف من الغزيين، وتدمير هائل للبنى التحتية والمناطق السكنية، وتشديد الحصار لقتل الناس جوعا وعطشا. وأحدثت صدعا وصداعا كبيرا في صلب الإدارة الأمريكية، وفي الاتحاد الأوروبي، وفي الكابينت لدولة الاحتلال، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، فعقدة غزة لم تنته فصولا بعد.

فتاق سياسي

علاوة على الفتاق الجسدي، أصيب نتنياهو بفتاق سياسي عميق فإذا تم رتق الأول، فربما من الصعب رتق الثاني. فعلى المستوى العالمي انضمت كولومبيا إلى بوليفيا وبنغلاديش وتركيا إلى جنوب افريقيا في دعوتها ضد إسرائيل لمحكمة العدل الدولية. غوتيريش طالب إسرائيل بالكشف عن أسباب مقتل 196 موظف إغاثة في غزة، محامون حقوقيون يرفعون دعوى عاجلة لوقف تصدير الأسلحة الألمانية لإسرائيل، 115 برلمانيا فرنسيا يطالبون ماكرون بوقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل. مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان يتبنى قرارا يحظر تصدير السلاح إلى إسرائيل، ويدعو لمحاسبتها على جرائم في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إسرائيلية مدمرة منذ أكثر من نصف عام، إدانة دولية لمقتل سبعة عمال إغاثة في المطبخ العالمي.

منظمة الصحة العالمية تندد بالهجوم على مستشفيات غزة، وتدمير مشفى الشفاء، تنديد دولي بتشديد الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. مظاهرات حاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية نصرة للفلسطينيين، دول عدة قطعت علاقاتها مع إسرائيل، أو استدعت سفراءها للتوبيخ بسياستها وحربها الهمجية على غزة.

تتصاعد حدة التوتر في الداخل الإسرائيلي التي بدأت بمظاهرات لإبرام صفقة تبادل الأسرى مع حماس، بعد ما تبين أن الجيش الأقوى في الشرق الأوسط لم يتمكن من تحريرهم حسب ما وعد صاحب الفتاق بعد ستة أشهر من الحرب، ثم تحولت إلى مظاهرات تطالب بانتخابات مبكرة ليتم التخلص منه والذي يبيعهم وهما كي يحافظ على منصبه ويتحاشى محاكمته، على فشل حكومته في إدارة الحرب، وتحرير الرهائن.

تصاعد حدة التوتر

وأدى هذا التوتر إلى انقسامات واشتباكات في الشارع الإسرائيلي، وهجرة مئات الآلاف، ونزوح مئات آخرين من الشمال بسبب ضربات حزب الله. وحوصرت تجارتها في البحر الأحمر من قبل الحوثيين، فالمعارضة الإسرائيلية تصاعدت تخوفاتها بشكل كبير، ويتوجه رئيسها يائير لبيد إلى واشنطن لإجراء محادثات مع الإدارة الأمريكية بعد الخلاف بين نتنياهو وبايدن. بل وصلت تخوفات المعارضة، والعديد من المراقبين أن عملية طوفان الأقصى، والحرب على غزة، وعدم تحقيق نتنياهو وحكومته أهداف الحرب المعلنة: (تحرير الأسرى، القضاء على حماس، والنصر المبين) أو بعبارة أخرى خسارة الحرب، دفعتهم للتفكير أن مستقبل إسرائيل أصبح على كف عفريت. فقد نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في فترة زمنية متقاربة جملة تحذيرات صادرة عن أبرز قادة الدولة، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحافية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة. إذ أكد رئيس الوزراء المستقيل، نفتالي بينيت، للإسرائيليين “أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق”

كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحافي مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد أنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود” واستحضر باراك في ذات المقال نماذج لدول أصابتها “لعنة العقد الثامن”؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفييتي وانهار.

أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد أن التهديد الأكبر يتمثل بالإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة اللاعودة.

الكاتب، يغئال بن نون يقول: إن “المزيد من الإسرائيليين تظهر عليهم علامات القلق الدالَّة على اليأس، ويتقدم الكثير منهم للحصول على الجنسية الأجنبية، حرصًا على مستقبل أطفالهم، لأن بعضهم يقول بصوت عالٍ: إن إسرائيل لن تكون موجودة لفترة طويلة، وإن إقامتها من الأساس كانت مغامرة فاشلة، ولذلك يعيشون حالة متشائمة، ويحثون أنفسهم وغيرهم على الهروب قبل وقوع الكارثة”. هذه المرة يبدو أنها ليست لعنة الثمانين بل لعنة غزة.

كاتب سوري

——————————-

غزّة تاريخ الافتراق/ خليل النعيمي

5 – أبريل – 2024

مَنْ نحن؟ سؤال غدا، اليوم، بعد «أسطورة غزة المقاوِمة» أكثر إلْحاحاً، وذا ضرورة قصوى، إنْ لمْ يكن منطقياً، بامتياز. ليس الدمار المادي المذهل هو، وحده، الذي يدفعنا إلى طرح هذا السؤال، ولا هي المأساة الإنسانية الرهيبة التي استُشهِد فيها آلاف المقاوِمين، فحسب، وإنما هو، أساساً، فَقْد «اللُّحْمة الإنسانية» الذي تجلّى عربياً، خلال هذه الحرب الاستعمارية، بوضوح مدهش ومثير. هذا الفَقْد المأساويّ هو الذي يدفعنا، في الحقيقة، إلى التساؤل المريب: مَنْ نحن؟ لأنه يجعلنا نعيد النظر في تاريخنا المشترك الذي هو مصدر الرابطة الإنسانية في الوجود. هذه الرابطة التي كانت، من قبل، مصدر كل صلة خلاّقة بيننا. لكننا، اليوم، صرنا نحسّ أنها تَصَرَّمتْ، وأننا نكاد أن نفقدها، بشكل مؤسف، كلّياً.

لم نعد نفهم ممّا يجري من حولنا شيئاً. لم نعد نفهم لماذا يعمّ الصمت في العالم العربي، رغم ضجيج الحرب المدمّرة التي لا تهدأ منذ شهور. لم نعد نفهم لماذا تستمر الحياة في هذا العالم «المدعو عربياً» على حالها، وكأن شيئاً لا يحدث بالقرب منه، أو لكأن الحرب المدمّرة على غزة تجري في قارة أخرى! ماذا يعني ذلك غير أننا افترقنا، أو أننا نكاد أن نفترق بشكل نهائي؟ غير أننا وصلنا إلى نهاية تاريخ لا مُجْدٍ، وسيكون علينا إبداع تاريخ جديد؟

نحن لا نريد الحرب، ولا نحثّ أحداً على التورّط فيها.. نحن نعرف مدى اهتمامنا بالسلم، حتى لا نقول شيئاً آخر. نحن لسنا دعاة حرب، ولا دعاة استسلام، أيضاً. نحن نطمح إلى مدّ يد المساعدة إلى غزة، لا أكثر ولا أقل، لكن كيف؟ بالموقف السياسي الواضح والصارم والمفيد، بالطبع. وكلنا نعرفه جيداً. كلنا: الدول المطبّعة علناً، والدول اللا مطبّعة علناً، والدول الأخرى التي هي في طريقها إلى التطبيع، وأن.. تاريخنا المشترك هو الذي يدفعنا إلى أن نقول هذا. تاريخنا المشترك الذي بدأ يتصدّع أمام أعيننا، ونحن صاغرون.

هل هو الخوف المفرط الذي يستولي على قلوبنا؟ أم هي اللامبالاة اليائسة التي تهيمن على فضائنا العربي؟ أم هي الحيادية الكاذبة التي لا تعبّر إلاّ عن الرعب العميق حيال خطر استعماري كاسح، لا بد من مواجهته حتى لو كان الفوز فيه ليس مضموناً؟ على أي حال، التاريخ المشترك الذي جمعنا منذ مئات السنين راح يتفتّت مع تفتّت غزة وتدميرها، ولسنا قادرين على فعل شيء من أجل إيقاف ذلك. بلى! نحن لا نبدو قادرين على إدراك مغزى «العقاب الاستعماري اللامحدود» على فعل المقاومة، الذي يبدو محدوداً في كل المقاييس. لكن الاستعمار «ليس عقلاً». إنه نهج واستراتيجية، وشؤون. للاستعمار اللئيم مذاهب شتى، وأساليب معروفة منذ مئات السنين لفعل ما يريد. لا خلاص من استعمار كهذا إلا بالمقاومة مهما كانت عواقبها باهظة الثمن، وخطيرة، لا جدوى، إذن، من إغماض العيون، ولا من طأطأة الرؤوس، ولا من اللطف السياسي اللامجدي، تطبيعيّاً كان، أم غير تطبيعي، لأن جميع أشكال اللامقاومة، مهما تعددت حالاتها وأوصافها، لها اسم واحد هو: الخضوع. والخضوع، حتى لو كان مُجزّءاً، ومحدوداً، لا يمكن تبريره، لأنه سيتعمّم من بعد، وهو الذي سيمحي تاريخنا المشترك، شئنا، أم أبَيْنا. وهو الذي سيفرّق بيننا، أخيراً.

بفعل انحسارنا الكارثي، تحوّلَت المواجهة الوجودية بين الحرية والاستعمار في غزة إلى حرب مشهدية. صرنا نتابع أخبارها الدرامية وكأنها مسلسل افتراضي يجري على شاشة كونية لا على الأرض. التدمير الصهيوني الذي لا يرحم، والذي لا علاقة لعنفه ووحشيته بما عرفته الحروب التي مرت على الإنسانية من قبل، هو الذي يجعل الحياد غير مقبول من أي زاوية نظرنا إليه. أهوال الحرب في غزة تذهل المتفرّج العربي وتدمّره، دون أن يستطيع التدخل فيها. وهو ما يُنْبئ بخَلَل عميق، بدأ يتفشّى فينا إزاء كل ذلك الموت والدمار، وأهمّ أعراضه تلك الحيادية الصامتة واللامفهومة التي نعاني منها جميعاً.

وفي النهاية، أسطورة غزة المقاوِمة جعلَتْنا نقف على مفترق الطرق عاجزين عن اختيار السبيل الذي علينا أن نسلكه، عاجزين عن فعل ما يجب علينا فعله، عاجزين، في الحقيقة، عن استيعاب «تاريخ الافتراق» العربي الذي بدأ يرتسم، الآن، أمامنا: تاريخ الصمت والنفاق.

كاتب سوري

—————————-

قبضة نتنياهو وخَوَر «المعارضة»: دائرة الاجتماع الإسرائيلي المغلقة/ بحي حديدي

4 – أبريل – 2024

الإسرائيلي يائير لبيد، زعيم حزب «هناك مستقبل» وزير خارجية دولة الاحتلال الأسبق، ورئيس وزرائها بين مطلع تموز (يوليو) وأواخر كانون الأوّل (ديسمبر) 2022، وحامل لقب «زعيم المعارضة» غير المتوّج؛ طالب مؤخراً برحيل ائتلاف بنيامين نتنياهو لأنه يدير «حكومة الدمار» وبإجراء انتخابات مبكرة. بيني غانتس، زعيم حزب «أزرق ـ أبيض» وزميل لبيد في المعارضة، مع فارق أنه عضو في مجلس الحرب الإسرائيلي الراهن، طالب بانتخابات مبكرة أيضاً ولكن في أيلول (سبتمبر) المقبل؛ الأمر الذي أثار حفيظة لبيد، فأعلن أنّ الشعب الإسرائيلي لن ينتظر 6 أشهر أخرى.

وكأنهما ينتظران، بأيّ معنى قابل للتصريف العقلي، أن نتنياهو وائتلاف الليكود والأحزاب الدينية المتشددة والفاشية، سوف يصغون إلى هذه المطالب، أو تلك التي ترفعها مظاهرات أهالي الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية. أو كأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر ديمومة في الحكم على امتداد تاريخ الكيان الصهيوني، لن يرضخ وحده، فحسب؛ بل سيذعن معه أمثال إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، أو بتسلئيل سموترش وزير المالية، أو عميحاي إلياهو وزير التراث الذي دعا إلى قصف قطاع غزّة بقنبلة نووية…

وتلك حال غير جديدة على دولة الاحتلال، وغير طارئة في مستوى حيثياتها وحذافيرها، وسبق لها أن تكررت بنُسَخ مختلفة في كثير وليس في قليل فقط؛ وكان نتنياهو، أيضاً، الطرف الأوّل في معظم معادلاتها المتعاقبة، التي شهدت من الأطراف المقابلة بعض أبرز رجالات «اليمين» أمثال أرييل شارون، و«اليسار» أمثال إيهود باراك، كي لا يأتي المرء على ذكر بيادق صراع عابرة في صفوف «الوسط». وذات يوم غير بعيد كان المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي، أحد أفراد قلّة إسرائيلية قليلة من أصحاب الضمير الحيّ، قد اعتبر أنّ صعود نتنياهو إلى الهرم الأعلى في السلطة سوف يكون علامة مشجعة، لأنه «سيحرّر إسرائيل من عبء الخديعة» ونجاحه في تشكيل حكومة يمينية سوف يتكفل بسقوط الحجاب و«يكشف وجه الأمّة الحقيقي أمام مواطنيها وسائر العالم، بما في ذلك العالم العربي. ونحن، ومعنا العالم، سوف نرى إلى أيّ اتجاه نسير، ومَن نحن حقاً. وبذلك فإنّ الحفلة التنكرية، التي تجري منذ سنوات عديدة، سوف تبلغ نهايتها»؛ كما كتب، في صحيفة «هآرتس».

ومضى ليفي أبعد، فأشار إلى سقوط الستارة وانفضاح الزيف الأكبر، أي «أكذوبة» المفاوضات وعملية السلام، حين كانت دولة الاحتلال تقول شيئاً، وتفعل نقائضه على الأرض؛ وهو نهج سيتواصل ويشتدّ إذا فازت زعيمة حزب «كاديما» تسيبي ليفني، أو فاز زعيم حزب «العمل» إيهود باراك، على حساب زعيم حزب «ليكود». نتنياهو سوف يعرض شيئاً مختلفاً، كتب ليفي، لأنه «أوّلاً، ممثّل مخلص لنظرة إسرائيلية أصلية، تنطوي على انعدام مطلق للثقة في العرب وفرصة التوصل إلى سلام معهم، ممتزجة بنزوع إلى الحطّ من قيمتهم وتجريدهم من إنسانيتهم». لكنه، ثانياً، سوف «يثير سخط العالم تجاهنا، بما في ذلك الإدارة الأمريكية الجديدة. ومن المحزن أنّ هذا قد يكون الفرصة الوحيدة لذلك النوع من التغيير الدراماتيكي المطلوب».

غير مستبعد أن يكون ليفي قد اعتقد، يومذاك، أنّ حكومة يشكلها نتنياهو قد تتألف، أساساً، من ائتلاف أحزاب «ليكود» و«شاس» و«إسرائيل بيتنا»؛ وذاك احتمال دفعه إلى انتظار معارضة هزيلة من الخاسرين، ومساندة مستقرة من ذلك الشارع الشعبي الذي يعتنق تلك «النظرة الإسرائيلية الأصلية» ذاتها التي يبشّر بها نتنياهو. وإذا كانت قيادة «شاس» لم تحلم بعودة مظفرة، على غرار المقاعد الـ 17 التي أحرزها الحزب في انتخابات 1999؛ فإنّ زعيم «إسرائيل بيتنا» أفيغادور ليبرمان، تصرّف وكأنه سوف يتكفّل بتحقيق المفاجأة، وانتزاع رقم في المقاعد يداني ما سيحصل عليه حزب «العمل» أو يزيد عنه ربما.

فإذا شاء المرء قراءة مشهد دولة الاحتلال الراهن من حيث الأحزاب والقوى والكتل، فلن يكون التفكيك أو حتى التحليل التركيبي هو المنهج اللازم لاستخلاص دروس شتى مبسطة بدورها، أو لا يعيبها تبسيط غير مخلّ أيضاً؛ أبرزها درس مركزي يقول إنّ القبضة المحكمة على صندوق الاقتراع تعود لصاحبها نتنياهو، بما تضمّ من أصابع يمين متدين وفاشي وعنصري؛ والقبضة الرخوة، حيث الخور والفشل والعجز عن تقديم سياسات موازية ذات مصداقية، تعود لأصحابها في أحزاب باهتة الخطّ ورجراجة المواقف مثل تلوينات «أزرق ـ أبيض» عند غانتس ولابيد وموشيه يعلون، أو أحزاب آيلة إلى اندثار منتظم مثل «العمل» و«ميرتس» و«كولانو».

لافت، بقدر ما هو طريف وحمّال مغزى بين الماضي القريب والراهن والمستقبل، أنّ استطلاعات رأي الإسرائيليين تشير إلى حيرة حول هوية رئيس الحكومة في «اليوم التالي» لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ بين غانتس (52٪) ونتنياهو (27٪) رئيس الموساد السابق يوسي كوهين (13٪) ووزير الدفاع يوآف غالانت (12٪). في قراءة أخرى لهذه المعطيات الإحصائية، ثمة ما يستوجب استدعاء المعطى الأهمّ الذي لم يتبدل، فعلياً، منذ استقراره بعد 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023: 80٪ من الإسرائيليين يؤيدون رحيل نتنياهو وائتلافه الحاكم، مقابل 80٪ (والأرجح أنّ الرقم الفعلي أعلى) يساندون استمرار الحرب.

وأمّا القراءة الثالثة، المشروعة بدورها، فهي تلك التي تفيد بأنّ تظاهرات الاحتجاج ضدّ حكومة نتنياهو، سواء بصدد مشاريع وضع المحكمة العليا على رفوف التهميش أو التعطيل بالأمس، أو مطلب عقد صفقة مع «حماس» لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين اليوم؛ لا تمسّ، في الجوهر تحديداً وليس في الشكل فقط، حقيقة أنّ هذا المجتمع الإسرائيلي، الذي يزداد عنصرية ويمينية وتشدداً دينياً، ويسير بخطى حثيثة مضطردة صوب منظومات الأبارتيد الأسوأ، هو الذي انتخب هذا الائتلاف الحاكم؛ وهو ذاته المجتمع الذي سبق أن جدّد انتخاب نتنياهو والأحزاب الدائرة في فلكه، أياً كانت الفضائح المالية والأخلاقية والسياسية التي لوّثت زعماء هذا التحالف.

وتلك دائرة مغلقة تحكم خيارات مجتمع إسرائيلي أدمن على حلقات انتخابية متعاقبة أشبه بالباب الدوّار، هي في وجهة أولى بعض قواعد اللعبة «الديمقراطية» في تبادل السلطة؛ لكنها، في وجهة ثانية، تعكس الكثير من ذلك المزاج الخاصّ المركزي الذي يتحكّم بالناخب الإسرائيلي وبصندوق الاقتراع تحديداً: الخوف من السلام، الذي يبلغ درجة الرهاب، والانكفاء إلى الشرنقة الأمنية كلما لاحت تباشير تسوية ملموسة تتضمّن، أوّل ما تتضمّن بالطبع، تفكيك هذه أو تلك من الكتل الاستيطانية، أو هذا أو ذاك من الانسحابات أو إعادة الانتشار العسكرية.

التاريخ، من جانبه، لا يؤسس دروسه انطلاقاً من تلك اللعبة أو ذاك المزاج، بل من حقائق صلبة تمسّ معظم مآلات ما تبقى من «عملية سلام» كي لا يتحدّث المرء عمّا تبقى من سياسة سلام بالمعنى العريض المفتوح للمفردتين معاً. ومنذ سنة 1996 كان هذا الباب الدوار قد أسفر عن صعود نتنياهو، ثمّ اندحاره على يد الجنرال المتقاعد إيهود باراك، الذي هزمه جنرال متقاعد آخر هو أرييل شارون، أعقبه رئيس بلدية القدس المحتلة الأسبق إيهود أولمرت؛ كي يدور الباب مجدداً فيعيد نتنياهو؛ ولم تكن ولايتا نفتالي بينيت ولبيد سوى فاصل، تراجيكوميدي لمَن يشاء، يمهّد لمجيء نتنياهو الثالث و… المستدام.

وأمّا في العمق، وفي قلب صناديق الاقتراع، فقد كانت «النظرة الإسرائيلية الأصلية» ذاتها، لا تتبدّل إلا في مقدار اتكائها على مزيد من مزيج الرهاب والهمجية!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

—————————–

في أربعينه: عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ/ ياسين الحاج صالح

3 – أبريل – 2024

قبيل رحيله، نشر آرون بوشنل، الطيار الأمريكي الذي ضحى بنفسه حرقاً أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن يوم 25 شباط الماضي، على صفحته على فيسبوك السطور التالية: «يسائل كثيرون منا أنفسهم: ما كنت لأفعل لو عشت أيام العبودية؟ أو في الجنوب الأمريكي أيام نظام الفصل العنصري؟ أو في ظل الأبارتهايد؟ وماذا علي أن أفعل إذا كان بلدي يرتكب جينوسايداً؟ والجواب هو: تفعل ما تفعله الآن بالذات».

الواقعة فريدة ولم تكن ممكنة التصور قبل شهور فحسب. أمريكي يضحي بنفسه من أجل فلسطين، وضد حكومة بلده! وعباراته التي تدل على حس أخلاقي رفيع جديرة بأن تخلد في سجل الأنشطة الاحتجاجية عالمياً كشعار موجه، ذلك أنها تضمر أن مظالم الماضي مستمرة بصور وتحت أسماء مغايرة اليوم، وأن من يعيشون اليوم وقد يهنئون أنفسهم على أنهم ضد العبودية والفصل العنصري ربما كانوا سيلتمسون لأنفسهم الأعذار على عدم الاعتراض عليهما أو حتى مساندتهما لو عاشوا في زمنهما مثلما هم صامتون اليوم أو متوطئون، وأنه إذا كان من السهل اتخاذ الموقف الصائب بعد وقوع الواقعة، فإن على المرء أن يسعى لاتخاذ هذا الموقف أثناء وقوعها، على الصعوبة المحتملة لذلك. والأهم أن السؤال الأخلاقي لا يطرح علينا أبداً في ظروف مثالية، حيث الأشياء واضحة، أو حيث الخير بيّن والشر بين. هذا تصور إسقاطي من الحاضر على الماضي، بعد عقود من هزيمة النازية في ألمانيا مثلاً، أو بعد انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، أو بعد انطواء صفحة قوانين الفصل العنصري في الجنوب الأمريكي في ستينيات القرن الماضي، وانتهاء عبودية الأفارقة الأمريكيين قبلها بقرن. في واقع الأمر يطرح علينا السؤال الأخلاقي دائماً في ظروف بعيدة عن المثالية، ويشيع أن يكون الموقف الأصوب محملاً بالعواقب، على حريتنا أو حياتنا ذاتها، أو على الأقل ضروب من العزل الاجتماعي أو الإلغاء الذي تحول إلى ثقافة في ألمانيا الشهور الستة الماضية.

زمن السؤال الأخلاقي هو الآن، اللحظة الحاضرة، وليس الماضي الذي مضى وانقضى، ولا هو مستقبل سيأتي نصير كلنا فيه عادلين أخلاقيين ذوي ضمائر حية (إلا أننا اليوم بكل أسف لا نستطيع أن نكون كذلك لأن الظروف صعبة). الظروف صعبة دوماً، والسلوك الأخلاقي لا يكون أخلاقياً إلا حين لا تكون الظروف مواتية، ولا يطرح السؤال الأخلاقي أصلاً حين تكون الأمور واضحة وعواقب خياراتنا آمنة. السؤال مطروح على المنشبكين في اللحظة الراهنة وصراعاتها وضروب المعاناة فيها، وليس على من هم خارج حقلها. كأمريكي، شعر بوشنل بحق أنه معني بما كان يجري في غزة من إبادة لأن بلده هو راعي إسرائيل وأكبر داعميها عسكرياً ومالياً وسياسياً وإعلامياً، وأنه مسؤول بالتالي عما يجري هناك. وهو عبر عن مسؤوليته بالتضحية بالنفس فيما قدر أنه الموقع الأنسب لذلك، بينما كان يهتف: الحرية لفلسطين! ليست تضحية بوشنل هي الجواب الوحيد الصحيح على السؤال الأخلاقي، لكن الرجل الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين لم يختر الإجابة الصحيحة، بل الإجابة الصانعة للصحيح، تلك التي تنشئ مثالاً وتصنع ذاكرة وتبقى على مر الأجيال.

ولأن السؤال يطرح الآن، جديداً دوماً وربما مفاجئ، فإنه ليس هناك وصفة مسبقة جاهزة تعطينا الإجابة الصحيحة، فلا يجاب عليه بإعمال مذهب أو دين أو إيديولوجية أياً تكن. هذه العقائد تقترح مبادئ وليس أخلاقيات، ويغلب بالأحرى أن تُخضِع الأخلاقيات للمبادئ التي تدعو إليها، أو حتى تدفع نحو مسالك غير أخلاقية، وإن تكن مبدئية. وبالعكس يقتضي المسلك الأخلاقي الدفاع عن استقلال الضمير عن العقيدة أو المذهب، أو المبدأ، أياً يكن. هذه النقطة مهمة في السياقات الإسلامية لأن المسلك الديني ليس حتماً أخلاقياً، هذا حين لا يكون لا أخلاقياً تماماً. رفض الترحم على آرون بوشنل، أو حتى تقرير أنه في النار لأنه منتحر وغير مسلم (وقد استطاع بعض بوابي الجنة والنار قول ذلك) غير أخلاقي وإن يكن دينياً.

هل الضمير ركيزة كافية من أجل السلوك الأخلاقي؟ لا يبدو أن هناك ركيزة مضمونة أكثر. ضميرنا الشخصي ليس ضمانة للعدل دوماً، لكننا لا نعرف مرجعاً أخلاقياً أقوى من الضمير المطلع والمتفاعل مع ما يجري حوله، وفي شروط من الحرية. ربما يقال: الضمير فردي، فيما الفاعلون الكبار في العالم دول وتحالفات ومنظمات كبيرة، وهي المسؤولة عن كثير من الشر في عالم اليوم. هذا أكيد، إلا أن الاعتراض الضميري لعدد كبير من الأفراد في بيئات متمتعة بالحرية أكثر من غيرها هو ما أحدث فرقاً بخصوص غزة. ليس فرقاً حاسما إلى اليوم، بالنظر إلى قوة وكثافة التوظيف الغربي، المعنوي والسياسي والمادي، في إسرائيل، لكنه الفرق المحدث الوحيد. ولا يبعد أن يتشكل في قوانين ومؤسسات عبر محكمة العدل الدولية أو غيرها. بالمقابل لا يبدو أنه أمكن التعبير عن اعتراضات ضميرية من الجهة العربية، رغم ما يبدو من مساندة شعبية واسعة لغزة وفلسطين. هذا ليس لغياب الاستعداد الضميري، بل لغياب الحرية، وهو ما يضعف الضمائر نفسها بفعل تعذر نقل ما تمليه إلى أفعال وسياسة، وبخاصة في القضايا ذات الشأن. أعني بالقضايا ذات الشأن، القضايا التي تعني مجتمعاتنا المختلفة بصورة مباشرة، القضايا الخاصة لكل منها، ما يتصل بشؤون السلطة السياسية والدينية وتوزيع الثروة والحقوق وغير ذلك. فإذا لم يستطع الناس الاحتجاج فيما يتصل بهذه الشؤون، أو إذا سحقت احتجاجاتهم المرة تلو المرة، انقطع تأثيرهم على السياسات العامة في بلدانهم، ولم تتطور لديهم ملكة الاحتجاج الضميري العام. أما الجهات النظامية في بلداننا فلا تشغل موقعاً أخلاقياً للوقوف إلى جانب الغزاويين والفلسطينيين لأنها متورطة في دماء وكرامات محكوميها، ولأن غزة هنا وليست هناك حصراً. فإذا كان زمان الفعل الأخلاقي هو الآن، فإن مكانه هو هنا، حيث تكون. هنا أنت عادل وصاحب ضمير، أو مجرم أفاك، وليس هناك ضد إسرائيل أو ضد أمريكا البعيدة أو ضد الغرب.

مشكلتنا مع الفعل الأخلاقي، معرفاً بالآن وهنا، تتمثل في أننا نفتقر إلى المسافة الأمثل من أجل الرؤية والتصرف الصحيح. وإنما لذلك نحتاج إلى تربية الضمير وتثقيفه كي يستجيب على أفضل وجه للمُلمّات. ونعلم بعد ذلك أنه يحدث كثيراً أن يتملكنا الشعور بالذنب وعذاب الضمير لأنه يتواتر أن لا نسلك المسلك الصحيح، بخاصة في أوضاع داهمة وغير مسبوقة. لكن مثلما يتعلم المرء من تعثراته وانكساراته، فإن الضمائر تتعلم من الأخطاء وأسواء التصرف.

وليس في هذا الطرح المجمل ما ينفي الحاجة إلى مبادئ تتوجه بها الذوات الجمعية من دول وأحزاب ومنظمات وغيرها. الدفاع عن استقلال الضمير عن المبدأ لا يعني استتباع المبدأ للضمير الذي يبدو موجهاً أصلح للأفراد منه للتكوينات الجامعة. لكن فيه (الطرح) ما يدعو إلى الحفاظ على توتر بين المبادئ والأخلاقيات، والتنبه إلى ميل المبادئ لإلحاق الأخلاقيات بها وصولاً إلى التسلل إلى ضمائر الأفراد وإخضاعها لها. المبادئ تميل إلى التحجر، وهي مدعوة لأن تجدد نفسها عبر مساءلات الضمائر. وهي إلى ذلك أميل إلى التكيف مع المصالح، بما في ذلك أشدها تمييزاً وانعدام عدالة.

تضحية جليلة مثل تضحية آرون بوشنل تتحدى مبادئ السياسة الأمريكية ومصالحها غير العادلة، وتضع على جدول أعمال قطاعات تبدو متسعة من الأمريكيين إعادة النظر في هذه المبادئ في اتجاهات أعدل. بعد أسابيع من تضحية بوشنل، استقالت أنيل شيلين، مسؤولة الشؤون الخارجية في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل بوزارة الخارجية الأمريكية، وبعيون دامعة في مقابلة مع قناة «ديموكراسي ناو» عطفت استقالتها على تضحية مواطنها الشاب.

ليس هذا للقول إن تضحية بوشنل أطلقت مسلسل تراكم كمي قد يؤدي إلى تغير نوعي في السياسية الأمريكية حيال فلسطين. تطرف ووقاحة وغرور وعناد السياسات الأمريكية يرجح بالأحرى نموذج التغير الكارثي، وإن كنا لا نعرف متى وكيف. ربما تكون إبادة أكبر من كل ما عرفنا بالانتظار.

كاتب سوري

—————————

«فوضى حواس» بعد عملية حماس!/ رياض معسعس

1 – أبريل – 2024

لم يشهد العالم «فوضى حواس» كما يشهده منذ انطلاقة عملية «طوفان الأقصى». لأول مرة تجد دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها فاقدة البصر والبصيرة، وحلفاؤها في أمريكا وأوروبا السمع والإحساس، وفقدوا معها بوصلتهم التي كان مؤشرها دائما يتجه نحو إسرائيل. ففي بداية عملية طوفان الأقصى التي أذهلت إسرائيل وأصابتها بالجنون، وقلبت موازينها رأسا على عقب، ودفعت معظم زعماء الغرب وعلى رأسهم رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، الداعم الأكبر، وحامي حمى دولة الاحتلال، يتقاطرون واحدا تلو الآخر بسرعة فرط صوتية للوصول إلى تل أبيب لتقديم الولاء، والدعم السريع سياسيا وعسكريا لهذه الدولة التي أنشأوها، وجعلوا من جيشها أقوى جيش في الشرق الأوسط (وهذا ما صرح عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في واشنطن بضرورة الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة، بما في ذلك قدراتها الجوية). وأعتقد هؤلاء أن حفنة من مقاتلي حماس لا يمتلكون من وسائل الدفاع سوى أسلحة فردية، وعدة من أسطوانات الهاون، وصواريخ لا تخترق القبة الحديدية الإسرائيلية سوف لن يصمدوا طويلا أمام هذا التفوق النوعي لهذا الجيش «الذي لا يقهر» آخذين بعين الاعتبار الجولات السابقة من الحروب مع أنظمة عربية جهزت جيوشا جرارة جبارة جوا وبرا وبحرا، هزمت سريعا، ودون عناء. وسرعان ما قامت الإدارة الأمريكية، كعادة الإدارات السابقة لنجدة حليفتها الأولى «للدفاع عن نفسها» بنصب جسر جوي حمل مئات الأطنان من الذخائر والأسلحة، وكذلك فعلت أكثر من دولة أوروبية أخرى، حتى أنها حاولت تبرئة دولة الاحتلال من جرائمها النكراء في غزة، كما فعل جو بايدن بعد المجزرة المريعة في مشفى الشفاء التي ارتكبها جيش الاحتلال بدم بارد. إلا أن المفاجأة الكبرى التي لم تكن تخطر على بال، أن المقاومة التي قدرت أعداد أفرادها بحوالي ثلاثين ألفا وعتادها لا يتعدى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة المحلية الصنع، وقفت ببسالة في وجه جيش قوامه أكثر من 300 ألف جندي بكل آلياته وعتاده وطائراته المسيرة والمقاتلة، بل وتكبده يوميا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. وهذا ما لم يحدث في تاريخ الحروب أبدا، خاصة وأن الرقعة التي تقع فيها المواجهة لا تتعدى مساحتها 365 كم2. وبعد حوالي ستة شهور من المعارك الطاحنة ما زال المقاومون صامدون ويضعون الشروط في أي عملية تفاوضية.

من نتائج «طوفان الأقصى» انقلاب المفاهيم، واختلال الموازين، فخلال 75 سنة من البروباغندا الكاذبة التي كانت تصور دولة الاحتلال بالدولة الديمقراطية المحاطة بدول دكتاتورية تتحين الفرص لتقذف بها إلى البحر، وأن جيشها يعتبر الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، وأنها دولة اليهود المضطهدين الذين عانوا من النازية والفاشية، وهي تحتاج دائما لحماية نفسها، تبين في هذه المعركة الفاصلة بين الغازي لغزة والمدافع عنها، أن هذه الدولة ليست سوى دولة عنصرية، توسعية، محتلة، ترتكب جريمة إبادة بحق الفلسطينيين وخاصة بحق الأطفال والنساء، وتدمر كل البنى التحتية لشعب محاصر منذ عقود، وتقوم بتجويعه وتعطيشه لدفعه للرحيل بشتى الوسائل كي تحتل أرضه وتحولها إلى منتجعات، وبكلمة أخرى ترتكب الهولوكوست الذي عانى اليهود منه إبان النازية. أما الدول العربية الديكتاتورية التي تسعى «لقذف إسرائيل في مياه المتوسط» وجهزت جيوشا جرارة جبارة أصبحت إما مطبعة معها وتدافع عنها، أو فقدت حاستي الشعور والإحساس أمام مشاهد القتل والترويع والتجويع والتعطيش، بعد أن فقدت حاسة السمع والبصر، أو إما أصيبت بالبكم. أو منها من بالكاد تجرأ بتصريح خجول لا يتعدى مطلب إدخال المساعدات لشعب يقتل جوعا وعطشا وفتكا بالقصف اليومي، أو مطلب وقف إطلاق النار من رؤوس الشفاه، ولكن لم نسمع أن تجرأت حتى بإدانة الجرائم والعدوان ومنع دخول المساعدات وتدمير المشافي.

وهذه المواقف للأنظمة العربية أثارت استغراب دول وشعوب العالم أجمع، في الوقت الذي انبرت دول كجنوب إفريقيا، وإيرلندا، وإسبانيا، والمكسيك، وكولومبيا، والبرازيل، ونيكاراغوا بالدفاع بكل شجاعة عن الحق الفلسطيني وإدانة إسرائيل وتقديمها للعدالة الدولية. وجابت شوارع المدن الأوروبية والأمريكية الملايين من شعوبها لنصرة الشعب الفلسطيني، وإدانة غازي غزة، بعد أن فهمت هذه الشعوب أنها كانت ضحية بروباغندا الصهيونية العالمية، والآن تفتحت عيونها على الحقيقة الفاقعة، إنه الانقلاب الجذري في الرؤية التي أودت إلى الصحوة التي ستدحض من الآن فصاعدا كل سموم الإعلام المتصهين، بينما لم ترق ردود فعل معظم الشعوب العربية إلى مستوى الحدث..

بمتابعة مواقف الدول الأوروبية خلال الأشهر الستة الأخيرة، نجد أن هذه الدول تبدلت نظرتها، ليس فقط لعدوان إسرائيل على غزة، بل لسياسة غازي غزة. فإسرائيل التي هي من صنع حلفاءها انقلبت على حلفائها، حتى أن الاستياء بدا واضحا في موقف أمريكا في مجلس الأمن عندما امتنعت عن التصويت على القرار 2728 الداعي إلى وقف إطلاق النار الذي لم تحترمه لأنه بنظرها غير ملزم، وصوتت الدول الأربع عشرة لصالحه بما فيها بريطانيا وفرنسا وهذا يعبر عن موقف الاتحاد الأوروبي أيضا. وهذه هي المرة الأولى منذ إنشاء دولة العدوان تمتنع أمريكا عن استخدام الفيتو، فوفقا للأرقام الرسمية تم استخدام حق النقض «الفيتو» 260 مرة منذ تأسيس مجلس الأمن الدولي، استخدمت أمريكا لوحدها 114 مرة منها 80 مرة استخدمت هذا الحق لمنع إدانة إسرائيل، و34 مرة ضد قوانين تساند الشعب الفلسطيني، أي كل استخداماتها لهذا الحق كانت لسببين دعم حليفتها من ناحية، وهضم حق الفلسطينيين من ناحية أخرى. اليوم لم يتغير الوضع رغم عدم استخدام أمريكا «للفيتو». جو بايدن الذي صم حاستي البصر والسمع إزاء هدير أصوات الأمريكيين الذين باتت الأكثرية منهم تؤيد الفلسطينيين مطالبين بوقف إطلاق النار، قال هذه المرة عندما قاطع متظاهرون خطابه: «لديهم وجهة نظر». أي أنه بدأ يسمع الصوت الذي لابد من سماعه بعد وقر إذا رغب الفوز في ولاية ثانية، ثم قال ليدغدغ شعور المسلمين في أمريكا: «إن هناك شعورا «بالألم يحس به» كثيرون من العرب الأمريكيين بسبب الحرب في غزة وبسبب الدعم الأمريكي لإسرائيل وهجومها العسكري الذي أثار غضب العرب والمسلمين والناشطين المناهضين للحرب» في الوقت نفسه نقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤولين مطلعين في البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية القول «إن مجموعات الأسلحة الجديدة التي ستنقل إلى إسرائيل تشمل أكثر من 1800 قنبلة إم.كيه84 ألفي رطل و500 قنبلة إم.كيه82 خمسمئة رطل». وكل هذه الأرطال المتفجرة ستسقط فوق رؤوس أطفال غزة دون أن يرف لبايدن جفن. المسألة إذن لم تعد تحتاج لحس رهيف لفهم أن إدارة بايدن كما كل الإدارات السابقة منذ العام 1948 وضعت أسس ديمقراطيتها ومبادئ حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها وكل مبادئ الأمم المتحدة في سلة المهملات من أجل ضمان وجود إسرائيل وغض الطرف عن كل جرائمها واحتلالها لأراضي الفلسطينيين، وتحول بكل وسائلها لتجر الدول العربية للتطبيع معها لضمان ازدهار اقتصادها، وفي الوقت نفسه منع الشعب الفلسطيني من حقه في بناء دولته المستقلة على أراضيه المحتلة.

كاتب سوري

—————————-

====================

العربي الجديد

————————-

هل نشهد فراغاً رئاسياً في أميركا بسبب إسرائيل؟/ مالك ونوس

09 ابريل 2024

يقترب موعد إجراء الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في ظلّ أكبر شاغلٍ منذ ستة أشهر، والمقصود به الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي يمكن أنّ يحدّد الموقف منها ومن تبعاتها، بل من تفاصيلها، اسم الرئيس الأميركي المقبل، بل قد يسبّب جولات تصويتٍ إضافية أو اضطراباتٍ في العملية غير معهودة من قبل. ويقع كلا المرشّحيْن بين ناريْن من غير الراضين عن سياساتهما ومواقفهما تجاه المذبحة الجارية في غزّة. ففي حين هنالك من يُحمِّل الرئيس جو بايدن مسؤولية عدم إيقاف الإسرائيليين حربهم، ومن ثم تسبّب مزيدٍ من القتل بين المدنيين، هنالك آخرون، خصوصاً من مؤيدي دولة الاحتلال، يتّهمونه بالتقصير تجاهها. وليس المرشّح دونالد ترامب ببعيد عن هذه المواقف، نظراً إلى أنّه طالب بوقف الحرب، وهو ما لا يحبّذه أعضاء اللوبي الإسرائيلي النشط في أي انتخابات أميركية.

في ظل الدعم الأميركي للإسرائيليين في حربهم على الشعب الفلسطيني في غزّة، وفي ظل الإبادة الجماعية الموصوفة التي تقترفها القوات الإسرائيلية في غزّة، يقتصر الضغط الأميركي على الإسرائيليين في طلب تجنيب المدنّيين عمليات القتل، كما يردّدون. وفي المرّة الوحيدة التي رفعت فيها الإدارة الأميركية القلق لديها، رفضت خطط تهجير أهل غزّة، في الوقت الذي رفضت فيه وقف الحرب رفضاً تامّاً. ومع ذلك، يجد الجانب الإسرائيلي هذه المطالب ثقيلة، وربما يعدّها تدخّلاً سافراً في شؤونه. ويحضُرنا هنا ما كتبه وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرّف، إيتمار بن غفير، في يناير/ كانون الثاني الماضي، على منصّة إكس قائلاً: “إنّ إسرائيل ليست نجمة في العلم الأميركي”، وذلك في إطار احتجاجه على انتقاد الأميركيين خطط تهجير الفلسطينيين من غزّة.

وعلى الرغم من الدعم الأميركي، الذي لم يتوقف منذ شنَّ الإسرائيليون حربهم على غزّة، بعد عملية طوفان الأقصى، ومنها أخيراً الصفقة التي تنقل بموجبها الولايات المتحدة إلى الإسرائيليين ألفي قنبلة من نوع “MK84″ التي تزن ألفي رطل، والتي كُشف عنها عشيّة اعتماد مجلس الأمن القرار رقم 2728 لعام 2024، في 25 الشهر الماضي (مارس/ آذار) الذي يطالب بوقفٍ فوريّ لإطلاق النار في غزّة في رمضان، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى أهلها. رغم ذلك، يبدو الإسرائيليون غير راضين عن الأميركيين، وكان الجفاء بين الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس مجلس الحرب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد وصل إلى ذروته عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن المذكور، إذ احتجّ الإسرائيليون لأنّ واشنطن لم تستخدم الـ”فيتو” لنقض القرار، وهو “فيتو” كان سيجلّل الولايات المتحدة بالعار أكثر، لأنّه سيرسِّخ ما بات مسلَّماً به لدى الرأي العام العالمي عن رعايتها الإبادة في غزّة.

وعلى عكس ما درجَ عليه القادة الأميركيون من رفض دعوات وقف الحرب على غزّة، طالب الرئيس الأميركي، جو بايدن، للمرّة الأولى، قبل أيام، نتنياهو بالوقف الفوري للحرب، في اتصال هاتفي بينهما بعد فترة من الجفاء بينهما، جفاءٌ لم يؤثر على تدفّق السلاح والدعم اللوجستي اللازميْن لاستمرار الحرب. وربما كان الأميركيون يحتاجون إلى جريمة من قبيل استهداف سيارةٍ لمنظّمة المطبخ المركزي العالمي الخيرية، وقتل سبعة من موظفّيها، حتى يخرجوا بهذا المطلب، وأضافوا إليه التطلّع إلى رؤية زيادة في وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع وفتح معابر إضافية، هذا الكلام، وهو محرجٌ وخجِلٌ، قاله المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، للصحافيين في إطار تعليقه على ما جاء في المكالمة.

من المرجّح أن يكون بايدن وفريقه قد اقتربوا من المُحرَّمات حين طالبوا بوقف الحرب وتطلّعوا إلى زيادة المساعدات الإنسانية، لأنّ الإسرائيليين عازمون على مواصلة حربهم حتى قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وتجويعهم، وزيادة معاناة المرضى والجرحى منهم، من أجل دفعهم إلى النزوح خارج قطاع غزّة لكي يعيد الإسرائيليون احتلاله واستيطانه. وربما سيصنّفون هذه المطالب جريمةً لا تغتفر، قد يُحاسبون بايدن عليها في صناديق الاقتراع. كما أنّ تصريحات الرئيس السابق، دونالد ترامب، التي تزامنت مع الاتصال بين بايدن ونتنياهو، وغيرها من تصريحاتٍ سابقة، يمكن أن تجلب للرجل غضب الإسرائيليين، وهو الذي عادةً لا يتحسّب لتبعات الكلام الذي ينطقه، إلى حد قوله إنّ إسرائيل في حاجة إلى إنّهاء حربها على غزّة.

وكان ترامب قبل هذه الفترة قد اتهم بعض اليهود أنّهم “كارهون لإسرائيل ولدينهم” لأنهم يصوّتون لبايدن وللحزب الديمقراطي، مع العلم أنّ كثيرين من هؤلاء باتوا يرفضون السياسات الإسرائيلية، وأعلنوا، صراحةً، ما مفاده بأنّ “الحرب على غزّة ليست باسمنا”. كما اتهم ترامب من يصوّتون منهم للحزب الديمقراطي بأنّهم معادون للسامية. إضافة إلى أنه أعلن مرّة أنّ على إسرائيل إنهاء المهمة سريعاً والعودة إلى السلام. وقد كرّر دعوته قبل أيام، مضيفاً إنّه لا يفضّل طريقة إدارتهم للحرب، ما يجعلهم (الإسرائيليين) يخسرون حرب العلاقات العامة ويفقدون الدعم الدولي. أما ما يقصده بإنهاء المهمّة فهو القضاء على “حماس”. وأما السلام فهي كلمةٌ لا تروق نتنياهو، وهو الذي أجمع كثيرون على أنّه يريد الحرب لأنّها سبيله الوحيد للبقاء في موقعه والهروب من المحاكمة التي تنتظره فور خروجه من السلطة، ما قد يجعله يستهدف ترامب بغضبِه. وكان قد وقع خلاف بينهما بعد انتخابات 2020 الرئاسيّة الأميركيّة بسبب دعمه بايدن ضد ترامب، مع أنّ ما قدّمه ترامب لإسرائيل لم يقدمه أيّ رئيس أميركيّ آخر.

على الرغم من كلّ الدعم الذي قدّمه كلّ من ترامب وبايدن، قال أحد الصحافيين الإسرائيليين إنّ الرجلين يديران ظهريهما لإسرائيل. لذلك، لا تبدو إسرائيل ممتنّة لهما، ولا يمكنها أن تكون ممتنّة أبداً، ومن المحتمل لذلك أن توقِع غضبها عليهما، وربما عقابها على الأميركيين جميعهم إذا ما رصدت تقصيراً من أي فردٍ منهم تجاهها. عقاب قد يكون عبر إحداث فوضى في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة هذا الخريف، لذلك قد نشهد فراغاً رئاسياً في أميركا، على غرار الفراغ الرئاسي الذي نشهده في لبنان كلّما اقترب استحقاقٌ انتخابي لهذا المنصب. عندها، سيدفع الأميركيون الثمن، وسيُصبح أيّ رئيس مقبل مجرّد دميةٍ بيد الإسرائيليين، خوفاً على رأسه من عقابٍ إسرائيليّ محتوم إن هو أغضبهم، الغضب الذي هم وحدهم من يحدّد أسبابه ومقاييسه.

————————

استعادة سورية وفلسطين/ فوّاز حداد

09 ابريل 2024

خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة، استعدنا سورية خلال الثورة والحرب التي لم تنته بعد، وذلك في أكثر من حالٍ، سواء في الدمار الهائل الذي لم يدع مدرسة ولا مستشفى أو مسجد من القصف، أو ذلك القدر المُرعب من القتل، مع الاعتقال والتعذيب والتمثيل بالجثث، وكأنَّ الإسرائيليين تعلّموا من النظام السوري أنَّ الإجرام لا حدود له، مع أنه لا ينقصهم عار ولا وصمة.

حربان لم توفّرا النساء والأطفال والكبار في السن، تبدو حصيلتها مُخيفة تضمّ ملايين المعتقلين والشهداء والمحاصرين في الخيام بالبرد والفقر، وإن تميّزت سورية بزيادة كبيرة بسبب طول حرب مستمرة، وعدد لافت من المُغيّبين قسريّاً، الذين لا يُعرف إن كانوا أمواتاً أو أحياءً، استدركت بشهدائها خمسة وسبعين عاماً من القمع الإسرائيلي.

وجه التشابهِ أيضاً: حرب غزّة تُشنُّ بدعم أميركي بالأسلحة والذخائر الأميركية، بينما الحرب السورية بدعم من المليشيات المذهبية الإيرانية والسلاح الثقيل الروسي. وما زالت دول في العالم بينها دول عربية، تناقش حقوق السوريّين والفلسطينيّين، هل يستحقون الحرية؟ يبدو أنهم لا يستحقون العيش، حتّى يستحقوا الحرية.   

لا يمكن لما يُرتكب من جرائم أن يكون ضد الإنسانية إلّا بابتداع مُبررات وذرائع تُبيح هذا القدر من الموت، أي جعل الجنود الإسرائيليّين قادرين على القتل ببلادةٍ دونما إحساس، إلّا بتجريد الفلسطينيّين من الإنسانية لمجرد مطالبتهم بالحق في أراضيهم، وهو ما يتعلّمه الإسرائيليون في المدارس وما تبثّه وسائل الإعلام، وينضح في الخطاب السياسي للحكومة والكنيست بأنَّ الفلسطينيين ليسوا بشراً، وهكذا يسهل قتلهم.

في غزّة لا يعسر على المراقب ملاحظة ما تمارسه “إسرائيل” عمداً من منع وسائل الحياة الضرورية للعيش، وممارسة أسوأ أنواع الإبادة بالقصف والتجويع ومنع المساعدات وحرق المستشفيات وقتل الأطباء والمرضى.

لم يشذّ النظام في سورية عن هذه الآلية الحاقدة منذ عام 2011، وكان في تجريد المتظاهرين الشبّان ومعهم مختلف أنواع المعارضين السلميّين من وطنيّتهم؛ فلم تكن أسلمتهم في مرحلة الثورة إلا لإدراجهم على قائمة الإرهاب، فيصحّ قتلهم واعتقالهم وإعدامهم وتسميمهم بالكيماوي، وتشريدهم وتهجيرهم بالملايين وتدمير بيوتهم ومصادر عيشهم، ذريعةً لإنقاذ الوطن من الفوضى والمؤامرة الكونيّة. هذا ما كانت وسائل الإعلام تلهج به يوميّاً على مدار الساعة.

ما الذي يجعل من جرائم تُعتبر ضدّ التاريخ والمنطق سارية في عصرنا؟ بالنسبة إلى فلسطين، الواضح أنَّ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لا يمتُّ إلى هذا العصر، انتهى مع نهاية الاستعمار، كانت عودته بعدما سقطت فكرة الحق في القضاء على السكّان الأصليين، أو إزالتهم بتهجيرهم من أرضهم. ولم تُخف الصهيونية الهدف الحقيقي من الاحتلال وهو القضاء على الفلسطينيّين أهل البلاد الأصليين.‏

احتاجت الصهيونية إلى مبررات لتكريس الاحتلال، فلم توفّر جهداً ولا أكاذيب للتلاعب بالتاريخ والدين والتراث. لم يعد كافياً، الاستناد إلى “وعد بلفور”، إزاء المقاومة الفلسطينية وعدم قبول العرب بوجودها ككيان غاصب، فنشأت الحاجة إلى تحالفٍ قويٍّ يقف خلفها، فكانت أميركا بالدرجة الأولى، إن سياسياً في مجلس الأمن أو عسكرياً. وسرعان ما تمدّد التحالف وانتشر وضمّ شركات متعدّدة الجنسيات والصناعات العسكرية، ووسائل إعلام كبرى، وأوساطاً أكاديمية مموّلة من مانحين صهاينة، ومساعدات بمليارات الدولارات، عدا الأسلحة، ودعم لا ينقطع.

ليس المشهد في غزّة وعموم فلسطين، قابلاً للفهم على وجهه الصحيح، إلا بالكشف عن دعوى محو الفلسطينيّين أمام العالم؛ سنقتلهم، إن لم يجدوا مكاناً آخر يرحلون إليه. 

بينما في سورية، لم تحدث الثورة تحت تأثير الربيع العربي فقط، كان لها مبرراتها القوية أيضاً، ولم تطالب بإسقاط النظام، إلا بعد اعتماد الحل الأمني والعسكري، لتجنّب القيام بإصلاحات كان الشعب موعوداً بها. تمترس النظام بدكتاتورية تديرها أجهزة الأمن في كلّ خطوة تحت حماية جيشٍ عقائديٍّ، لن نأتي على ذكر الطائفية البغيضة التي جنّدت مليشيات وشبّيحة ورجال أعمال ومثقّفين انتهازيين وأجهزة الإعلام، ما سوّغ إطلاق العنان للاعتقالات والمداهمات والإعدامات، وشنّ حرب على الشعب، كانت خلالها مليشيات إيران المذهبيّة، ذراعه الطويلة في القتل والحصار والتجويع والدمار.

اليوم سورية تحت خمسة احتلالات: بلد يعاني من الخراب والشبيحة والفساد والمخدرات والغلاء الفاحش. نصف الشعب بين نازحٍ ولاجئ، وسجناء في المعتقلات، محتجزون تحت التعذيب منذ ما يزيد على عقد. بلد غدا ساحة حرب بين إيران و”إسرائيل” والأميركان. بلدٌ لا يتقدّم خطوة في كلّ يوم إلّا نحو الهاوية. 

ليس كلاًما يقال… سورية وفلسطين بحاجة إلى العرب. أمّا كيف يساعدونهم، فليس الأمر سراً. الحكومات العربية تركت فلسطين وسورية لإيران. إيران تستثمر في القضية الفلسطينية على حساب السوريّين. إذا أراد العرب تفكيك الرابط بينهم، فالعنوان الصحيح ليس بإنقاذ النظام، بل بمساعدة السوريّين، وليس بالتطبيع مع “إسرائيل”، بل باستعادة الشعب الفلسطيني إلى العرب. 

* روائي من سورية

—————————–

من خان شيخون إلى غزّة… مسارُ القتلِ لا ينقطع/ حسان الأسود

07 ابريل 2024

مرّت يوم الخميس، 4 إبريل/ نيسان، الذكرى السابعة للمجزرةِ التي ارتكبتها قواتُ نظامِ بشّار الأسد في خان شيخون عام 2017، وراح ضحيتها أزيد من مائةِ شخصٍ أغلبهم من الأطفال، وما يقرب من أربعمائةِ مُصابٍ لا يزال بعضهم يعاني جرّاء إصابته تلك. وقد سبقَ لمنظمّاتٍ دوليةٍ عديدة، في مقدّمتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (OPCW)، أن أكّدت مسؤولية سلاح الجو السوري عن المجزرة، بل حدّدت أسماء الضبّاط الذين شاركوا فيها. وهي تُضاف إلى قائمةٍ كبيرةٍ تضمّ ما لا يُعدّ من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموثّقة في سورية خلال السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، حيث جرى توثيق استخدام الهجمات الكيماوية المدمّرة والمحظورة دوليًا لما لا يقل عن 336 مرّة ضد الشعب السوري منذ عام 2011 فقط، وما زال الحبل متروكًا على غاربه للمجرمين.

وبالاستناد إلى قواعدِ القانونِ الدولي ومجموعةِ القرائن والأدلّة المتوفرة، يمكن بشكلٍ أو بآخر إثبات سلسلة الأوامر وتسلسل القيادة حتى يصل التحقيق الجنائي الدولي، إن أُجري مستقبلًا، إلى رأسِ نظامِ الحكم في سورية بشّار الأسد. الأمر ذاته يمكن الوصول إليه ببساطة في ما يخصّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبار قادة دولته السياسيين والعسكريين، هذا طبعًا إذا تجاوزنا نظريًا مسألة الفيتو الأميركي في مجلس الأمن من جهة، ومسألة الانحياز وعدم الحياد في القضاء الجنائي الدولي من جهة ثانية. ذلك الانحيازُ وتلك اللااستقلالية ثبتت من خلال محاكمة قَتَلَةِ رفيق الحريري ورفاقه باعترافات وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال أليو ماري ذاتها، حيث أكّدت في مقابلة تلفزيونية تعرّض المحكمة لضغوطٍ شديدة أدّت إلى استبعاد أسماء المتوّرطين السوريين من القرارِ النهائي للمحكمة، ما مكّن نظام الأسد من الإفلات من إدانة دولية مهمّة في مرحلة متقدّمة من مراحل إجرامه، بوصفه نظام حكمٍ يقمع شعبًا يحكمه بطريقةٍ غير مسبوقة.

بعد “طوفان الأقصى” وسقوط محدّدات السياسة الدفاعية الإسرائيلية الأساسية، أي الإنذار المبكّر المستند إلى التفوّق التقني، والردع المرعب، وأخيرًا الانتصار الساحق والسريع في أيّ حرب، تغيّرت مقارباتُ جميع الأطراف الفاعلة في المشهد الدولي في ما يخصّ المنطقة برمتها. ظهرت معادلاتٌ جديدة في موازين القوى، وتبيّن دور المليشيات الكبير في زعزعةِ الاستقرار الذي ظنّ الجميع أنّه نهائي وفق تركيبات الدول والأنظمة المتحالفة. وبغضّ النظر عن الخسائر الهائلة في الأرواح البشرية للمدنيين العزّل من شعوب المنطقة، الذين هم بغالبيتهم الساحقة من العرب المسلمين، والتي لا يأبه لها أيٌ من أطراف الصراع، وبصرفِ الفكر عن حساب الفَوَات المحقّق في العمران بمفهومه الخلدوني، فإنّ الكثير تغيّر الآن بغيرِ رجعةٍ. فمع التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير الذي تجسّد بقصفِ مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ورغم أنّ الردّ الإيراني سيكون باهتًا جدًا كالعادة كما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني، فإنّه صار من اللازم توقّع تصعيدٍ آخر في مناطق ثانية مثل لبنان أو سورية أو الأردن.

وكما أشار الباحث حسن أبو هنيّة في إحدى مقالاته، أيقظت الحرب الدائرة حظوظ إعادة تأهيل الحركات الجهادية في المنطقة والعالم. ثمّة استخدامٌ ممنهج من جميع القوى الدولية لموضوع الإرهاب والتطرّف باعتبار ذلك أحد عناصر الضبط السياسي لاستحقاقاتٍ داخلية لدى كلّ دولة أو مجتمع على حدة، وقد تختلف من حيث التفاصيل بين استحقاقات ناتجة عن الاقتصاد أو الانتخابات أو التنافس البيني، لكنها تتفق في الجوهر بأنّها تستبعد الضغوط الإنسانية التي بدأت تدرك حجم تشابك مصالح قوى رأس المال المتحكّمة بالعالم بشكلٍ أو بآخر. تختلف المشاريع بين أميركا والصين والهند وروسيا وأوروبا وغيرها من الدول، لكنها في النهاية صراعٌ على الموارد والأسواق والنفوذ، وهو صراعُ رأس المال العابر للجنسيات والقوميات والعقائد، فهل يُخفى عن أحدٍ مثلًا حجم تشابك الاقتصاديْن الصيني والأميركي وحجم تعقيدات المنافسة بينهما في الوقت نفسه!؟

لم تَعدْ إسرائيل حجر الزاوية في تأمين المصالح الأميركية والغربية في المنطقة عموماً، بل ظهرت بحجمها الطبيعي، وعاد الناس إلى رشدهم وتبيّنوا أنّ هذا البعبع، الذي ما فتئ يتضخّم في المخيال العالمي حتى كاد يصبح أسطورة لا يمكن دحرها أو زعزعتها، هو كيانٌ هشٌّ فعلًا، ولا يقوى على الاستمرار لولا أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها البريطانيين والألمان وغالبية الأوروبيين الغربيين قد أسندوها بما لا يمكن نكرانه، ماديّاً وسياسيّاً ومخابراتيًا، وحتى عسكريًا. في المقابل، ظهرت هشاشة بنى الدول الإقليمية في المنطقة، خصوصاً منها الدول العربية، وظهرت أيضًا بوضوحٍ كبيرٍ هشاشة مشاريع إيران التوّسعية في المنطقة، فرغم كلّ الاستثمار في القضيّة الفلسطينية المحقّة واللعب على الحبال والسير على طريق القدس الذي وصل إلى جميع مدن العرب تقريبًا إلا القدس، إلا أنّ وعي الناس باتَ أكثر جذريةٍ في الفرز بين الظاهر والباطن. يدرك الناس، بفطرتهم السليمة، الفرق بين قضيّة فلسطين (والشعب الفلسطيني والحقوق المشروعة لهم) الاستخدام السياسي لهذه الحقوق من قبل جميع الأطراف المتصارعة. هل يتصوّرنّ عاقلٌ أنّه بقي من السوريين من لم يدرك حقيقة موقف نظام الأسد من فلسطين وقضية شعبها مثلًا؟ ينطبق الأمر على العديدِ من الناس من شعوب الدول العربية وشعوب المنطقة.

في عجالةٍ، يمكن القول إنّ الثابت ليس واحداً، وإن المتغيّرات متعدّدة كذلك. من بين بعض الثوابت الأكثر إيلامًا استمرار القتل والتدمير، واستمرار الإفلات من العقاب، واستمرار سيادة مصالح الدول بما تمثله من تعبير عن سيادة مصالح رأس المال على حساب مصالح البشر. ومن بين بعض المتغيّرات الأقرب احتمالًا للتطوّر الصحوة العالمية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، والتضامن الشعبي المتصاعد مع القضية الفلسطينية، بينما بدأت تذوي موجات التعاطف مع السوريين وعذاباتهم. ثمّة جهدٌ كبير مطلوبُ من الفلسطينيين لتعزيزِ المتغيّرات الجارية لصالحهم، ومثله، في المقابل، مطلوبُ من السوريين لتجديد الاهتمام بقضيتهم، ويمكن بجميع الأحوال تنسيق جهود الطرفين باعتبار وحدة المصلحة في قطعِ مسارِ القتل بينهما، إن لم نقل وحدة الدم والمصير والألم والرجاء بمستقبلٍ أفضل.

——————————-

هل ما زالت صفقات السلام واردة؟/ فاطمة ياسين

07 ابريل 2024

تقول الإدارة الأميركية إن إنهاء حالة الحرب الدائرة في قطاع غزّة تتطلب خطة سلام تشمل كل الفلسطينيين، وليس سكان القطاع فقط، مع بعض العرب المتردّدين أو المنتظرين، ويمكن لخطّة ما أن تثبت وقف إطلاق النار وتنهي حالة العداء القائمة بين بعض الأطراف العربية وإسرائيل. وقد صرّحت الإدارة الأميركية بوضوح أن أساس خطّة كهذه هو حلّ الدولتين، وتعزّزت فرصة هذا الحلّ بحضوره في قائمة الشروط القصيرة التي تطلبها الرياض للاعتراف بإسرائيل، وقد كانت هذه الأفكار جزءا أساسيا من حوارات وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، في السعودية. يقاوم نتنياهو، بالطبع، هذا الحلّ بضراوة شديدة وصلت إلى حد وقوفه في وجه الولايات المتحدة بعناد وصلف، فقد وجّه إليها انتقادات شديدة بعد امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي يطالب بوقف النار، رغم أن صياغته شديدة الغموض، تُقرّر وقفا مؤقتا لإطلاق النار، ولم يؤثر القرار فعليّاً على عمليات اسرائيل التي تجهز نفسها لما تظن أنه الهجوم على رفح الذي تقول إنه سيؤدّي إلى الخلاص من حركة حماس نهائياً.

بعد كل اهتزاز سياسي كبير في الشرق الأوسط يجري التنادي إلى إقرار حلٍّ نهائي للتخلص من الصداع المزمن الذي يعصف بالمنطقة، والذي يتكرّر منذ قيام دولة إسرائيل، من دون إقرار هذا الحل حتى اللحظة، ولكن الجدير بالاهتمام أن الحلول المطروحة تأخذ في اعتبارها الظروف الراهنة وظروف المرحلة التي انقضت ما بين الأزمة والتي تليها، وليست كل هذه الظروف في مصلحة العرب ولا الفلسطينيين بأي حال، وقد بدأت الحلول بقرار التقسيم الذي اقتطع أكثر من 55% من الأراضي ومنحها للإسرائيليين. والمشكلة الكبرى حدثت في الحرب التي أعقبت القرار بعد أن شن العرب هجوما على المناطق الممنوحة لإسرائيل، فكانت النتيجة فقدان نصف الأراضي التي منحها القرار للفلسطينيين، وسيطرة الأردن ومصر على كل من الضفة الغربية وقطاع غزّة على التوالي٬ وتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين.

أصدر مجلس الأمن بعد هزيمة 1967 قراراً رقمه 242 لحل القضية، آخذا في الاعتبار نتائج الحرب نفسها، ويتألف الحل من بندين رئيسيين: انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الصراع الأخير، وإقرار حالة من السلام بين بلدان المنطقة بمعاهداتٍ، فيما عرف حينها بمقايضة الأرض بالسلام. قبلت بعض الدول العربية القرار ورفضته دول أخرى، وكان يجب أن تقوم حرب أخرى في عام 1973، ليُقبل من العرب بعد أن عزّز “242” قرارٌ آخر أخذ رقم 338 نصَّ على وقف الحرب والبدء فورا بمحادثات سلام، عُقد مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر/ كانون الأول 1973 ولم تحضره سورية، وكان مقدمة لاتفاقيات عقدت بين مصر وإسرائيل بعد خمس سنوات. عقد المؤتمر التالي في مدريد في 1991 بعد حرب الخليج الثانية، حضرته سورية هذه المرّة وحضره الفلسطينيون (في وفد مشترك مع الأردن)، وتكرّرت معظم الوجوه، وكان هذا المؤتمر بذرةً نجمت عنها اتفاقيات المبادئ أو اتفاق أوسلو الموقّع عام 1993، وتبعه في 1994 توقيع اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، وميّز هذا الاتفاق إعلان رئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي “انتهاء عصر الحروب”، ورد شمعون بيريز عليه بأن وقت السلام قد حان.

لم ينته عصر الحروب، وكان الحديث عن السلام مشوّشا، فاليوم بعد مرور 28 سنة على مقولة المجالي، تدخل “حماس” المعركة وتردّ عليها إسرائيل بهجوم معاكس تجتاح فيه قطاع غزّة. ويتم التنادي الآن، كما في كل مرّة، إلى حلّ جديد. أعقب كل معركة مؤتمر، وبعض اتفاقيات سلام، بين بعض العرب وإسرائيل، ولن تشذّ هذه الأزمة عن السياق المعروف، فهي تشارك الأزمات التي سبقتها في عناوين كثيرة، ومن المرجّح أن حلّا نهائيا لن يجري إقراره، ولكن الأكيد أن ثمّة اتفاقيات جديدة سيجري توقيعها.

————————

ليّ أذرع بين بايدن ونتنياهو/ علي العبدالله

03 ابريل 2024

وجد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسَه عالقاً في مأزقٍ دقيقٍ وحرجٍ على خلفية دعمه الكبير حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فقد خرجت تظاهرات ضخمة في المدن الأميركيّة وفي معظم الدول الأوروبية، ودعت الأمم المتّحدة ودول كثيرة إلى هُدَنٍ إنسانيةٍ يلحقها وقف دائم لإطلاق النار، ووقف التيّار التقدّمي في حزبه الديمقراطي، بمن فيهم يهود أميركيون تقدّميون، ضد هذه السياسة. من جهة، ضغط العرب والمسلمون الأميركيون في الانتخابات التمهيدية لتغيير هذه السياسة بالإعلان عن عدم الالتزام بالتصويت له. ومن جهة ثانية، تحرّك اللوبي الصهيوني والحزب الجمهوري مطالبين باستمرار دعم الكيان الصهيوني وزيادته، لتحقيق أهداف الحرب بسحق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبقيّة الفصائل المشاركة في الدفاع عن قطاع غزّة. وهو (بايدن) على أبواب انتخاباتٍ رئاسيّة صعبة ومقلقة، له ولحزبه.

اعتمد بايدن تكتيك إرضاء الطرفين لاحتواء مفاعيل ضغوط الرأي العام المحلي، وامتصاص غضب التيار التقدّمي في حزبه، وتمرّد العرب والمسلمين الأميركيين التصويتي، بمواصلة تبنّي هدف الكيان الصهيوني المتمثّل في سحق “حماس”، ورفض الدعوات إلى وقف إطلاق النار، ومواصلة تقديم الدعم العسكري والمالي والسياسي للاحتلال، من جهة، وبالدفع نحو اتفاق على صفقةٍ لتبادل المحتجزين الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، وهدنة طويلة تغطّي شهر رمضان، تقود إلى وقف الحرب وتطبيق حلّ الدولتين، وزيادة وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين، من جهة ثانية. غير أنّ تكتيكه تعارض واصطدم مع مصلحة حليفه اللدود، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يسعى هو الآخر للسيطرة على تفاعلات إسرائيلية ضد إدارته الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي قاد، وفق معارضيه، إلى تقوية حركة حماس على حساب السلطة الفلسطينية، وضد إدارته ملفّ المحتجزين، وإفشاله المساعي الإقليمية والدولية للاتفاق على صفقة تبادل تعيد المحتجزين لدى “حماس” والفصائل الأخرى أحياءً، وتنهي معاناة ذويهم، واحتوائه الضغوط الأممية والدولية المطالبة بوقف إطلاق نار وتسهيل دخول المساعدات، وإصراره على مواصلة العدوان على قطاع غزّة، بما في ذلك خطط الهجوم على رفح، رغم التحذيرات الأممية والدولية، تحقيقاً لما يسمّيه “النصر المطلق”، باعتبار أنّ مواصلة الهجوم وسيلة ناجحة لتفكيك ما تبقى من كتائب “حماس” (يدور الحديث عن أربع كتائب)، وتحرير المحتجزين الإسرائيليين.

لقد وضعت الخيارات السياسية والميدانية المتباينة لكل من بايدن ونتنياهو الحليفين الأميركي والإسرائيلي في مواجهة بعضهما بعضاً، وزادت المصلحة الشخصية لكلّ منهما من حساسية الموقف وحدّته، في ضوء ارتباط نتائج المواجهة بتحقيق أو إجهاض تطلّعات كلّ منهما نحو الفوز بالانتخابات الرئاسية بالنسبة للأول، والبقاء أطول مدّة في رئاسة الوزارة بالنسبة للثاني، كي يتحاشى المحاكمة بتهمة الفساد وتلقّي الرِشَى، وسعى كلّ منهما إلى الالتفاف على البُعد الشخصي للمواجهة. أبلغ بايدن نتنياهو أنّه لا يعمل على إسقاطه، وأعلن نتنياهو، ردّاً على اتهامه بالعمل على إسقاط بايدن في الانتخابات الرئاسية، أنه لا يقصد خوض معركة مع بايدن. وفي إطار عمله من أجل تحقيق نتائج عملية في لعبة ليّ الأذرع الدائرة، لجأ بايدن إلى مواقف وإجراءات متنوعة لإضعاف موقف نتنياهو ودفعه إلى التصرّف وفق التوجيهات الأميركيّة السياسية والعسكرية، من دعوة الوزير في مجلس الوزراء الحربي، بني غانتس، لزيارة واشنطن للتباحث معه في الحرب على الصعيدين، السياسي والعسكري، إلى المطالبة بتعهدٍ إسرائيليٍ مكتوبٍ بعدم استخدام الأسلحة الأميركيّة بما يتعارض مع القانون الدولي، والتلويح بفرض عقوبات على شركة فينكلستين ميتالز، التي تشارك في تصنيع أجزاء مخصّصة لنظام القبة الحديدية، وفرض عقوبات على قادة مستوطنين، والبدء بإنزال مساعدات غذائية جواً للفلسطينيين في قطاع غزّة، والحديث عن إقامة رصيف بحري مؤقّت على شاطئ غزّة لاستقبال المساعدات عبر البحر، وتسليط الأضواء على المجاعة في القطاع، وتكرار الإدارة التأكيد على رفضها إعادة احتلال القطاع وتقليص مساحته ورفضها تهجير سكّانه، والامتناع عن التصويت في مجلس الأمن على القرار رقم 2728، ولفتت سفيرة واشنطن لدى الأمم المتّحدة، ليندا توماس غرينفيلد، الأنظار بتصفيقها بعد اعتماد المجلس للقرار المذكور، وكأنها أرادت إثارة جلبة تجذب الاهتمام بالامتناع عن التصويت ودلالاته السياسية. كما ربطت الإدارة الأميركيّة بين وقف الحرب وحل الدولتين، وصياغة نظام إقليميّ جديدٍ على أساس إقامة دولة فلسطينية من جهة والتطبيع السعودي مع إسرائيل، وإنشاء جبهة ضدّ إيران، واعتبار المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية غير متوافقة مع القانون الدولي من جهةٍ أخرى، مروراً بالتلويح بوقف تزويد إسرائيل ببعض صنوف الأسلحة، وفتح ملفّ الأسلحة النووية الإسرائيلية عبر المطالبة بإجراء نقاش حولها، ما ينهي سياسة الغموض المعتمدة. وجاءت تصريحات زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور، تشاك شومر، ضد نتنياهو، لتستكمل التقريع والسجال القاسي، فقال إنّ نتنياهو “ضلّ طريقه”، ووصف رفضه حلّ الدولتين بأنّه “خطأ فادح”.

لم يتأخّر ردّ نتنياهو على مواقف بايدن وإجراءاته، تمثّل ردّه الأقوى على دعوة بايدن إلى حلّ الدولتين في تصويت الكنيست، وبأغلبية كبيرة، ضد قيام دولة فلسطينية، وفي طرحه وثيقته عن “اليوم التالي”، التي انطوت على إنشاء منطقة عازلة، ما يعني تدمير منازل الفلسطينيين في هذه المنطقة وتشريد سكّانها بشكل دائم، وتقليص مساحة قطاع غزّة، واحتلاله فترة غير محدودة، وتفكيك وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتّحدة (أونروا)، وإقامة إدارة مدنية فلسطينية في القطاع يتولّاها موظّفون غير مرتبطين بحكومة حركة حماس، إلى جانب إشراك دولٍ عربيةٍ في إعادة إعمار قطاع غزّة. وضعت الوثيقة الإدارة الأميركيّة في مأزق، فقد اعتبرت لُغماً في طريق المحادثات التي تجريها الإدارة الأميركيّة حول “اليوم التالي”. وكانت خطوات نتنياهو التالية رفض الدعوات لإنهاء الحرب عبر صفقة لتبادل المحتجزين والأسرى، وصولاً إلى وقف الحرب واستخدام كلّ الطرق لإجهاض المفاوضات حول الصفقة، وجاء ردّه على امتناع الولايات المتّحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن بإلغاء زيارة وفد رسمي إلى واشنطن لمناقشة الهجوم المحتمل على رفح. حتى حين تراجع عن قراره، أرسل إلى واشنطن مبعوثَيْن قريبَيْن منه سياسياً، ومُتمسكَيْن مثله باجتياح رفح، وهما وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي. اعتبر معلّقون تشكيلة الوفد “عقاباً حقيقياً فرضه نتنياهو على البيت الأبيض”. كما وظّف نتنياهو توسيع الهجمات على مواقع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، في سورية ولبنان، في الضغط على الإدارة الأميركيّة لوضعها أمام بديلين خطيرين: اجتياح رفح أو حرب شاملة مع حزب الله.

لن تتكشّف نتائج عملية ليّ الأذرع بين بايدن ونتنياهو قريباً، فالخلاف بشأن ملفات ساخنة؛ وقف الحرب، واجتياح رفح، تخضع لحسابات وتوازنات دقيقة، فموقف بايدن من تفكيك حركة حماس متطابقٌ مع موقف نتنياهو، وإن كان يرى إمكانية تحقيق ذلك من دون اجتياح رفح، بتطويقها وتنفيذ عمليات خاصّة وخاطفة ضد قيادات “حماس” وكوادرها، وهو غير قادر على الضغط على نتنياهو بقوّة للتخلي عن مخطط اجتياح رفح، لأنّه يعلم أنّ الأخير يحظى بدعم قوي من الحزب الجمهوري ومن بعض الديمقراطيين، كما يعلم أنّ من غير المُرجّح أن يعاقب الكونغرس إسرائيل حتى لو قتل نتنياهو آلاف المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وأنّه وضع نفسه بامتناعه عن التصويت في موقف أكثر حرجاً، حين رفع بهذا القرار سقف التوقّعات، فسيكون لتمرير القرار من دون تنفيذه نتائج سياسية سلبية عليه، وموقف نتنياهو المتمسّك بمواصلة الحرب واجتياح رفح مُنسجم مع الرأي العام الإسرائيلي، الذي ما زال يعيش تحت هول صدمة “طوفان الأقصى” ويدعو إلى الانتقام. نتيجة لذلك، ستضطر الإدارة الأميركيّة للموازنة بين رغبتها في إنهاء الحرب واستعادة المحتجزين وتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين من جهة ورغبتها في هزيمة “حماس” من جهة أخرى، وفق المحلّل السياسي والعسكري في معهد هدسون، ريتشارد وايتز. وإصرار نتنياهو، المدعوم من الرأي العام الإسرائيلي، على اجتياح رفح، رغم معارضة بايدن، سيعزّز موقفه بين مؤيّديه وفي الشارع الإسرائيلي، لكنه سيخسر معه تأييد الإدارة الأميركيّة والشركاء الأوروبيين والعرب المطبّعين مع إسرائيل، من دون استبعادٍ لاحتمال تقليص الدعم العسكري من الحلفاء، إذ تكررت الدعوات الأوروبية لوقف بيع أسلحة لإسرائيل، وسرّبت الإدارة الأميركيّة أنباءً عن عدم تلبية كل طلبات وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، من الأسلحة، وهو ما سيؤثر على قوة الجيش الصهيوني القتالية، ويضعف قدراته الردعية، خاصّة وأنّ النقاشات مع غالانت عن رفح لم تصل إلى نتيجة واضحة ومُرضية لواشنطن، ما استدعى قرارها إرسال وفد من جنرالات أميركيين إلى الكيان الصهيوني للبحث مع قيادة الجيش عملية رفح، فاجتياح رفح مرتبطٌ بشكل مباشر بموافقة الإدارة الأميركيّة، وتنفيذه رغم معارضتها سيطرح احتمال تراجع دعمها لإسرائيل.

ختاماً، سعي الإدارة الأميركيّة إلى دفع نتنياهو إلى قبول تصوراتها لـ”اليوم التالي”، والعمل مع آخرين لإطاحته في حال لم يتحقّق ذلك، لا يعني أنّ توجهاتها تصبّ في صالح الفلسطينيين، فتصوراتها للحل النهائي ضبابية، وتحقيقها ليس أكيداً.

——————————

لحظة السكون العربية المرعبة/ غازي دحمان

02 ابريل 2024

لا صوت يعلو على صوت الصمت والسكون في العالم العربي، لا إبادة غزّة ولا حرب الغلاء وحروب تهشيم الطبقات المتوسطة والتنكيل بالطبقات الفقيرة، أو تنمّر أجهزة المخابرات وحروبها العبثية على محكومي رؤسائها، الذين يجري تصنيفهم، جملة ومفرّقا، في خانة الخطر المحتمل والدائم، طالما أن بعضهم فكًر، في يوم، التمرّد على هؤلاء وخلع حمولاتهم الأمنية والعسكرية.

لا صوت يرتفع في الشوارع العربية سوى أصوات بائعي الخضار في الأسواق الشعبية، وضجيج السيارات، واللذين لولاهما لسمعنا صوت العصافير التي تزقزق في سماء القاهرة في شوارع الدار البيضاء، على مبدأ أن اهتزازات جناح الفراشة في طوكيو قد تتولّد عنها موجات ارتدادية في سماء نيويورك، فلن تأتي السماء العربية ببجعات سود بعد تلك الأيام، وكل البجع القادم سيكون أبيض.

أثبتت حرب غزّة، وسياسات التنكيل التي تمارسها إسرائيل على الهواء مباشرةً ضد أطفال غزّة ونسائها وصولا إلى قتلهم جوعا وعطشا، أن الشوارع العربية عادت إلى النوم العميق على سرير اللامبالاة، وأن حكام القصور الذين كانوا ينامون بأحذيتهم العسكرية ويتأبّطون مدافعهم الرشاشة، عاودوا لبس ملاءات النوم الحريرية، بعد أن أغرقوا شعوبهم بالتلهّي، إما من خلال الحكم عليهم بالأشغال الشاقّة، حيث يجرون ولا يحصَلون قوت يومهم في دائرة لا تتوقف وتستهلك أعمارهم وتُقصي أحلامهم وآدميتهم، أو عبر الجري وراء الاستهلاك المنفلش وغير القابل للإشباع الكلي والنهائي.

في العالم العربي، لم تعُد ثمّة رهانات على حلولٍ جماعية، حلولٍ تصنعها الشعوب، من نوع فرض الضغوط على الحكّام لاتخاذ سياساتٍ تخدم الحالة العامة وتغير المسارات المنحرفة التي تسير بها بعض نخب الحكم التي تدمّر كل إمكانيات النهوض والتطور من دون أي اعتبار لهؤلاء الذين تجري سرقة حاضرهم ومستقبلهم، ومن دون الالتفات إلى معاناتهم الحاضرة التي تصل في بعض البلدان العربية إلى حد الموت جوعا وإرهاقا نتيجة استنفاد طاقاتهم واليأس من إمكانية حصول أي تغيير في أوضاعهم.

الشاطر من يدبر نفسه، هذه الإستراتيجية الأكثر رواجا في عدة بلدان عربية، وتدبير الأمور يتم من خلال التكيّف مع الأمر الواقع والتعايش معه وتحويله إلى فرصة، وبذلك يتم إلغاء أي تفكير عام وإخراجه نهائيا من دائرة الاحتمال، على اعتبار أنه ضربٌ من الجنون وعمل غير منطقي ولا عقلاني، بالإضافة إلى عدم جدواه، فهو يعني بالتطبيق الفعلي انتحاراً لما ينطوي عليه من مخالفةٍ للسائد وللمكوّنات التي توفّرها اللحظة.

تدبير الأمور أيضا يعني تعلَم تقنيات معينة واختراع أدواتٍ جديدةٍ ومن خارج الصندوق، نظراً إلى ندرة الفرص والتنافس الشديد على الحصول عليها والاستمتاع بميزاتها، وتدبير الأمور في النهاية راحة للحاكم وانكفاء للشعب عن ممارسة السياسة، ما دامت السياسة لا يأتي من ورائها غير المعتقلات والتعذيب والتغييب في السجون والاضطهاد والتضييق الاقتصادي.

في إطار استراتيجية تدبير النفس، برزت ظاهرة إرسال الأولاد الصغار إلى أوروبا، حيث يركبون المخاطر قادمين من سورية والعراق ومصر والمغرب وتونس وغيرها من الدول العربية، يبيع ذويهم أملاكهم، وأحيانا أعضاء من أجسادهم، ويصرفون كل ما ادّخروا لأيام الشدًة، ليرموا أولادهم في عرض البحر، وإن نجوا فهم معرّضون للتشرّد في أوروبا وعيش سنوات صعبة تنتهي أحيانا بالإدمان أو يصطادهم تجّار المخدّرات ويقضون أعمارهم في السجون، والمشكلة أن غالبية هؤلاء يأتون من الأرياف الفقيرة أو من أحياء العشوائيات في المدن، أي من بيئاتٍ محافظة، ولم يسبق لهم اختبار نمط الحياة الأوروبي المنفتح.

لا خيارات وردية أمام غالبية الشعوب العربية، ولا بدائل غير ما يرسمه الحاكم من إستراتيجيات لإلهاء شعبه أو إقصائه عن الشأن العام، والمسارات والطرق التي يرسمها صنّاع قرارات مهووسون بالبقاء في الحكم، ليست سوى مسارات زلقة ومسارب خطرة، كثيرا ما تظنّ الشعوب أنها طرق سلامة، ولا تستشعر مخاطرها أو تدركها سوى بعد فوات الأوان، فالأهل الذين يدفعون أبناءهم إلى بلاد الآخرين، يعتقدون أنهم يستثمرون في مستقبلهم، قبل أن يكتشفوا أنهم اشتروا الشقاء لأبنائهم، وربما الدمار الذي لا إصلاح بعده.

السكون العربي الحالي من أشكال السرطان الذي يدمَر مستقبل الشعوب العربية، حالة الإغراء التي ينطوي عليها والمتمثّلة بالسلامة، تخبئ في طيّاتها مخاطر لا تعدّ ولا تُحصى، فالمكاسب المتحقَقة التي غالبا ما يجري احتسابها في الحفاظ على الحياة بدل الموت والعيش بحرّية بدل التعفَن في السجون، تصبّ، في الحقيقة، في رصيد الأنظمة الحاكمة، في إطالة بقائها واستمرارها في سياسات التخريب والتدمير والاستفراد في السلطة، وتخصِم من أسهم الشعوب بناء مستقبلها وتأسيس حياةٍ كريمةٍ ومريحة.

ليس الهدف من هذه المقالة الدعوة إلى مواجهةٍ انتحاريةٍ مع قوى الحكم المتنمّرة في العالم العربي، بقدر ما هي دعوة إلى نخب هذه الشعوب رفض الهزيمة والبحث عن استراتيجيات لتغيير هذه الأوضاع التي لم تعد الشعوب قادرةً على تحمّلها، بل تنطوي على مخاطر مؤكّدة على مستقبل الأجيال الصاعدة، في ظل انهيار مؤسّسات الدول وضياع ثرواتها، فلا الهروب إلى الخارج حلّ، ولا استراتيجيات تدبير الحال والتكيّف مع الواقع، مهما كانت طبيعته، حلٌّ قابلٌ للدوام والتعايش معه.

——————————-

الكيان الصهيوني وخرافة القوّة/ عبد الجبار عكيدي

01 ابريل 2024

منذ بداية تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، روّج قادته عدة خرافاتٍ تحدّث عنها بعض من يُطلق عليهم عدة باحثين إسرائيليين، من أبرزهم إيلان بابيه، صاحب كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، وتحدّث عن عشر خرافات إسرائيلية رئيسية، جرى ترويجها للعالم عن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.

ومن أهم ما روّجته إسرائيل زعمها أنها خاضت حرب 1948 أمام ستة جيوش عربية مدجّجة بالسلاح والعتاد والرجال، فيما هي لا تمتلك سوى عدد محدود من الضباط والجنود، استطاعت أن تهزم بهم كل تلك الجيوش، في تكريس لإحدى أكبر الأكاذيب والخرافات بأن أقلية يهودية شجاعة تفوّقت على أكثرية عربية. فالوثائق التاريخية التي كشف عنها باحثون وكتّاب إسرائيليون وبعض ضباط الجيش الإسرائيلي الذين شاركوا في تلك الحرب، ومنهم الباحث مردخاي بار أون الذي شارك في حرب 1948 ضابطاً، وفنّد تلك الأكاذيب في دراسة بعنوان “داود مقابل جوليات” أكد فيها أن عدد الجيش الإسرائيلي كان حينها ثلاثة أضعاف الجيوش العربية المحاربة، حيث كان يقدّر عدد الجيوش العربية آنذاك بـ35000، فيما كان عدد جيش الاحتلال المتمثل في عصابات الهاغانا ما يقارب 107 آلاف جندي، كان جزء منهم ضمن الفيلق اليهودي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، وهم متمرّسون وأصحاب خبرة قتالية عالية ومزوّدون بأحدث الأسلحة التي استخدمتها الجيوش الأوروبية في تلك الحرب، وبالتالي، لم يكن يوجد حينها أي توازن في القوى بين جيش الاحتلال والجيوش العربية التي دخلت الحرب، وبوجود خذلان وتواطؤ وخيانة من كثير من القيادات السياسية والأنظمة والحكام وتبعيّتهم وولائهم للغرب.

تؤكّد هذه الكذبة الكبيرة اليوم أن هذا الجيش الذي بنى نفسه على أسطورة أنه لا يُقهر، وخاض حروباً أخرى، مثل حرب 1967 التي كرّست هذه الخرافة، وأنه قادرٌ على أن يتوسّع ويهزم كل الجيوش العربية أمامه، وهذه أيضاً كانت إحدى المغالطات الكبيرة التي جرى ترويجها، إلى درجة أن جزءاً كبيراً من النخب العربية والمثقفين العرب انطلت عليهم، وأصبحوا مقتنعين بها، وبأن هذا الجيش لا يمكن مواجهته، وهذه القناعة أسست لفكر الهزيمة الذي تمحورت ردّات الفعل حوله باتجاهين: يدعو الأول إلى مقاومة هذا الكيان ومواجهته، ودعمت هذا الاتجاه جهات ودول عربية، وأفضى إلى ولادة حركة فتح التي تبنّت، مع فصائل فلسطينية أخرى، العمل العسكري ضد إسرائيل. الاتجاه الثاني الذي كان أيضاً مدعوماً عربياً يقول إن إسرائيل لا يمكن مواجهتها عسكرياً، وبدأ يروّج فكر التسوية والاستسلام وإيجاد حلول غير عسكرية معها.

أما حرب 1973 فقد اتضح أنه لم يكن الغاية منها حرب إسرائيل، باعتبارها خطراً وجودياً، بل كانت حرباً استخدمها النظامان السوري والمصري باعتبارها حرب تحريك المياه السياسية وتحسين مواقع الطرفين في المفاوضات مع إسرائيل. ورغم بسالة الجندي، السوري والمصري والعراقي والمغربي والفدائيين الفلسطينيين المشاركين فيها، إلا أنه فعلياً، وبسبب الاعتبارات السياسية لم يتم استثمار بعض التقدّم والانتصارات العسكرية فيها، فقد جاءت اتفاقيات فصل القوات لمصلحة إسرائيل في هذه الحرب بصورة قاطعة، فكانت هي المستفيد الأكبر منها ميدانيا، بل وضمّت أراضي جديدة إلى كيانها.

أما الحروب الأخرى، ففي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1978، اجتاحت إسرائيل الجنوب اللبناني، وفي 1982 سرعان ما وصلت إلى العاصمة بيروت، وخلال أيام قليلة حاصرتها أكثر من ثلاثة أشهر لتجبر قوات المقاومة الفلسطينية على الخروج منها باتجاه تونس واليمن وأماكن أخرى.

إذاً، الفكرة الرئيسية بُنيت على خداع الرأي العام العربي والعقول العربية، بأنه لا يمكن مقاومة إسرائيل، وهذا ما اتضح أنه غير صحيح، فقد جاءت أحداث 7 أكتوبر لتؤكد أن فصائل المقاومة الفلسطينية المحاصرة منذ 16 عاماً استطاعت أن تنفذ عملاً عسكرياً عجزت عنه الجيوش العربية، وهذا ليس لأن الجندي العربي أقل شجاعة وذكاء من تلك الفصائل، بل لوجود من لعب دوراً  دائماً في محاولة تحطيم إرادة القتال لدى المقاتل العربي في مواجهة إسرائيل، وفي الوقت نفسه، تعزيز أغلب قدرات الجيوش العربية وتجهيزها لهدف أساسي، حماية عروش الأنظمة والحكام من الشعوب، وهذه هي  المعادلة التي حكمت الصراع، وعملت عليها بعض تلك الأنظمة.

ومن أكبر الأكاذيب التي تكفل النظام السوري بترويجها عن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر ما تلقيناه في الكليات العسكرية من علوم التكتيك ومادة الجيوش الأجنبية (الجيش الإسرائيلي)، وما علّمناه للجنود عن التحصينات الخرافية لخطوط الدفاع وجهاز الحواجز الهندسية للعدو، التي لا يمكن لأي جيشٍ مهما عظمت قوته اختراقها. وهنا أتذكر أني سألت الضابط مدرب التكتيك: اذاً ليس أمامنا سوى الإنزال المظلي خلف خطوط العدو… فجاءني الجواب صادماً ومحبطاً، بأن الخوازيق المزروعة حول نقاط الاستناد المعادية ستكون حينها بانتظارنا، وليتبيّن أيضا زيف تلك الخرافة، حين فتح النظام الحدود مع إسرائيل في بداية انطلاق الثورة السورية، في رسالة تهديد أطلقها أحد مسؤوليه “أمن إسرائيل من أمن سورية”.

جاءت عملية طوفان الأقصى لتبني معادلة جديدة نسفت كل ما سبق من دعاية (بروباغندا) وخرافة إسرائيل التي تم ترويجها واقتنع بها كثيرون، ولتعيد خلط كل الأوراق والحسابات، ولتكشف عن قضيتين: أن الجيش الإسرائيلي، رغم وجود الإمكانات الكبيرة وتجهيزه بأفضل أنواع الأسلحة وأكثرها تطوّرا وفتكا، ثبت أن إرادة القتال عند الجندي الإسرائيلي ضعيفة إلى درجة هروب كثيرين منهم من المعارك، وانسحاب كتائب بقضّها وقضيضها من المعارك بقياداتها وجنودها، والحديث عن آلاف من الجنود الذين رفضوا الأوامر العسكرية بالقتال في غزة، فقد شكّل حجم الخسائر الكبيرة لقوات الاحتلال في مواجهة مقاتلين حفاة الأقدام لا يملكون سوى أسلحة بدائية، ضربة كبيرة للفكرة التي جرى ترويجها عن هذا الجيش الأسطوري الذي لا يُقهر.

القضية الثانية أن إسرائيل باستخدامها فائض القوة التي تمتلكها في إيذاء المدنيين وقتلهم بدليل حرب الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكان غزّة، تحاول تعزيز الوهم أنها قوة لا يمكن لأحد أن يجرؤ على مواجهتها، إلا أن هذا السلوك الإجرامي أعطى نتائج فاضحة لهذا الجيش أنه لا يمتلك أية أخلاق عسكرية أو ضوابط ومعايير ما يُعرف بتعاطي السلاح، وهذا يشكل عاملاً إضافياً لفضح طبيعته وعقلية قياداته الإجرامية المتوحّشة.

وهكذا نرى أن ترويج أسطورة القوة الإسرائيلية التي لا تُهزم لم تأت لتخدم الكيان الصهيوني فقط، بل جاءت أيضاً خادمة لمصالح الأنظمة العربية الحاكمة التي تتحاشى مواجهة إسرائيل، حرصاً على مصالحها الأمنية والسلطوية، وكذلك حرصاً على استرضاء الكيان الإسرائيلي للحفاظ على استمرارية أنظمة الحكم الفاسدة.

——————————

الثقافة بوصفها خديعة/ راتب شعبو

30 مارس 2024

الغنى أو “التطور” الثقافي الذي يحصّله بعضهم، لا يعدو كونه امتلاك وسائل إضافية للدفاع عن مواقف ومنظورات ثابتة لديهم تشكلت قبل “الثقافة”. في هذه الحالات، لا تخدم الثقافة في تعديل منظور الشخص وتحسين رؤيته إلى العالم وتوسيع أفقه بأبعاد إنسانية نزيهة وعادلة، كما ينبغي أن يكون دور الثقافة، بل تخدم في تمكين الفرد من الدفاع عن مواقف قبلية يمكن أن تكون مغرقةً في التخلّف أو التحيّز أو العنصرية. هذا ما يمكن وصفه بالغش الثقافي، أن تجد شخصاً يستخدم ثقافة عالية للدفاع عن مواقف وضيعة، أو استخدام المقدرة الثقافية لقلب الحقيقة والتلاعب بالحقائق بما يخدم وضاعة المواقف التي يتبنّاها “المثقف”.

تشبه هذه الحالة التحوّلَ من جرّ المحراث بقوة الثيران إلى جرّه بالطاقة الكهربائية مع الحفاظ على السكّة الواحدة الأصلية نفسها. أي ألا يرافق تطوّر الطاقة تطور في الأداة.

هل يكمن السبب في تكلّس المنظورات والمواقف التي نشأ عليها المرء، وامتناعها عن التعديل بالتالي، أم يتعلّق بغياب الرادع الأخلاقي لدى “المثقف”، فيجعل من ثقافته وسيلة لخدمة مواقف وضيعة لديه، أو لخدمة المواقف التي تخدمه؟ في الحالتين، المشكلة قائمة وتتصل ببعد نفسي عند “المثقف”. وفي الحالتين، نكتشف أن الثقافة يمكن أن تكون، لدى بعضهم، وسيلة “رجعية” وأكثر تدنّياً على الصعيد التحرّري والأخلاقي من الحس السليم مفهوماً على أنه ما يمتلكه الإنسان من تقديرات “غريزية” دون الاستناد إلى دعائم ثقافية مكتسبة. وليس الكلام هنا عن ثقافة رجعية، كالتي تدافع صراحة عن الاستعمار أو التمييز العنصري مثلاً، بل هو عن جعل الثقافة “التقدمية” وسيلة رجعية، وسيلة لإظهار الممارسات الاستعمارية والعنصرية على عكس ما هي عليه، فتغدو مثلاً إسرائيل دولة غير استعمارية، وتغدو الإبادة الجارية في غزّة حرباً تحريرية.

وقد شهدت منطقتنا نوعاً آخر من تسخير ثقافة ذات طابع تحرّري لتكون في خدمة مشاريع استعمارية واستيطانية واستبدادية، مثل الاستخدام الصهيوني للفكر الاشتراكي في النصف الأول من القرن العشرين، واستخدام الفكر القومي أو اليساري التحرري كغلاف لممارسات سلطوية وطائفية وعشائرية في البلدان التي كانت تسمّى تقدّمية في النصف الثاني منه.

يعرض الكاتب برنار هنري ليفي في كتابه الصادر أخيراً “عزلة إسرائيل” (solitude d’Israel)، مثالاً فاقعاً على ظاهرة استخدام “الثقافة” وسيلة لتسويغ ومساندة مواقف وممارسات ومنظورات سياسية وضيعة، ليست أقل من تسويغ حروب الإبادة بلغة إنسانية. يدافع الكتاب عن إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنّها ضد الفلسطينيين في غزة، بطريقة لا تكتفي بتبرير الجرائم اليومية التي ترتكب في غزّة، بل يضعها في إطار ضروري وتحرّري. وقد وصف باسكال بونيفاس، أحد الكتاب والمحللين الاستراتيجيين الفرنسيين، هذا الكتاب، بذكاء، على أنه “خدمة ما بعد البيع لجرائم الحرب”، أي هناك مجرمون يرتكبون الجريمة ثم يأتي أمثال برنار ليفي كي يحمي ويحافظ على سوق صانع الجريمة ويصونه.

تشغل إسرائيل وأوكرانيا الموقع نفسه في الكتاب، موقع المعتدى عليه. أوكرانيا التي تعاني من القصف والاحتلال الروسيين، هي في خانة واحدة مع إسرائيل التي تقصف وتبيد وتحتل. لا يجد “الفيلسوف” الذي لقّبه أحدهم بـ”أمير الفراغ” مشكلة في هذه المقارنة. في منظور الكاتب أن ما جرى في 7 أكتوبر غزو، يشبه الغزو الروسي لأوكرانيا. وإذا تجاوزنا عن تسليم الكاتب وتقريره بأن كل مكان تحتله إسرائيل أرض إسرائيلية، وبالتالي، كل عمل ضد إسرائيل هو “غزو”، يبقى أن تماسك هذا المنظور يحتاج ليس فقط إلى تجميد الزمن عند لحظة عملية طوفان الأقصى، بل إلى اختصار الزمن السابق واللاحق في لحظة العملية، بحيث تصبح العملية “حدثاً” وليس مجرّد “حلقة” في سلسلة. يعتمد الكتاب، في تحليله، على مفهوم “الحدث” (événement)، للفيلسوف الألماني راينر شورمان، بوصفه حدثاً مؤسّساً لما بعده، حدثاً لا مثيل له وكأنه ينشأ بلا أسباب أو أنه يتجاوز أسبابه. هكذا ترفع العملية من سياقها التاريخي، تماماً كما رفعت عملية المحرقة النازية، وتخلّد في الذاكرة بطريقة تجعلها تغطي وتسوغ كل جريمة ترتكبها “الضحية” الإسرائيلية مهما عظمت.

في منظور الكاتب، الاستباحة الكاملة لغزّة هي دفاع عن النفس، وينبغي ألا تتوقّف هذه الاستباحة عند حدود رفح. ولا تقف “الثقافة” هنا، بل تضيف، أن إسرائيل في فعلها هذا إنما تعمل على تحرير الفلسطينيين، وتفتح لهم أفق “الدولة الفلسطينية”. أي أن إسرائيل تقتل الفلسطينيين وتهجّرهم وتمنع عنهم المعونات… إلخ، خدمة لهم. لا يجد الكاتب ضيراً في قناعته هذه، طالما أن مهمّة اليهود كانت دائماً “إصلاح العالم”، كما يقول، معتبراً أن الإبادة الجارية في غزّة اليوم هي “الممحاة التي تمحو قذارة العالم”، في استعارة لعبارة شهيرة للشاعر الفرنسي لويس أراغون.

يقلق الكاتب “التقدّمي” اعتبار إسرائيل دولة احتلال، ما يعني استفادة الفلسطينيين في نضالهم من الرصيد الأخلاقي العالمي لمقاومة الاحتلال وإدانة المحتل، فيكون الحل “الفلسفي” بأن يعكس ما هو كائن في الواقع ليقول إن دولة إسرائيل هي في الأصل دولة مضادة للاستعمار (anticoloniale)، وإن الكلام عن إدراج عملية طوفان الأقصى في سياق حركة مقاومة، كما وضعها كتّاب كثر، ما هو إلا عكس للحقيقة، والحقيقة أن الحركة التي أطلقت العملية استعمارية.

يتظلم الكتاب بدءاً من عنوانه “عزلة إسرائيل”، في حين أن الموقف العالمي الداعم لإسرائيل عقب عملية طوفان الأقصى لا سابق له. توافد زعماء العالم لإعلان التضامن مع إسرائيل، وتحرّكت أساطيل القوة الأولى في العالم لمساندة إسرائيل، وبات من يحمل أي رمز فلسطيني في أوروبا وأميركا مهدّداً بتهمة الإرهاب ومعاداة السامية. ورغم التمادي الإسرائيلي في حرب الإبادة التي قضى فيها حوالي 40 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال (يعتبر الكاتب أن هذه أرقام غير حقيقية لأنها صادرة عن حركة حماس، رغم أن البنتاغون أقرّ بأعداد قريبة) لم يتخذ العالم موقفاً جدّياً ضدها. مع ذلك يشكو الكاتب من عزل إسرائيل، ويتكلم باللغة المتشكية أن العالم دائماً يعتبر اليهود مذنبين… هذا من دون أن يتخلّى “الفيلسوف” عن الحق الفلسطيني، وعن التزامه بحلّ الدولتين إلى حد اعتبار إبادة غزّة (إبادة بشرية وعمرانية) سبيلاً للحق الفلسطيني والدولة الفلسطينية.

العربي الجديد

——————————-

ماذا بعد قرار مجلس الأمن؟/ بشير البكر

30 مارس 2024

لا مظاهرات، لا تعاطف، لا بيانات تأييد. تبدو حرب إسرائيل على غزّة مرفوضة جدّا، ومعزولة عن العالم. باختصار شديد، لا أحد يقف معها علانية سوى الولايات المتحدة. وفي هذا الوقت، يبدو التأييد لفلسطين بلا حدود، لا تكاد مظاهرات التضامن تتوقّف، بل تزداد زخماً، وتتعدّد أساليب الاستنكار للحرب من يوم إلى آخر، لا يتعب الناس، عبر العالم، من الاحتجاج على استمرارها، بل تحوّل الأمر إلى طقس أسبوعي، وبات كل يوم سبت مخصّصا للتنديد بها، وممارسة كل أشكال الضغط المتاحة على الحكومات من أجل التحرّك لوقفها والكفّ عن دعم إسرائيل، التي رفضت كل محاولات التهدئة، وأفشلت مباحثات الهدنات والجولات المكوكية للدبلوماسيين الأجانب إلى المنطقة، وكلما لاحت في الأفق بادرة أمل، ينسفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

بصدور قرار مجلس الأمن، يوم الاثنين الماضي، يمكن القول إن الجهود التي ناهضت الحرب أعطت أولى ثمارها، ونجحت بإصدار أول دعوةٍ دولية تطالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، على أن تؤدّي إلى وقف دائم لإطلاق النار. ورغم عدم التزام إسرائيل به، إلا أن قرار مجلس الأمن يسجّل أول هدف دولي في المرمى الإسرائيلي، وزاد من وقع ذلك امتناع واشنطن عن التصويت، وعدم استخدامها “الفيتو”، وهو ما يعدّ تراجعا أميركيا صريحا أمام العالم، وأول خطوة افتراقٍ ذات وزن بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي بخصوص الحرب، ولم يأت ذلك عن طيب خاطر، بل بقوة الضغط، وبفضل التضحيات الكبيرة التي قدّمها الشعب الفلسطيني. ومهما يكن من أمر، يعد هذا التطوّر نقلة نوعية يمكن البناء عليها، لأن الرئيس الأميركي جو بايدن تجاوز حالة التململ، ومعاقبة رئيس الوزراء الإسرائيلي هاتفيا، إلى اتخاذ خطوة وازنة، وهذا لا يعني، في كل الأحوال، أن الموقف ما بين الحليفين يتّجه إلى مستوى الأزمة. وكما هو معروف منذ بداية الحرب، هناك تبدّل في اللهجة الأميركية، وليس في الجوهر، لكن الأمر اختلف هذه المرّة، والدليل أن حلفاء واشنطن صوّتوا لصالح القرار، ومنهم بريطانيا، ما يفتح الباب أمام مواقف أخرى على طريق وقف الحرب.

لا يوحي ردّ فعل إسرائيل على قرار مجلس الأمن بأنها ستتوقف عند حد وتمتثل فورا للضغط الدولي وتبدأ مباشرة العد العكسي لوقف حرب الإبادة، لكن، مهما كابرت، سوف يصبح من الصعب عليها الانتقال بالحرب إلى مرحلة جديدة تتغيّر فيها الأهداف والأدوات والميدان، وهذا ما ذهبت إليه زيارة وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت إلى واشنطن، الأحد الماضي، وطلبه تقديم أسلحة نوعية من أجل عملية رفح ورفع مستوى المواجهات على الجبهة الشمالية. وستفكّر إسرائيل كثيرا قبل أن تتجاوز ما يبدو خطوطاً حمراء، ومن ذلك مسألة التهجير، التي لم تعد مستبعدة أو بعيدة، وما الإصرار من نتنياهو على تعميق الإبادة، من خلال التفنن باستهداف المدنيين، واقتحام مشفى الشفاء من جديد، وقتل المرضى والطواقم الطبّية، إلا من أجل تحقيق هذا الهدف، لأن الحرب تجاوزت مزاعم الدفاع عن النفس، واستنفدت شهوات الانتقام والثأر، فغزّة باتت مدمّرة كليا. وكل ما تقوم به إسرائيل هو جعل التهجير الخيار الوحيد الممكن أمام أهل غزّة، بعد أن أصبحوا يعيشون في العراء، بلا بيوت وطعام وخدمات عادية. وصار واضحاً أن عملية رفح ليست سوى الاسم السرّي لعملية التهجير، ولذلك يستنجد نتنياهو بالولايات المتحدة كي تشارك فيها، لأن إسرائيل لا تستطيع القيام بها وحدها، من الناحيتين السياسية والفنية، وتنتظر من واشنطن ممارسة ضغطها لتسهيل استقبال الفلسطينيين، الذين سيتم ترحيلهم من قطاع غزّة، وخصوصاً إلى العالم العربي.

—————————————

حين يُخدش جدار “أيباك”/ مالك ونوس

28 مارس 2024

يعدُّ خروج مظاهرات مناهضة لممارسات لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، ودعمها الإبادة في غزّة، وتدخلها في الحياة السياسية الأميركية، حادثاً لافتاً في الولايات المتحدة، غير أن اللافت أكثر أن الاحتجاجات لم تقتصر على تلك الأمور فحسب، بل تعدّتها إلى الاحتجاج على ممارساتها الموجّهة ضد التيارات التقدمية في البلاد. وإذ ظهر تدخّلها في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي قوياً وفاقعاً ضد التيار اليساري فيه، إلا أن الأميركيين الذين شهدوا على دورها في تحشيد دعم قادة بلادهم الحرب الإسرائيلية والإبادة في غزّة لمسوا كيف فرضت مجموعة الضغط هذه عواقب على كل من ينتقد هذا الدعم وانتهاك الإسرائيليين الأعراف الدولية خلال حربهم على قطاع غزّة، من أجل لجم الجميع ومصادرة حقّهم في التعبير.

وتأتي أهمية هذه الاحتجاجات واستثنائيّتها من حقيقة أن عقوداً طويلة كانت تُمنع فيها الإضاءة على مجموعة الضغط اليهودية الأقوى هذه، وعلى نشاطها في مجال التدخّل في تأمين الدعم الأميركي غير المحدود مادّياً ومعنوياً للكيان الإسرائيلي، ودورها في وضع السياسات الخارجية الأميركية لجعلها تتماشى مع مصالح دولة الاحتلال في المنطقة العربية والعالم. وإذ كان مجرّد الإضاءة على هذا النشاط ممنوعاً في الإعلام الأميركي، فما بالك في توجيه الانتقادات لها؟ وبينما كان الانتقاد من المحرّمات، كان أي “انتهاك” لتلك المحرّمات يصنّف، من فوره، من تُهَم معاداة السامية الكثيرة والجاهزة التي تستوجب العقوبة. ومن هنا، تعد تلك الاحتجاجات خرقاً في ذلك السائد، وعملاً شجاعاً ربما تكون له مفاعيل مستقبلية.

وخرجت بجوار مقر “أيباك” في واشنطن مظاهرتان تزامناً مع انعقاد مؤتمر اللجنة، في 12 مارس/ آذار الجاري، المؤتمر الذي تنظم فيه اللجنة اللقاءات مع أعضاء الكونغرس، وتحدّد الدعم الذي ستقدمه وهوية متلقيه، من أجل التأثير على أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ قبل الانتخابات المقبلة. ولم تقتصر المظاهرات على واشنطن، بل خرجت مظاهرات في مدنٍ أخرى أيضاً، مثل نيويورك نهاية فبراير/ شباط الماضي، وغيرهما من المدن. ورفع المتظاهرون في جميع المظاهرات لافتاتٍ تتهم “أيباك” بتمويل الإبادة في غزّة، وتطالب بوقف إطلاق النار في القطاع ووقف الإبادة فيه، وكذلك بوقف الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بشكل عام. وللمفارقة، أغلب منظمّي تلك المظاهرات هم من اليهود الأميركيين من تحالف جديد مناهض لـ”أيباك”. هذا التحالف الذي أُعلِن عن تشكيله بداية شهر مارس/ آذار الحالي تحت اسم تحالف “إرفضوا أيباك”، يضم 25 مجموعة تقدّمية، من بينها حركة “إن لم يكن الآن” اليهودية و”حزب العائلات العاملة” و”الصوت اليهودي للعمل من أجل السلام” و”الحملة الأميركية للعمل من أجل حقوق الفلسطينيين” و”حزب العدالة الديمقراطي” و”حركة شروق الشمس” السياسية المهتمّة بالتغير المناخي، وغيرها من الحركات. هذه المنظمات التي قال أعضاء فيها خلال المظاهرات إنهم غيَّروا قناعاتهم بعدما شهدوه من ظلم إسرائيلي تاريخي بحق الفلسطينيين، في فلسطين ومناطق اللجوء، وبعد الحرب الجارية على غزة، والتي قتلت أكثر من 31 ألف شخص من المدنيين الأبرياء.

صحيح أن هدف التحالف الجديد الأساسي هو الحد من تدخل “أيباك” في الانتخابات الأميركية عبر دعم الجمهوريين ضد التقدّميين في الحزب الديمقراطي، وتحريض بعض الديمقراطيين ضد زملائهم اليساريين في الحزب، إلا أن الهدف البعيد هو المحاولة لتأسيس حصنٍ دفاعي يحميهم على المدى الطويل، ويعزّز استقلالية المرشّحين عن المال الانتخابي الذي خصّصت “أيباك” منه مائة مليون دولار لإنفاقها خلال انتخابات سنة 2024. غير أن ظهور التحالف لم يكن سوى ردّ فعل على إسكات الصوت المعارض للحرب على غزّة، فقد قال التحالف في بيان التأسيس: “لقد رأينا كيف تفعل أيباك كل ما في وسعها من أجل إسكات المعارضة المتنامية في الكونغرس ضد هجوم نتنياهو على غزّة الذي قتل أكثر من 31 ألف فلسطيني، حتى في ظل تأييد الغالبية الساحقة من الناخبين الديمقراطيين وقف إطلاق النار ومعارضتهم إرسال مزيد من الشيكات على بياض إلى الجيش الإسرائيلي”.

ربما يأتي تشكيل هذا التحالف في سياق الاحتجاجات في الغرب ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة، والتي توقّع محلّلون وسياسيون غربيون أن تؤدّي إلى تحولها إلى احتجاجات ضد حملات التضييق على الحرّيات العامة وحرية الرأي ومصادرة الحقوق في مختلف دول الغرب. هذه الحملات التي اتخذت الحكومات في الغرب من جائحة كورونا مبرّراً لفرضها ولسلب الطبقات العاملة فيه حقوقها المكتسبة عبر سنواتٍ من المعاناة والنضال لتحقيقها. وكان تعاظم الهجمات على حرية الرأي والتعبير مع الحرب الإسرائيلية على غزّة، ومنع الناس من إبداء المعارضة لها أو التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين أو المطالبة بوقف إطلاق النار مؤشّراً على أن تمادي هذه الحكومات لا يمكن توقيفه إلا برفض تلك السياسات على نطاق واسع.

ربما لا تكون هذه الاحتجاجات والتحالف المعارض لـ”أيباك”، سوى خدوش على جدار هذه اللجنة الحصين. وربما لا تكون سوى بداية لزيادة الوعي تجاه أدوات السيطرة الإسرائيلية والتأثير على الرأي العام الغربي لجعل روايتها للصراع العربي الإسرائيلي هي الرواية الوحيدة والسائدة. وإذا ما بدأ المشوار مع “أيباك”، فهنالك سجل طويل لباقي أدوات الضغط والسيطرة الإسرائيلية وأدوات الدعاية والرقابة على الإعلام والنشاط السياسي والاجتماعي التي تقف وراءها مؤسّسات إسرائيلية لا تكلّ ولا تنام ولا تتهاون، والتي تنتظر من هذا التحالف أو غيره الالتفات لها ولمخطرها. مؤسّسات لها حساسية تجاه أي صوت معارض للسياسات الإسرائيلية، مهما كان هذا الصوت خافتاً، وكائناً من كان صاحبه، إذ يعرفون هم على أي بنيانٍ هشٍّ بنوا أسطورتهم التي يشغلهم هاجس دائم في احتمالية تضعضع هذا البنيان وسقوطها في أي وقت.

—————————–

====================

 أمّا وقد انتهى شهر رمضان وأوهامه/ عمر قدور

الثلاثاء 2024/04/09

خالف شهر رمضان بعض التوقعات، فلم يكن مختلفاً عن المعتاد. حتى التصريحات الدولية، والتغطية الإعلامية تالياً، أوحت بأنه شهر له خصوصية يُحسب حسابها. على ذلك استبقته جهود دبلوماسية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وطالبت واشنطن “بوصفها الداعم الأكبر لإسرائيل” بهدنة خلاله، وإن عرقلت حتى منتصف الشهر صدور قرار أممي يدعو إلى وقف إطلاق النار، ليتم ترحيل الأمل بالهدنة إلى عيد الفطر.

كانت تلك الأجواء توحي باحترام حساسية الشهر عند المسلمين، وتوحي أيضاً بأن المسلمين قد يغضبون خلاله لأجل الفلسطينيين على نحو يصعب التنبؤ به أو ضبطه، ومن المستحسن تفادي ذلك لئلا تخرج الأوضاع عن السيطرة. إلا أن هذا لم يحدث، وانضم شهر رمضان إلى مناسبات عديدة، متوالية منذ عقود، خيّبَ فيها المسلمون أو العرب التوقعات أو الآمال، فلم تفعل أنظمتهم ما هو مطلوب منها، ولم يزحفوا رغماً عن تلك الأنظمة لنصرة أشقائهم في الدين أو العروبة.

وإذا استخدمنا لغة التوبيخ القديمة، يمكن القول أن العرب والمسلمين انهمكوا في متابعة مسلسلاتهم الرمضانية، وبعضهم تربّع على قمة “التريند” على حساب أخبار المجازر في غزة. وانهمكوا أيضاً في مآدب إفطارهم وسحورهم، من دون الحساسية المرتجاة تجاه أهالي غزة الواقعين تحت الحصار والتجويع. مثل هذه اللغة تم تداولها أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث كُتب الكثير في تقريع أولئك المنشغلين حينئذ عن مأساة أشقائهم بمتابعة مجريات كأس العالم لكرة القدم. وسجلُّ الخيبة حافل بمناسبات شبيهة.

في أحسن أحوال التبرير لأولئك الذين لم يزحفوا لنصرة أشقائهم، يُقال أنهم مغلوبون على أمرهم من قبل حكّام بلدانهم، وأنهم لو امتلكوا زمام قرارهم لفعلوا بالتأكيد ما هو مأمول منهم، وقد تدعم هذه الفكرة مشاركة ملحوظة لعرب ومسلمين في الاحتجاجات التي تشهدها عواصم ومدن عالمية كبرى مناهضة للحرب على غزة. إلا أن فكرة توفر الحرية في الغرب وانعدامها في المنطقة العربية لا تفسّر بعموميتها هذا البون الشاسع بين الواقع والآمال، وهي “على صحتها من حيث المبدأ” يُستحسن ألا تبقى فكرة رومانسية عن “معجزات” الحرية.

واقعياً، تحرّك المحتجون في الغرب عندما أدرك معظمهم أنه ليس هناك خطر وجودي على دولة إسرائيل، واكتسبت بداية الاحتجاجات زخماً مع مشاركة ملحوظة من محتجين يهود في الولايات المتحدة. المسألة هنا مركّبة، فالاحتجاجات حدثت في الدولة الأكثر دعماً لإسرائيل وفي مركز العالم الغربي، ومن يهود لا يمكن الطعن بهم باتهامهم بمعاداة السامية، وهذا ما شجّع محتجين من مختلف المشارب في بلدان غربية أخرى.

ما له أهمية كبيرة أيضاً أن المحتجين تحرّكوا حيث يعتقدون أنهم فاعلون سياسياً، وأن النخب الحاكمة ستأخذ أصواتهم بالاعتبار، وحتى إذا لم تفعل ذلك فوراً فإن النشاط السياسي التراكمي كفيل بإحداث تغيير على المدى المتوسط أو البعيد. على هذا القياس أيضاً يمكن بسهولة تخيّل الواقع الرثّ لمعظم البلدان العربية والإسلامية، حيث لا يملك رعاياها أدنى قيمة أو فاعلية سياسية، وحتى إذا كان قسم منهم قادراً على التظاهر والاحتجاج فهو لا يؤمن بأن السلطة ستعيره اهتماماً، هذا إذا كان لسلطة بلده وزن مؤثّر في الحدث. من نافل القول أن معظم هؤلاء الرعايا محرومون أولاً من الفاعلية السياسية في ما يخص عيشهم، ويقتضي المنطق أن الذي لا يكون فعّالاً لأجل ذاته لن يكون كذلك من أجل سواه؛ والعكس تماماً هو ما روّجته أنظمة قمعية تاجرت بالقضية الفلسطينية طوال عقود.

الأهم ربما أن الآمال التي تدور بطريقة أو أخرى حول زحف عارم “فعلي أو رمزي” لا تستطيع إسرائيل مقاومته مبنية على وهمين، وهْم الرابطة القومية ووهم الرابطة الإسلامية. بل إن جزءاً مهماً من آلية اصطناع الوهمين قائمة على اعتبارهما من البديهيات، ليكون الوهم وفق هذا صحيحاً دائماً، وعندما تكذّبه الوقائع فالعيب أو الخلل يكون فيها لا فيه.

من المفارقات أن الحديث عن تشظّي مجتمعات المنطقة العربية صار دارجاً، فالعداوات البينية بين اللبنانيين أمضى من أن يكون لهم مجتمعين عدو واحد، ونظيرتها بين السوريين يشرحها انقسام سوريا بين قوى احتلال لها زبائن كثر من السوريين… والقائمة تطول. ولا يبدو أن الصورة المتخيَّلة عن الرابطة القومية أو الإسلامية تتماشى مع واقع الانقسام، وكأن هذه الصورة اكتسبت مع مرور الزمن استقلالية عن الواقع وعن المنطق معاً. لكن بخلاف الصورة الراسخة، ليست الانقسامات والعداوات بين العروبيين أقل أو أخفّ من الانقسامات المجتمعية، وكذلك هو حال العداوات بين الإسلاميين، والتيارات القومية والإسلامية إذا كانت توحّدها مظلة فضفاضة من الفكر فالسياسة تفرّقها على نحو يطعن تلك المظلة من داخلها.

ربما كان الإنجاز الأقوى لوهم الرابطتين هو جلْد المجتمعات “العربية” و”الإسلامية”، وزرع وتعزيز فكرة الخذلان مما هو عربي وإسلامي لدى الفلسطينيين، أي أن أهم إنجاز للقوميين والإسلاميين هو تسميم الأجواء العامة عقاباً للآخرين. هذا النهج لم يقدّم للفلسطينيين فائدة تُذكر طوال عقود، وهو بمثابة حجاب يمنع التفكير في الموضوع الفلسطيني من منطلق غير عصبوي أو قبَلي. فالرابطة الثقافية، إسلاميةً كانت أو عربية، من المحتّم ألا تتجسّد سياسياً بالمعنى المباشر لأنها أوسع وأكثر تشعّباً من متطلبات السياسة. ولو كانت هي المعيار المعاصر لتوجّب النظر إلى اليهود والمسيحيين من مناهضي إسرائيل كخونة لكتابهم المقدّس بدل امتداحهم، إلا إذا انطوى امتداحهم على انتهازية رخيصة لا تقيم لهم أدنى تقدير.

والحق أن استجلاب التضامن على أسس عاطفية عصبوية، فوق فشله، يفوّت فرصة تعزيز المفاهيم التي تدعم الفلسطينيين على أسس عقلانية ومستدامة، وهي موجودة في القوانين الدولية المتعلّقة بالسلم أو الحرب. اعتماد هذه القوانين لا يعني تحييد المشاعر المدفوعة بمؤثرات ثقافية، لكنه لا يعوّل عليها ولا يعتبرها معياراً. من جانب آخر شديد الأهمية، للقوانين الدولية “وهي ملك البشرية” سلطة معنوية لإنهاء الجدل الأخلاقي الذي يتلطى فيه البعض وراء نسبوية هي لا أخلاقية في جذرها، ويمكن القول بموجب هذا القياس أن ما هو غير قانوني وفق المواثيق الدولية هو غير أخلاقي أيضاً.

بالطبع، يبقى هناك عامل له أهميته، ويُغطّى عليه باسم التضامن أو التضامن المفقود، فالتضامن يعبّر عادة عن مشاعر آخرين غير متضررين أو لا صلة لهم بالحدث. في الحالة الفلسطينية، وبشرط ألا يُستخدم هذا للوصاية على الفلسطينيين، يُستحسن الانتباه إلى تأثير ما يحدث في فلسطين على الإقليم كله ومستقبله؛ المستقبل الذي سيكون أفضل إذا أتى بنموذج لحلٍ القضية الفلسطينية ملهمٍ للجوار.

المدن

———————————–

نتنياهو والهروب إلى الشمال/ إبراهيم حميدي

01 أبريل 2024

ليست إصابة مراقبين عسكريين أمميين جنوبي لبنان والغارات الإسرائيلية قرب دمشق بعد حلب، سوى حلقات إضافية من التداعيات الإقليمية منذ حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أن هذا التصعيد يعزز الاعتقاد باتساع رقعة المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل، واحتمال نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـالهروب إلى الشمال للهروب من المساءلة والفشل في تحقيق كامل أهدافه في غزة.

منذ بدء هجوم “حماس” على غلاف غزة في 7 أكتوبر، وما تلاه من جنون إسرائيلي، بدا واضحا أن “حزب الله” ليس معنيا بحرب شاملة في جنوب لبنان نجدة لـ”حماس”، حليفته في “محور الممانعة” بقيادة إيران. وضع لبنان الاقتصادي والضغوطات الداخلية للحزب وحسابات إيران الدقيقة إزاء أدوار “أوراقها” في اللعبة الأكبر مع أميركا والإقليم، وقرارها بترك “الحزب”، الورقة الأهم، لمعارك أكبر تخص مصالح حيوية مباشرة لطهران، ورسائل التحذير الأميركية، كلها أسباب أدت إلى عدم انجرار “حزب الله” إلى معركة شاملة، رغم ارتفاع حصيلة القتلى في صفوفه حيث بلغت 270 عنصرا من مقاتليه ونحو 50 مدنيا بينهم أطفال ومسعفون وصحافيون.

من جهته، عبّر نتنياهو، هو ووزير دفاعه يوآف غالانت، أكثر من مرة بعد “7 أكتوبر” عن رغبتهما بالذهاب إلى الحرب في الشمال. لكن ضغط واشنطن ووساطتها لعقد صفقة جنوب لبنان، والتزام “حزب الله” بـ”قواعد الاشتباك”، عوامل أدت إلى تأخر حصول تلك الحرب، رغم بقاء أولوية إعادة 70 ألف مستوطن نزحوا من المناطق الحدودية الشمالية بسبب قصف “حزب الله”، وتمسك حكومة نتنياهو بـ”استعادة الردع”، و”الانتصار في معركة البقاء” بعد مفاجأة أكتوبر.

لكن في الفترة الأخيرة، اتسع الاعتقاد بتوفر الأسباب للذهاب إلى مواجهة مباشرة عند الحدود الشمالية لإسرائيل، إذ إن وزير الدفاع الإسرائيلي، قال: “انتقلنا من ضرب حزب الله إلى ملاحقته، سنصل إلى كل مكان يوجد فيه في بيروت وبعلبك وصور وصيدا والنبطية وإلى كل امتداد الجبهة، وأيضا لأماكن بعيدة أكثر مثل دمشق وغيرها. سنعمل في كل مكان يتطلب منا ذلك”.

ترجمة ذلك، كانت بتوسيع إسرائيل لضرباتها وراء حدودها الشمالية. إذ إنها وجهت قبل أيام ضربات واسعة ضد “مواقع إيرانية” في شمال شرقي سوريا، مما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى. كما أنها شنت غارات قبل يومين، على مواقع سورية وإيرانية وأخرى تابعة لـ”حزب الله” في حلب، شمالي سوريا، أسفرت عن سقوط أكثر من 30 قتيلا من الجيش السوري، وهي أعلى حصيلة ضحايا له داخل الأراضي السورية منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

منذ بدئها بشن غارات في سوريا قبل سنوات، كانت إسرائيل تتجنب استهدافا مباشرا للجيش السوري ومواقعه، إلا في حالات نادرة. كما أنها التزمت بعدم إصابة الجيش الروسي (باستثناء مرة عن طريق الخطأ في 2018)، لكن القصف الأخير على حلب، يدل على قرار إسرائيلي بزيادة الضغط على دمشق لفك الارتباط مع “حزب الله” وإيران. ومثلما أدت عمليات اغتيال قادة إيرانيين في العاصمة السورية، إلى إثارة الكثير من الشكوك بين “الحليفين” وإلى قرار طهران باستدعاء كبار قادة “الحرس الثوري” إلى إيران، فأغلب الظن أن تل أبيب تراهن على دق إسفين إضافي بين “الحليفين” دمشق وطهران.

ومثلما كانت إسرائيل “تلاحق” إيران في سوريا، باتت حاليا “تلاحق” بعملياتها “حزب الله” في لبنان وسوريا. هذه “الملاحقة” لا تزعج روسيا كثيرا. صحيح هناك حلف بين طهران وموسكو، لكن الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد لحليفه الإيراني أن يستغل انشغاله في حرب أوكرانيا، لملء الفراغ في سوريا. بل يريد لحليفه الإيراني أن يبقى بحاجة إليه في سوريا، مثلما هو بحاجة إليه في أوكرانيا.

ومع قرب معركة رفح بعد عيد الفطر وبدء العد التنازلي للانتخابات الأميركية، فإن هذه المعادلة ستخضع لكثير من الاختبارات الإسرائيلية في الشمال. نتنياهو لم يحقق جميع الأهداف التي أعلنها لدى بدء حرب غزة. لم يستعد الرهائن، ولم يقتل كبار قادة “حماس”، ولم يفكك كامل بنيتها العسكرية، رغم الخسائر المدنية الهائلة والتدمير والتهجير.

أغلب الظن، أن نتنياهو المعني بمستقبله، يراهن على تصعيد في لبنان وسوريا. ومثلما هرب من مشاكله الداخلية إلى حرب غزة، يهرب من هذه الحرب إلى تصعيد أوسع وأبعد في الشمال. تصعيد إقليمي قد تصل شراراته إلى الضفة الغربية والأردن ولبنان ومصر وبعض الأراضي السورية. نجاح نتنياهو بالهروب إلى الشمال، يتركه في السلطة وخارج السجن والمساءلة، ويبعد الأنظار عن حرب غزة بفشلها ودمارها، ويساعده على حرق الأيام إلى حين حصول الانتخابات الأميركية. هروب يحرره من ضغوطات إدارة جو بايدن على استحيائها، لكن الأهم بالنسبة لنتنياهو أن هذا “الهروب” قد يسمح بعودة دونالد ترمب وأفكاره ومشاريعه.

المجلة

———————————–

مشعل طهران/ عالية منصور

31 مارس 2024

هل تذكرون “طلائع طوفان الأقصى”؟

في ديسمبر/كانون الأول من العام الفائت وبعد نحو شهرين على عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت “حماس” تأسيس “طلائع طوفان الأقصى” انطلاقا من لبنان، ودعت في بيان لها آنذاك “أبناء الشعب الفلسطيني وكل الشباب والرجال إلى الانضمام لطلائع المقاومين والمشاركة في صناعة مستقبل القضية الفلسطينية وفي تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك”.

ولكن ما هي إلا ساعات يومها حتى تراجعت “حماس”، وأوضحت في بيان أصدرته أن أسباب إطلاق “مشروع طلائع طوفان الأقصى” في لبنان، هو “منع الشباب من الانجذاب إلى الظواهر المجتمعية الخطيرة والانجرار للاستخدام في مشاريع معادية ومضرّة، وربطهم بالقضية الفلسطينية والعمل من أجلها والدفاع عنها”، مؤكدة “احترام سيادة لبنان، والالتزام بقوانينه، والحرص على أمنه واستقراره، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية”.

ولكن يبدو أن ما ينطبق على لبنان المحكوم بـ”حزب الله” لا ينطبق على بقية العالم العربي وفقا لـ”حماس”، فرئيس الحركة في الخارج خالد مشعل لم يكتف بمطالبة الملايين بالنزول للشارع بشكل وصفه بـ”المستدام”، بل قال: “على جموع الأمة الانخراط في معركة طوفان الأقصى”، وأن “تختلط دماء هذه الأمة مع دماء أهل فلسطين حتى تنال الشرف”. وهل تختلط الدماء بمظاهرات سلمية وتضامنية مع الفلسطينيين في غزة؟ أم إنها دعوة صريحة لمزيد من الفوضى وإراقة الدماء؟

إن “حماس” التي تحاول بشتى الوسائل حماية استقرار الأنظمة التابعة لطهران لا تتوانى في دعوة الشعوب العربية لتجاوز كل القيود والقوانين والمعاهدات، والمفارقة ليست أن كلام مشعل جاء بعد زيارة وفد من “حماس” لطهران، ولا آيات الشكر والامتنان التي لا يتوقف قادة “حماس” عن إلقائها عند الحديث عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقياداتها، ولا أن حسابات تابعة للإعلام العسكري لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة، أعادت نشر مقطع صوتي لقائد الكتائب، محمد ضيف، يدعو فيه الشعوب المسلمة ويخص شعوب الأردن ومصر والمغرب والجزائر إلى الزحف نحو فلسطين، قائلا: “ولا تجعلوا حدودا ولا أنظمة ولا قيودا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى”.

ولن أتوقف عند تحييد الحركة لسوريا، علما أنها من دول الطوق ونظامها ينتمي لمحور الممانعة، وكان من الأجدى دعوة سوريا إلى الزحف وفتح الجبهات، ولا على عدم الرد على اغتيال إسرائيل لصالح العاروري القيادي في الحركة في ضاحية بيروت الجنوبية، ولا على اغتيالات قيادات في الحركة داخل لبنان، لكن المفارقة التي يجب التوقف عندها أنه في الوقت الذي تحرض فيه الحركة على الفوضى وتدعو لـ”اختلاط الدماء”، تصدر بيانا تقول فيه إن نجاح أي مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل يعتمد على 4 محددات أساسية، هي: “وقف العدوان بشكل شامل، وانسحاب الاحتلال بشكل كامل من كل قطاع غزة، وحرية عودة النازحين (إلى شمال القطاع) وإدخال المساعدات واحتياجات شعبنا وأهلنا في القطاع”، أي بمعنى أدق العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر كما ذكرنا سابقا.

الوقوف مع فلسطين ورفض ما يتعرض له أهالي غزة من حرب إبادة هو موقف أخلاقي وإنساني قبل أن يكون موقفا عربيا أو إسلاميا، والشعوب العربية والإسلامية وكثير من شعوب العالم تتألم وتتوجع من هول ما يحدث في فلسطين، والملايين الذين خرجوا في كل العالم لإظهار تعاطفهم مع آلام الفلسطينيين في كل مكان لا يحتاجون لـ”حماس” أو غيرها لحثهم على الخروج، فمن ألقى بالفلسطينيين في فم التنين وهو يدرك تمام الإدراك أن نتنياهو مجرم لا رادع له، بل ومأزوم داخليا جاءت الحرب لتعطيه فرصة ليماطل ويناور، مَن أقصى شروطه في المفاوضات العودة إلى ما قبل عملية طوفان الأقصى، كيف له أن يحرض على مزيد من الدماء.

المظاهرات للتضامن مع مأساة شعب وليست لإظهار التأييد لمغامرة السنوار المدمرة، وأي محاولة لتشويه تعاطف الشعوب مع فلسطين ومحاولة تصويره وكأنه تأييد لـ”حماس” إهانة لآلام الشعب الفلسطيني ولقضيته واستثمار سياسي رخيص في تضحيات هذا الشعب، بل ربما يصل الأمر إلى حد القول إنه ربما تنفيذ لأجندة حزبية وليس تعاطفا حقيقيا مع هذه الكارثة..

وإلى “حماس” وأشباهها: اتركوا الشعوب العربية تعبر عما تريد ولا تصادروا صوتها ولا تحاولوا تشويه حراكها وتحويله لحسابكم، أم إن لطهران رأي آخر، وما فشلت فيه حتى الآن شحنات الكبتاغون والأسلحة المهربة من سوريا، قد ينجح من خلال اختراقها و”حماس” للمظاهرات المتضامنة مع غزة؟

طهران التي أشعلت المدن العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن لا يمكن أن تحمل مشعلا لحرية أي بلد عربي لا فلسطين ولا غيرها.

المجلة

——————————–

تحديث 09 أذار 2024

=================

العربي الجديد

—————————–

بايدن ونتنياهو… مناكفة لا خلاف/ بشير البكر

08 مارس 2024

لا أحد يصدّق أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لا يستمع للرئيس الأميركي، جو بايدن. ومن حقّ أيِّ مراقبٍ أن يشكّك بالروايات التي تم تسريبها عن خلافات بين واشنطن وتل أبيب، عن مجريات حرب اسرائيل على قطاع غزّة. ولو صدق نزرٌ يسيرٌ منها، لكان قد تغيّر مجرى الأحداث منذ عدّة أشهر. ولم يكن في مستطاع نتنياهو أن يمارس كل هذا القدر من الوحشية تجاه المدنيين الفلسطينيين لو لم يضمن مسبقا التغطية الكاملة من الإدارة الأميركية التي لم تتخذ موقفا واحدا على قدر من الحزم تجاه الحرب، بل هي التي تولّت تزويد اسرائيل بالأسلحة والذخيرة، وساعدتها بالخبرات اللوجستية، وأرسلت حاملات الطائرات إلى منطقتي الشرق الأوسط والخليج، من أجل عدم توسيع نطاق الحرب، وترهيب كل طرفٍ يفكّر في مساندة غزّة.

لم تضغط واشنطن على تل أبيب، بل سارعت إلى نجدتها، وأيدت قرار الحرب، واعتبرتها دفاعا عن النفس، ولم يصدُر عنها أي موقف يدعو إلى وقف إطلاقٍ للنار، رغم العدد الكبير من الضحايا بين المدنيين، والدمار الهائل الذي أحال قطاع غزّة إلى مكان غير صالح للحياة، ويحتاج لإعادة إعماره إلى أكثر من 15 مليار دولار، حسب تقدير أوساطٍ ذات خبرة.

كل ما صدر عن الإدارة الأميركية لا يتجاوز التمنيّات بتحسين الأداء، حتى لا تتعرّض للحرج. وما كانت ستسلك هذا السلوك لو أنها سمعت موقفا عربيا واحدا، يدعوها للضغط على إسرائيل من أجل وقف الحرب. وهذا يمكن البرهنة عليه بعدم تنفيذ أيٍّ من قرارات القمّة العربية الإسىلامية، التي انعقدت في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وساد الاعتقاد أنها ستغيّر في الموقف الأميركي، كونها انعقدت على مستوى رؤساء الدول، وصدر عنها قرار في 31 بنداً، دانت “العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وجرائم الحرب والمجازر الهمجية الوحشية واللاإنسانية”، التي يرتكبها الاحتلال، ورفضَت ذريعة “الدفاع عن النفس”. ولعلّ أبرز ما جاء في القرار هو البند الثالث الذي نصّ على “كسر الحصار على غزّة، وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية”، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع “بشكل فوري”، ولكن ذلك القرار بقي على الورق. وكان واضحاً أن تل أبيب وواشنطن لم تعيراه أي اهتمام، لإدراكهما أنه لن يتجاوز حدود الظاهرة الصوتية. ولذا كان في المحصلة تعبيراً عن العجز والفشل والخِذلان من بعضهم، والتواطؤ من فريقٍ آخر، لا يزال يراهن على نتنياهو كي يقضي على المقاومة الفلسطينية في غزّة، ويفتح بذلك صفحةٍ جديدة في المنطقة، بات اسمُها ما بعد غزّة، وهي التي على أساسها تجري سلسلة من الترتيبات بقيادة الولايات المتحدة، ومشاركة أطراف فلسطينية وإقليمية.

لا ترقى الخلافات بين بايدن ونتنياهو إلى ما هو أكثر من المناكفات التي لم تذهب إلى النقاط الجوهرية من أجل وقف الحرب، وانسحاب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزّة. وليس هناك مؤشّرات إلى أنها يمكن أن تتطوّر إلى المستوى الذي وصلت إليه بين باراك أوباما ونتنياهو، عام 2105، بسبب الاتفاق النووي مع إيران، وحتى لو حصل ذلك، لا يبدو نتنياهو في وارد التراجع، وباعتبار أنه لم يتعرّض، حتى الآن، إلى ضغط فعلي من الإدارة الأميركية، فإنه يتصرّف من موقع قوة، يحمل بيده ورقة الحرب على غزّة، ويحظى بمساندة كبيرة في الولايات المتحدة من التيار، الذي يقف وراء نقل السفارة الأميركية إلى القدس في مايو/ أيار 2018، ويقدّم نفسه أنه يواجه التهديدات الوجودية لإسرائيل، ومنها مشروع الدولة الفلسطينية، وهذا يزيد رصيدَه بزعامة اليمين المتطرّف.

——————————

بين حرية الإجهاض في فرنسا والإجهاض القسري في غزّة/ سوسن جميل حسن

08 مارس 2024

ولأن غزّة هي وجع القلب، وميزان الضمير، ولأنها ألقيت في بازار السياسة والمصالح لعالم الأقوياء الفاجر، فإن كل حدث في العالم يحيل إليها، فما أكثر القرائن التي تدلّ على أن كل الشرائع الدولية والقوانين والمبادئ والنظريات، التي وُضعت لا ترقى إلى النزاهة المفترضة، وما هي إلّا أحجار فوق رقعة اللعب بمصائر الشعوب وصولاً إلى السيطرة، حتى لو كان الثمن إبادة مئات الآلاف من الأرواح التي أول حقوقها حقّ الحياة.

تُدرج فرنسا الحق في الإجهاض في دستورها. خبر يثير صخباً واهتماماً عالميين، أقلّه في الغرب وأميركا، فهذا أمر مطروح للنقاش وقضية تحتاج إلى حلول، ولكل بلد قوانينه وتحفّظاته تجاهها. وكما في باقي الدول، هناك اختلاف في مواقف الدول العربية تجاه الإجهاض، واختلافات في هامش المسموح به، فالثقافة المجتمعية لدى شعوبنا تتأثر أكثر ما تتأثر بالدين والأعراف والموروث الثقافي، ويجري التعامل مع الإجهاض في الواقع بطرائق مختلفة، وبسبب سطوة الثقافة السائدة والدين والأعراف، وبسبب الجهل وإجحاف بعض القوانين بحقّ المرأة، خصوصاً إذا ما تم الاعتداء عليها أو اغتصابها، وبسبب الإعدام الفعلي من ذويها أو أقربائها غسلاً للعار، أو الإعدام الاجتماعي بحقها فيما لو أنجبت طفلًا خارج مؤسسة الزواج، فإن وجود ما اتفق على تسميتهم، اجتماعيّاً، باللقطاء، وهم حديثو الولادة بعمر ساعات أو ربما أيام معدودة، أمر شائع في بلداننا. وقد تلجأ كثيراتٌ إلى طرائق بدائية للإجهاض، تؤدّي هذه الطرق غير الآمنة والأدوات غير المعقّمة إلى وفاة النساء أحيانًا. أمّا الإجهاض غير القانوني على يد الأطباء، أي ما يتم إجراؤه في حالاتٍ لا يقرّها القانون، فهو شائع أيضاً، ولا من يسأل إلّا إذا وقعت مشكلة صحّية بحق المرأة التي تُجرى لها عملية الإجهاض، حتى في هذه الحالة فإن المساءلة القانونية وتطبيق العقوبة المناسبة عرضة للمساومة أيضاً في ظل الفساد المستشري، وإمكانية دفع الرشى لأي طرف من الأطراف المعنية بهذه الواقعة. ربما تُستثنى تونس من قوانين الإجهاض المتقاربة في فحواها وشروطها القانونية في غالبية الدول العربية، فلديها منذ 1973 قوانين مدنية بالنسبة للمرأة وحقوقها.

فرنسا التي صدّرت للعالم مبادئ ثورتها العظيمة، ورسّخت شعاراً يحمل ثلاثة مبادئ أساسية “الحرية والمساواة والإخاء”، تناقض شعاراتها في موقفها “تاريخيّاً” من احتلال إسرائيل فلسطين، ووقفت مساندة لها منذ اليوم الأول للعدوان الحالي، حتى لو أنها بدأت تخفّف من بعض تشدّدها ومواقفها أخيراً، إنما القيم الإنسانية وقيم الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والعدالة تضع فرنسا في موضع المساءلة أمام واجباتها الإنسانية تجاه الشعوب وحقوقها المشروعة، خصوصاً وأنها دولة مؤثرة عالميّاً، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي.

هل المرأة الفرنسية مخلوقة من ترابٍ آخر غير تراب المرأة الفلسطينية، وفي غزّة الآن، حيث تدفع الثمن الأبهظ؟ لقد منح القانون الفرنسي الجديد حرّية الإرادة للمرأة الفرنسية، حرّيتها في التعامل مع قضايا جسدها، وأن تكون المسؤولة الوحيدة عنه، لكن المرأة في غزّة مسلوبة الإرادة حتى في إرضاع طفلها، منتهكة الحق حتى في ولادة كريمة. فأين المساواة وأين الإخاء؟

في فرنسا، التي أعطت المرأة هذا الحق، توفّر للحامل والولادة والوليد كل مستلزمات العناية الصحية والغذائية والاجتماعية، وتضمن حقوقهم، المرأة الحامل تخضع لمراقبة حملها في مراكز صحية متطورة، تجري ولادتها في المستشفيات وتحت العناية الطبية والتمريضية الفائقة، تتلقف وليدها بأيدٍ رحيمة متمرّنة، تؤمن له الدفء والغذاء والمراقبة الطبية، والحواضن فيما لو كان يحتاج، حاضنة فائقة الدقة والمراقبة لكل خديج أو وليد يعاني، بينما يموت الخدّج في مشافي غزّة، على مرأى فرنسا والعالم، يوضع في الحاضنة الواحدة، فيما لو توفّرت، عدة مولودين أو خدّج، واليوم يموت الأطفال بسبب الجوع، وتوزّع وجبة الحليب الواحدة، فيما لو توفرت على ثلاثة أطفال وربما أكثر، ثم تتلقفه الأمراض، فيما لو كتبت له الحياة، ويعيش بلا لقاحات ولا أدوية ولا مدارس ولا لعب ولا دفء، ولا طعام ولا أحلام، فأي جيل سينمو ويصبح قادرًا على الحياة المنتجة والكريمة؟

في فرنسا والغرب، تصان الحرّية الفردية، بينما تقتل حرية شعب بكامله في تقرير مصيره والتعبير عن قضيته العادلة، وتقتل على المستوى الفردي كل إرادة أو طموح أو حلم… تبيح فرنسا للمرأة الإجهاض إذا لم ترغب بحملها، بينما في غزّة تجهض الحامل قسريّاً بتهديد حياتها، بالقتل تحت نيران الاحتلال، وتجهض مرّة أخرى بعد الولادة، هل سمع العالم بإجهاض يحصل بعد الولادة؟ بعد أن يصرخ الوليد صرخته الأولى؟ نعم، هذا ما يحصُل في غزّة، ويحصُل أن يُلفّ بعدها الوليد بكفن أبيض ويحزّم بلاصق طبي، ثم تمتدّ إليه يد مرصودة للرحمة، لتوثق اسمه، بقلم أسود، بين المغدورين أمام عيون العالم، ويدفن غالباً في مقابر جماعية، فلا وقت ولا أمن لفلسطينية أو فلسطيني كي يدفن جثامين أحبّائه كما يليق، حتى في حالة الموت “الحقّ”، فيما لو ترك القتل الهمجي مكاناً للموت الحق في غزّة.

في غزّة يُجهض قلب الأم، ويكسر، يخطف الموت الغاشم وليدها وأحلامها وأمومتها، ويجفّ حليبها في ثدي كان يعاند الجوع فيعتصر جذوة الحياة من فؤاد أم من حقّها أن تعيش مثل أي أم في العالم، بل مثل أي مخلوقٍ على وجه الأرض، ويقدّمه لوليد من حقّه الحياة أيضاً، هذا هو قانون الكون. لكن الإجهاض القسري يمارس بكل عنجهية ووحشية في غزّة، والعالم لا يأبه، بل يصدّر الخطابات الإعلامية والدبلوماسية، ترتفع حدّتها ويرتفع سقف مطالبها من إسرائيل، بحسب المناسبات، كما يجري اليوم في أميركا المقبلة على انتخاباتٍ رئاسية، لكن التاريخ يحتفظ بالحقيقة الوقحة، حقيقة أن أي إدارة أميركية تأتي، وأي رئيس يتبوّأ منصب الرئاسة فيها، ستكون إسرائيل ودعمها أمرًا بديهيًا ومهمًا له، ومخزون السلاح الذي يقتل الفلسطينيين لا ينضب، ما دام ان هناك في أميركا من يرسل السلاح، وهناك لوبي صهيوني نشط، بينما، وللأسف والخزي، لا يستطيع العرب أن يشكّلوا أي جماعة ضغطٍ حيث يوجدون، فخلافاتهم يحملونها معهم، حول كل ما يجري في بلدانهم، وفي فلسطين.

بينما المرأة والأم والطفل يقتلون، وهم خارج مظلّة المبادئ الإنسانية للثورة الفرنسية، وهذا العالم يكيل بمكيالين.

—————————-

الأنظمة العربية والصعود على سلّم هابط/ علي العبدالله

06 مارس 2024

كشف الحراك السياسي والدبلوماسي، الإقليمي والدولي، من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ينفّذها جيش الكيان الصهيوني ضد الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزّة ضعف دور الأنظمة العربية وانعدام تأثيرها في المواقف الدولية وفي حكومة الكيان، ما أثار أسئلة عن خلفيات الحالة وجذورها.

جاء إعلان تأسيس النظام الإقليمي العربي في أربعينيات القرن الماضي، جامعة الدول العربية، بميثاقها وأمانتها العامة ومجلس وزراء خارجيتها ولجانها المتخصصة: السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية والقانونية والاجتماعية والصحية والإعلامية، إلخ، قاعدةً لتعاون وتنسيق بين الدول العربية، وإطاراً لحماية المصالح العربية وتحقيق الأمن القومي العربي في لحظة سياسية بالغة الدقّة والحساسية، مرحلة التحرّر من الاستعمار وتكريس الاستقلال والسيادة الوطنية.

غير أن الواقع العملي ناقض الإعلان العام، على خلفية ما جاء في ميثاق الجامعة بشأن أهدافها، عدم تدخّل أي دولة في شؤون دولة أخرى، من جهة، وما أضيف لاحقاً عن الحقّ السيادي لكل دولة في تنفيذ قرارات الجامعة وفق ما تراه يخدم مصالحها، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة إلى الانقسام العميق بين الأنظمة العربية على خلفية خياراتها السياسية والعقائدية وتحالفاتها الإقليمية والدولية وانفجار الصراع بين الأنظمة الجمهورية والملكية، تحت شعارات “تقدّمية” و”رجعية”، قاد إلى ترهل النظام الإقليمي العربي وتآكل الأمن القومي العربي بمرور الوقت.

لم تستطع الأنظمة العربية مجتمعة الاتفاق على جدول أعمال وسلّم أولويات يرتكز على المشتركات المتفق عليها ووضع القضايا الخلافية جانباً. كذلك لم تستطع الأنظمة الجمهورية ولا الملكية الاتفاق على جدول أعمال وسلّم أولويات يلحظ المشتركات مع شبيهاتها، فقد انخرطت، بدلاً من ذلك، في صراع وتنافس سلبي على الزعامة والقيادة، ليس بين الأنظمة الجمهورية والملكية فقط، بل داخل الأنظمة الجمهورية والأنظمة الملكية أيضاً، ما استدعى الدخول في تحالفاتٍ إقليميةٍ ودولية لتثقيل أوراقها في مواجهة خصومها ومنافسيها، فانحازت الأنظمة الجمهورية “التقدّمية” في مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن الجنوبي إلى الاتحاد السوفييتي، ودفعت مقابل الحماية والأسلحة والخبرات الصناعية جزءاً مهماً من استقلاليتها. وانحازت الأنظمة الملكية إلى الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، ودفعت مقابل الحماية عائداتها من البترودولار ثمناً لصفقات أسلحة كبيرة وبنى تحتية فارهة، ما عمّق خلافاتها وصراعاتها، فتحوّلت على الضد من المعلن، التكامل، إلى حالةٍ تفاضلية مضرّة ترتب عليها مزيدٌ من تآكل المشتركات العربية وأوراق القوة التي يوفرها التوافق والتعاون العربيان. وقد زادت طبيعة الأنظمة العربية السلطوية والاستبدادية وأولوياتها في الهيمنة والسيطرة على مجتمعاتها عبر إضعاف هذه الأخيرة باستتباعها بعقد سياسي يقايض الحقوق والحريات بالوظائف والخدمات والمُنح والبحبوحة المعيشية؛ وبالتمييز بين المواطنين على أساس العرق والدين والمذهب والجنس؛ وسلب المجتمعات دورها في المشاركة في تحديد الأهداف والوسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، وبتنميط ردود أفعالها بحيث تصبح صدىً لقرارات الأنظمة وخياراتها، زادت الطين بلة، وأدّت إلى ترهلها وهشاشة بنياتها السياسية والاجتماعية وتآكل شرعيتها، وإلى انعدام وزن جيوسياسي وجيواستراتيجي فاقع.

كانت فترات التهدئة وتجميد الصراعات قصيرة ومرتبطة بحروب مع الكيان الصهيوني، هزيمة يونيو (1967) وحرب أكتوبر (1973)، والتفاعل مع معاناة الشعب الفلسطيني وتطورات قضيته، أيلول الأسود في الأردن (1970)، وتدخّل النظام السوري العسكري ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان مارس/ آذار 1976. تهدئة دافعها الاستحواذ على الملف الفلسطيني، من جهة، ومراعاة شعور الرأي العام الوطني والعربي، من جهة ثانية. هذا قبل أن يتلاشى دور هذا العامل في ضوء تراجع الصراع بين الأنظمة الجمهورية والأنظمة الملكية بعد ميل الكفّة لصالح الأخيرة على خلفية تآكل المشروع القومي وبروز الخيارات الخاصة لدى الأنظمة وتبنّي خيار التسوية مع الكيان الصهيوني وإقامة علاقات سرّية وعلنية، أمنية وتجارية، معه، كان موقف المتفرّج من اجتياح الكيان الصهيوني لبنان يونيو/ حزيران 1982 وإخراج منظمة التحرير وقوات فصائلها منه تجسيداً صارخاً لهذا التلاشي ولتراجع موقع القضية الفلسطينية على سلّم اهتمامات الأنظمة العربية، الجمهورية والملكية، وتحول الصراع مع هذا الكيان إلى صراع فلسطيني إسرائيلي.

سمح ضعف الأنظمة العربية، الذي ترتب عن تآكل التوافق والتعاون العربيين وتراجعهما، وبروز النزوع إلى الخلاص الفردي بينها، حتى لو جاء على حساب المشتركات والمصالح العربية، بصعود قوّتين إقليميتين: الكيان الصهيوني وإيران، على حسابها، فقد نمت قوة الكيان العلمية والصناعية، المدنية والعسكرية، والاقتصادية، فاق ناتجه القومي 400 مليار دولار، كسر عزلته السياسية من خلال توريد التقنيات الدقيقة والأسلحة، واخترق ساحات مؤيدة تقليدياً للقضية الفلسطينية في آسيا وأفريقيا.

استغلّ النظام الإيراني تراجع اهتمام الأنظمة العربية بالقضية الفلسطينية، كما كشفه الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982، فاستخدمها راية وغطاءً لتغلغله في المجتمعات العربية، وربط نصرة الشعب الفلسطيني بإسقاط الأنظمة العربية التي تخلت عنه لأنها، من وجهة نظره، عميلة للولايات المتحدة، وتشكّل خطراً على النظام الإسلامي في إيران. ووضع لذلك استراتيجية “تصدير الثورة” إلى هذه الأنظمة من أجل إسقاطها وإقامة أنظمة إسلامية بديلة على النمط الإيراني تسير في ركابه، وفتح مع الأنظمة العربية المجاورة ملفّات عالقة وأخرى جديدة من تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي، إلى الادّعاء بإيرانية البحرين، مروراً بالتمسّك باحتلال الجزر الإماراتية، وشنّ حملة إعلامية على النظام المصري لعقده اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، وأطلق اسم قاتل الرئيس المصري، أنور السادات، خالد الإسلامبولي، على شارع رئيس في طهران، ورفع شعار استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المظلوم بتحرير فلسطين؛ وأعلن نيّته تشكيل جيش القدس المكوّن من عشرين مليون مقاتل لتحقيق هذا الهدف. ودخل بسبب محاولته “تصدير الثورة” إلى العراق في حرب مع النظام العراقي استمرّت ثمانية أعوام، راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان من الطرفين، فضلاً عن خسائر مادية قُدِّرت بـ400 مليار دولار، ما دفعه إلى التراجع عن فكرة جيش القدس والبدء بتشكيل مليشيات شيعية في عدّة دول عربية فيها أقليات شيعية مستغلاً المظلومية التي عاشتها هذه الأقليات نتيجة التمييز والاضطهاد ضدها من أنظمة بلادها، وأغرق الدول العربية في صراع سُنّي شيعي مزّق مجتمعاتها، وأقام حواجز صلبة بين مواطنيها، وثبّت نفوذه فيها.

نجح النظام الإيراني في ضرب عصفورين بحجر: اختراق أنظمة عربية بقوى شيعية منظّمة ومسلّحة، وتأسيس موطئ قدم له في هذه الدول. وقد قال القائد السابق لفيلق القدس، ذراع الحرس الثوري في العمليات الخارجية، الجنرال قاسم سليماني، “إنه أقام عشر إيرانات خارج إيران”، وتبجّح مسؤولون إيرانيون بأن بلدهم يسيطر على أربع عواصم عربية (بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء). ونشر موارد عسكرية كبيرة في دول جوار الكيان الصهيوني، ربيب الولايات المتحدة، باعتباره قاعدة أميركية متقدّمة وأداة محتملة للهجوم على الثورة الإسلامية، كقوة ردع لمنع هجوم أميركي أو إسرائيلي على الأرض الإيرانية. كذلك وظّف نجاحه هذا في الضغط على دول الخليج العربية للتفاهم على أمن الخليج وإخراج القوات الغربية، الأميركية بشكل خاص، منه.

استثمرت الولايات المتحدة هواجس دول الخليج العربية ومخاوفها من إيران وأذرعها، خصوصاً بعد هجمات حركة أنصار الله (الحوثية) بالصواريخ البالستية والمسيّرات على المدن والمطارات ومصافي النفط في السعودية والإمارات، وتعمد إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، تجاهل هذه الهجمات، حيث لم تكتفِ بعدم الردّ على الهجمات، بل زادت بسحب أنظمة دفاع جوي من نظامي باتريوت وثاد من السعودية، كي تضع دول الخليج العربية أمام الخيار الوحيد: التطبيع مع الكيان الصهيوني وإقامة تحالف عسكري، ناتو شرق أوسطي، معه للجم إيران ومليشياتها. وهذا ما كان، حيث طبّعت الإمارات والبحرين معه، ودخلت معه في علاقات أمنية وعسكرية واقتصادية، ومنحته فرص العمل والاستثمار في دولها ومجتمعاتها، علاقات مالت لصالحه، في ضوء قدراته العلمية والتقنية ونفوذه الدولي، ما جعل الأنظمة المنخرطة في هذه العلاقات ساحة لفعله وفرصة للهيمنة والسيطرة فيها والتسلل منها إلى بقية الدول والمجتمعات العربية الأخرى، والعمل على توظيف ذلك كله لدفن القضية الفلسطينية وإنهاء المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية. وانفتحت السعودية على حوار أمني معه وسمحت لطائراته المدنية والتجارية بالعبور في أجوائها، قبل أن تنخرط في مفاوضات حول التطبيع معه بواسطة إدارة بايدن. وحاولت تخفيف وقع التطبيع على النظام الإيراني بالتصالح معه، لكن الأخير تعامل مع الموقف باعتباره استسلاماً سعودياً لتوجهاته وخياراته، واشتركت مع الإمارات في مشروع ممرّ المتوسّط الذي يقود إلى تطبيع مجاني.

مع عملية طوفان الأقصى، وبدء حرب الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزّة وخطط الكيان لرسم خريطة جديدة للإقليم، أساسها هيمنة وسيطرة على فلسطين من النهر إلى البحر وترحيل الفلسطينيين خارج الضفة الغربية وقطاع غزّة، واكتشاف قدرة إيران على تحريك أذرعها وضبط إيقاع حركتهم وفق مصالحها وانخراطها في مفاوضاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ لتكريس حضورها ونفوذها في الإقليم وتحقيق مكاسب سياسية تؤهلها لاحتلال مركز الصدارة فيه، وجدت الأنظمة العربية نفسها أمام ساعة الحقيقة، وأنها ستكون خاسرة في حال فوز الكيان الصهيوني وحقق أهداف حملته العسكرية بسحق حركة حماس وإنهاء سلطتها في القطاع أو في حال نجاح إيران في حماية حماس من هزيمة شاملة وتثبيت مكاسبها في الإقليم. إنها أمام خيارين مرّين: الخضوع لإسرائيل أو الخضوع لإيران.

جنت الأنظمة العربية على نفسها وعلى شعوبها، حين استمرأت الاعتماد على الحماية الخارجية وعدم تحقيق قدرات ذاتية وازنة ورادعة، أساسُها مجتمعٌ حرُّ ومتماسكٌ وقوي، وحين استخفّت بالاستحقاقات العربية وتخلّت عنها تحت وهم الخلاص الفردي.

—————————-

نتنياهو والأمن الإسرائيلي المثقوب/ سمير الزبن

06 مارس 2024

لا مبالغة في القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، صانع أساسي للوقائع الحالية التي يمر بها الصراع على الأرض الفلسطينية، ليس بفعل ما حدث في 7 أكتوبر، بل قبل ذلك بكثير، منذ ترشّحه في مواجهة زعيم حزب العمل، شمعون بيريز، الذي خلف إسحاق رابين الذي اغتالته رصاصات اليمين المتطرّف في إسرائيل في منتصف التسعينيات، وهو الحدث الذي أعلن التحوّل المتسارع للشارع الإسرائيلي باتجاه اليمين واليمين المتطرّف، والذي عبّر نتنياهو عنه وأداره، واستطاع من خلاله تدمير العملية التفاوضية مع الفلسطينيين، وتدمير أي فرصة للسلام مع الفلسطينيين، فهو الرجل الذي بقي أميناً لخياره السياسي اليميني المتطرّف، رغم انتهازيته وتلوّناته على مدة العقود الثلاثة المنصرمة، فمنذ وصوله إلى السلطة في المرّة الأولى، يعتقد نتنياهو أن الهاجس الأمني الذي أطلقه في مواجهة “عملية السلام” في حملته الانتخابية الأولى هو الذي أوصله إلى السلطة في إسرائيل، وهو ما كرّره في كل مرّة خاض فيها انتخابات. ومن كثرة ما استخدم التعبير، استحقّ لقب “السيد أمن” من المعلقين الإسرائيليين. وكل ما فعله هو تحويل الخطاب الأيديولوجي الأمني الى برنامج عمل سياسي للحكومات الإسرائيلية التي تزعّمها، من أجل بناء إسرائيل المنيعة أمنياً، وبعدها أصبحت مفردة “الأمن” تشكل كل قاموسه السياسي، والورقة الرابحة التي يطلقها من جراب الحاوي مع كل انتخابات إسرائيلية لجمهور إسرائيلي يسير بثبات نحو اليمين، فهو لم يكلّ ولم يملّ من إعادة كل القضايا إلى الأمن، وفي كل مرّة ذكر فيها مفردة “السلام” وضع مفردة الأمن مقابلها، وإلا اختلّ الخطاب السياسي المتشدّد لرئيس الوزراء الذي يفضّل الظهور بمظهر الرجل القوي لدولةٍ قوية، قادرة على فرض شروطها على الآخرين، فمنذ جلسة الكنيست التي عرض فيها نتنياهو حكومته الأولى، استمرّ في تأكيد أن السلام في المنطقة يجب أن يتوافق مع المتطلبات الأمنية لإسرائيل، وإلاّ كان السلام مهزوزاً وغير ثابت.

بني نتنياهو متطلبات إسرائيل الأمنية على قاعدة أن إسرائيل في خطر، ويجب حمايتها من أي أخطار مستقبلية أو متوقّعة، كما يجب تعزيز أمنها الحالي. من أين يأتي الخطر؟ من كل الجهات. وبحسب نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس”، لا أحد في إسرائيل مقتنع بما يكفي فيما يتعلق بالسلام مع منظمة التحرير الفلسطينية ، بل من شأن قيام دولة فلسطينية توفير ظروفٍ مناسبة لتحقيق هدف “إزالة إسرائيل”، يمكن مقارنة هذه التصريحات القديمة لنتنياهو مع تصريحاته الجديدة عن مخاطر الدولة الفلسطينية.

يتّصل الموضوع الأمني، بحسب منطق نتنياهو، بأهمية الأراضي المحتلة، تحديداً الضفة الغربية أيضاً، التي يشكّل سورها، الحاجز الطبيعي الذي يحمي السهل الداخلي من أي هجوم، لا يحمي، بصورة مباشرة، سكّان إسرائيل الذين يعيشون على الساحل فحسب، إنما يمنح الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي لنقل قوات الاحتياط إلى الجبهة، فإن نتنياهو يقول إنَّ الدرس الذي يجب أن تتعلمه دولة صغيرة كإسرائيل أن أهمية الأرض، في زمن الصواريخ تزداد ولا تنقص، الأمر الذي يزيد من أهمية السيطرة على منطقة تمنح الجيش الإسرائيلي قدرة امتصاص هجوم أرضي، ويضيف أن إسرائيل ليست في حاجة إلى الاستيلاء على مناطق أخرى، إنما يجب أن تحتفظ بالعمق الاستراتيجي الحالي الذي تمثلّه الضفّة الغربية، لذلك يعتبر أن دولة فلسطينية ستكون مثل اليد الممدودة لخنق شريان الحياة لدى إسرائيل الممتد على طول ساحل البحر.

تفسّر هذه الخلفية الأيديولوجية سلوك نتنياهو التفاوضي على المسار التفاوضي الفلسطيني، عندما كان هناك مفاوضات، كما تفسّر سياساته اليوم. فهو لم يخفِ عدم راحته لأي اتفاق مع الفلسطينيين. حشد نتنياهو قائمة كاملة من الشروط الأمنية المسبقة، في وقتٍ دعا فيه الأطراف العربية إلى الدخول في عملية السلام مرّة أخرى من دون شروط مسبقة، لاعتقاده أن العرب سينسجمون مع الواقع القائم في نهاية الأمر، ولن يبقوا يضربون رؤوسهم في الجدار. لذلك عمل نتنياهو على أن تتآكل عملية السلام الثنائي من خلال المماطلة، مع الاستمرار في ادّعاء الرغبة الإسرائيلية في السلام، من خلال التكرار اللفظي للتمسّك بعملية السلام. إن الشروط التي وضعها الليكود للسلام، كانت هي مشنقة السلام مع الفلسطينيين ولأي وعد سلام قادم. رغم ذلك، تحققت نبوءته التي عمل عليها، بتحقيق “سلام” مع دول عربية بعيدة عن الحدود الإسرائيلية، عبر “اتفاقات أبراهام” التي كرّست التطبيع مع عدة دول عربية، متجاوزاً تقديم أي تنازلٍ للفلسطينيين، وتجاوزت الدول العربية المطبّعة “مبادرة السلام العربية” التي التزمت بها في قمّة بيروت 2002.

لم يغيّر نتنياهو من خطابه السياسي، وهذا الخطاب الذي لا يريد أن يرى الفلسطينيين ليس وليد غضب ما بعد هجوم 7 أكتوبر الذي قامت به المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، على مستوطنات غلاف غزّة، بل هو خطابٌ قارٌّ عند اليمين الإسرائيلي، الذي مثله بنيامين نتنياهو أفضل تمثيل في السنوات الثلاثين المنصرمة، والتي شغل فيها منصب رئيس الوزراء عدة مرات، إذ إنه أطول رئيس وزراء يشغل المنصب.

إن الزلزال الذي أوقعه هجوم حركة حماس في غلاف غزة، والذي كشف هشاشة خطاب الأمن الذي مثله نتنياهو خلال حياته السياسية، وهشاشة الإجراءات والتقنيات الأمنية والأسلحة الحديثة، والأسوار فوق الأرض وتحت الأرض التي بنتها إسرائيل في مواجهة غزة، والتي انكشفت ثغراتها أمام مقاتلين بأسلحة فردية مذهولين من انهيار الدفاعات الإسرائيلية التقنية والبشرية، ما مكنهم من إذلال إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر؟! والمفارقة، أن غزة المحاصرة، والتي حرثتها الآلة العسكرية الإسرائيلية عدة مرات، وخاضت ضدها حروب متعددة، وحاصرتها لسنوات طويلة، جاءت حكومة نتنياهو بعد الفشل الأمني الذي منيت به، لتقول إن هذا الهجوم، هو عملية «إبادة لليهود»، وكأن الفلسطينيين هم الذين يحتلون إسرائيل، ما استدعى رداً عسكرياً إسرائيلياً متوحّشاً ما زال مستمرّاً من الجيش الأكثر تطوراً وتسلحاً في المنطقة.

على العكس من التوقع الذي يفرضه أي تفكير عقلاني، من أن لا حلول عسكرية لمشكلات سياسية، لكن إسرائيل، لا ترى القضايا إلا عبر فوهة البندقية، وأن قتل الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة هو التعبير الأمثل عن أمن إسرائيل، كما افتخر إيتمار بن غفير وزير الأمن والأكثر تعبيراً عن حقيقة إسرائيل وإجرامها. واليوم تزيد هذه النظرة ضيقاً، وهو ما أنتج وينتج جرائم حرب ارتكبتها وترتكبها وسترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية التي جنت وتستبيح قطاع عزة وسكانه، في مواجهة العالم كله.

————————–

هل تأثّرت العلاقة الروسية الإيرانية بالحرب؟/ مروان قبلان

06 مارس 2024

إذا تأكّدت الأنباء التي نشرتها “رويترز” عن تزويد إيران روسيا بصواريخ أرض – أرض قصيرة المدى (300 – 400 كم) لرفد الترسانة الروسية التي تعاني نقصاً في الذخائر بعد عامين على حرب أوكرانيا، فهذا يعني أن الوصف الذي التصق سنواتٍ بالعلاقة الروسية – الإيرانية بأنه زواج مصلحة لم يعد صالحاً لفهمها.

حتى وقت قريب، كانت العلاقات الإيرانية – الروسية تتسم بالشك وعدم الثقة، يغذّيها تاريخ طويل من الصراع بين البلدين، حيث اقتطعت الإمبراطورية الروسية أجزاء واسعة من إيران في عهد الأسرة القاجارية (1794-1925)، بما في ذلك مناطق جنوب القوقاز (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا). خلال العقدين الأخيرين، اتّسمت العلاقة بين البلدين بالتذبذب، حيث صوّتت روسيا إلى جانب جميع قرارات مجلس الأمن الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، بما فيها التي فرضت عقوبات على إيران (مثل القرار 1929 لعام 2010)، لكن الحرب في سورية فرضت تعاوناً غير مسبوق بين الطرفين، حيث عمل سلاح الجو الروسي غطاءً للمليشيات الإيرانية العاملة على الأرض منذ 2015.

وبشكل دائم تقريباً، كان هناك تياران رئيسان في إيران بخصوص العلاقة مع روسيا، أحدهما يشكّك في نواياها ويرى أنها تعيق أي تقارب غربي مع إيران، لأن ذلك يقضي على إمكانية استخدام إيران ورقة تفاوض في العلاقة مع الغرب، وكان وزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، أبرز ممثلي هذا التيار، وقد حمل، في التسريبات الصوتية الشهيرة للمقابلة التي أجريت معه في أواخر عهد حسن روحاني، بشدّة على روسيا واتهمها بأنها حاولت عرقلة التوصل إلى اتفاق عن برنامج إيران النووي خلال إدارة أوباما. كما برزت اتهامات لروسيا بأنها حاولت عرقلة التوصل إلى اتفاق بين إيران وإدارة بايدن في مارس/ آذار 2022 عبر اشتراط إعفاء علاقتها التجارية مع إيران من العقوبات الأميركية والغربية التي نتجت عن غزو أوكرانيا لموافقتها على الاتفاق النووي.

التيار الآخر يعبَّر عنه بوضوح الحرس الثوري، وتتبناه إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي، ويميل إلى تعزيز العلاقات مع روسيا والوصول بها إلى مستوى التحالف. وهذا هو التيار الذي استدعى التدخّل العسكري الروسي في سورية عام 2015، خلال الزيارة الشهيرة التي قام بها الى موسكو قائد فيلق القدس حينها، قاسم سليماني، رفقة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي (وزير الخارجية السابق) وأمير عبد اللهيان (مساعد وزير الخارجية حينها).

هذا التيار هو الذي دفع، وما يزال، إلى تطوير العلاقات بين روسيا وإيران، وقد وجد الفرصة مواتية للمضي في ذلك بعد فشل إدارة روحاني – ظريف في إحياء الاتفاق النووي مع إدارة بايدن في ربيع عام 2021، وتعمّق هذا التوجّه مع الغزو الروسي لأوكرانيا حيث قرّرت إيران، منذ الشهور الأولى للحرب، دعم المجهود الحربي لروسيا عبر بيعها طائرات مسيّرة من طراز “شاهد 136″، تقول أوكرانيا إن روسيا استخدمت نحو 3700 منها خلال الحرب، وصولاً إلى بيع روسيا صواريخ أرض – أرض من طراز فاتح وذو الفقار. في المقابل، تأمل طهران في الحصول على طائرات مقاتلة من طراز سوخوي (Su35) وطائرات مروحيّة من طراز (MI28) لتعزيز قدراتها الجوية المتهالكة.

لم يقتصر التقارب الروسي – الإيراني على الجوانب العسكرية، بل تعدّاه الى القضايا السياسية، حيث لوحظ خلال الحرب على غزّة ارتفاع نبرة الانتقادات الروسية لإسرائيل على خلفية الجرائم التي ترتكبها فيها. لكن هذا التغيير لم ينسحب على التفاهمات الروسية – الإسرائيلية في سورية، حيث كثفت إسرائيل من عملياتها العسكرية في سورية منذ الحرب على غزّة (بالمقارنة تغلق روسيا المجال الجوي السوري تماما أمام الطيران التركي في الشمال). كما لوحظ، منذ انطلاق الحرب على غزّة، أن روسيا تحاول الاستفادة من الضغوط التي يتعرّض لها الوجود العسكري الإيراني، من إسرائيل والولايات المتحدة، والتي دفعت مئات من ضباط الحرس الثوري الإيراني إلى الخروج من سورية، لاستعادة نفوذها الذي كانت خسرته لصالح إيران هناك نتيجة انشغالها في حرب أوكرانيا، هذا يعني أن العلاقة الروسية – الإيرانية ما تزال مرتبطة بشدّة بطبيعة علاقة الطرفين مع واشنطن، … كيف ستبدو هذه العلاقة إذاً في حال عاد ترامب إلى الحكم؟

دلالات

العربي الجديد

—————————

التطبيع مع معاداة السامية/ سلام الكواكبي

03 مارس 2024

صارت مفردة التطبيع ترِد على كل لسان، عالماً أو جاهلاً بمعناها وأثرها. كما أنها تتكرّر في كل نصٍ يريد صاحبُه أن ينال من خصمه الفكري، إن كان صاحب الاتهام يُفكّر ويحمل مبدأً، أو أنه لا يُفكّر ويجد في التهمة ملجأً. واختلف فقهاء وسائل التواصل وفلاسفتها على تعريف هذه العبارة، فمنهم من اعتبرها مُلحقةً فقط بمعنى الانهزام والتخاذل والصلح مع عدوٍ حقيقي أو متخيّل، ومنهم من اعتبرها مرتبطة بحالة غضب مؤقت يمكن لهم، وبفتوى من مؤثّرٍ على الشبكة، أن يبرئوا ضحية القذف بها منها. ويكاد جُلّهم يجهل معناها اللفظي، ففي التطبيع عودة إلى طبيعة الأشياء والأمور والحالات. فهم إذاً، عندما يتّهمون فرداً أو جماعة بالتطبيع مع العدو، ومن المفضل أن يكون الإسرائيلي المحتل الغاشم، فمن المحتمل أنهم يعتقدون بوجود مرحلة مضت كانت فيها العلاقات مع هذا المحتل طبيعية. وبعيداً عن الجدل اللغوي والمفاهيمي، وحتى لا يتّهمنا أحدُهم بالدوران حول صلب المسألة، فالجميع يستخدم هذا التعبير سلباً للنيل من خصمٍ أو لإدانة تصرّفٍ يسعى مُقترفه للتصالح مع عدوٍ جمعي يحتلّ أرضاً ويغتصب حقوقاً وينتهك تاريخ شعبٍ ويهزأ بمقدّساته.

مقاطعة العدو الإسرائيلي ومقاطعة بضائعه وإدانة المتصالحين معه، مجاناً ومن دون أي مقابلٍ يأخذ بالاعتبار حقوقاً ومآلات، نجح كثيرون، من عربٍ ومن عجم، في ممارستها قولاً وفعلاً، خصوصاً في أوساط لا تحمل ضغينة شخصية تدفعها إلى التلاعب بالمفاهيم وتغيير استعمالاتها. في المقابل، ينشد هؤلاء المقاطعون مناصرة قضية عادلة ومقاطعة أصحاب العدوان بشكل فعّال، يرمز لإيمانهم الحقيقي بالقضية ونصرتهم لها، ولا علاقة له بتصفية حسابات وتسديد ديون. لذلك، نراهم نادراً ما يهتمون بتوزيع شهادات البراءة أو محاضر الاتهام، إلا إن كاد “المتّهمون” أن يقولوا خذونا. إذاً، فصُلب اهتمام هذا الصنف من البشر هو القضية والدفاع عنها ومناصرة أصحابها. أما جلّ اهتمام الآخرين فهو توزيع الاتهامات يسرة ويمنة على من يستحقّها نادراً، وعلى من لا يستحقها غالباً.

ما أكثر الفرص التي تُتاح لأصحاب هواية رمي الآخرين بتهمة التطبيع ظلماً لكي ينالوا ممن لا يتفقون معهم رأياً أو ممن ينافسونهم منصباً أو موقعاً أو مكانةً، فلمجرّد أن يكتب أحدهم نصّاً ينسبه لصاحبه، ويكون صاحبه “عدواً” فيصير ناقل قول “الكافر” كفراً، ولو كان هذا “الكافر” قد حلّل وبيّن، وأوضح كذب العدو وتزويره الحاضر والتاريخ. وأذكر مرّة أنني اتُهِمتُ بالتطبيع لعودتي إلى نصٍ كتبه إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي الذي يعيش منفيّاً بسبب موقفه الصريح من الاحتلال الإسرائيلي، وهو المعروف بكتابه التوثيقي الأساسي عن التطهير العرقي في فلسطين في سنة 1948. ويحلو لآخرين اتهام أكاديمي بمشاركته في مؤتمر دولي شارك به أحدٌ من أكاديميي العدو، فمن المستحسن أن يُترك الكرسي فارغاً ليسرح الطرف المعتدي ويمرح ويعربد ويستعرض روايته الأحداث، ويُظهر أن شعبه هو الضحية، وأن الآخر ليس فقط هو المعتدي، بل هو لا يحاور، وعنصري، ويهرب من المواجهة. ومن الطبيعي أن تكون المشاركة للمشاركة بحد ذاتها مرفوضة، إن كان صاحبها غير قادر على المواجهة أو غير راغب بها. كما أن المشاركة غير محمودة إن كان موقف منظّمي المؤتمر واضحاً من الموضوع، ويميل لصالح المعتدي. وبالتالي، سيكون وجود الطرف الضحية درعاً يحتمي به المنظّمون ويدّعون الموضوعية. إنه أمرٌ معقّدٌ ومتشابك، لا أدّعي الإحاطة به بشكل كامل في هذا النص القصير.

استساغ كثيرون ممن سقطوا في حفرة البحث عن ملجأ لعجزهم السياسي والإنساني والأخلاقي عن اتخاذ موقف واضح وصريح من الحقّ المطلق للإنسان في أن يكون إنساناً، في اجترار تعابير لا يُدركون معناها، أو يدركونه، ولكنهم يمتطون صهوتها كمُطالبٍ بحقٍ يُراد به باطل.

في الطرف المقابل، أي في الغرب تحديداً، ومن يريد أن يحظى برضاه من العرب، هناك تهمة “معاداة السامية”. وهي جاهزة لمواجهة كل من تسوّل له نفسه الأمّارة بالسوء أن يوجّه، ولو حتى خنصر الاتهام، إلى دولة إسرائيل بانتهاك حقوق شعبٍ مُستَعمَرٍ وأراضيه محتلة. أما إن أراد، والعياذ بالله، أن يدافع عن حقّ المستضعفين بمقاومة المعتدي، فستُضاف تهمة ترويج الإرهاب إلى محضر الاتهام. ويمكن القول، ومن دون أي تردّد، إن سهولة الاتهام بالتطبيع وخفّته تساويان وتقابلان تهمة معاداة السامية. فهما غالباً ما تُستخدمان في غير موقعهما الصحيح. وهما غالباً ما تقذفان أبرياء منهما بالأذى وبالتشهير.

في إحدى المجلات الفرنسية المناصرة للعدو الإسرائيلي، وردت إشارة إلى أنني “معادٍ للسامية” في معرض مراجعة مواقفي وكتاباتي عن القضية الفلسطينية. وبعد إهمال المجلة نشر حقّي في الرد، ولثقتي بالعدالة وبالقانون، توجّهت إلى محامٍ متخصّص بقضايا التشهير، الذي سرعان ما اهتم بالأمر بشكلٍ إنسانيٍّ ومتحمّس. وبسرعة قياسية، أجبر المجلّة على نشر الرد الذي أوضحت فيه مواقفي، وندّدت بالتهمة التي أُطلقت جزافاً لتثنيني عن مناصرة الحق. وبعد الانتهاء من القضية، أسرّ لي المحامي بأن التعامل مع هذه التهمة يمثّل تحدّياً مهنيّاً له يتجاوز تهم القتل والاغتصاب.

——————————

==================

القدس العربي

————————–

واشنطن وحرب الإبادة الإسرائيلية: عظام ريغان وجثة بايدن/ صبحي حديدي

08 أذار 2024

في الـ«غارديان» البريطانية كتب مهدي حسن، الإعلامي الهندي/ البريطاني المعروف، يختصر مقدار التأثير الذي يملكه الرئيس الأمريكي جو بايدن لوقف المجازر الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ على هذا النحو، الدراماتيكي من حيث الشكل، والمسلّح بواقعة فعلية من حيث المضمون: «السيد الرئيس، قُمْ بذلك الاتصال الهاتفي. أوقف هذه المجزرة». وحسن يفترض أنّ سيد البيت الأبيض يمكن أن يقتدي بسَلَف له في الموقع إياه، الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان؛ الذي راعته مشاهد القصف الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت، فبادر بتاريخ 12 آب (أغسطس) 1982، اليوم الذي سوف يُسمّى «الخميس الأسود» لأنّ القاذفات الإسرائيلية نفذت غارات على مدار 11 ساعة متعاقبة، إلى الاتصال برئيس حكومة الاحتلال في حينه، مناحيم بيغين، وقال بالحرف: «مناحيم، هذا اسمه هولوكوست». بيغين، بالطبع، ردّ هكذا: «أعتقد أنني أعرف معنى الهولوكوست» الأمر الذي لم يردع ريغان فأعاد التشديد على أنّ ما تشهده العاصمة اللبنانية هو «دمار وإراقة دماء لا حاجة لهما» ويتوجب وقف إطلاق النار؛ وهذا ما حدث بالفعل، إذْ غاب بيغين 20 دقيقة قبل أن يعاود الاتصال بالرئيس الأمريكي لإبلاغه أنه أمر أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي يومذاك، بوقف الغارات على بيروت.

حسن ليس ساذجاً بالطبع، فهو أحد أمهر العارفين بطبائع الانحياز الأمريكي الأعمى خلف سياسات دولة الاحتلال، وإلى درجة التواطؤ على جرائم الحرب وتغذية المجازر الإسرائيلية بالسلاح والمال والمساندة الإعلامية والدبلوماسية وتسخير سلاح الفيتو. وهو، إلى هذا، يدرك جيداً أنّ قرّاء مقاله هذا ليسوا بالسذّج من جانبهم، أو على الأقلّ لم يتعودوا منه أن يستغفل عقولهم أو يستخفّ بركائز المنطق الأعلى الذي يحكم العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية. لكنه، في استعادة واقعة ريغان بصدد بيروت، لم يشأ إقلاق عظام الرئيس الأمريكي الأسبق الراحل، بالمقارنة مع الرئيس الحالي الحيّ/ المرشح مجدداً لولاية رئاسية ثانية؛ ولا حتى عقد مقارنة كوارث وحروب إبادة بين بيروت 1982 وقطاع غزّة 2024 (رغم تنويهه إلى أنّ ريغان تأثر حينذاك بمرأى طفل لبناني جريح، بينما أجهز الاحتلال الإسرائيلي على 12.000 طفل فلسطيني في قطاع غزّة حتى ساعة كتابة المقال).

في صياغة أخرى، للمرء أن يفترض وعي حسن التامّ، المسلّح بوقائع شتى خلّفها التاريخ حول العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، بأنّ الركون إلى عظام ريغان يصعب أن يستنهض جثة بايدن، الهامدة أو تكاد في ممارسة أيّ تأثير ملموس لإجبار دولة الاحتلال على وقف إطلاق النار وتعليق حرب الإبادة ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة. ما يسوقه حسن، في المقابل، ولعله جوهر النبرة الإجمالية في مقالته تلك، هو دحض المزاعم الرائجة (على ألسنة صحافيين ومعلقين وأعضاء في الكونغرس) التي تقول إنّ البيت الأبيض لا يملك «رافعة ضغط» ملموسة وفعلية وفعالة لإجبار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على القبول بوقف إطلاق النار. ذلك، من جانب آخر، لأنّ تلك المزاعم ليست أقلّ من ذريعة لتبرير المزيد من الاصطفاف الأمريكي خلف دولة الاحتلال، والحثّ على إرسال دفعات أخرى أضخم من السلاح والعتاد والأموال لتغذية حرب الإبادة.

الحقيقة، يساجل حسن، أنّ «القائد الأعلى لجيش الدولة الأغنى في تاريخ العالم أبعد ما يكون عن العجز» وهو على شاكلة كلّ قائد أعلى قبله «يمتلك الكثير من الروافع»؛ وليس المرء في حاجة إلى تحكيم كبار رجال الدفاع والأمن في الولايات المتحدة للتأكد من هذه الحقيقة، وتدقيق مدى فاعلية هذه الرافعة أو تلك. خذوا بروس ريدل، الذي قضى ثلاثة عقود في المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي ونصح أربعة رؤساء؛ الذي يعتبر بوضوح تامّ أنّ «الولايات المتحدة تمتلك رافعة هائلة. في كلّ يوم نزوّد إسرائيل بالصواريخ، والمسيرات، والذخيرة، وما تحتاجه لإدامة حملة عسكرية كبرى مثل هذه التي تشهدها غزّة». الأمر، مع ذلك، ينحصر في «حياء» الرؤساء الأمريكيين «إزاء استخدام تلك الرافعة، تبعاً لأسباب سياسية داخلية».

وجهة ثانية يسوقها حسن، على لسان كبار المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، كما في مثال وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت الذي رضخ للمطلب الأمريكي بأن يكون إدخال المساعدات رديفاً لصفقة التبادل، وأعلن التالي في خطاب أمام الكنيست: «ألحّ الأمريكيون، ولسنا في موقع يسمح لنا برفض طلبهم. إننا نعتمد عليهم في الطائرات والمعدات العسكرية. فما المتوقع منّا؟ أن نقول لهم: لا؟». بعد أقلّ من شهر كان العميد المتقاعد إسحق بريك قد ذهب أبعد: «جميع صواريخنا، والذخيرة، والقذائف دقيقة التوجيه، وجميع الطائرات والقنابل، كلها من الولايات المتحدة. وفي أي دقيقة تشهد إغلاقهم الصنبور، فلن نستطيع القتال. ولن تتوفر لنا القدرة. الجميع يفهمون أننا لا نستطيع خوض هذه الحرب من دون الولايات المتحدة. نقطة على السطر».

والسؤال الذي يطرحه حسن، استطراداً، هو ما إذا كان بايدن يعبأ بالأرواح العربية أقلّ من ريغان؛ ويحيل الإجابة إلى ما نقلته مجلة «مذر جونز» في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على لسان مسؤول سابق في إدارة بايدن: «لا يلوح أنّ الرئيس يقرّ بإنسانية كلّ الأطراف المتأثرة بالنزاع، إذْ وصف المعاناة الإسرائيلية بتفصيل واسع، بينما ترك المعاناة الفلسطينية غامضة، إذا كان قد تطرق إليها أصلاً». بالطبع، ليس لأنه صاحب المقولة، الركيكة المكرورة المتكاذبة، بأنّ المرء لا يحتاج أن يكون يهودياً كي يصبح صهيونياً، فحسب؛ أو لأنه القائل، منذ بدايات انتخابه في الكونغرس، بأنّ دولة الاحتلال هي الاستثمار الأمريكي الأهمّ، ولو لم توجد لتوجّب على أمريكا أن تخلقها، فحسب أيضاً؛ بل أساساً لأنّ علائم الخرف الذي تجعله يخلط بين رئيس المكسيك ورئيس مصر هي محاذية لبواعث الانحياز الأعمى التي تجعله يصادق على المزاعم الإسرائيلية حول مشفى المعمداني أو قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين.

بين مهاتفة ريغان مع بيغين، واضطرار بايدن إلى استخدام شتيمة حروف الـF الأربعة الشهيرة في وصف نتنياهو داخل حديث المجالس، ثمة 42 سنة من اعتناق رؤساء الولايات المتحدة معدّلات في السياسة الإسرائيلية لا تقلّ عن تسعة أعشار؛ وثمة مئات مليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية، والأسلحة عالية التدمير والتخريب والإبادة، وعشرات الحالات في استخدام حقّ النقض لتعطيل أيّ وكلّ مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يمسّ دولة الاحتلال. ولعلّ الأصل، الذي فاتت حسن الإشارة إليه، هو أنّ بايدن كان ضمن أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين أيدوا غزو العراق سنة 2003، ولا يبدّل من تبعات موقفه أنه أبدى الندم عليه لاحقاً. ما لا يصحّ أن يُفوّت، كذلك، هو حقيقة أنّ بايدن يظلّ رجل وول ستريت المخلص والمدافع الشرس عن مصالح والشركات الكبرى والرساميل العملاقة الأكثر شراسة ضدّ المجتمع، وسجلّه في هذا حافل ومذهل؛ يتصدره تعاونه مع عتاة الجمهوريين لإقرار قانون إساءة استخدام مبدأ الإفلاس، الذي كفل للشركات الكبرى منافذ تهرّب عديدة ومنعها عن ملايين المواطنين المشتغلين بالأعمال الصغيرة.

وهكذا، إذا كان استدعاء عظام ريغان حول بيروت، لا يساوي بالضرورة التنقيب عن مظاهر حياة في همود جثة بايدن بصدد قطاع غزّة؛ فإنّ ما ارتكبته دولة الاحتلال وتواصل ارتكابه من هولولكوستات متعاقبة لا يتغير جوهرياً، بقدر ما يتعدد ويتكرر وتتضاعف أفانينه الوحشية والهمجية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

——————————

ماذا بشأننا؟ لماذا ليس بيننا عادلون عاقلون؟/ ياسين الحاج صالح

6 – مارس – 2024

مهما يقل المرء، يكاد يستحيل أن يبالغ في قول أشياء سيئة عن إسرائيل. طوال تاريخ معاصر غير قصير كان هذا الكيان الإسبارطي المسلح المبالغة مجسدة، الاستثناء والغطرسة والعنصرية والعدوانية، وإدعاء الأخلاقية (الديمقراطية الوحيدة في الشرق الوسط، الجيش الأكثر أخلاقية في العالم). وفي أساس كل ذلك مزيج متفجر من مظلومية ليست كسواها من المظلوميات، المظلومية المطلقة (الهولوكوست وتاريخ ألفي من الاضطهاد) ومن تفوق ليس كسواه كذلك، لا أقل من «شعب الله المختار» وبصيغة علمانية لا أقل من عبقرية يهودية. ثم لا يكاد يمكن المبالغة في هجاء داعمي إسرائيل من القوى الغربية التي ظهر خطابها متطرفاً، بل عدمياً، بخصوص فلسطين وحرب التعذيب الجارية في غزة. إن كان من خطاب يشبه خطاب داعش في العدمية، فهو ما يسمع المرء ويعاين في ألمانيا بخاصة. قبل حين أمكن لوزيرة الثقافة الألمانية، كلوديا روت، وهي من حزب الخضر التقدمي، أن تقول إنها إنما صفقت في حفل توزيع جوائز مهرجان برلينالي السينمائي للمخرج الإسرائيلي يوفال إبراهام، وضمنياً ليس لشريكه الفلسطيني باسل عدرا، علماً أن المخرجين الشابين نقديان على حد سواء حيال إسرائيل وحربها في غزة، وكونها دولة أبارتهايد، تميز قانونياً وسياسياً بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، بما في ذلك في أراضي 1948. بأي شيء يا ترى يختلف ذلك عن رفض السلفيين المفعم بالكراهية الترحم على غير المسلمين (على آرون بوشنل مؤخراً مثلاً، أول أمريكي يضحي بنفسه احتجاجاً من أجل فلسطين)؟

لكن هجاء الأعداء والخصوم سهل. ماذا بشأننا؟ غزة لا تسحق اليوم بقوة إسرائيل وداعميها الغربيين، بل كذلك لأنه ليس في فلسطين، ولا في عالم العرب، من يمكن أن يكون سنداً لأهلها، إنسانياً وأخلاقياً وحقوقياً، وليس على مستوى القوة والسلاح، هذا حتى لو لم نقل شيئاً عن أن ضعفنا العسكري والتكنولوجي ذاته ليس قدراً مقدوراً، وإنما هو متصل بإفلاس التركيبة السياسية والأخلاقية والحقوقية لمجتمعاتنا المعاصرة. من جهة إسرائيل لا تخشى أي عواقب من الجهة العربية، هذا إن لم تتلق التشجيع سراً. ومن جهة أخرى لسنا الضعفاء العادلين الذين يمكن أن يغضبوا غضبة حق، ويناضلوا بوسائل القانون ومؤسساته المتاحة مثل جنوب أفريقيا. مَن اليوم يمكن أن يغضب غضبة حق في مجالنا على جرائم إسرائيل الحقيقية والكبيرة التي لا تحتاج إلى برهان؟ بشار الأسد، قاتل فوق نصف مليون من السوريين؟ السيسي، سجان المصريين وجلادهم؟ حسن نصر الله، قاتل السوريين واللبنانيين؟ معلمه الامبراطور خامنئي، الحريص فوق كل شيء على عدم تجاوز حد معين مع كبار امبراطوريي اليوم؟ مبخريهم من كتبة وشعراء وأكاديميين؟ أردوغان الذي تلون أكثر من ألوان الطيف طوال فوق عشرين عاماً كي يبقى في الحكم؟ تحتاج غضبة الحق إلى أن يكون المرء عادلاً، و«تحته نظيف» ليستطيع أن يقف ويعترض. ما لا تحتاج إلى حس بالحق هي غضبة صارت هوية، إدانة دائمة للعالم على كيده وتمييزه وازدواج معاييره، تعفينا من أن نكون عادلين وأخلاقيين. هذه الغضبة يجيدها أي ممانع كاذب وعديم إحساس، بل هي خطته الدائمة لمنح النفس شعوراً بأنه ذو ضمير وعلى حق. وهي بعد ذلك كاملة التكيف مع السوء السائد وجزء منه.

ما يفتقر إليه عالمنا، المجال العربي بخاصة، ومنه فلسطين، ومنه بطبيعة الحال سوريا، هو انبعاث أخلاقي وروحي أو حس بالحاجة إليهما على مستوى النخب السياسية والدينية والعلمانية. بقادة سياسيين وزعماء منظمات وتشكيلات مسلحة يصعب أن تنسب إلى أي منهم مسالك عادلة تُذكر، أو فكرة واحدة مثيرة للتأمل، أو تجده شخصاً تتحاور معه فتتفق وتختلف، مشكلتنا ليست بأعدائنا. فكيف إن كانت أيديهم مخضبة بالدم، تعذيباً واغتيالاً ومجازر؟ كيف إن كان معظمهم لا وطنيين على مستويين: تابعين لقوة أجنبية، وطائفيين في آن معاً؟

أظهر عالم ما بعد الثورات العربية إفلاساً شاملاً في مجالنا. إفلاس على مستوى الدول أجهزة ومعان ونخب، تثير التساؤل الجدي عن حاجة الفلسطينيين إلى دولة؛ وإفلاس على مستوى الدين، سلطاته ومنظماته ومعانيه كذلك، بما في ذلك حماس التي لا يريد المرء نقدها في مثل هذه الظروف، لكن لدينا من التجربة المتواترة ما يكفي للقطيعة مع ما يقتضيه منطق التعبئة من سكوت على ما لا يسكت عنه من مسالك طرفنا، وإعطاء الأولوية للالتزام بالمبدأ والعدالة، وليس لحسابات سياسية وقتية مكسبها القريب غير مضمون وخسارتها الأبعد مدى مؤكدة. منطق التعبئة نفسه هو ما حدا بحماس لأن تتصالح مع قاتل نصف مليون سوري، وترتبط بإيران وأتباعها. بمثل هذه الاستعدادات والتكوين، حماس خسرت الموقع العادل، ومثلما هو ظاهر طوال خمسة شهور لم تكسب القوة الوقتية. تتكثف في الحركة كتركيب بين سلطة سياسية ومنظمة دينية حقيقة أن إفلاسنا دين ودولة. المنظمات الدينية السورية، ومنها ما صارت سلطات حكمت، كانت مثالاً للشر والجور، لا تستطيع أن ترفع رأسها حتى أمام بشار الأسد.

لكن غير هذين، أهل الدولة وأهل الدين، لا يظهر الأرخبيل اليساري العلماني الليبرالي، وكاتب هذه السطور منه، ما يمكن أن يكون وعداً عاماً، أرضية لهيمنة، دون أن يسجل بعد ذلك في الغالب تميزاً فيما يفترض أن يتميز فيه هذا الطيف: حقول الفلسفة والفكر والفن والأدب، ودون أن يتميز بخاصة بالاستقلالية عمن يتعين الاستقلال عنهم: أهل الدولة وأهل المال بخاصة، ولكن كذلك الاستقلال الفكري عن مرجعيات جاهزة، وبالعكس العمل على صنع فكر مرجعي.

مشكلتنا، مرة أخرى، بؤس روحي وأخلاقي، لا يمكن أن تكون لنا ذاتية في العالم دون الاجتهاد للخروج منه. هذا الاجتهاد لا يضمن لا القوة السياسية ولا النصر العسكري، لكنه يمكن أن يكون خطوة نحو تشكل ذات أخلاقية تاريخية، تستطيع أن تغضب حيال ما يغضب.

معظم ما تقدم يقوله بصور متنوعة ناقدون متنوعون بدورهم للبنى السياسية والثقافية والاجتماعية العربية، يساريون وليبراليون وعلمانيون. ما يكاد يغيب عموماً عن مداولاتنا هو أنه يتعين بالفعل «تغيير العالم» وإدراج تطلعاتنا للانبعاث الروحي والأخلاقي، في مسعى ثوري لتغيير العالم، لم يعد جدياً التفكير فيه كصيغة مموهة للعداء للغرب، ولا كشكل بلاغي للتعبير عن عاطفة عالمية غير متعينة. عالم يجري تعريفه بإسرائيل وألمانيا وأمريكا وأوروبا الغربية، شركاء الجينوسايد في غزة، هو جدير جداً بأن يتغير لأنه متطرف، يتراجع فيه ما هو عام وعالمي. إنه عالم القبيلة الأقوى.

ثم إنه لا شيء يحتم استبعاد مقاومات مسلحة، هنا وهناك، يقررها على الأرض من يعانون القهر والتمييز، ومن يتحملون العواقب كذلك. المهم هو انضباط مقاوماتنا المسلحة المحتملة بالقضية التحررية، تحرر وطني في الحالة الفلسطينية، واحترامها المبادئ التي نستنفرها نحن حين نكون تحت العدوان، ومنها تجنب استهداف المدنيين والخطابات الإبادية، الدينية والقومية، ومنها بالطبع تحمل المسؤولية عن أفعالنا وتقديم كشف حساب للمتأثرين بتلك الأفعال من مواطنينا.

ومن شأن خضوع مقاومتنا المسلحة لمبادئ عامة، أخلاقية وسياسية وقانونية، كأحد أوجه تجدد روحي وأخلاقي لا مناص منه، أن يكون تشريفاً لضحايانا وصوناً لكرامتهم. إننا نقتلهم مرة أخرى حين لا نكون عادلين عاقلين، حين تكون أنظمتنا ومنظماتنا علينا كأننا العدو، تقتل مثله الأحياء والموتى.

كاتب سوري

—————————-

الحرب على غزة في مرآة تركيا/ بكر صدقي

6 – مارس – 2024

في الوقت الذي أدت فيه حرب إسرائيل الإبادية على غزة، وتؤدي، إلى حدوث خضات كبيرة في العالم الغربي، كان لافتاً خفوت انعكاساتها في العالمين العربي والإسلامي.

وتتصاعد ردود الفعل الشعبية الغاضبة على تلك الحرب وعلى مواقف الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية المنحازة بالمطلق إلى إسرائيل و«حقها» المزعوم في «الدفاع عن نفسها» ضد النساء والأطفال العزل المحاصرين في قطاع غزة. فمن مظاهرات شبه يومية في أبرز عواصم ومدن تلك الدول إلى تصريحات أصحاب الضمير الحي من صناع الرأي وصولاً إلى إحراق الجندي الأمريكي آرون بوشنل لنفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن وهو يصرخ: «لن أكون شريكاً في إبادة الشعب الفلسطيني!» تتواصل ردود الفعل الغاضبة، فيما لا تخرج مظاهرات شعبية مماثلة في المدن والعواصم العربية، لأسباب ليس هذا مقام الخوض فيها.

أما في تركيا فقد شهدت إسطنبول ومدن أخرى عدداً من المظاهرات الكبيرة تنديداً بالحرب الإسرائيلية وتضامناً مع الشعب الفلسطيني. وهذا طبيعي بالنظر إلى مكانة القضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي التركي، ولدى التيارات السياسية الإسلامية واليسارية. غير أن التفاعل الحكومي الذي كان متوقعاً مع الحدث بدا فاتراً إلى حد ما، وأقل من التوقعات بالنظر إلى مواقف سابقة للحكومة التركية كلفتها قطيعة مديدة مع إسرائيل، وتصريحات نارية للرئيس أردوغان، في مناسبات عدة، أدت إلى نمو شعبية كبيرة له في العالم العربي منذ بدايات العشرية الثانية من القرن.

فقد كان الموقف الرسمي التركي «متوازناً» بين إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين وقتل إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين في غزة. ويعزى ذلك إلى سعي القيادة التركية، في هذه الفترة، إلى ترميم علاقاتها مع دول حلف شمال الأطلسي، وبالأخص مع الإدارة الأمريكية. فقد صادق البرلمان التركي على رفع الفيتو التركي السابق على دخول السويد إلى حلف شمال الأطلسي، مقابل تمرير صفقة طائرات F 16 الأمريكية في الكونغرس التي كانت عالقة فيه منذ سنوات. ومن علامات حرص القيادة التركية على ترميم علاقاتها مع واشنطن أن الشرطة فرقت، بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، مظاهرة نظمتها مبادرات مدنية للاحتجاج على الدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية، أمام قاعدة إنجرليك العسكرية قرب مدينة أضنة في الجنوب.

وتعرض الموقف الرسمي التركي من الحرب على غزة لانتقادات لاذعة من أوساط التيار المحافظ، كحزب السعادة الإسلامي، وحزب المستقبل الإسلامي، وحزب الديمقراطية والتقدم المعروف اختصاراً باسم «دواء» وهي أحزاب معارضة، كما من حزب الرفاه من جديد وحزب «خودا بار» الإسلاميين اللذين تحالفا مع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في شهر أيار العام الماضي. وركزت انتقادات قادة وممثلي تلك الأحزاب على عدم اتخاذ الحكومة أي إجراءات عملية في مواجهة إسرائيل، وبالأخص عدم تعليق التجارة معها أو سحب السفير التركي من تل أبيب. كما انتقدت استثمار بعض مرشحي الحزب الحاكم للحرب على غزة في حملتهم الانتخابية للانتخابات المحلية الوشيكة، كحال مراد قرم المرشح لرئاسة بلدية إسطنبول الذي طلب، في إحدى جولاته الانتخابية، من الناخبين التصويت له باعتباره شكلاً من التضامن مع الشعب الفلسطيني!

أما في جبهة المعارضة، وبخاصة حزبي الشعب الجمهوري و«الجيد» فقد غابت حرب غزة عن تصريحات قادتهم وحملاتهم الانتخابية غياباً تاماً، بما يعكس هامشية القضية الفلسطينية في سلّم اهتماماتهم، مقابل تركيز كل فعالياتهم على انتقاد الحزب الحاكم.

وتنعكس هذه الصورة الموصوفة أعلاه على أداء الإعلام التركي أيضاً بصورة أقرب إلى الدقة، فتحتل الانتخابات المحلية صدارة اهتمامات وسائل الإعلام الموالية والمعارضة على حد سواء، تليها الأحداث المحلية وتصريحات زعماء الأحزاب السياسية، ليبقى هامش ضيق لأحداث العالم والإقليم، بما في ذلك الحرب الإسرائيلية على غزة أو الوضع في سوريا وليبيا وغيرها.

الانتخابات المحلية: وبالنسبة للانتخابات المحلية، استمر التحالف الوثيق بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، فتفاهما على توزيع الترشيحات في مختلف البلديات بينهما بما يعكس القوة النسبية لكل منهما في كل دائرة، مع استئثار الحزب الحاكم بترشيح مرشحيه في أهم المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة. بالمقابل فك حزب الرفاه من جديد تحالفه السابق مع «العدالة والتنمية» وتقدم بمرشحيه المستقلين في أهم المدن، بعدما ارتفعت شعبيته بصورة لافتة منذ انتخابات شهر أيار، وإن كان في المحصلة حزباً صغيراً بالقياس إلى الأحزاب الكبرى.

أما تحالف المعارضة «السداسي» فقد انفرط عقده بصورة تامة بعد فشله في الانتخابات السابقة، فتقدم حزب «الجيد» بمرشحيه المستقلين في كل المدن التي يتمتع فيها بنفوذ، حتى لو كان من غير المتوقع أن يفوز مرشحوه برئاسة أي من بلديات المدن الكبرى. أما حزب المساواة والديمقراطية (الاسم الجديد لحزب الشعوب الديمقراطي الذي يحظى بأصوات قسم كبير من الناخبين الكرد) فقد تقدم بدوره بمرشحيه المستقلين في معظم المدن، بما في ذلك إسطنبول، وقد كان داعماً في الانتخابات السابقة لتحالف المعارضة من خارجه بدون اتفاق معلن.

وتحظى انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول بالاهتمام الأكبر سواء لدى الحزب الحاكم أو حزب الشعب الجمهوري، نظراً للأهمية الرمزية لها (من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا!) كما بسبب ضخامة ميزانيتها وما توفره من فرص للحزب الذي يفوز بها.

كاتب سوري

—————————–

«نيويورك تايمز»: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر/ صبحي حديدي

03 أذار 2024

حكاية السينمائية الإسرائيلية أنات شوارتز مع صحيفة «نيويورك تايمز» ليست جديدة أو طارئة، إلا في مستوى شبه وحيد يعكس مقدار الانحطاط الذي يمكن أن تهبط إليه مطبوعة غير عادية؛ لأنها ببساطة جريدة/ مؤسَّسة إعلامية وسياسية أمريكية عملاقة، كما يتوجب التذكير. ولم يبدّل من جوهر الفضيحة، ولا حتى شكلها في الواقع، أنّ إدارة الصحيفة اضطرّت مؤخراً إلى إعلان العزم على التحقيق مع شوارتز بصدد الأكاذيب الفاقعة والملفقة والمزوّرة التي روّجت لها الأخيرة، وفتحت الصحيفة لها صدر صفحاتها.

الحكاية بدأت أواخر العام المنصرم 2023 حين تعاقدت الصحيفة الأمريكية مع شوارتز، التي لم تكن يومذاك تمتلك أية خبرة أو ممارسة صحفية، ومع قريب لها يُدعى آدم سيلا، والكاتب الأمريكي جيفري غيتلمان (الحائز على جائزة بوليتزر!)؛ لكتابة تقرير صحفي سوف يُشتهر عالمياً تحت عنوان «صرخات بلا كلمات»، يزعم أنّ جولات «اغتصاب جماعي» ارتكبها رجال المقاومة الفلسطينية خلال عمليات «طوفان الأقصى». وكلّ ما كلّفت «نيويورك تايمز» خاطرها به عند نشر هذه الحكاية كان مجرد تنويه بعدم وجود «دليل جنائي» على الواقعة.

وكما بات معروفاً لاحقاً، فإنّ التفضيح الأوّل للتلفيق هذا جاء من أحد أقارب الضحايا المزعومين، غال أبدوش، ثمّ من أفراد العائلة المسماة؛ جاء فيه أنه لم يكن هناك أيّ دليل على الاغتصاب، وأنّ «نيويورك تايمز» استجوبتهم ضمن «مزاعم زائفة». شوارتز نفسها أوحت بأنّ مهمة الصحيفة الأمريكية كانت «الترويج لسردية محددة مسبقاً»؛ وأمّا المصوّرة إيدن ويزلي، الذي قيل إنّ صورها وفّرت بعض الدليل على المقالة، فقد أوضحت أنّ شوارتز تواصلت معها بإلحاح لتقديم مادة فوتوغرافية تخدم «مقالة بالغة الأهمية للدعاية الإسرائيلية».

وإذْ كرّت سبحة التشكيك في مصداقية السينمائية الإسرائيلية، المنقلبة إلى مراسلة لواحدة من أعرق الصحف الأمريكية، اتضح أنها كانت قد أيدت علانية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تعابير مثل «الحيوانات البشرية» أو «تحويل غزّة إلى مسلخ بشري»، أو «خرق أيّ عرف، على طريق الانتصار». ذروة الفضيحة/ المهزلة كانت اضطرار شوارتز، بعد انكشاف المزيد من أنساق التلفيق، إلى الإقرار على شاشة القناة 12 الإسرائيلية بأنها «لم تجد أيّ دليل مباشر على حوادث اغتصاب أو عنف جنسي»، قبل نشر مقالة «نيويورك تايمز» أو بعدها.

جانب آخر في الفضيحة، يدين تحرير الصحيفة مباشرة هذه المرّة ويرقى إلى مستوى التزوير القصدي المخالف للحدود الدنيا في الضمير المهني، كان علم «نيويورك تايمز» المسبق بأنّ كتّاب مقالة الاغتصابات المزعومة استندوا إلى روايات زوّدهم بها عناصر منظمة إسرائيلية تدعى  ZAKA، لعبت العديد من الأدوار في تلفيق روايات إسرائيلية عن وقائع 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 لجهة تجميع جثث القتلى الإسرائيليين والإشراف على دفنهم؛ ولكنّ التحرير وافق، في المقابل، على استخدام تعبير «متطوعون في العمل الصحي»، بدل الإفصاح عن الهوية الفعلية للعاملين في المنظمة الإسرائيلية.

ولم يكن عسيراً على تحرير الصحيفة الأمريكية/ المؤسسة العملاقة أن يتحقق، بيسر وخلال زمن قياسي قصير، من أقاصيص التلفيق التي روّجت لها منظمة  ZAKA، ونشرتها قبل «نيويورك تايمز» منابرُ مثل CNN وBBC؛ وتولت تفضيحها جهات عديدة، بما في ذلك صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية ذاتها، التي نشرت قائمة مفصلة بأكاذيب المنظمة الإسرائيلية التي رفض مسؤولون في الجيش الإسرائيلي مجرد التعليق عليها، وبينها حكاية بَقْر بطن امرأة إسرائيلية حامل وطعن جنينها.

وهكذا فإنّ حكاية شوارتز مع «نيويورك تايمز» ليست سوى الفصل الأحدث في تاريخ طويل حافل شهد ارتكاب الصحيفة الأمريكية انتهاكات متعاقبة لما تبقى لديها من مصداقية؛ وتلك، في مضمونها الفعلي، خيانات صفيقة معلَنة، لما تبقى للصحيفة من مزاعم ضمير مهني.

———————–

=====================

غزة تحصد نتائج الربيع العربي المهزوم/ عدنان علي

2024.03.07

في نهاية العام 2010، حين هبت من تونس بوادر الربيع العربي، لتنتقل سريعا إلى دول أخرى ومنها سوريا، استبشرت الجماهير العربية الغفيرة بقرب كنس عصر الاستبداد من منطقتنا العربية، والانتقال إلى أوطان جديدة، يكون لتلك الجماهير رأي ودور في تشكيلها وحكمها ونصيب من ثروتها، وهي الأشياء التي ظلت طوال عقود ما بعد الاستقلال، حكرا على الأقلية الحاكمة في الداخل، والمحكومة من الخارج.

ومع النجاح في إزاحة رأس الحكم، بسلاسة نسبية في تونس ومصر، بدا وكأن التخلص من الأنظمة الفاسدة مسألة وقت ليس إلا، غير أن بقية الأنظمة المتجذرة في السلطة، أدركت سريعا الدروس المستخلصة، فشنت هجوما مضادا على ثورات الربيع العربي، تمكنت خلاله بمساندة ضمنية من الغرب والولايات المتحدة، وبطبيعة الحال إسرائيل التي تحرك الأخيرة، من إعادة الأنظمة المهزومة في تونس ومصر بحلة جديدة أشد وطأة من السابق، وعملت على تحويل الثورات في بقية الدول إلى وبال على أهلها، لتتحول إلى حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، لا غالب فيها ولا مغلوب، والخاسر فيها الوطن الذي جرى تدميره بأيدي أبنائه بدعم من قوى خارجية تبدو مختلفة في توجهاتها، لكنها تلاقت في النتيجة عند هدف واحد، دوام الاحتراب الداخلي إلى ما لا نهاية، كما حصل في سوريا واليمن وليبيا والسودان.

وبطبيعة الحال، الهدف بالنسبة للقوى الخارجية، أي التي تعمل بوحي من مصالح إسرائيل، هو تدمير تلك البلدان وإشغالها بنفسها، وصرفها عن إسرائيل. أما بالنسبة للأنظمة العربية، فأرادت أن تجعل من مصير هذه البلدان عبرة لشعوبها، كي لا تتجرأ على الثورة عليها، من منطلق أن الحاكم السيئ، خير من حالة الدمار والفوضى والقتل والتشرد والذل، على نحو ما حصل في البلدان التي شهدت ثورات ضد حكامها.

ومع اندلاع الحرب في غزة قبل أشهر، كان الوهم السائد أن أي معركة ضد إسرائيل لا بد أن تهيج الجماهير العربية، وتدفعها لمساندة الطرف الذي يقاتل إسرائيل، وهو ما لم يحصل، ولو بالحد الأدنى، بل إن المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها بلدان غير عربية، وحكوماتها مناصرة لإسرائيل، للتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة، أكثر عددا وأكبر حجما من تلك التي حصلت على استحياء في مجمل الدول العربية، باستثناء اليمن، الذي لا يخفى أن المظاهرات هناك تتناغم مع الموقف السياسي للحكم الحوثي.

لا شك أن إحباطات الربيع العربي، ألقت بظلالها على المزاج الشعبي العربي الذي لمس بحسه العفوي أن حكوماته لا تكترث بما يجري في غزة، وأن أي تحرك شعبي غير منضبط باتجاه مناصرتها، سوف يتم التعامل معه، كتحرك ضد النظام الحاكم، بل إن بعض الأنظمة عمدت بالفعل إلى اعتقال بعض الشبان والناشطين ممن حاولوا في الأسابيع الأولى للحرب، تجاوز حدود التعاطف الإعلامي الرمزي، باتجاه تنظيم مظاهرات حاشدة، قد تضغط على تلك الأنظمة لاتخاذ مواقف أكثر قوة حيال ما يجري.

ومن هنا، فإن النظام في مصر مثلا، لا يجد حرجا في المساهمة الفعلية في حصار غزة، وإشاحة وجهه عن مشاهد مئات آلاف المتضورين جوعا خلف سور معبر رفح، بينما تتكدس آلاف الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية، أمام المعبر، بحجة أنه لا يستطيع المجازفة بالسماح بدخول الشاحنات خشية أن تقصفها إسرائيل.

لقد كان مشهدا لافتا أن يقوم طيار أميركي بإحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجا على دعم حكومة بلاده للعصبة الحاكمة في إسرائيل، بينما لم تخرج مظاهرة واحدة ذات وزن في مصر، الدولة العربية الكبيرة المتاخمة لغزة، لتطالب برفض الإملاءات الإسرائيلية، وإدخال الطعام للجياع في غزة، خاصة أن المعبر مصري- فلسطيني، ويفترض أن ألا يكون لإسرائيل رأي فيما يدخل أو يخرج منه، بغض النظر عن المماحكات حول الالتزامات بموجب اتفاقية المعابر الموقعة عام 2005 لتنظيم الحركة على المعبر، والتي انهارت عمليا مع انسحاب الاتحاد الأوروبي منها عام 2007، بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة.

قد يكون مفهوما تخاذل الأنظمة العربية عن نصرة غزة، بسبب ارتهان معظمها للإرادة الأميركية- الإسرائيلية، واعتقادها أن صمام الأمان لدوام حكمها هو في مجاراة هذه الإرادة، لكن ما يستعصي على الفهم هو هذه السلبية المريعة على الصعيد الشعبي، خاصة أننا بصدد قضية يفترض أن عليها إجماع سياسي وشعبي ولطالما سكنت الوجدان العربي طوال العقود الماضية، ولا يمكن تفسير هذه السلبية بمعزل عن حالة الهزيمة لتلك الشعوب أمام طغيان أنظمتها، المتأرنبة حيال الخارج، والمستأسدة على شعبها فقط.

تلفزيون سوريا

—————————–

=======================

تحديث 01 أذار 2024

القدس العربي

—————————-

خطط بايدن ومسرح نتنياهو: فارق العبث والدماء/ صبحي حديدي

01 أذار 2024

لا تستهدف هذه السطور مناقشة اللغو الذي أطلقه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وصُنّف تحت مسمى لا يقلّ تذكيراً بالهراء المجاني، أي «خطة ما بعد الحرب»؛ ولا تسعى إلى أيّ طراز من التفنيد أو المساجلة أو التدقيق، فلا خير في مسعى كهذا أياً كان الجهد المبذول في سبيله. الهدف هنا هو ردّ هذه المبادرة الزائفة إلى ماضي نتنياهو الطافح بنظائر مماثلة من حيث التزييف والتسويف والخداع والمخادعة؛ ليس مع الطرف الفلسطيني وحده، بل أساساً (وربما جوهرياً) مع الطرف الأمريكي: الراعي والصديق والحليف وصانع شتى أدوات المساندة، من القاذفة المقاتلة إلى القبب الحديدية من دون إغفال فزاعات العداء للسامية…

هدف تالٍ، في المقابل، هو استعادة بعض خرافات ما كان يُسمى «المفاوضات» بين الفلسطينيين والاحتلال تحت رعاية أمريكية، وكانت تعلن التطلع إلى «ترتيبات الحلول النهائية» التي توجّب أن تفضي إلى «حل» الدولتين» بوصفه أمّ الأباطيل. وكان الراحل صائب عريقات، من موقع كبير المفاوضين الفلسطينيين، قد أطلق في سنة 2009 تصريحاً استهلالياً ذهب (على عكس ما قصد عريقات) مذهب المثل على عقم جولات التفاوض تلك: «لسنا في حاجة إلى إعادة اختراع العجلة. الوقت الآن ليس للمفاوضات، بل للقرارات».

وبالفعل، لم يكن المفاوض الفلسطيني يطلب القمر من الإسرائيليين، بل البتّ في القضايا العالقة واتخاذ القرارات بشأنها. التجربة الفعلية، من جانبها، برهنت أنّ إعادة اختراع أيّ ابتكار إعجازي في تاريخ الإنسانية مثل العجلة، أو اشتراط نزول القمر إلى «المقاطعة» مقرّ السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله؛ لن يكونا أصعب كثيراً من تنازل دولة الاحتلال عن مواقفها بصدد تلك القضايا العالقة إياها، فما بالك باتخاذ قرارات ــ من أي نوع، في الواقع، حتى على مستوى اللفظ والرمز ــ تتمتع بإوالية تنفيذ… من أيّ نوع، هنا أيضاً!

ومن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إلى خَلَفه بيل كلنتون، ثمّ جورج بوش الابن، وخَلفه باراك أوباما، وصولاً إلى دونالد ترامب وخَلَفه جو بايدن، كي يضع المرء جانباً ريشارد نكسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان؛ ثمّ من واشنطن إلى كامب دافيد، ومدريد، وأوسلو، وواي بلانتيشن، وشرم الشيخ، وطابا، وأنابوليس، والعقبة… ظلّ القمر، أو إعادة اختراع العجلة، أسهل منالاً من زحزحة دولة الاحتلال قيد أنملة في مسائل التعريف الإسرائيلي للأمن، وتفسير مفهوم المستوطنة، وقراءة حقّ العودة بأية لغة، وتوظيف أية جغرافيا لتحديد مدينة القدس بوصفها «عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة»؛ أو، في طائفة أخرى من المسائل «الشائكة» اعتبار الجدار العنصري العازل بمثابة حدود لدولة الاحتلال، وإعادة إحياء فكرة الكونفدرالية الفلسطينية ــ الأردنية.

وفي كلّ مرّة كانت عبقرية ما، تتفتق على الجانب الفلسطيني، آتية من مفاوض أريب هنا، أو خطيب لوذعي هناك، لتبرير الخطوة الأحدث في درب انحناء السلطة، وعودتها صاغرة إلى طاولة مفاوضات لا تستأنف إلا عروض مسرح العبث. وكان يحدث دائماً، إذْ هكذا تطلّب الإخراج، أن تتوفر تغطية أمريكية ـ عربية، وأحياناً دولية محفلية يختلط فيها الحابل بالنابل (كما في مؤتمر أنابوليس، خريف 2007، حين ارتأى بشار الأسد أنّ فضيلة «الممانعة» لا تمنع هرولة نظامه إلى ذلك المؤتمر، والمشاركة في أشغال الهفت والتهافت).

وهكذا فإنّ القرارات حول تسيير العجلة ظلت مرجأة حتى إشعار آخر طويل، ليس على الجانب الإسرائيلي وحده في واقع الأمر، فهذا أمر بات مكروراً معاداً، بل عند الراعي الأمريكي ذاته. ذلك لأنّ سيد البيت الأبيض، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، لا يهمّ بإطلاق «مؤتمر تاريخي» داعياً الفريقين إلى اغتنام «فرصة تاريخية» حتى تعاجله دورة انتخابات لتجديد الكونغرس (الذي يصغي معظم أعضائه إلى رجالات الـ AIPAC، مجموعة الضغط اليهودية الأقوى في أمريكا، أكثر بكثير من إصغائهم إلى رجال البيت الأبيض؛ أو يدنو موعد انطلاق حملته الانتخابية الشخصية لتجديد رئاسته إذا كان في الولاية الأولى، أو لإنقاذ مرشّح حزبه من هزيمة نكراء إذا كان في ختام ولايته الثانية.

وفي مناسبة شيوع الأحاديث اليوم عن «خطة» جديدة لإطلاق المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، برعاية أمريكية طبعاً، ومشاركة عربية (من كوكبة اتفاقيات أبراهام، غالباً)؛ ليس عسيراً على المرء أن يستبعد أيّ أقمار يمكن أن تهبط من السماء إلى الأرض، وأية عجلات سوف تُخترع، بما يتيح ترجمة التوصيات إلى أفعال على الأرض، حتى على مسرح عبثي لا تتعالى على خشبته سوى الضوضاء والعجيج والجعجعة… دون طحن! ولأنّ نتنياهو بدأ، ويظلّ حتى توافيه المنية، معلّق تلفزة بهلوانياً؛ فإنّ العالم لن يفتقد جرعة خطابية توراتية ترتدّ 4500 سنة إلى الوراء، نحو العماليق مثلاً؛ أو اجترار ما سبق أن اجترّه مراراً: «قبل آلاف السنين، فوق الهضاب ذاتها التي عليها يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون اليوم، كان النبي اليهودي أشعياء، وسواه من أنبياء شعبي الآخرين، قد أبصروا رؤيا سلام دائم للإنسانية جمعاء». ما خلا، بالطبع، أنّ رؤى أشعياء كانت تُظهر ملائكة يحملون مناجل قاطعة، ليس لحصيد الأرض وعناقيد العنب، فحسب؛ وإنما لإيقاع الخراب، أسوة بجزّ الرقاب. وشتّان بين منجل من هذا الطراز، وعجلة عريقات التي لا تدور أصلاً؛ أو بين هذه «الإنسانية جمعاء» وبين شرق أوسط رفع نتنياهو خريطة له من سدّة الأمم المتحدة خالية تماماً من… فلسطين. وما خلا، كذلك، أنّ ما يُشاع عن توتر واحتقان وغضب وعتب، بين بايدن ونتنياهو، ليس سوى آثار جانبية للفعل الحقيقي بين الرجلين: قبلة الدبّ، ولكن من طراز فريد لا يخنق ولا حتى يحبس الأنفاس!

ولهذا تصحّ استعادة حكاية كان نتنياهو يستطيب سردها، على نحو لا يغيب عنه التخابث بالطبع، وإنْ كان السرد ينطوي في ذاته على فضيلة التفضيح المفيد. حين قام أوباما بزيارة دولة الاحتلال من موقع المرشّح لرئاسة الولايات المتحدة، انتحى جانباً بزعيم حزب الليكود، نتنياهو، وأسرّ له بالتالي: «أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور». لكنّ الرغبة شيء، والإنجاز كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً، ولهذا لم يوفّر نتنياهو جهداً لإحراج أوباما، ولم يخفِ تعاطفه مع ميت رومني في الانتخابات الرئاسية.

ولقد بدا مضحكاً، ومدعاة شماتة صريحة من أنصار أوباما وخصوم نتنياهو، أنّ الأخير انخرط ــ منذ الصباح الباكر الذي أعقب فوز أوباما ــ في محاولات إصلاح الضرر وقَلْب الموقف رأساً على عقب: استدعاء السفير الأمريكي إلى مكتب نتنياهو، لالتقاط صورة عن عناق التهنئة الحارّة؛ وإصدار بيان عن العلاقات الإسرائيلية ــ الأمريكية، «الصلبة مثل صخرة»؛ والتعميم على قيادات الليكود بعدم التلميح، في برقيات التهنئة، إلى «خطأ» التعاطف مع رومني.

لهذا، وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها «الخطة» الأمريكية المزعومة للسلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني؛ فإنّ أمثولة اختراع العجلات لن تكون على طاولة المفاوضات، والقمر لن ينزل بين المتفاوضين والوسطاء والرعاة، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة لن تتوقف ما بقي نتنياهو حاكم دولة الاحتلال. وأمّا العلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية فإنها سوف تظلّ بقوّة الصخور، سواء استأنف بايدن الرئاسة أم آب إليها ترامب؛ ونقطة على السطر، هي خير تلخيص لمنطق معلَن مرسّخ.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

——————————–

اكتئاب الحرب: ماذا سيبقى من الثقافة العربية بعد مأساة غزة؟/ محمد سامي الكيال

01 أذار 2024

عرفت الثقافة العربية المعاصرة صدمتين كبيرتين، مرتبطتين بأحداث حربية كبيرة، دفعتا الناس إلى مراجعة كثير من أفكارهم وقيمهم وخطاباتهم، الأولى كانت صدمة «النكسة» عام 1967، التي خلّفت أدبيات كثيرة في «النقد الذاتي»؛ والأخرى حرب الخليج الثانية، وما تبعها من آثار، وصلت إلى سقوط بغداد، بعد أكثر من عقد من الزمن.

هذان الحدثان لم يخلّفا صدمة بسبب تبعاتهما الإنسانية والمادية فحسب، وإنما بسبب شعور عام بعدم القدرة على فهم العالم بعدهما: كيف هُزمت ثلاث دول عربية، على رأسها مصر، بهذه البساطة؟ وكيف يحتل نظام قومي بلداً عربياً آخر، ثم نتحالف جميعاً مع الأمريكيين ضده، فندمّر العراق؟

صُدم مواطنو الدول العربية بالطبع بأحداث أخرى كثيرة، منها اتفاقية كامب ديفيد، وحصار بيروت، وكذلك «الربيع العربي» وما تبعه من اضطرابات وحروب أهلية، لكنهم نجحوا في الحفاظ على شيء من المعنى، ضمن أطرهم الثقافية المترسخة، ففسّروا الأحداث بوصفها خيانات أو مؤامرات أو حتى «فِتَن» وازداد تمسّك كثير منهم بأفكار مثل المقاومة و»الصمود» والحفاظ على الدولة من الانهيار. الحدثان المذكوران بالتحديد كانا الخروج المقلق من المعنى، الذي سبّب حالة اكتئاب جماعي عميق ومديد، تذكرها جيداً الأجيال التي عاصرتها.

قد تصبح مأساة غزة، التي نشهدها اليوم، الحدث الثالث المخلخل للثقافة العربية، وربما بشكل أكبر من الحدثين السابقين. هذه المرة لا نواجه فحسب أعمالاً عسكرية قاسية النتائج، وحرب إبادة جماعية، راح ضحيتها عشرات الآلاف، وإنما أيضاً هزّة كبيرة لتصوراتنا عن آخر قضية، يُجمع عليها معظم العرب، بعد كل ما حلّ بهم في العقدين الأخيرين.

كان يمكن للناس، في دول عربية تعاني الويلات، الهتاف لأجل فلسطين، حتى وهم يواجهون الجوع والقتل وأبشع أشكال العنف. وما يزالون يهتفون حتى اليوم، إلا أن شيئاً ما لم يعد كما كان، وغالباً لن يعود أبداً كما كان. لقد اختبر ما تبقّى من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، على اختلاف تياراته، كل مقولاته في هذه الحرب، ووضعها على المحك. وليست صور النازحين الغزّيين في رفح، الذين تتصايح حولهم «نخب» عن المقاومة والنصر، أفضل طريقة لمنح البشر المعنى والدلالة. المشهد قاسٍ، وفقدان الثقة قد يكون شاملاً، وغالباً ستتصاعد بشدة حالة من التهكّم السوداوي، والتجديف العلني بكل القيم، لن تنفع معها محاولات القائمين على شبكات الثقافة المعاصرة، لإعادة عالمنا الرمزي كما كان.

لكنْ، ألا يمكن أن تؤدي حالة اكتئاب الحرب هذه إلى كثير من العدميّة؟ ماذا سيجد الناس إذا خرجوا من آخر ما يمنحهم الأمل والمعنى والعزاء؟

الحلف الأخير

يمكن القول إن حالة الحماس تجاه ما اعتُبر مقاومة فلسطينية، جمعت أطرافاً كان من المستغرب، حتى وقت قريب، أن تتفق على شيء. فبعد الحرب السورية مثلاً، لم يتصوّر أحد أن الإسلاميين الأقرب لتنويعات فكر الإخوان المسلمين، يمكن أن يعودوا للتضامن مع أنصار «الممانعة» الموالين لإيران وميليشياتها. من جهة أخرى كان الحضور المستجد نسبياً لخطاب «المنظمات غير الحكومية» بما فيه من تأييد لأنماط معينة من النسوية، وحقوق المثليين، قد فتح جبهات صراع مع قوى سياسية واجتماعية متعددة، وتدخّلت فيه حكومات دول. ذلك الخطاب «الجديد» نفسه لم يخل من انقسامات، فأمكن رصد أصوات «ناشطية يسارية» تتهم البقية بـ»الليبرالية» أو تطبيق أجندات الممولين الخارجيين. أما بقايا «اليسار العربي» التقليدي، فانحازت أحياناً للخطاب «الناشطي» وهاجمته بعنف في أحيان أخرى، بالاشتراك مع الإسلاميين. كل هذا النزاع دار على خريطة سياسية فقيرة فعلياً، رغم تعقيدها، فمآلات ما سُمي «الموجة الثانية من الربيع العربي» أي انتفاضات السودان والعراق ولبنان والجزائر، كشفت بوضوح انسداد الأفق السياسي، والعجز الاجتماعي والفكري عن طرح أي حلول، تقي من الانهيارات الشاملة، التي تشهدها المنطقة.

بدت عملية «طوفان الأقصى» أقرب لعودة إلى «المدرسة القديمة». وسط كل هذا التشوّش، هنا يوجد قضية لا يمكن التشكيك في عدالتها؛ عدو واضح وضحية تامّة؛ وتراث مترسّخ من تقديس العمل الفدائي. أي ثلاثة منطلقات أساسية في الخطابات العربية المعاصرة: المطلق؛ النظرة للذات والآخر؛ مفاهيم السياسة المشتقة من منظور التحرر الوطني. بالتالي فإن ما أعادت العملية طرحه ليس القضية الفلسطينية فقط، بل الثقافة العربية التي نعرفها، بمنظومتها القيمية، ومقولاتها العامة، ومسلّماتها التأسيسية، إلى درجة أن كثيرين كانوا مستعدين لتجاوز اختلافهم العقائدي والطائفي والفكري، مع منفذي العملية وخطابهم، مادام يحيل بشكل مباشر وقوي إلى تلك المنظومة ومسلّماتها. ورغم ما أنذرت به حرب غزة من وقائع قاسية، فقد كانت فعلياً عودة لمساحة مفاهيمية آمنة، فضلاً عن كونها ثرية بالرموز والعلامات، القادرة على التحفيز الانفعالي والعاطفي لجمهور واسع.

ربما كانت أنظمة الثقافة العربية مهددة بالتبدّد، مع انهيار كثير من مؤسسات التحضّر في دول مختلفة، وجاءت «طوفان الأقصى» لتعيد إحياء كل ما نظن أنه صحيح ومُحق وحَسَن، وكذلك العبارات المترسّخة في أعماقنا. يبدو أيضاً أن منظور «نزع الاستعمار» المعاصر، إضافة إلى شبكات معقدة من العمل الإغاثي و»المدني» كانوا قادرين على ربط خطاب «الفئات الجديدة» بمَنْ فيها كثير من «راديكاليي» النسوية والمثلية، بمسلّمات الخطاب القومي/الإسلامي العربي. كل هذا لافت بشدة، لكنه مقلق.

ينبع القلق أساساً من أن التعاطي مع مسألة بحساسية حرب غزة أتى من منظور استعادي. بمعنى أن حرباً، توضّحَ منذ ساعاتها الأولى أنها قد تودي بحياة عشرات آلاف البشر، نُظر إليها من زاوية تأكيد «حق الأمة» واسترجاعه كاملاً، وليس ابتكار خطط وحلول لأوضاع مركّبة ومستجدة. ربما كانت مقاومة الاحتلال الحربَ الأعدل، حسب الأفق المفاهيمي للثقافة العربية، بل حتى لليسار العالمي المعادي للإمبريالية، إلا أن مقاومةً، وكتلاً بشرية واسعة مؤيدة لها، ونخباً ملتزمة، لا تهتم بتوضيح منظور سياسي وعسكري لحربها سوى «الاستعادة» قد تخسر «الأمة» نفسها، التي تقاتل لأجلها.

قفزة نحو المعلوم

هنالك سبب إضافي للقلق: عانت كل الأيديولوجيات العربية السائدة، إبان «الربيع العربي» وبعده، من حالة فشل عام، سواء في توصيف الوضع القائم في دولها، أو في ابتكار أي حلول سياسية وتنظيمية وفكرية، أو حتى في الحفاظ على الحد الأدنى من التقليد المتحضّر في دول ومجتمعات منهارة. وبالتالي فربما كان التصرّف الأكثر منطقية هو طرح أسئلة جديّة وصعبة عن المسلّمات الأساسية، تقوم، بشكل مبدئي، بنزع طبيعية كل ما نراه «طبيعياً»؛ وتودي، بطريق مستقيم، إلى التشكيك في البنى الأساسية لنموذج الدولة العربية الحديثة، وأساطيرها المؤسِّسة، ومنظوراتها عن «الشعب» و»الأمة» والتاريخ والثقافة والتحرر الوطني، إلا أن كل هذا لم يتم، وبدت الثقافة العربية عاجزة عن طرح الأسئلة على نفسها، وتجريب أشياء جديدة، رغم الفشل المتكرر في كل المجالات.

حرب غزة كانت على ما يبدو فرصة ممتازة لتجنّب الأسئلة، والتهرّب من الخوض في الأفق المجهول، الذي تفتحه. فكانت الحرب أقرب لقفزة نحو المعلوم، إن صح التعبير. إلا أنه، للأسف، «معلوم» أكثر من اللازم: هنالك القيم التي نعرفها، الأمل بنصر أقرب للإلهي، ثم كثير من الخراب. هذه المرة الخراب أكبر من أن نستوعبه، على كل المستويات الإنسانية والسياسية. ربما هذا وحده ما سيكسر «المعلوم» الذي نصرّ على حصر أنفسنا فيه.

دائرة الاكتئاب

سيصعب على كثير من الناس في العالم العربي فهم ما حلّ بهم فعلاً. لقد تحمّسوا كثيراً لما رأوا أنه الصواب، والطريق الوحيد للعدالة، لكن النتيجة جاءت معاكسة لتوقعاتهم. وربما قد يؤدي هذا إلى نوع من الشك، غير المنهجي، في كل شيء، في فضاء سياسي وثقافي، لا يحوي أي طرح مغاير لما خيّب آمالهم.

في ظرف مثل هذا قد تؤدي محاولات ترميم القيم والمسلّمات القديمة إلى مزيد من الاكتئاب، بين الأعداد المتزايدة ممن يشعرون بالخسارة؛ كما إن الاكتفاء بندب قسوة «العالم» ووحشية العدو، ولامبالاة الآخرين، لن يفسّر وحده بالتأكيد كيف وصلنا إلى هنا؛ كما لا يمكن أن تُبنى ثقافة كاملة على نسبة كل ظاهرة وحالة إلى «خارج» لا يكفّ عن هزيمتنا وتدميرنا واضطهادنا.

ربما سيوجّه كثيرون خيبتهم إلى «الداخل» ليس على سبيل «جلد الذات» أو غيره من المقولات/الاتهامات، التي باتت مبتذلة، بل لفهم هذا «الداخل» فعلاً، وكيف يتركنا دائماً تحت رحمة العدو. قد يؤدي هذا إلى تأسيس ذات جمعية جديدة؛ أو على العكس: تفكيك الوحدة المصطنعة لما نظنه «نحن».

في كل الأحوال لا بأس من التفكير في مبدأ معروف، لكنه قد يكون من «مجهولات» الثقافة العربية: المحاسبة. وليس المقصود به هنا المحاسبة السياسية أو القضائية لمسؤولين عن المأساة، فهذا ليس متاحاً، وإنما محاسبة ذلك «المعلوم» الذي قفزنا إليه، ومَنْ أصرّوا على أنه الحتمي والطبيعي والبديهي.

كاتب سوري

—————————-

حول خطة نتنياهو لنسف «اليوم التالي»!/ بكر صدقي

28 – فبراير – 2024

أهم ما في الوثيقة التي قدمها نتنياهو باسم حكومته حول اليوم التالي بعد الحرب في غزة، هو ما يتعلق باستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع، أي بكلمات أخرى شرعنة إعادة احتلال القطاع وذلك بعد تقليص مساحته الصغيرة أصلاً باقتطاع منطقة عازلة في الشمال يترك تقدير مساحتها للحكومة الإسرائيلية نفسها. أما الإدارة المدنية فـ»تتكرم» الوثيقة بمنحها لفلسطينيين من القطاع نفسه ممن ستوافق على تعيينهم سلطة الاحتلال. هذه وصفة لنقل الصراع إلى داخل المجتمع الفلسطيني بين رافضي هذا الترتيب ومن قد يوافقون على الانخراط في الخطة الإسرائيلية، ويصبحون منبوذين في المجتمع الفلسطيني في غزة وخارج غزة. وتتضمن «الخطة» أيضاً محاصرة القطاع من الجنوب عسكرياً بما يمنع أي تواصل حدودي بينه وبين مصر إلا بموافقة إسرائيلية.

تتعارض الخطة مع المعلن من سياسة إدارة بايدن بشأن اليوم التالي، فهذه تميل إلى فكرة إدارة القطاع لما بعد الحرب من قبل حكومة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس. ومن المحتمل أن استقالة حكومة أشتية جاءت في إطار ملاقاة رؤية واشنطن هذه بشأن غزة، بإقامة حكومة جديدة تشمل في ولايتها قطاع غزة إضافة إلى الضفة الغربية.

يستقوي نتنياهو بحكومته الائتلافية اليمينية لمحاولة فرض أقصى ما يمكن من «الخطة» التي طرحتها على أي مباحثات مع إدارة بايدن، ليكونا معاً طرفاً واحداً أمام الشركاء العرب والسلطة الفلسطينية، للخروج بخطة لليوم التالي على الحرب متوافق عليها بين الأطراف المعنية.

وبالنسبة للسلطة الفلسطينية لا يمكنها القبول بأي خطة متكاملة بمعزل عن التوافق مع قيادة حماس السياسية المحكومة بدورها، إلى حد كبير، بموافقة القيادة الميدانية لحماس المتمثلة بكتائب القسام التي تحتجز أسرى إسرائيليين كأقوى ورقة قوة في يدها، ولا تقبل بأي صفقة تبادل مع أسرى فلسطينيين قبل إيقاف آلة القتل الإسرائيلية.

بذلك تبقى العقدة الأولى في أي خطة هي وقف الحرب، في حين ما زالت حكومة نتنياهو مصرة على مواصلتها، وهدفها المعلن الجديد هو مدينة رفح الحدودية التي شكلت الملاذ الأخير للنازحين الفلسطينيين من شمال القطاع ووسطه. وواشنطن تواصل رفضها لوقف الحرب قبل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وكانت آخر مناسبة أظهرت فيها هذا الرفض تصويتها في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الجزائري الأسبوع الماضي.

اقترب عدد القتلى الفلسطينيين في حرب غزة من الثلاثين ألفاً، إضافة إلى الجرحى ودمار الأبنية والبنية التحتية الذي بلغ مستوى من التخريب لم يعد معه القطاع قابلاً للسكن والعيش. إن عدم واقعية نوايا التهجير الجماعي لدى الحكومة الإسرائيلية للفلسطينيين من قطاع غزة لا يمنع أن قسماً كبيراً من السكان سيضطر بعد انتهاء الحرب، إذا انتهت، للبحث عن أماكن أخرى يهاجر إليها. استمرار الحرب من جهة أخرى واستمرار عدد القتلى المدنيين في الارتفاع، إضافة إلى شح وصول المساعدات الإنسانية إلى محتاجيها، يشكل ضغطاً يومياً على قيادة حماس لتقبل بصيغة ما لتبادل الأسرى ولو بهدنة مؤقتة، لوقف هذا النزيف.

مجموع هذه العناصر المتشابكة يضعف الآمال باحتمال وقف قريب للحرب الوحشية، على رغم التحول الإيجابي نسبياً في مواقف الحكومات الغربية لمصلحة ضرورة وقف الحرب. وحتى لو امتد هذا التحول ليشمل الإدارة الأمريكية أيضاً، من المشكوك فيه أن تتمكن واشنطن من إرغام نتنياهو على القبول بوقف إطلاق النار في الوقت الذي يزداد فيه الاقتراب من موعد الانتخابات الرئاسية، ويحتاج بايدن إلى دعم اللوبي الإسرائيلي في مواجهته الصعبة مع منافسه المحتمل، دونالد ترامب، الذي تزداد فرص فوزه بترشيح الحزب الجمهوري.

الوثيقة التي أعلنتها حكومة نتنياهو بشأن اليوم التالي مصممة أساساً لإفشال أي مساع دولية محتملة، وبالأخص أمريكية، لوقف الحرب. ومن المحتمل أن إسرائيل ماضية في خطتها بشأن تدمير رفح على رؤوس سكانها والنازحين إليها من شمال القطاع، من غير أي أمل بالنجاة إلا الهروب من رفح في اتجاه صحراء سيناء. المجتمع الدولي العاجز عن منع إسرائيل في المضي في خطتها لتدمير رفح، سيزيد ضغوطه على مصر للقبول بنزوح جماعي للفلسطينيين في اتجاه سيناء.

مؤلم أن نكتب بهذه السوداوية، عاجزين عن فعل أي شيء أمام هول الكارثة. ولكن ما العمل أمام وقائع أكثر سواداً، لا تقتصر على ما يحدث في قطاع غزة فقط، بل تشمل بلداناً عديدة كسوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وغيرها، فقدت فيها شعوبها القدرة على تغيير مصيرها نحو الأفضل، يتحكم فيها ضوارٍ محليون ودوليون، يرتكبون أبشع الجرائم ومصونون من المحاسبة.

كاتب سوري

—————————–

أمركة إسرائيل والإبادة السياسية/ غسان المفلح

28 – فبراير – 2024

في مقال سابق على هذا المنبر بعنوان “الأمركة والشرق الأوسط” كنت استثنيت الحديث عن تلك العلاقة المعقدة بين أمريكا وإسرائيل حيث أن الأمركة في الشرق الأوسط تطال كل البنى السياسية بما فيها إسرائيل.

قبل أن ندخل في صلب هذه العلاقة أردت التوقف مرة أخرى عند الذين نقدوا المقال السابق، بحجة أن أمريكا تسعى إلى دمقرطة بلدان المنطقة وعلمنتها، لكن الخلل في هذه المسيرة “المظفرة” سببه نحن سكان الشرق الأوسط المنكوبين بإسرائيل والنفط والموقع السياسي للجغرافيا اللعينة. سكان المنطقة ونخبهم هم السبب في تعطيل برنامج أمريكا الديمقراطي للمنطقة!

شر لابد منه

الأمركة، باختصار شديد وواضح، هي “ما تعيشه شعوب هذه المنطقة أمريكيا. دول فاشلة وديكتاتوريات قاتلة ونهابة. أمريكا أولا لا تمثل شعوب الغرب، بقدر ما تمثل سياسات الغرب ومصالحه. هنالك فارق بالطبع بين المستويين لأن مصالح الشعوب متعددة وليست واحدة، حتى داخل كل شعب ودولة طبعا. انبنت الأمركة على علاقة واحدة تتحكم ببقية التفاعلات التي تجري في هذه المنطقة. هذه العلاقة تتمحور بين طرف مسيطر ومهمين بوصفه أمريكا وبين نظم ديكتاتورية لدول فاشلة. نظم جل همها الحفاظ على سلطتها من خلال السيادة الأمريكية على المنطقة. السيادة لا تعني أبدا سيطرة على كل تفاصيل الحياة في الشرق الأوسط، بل تعني فيما تعنيه بالضبط ما نعيشه كشعوب جراء تحكم هذه العلاقة بنا.

عندما يقوم نظام ما في الشرق الأوسط بمجازر بحق شعبه، أمريكا لا تعنيها القصة إلا بمقدار سوق النفط وإسرائيل والموقع السيادي لأمريكا. أما أعداد القتلى والمدن المدمرة فهي ضرر جانبي لهذه الأمركة، إنه العيش في ظل الأمركة.

لو قمنا بجردة حساب على دول المنطقة لوجدنا حروبا أهلية وثورات احتلت كالثورة السورية، ثم العراق، لبنان، ليبيا، اليمن، والسودان وقضية القضايا الشعب الفلسطيني. إنه العيش الرغيد في ظل أمركة لا ترحم. الأمركة شر لابد منه. بعد أن استولت أمريكا على المشهد الإسرائيلي ومفاعيله في المنطقة وازاحت نسبيا بريطانيا وفرنسا من قيادة هذا المشهد، وجدنا أننا أمام علاقة محورية لأمريكا مع إسرائيل. في حرب إسرائيل على غزة الجارية الآن، أمريكا تحمل على عاتقها كل ما يجعل إسرائيل بعيدة عن أي مساءلة. منذ توقيع اتفاق أوسلو 13 أيلول/سبتمبر 1993. منذ ذلك التاريخ والأمركة مبنية إسرائيليا على الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية. مما جعل بعض المهتمين يطرحون سؤالا: ألا تستطيع أمريكا فرض حل الدولتين على إسرائيل؟ ثلاثة عقود وإسرائيل تبتعد عن البحث، مجرد البحث في حل الدولتين. الآن في الحرب على غزة عشرات آلاف الضحايا من المدنيين وتدمير أحياء وقرى ومدن في قطاع غزة وأمريكا مشغولة بتحييد أذرع إيران. والأخطر من ذلك تحييد الضفة الغربية وسلطتها عما يجري في هذه الحرب وكأن ما يجري في غزة يجري في بلد آخر بالنسبة لأهالي الضفة الغربية. أليس هذا جزء من الإبادة السياسية؟ كأن أهل غزة ليسوا فلسطينيين، أو العكس كأن أهل الضفة ليسوا كذلك. هذا الجزء هو مقطع عرضي في الأمركة الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني.

ثمة أمر آخر أليس سؤالا لقيادة حماس: لماذا لم يشارك أهل الضفة في المعركة الطاحنة الآن؟ يوجد عنوان عام للأمركة الحالية “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. من المعلوم حتى اللحظة ومن أعداد القتلى والتدمير أن إسرائيل هي التي تهاجم.

دعم أمريكي بلا حدود

إسرائيل تهاجم وتقتل في أهل غزة وأمريكا تحشد لاستمرار القتل ومنع انبثاق أي حل سياسي في الأفق. هذه هي بالضبط إسرائيل الأمريكية. من جهة أخرى استطاعت أمريكا منذ بدء الحرب أن تحشد غالبية دول أوروبا الغربية وبعض الدول العربية من أجل حق إسرائيل في قتل الغزاويين بحيث نجد أن إسرائيل باتت ظاهرة في السياسة الامريكية العاملة على استمرار الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية. من الاسئلة التي تشغل الكثيرين هي: لماذا هذا الموقف الأمريكي الداعم بلا حدود؟ وما الذي تستفيده أمريكا من هذه العلاقة؟ اجتهادات كثيرة نراها منتشرة في الإجابة عن هذين السؤالين، وأبحاث شتى عن هذه العلاقة تبدأ من القول: إن إسرائيل أداة متقدمة للإمبريالية الامريكية في الشرق الأوسط، ولا تنتهي عند ربط هذه العلاقة بالتقليد البروتستانتي – اليهودي. مرورا بالأيباك ولحظة تأسيسه في أمريكا كأكبر لوبي في العالم لدعم الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية أمريكيا. اجتهادات كثيرة في هذا المضمار.

كما أن الأمر بعد مرور ثلاثة عقود ونيف على سقوط السوفييت، وغياب ما كان يسمى الخطر السوفييتي على مصادر الطاقة والسيطرة في الشرق الأوسط، كل هذا يجعلني أزعم أننا لو أضفنا التوليفة الإيرانية من جهة والاشتباك التفاوضي الأمريكي الإيراني من جهة أخرى، والذي تقع إسرائيل في القلب منه، نجد أن هنالك رغم كل هذا الدعم اللامحدود لإسرائيل أمريكيا، أنه ثمة محاولة أمريكية باتت واضحة تتجلى في نقطتين: الأولى اندراج إسرائيل في اللوحة الأمريكية للشرق الأوسط، بوصفها جزءا من أمركة إسرائيل من جهة، وبوصفها نقطة توازن ما ضمن هذا الاشتباك التفاوضي الإيراني الأمريكي، لرسم بقاء دول المنطقة برمتها مُأمركة من جهة أخرى، مع الاستمرار في الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية، حتى لو اقتضى الأمر بين الحين والآخر إبادة فعلية لهذا القسم أو ذاك من الشعب الفلسطيني، هذا ما يحدث في غزة.

في الختام أمريكا لم تعد ترى في إسرائيل موقعا متقدما ولا خلاف ذلك، والسبب الأهم في هذا هو حضور أمريكا بالأصالة عن نفسها في كل دول المنطقة. نحن أمام نتيجة لثلاثة عقود ونيّف من ربح أمريكا للحرب الباردة وتأثير ذلك على العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. دون هذه اللفتة الآن لا يمكننا فهم ما يجري أيضا خاصة أن أمريكا لا تمارس أي ضغط من أجل قيام حل الدولتين الذي تتغنى به في أعلامها ليل نهار.

كاتب سوري يقيم في ألمانيا

—————————

أين النظام السوري في» وحدة الساحات»؟/ موفق نيربية

27 – فبراير – 2024

قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مساء السادس عشر من أكتوبر الفائت، إن هناك احتمالاً للتحرّك «الوقائي والاستباقي من قبل محور المقاومة في الساعات المقبلة»، في ظل التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزّة. ويظهر اسم «محور المقاومة» واسم «محور الممانعة» و»وحدة الساحات» بشكلٍ متفاوت غير محدّد أو متمايز تماماً، لكن يمكن اعتبار الأوّل للاستخدام عندما تكون هنالك ضرورة لمحاربة ظاهرة ذات طبيعة عسكرية معادية في المنطقة، والثاني لعرقلة ظاهرة ذات طبيعة سياسية معادية بدورها، والثالث للتعبير عن تداخل البنى والهياكل الاستراتيجية الإيرانية وآليات الدعم البيني في ما بينها، بالعلاقة مع المركز في طهران. ولا حدود واضحة تماماً بين، أو في استعمال هذه المصطلحات «التبادلية». هنالك سبع ساحات تقودها إيران، خمس ساحات منها عربية، في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، واثنتان في – أو من – أفغانستان وباكستان.

لم يخف المتحدّثون باسم النظام الإسلامي/الشيعي في إيران علاقتهم وتحكّمهم بهذه الأدوات، وأصبح معلوماً أن هناك قيادة ورأساً لهذه الأوركسترا هناك، على رأسها المرشد خامنئي، وخزّانها ومصدر طاقاتها في الحرس الثوري، وقيادة عملياتها وتدريبها والتنسيق بينها والمشاركة معها في فيلق القدس، الذي أسّسه وقاده لأكثر من عشرين عاماً قاسم سليماني حتى مقتله، وخلفه قاآني بعد ذلك.

علامة الاستفهام مرسومة على دور نظام الأسد في هذه الشبكة، وليس على دور القوى العسكرية والميليشيات التي يقودها، وينظّم عملها فيلق القدس في سوريا… هذا الأخير واضح تماماً للعيان، وواضح تداخله مع دور النظام نفسه، ككتلة كاملة، أو كمجموعة كتل بلاستيكية متحرّكة، تحاول المناورة مع دائرة النفوذ الروسي، وخلق مساحاتها الخاصة بها، مثل جنوب سوريا، والعاصمة وضواحيها الجنوبية، ومنطقة البوكمال ودير الزور على الحدود العراقية، مقابل الوجود الأمريكي شمالاً في الجزيرة السورية، وجنوباً في منطقة التنف على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.

ألقت إيران ثقلها المباشر وغير المباشر إلى جانب النظام – إلى جانب مصالحها بالأحرى- منذ عام 2014 بشكل مكشوف وظاهر بقوة، بعد أن كان حزب الله اللبناني قد تدخّل منذ عام 2012، ابتداء من منطقة حمص ومنطقة القصير التي خاض فيها معارك مهمة مع المعارضة السورية، وسيطر بعدها عليها لتكون امتداداً لسيطرته في منطقة الهرمل والبقاع اللبنانية. في ذلك الوقت لم يكن التدخّل الإيراني إنقاذاً للأسد ونظامه، كافياً على الإطلاق، بحيث أفسح المجال لتدخّل روسي ساحق في نهاية سبتمبر 2015. ما بين الساحات الخمس، يبدو حال النظام مثيراً للشفقة، في عجزه عن المساهمة في المعركة، ما عدا ساحة إعلامه البائس. لقد ظهر تأثير وإمكانيّات الساحة الفلسطينية واللبنانية واليمنية بقوة، وحتى العراقية استطاعت إحراج الولايات المتحدة، الداعم الرئيس بالسلاح والذخيرة لإسرائيل في حربها على غزّة. لم تكن الساحة السورية حتى الآن إلّا مسرحاً للقصف المتلاحق، لكلّ ما يتعلّق بإيران وفيلق القدس فيها، وربّما بعض ما يتعلّق بالنظام، إن أمكن فصلهما بوضوح. ربّما يكون موقف النظام ومساهمته «روسيين» أكثر من كونهما» إيرانيّين». فروسيا؛ رغم مصلحتها الكبرى في التنغيص على الولايات المتحدة – والغرب- ومناكدتها وكسب النقاط عليها، ورغم موقفها المعارض بقوة لإسرائيل في هذه المعركة؛ تحافظ على سياستها وتنسيقها مع إسرائيل في ضرباتها الجوية، تنفيذاً للبروتوكول بينهما منذ سنوات، «تحارب» روسيا في ساحة أخرى، هي ساحة نيويورك ومجلس الأمن وحسب، رغم مصلحتها العميقة مع إيران، خصوصاً بعد أن صارت مصدر دعم رئيس بالطائرات المسيرة للأولى في أم معاركها في أوكرانيا، ذلك لا يمكن أن يعني أن هنالك ثغرة يمكن أن ينفكّ منها النظام السوري من مركز تنسيقه الإيراني، فالعلاقة أكثر عضويةً من ذلك، من دون أن تعني أيّ مقدار من التكافؤ بالطبع، ورقبة الأسد بين أيدي شبكة أكبر وأعقد من أن يستطيع تجاهلها في أي فترة مقبلة. حين ظهرت، مثلاً، مؤخّراً اتهامات متكرّرة وعلنية من قبل باحثين وساسة إيرانيين، لأجهزة أمن النظام بأنها مصدر الاختراق الإسرائيلي الذي يجعل العمليات التي يتمّ من خلالها اصطياد منسّقي العمليات الإيرانية في سوريا، أمراً بتلك الدقة والسهولة، تجاهلها أهل النظام وتركوها معلّقة في الهواء، كان ذلك انعكاساً لانعدام التكافؤ بين الطرفين، ولاحتقار أحدهما للآخر.

من جهة أخرى، ليس في علاقة ذلك النظام مع روسيا ما يسمح له بالاتّكاء عليها حين تحاصره السلطة الإيرانية، لا بشكل جدي ولا كمناورة. روسيا ذاتها هي التي ابتدأت ذلك النمط من السلوك المتغطرس العلني والمعلن، منذ أعاد ضابط روسي الأسد إلى الوراء ليترك بوتين وحده في الواجهة في زيارته إلى مطار حميميم، عاصمة الروس في البلاد المفتوحة. موقع المعوز المحتاج هذا هو الذي يجعل السلوك السوري في سياق قضية غزة أقرب إلى المنطق الروسي، المتحفّظ في دعم الفلسطينيين، إلّا بالسياق السياسي والإعلامي، والمستمرّ في تيسير هيمنة إسرائيل على الأجواء حين تحتاجها. في سوريا علاقة روسيا وإيران تنافسية غالباً، في حين أنها تعاونية ناجحة ومثمرة جداً في غير مكان، في أوكرانيا خصوصاً! ليس هناك من داعم لاستمرار النظام واستدامته إلّا تجاهله واستصغار شأنه، مع استمراره بتقديم الخدمات التي يعرف أنها ضرورية لذلك الموقف. قد يكون هذا تفسيراً للحديث حول غياب البديل والافتقاد إليه، لكنّ التفسير الأهمّ ـ ربّما – يكمن في أن تلك البلاد لم تعد مطمعاً لا في ثرواتها ولا حتى في موقعها الاستراتيجي، لأن الاستنزاف المستمرّ لتلك المطامع قد استوفى وظائفه: هنالك تركيا في الشمال، والولايات المتحدة في الشرق والجزيرة، وروسيا على الساحل وفي الإدارات والجيش، وإسرائيل تراقب الجنوب الغربي، حيث لبنان ودرعا والسويداء.. وتستثمر ما تبقّى كونفدرالية للجريمة المنظمة، تتغيّر تموضعاتها كلّ عام أو أقل.

تشغل سوريا منذ عقد من الزمان موقعاً متدنّياً جداً في أيّ دليل بحثي حول الحريات والديمقراطية، أو الاستثمار، وقد احتلّت في مؤشّر الدول الهشّة للعام الماضي الموقع الأخير في» شرعية» الدولة، ومثله في» التماسك»، الذي يدلّ على احتكار العنف من قبل الدولة، وهيمنة المدني على العسكري، وآليّات توزّع القوى على أساس القبيلة والمنطقة والطائفة. يشير ذلك أيضا إلى استنزاف شريحة أصحاب الكفاءات وهجرتهم إلى بلاد الله الواسعة طلباً للأمان والرزق، تعزْز هذه الوضعية حالة التجاهل المذكورة، وتعطي لنظام كهذا إمكانية النفاذ بريشه في الوضع الراهن، وتقطيع الوقت المتبقّي له يوماً بيوم. في غمرة معاركها في المنطقة: تعمل إيران المهدوية على تحفيز عاصفة في فلسطين، وأخرى على باب المندب تعرقل التجارة العالمية، وثالثة تحرّك جماعتها بها في العراق للضغط على الوجود الأمريكي، ما يحرج إسرائيل والولايات المتحدة ويؤكّد مكانة حكومتها الدينية الإقليمية والدولية، وتسهّل عليها مفاوضاتها المقبلة؛ لا تفكّر النخبة الإيرانية السائدة إلّا في ضبط وحدة الساحات وحركاتها، ومنع فضائح الساحة التي كان دورها مشهوداً في السابق، وتآكل حالياً بطريقة تفتح على المشاكل والمعضلات، وتهدّد بقطع برنامج تحريك الصراع الشيعي – السنيّ والتهديد والتوسّع به وبالابتزاز عن طريقه… وما لا يمكن إعرابه تماماً، هو دور النظام السوري في أوركسترا الساحات وضجيجها!

كان بشار الأسد قد تورّط واستبق طوفان الأقصى ببضعة أسابيع قليلة وتكلّم عن «غدر حماس ونفاقها»، ليجعل اهتمامه اللاحق بما يجري في فلسطين عديم التأثير والفاعلية، ويبدو كأنه ليس هنا ولا هناك… هذا من ملامح النظام الآفل أيضاً، لو كان له من بديل، إنه لا يحضّر نفسه إطلاقاً للامتحان المقبل حتماً، بل يخسر أية إمكانية للنجاح أيضاً.

كاتب سوري

—————————-

الديمقراطيات الغربية «الكريستالية» سريعة العطب/ رياض معسعس

26 – فبراير – 2024

تواجه الديمقراطيات الغربية، ومنذ بدايات تشكلها، معضلات صعب عليها تخطيها، أو معالجتها ضمن الأدبيات التي صاغتها بنفسها للتوصل إلى «مثالية» الحكم والسلطة من ناحية، والتعامل مع الإنسان «المواطن» والإنسان الآخر بمعيار واحد. فبالنسبة لبناء «الدولة الأمة» التي اعتمدت على بناء المؤسسات من أحزاب، ونقابات، وجمعيات المجتمع المدني، وعلى التفاعل بينها الذي يؤدي للوصول إلى السلطة سلميا ضمن أدبيات نظرية متفق عليها صيغت بأفكار منظريها وطبقت بثورات شعوبها، بدءا بالثورة الفرنسية، وثورة كرومويل في بريطانيا، وثورة الشاي في أمريكا، وخاصة الثورة الأوروبية لعام 1848 التي انطلقت من فرنسا وعمت الدول الأوروبية وكانت بمثابة بداية التغير من أنظمة أحادية، إلى أنظمة دستورية، مع إلغاء الإقطاعية وسقوط بعض الملكيات، تظهر هشاشة أدبياتها وسلوكها الخارجي وتعاملها مع الآخر.

فالثورات التي نادت بأدبيات «أخلاقية» كالحرية، والعدالة، والمساواة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، لم تحترم بالضرورة تحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الدولة ـ الأمة، ولا على المستوى في التعامل مع «الآخر» (الشعوب الأخرى). فالثورة الفرنسية التي أسقطت ملكية (آل بوربون) شهدت بعدها مباشرة نظام روبسبير الديكتاتوري الدموي، ثم امبراطورية بونابرت، ثم عودة الملكية مرة أخرى. (تماما كما حدث في ثورات الربيع العربي التي انطلقت ضد الديكتاتوريات فأنجبت ديكتاتوريات جديدة).

كما أن الثورات الأوروبية في نظرتها للآخر (الشعوب الأخرى) أو ما تم إطلاق مصطلح «العالم الثالث» عليها كانت نظرة استعمارية، استبدادية، ومعها بدأت «الفترة الكولونيالية» الدموية، لاستعمار الشعوب. فالثورة الفرنسية على سبيل المثال لا الحصر، أفرزت أول حملة استعمارية قادها نابليون بونابرت إلى مصر، ومنها كانت تهدف (باستراتيجية مبكرة) إسقاط السلطنة العثمانية، علاوة على قطع الطريق على غريمتها الأبدية بريطانيا للوصول إلى مستعمراتها في الهند.

الدول الغربية التي استطاعت أن تطور أنظمتها السياسية للوصول إلى أنظمة ديمقراطية تؤمن بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ارتكبت هذه الديمقراطيات، للسيطرة على شعوب أخرى، أكبر المجازر وأبشع أنظمة القمع وخاصة في إفريقيا وآسيا، ونهب ثرواتها، ثم المجازر المروعة في الشعوب التي انتفضت للمطالبة بحريتها ودحر الدول المستعمرة، كما حصل في الهند وثورة اللاعنف الغاندية، والصين الماوية، وفيتنام هوشي منه (إبان الاستعمار الفرنسي) والجزائر وجيش التحرير، وسواها. وهذه النظرة لم تختلف إلى اليوم رغم تغطيتها بغلالة شفافة من مقولة «حقوق الإنسان» و«العدالة الدولية» كما فعلت أمريكا في فيتنام (التي ورثتها عن فرنسا) وبنما، وأفغانستان، والعراق، ودعمت كل الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية والبلاد العربية في الوقت الذي تبرر فيه غزواتها بأنها لنشر «الديمقراطية».

كما أن هذه الديمقراطيات افتعلت حربا عالمية أولى لإسقاط الإمبراطورية العثمانية، والهنغارية ـ النمساوية والسيطرة على تركتهما كما حصل في بلدان الشرق الأوسط، والبلقان، وقامت بريطانيا بهندسة أكبر عملية استعمارية استيطانية في القرن العشرين في فلسطين. كما أن هذه الديمقراطيات التي يمكن تشبيهها «بآنية الكريستال اللماعة لكنها سريعة العطب» يمكن أن تتحول هي نفسها إلى ديكتاتوريات عاتية كما حصل في اليونان والبرتغال وإسبانيا التي ارتكبت فيها مجازر كبيرة خلال الحرب الأهلية، كما حصل أيضا في إيطاليا الفاشية، وألمانيا النازية التي كانت سببا في الحرب العالمية الثانية المدمرة، وحكومة فيشي الفرنسية التي تحالفت مع ألمانيا النازية التي قامت بالمحرقة اليهودية، التي سرّعت هجرة اليهود إلى فلسطين.

وتتبنى هذه الديمقراطيات الغربية مقولة أن حضارتها هي حضارة يهودية ـ مسيحية وتتغاضى عن كون هذه الحضارة بنيت في جزء كبير منها من الحضارة العربية الإسلامية باحتكاكها مع العرب في فلسطين إبان الحملات الصليبية، والأندلس في أوج تقدمها وخاصة في قرطبة.

المادة الثالثة من معاهدة لشبونة 2007 للاتحاد الأوروبي التي تدعم بوضوح «حقوق الإنسان وسيادة القانون، ليس فقط في فضاء الاتحاد، بل وأيضا في العالم أجمع» يتم اليوم عدم احترام هذه المعاهدة من قبل معظم دول الاتحاد الموقعة عليها وعلى رأسها ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا لمجرد أن المسألة تتعلق اليوم بإسرائيل التي ومنذ نشأتها كانت كواحدة من العمليات الاستعمارية الحديثة الأكثر دموية وانتهاكا لكل «الأدبيات الأخلاقية» التي صاغتها الدول الغربية لنفسها وتعهدت باحترامها على المستوى المحلي والدولي. فالاتحاد اليوم منقسم على نفسه إزاء ما تقوم به دولة إسرائيل الاستعمارية التي ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة، وحول دولة فلسطين، وعودة اللاجئين رغم كل القرارات الأممية وتوصياتها. وهذه السياسة لا تتسق مع الإجماع الأوروبي والأممي لحق الشعوب في تقرير مصيرها. فدول كإسبانيا، وبلجيكا، وايرلندا، والنرويج المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، يتضارب موقفها مع الدول الأخرى التي تبنت سياسة المراوغة أو الصمت. وخلال 75 سنة من الاحتلال، وارتكاب المجازر، وعدم احترام القوانين الدولية، وارتكاب جرائم «إرهاب الدولة» لم تحرك هذه الديمقراطيات ساكنا بل وأنها لم تستمع حتى لصراخ شعوبها الذين يتظاهرون بشكل أسبوعي للتنديد بسياساتها تجاه ما يجري في فلسطين.

كما تقدم الدول الغربية نفسها كأمم متقدمة وراعية للديمقراطية، حاولت إسرائيل أن تخدع العالم أيضا بأنها الدولة الديمقراطية النموذجية في شرق أوسط تحكمه ديكتاتوريات «متوحشة، ومتخلفة» وتسعى «لرمي اليهود في البحر» وأن «جيش الدفاع الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم» ورغم أن قرار التقسيم الدولي رقم 181 الذي ينص على إنشاء الدولتين، الذي تم الاتفاق عليه حتى قبل الشريكتين في اتفاقية سايكس ـ بيكو، لم تحركا ساكنا عندما قامت العصابات الصهيونية باحتلال كل فلسطين، بل وقامتا بتسليح إسرائيل وتزويدها (من قبل فرنسا بمفاعل نووي) لصنع قنبلتها النووية، التي طالب أحد وزراء بنيامين نتنياهو بإلقائها على غزة. بينما يحرم الغرب على دول أخرى امتلاك هذا السلاح فتدمير مفاعل تموز العراقي، والمشروع السوري لم نسمع أي ردة فعل من هذه الدول على هذه الاعتداءات. واليوم أمريكا وإسرائيل مستعدتان لافتعال حرب عالمية إذا امتلكت إيران سلاحا نوويا.

ومنذ بداية الأحداث في غزة قامت الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بجسر جوي وبحري غير منقطع من الذخائر والأسلحة، ومنها قنابل تزن طنا أسقط منها المئات على رؤوس النساء والأطفال في غزة، وبسلسلة من حق النقض «الفيتو» ضد أي قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف إطلاق النار، وكذلك ألمانيا التي سمحت بتصدير الذخائر إليها، ورغم أن محكمة العدل الدولية التي أصدرت قرارا بوقف المجازر اللاإنسانية بحق الفلسطينيين فإن دولة الاحتلال ضاعفت من مجازرها وضربها عرض الحائط بقرار المحكمة. وهذه الدولة التي تقدم نفسها بالديمقراطية الخلاقة تدعو إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم، والقضاء على الأونروا للتخلص من حق العودة. تقول مي غيلان وزيرة المساواة الاجتماعية في حكومة نتنياهو «إنها فخورة بتدمير غزة وقتل الأطفال» وتتهم عناصر حماس «بقطع رؤوس الأطفال اليهود واغتصاب النساء» التي تم التحقق بأنها ادعاءات باطلة، في الوقت الذي تقول فيه لجنة للأمم المتحدة: «أن ادعاءات الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية على النساء الفلسطينيات ذات مصداقية» وخاصة في السجون الإسرائيلية حيث تقوم دولة الاحتلال بتعذيب الأسرى الفلسطينيين وقتلهم واغتصاب النساء السجينات. بل وتكشف منظمات إنسانية أن مئات الفلسطينيين وجدوا بدون أعضاء لأنها تعرضت للسرقة من قبل الإسرائيليين. وإزاء كل هذه الجرائم التي ترتقي إلى الإبادة الجماعية لم يجد جو بايدن الذي استخدم الفيتو ضد وقف حرب الإبادة أمامه سوى الرئيس فلاديمير بوتين ليصمه «بالمجنون» و«ابن الزانية» بسبب حربه في أوكرانيا ليرد عليه بأنها عقلية «رعاة البقر» التي لا تزال سائدة. بينما تقول وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون أنها «غير مصدومة بأعداد القتلى في غزة». هذه هي أخلاق من يدعون بأن دولتهم أول ديمقراطية في العالم، وتريد نشرها بالقوة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

جنرالات الاحتلال خصوم نتنياهو: زبد يذهب جفاء؟/ صبحي حديدي

22 – فبراير – 2024

للمرء أن يدع جانباً، لأغراض إنصاف دروس التاريخ بادئ ذي بدء، ما يتفوّه به اليوم جنرالات دولة الاحتلال المتقاعدون في إعلان الخلاف مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أو التعبير عن الخصومة معه بصدد هذه أو تلك من خيارات الكيان الصهيوني السياسية والعسكرية والأمنية والدينية والإيديولوجية. وللمرء، إياه، أن يعود 8 سنوات خلت حين تفجر نزاع لفظي، مقذع كما يصحّ القول، بين نتنياهو وإيهود باراك أحد أبرز جنرالات الاحتلال الذين انقلبوا إلى ساسة بعد التقاعد، فتصدّر لائحة رجال الدولة على امتداد عقدين، وتبوأ سدّة رئاسة الحكومة أواخر التسعينيات؛ وترأس الفريق الإسرائيلي المفاوض مع رأس النظام السوري حافظ الأسد، بواسطة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون؛ ثمّ قبل العمل كوزير للدفاع تحت رئاسة نتنياهو، سنوات 2009 وحتى 2013.

هذا عدا عن كونه الجنرال «الأكثر أوسمة» في تاريخ دولة الاحتلال، وعضو فريق الاغتيال الذي تسلل إلى بيروت في ربيع 1973 لاغتيال القادة الفلسطينيين كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار؛ وهو ذاك الذي أطلق سنة 1999، فور فوزه برئاسة الحكومة، تلك الشروط «الستراتيجية» الكبرى التي لا تترك للإسرائيلي العادي هامش ملامة واحداً ضدّ جنرال منقلب إلى سياسي متشدد: القدس ستبقى موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لا عودة البتة إلى حدود 1967، لا جيش غريباً غرب نهر الأردن، وغالبية المستوطنين في «يهوذا والسامرة» سوف يواصلون الحياة في مستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية. ولم يظلمه عدد من المعلّقين الإسرائيليين، الأذكياء، حين اختاروا لقب Bibi-Compatible، بالنظر إلى مهاراته في «التطابق» مع برامج خصمه/ رئيسه نتنياهو، أو الالتفاف على «البرنامج الآخر» أياً كان، أو حتى مع البرنامج النقيض بصرف النظر عن طبيعة التناقض.

بالعودة إلى حزيران (يونيو) 2016، كان باراك قد قصد ضاحية هرتزليا في ظاهر تل أبيب، لإلقاء الخطاب الأعلى نبرة ضدّ نتنياهو؛ ناعتاً الأخير بصفات الجبن والانتهازية وإشاعة الخوف، محذراً من أنّ حكومته هي الجناح الأكثر يمينية في تاريخ دولة الاحتلال، وتبدي «علائم على الفاشية» وأنها إذا لم تسقط فالبلد موشك على التحوّل إلى دولة أبارتيد. وقال باراك: «المشروع الصهيوني بأسره في خطر محدق» ومصدر ذلك الخطر الرئيسي لم يكن أعداء دولة الاحتلال الخارجيون، بل زعيمها ذاته المنتخب ديمقراطياً. يومها كان باراك/ جنرال الأوسمة المتقاعد، غاضب من قرار نتنياهو تعيين رجل غير مجرّب عسكرياً مثل أفيغدور ليبرمان وزيراً للدفاع؛ فهل كان يجهل أنّ سنوات نتنياهو المقبلة في الحكم لن تشهد تسجيل الرقم القياسي الأعلى لأي رئيس حكومة فحسب، بل كذلك خضوعه للقضاء بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة؛ وإقدامه على تسليم حقيبة الأمن إلى إرهابي مدان قضائياً مثل إيتمار بن غفير.

لكنّ باراك، الغاضب ذاته، سوف ينشقّ عن حزب «العمل» مطلع 2011 لتشكيل كتلة/ حزب جديد باسم «عتسمؤوت» بذريعة أنّ الحزب الأمّ «انزلق إلى أقصى اليسار» وأخذ يعتنق «آراء ما بعد حداثية وما بعد صهيونية»؛ وأنّ الحزب الجديد سوف يكون «صهيونياً ديمقراطياً». فهل كان باراك يتحدّث عن دولة الاحتلال التي على الأرض، حيث الاستيطان والفصل العنصري والاقتداء بالنازية؛ أم الكيان المعلّق في سماءات الاستيهام، حيث الصهيونية متجمدة عند برهة استقلال بن غوريونية، محال أن تعقبها أحقاب ما بعد صهيونية، فكيف بأخرى ما بعد حداثية؟

كان في الوسع المساجلة بأنّ انشقاق باراك صنع المسمار الأخير الذي كان نعش حزب «العمل» ينتظره، قبل التشييع إلى مقبرة السياسة في إسرائيل المعاصرة. بيد أنّ النعش كان مسجّى لتوّه أمام ناظريه، أو بالأحرى معروض على الملأ منذ التحاق شمعون بيريس بصفوف «كاديما» وهرولة باراك نفسه للانضمام إلى حكومة نتنياهو. وإذا شاء المرء توسيع المشهد كي يشمل الفصائل الأخرى ضمن ما يُسمّى «اليسار» الإسرائيلي، فإنّ حركة «ميرتس» شهدت مصائر مطابقة حين استولى عليها يوسي ساريد، فأفرغها من تسعة أعشار توجهاتها الاجتماعية ذات الطابع اليساري العلماني، وردّها إلى أسفل سافلين بصدد برامجها حول السلام مع الفلسطينيين والعرب إجمالاً.

في غمرة هذه السياقات، وكما تعوّدت شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي حين تهيمن مناخات هستيرية بصدد أمن الدولة وقادتها الأمناء على مصيرها؛ كان الشارع سعيداً باكتشاف باراك بوصفه حصيلة رمزية أكثر منها حصيلة سياسية، قادرة على إشباع وجدان إسرائيلي لا يستطيع الانفكاك بسهولة عن ثقافة الحرب وهوية الحصار وهاجس الأمن. ولم يكن مستغرباً أنّ حملته الانتخابية (التي قادها خبراء أمريكيون كانوا هم أنفسهم قادة الحملة الانتخابية الثانية للرئيس الامريكي الأسبق كلنتون) قدّمته في صورة «بطل إسرائيل» تارة، و«الجندي ـ المواطن» تارة أخرى، و«الجنرال ـ السياسي» في كلّ حال؛ ثمّ على نحو خاصّ محدد: نجم عملية اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) والرجل العابر إلى بيروت متخفياً في زيّ امرأة، لتصفية ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية.

وربما كي يطلّ برأسه ويكسر حلقات التغييب السياسي التي تسبب بها شخصياً، وتكالبت عليه موضوعياً، فأقصته عن المشهد مثلما خسفت بحزبه الأمّ «العمل» وحزبه الوليد المؤود في المهد «عتسمؤوت»؛ اختار باراك محطة CNN، والحديث بالإنكليزية، كي يفجّر قنبلة أولى خال أنها ستكون مدوية: الأنفاق التي يزعم جيش الاحتلال أنّ «حماس» أنشأتها أسفل مجمّع الشفاء، قامت ببنائها شركات إسرائيلية، بمعرفة سلطات الاحتلال استطراداً، التي كانت «تدير الوضع طوال عقود». ولأنّ القنبلة تلك أحدثت غضبة ضدّ باراك أكثر من أيّ دويّ صاخب، فقد اختار زاوية أخرى في مسعى الإطلال برأسه فاعتبر أنّ جيش الاحتلال «بعيد عن تحقيق أهداف الحرب» وأنّ وقائع 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) هي «الأخطر في تاريخ» الاحتلال لأنها شهدت «الإذلال، وعدم الكفاءة، وخلل أجهزة الدولة».

صحيح أنّ صدره مثقل بأوسمة شتى، وحين يتباهى بإنجازاته فإنه يسوق وقائع أدعى إلى دغدغة مخيّلة البطولة لدى الإسرائيلي المتوسط المصاب غالباً بعقدة حصار قلعة ماسادا؛ إلا أنّ باراك لم يبلغ شأو جنرالات إسرائيليين أمثال إيغال ألون وموشيه دايان وإسحق رابين وأرييل شارون، ولهذا انتهت خصومته مع نتنياهو إلى تنويعات بين الخلاف والمصالحة والتحالف والانحناء والرضوخ، وصولاً إلى تشكيل فقاعة ضجيج عابرة أو موجة زبد ذهبت جفاء. هو، إلى هذا وعلى سبيل إنصاف مواقعه المتقلبة المتغايرة، أكثر شطارة من أمثال غادي آيزنكوت وبيني غانتس ممّن يخالفون نتنياهو الرأي حول «اليوم التالي» للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، ويتفقون معه في ارتكاب جرائم الحرب والإبادة والتجويع والعقاب الجماعي.

وفي كتابه «نتنياهو ضدّ الجنرالات: المعركة من أجل مستقبل إسرائيل» الصادر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات كمبرج، يرصد غاي زيف مستويات عديدة، بعضها لافت تماماً ومدهش أيضاً، تتبلور عندها ملفات الخلاف بين نتنياهو وجمهرة من الجنرالات العاملين أو المتقاعدين في جيش الاحتلال أو أجهزة استخبارات الموساد والشين بيت؛ وبينهم عدد غير قليل من أولئك الذي عيّنهم نتنياهو بنفسه. ولأنّ خلاصته المركزية هي تبيان الفارق بين جنرال يحرص على تقدير الأخطار والعواقب خلف المجازفة، وبين سياسي يهتمّ أوّلاً بكيفية انعكاس قراراته على صندوق الاقتراع؛ فإنّ النتيجة تبقى متماثلة، لجهة خصومات تنتهي إلى زبد يذهب، في نهاية المطاف، جفاءً.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

—————————–

========================

العربي الجديد

———————————

“إصلاحيو” إيران والحرب على غزة/ مروان قبلان

28 فبراير 2024

في ظلّ الانشغال بحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة منذ نحو خمسة شهور، مرّت، من دون انتباه، تصريحات صادمة أدلى بها وزير خارجية إيران السابق، جواد ظريف، في مؤتمر عُقد في طهران أخيراً، قال فيها إنّ “الشعب الإيراني منهكٌ من الاستمرار في دفع أثمان اتخاذ الحكومة مواقف متشدّدة من إسرائيل”. وذهب ظريف إلى أنّ المرشد، علي خامنئي، “تعرّض لضغوط من المتشددين من أجل التدخّل في الحرب الدائرة في غزّة”، لكنه (المرشد) تبنّى “سياسة حكيمة بعدم دعم التطرّف”، والنأي بإيران عن الهجمات التي يشنّها بقية أعضاء “محور المقاومة” ضد إسرائيل أو القوات الأميركية في المنطقة.

الخلاف حول توّجهات السياسة الخارجية والعلاقة مع الغرب كانت حاضرة دوماً في النقاش العام في إيران منذ أيام الرئيس السابق محمد خاتمي (1997 – 2005)، لكن حرب غزّة أظهرت، لأول مرّة ربّما، عمق الانقسام داخل دوائر النظام، وفي أوساط النخب الإيرانية عمومًا بشأن الموقف من القضية الفلسطينية. ورغم أنّ تصريحات ظريف أثارت موجة من الاستياء بين المحافظين، حيث اتّهمه بعضهم بالجبن وبإضعاف موقف إيران السياسي، بيد أنّ تلك التصريحات كانت تعبّر بدقّةٍ عن موقف النظام الذي حدّده خامنئي منذ اليوم الأول للحرب “إيران ترحّب بعملية طوفان الأقصى، إنما لا علاقة لها بها”. هذا الموقف أكّد عليه خامنئي مرّة أخرى عندما زاره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، يطلبُ منه دعماً فعليّاً لنصرة غزّة. ردّ خامنئي على ضيفه بطلب “إسكات الأصوات” من داخل الحركة التي تطالب إيران وحزب الله بتفعيل اتفاق “وحدة الساحات” ودخول الحرب إلى جانب “حماس”. رئيس البرلمان السابق، غلام علي حداد عادل (ابنته متزوّجة من ابن المرشد مجتبى خامنئي)، عبّر عن موقف مماثل: “من غير الواضح من وجهة نظر استراتيجية كيف يمكن أن يؤدّي دخول إيران الحرب في غزّة إلى تحقيق فائدة للقضية الفلسطينية”.

واقع الحال، أن النظام الإيراني، الذي درج، شأن أنظمة عديدة في المنطقة، على الهروب نحو الخارج، لقمع أيّ أصوات داخلية معارضة وإسكات أيّ مطالبات إصلاحية، يبدو مُحجمًا هذه المرّة عن الاستثمار حتى شعاراتيًا في القضية الفلسطينية ومزاعم مواجهة “قوى الاستكبار العالمي”، مخافة التورّط في مواجهة عسكرية لا قبل له بها فيما تستمر حال التململ التي تشهدها البلاد منذ وفاة الناشطة الكردية مهسا أميني تحت التعذيب على يد “شرطة الأخلاق” في سبتمبر/ أيلول 2022.

وفيما ينشغل النظام الإيراني داخليّاً بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الصعبة، لا يبدو مرتاحًا في بيئته الخارجية أيضا بعد سقوط رهانه على سياسة “التوجّه شرقا” التي تبنّاها إبراهيم رئيسي، بديلا لسياسات “التوجّه غربا” التي تبنّاها الثنائي روحاني – ظريف، وفشلت بدورها بسبب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وإعادة فرض العقوبات، فالصين التي وقّعت اتفاقًا للتعاون الاستراتيجي مع إيران في مارس/ آذار 2021 بقيمة 450 مليار دولار متردّدة بشأن تنفيذه خشية الاصطدام بالعقوبات الأميركية، وتربطها مصالح أكبر بدول الخليج (حجم التبادل التجاري يصل إلى 220 مليار دولار سنويا في مقابل 16 مليارا مع إيران). وليس لدى روسيا، الغارقة في أوكرانيا، ما تقدّمه لإيران، بل باتت هي المستفيدة من العلاقة معها. الهند، الشريك الكبير الآخر المحتمل، باتت تميل بقوة نحو إسرائيل، حتى أنها تُرسل متطوّعين للقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي في غزّة. تواجه ايران تعقيدات أيضًا في علاقاتها بدول الجوار (أفغانستان، وأذربيجان، وتركيا، وباكستان وإقليم كردستان العراق). في ظلّ هذا الوضع الصعب، يبدو أنّ إيران رضيت من الغنيمة بالسلامة، عندما قرّرت تخفيض وجودها العسكري في سورية (بعد مقتل ضبّاط كبار في الحرس الثوري في هجمات إسرائيلية)، وكان الأوْلى بها فعل العكس لو أرادت نُصرة غزّة. رهان إيران الرئيس الآن هو بقاء الديمقراطيين في البيت الأبيض (يفضّل بايدن)، لأن عودة الجمهوريين (ترامب أو غيره) ستكون كارثة كبرى، أمّا داخلياً فيأمل النظام بمشاركة كبيرة في انتخابات مجلس الشورى تجدّد شرعيّته المهترئة، أما غزّة فقد تبيّن في لحظة الحقيقة أن ليس لها إلا الله.

———————————–

غزّة بوصفها مرآة عصرنا/ راتب شعبو

27 فبراير 2024

تقدّم حرب الإبادة الجارية في غزة اليوم عرضاً جديداً عن الحقيقة التي تسم عصرنا، وهي إمكانية وجود تفاوت هائل في القوة بين الأطراف المتصارعة، نظراً إلى التفاوت الحاصل في القدرات الاقتصادية والعلمية، وتسخير العلم لخدمة المجال العسكري. نسف هذا الواقع التوازن التقليدي بين المتصارعين بصورة جذرية، وجعل من الممكن أن يكون مثلاً عدد الضحايا في طرفٍ من الصراع يعادل عشرات أو حتى مئات الأضعاف عند الطرف الآخر، وينسحب الأمر نفسُه على الخسائر العُمرانية والمادية.

بفعل التفاوت الكاسح الحديث في القوة بين المتصارعين، ظهرت النظريات العسكرية التي تتحدّث عن خطط الحرب غير المتكافئة (asymmetric warfare). لا يجد أصحاب الحقّ الضعفاء سوى تنفيذ عمليات عسكرية مبعثرة، هدفها الضغط على العدو القوي عبر إيلامه، الأمر الذي يتفاعل معه العدو القوي بأن يرتدّ، ضد مجتمع أصحاب الحقّ، بقوة ساحقة يذهب ضحيّتها، بشكل أساسي، المدنيون والعمران المدني، ذلك أن الجماعات التي تُصارعه وتؤلمه ليست جيوشاً نظامية، ولا تمتلك أبنية ومؤسّسات عسكرية تقليدية تكون أهدافاً لترسانته الحربية، فتراه يقصف المستشفيات والمدارس ومحطّات الكهرباء والأبنية السكنية، وفي أحيان غير قليلة يقصف تجمّعات بشرية عارية (قوافل لنازحين، أو أماكن تجمّع لهم)، في “تدمير شامل” غايته الردع بالإبادة.

والحقيقة أن الأسلحة التي تُجنّد لها أعلى القدرات العلمية وترصد أعلى الطاقات الاقتصادية من أجل تطويرها، والتي تشكّل الفارق الحاسم بين الدول، هي أسلحة دمار شامل، أي أسلحة تحيل الكلام عن التمييز بين المدنيين والعسكريين، حتى في الصراع بين جيوشٍ نظامية، إلى كلام فارغ. وهي الأسلحة التي تتسابق الدول لحيازتها، وإن على حساب جوع السكان وبؤسهم. على هذا، ينتقل العالم من توازن القوة إلى توازن الرعب، الرعب من الفناء.

أفسحت التكنولوجيا العسكرية الحديثة مجالاً واسعاً أمام اللاعقلانية. إذا كانت الأفكار الجنونية يمكن أن تخطُر للمرء دائماً وعلى مر العصور، فإن الإمكانات العلمية والمادّية المتاحة كانت دائماً لا تسمح بتحقيق اللاعقلانية والجنون، قبل العصر التقني الحديث. محدودية القدرات كانت تحدّ من جنون الحاكمين. أما اليوم فإن التحالف بين العقلانية العلمية الصارمة التي تعبّر عن نفسها في أحدث منتجات التدمير العسكرية واللاعقلانية الغريزية الجنونية المتمثلة في سياسات الإبادة والتهجير القسري، هو من ميزات هذا العصر. هكذا، نشهد تطوّراً علمياً كبيراً ومذهلاً يجاوره، أو يوازيه، انحطاطٌ أخلاقي كبير ومذهل أيضاً.

الفظاعات والمآسي غير المسبوقة التي ولدتها الحربان العالميتان في منتصف القرن الماضي، وكانت الخسائر متبادلة بين طرفي الصراع بسبب تقارب القدرات العسكرية، قادتا البشرية إلى الوقوف مع ضميرها، وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان الالتزام به، بما يجعل الالتزامات الإنسانية الأخلاقية مواكبة للتطوّر العلمي الذي راح يترجم نفسه في المجال العسكري على شكل أسلحةٍ فتّاكة، تتيح لرجلٍ مثل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة، هاري ترومان، أن يقرّر حكم الإعدام وينفذه بحقّ مئات آلاف البشر اليابانيين في لحظات. غير أن نزوع الأقوياء إلى السيطرة واحتقار “حقوق الإنسان” لم يكفّ عن السعي من أجل تبرير ذاته أخلاقياً أيضاً. لم تجد جامعة إنكليزية عريقة مثل جامعة أكسفورد، مثلاً، مشكلة في منح ترومان، بعد سنوات قليلة (1956) من قرار الإبادة الذي اتّخذه في نهاية الحرب العالمية الثانية، شهادة دكتوراه فخرية، وذلك بشبه إجماع من هيئة الإدارة (اعتراض عضو واحد). في هذا ما يعكس السعي إلى التطبيع مع القتل، حين يكون على يد الأقوياء، ويعكس سعي هؤلاء إلى السيطرة على الأخلاق وليس فقط على الأرض، أو قل إلى صناعة أخلاق ومعايير مناسبة لصناعة أسلحة القتل العام والدمار الشامل.

العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، هو العام نفسه الذي يعتبره الفلسطينيون والعرب عام النكبة، لأنه شهد عمليات قتل وتهجير قسريٍّ واسعٍ في فلسطين تنفيذاً لخطّة وضعتها عصابات صهيونية (الخطة دالت)، التي استغرق تنفيذُها ستة أشهر ونتج عنها ترحيل نصف سكان فلسطين الأصليين، حسب كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” للمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، الذي يستشهد في مقدّمة كتابه بقول ديفيد بن غوريون أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في 1938، “أنا أؤيد التهجير القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي”.

تطوّرت وسائل القتل والتهجير القسري كثيراً منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى السلاح النووي (وقد هدّد الإسرائيليون صراحة باستخدامه في غزّة)، من دون أن تتطوّر في مواكبتها قوة أخلاقية كافية كي تحمي البشر من شرّ البشر. التهجير القسري الذي اضطلعت به عصابات بأسلحة بسيطة، باتت تتولاه دولة حديثة بجيشٍ مجهّز بالأسلحة الأكثر تطوّراً، جيش حديث ولكن قادته لا يرون، على غرار بن غوريون قبل أكثر من ثمانية عقود، في التهجير القسري شيئاً غير أخلاقي. يعيد هذا الواقع إلى الذهن ما قاله عبد الوهاب المسيري في كتابه “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ” إن “الظاهرة المشتركة بين النازيين والصهاينة هي عقلانية الإجراءات والوسائل ولاعقلانية الهدف”. ويذكُر المسيري في الكتاب كيف أنه لم يكن مسموحاً للجنود الألمان بإساءة معاملة اليهود في طريقهم إلى غرف الغاز، معلّقاً على ذلك بقول فظيع “فعملية الإبادة يجب أن تتم بحياد علمي رهيب، يشبه الحياد الذي يلتزمه الإنسان تجاه المادّة الصمّاء في التجارب المعملية التي تتخطّى حدود الخير والشر”. ألا يُعامل أهل غزّة اليوم كأنهم مادّة صمّاء لا حاجة بها إلى المستشفيات والمواد الغذائية والصحية أو إلى السكن والنور… إلخ؟

مع ذلك، يعمل العقل المنتج لهذه اللاعقلانية التي تتجلّى بشتى الصور الرهيبة في غزّة اليوم، على “عقلنة” لاعقلانيته من خلال تسويقها في مغلفات عقلانية مقبولة مثل “الحقّ في الدفاع عن النفس” و”محاربة الإرهاب”… إلخ، في مسعىً إلى التجاوز المستحيل للهوة الأخلاقية.

———————————

كيف السبيل للتعافي من كلّ هذا الاحتلال في سورية؟/ أيمن الشوفي

27 فبراير 2024

يقرع وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان باب بيروت قبل دمشق، إنْ زار المنطقة، يفعل ذلك دوماً وبمواظبة سياسية تحرص طهران من خلالها على إنشاء هذا الترتيب الأبجدي لدبلوماسيّتها، فلبنان على الأقل ليس منطقة نفوذٍ كاملة لإيران، مثلما هي سورية بالنسبة إليها، عدا عن أنّ طبيعة التوازنات الطائفية في لبنان تحول دون وقوعه تحت كاهل احتلال أو نفوذ دوليّ بعينه، أما في سورية “السعيدة”، والتي تعيش منذ عقدٍ مباهجَ استباحاتٍ عدّة، فإن حصّة النفوذ الإيراني تقارب درجة الاحتلال المباشر إن جرت مقارنتها مع باقي حصص النفوذ الدولية في بلد يديره نظامٌ سياسيٌّ استبداديّ ومهترئ.

لكن، وعلى الرغم من التفاوت اللفظي لدى إجراء ترجمةٍ آمنة لمفهوم الدبلوماسية الإيرانية في تعاملها وفهمها الملفّيْن السوري واللبناني، فإن وزير خارجية إيران يستطيع أن يمتلك، وبعيداً عن ذنوب تلك الترجمة من الجرأة السياسية حدّاً يسمحُ له بالتصريح بأنّ “أمن لبنان من أمن إيران”، وتلك مجاهرةٌ فصيحة لا تقتصد في المعنى، وإنما تختبئ خلف وقاحة سياسيّة مسيّجة بعناية، ربما يكون أساسها إفساحٌ أميركيّ واسع الطيف لارتكاب مزيدٍ من خطايا توغّل النفوذ الإيراني في المنطقة، سواء في اليمن أو العراق أو سورية أو لبنان، وتجتهد إيران كثيراً في فهم مقرّرات المنهج الدراسي الأميركي الجديد في منطقتنا، والقائم في جانبه النظري على سياسة “الاحتواء” بدلاً من الابتلاء بالتصعيد العسكري، وهذا يعكّر كثيراً ملامح نتنياهو، الباحث، من وراء تصفية الخصومة المحيطة بكيان بلاده، عن مزيدٍ من توسيع حدود دولته، وإن اقتضى الأمر لا ضير من تسميم الموجودات المحاذية للكيان برمّتها، وهذا اشتقاقٌ “تلمودي” وافر المعنى، يستحوذ على عقل اليمين الدينيّ المتطرف في دولة الكيان الحالم بنهريْن ونجمة.

لكن، وفي دمشق، يكون عبد اللهيان أكثر استرخاءً وأكثر تمتّعاً بالسلطة والنفوذ مقارنةً بما يكون عليه حاله في بيروت، ويكون بمقدوره أيضاً أن يركل بخفّةِ المجازِ فمَ وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، ويجعله يُخرِجُ كلاماً من قبيل أن سورية على استعدادٍ لخوض مزيدٍ من الحروب ضد إسرائيل في الوقت الذي تراهُ مناسباً. مجدّداً يتحدّث المقداد بلسان إيران، ويحضر مع كبار شخصياتٍ في النظام السوري، من بينهم رئيس الحكومة، ووزير الدفاع، والأمين القطريّ المساعد لحزب البعث الحاكم، حفلاً أقامته السفارة الإيرانية بدمشق، أخيراً، بمناسبة الذكرى السنوية لانتصار “الثورة الإسلامية” ضد حكم الشاه، وذلك يوم 11 فبراير/ شباط من العام 1979.

كذلك بمقدور بشّار الأسد إهدار مزيد من بقايا “دولة البعث” التي ورث إدارتها عن أبيه، ولعله فعل ذلك مرّاتٍ عديدة، كان جديدُها أخيراً حين أصدر قانوناً خاصّاً بإحداث وحوكمة وإدارة الشركات المساهمة العمومية، والشركات المشتركة. وليس مصادفةً صدور هذا القانون عقب انتهاء زيارة عبد اللهيان دمشق. وسيكون القانون، على أي حال، أشبه بتنازل إضافي عن مُلكياتٍ عامّة جاء على هيئة تشريع، ويمكن الركون إليه في أثناء تحليل المدى الذي بلغه الجانب الإيراني في استباحة دولة بشّار الأسد، وتمكين مقوّمات تلك الاستباحة بصورةٍ قانونيّة، إذ بات بمقدور إيران السيطرة على ما تشاء من شركاتٍ عامة، بعدما شرعن القانون الجديد إمكانية طرح شركات القطاع العام للاستثمار الخاص، أي خصخصتها. ومن المستبعد أن يكون بمقدور أحد منافسة إيران على تلك الهيمنة المرتقبة، بما تحوزُه من سيطرة واسعة على القرار الحكومي لدى النظام السوري من خلال رئيس الحكومة الذي يُعدّ الذراع التنفيذي الأهم لمصالح إيران داخل منظومة الأسد الحاكمة، كما أنّ الأمر سيبدو، في غايته القصوى، أشبه بتحصيل مزيدٍ من الديون الإيرانية العالقة بذمّة رأس النظام السوري، لكن إيران ومن الناحية الاقتصادية لن تحصد الكثير من المنفعة الاستثمارية من استيلائها على شركاتٍ حكومية هَرِمَة ومكبّلة بالخسائر، ما يعني إيران هو الاستملاك في جوهره، أن تمتلك المزيد من الأصول في سورية، وأن تُمعنَ أكثر باحتلالها هذا البلد الذي يرقدُ فوقه زعيمٌ “سيكوباتي” عنيدٌ ومكروه من الجميع.

لا تجدُ إيران حرجاً من المجاهرة الفاضحة بأنها صاحبةُ سيادة داخل الجغرافيا السورية المريضة والمهزومة، إلى درجة أنها لم تأبه، وكذلك فعلت السلطات السورية حين تسرّبت إلى الإعلام أخبارٌ تفيد بأن إيران حوّلت أطفالاً في دير الزور السورية إلى فئران تجارب للموادّ المخدّرة التي تصنّعها في تلك المحافظة السورية سيئة الحظّ والطالع، وقد صرّح مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، يوم 10 فبراير/ شباط الحالي، عن حدوث مثل تلك الانتهاكات القذرة من الإيرانيين بحقّ أطفالٍ ذوي ظروفٍ صعبة، وقد جرى توثيق بعض أسماء أولئك الأطفال الذين فارقوا الحياة تحت ظروفٍ قاسيةٍ تتساوى في دناءتها مع حفلات الإبادة التي يمارسها نظام بشّار الأسد منذ العام 2011 بحقّ معارضين سياسيين له. وفي هذا استيرادٌ لمفهوم المحنة بتجلّيها الدلالي البديهيّ، وعلى السوريين أن ينحازوا إلى فهم هذا الجانب المظلم من مصيرهم المعتقل داخل مزاج دوليّ متواطئ ومستبدّ. وربما بالَغَ القدر باضطهادهم بعدما بلغ عدد اللاجئين منهم نحو ستّة ملايين لاجئ، وهذه تغريبةٌ ابتكرها عقل طاغية دمشق، ومن يعاونونه على تدبيجِ هذه السرديّة الباكية، والتي لا تجد من يقارعها في المعنى إلا سرديّة قطاع غزّة، حين ابتكر عقل الكيان الإسرائيلي كل المراوغات التي تحمل معنى التهجير والإبادة بصورها الأكثر إهانة للذات الإنسانيّة، وما نجم عنها من استشهاد أكثر من 28 ألف فلسطينيّ، وإصابة أكثر من 68 ألفاً آخرين منذ بداية حصار القطاع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهذا ما يفهمه السوريون أكثر من سواهم، حين يلمسون هذه الحكاية من جوانبها الأكثر إيلاماً وعناداً، كونهم ورثةُ احتلالٍ محلّيّ من نظام إبادة شبيه بالنظام الإسرائيلي، أو يكاد يتفوّق عليه، إلى درجة أنّ إقرار مجلس النواب الأميركي قانوناً جديداً لمكافحة التطبيع مع نظام بشّار الأسد لم يلقَ أيّ بهجة من السوريين، بالرغم من ابتسامة النائب الجمهوري فرينش هيل، العميقة والمؤكّدة، والتي رافقت صدور ذاك القانون، وهذا مردّهُ خيبة أمل السوريين بجديّة الإدارة الأميركية في التخلص من بشّار الأسد ونظامه منذ العام 2013، وما تلا ذاك التاريخ من صدور قوانين أخرى لتكبيل بشار الأسد والتضييق عليه، من دون إسقاطه، وأشهرها كان قانون قيصر الصادر عام 2019، ثم قانون كبتاغون الأسد الصادر في مطلع العام الماضي، من دون أن يؤثرا على بقاء بشّار الأسد زعيماً للنظام السوري، حتى أنّ الخبر الذي تناول أخيراً تصفية ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري، بواسطة طائرة مسيّرة إسرائيلية استهدفته في أحد أماكن وجوده في ريف دمشق، لم يعد قادراً، هو الآخر، على استمالة آمال السوريين بالخلاص من تلك الصيغة السياسية التي تحكمهم باستهزاء، فهم على أيّ حال ما زالوا أسرى لدى هذا النظام، وملامحهم التي شاخت قبل أوانها دليلٌ دامغٌ على ذلك.

————————–

برهان غليون وجلبير الأشقر: عن الغرب وازدواجية المعايير تجاه فلسطين

27 فبراير 2024

“فلسطين والغرب: ازدواجية المعايير” عنوان ندوة نظّمها، السبت الماضي، “منتدى التفكير العربي” في لندن، بمشاركة الباحثَين جلبير الأشقر وبرهان غليون، وتقديم الكاتب والباحث الفلسطيني عاطف الشاعر، وبُثّت عبر حسابات المنتدى على وسائل التواصل الاجتماعي.

قدّم للندوة سفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملُط، الذي أوضح أنّ “ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني، اليوم، هو عملية إبادة جماعيّة بكلّ معنى الكلمة، وبتواطؤ دُولي، فإسرائيل ما كانت لتتمكّن من فِعل كلّ هذا لولا الدّعم الغربي بالسلاح والمال”.

وتابع: “في مقابل هذه الوضعيّة، علينا تحويل العجز إلى إرادة وتغيير، رغم النكبة المستمرّة منذ عام 1948. وعلينا إيقاف المجزرة الآن، وضمان عدم تكرارها، ومحاسبة المُجرمين”، لافتاً إلى أنّ “العدوان كشف عورة النظام الدولي، وأنّ المعركة معه تبدأ بالكلمة قبل الرصاص، فالعالَم وضع إسرائيل فوق أيّ اعتبار، وبالتالي علينا إعادة ترتيب أمورنا حتى تكون هذه الحرب آخر النكبات وأوّل الحرّية”.

وأشار أستاذ عِلم الاجتماع والباحث السوري بُرهان غليون، في حديثه، إلى “حالة تماهٍ كُبرى بين إسرائيل والدول الغربيّة، منذ اللحظات الأُولى لعملية ‘طُوفان الأقصى’. كما أنّ مقولة ‘يحقّ لإسرائيل الدفاع عن نفسها’، تنطلق من، وتتأسّس على مُصادرة حقّ الآخرين بفعل الشيء نفسه في وجه آخر مُستعمِر في التاريخ الحديث”.

وتناول صاحب “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل” (2019) جذور “المسألة اليهودية” في عصر الحداثة الأوروبّية، التي كانت الهجرة إحدى الإجابات عن هذه المسألة، ومن ثمّ فكرة الإبادة التي أقدم عليها النازيّون، وهناك من نادى بإقامة الدولة القومية على يد الصهاينة، و”من هنا نشأ دورٌ وظيفيّ لإسرائيل لصالح خدمة القوى الاستعمارية، فحتى لو كانت الصهيونية تريد حلّاً سلميّاً بينها وبين العرب، في ذلك الوقت، لرفض الأوروبيون والأميركيون ذلك. فإسرائيل هي مليشيا لخدمة مصالح الغرب”.

وتابع: “الغرب ليس مصطلحاً هوياتياً، بل جيوسياسي، فيه قوىً مُهيمنة على النظام السياسي، وأُخرى مُناهضة لما نراه اليوم، تحتجّ في الشوارع تنديداً بالإبادة، هناك شرخ بين الرأي العام وبالأخصّ فئة الشباب والحكومات”. وختم حديثه بالعودة إلى الراهن، حيث “انجرف الكثير من العرب إلى التطبيع، بدل مواجهة الاحتلال وتحصيل حقوق الشعب الفلسطيني، وهذا ما أدّى إلى ‘طوفان الأقصى'”.

أمّا الباحث اللبناني جلبير الأشقر، فأكّد “أنّنا أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة، وأمام جماعة مُجرمة على رأس السلطة في إسرائيل هي الأكثر تطرُّفاً، تتمنّى أن تستكمل ما بدأته في غزّة بالضفّة الغربية”، معتبراً أنّ “ما هو أكبر من حجم القتل، هو حجم التدمير وإزالة معالِم غزّة الفلسطينية، فما جرى إسقاطُه على القطاع تعدّى قنبلتين ممّا أُلقي على هيروشيما. ويتعدّى ثلاثة أضعاف ما جرى في دريسدن”.

ولفت صاحب “الشرق المُلتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي” (2004) إلى أنّ “هذه أوّل حرب مُشتركة بين الصهاينة والولايات المتّحدة، التي كانت على الأقلّ تدّعي الحِياد في الحروب السابقة؛ حيث نرى اليوم جسراً جويّاً مستمرّاً حتى هذه اللحظة، وهذا أكبر دليل على نفاق الولايات المتّحدة. لكنّ كلّ ما سبق ما كان ليحدُث لولا التواطُؤ العربي، فماذا لو أشهرت الدول العربية سلاح النفط، ألم تكن لتقف هذه الحرب؟”.

وختم حديثه: “لا يُمكن فَصْل قيادة المعركة وتوجيهاتها الإعلاميّة ولغتها عن الخلفيّات الاستشراقية السائدة في الغرب. كما أنّ الكَيل بمكيالَين وصل إلى حدّ غير مسبوق في الغرب، وحسبنا لو نظرنا إلى خطابه في أوكرانيا وخطابه في فلسطين. سوى ذلك فإسرائيل اليوم تُراهن على عودة ترامب لإعطائها ضوءاً أخضر ولاستكمال ما بدأت به، من أجل الانتقال بمعركتها الوحشية إلى الضفّة الغربية، ولإنشاء محور عسكري صهيوني أميركي بالتواطؤ مع بعض البلدان العربية”.

————————————

بين قضيّتي السوريين والفلسطينيين/ سميرة المسالمة

26 فبراير 2024

نتابع، منذ خمسة أشهر، وفي كل لحظة، فصول المأساة الفلسطينية، مع كل مشاعر القهر والألم والشعور بالظلم والخذلان، خصوصاً مع وصول أكثر من مليوني فلسطيني إلى حافّة الإعدام، في معاناةٍ غير مسبوقة، مع قطع الماء والكهرباء والدواء والوقود، وفقدان أماكن الإيواء، مع تدمير البيوت وتخريب الطرقات والبنى التحتية، وأكثر من مائة ألف ضحية، بين قتلى وجرحى ومُصابين ومعتقلين، ومفقودين تحت ركام البيوت والمنشآت المدمّرة، إنه حكمٌ بالإعدام مع سابق التصميم من إسرائيل لكل أهل غزّة، ولغزّة المدينة ببنيانها ومدارسها، ومشافيها ودور العبادة فيها، ولكل أثر تاريخي.

ويفاقم من تلك المشاعر المحبطة أن تلك القضية صارت فُرجة للعالم، مجرّد خبر تتغيّر أرقام الضحايا فيه على شاشات التلفاز، ومسارح الدبلوماسية الدولية، بدون أن يستطيع العالم أن يفعل شيئاً، من الناحية العملية.

هذه المشاعر، وتلك المشاهد، ذاتها، شهدها السوريون وما زالوا، أيضاً، منذ أن تجرّأوا على التمرّد على السجن الكبير، أو منذ أن حاولوا الخروج من “جمهورية” الصمت، والأجهزة الأمنية والرعب، أي منذ انطلاق لسانهم، بطلبهم المشروع والعادل الحرية والكرامة والمواطنة، فإذا بالنظام يقابل “سلميّتهم” بآلته العسكرية، ويستجرّهم إلى ساحة معركةٍ لا توازن فيها، ويفتح البلاد على صراع مسلحٍ لكل طرفٍ فيه داعمون ومؤيدون، في حين لا يقف مع الفلسطينيين في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل عليهم أية قوى داعمة، ويدفع المدنيون في الساحتين، الفلسطينية والسورية، الثمن الكبير لهذه الحرب الدامية.

في الحالين، نحن إزاء حرب إبادة، ولا يمكن توصيفها بغير ذلك، فقد شرّد النظام أكثر من عشرة ملايين من السوريين، باتوا موزّعين في أصقاع الدنيا، كأننا إزاء ولادة تغريبة جديدة على قياس تغريبة الفلسطينيين، مع فارق أن سورية باتت ملعباً، أو مسرحاً، لعدّة دول، ولعدّة جيوش، ومليشيات متوزّعة الولاءات، فقد باتت سورية مستباحة، تماماً مثلما تستبيح إسرائيل أرض الفلسطينيين، من النهر إلى البحر.

لم يختلف شيء، فنحن إزاء نكبة فلسطينية جديدة، وحرب إبادة أخرى، في قطاع غزّة، وكنّا وما زلنا في سورية إزاء نكبة، وإزاء حرب إبادة، بمعنى الكلمة في الحالين، أيضاً، مع ملايين اللاجئين، والمحاصرين، ومئات ألوف القتلى والجرحى والمفقودين، والمعتقلين، والقتلى تحت التعذيب، وفي الحروب الجانبية، أو في تقاطع نيران، المليشيات المتقاتلة.

لم تشبع إسرائيل من القتل والتشريد والتجويع للفلسطينيين، بغرض إخضاع الفلسطينيين، وقتل كل معنى للحياة الإنسانية عندهم، وكذلك يتحمّل النظام السوري، وشركاؤه (روسيا بوتين وإيران خامنئي) مسؤولية ما حدث من قتل وتشريد وتبديد لمقوّمات الحياة للسوريين. الفارق المؤلم أن إسرائيل لا تفعل ذلك بشعبها (اليهود الإسرائيليين)، فهي تفعلُه بالفلسطينيين الذين صادرت أرضهم وحقوقهم ووطنهم وحرمتهم هويّتهم، أي إن الحرب في فلسطين بين محتل ومقاومين، في حين أن الحرب في سورية بين نظام وشعبه الذي يتوق إلى الحرية، وكانت ثورته من أجل أن ينالها الجميع من دون تمييز.

في الحالين، تضيّع إسرائيل القضية الفلسطينية، وتتلاعب بحقوق الفلسطينيين، بادّعاء أنها تدافع عن نفسها، وعن شعبها (اليهود الإسرائيليين)، كونها تعتبر نفسها دولة قومية لليهود، وأن لأمن هؤلاء أولوية قصوى، فهم “شعب الله المختار”، لذا هي تعتبر أن حقّ الدفاع عن النفس حصريٌّ لها، باعتبار الآخرين مجرّد كائنات فائضة، ليس لهم وجوه، ولا أصوات، ولا أرواح، فهم مكتومون تجرّؤوا على القول، أو مغيّبون حاولوا الحضور، بمعنى أن إسرائيل تحاول، في حرب الإبادة تلك، قتل الفلسطيني جسداً وروحاً، وقتل المكان والزمان والمعنى، وهذا ما تفعله في محاولتها إفناء غزّة، وتجريف معالمها، مع قتل أجساد الغزّيين، بالقتل المباشر، أو القتل بالجوع والبرد والعطش.

حصل هذا في المأساة السورية، المقيمة معنا، منذ 13 عاماً، أيضاً، في مسيرة مُفجعة، ومهولة، وفظيعة، ومرعبة، بكل المقاييس، إذ تقريباً تم محو نصف الشعب السوري، بالمعنيين، المباشر والمجازي، وجرى تطويب البلد للنظام، أو لمن يدور في حلقته، فنشأت طبقة أثرياء الحرب وشركاء الأسرة الحاكمة، وطفت أسماء صغيرة على السطح، وتحوّلت إلى حيتان كبيرة، ابتلعت اقتصاد البلد وثرواته، وبدّدت أحلام من تبقّوا من السوريين في فرص النمو والأمان والبقاء.

في الحاليْن، ثمّة حرف أو تلاعب بالسرديات، فإسرائيل تدّعي أنها ضحية، وأن الفلسطينيين إرهابيون، وهذا ما فعله النظام الذي يعتبر أنه الشرعية، وصاحب السيادة على البلد، وأن من تجرّؤوا عليه ليسوا مواطنين، وإنما مجرّد إرهابيين، أو أتباع مؤامرةٍ ترتّبها قوى خارجية. وفي الحالين، يجري تضييع قضية الحرية والكرامة والمواطنة والسيادة وحق تقرير المصير، في دهاليز المسارح الدبلوماسية، والمفاوضات التي لا تنتهي، فمفاوضات الفلسطينيين مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومفاوضات السوريين مضى عليها أكثر من عقد، ومع ذلك، لا تقارب تلك المفاوضات الأسس، إذ تظلّ تناقش الجوانب الشكلية، جوانب التهدئة المؤقتة، كما تصرّ إسرائيل، وجوانب خفض الصراع كما يصرّ النظام، إذ لا شرعية في الحالين لحقّ تقرير المصير ولا لحقوق الإنسان.

في الخضوع لمنطقي إسرائيل والنظام ورسالتيهما، وتمرير النكبتين الفلسطينية والسورية بدون عقاب، وبدون إنصاف للفلسطينيين وللسوريين، رسالة مؤلمة إلى العالم، أن السيادة للظلم والقهر، وليس للشعوب التي تريد العيش بحرّية وكرامة وسلام، كأننا نعود إلى عصر الظلمات مجدّداً مع فارق أن هذا العصر برعايةٍ غربيةٍ ما فتئت ترفع شعار حقوق الإنسان من دون أن تعمل على تطبيقها في حقّ السوريين أو الفلسطينيين.

———————————

“لوم الذات” في انتقاد “طوفان الأقصى”/ حيّان جابر

26 فبراير 2024

يواصل الاحتلال الصهيوني ردّه العدواني والهمجي على عملية طوفان الأقصى، إذ لم يشبه هذا العدوان معظم اعتداءاته السابقة (ربّما باستثناء حربه على المقاومة الفلسطينية في بيروت في الثمانينيات)، من حيث كثافة الإجرام، ونطاقه الواسع، فضلًا عن فجاجة قادة الاحتلال في التعبير عن مخطّطاتهم الإجرامية، من قبيل استهداف كلّ الفلسطينيين كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.

فلسطينيّاً؛ أعادت عملية المقاومة الفلسطينية شحن عزيمة الشعب الفلسطيني لمقاومة الاحتلال واستعادة كل الحقوق الفلسطينية المستلبة منذ عقودٍ عديدةٍ. وطبعاً؛ لم تقتصر تأثيرات العملية الفلسطينية على ذلك فقط، بل أدّت إلى تداعياتٍ إيجابيةٍ عديدةٍ، وإلى تداعياتٍ سلبيةٍ أيضاً. معظم التداعيات السلبية لم تنتج عن عملية المقاومة الفلسطينية، بل عن رد الاحتلال الهمجي والغوغائي والإجرامي. منها ما نستطيع وصفها بـ “لوم الذات”، وهي ظاهرةٌ قديمةٌ جديدةٌ، تعود لتظهر على السطح بعد كلّ جريمةٍ صهيونيةٍ كبرى، أو بعد كلّ عمليةٍ مقاومةٍ، لكن أصحاب هذه العقلية اضطرّوا إلى كبح ذواتهم قليلاً في الأسابيع الأولى التي تلت عملية طوفان الأقصى، لتجنّب استنكار طيفٍ واسعٍ من شعب فلسطين الأصلي وغضبه تجاه أيّ انتقادٍ يطاول عملية المقاومة، إذ أدّت “طوفان الأقصى” إلى تصاعدٍ كبيرٍ في شعبية فصائل المقاومة؛ حركة حماس تحديدًا، ليس في الوسط الفلسطيني فقط، بل وفي الوسط الإقليمي كذلك. أما اليوم، وبعد قرابة أربعة أشهر على كلٍّ من عملية “طوفان الأقصى”، وعدوان الاحتلال الوحشي، عاد بعض روّاد ظاهرة “لوم الذات” إلى عادتهم القديمة الجديدة، رافعين أصواتهم اليائسة، ومحملين عملية المقاومة ما لا تحتمل، مستشهدين بأعداد ضحايا جرائم الاحتلال الكبيرة، وبطبيعة جرائم الاحتلال الإرهابية.

لظاهرة “لوم الذات” مرتكزات عديدة منها نقاش النمط النضالي الأفضل فلسطينيًا، إذ يسوق روّاد هذه الظاهرة ذرائع عديدة تؤكّد صحة استنتاجاتهم الموضوعية؛ وفق اعتقادهم، التي تخلص إلى مطالبتهم بوقف العملية النضالية العنيفة/ المسلحة في الوقت الراهن، لصالح الرهان على النضال السلمي المدني، طارحين نموذج الانتفاضة الأولى مثالاً يحتذى.

النضال العنيف يعيق النضال السلمي

يعتبر روّاد ظاهرة “لوم الذات” أن المقاومة العنيفة/ المسلحة تعيق نموّ المقاومة السلمية وانتشارها (كما في هبّة كلّ فلسطين)، وهذا أمرٌ سلبيٌ، لأن مواجهة الاحتلال تتطلب الاستمرارية وتوسيع رقعة المقاومة جغرافيًا، لإرهاق الاحتلال واستنزافه، فضلاً عن أن المقاومة الشعبية تساعد في فضح وجه الاحتلال، وفي تعريف شعوب العالم أجمع بالمأساة والحقوق والقضية الفلسطينية. يتفق الكاتب مع ضرورة توسيع رقعة المواجهة مع الاحتلال واستمراريتها، في حين يختلف مع اعتبار المقاومة المسلحة عائقاً أمام المقاومة السلمية حقيقةً مطلقةً ودائمةً، ففي أحيانٍ كثيرة، قد تساهم المقاومة المسلحة في تأجيج المقاومة السلمية، بل وربّما في إطلاقها.

هنا يعتقد الكاتب أن عملية سيف القدس قد أدّت فعلاً إلى تراجع هبّة الكرامة، لذا انتقد الكاتب في حينها توقيت العملية؛ لم ينتقدها بذاتها، إذ كان من الأفضل تأجيل إطلاقها بضعة أيامٍ، ربّما أكثر وفقاً لتطور الأحداث الميدانية، لمنح المقاومة الشعبية فرصةً لمزيدٍ من النشاط والتنظيم والنمو، الذي كان من الممكن أن يبلغ مراحل مهمة ومؤثرة، لكن ما حدث حينها أن إطلاق “سيف القدس” قد حوّل جل الاهتمام الشعبي الفلسطيني وغير الفلسطيني من المقاومة الشعبية إلى العملية العسكرية والعدوان الصهيوني الذي تبعها، أي إعاقة، نسبياً، تطور المقاومة الشعبية السلمية في حينها.

ما يتناساه أصدقاؤنا الغارقون في “لوم الذات” أن هبّة كلّ فلسطين وعملية “سيف القدس” كانتا في مايو/ أيّار 2021، أي قبل عامين ونيّف من “طوفان الأقصى”، لم تبادر خلالهما حركة حماس أو أيٌّ من فصائل المقاومة إلى شنِّ عمليةٍ عسكريةٍ منظّمةٍ، أي لم تمنع المقاومة العنيفة؛ وفقًا لهم، المقاومة الشعبية من النمو والتمدّد والترسّخ في هذه الفترة. وللأسف، ولاعتباراتٍ عديدةٍ لم تشهد هذه الفترة الطويلة تجربةً نضاليةً شعبيةً مماثلةً لهبة كلّ فلسطين أو للانتفاضة الأولى، بل عمليًا تمادى الاحتلال في طغيانه وإجرامه بحقّ كلّ شعب فلسطين، بمن فيهم فلسطينيو الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، كما سرّع الاحتلال وتيرة اعتداءاته ومخطّطاته الرامية إلى طرد الفلسطينيين قسرياً والسيطرة على مدنهم وقراهم ومقدّساتهم، وهو ما ترافق مع انتشار الإحباط في أوساطٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ عريضةٍ.

على النقيض من ذلك؛ ساهمت عملية طوفان الأقصى في تصاعد المقاومة الشعبية داخل فلسطين وخارجها، على نقيض ما يدّعيه أصدقاؤنا المبتلون بظاهرة “لوم الذات”، إذ عمّت التظاهرات معظم الدول، وتصاعدت حركة مقاطعة بضائع الاحتلال، والشركات الداعمة له، فضلاً عن تصاعد نشاطات المقاومة الإعلامية والقانونية، وسواهما من مظاهر المقاومة الشعبية داخل فلسطين وخارجها، بل وقد تساهم في انفجار هبّةٍ فلسطينيةٍ عارمةٍ، وربّما انتفاضةٍ وفق ما تحذر منه تقارير دوليةٌ عديدةٌ، أهمّها تقارير أميركيةٌ وصهيونيةٌ.

الظروف الذاتية والإقليمية والدولية

يتحدّث روّاد ظاهرة “لوم الذات” عن عدم توافق الظروف الذاتية والإقليمية والدولية مع نهج المقاومة العنيفة لاعتباراتٍ كثيرةٍ، منها تفوّق الاحتلال عسكرياً وأمنيّاً على مستوى التطور التكنولوجي العسكري، والمخزون العسكري، كما على مستوى الدعمين، الإقليمي والدولي الرسمي للاحتلال، في مقابل تراجع الدعم الإقليمي والدولي للمقاومة الفلسطينية ولقضيّتها العادلة. وهذه ملاحظاتٌ صحيحةٌ لا نستطيع إنكارها، لكن هل هي ملاحظاتٌ منطقيةٌ وموضوعيةٌ؟! يعتقد الكاتب أنها ليست كذلك، إذ في جميع تجارب الاحتلال السابقة، وبالتالي في جميع تجارب حركات التحرّر تفوق الاحتلال على حركات التحرر عسكريًا، من حيث القدرات والإمكانيات والعتاد، فما دون ذلك يعني فشل الاحتلال في احتلال الأرض، وفي السيطرة عليها وعلى شعبها، أيّ انسحاب الاحتلال وتحرّر الأرض والشعب.

أما إقليميّاً؛ نلحظ أن دعم المقاومة محدودٌ، بل ومحصورٌ بأطرافٍ إقليمية معدودةٍ، أهمّها إيران، طبعًا إلى جانب الدعم الشعبي العريض في معظم؛ ربّما كلّ، دول الإقليم. الإشكالية هنا في طبيعة النظام الإيراني، وسياساته الكارثية والمدمرة إقليميّاً، وجرائمه المتعدّدة بحقّ شعوب الإقليم. هنا لا بدّ من الإشادة برفض فصائل المقاومة الفلسطينية الانخراط في سياسات النظام الإيراني إقليميّاً، بل وفي مواجهتها في فتراتٍ محدّدةٍ، كما في حالة الثورة السورية، لتقتصر العلاقة بينهما على علاقةٍ نفعيةٍ متبادلةٍ محدودةٍ تحصل فصائل المقاومة من خلالها على دعمٍ ماليٍ وأحيانًا عسكريٍ، مقابل استفادة إيران سياسيًا منها، ما يضعنا أمام تعاونٍ محدودٍ لا يحمل في طياته أي بعدٍ استراتيجيٍ بعيد المدى أو قريبه.

دوليّاً؛ لا تحظى القضية الفلسطينية بأيّ دعمٍ يُذكر على مستوى الدول الكبرى بشقّيها الغربي؛ أميركا وأوروبا، والشرقي؛ روسيا والصين، بل يتمتّع كلا المعسكرين؛ إن جاز التعبير، بعلاقاتٍ مميزةٍ مع الاحتلال ترقى، في أحيانٍ كثيرةٍ، إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية الوطيدة. ولكن، وفي مقابل اصطفاف دول العالم الكبرى مع الاحتلال، نلحظ انزياحاً حسناً لصالح الفلسطينيين على مستوى دولٍ عديدةٍ، منها دولٌ ذات مكانة إقليمية بارزة، وذات إمكانياتٍ وقدراتٍ مستقبلية قد تضعها في مصافّ الدول المؤثرة دوليّاً، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل وبدرجةٍ أقلّ باكستان وإندونيسيا. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية كانت من نتائج عملية طوفان الأقصى، التي ساهمت في دفع جنوب أفريقيا نحو لعب دورٍ دوليٍ جريءٍ بالحدّ الأدنى، وهو ما قد يبنى عليه مستقبلاً دورٌ أكثر فعاليةً وتأثيراً، إن أحسن الفلسطينيون استثمار دعم دول عديدة القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.

خسائر الفلسطينيين

بلغ عدد شهداء العدوان الصهيوني الحالي على قطاع غزّة نحو 30 ألف فلسطينيٍ معظمهم من الأطفال، وهو رقمٌ ضخمٌ ومرعبٌ، يعتبر وفق ظاهرة “لوم الذات” من تداعيات المقاومة المسلحة، على اعتبار العدوان ردّاً همجيّاً صهيونيّاً على عملية طوفان الأقصى. ورغم خطأ هذا الربط سياسيّاً وقانونيّاً، بل وحتّى معرفيّاً، إلّا أنه ربطٌ ناقصٌ ومخلٌّ، لأنه ينطلق من دون قصد من ظاهرةٍ خطيرةٍ سعى الاحتلال إلى تكريسها، مفادُها قبولٌ فلسطينيٌ وإقليميٌ ودوليٌ بقتل الفلسطينيين البطيء، كما في قتلهم في ظلّ حصارٍ صارمٍ لا إنسانيٍ ولا قانونيٍ ممتدٍ منذ 17 عاماً.

يتناسى روّاد ظاهرة “لوم الذات” واقع الحصار قبل “طوفان الأقصى”. وبالطبع، يتناسون تداعياته على القطاع وسكّانه، هذا الواقع الذي وصفته بياناتٌ صادرةٌ عن جهاتٍ فلسطينيةٍ ودولية في نهاية عام 2022 بما يلي: 57% من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، كما بلغت نسبة البطالة 47%، وبلغت نسبة الفقر 64%، و80% من سكان قطاع غزّة يعتمدون على المساعدات والمنح، هاجر (يتحفظ الكاتب على مصطلح الهجرة هنا، لأنها تهجيرٌ قسريٌ تفرضه ظروف الحصار الصهيوني، فالهجرة عادةً طوعية تنتج عن الظروف السياسية الداخلية وسوء الإدارة والقمع والفقر، أما في الحالة الفلسطينية فالهجرة ناتجة عن سياسات الاحتلال الساعية إلى تدمير سبل عيش الفلسطينيين، لذا هي تهجيرٌ قسريٌ واضحٌ) أكثر من 60 ألف شاب فلسطيني، 73% من أطفال قطاع غزّة يعانون من فقر الدم، ونحو 43% من الحوامل أيضاً، نتيجة سوء التغذية، كما بلغت نسبة العجز في الأدوية 49%، وفي المستهلكات الطبية 38%، و49% في الفحوصات المخبرية، كما منع الاحتلال سفر نحو 56% من المرضى الذين هم بحاجةٍ لتلقي العلاج في الخارج، خصوصاً مرضى السرطان، فضلاً عن عشرات المؤشّرات الاقتصادية والتعليمية والصحية المرعبة، التي تصف واقع الحصار الصهيوني للقطاع منذ 17 عاماً.

أدّى هذا الواقع المأساوي الناتج عن الحصار اللا قانوني طويل الأمد إلى تصاعدٍ كبيرٍ في وفيات الرّضع والأطفال والنساء والرجال لأسبابٍ غذائيةٍ أو طبيةٍ، ما يمثّل قتلاً صهيونيّاً بطيئاً للفلسطينيين بأدواتٍ غير عسكريةٍ، عبر الحصار تحديداً. لا يُصنّف هؤلاء الشهداء عادةً كضحايا الاحتلال والحصار اليومي، رغم أن وفاتهم نتيجةٌ مباشرةٌ لسياسات الاحتلال الساعية إلى تدمير سبل عيشهم.

لا ترى ظاهرة “لوم الذات” في هذه الخسائر اليومية والمتراكمة؛ بل المتصاعدة، على مرّ سنوات الحصار، خسائر فلسطينية يجب تجنّبها، أو إنهاؤها فوراً، بل باتت للأسف أمراً واقعاً معاشاً غير قابلٍ للتغيير، كما سعت حكومة الاحتلال؛ خصوصًا الحالية، إلى نقل تجربة حصار قطاع غزّة إلى مدن الضفّة الغربية وبلداتها، عبر تقسيم الضفّة وعزل مدنها وبلداتها عن بعضها، وحصارها بجدار الفصل العنصري والمستوطنات غير الشرعية ونقاط التفتيش الصهيونية ومراكزها العسكرية، بل طرحت بعض الأطراف الصهيونية خطّةً لمرحلة ما بعد محمود عبّاس، مفادها تحويل سلطة رام الله إلى معازل عديدةٍ لكل منها سلطةٌ مستقلةٌ عن الأخرى.

يتجاهل روّاد ظاهرة “لوم الذات” غياب أي فعلٍ نضاليٍ فلسطينيٍ أو إقليميٍ أو حتّى دوليٍ لإنهاء حصار قطاع غزّة قبل عملية “طوفان الأقصى”، وهو ما كان يجعل من استمرار الحصار أمراً واقعاً وثابتاً، في حين تصاعد النضال الشعبي الإقليمي والدولي والفلسطيني الساعي إلى كسر الحصار بعد “طوفان الأقصى”، ما يفتح الباب جدّياً أمام إنهاء هذه الجريمة الموصوفة في القانون الدولي كلّيّاً.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى دور السلطة الوظيفية في قمع أي حراكٍ فلسطينيٍ لكسر الحصار قبل “طوفان الأقصى” وبعدها، في مقابل دور السلطة في تكريس الحصار، خصوصاً في سنواته الأولى، مقابل دورها المحدود اليوم في جهود كسر الحصار، إذ فرضت العملية على السلطة الوظيفية تغيير خطابها السياسي؛ ولو شكليّاً، ما قد يصبّ كذلك في جهود كسر الحصار.

كذلك لا بدّ من الإشارة إلى مسيرات العودة، التي هدفت، في ما هدفت، إلى كسر حصار قطاع غزّة عبر نضالٍ سلميٍ شعبيٍ، إذ انطلقت تلك المسيرات في 30/3/2018، واستمرّت 21 شهراً، بواقع مسيرةٍ أسبوعيةٍ على محاذاة الشريط الفاصل بين قطاع غزّة ومناطق سيطرة الاحتلال في محيط القطاع. لم تنجح تلك الجهود في كسر الحصار، بل واجهها الاحتلال بالنار والقتل، إذ أدّت دموية الاحتلال في حينها إلى استشهاد قرابة 215 فلسطينيّاً، منهم 47 طفلاً وسيدتان وأربعة مسعفين وصحافيين وتسعة من ذوي الإعاقة، فضلاً عن إصابة نحو 20 ألف فلسطينيٍ، قرابة ربعهم من الأطفال.

بناء عليه، يبدو من التدقيق في حيثيات حصار غزّة والنضال الفلسطيني، أن عامل الوقت وتأجيل العمليات المقاومة العنيفة لم تؤدِّ إلى إنهاء الحصار، أو حتّى التخفيف منه ومن تداعياته، على الرغم من طول فترة الحصار، وذلك مردّه عوامل عديدة، أهمّها دور سلطة رام الله الوظيفي، ومعوّقات تطور المقاومة الشعبية السلمية في ظلّ سياسة المعازل الصهيونية، وفي ظلّ تحكم الاحتلال بالعوامل الاقتصادية.

التضامن الدولي

ساهم التضامن الدولي، على مستوييه الرسمي والشعبي، في تقويض نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما ساهم في دعم حركاتٍ تحرّريةٍ أخرى بدرجاتٍ متفاوتة، وهو الأمر الذي تنشُده جهود تحرير فلسطين واستعادة حقوق الفلسطينيين المستلبة، ويسوّقه رواد ظاهرة “لوم الذات” أحد أسباب دعواتهم المتكرّرة إلى تبنّي المقاومة السلمية أسلوباً نضاليّاً أوحد. العمل على توطيد علاقة حركة التحرّر الفلسطينية مع المجتمع الدولي، أو قسمٍ منه، ومع شعوب العالم أجمع مسألةٌ حيويةٌ واستراتيجيةٌ على درجةٍ عاليةٍ من الأهمّية، لبعدين رئيسيين: أولهما؛ حاجة حركة التحرّر لحاضنة شعبية ومناخٍ دعمٍ سياسيّاً واقتصادياً وإعلامياً وقانونياً، وهو ما تجسّد في الآونة الأخيرة في نماذج كثيرةٍ، كما في تعدّد ودورية التظاهرات الداعمة للحقوق الفلسطينية، والمندّدة بجرائم الاحتلال الصهيوني، كما في دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. وثانياً؛ نظراً إلى طبيعة الاحتلال الطفيلية، إذ يعتمد الاحتلال على دعمٍ سياسيٍ وإعلاميٍ واقتصاديٍ وثقافيٍ غير محدودٍ تقدّمه دول المعسكر الغربي، وتحديداً الولايات المتّحدة، لذا فإنّ تصاعد الأصوات الداعمة الحقّ الفلسطيني في دول هذا المعسكر، وتصاعد قوتها وتأثيرها، قد تساهم في كبح جماح هذا الدعم بالحدّ الأدنى، وربّما تفضي مستقبلاً إلى ما هو أكثر من ذلك.

هل المقاومة السلمية السبيل الوحيد والأوحد لدعم المجتمع الدولي بشقّيه الرسمي والشعبي؟ أثبتت تبعات عملية طوفان الأقصى وتداعياتها خطأ هذا التقدير، إذ تصاعدت حركة التضامن مع فلسطين وقضيتها وشعبها في الأشهر الأخيرة في العالم، وتحديداً في أهمّ الدول الداعمة للاحتلال الصهيوني، الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، وبدرجة أقلّ تصاعدت كذلك في ألمانيا، على الرغم من طبيعة “طوفان الأقصى” العنيفة أو المسلحة، وذلك مردّه عوامل أخرى عديدة، أهمّها تراكم إنجازات الجهود التوعوية والثقافية، التي عملت سنواتٍ عديدةٍ على إعادة تعريف شعوب العالم بالقضية الفلسطينية، استناداً إلى الوثائق التاريخية والإحصائية الدقيقة، بعيداً عن الخطاب العاطفي غير المسند بالأدلّة المادية المناسبة. وكذلك العمل القانوني الدؤوب والمستمر منذ سنواتٍ عديدةٍ خلت أيضًا، الذي عمل على توثيق جميع انتهاكات الاحتلال والتعريف فيها، فضلاً عن إعداد ملفاتٍ قانونية عديدةٍ بهذا الشأن، وهو ما عزّز من موقف الفلسطينيين القانوني، وساهم في توعية شعوب العالم بحقيقة ما جرى ويجري في فلسطين. أيضاً؛ ساهم الاحتلال؛ من دون قصدٍ، عبر ممارساته الإجرامية الدورية، وعنجهية قادته، وفجورهم، بل وبفجاجة إقرارهم بإجرامهم وأهدافهم الإرهابية في كشف حقيقة الاحتلال وأحقّية الفلسطينيين بالحرية وباستعادة جميع حقوقهم المستلبة.

أحادية النمط النضالي

يكرّر روّاد ظاهرة “لوم الذات” دعواتهم الفلسطينيين إلى التعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، قائلين إن حركة التحرّر الفلسطيني قد جرّبت النضال العنيف سنواتٍ عديدة خلت، أهمّها في ستّينيات القرن المنصرم وسبعينياته، فضلاً عن تجربة الانتفاضة الثانية، أو ما آلت إليها من نضال مسلحٍ عنيفٍ، مؤكّدين أن هذه التجارب الطويلة تثبت أن نمط النضال العنيف لم يفضِ إلى تحرير فلسطين، واستعادة جميع الحقوق الفلسطينية. في مقابل ذلك، يقدمون الانتفاضة الأولى نموذجًا رائدًا ونوعيًا حقق نجاحاتٍ عديدة تثبت أهمّية ونجاعة النضال السلمي. كلا التصوّريْن أو الاستنتاجين صحيحٌ، لكنه ناقصٌ أو مشوّهٌ، بل ومؤطرٌ بما يخدم رؤى رواد ظاهرة “لوم الذات” وأفكارهم، بدلاً من خدمته لغرض تطوير حركة التحرّر وتعزيز قدراتها وإمكانياتها.

بدايةً؛ لم يقتصر نضال الفلسطينيين السلمي على الانتفاضة الأولى، بل سبق ذلك بأعوام كثيرةٍ تعود بنا إلى مرحلة الانتداب البريطاني، كما في الإضراب الشهير، الذي دام ستة أشهر متواصلةٍ في 1936، لكن النضال السلمي الفلسطيني لم يُفضِ إلى تحرير فلسطين واستعادة الحقوق الفلسطينية المستلبة. أما الانتفاضة الأولى؛ وعلى الرغم من أيقونتها، إلا أنها لم تفض أيضاً إلى التحرير واستعادة الحقوق، بل أفضت، للأسف، إلى ولادة السلطة الوظيفية، ذات الدور الأمني الكارثي على مجمل النضال الفلسطيني بشقّيه، السلمي والمسلح.

يروّج روّاد ظاهرة “لوم الذات” أن المقاومة العنيفة فشلت في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية المشروعة، في مقابل تجاهلهم فشل المقاومة السلمية في ذلك أيضاً، لأنّهم محافظون على العقلية السائدة نفسها في مرحلة أوج حركة التحرّر في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، تلك العقلية الأحادية الموجّهة، التي همّشت جميع الأنماط النضالية الأخرى لصالح نمط أحاديةٍ متمثّلٍ في حينه بالنضال المسلح، داعين اليوم إلى تهميش جميع الأنماط النضالية لصالح نمطٍ أحاديٍ، هو النضال السلمي، في حين يشنّ الاحتلال الصهيوني على شعب فلسطين وأرضها معارك متعدّدة الجبهات، منها العنيفة والإجرامية، ومنها الناعمة بأنواعها المختلفة الثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، إن طبيعة الاحتلال وعدوانه متعدّد المستويات يتطلبان نضالاً تحرّرياً فلسطينيّاً متعدّد الأنماط كذلك، سلمياً وعنفياً، سياسياً واقتصادياً، ثقافياً وقانونيّاً.

—————————————-

اجتياح رفح للمضي في الإبادة الشاملة/ عمر كوش

25 فبراير 2024

لم تتمكّن الإدارة الأميركية من إقناع حكومة اليمين المتطرّف العنصري بالموافقة على اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس، يفضي إلى تهدئة توقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ويتم خلالها تبادل الأسرى وتدفق المساعدات الإنسانية، فاكتفت بتقبل فشل وزير خارجيتها، بلينكن، في زيارته الخامسة منذ 7 أكتوبر إلى إسرائيل، ولم تحرّك ساكناً حيال ضرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عرض الحائط الاتفاق الذي صاغته في باريس بالتنسيق مع كل من الدوحة والقاهرة، لأنه لا يريد وقف حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزّة، بل استكمالها باجتياح منطقة رفح، ولا يأبه بأنها الملاذ الأخير لأكثر من مليون فلسطيني، ولا بحساسية موقعها على الحدود المصرية مباشرة، فأولوية حكومة اليمين العنصري التي يقودها استكمال التغوّل في الدم الفلسطيني، وتهجير ما أمكن من سكّان قطاع غزّة، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، بارتكاب جريمة إبادة سكنية بالتزامن مع الإبادة الجماعية.

حيال ذلك كله، لم يتجاوز الرئيس الأميركي بايدن نقدَه الناعم ما ترتكبه الآلة العسكرية الإسرائيلية من جرائم في غزّة، عبر الحديث أن الرد العسكري الإسرائيلي في القطاع “تجاوز الحد”، وأنه (بايدن) صرَف كثيراً من وقته، وعمل، من دون كلال، من أجل التوصل إلى اتفاق بين حركة حماس وإسرائيل، و”ضرورة مراعاة المدنيين”، لكن المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، خالفه في ذلك، حين تشدّق كذباً وتضليلاً بزعمه أن الجيش الإسرائيلي “أكثر حذراً” من الجيش الأميركي عندما يتعلق الأمر بحماية المدنيين، وسبق له أن زعم بعدم وجود أي ضحايا من المدنيين في غزّة، الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ عديدة بشأن تعمّده الكذب والتضليل والأدوار المكلف بها في الإدارة الأميركية.

واضحٌ تماماً أن تحذيرات بعض المسؤولين في إدارة بايدن ليست موجّهة من أجل ردع حكومة الحرب الإسرائيلية عن المضي في شنّ عملية عسكرية على مدينة رفح، التي سبق أن لم تُعر أي اهتمام للتحذيرات الأميركية بتجنّب قتل مزيدٍ من المدنيين الفلسطينيين، والتزام المعايير الدولية في زمن الحروب، كما أن حكومة اليمين المتطرّف تصرّ على رفض أي دعوة، أو صفقة، تهدف إلى وقف حربها على قطاع غزّة، بذريعة أن وقفها حالياً يعني انتصار حركة حماس، ولذلك توعّد نتنياهو بتحقيق “النصر المطلق” عليها، وهي ذريعة واهية، يتّخذها ساسة إسرائيل بغرض ارتكاب إبادة شاملة للقطاع، ويتمسّكون بها من أجل تبرير اجتياح رفح، كي يستكملوا حرب الإبادة التي يرتكبونها ضد قطاع غزة على أكثر من صعيد، ولا تتجسّد في قتل ما أمكنهم من الفلسطينيين وعطبهم فحسب، بل في دفعهم إلى التهجير، وإبادة المكان الذي يؤويهم، بتدمير شبه كامل لمدن القطاع كي تستحيل عودة المهجرين قسرياً إليها، لذلك تسعى حكومة الحرب الإسرائيلية إلى اجتياح رفح لاستكمال احتلالها له، بما فيه محور صلاح الدين (فيلادلفي) على طول حدود القطاع مع مصر، وفرض واقع جديد، يستحيل على الفلسطينيين العيش فيه.

لا يهم ساسة الاحتلال الصهيوني وجنرالاته ما سيحلّ برفح، ولا بأهلها، لأن غايتهم من ممارسة العنف المفرط، تنفيذ لنهج دولتهم القائم على سياسات إماتة الفلسطينيين، التي تمتد إلى إبادة المكان، بتدمير أماكن سكنهم، كي يفقدوا فضاء عيشهم. وهي جريمةٌ تُضاف إلى جرائم الإبادة الجماعية التي ميّزت التاريخ الإسرائيلي، واستدعت اجتراح المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحقّ في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاغوبال، مفهوم “الإبادة السكنية” (Domicide)، الذي طالب بإدراجه إلى قائمة الجرائم ضد الإنسانية، إذ أدّى القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزّة، منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى تدمير أكثر من 75% من المباني السكنية فيه، وألقت إسرائيل من المتفجّرات ما يعادل قنبلتين ذرّيتين من عيار التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في 1945. وجرى تهجير ما يقارب المليونين، أي ما يقارب 85% من سكّان القطاع، من مساكنهم إلى رفح والمناطق المتاخمة للحدود المصرية، فضلاً عن قصف المشافي، وتدمير المدارس، ومراكز الإيواء وتجريف المعالم التاريخية، وتخريب المؤسّسات الثقافية والدينية، ونبش المقابر، بغية محو آثار سكّان كانوا هنا ولم يعودوا كذلك، والوصول إلى تدمير قطاع غزّة كله، ومحو مظاهر الحياة فيه.

يتشابه ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة من إبادةٍ سكنيةٍ مع نموذج مدينة غروزني في جمهورية الشيشان التي دمّرها الجيش الروسي تدميراً كاملاً في نهاية 1999، ونموذج مدينة حلب السورية التي دمّرها جيش الأسد بدعم من الجيش الروسي والمليشيات الإيرانية وقوات نظام آل الأسد في عام 2016، ومدينة ماريوبول الأوكرانية التي دمّرها الجيش الروسي خلال غزوه أوكرانيا عام 2022. ويمكن إضافة مدنٍ عديدة أخرى إلى قائمة المدن التي تعرّضت لمختلف أنواع الإبادة.

إذاً، يأتي مسعى حكومة الحرب الإسرائيلية لاجتياح رفح في إطار ممارستها للعنف المفرط، القائم على سياسات الإماتة بالإبادة التي تمتد إلى إبادة المكان، استكمالاً لما سبق أن قامت به إسرائيل سواء من خلال تقسيمها الأراضي الفلسطينية إلى مناطق مجزأة بواسطة نظام الطرق الالتفافية، الذي يقسم الضفة الغربية إلى 64 كانتوناً صغيراً، أم من خلال تغيير معالم المدن وتدمير القرى، فقد قامت إسرائيل بعد عام 1948، وفق الباحث سلمان أبو ستة، بتدمير القرى الواقعة على امتداد الطريق بين يافا والقدس، وطوال 15 عاماً دُمّرت 410 قرى من أصل 560 قرية فلسطينية جرى تهجير أهلها الفلسطينيين.

لا يعير الدأب الإسرائيلي لاستكمال الإبادة الشاملة في رفح أي التفاتة إلى الكارثة التي قد تحلّ بصفوف المدنيين، لأنه يصدُر عن عقل سياسي يميني عنصري، شعارُه العداء للآخر الفلسطيني، بوصفه عدواً أنطولوجياً، أي وجودياً، ومن حقّه أن يرتكب كل أنواع الجرائم ضدّه، بما فيها التي ترتقي إلى مصافّ جرائم الإبادة الجماعية، وكل أنواع الجرائم ضد الإنسانية. وانعكس ذلك كله في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، إذ لم يتردّد رئيس دولة الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، في اعتبار أن “أمة غزّة مسؤولة بأكملها”، فيما طالب وزير التراث، أميخاي إلياهو، باستخدام السلاح النووي ضدّ القطاع، بل كرّر دعوته في أكثر من مناسبة. أمّا رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، فلم يجد سوى الرجوع إلى التوراة ليقيم الصلة الإبادية بين العماليق والفلسطينيين، وكرّر اقتباساته منها للتحريض على قتل أهل غزّة.

——————————

مع غزّة: مي رفعت عطفة

24 يناير 2024

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وتبيّن كيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. “نحن من نعيش في الغرب ملزمون بأن تكون معركتنا معركة وعي وتوعية إزاء القضية”، تقول المترجمة السورية في حديثها إلى “العربي الجديد”.

■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادة على غزّة؟

هنالك هواجس كثيرة تشغلني أوّلها كيف يمكن إيقاف آلة القتل في غزّة، وكيف سمحَ ويسمح السياسيّون والحكّام العرب باستمرارها. كلُّ ما يحدث في العالم من قضايا فيها ظلم تمسني وتلامس أعماقي وتُقلِقَني منذ صغري. لكنّ القضية الفلسطينية تجري في دمي ولا أغالي عندما أقول إن ما حدث في سورية خلال السنوات العشر الماضية آلمني ومسّ كرامتي، لكن ما حدث في فلسطين وما يحدث في غزّة الآن يؤلمني أكثر. أجهلُ السبب. لكنّني، وبكلّ صراحة، أُدركت حقيقة مشاعري هذه بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لديّ هاجس حول معركة الوجود التي لم ولن أفهمها قط. لماذا يمكن أن يهدّد وجودي كفرد ينتمي لبقعة جغرافية معينة وجودَ فردٍ آخر. لماذا تضيق الأرض ولا تتسع لنا. لو كنتُ فلسطينيةً كيف كنت سأتحمّل هكذا ظلم دون مقاومة. كيف كنت سأواجه مشاعر الثأر والانتقام دون مقاومةٍ لآلة القتل الصهيونية.

■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

أعتقد أنّ العدوان أثّر فيّ كما في أيّ مواطن سوري أو أردنيّ أو مصري. أو حتّى أي إنسان في أي مكان في العالم يعي تماماً مدى خطورة وعواقب ما يجري. في البداية كنت مسمّرة أمام التلفاز وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أقرأ الأخبار في الصحف العالمية والإسبانية، على وجه الخصوص، منعزلةً تماماً. شللٌ فكريٌّ وذهنيّ بكلّ ما تعنيه الكلمة أصابني أمام ما كنّا وما زلنا نشاهد من أعمال إبادة وتطهير عرقي وتهجير. عجزٌ وخذلانٌ عربيٌّ وأميركي وأوروبي بامتياز. لكن والحقّ يُقَال اعتراني قليلٌ من الرضى بعد أن شاهدت ردّة فعل الشعوب التي لم تتردّد بالخروج للتظاهر والتنديد بما يجري وشعرت أنّ هذا ما يمكنه أن يؤثّر في القضية أمام النفاق وازدواجية المعايير الغربية والأميركية المستفزّة. أدركت آنذاك أنّ الفجوة بين الحكام والشعوب عميقة ليست فقط في بلداننا العربية، بل في أميركا والغرب أيضاً. مضت شهور على عدوان الإبادة والشعوب لم تكلَّ ولم تملّ من الخروج للتنديد بما يجري. أدركتُ أننا نحن الشعوب في وادٍ، والحكام والأنظمة السياسية وصنّاع القرار في وادٍ آخر للأسف. تخلخلَ روتين حياتي اليومية كما تخلخل كياني ولم أعتد الأخبار ولا مشاهد الإبادة ولن أعتادها. نحن من نعيش في الغرب ملزمون بأن تكون معركتنا معركة وعي وتوعية إزاء القضية، فلا بدّ للضجيج الذي يمكن أن تصدره معركتنا هذه أن يؤثّر ويعمل على إيقاف عدوان الإبادة هذا.

■ إلى أي درجة تشعرين أنَّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

أنا شخص حالمٌ جداً، لذلك أريد دائماً أن أؤمن بمقولة مارتن لوثر كينغ: “يجب أن تكون الوسيلة التي نستخدمها بنفس نقاء الغاية التي نسعى إليها”. فغايتنا هي السلام والوسيلة إليه يجب أن تكون نقيةً نقاء الإبداع. علينا العمل على أن يكون الإبداع فعّالاً ومؤثّراً. كما ذكرت في البداية شهد العالَم حراكاً مناصراً لغزّة يدعو للتفاؤل فكم من الأغاني عادت مجدداً وصدحت في الساحات الأوروبية والأميركية كأغنية “تحيا فلسطين” لفرقة “كوفية” السويدية الفلسطينية، وكيف تحوّلت إلى أيقونة لدعم غزّة في الغرب. وكذلك من هنا في إسبانيا، رأينا كيف خاطبت النجمة الإسبانية إيتزيار إيتونيو أهالي غزّة في وقفة احتجاجية حاشدة، وسط بلدة غرنيكا دعماً لفلسطين: “من غرنيكا التي شهدت أوّل قصف مدني عشوائي على مدار التاريخ، من الذاكرة التاريخية لموتانا وجرحانا ودمارنا، من غرنيكا إلى فلسطين، من غرنيكا إلى العالم. لا يمكن للتاريخ أو العالَم أن يتحمل دمار شعب واحد، لا ينبغي للعالَم والتاريخ أن يتحمّلا ما يحدث في فلسطين، ولا يجب على العالم والتاريخ أن يقبلا بغرنيكا جديدة”. وهناك أمثلة كثيرة على وقفة الإبداع وتأثيره لكنها أمثلة للأسف لا تفتأ أن تكون فردية.

■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

أؤكد لك أنني لن أختار العمل السياسي. يخطر في بالي قول ابن المقفع: “ولايةُ الناس بلاءٌ عظيم”. ولن أختار العمل الإنساني على الرغم من أنني أشعر بأنّه عملٌ يمكن له أن يكون مُرضياً، لكنني أضعف من أن أتحمّل ما يقاسيه الناس، وأغبطُ أصدقاء وأقارب لي يعملون في المجال الإنساني، أغبطهم على شجاعتهم.

■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟

في الواقع لا أنتظر شيئاً من العالَم، فقط أحلم. أحلم بعالمٍ لا يقبلُ فيه الفردُ على الآخرين ما لا يقبلُه على نفسه.

■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟

أودُّ لو أقابل ناجي العلي. أعشق ريشته التي كانت قلبه النابض والتي دفع حياته ثمناً لها. لقد رحل ناجي لكنّه لم يغب، سألتقيه وسأقول له: ما زالت “فاطمتُكَ” يا ناجي تُقاوم ولا تُهادن، وما زال “رجلك الطيّب” رمزاً للفلسطيني المُشَرَّد المقهور، وما زال “حنظلتك” الطفل ذاته بلا ملامح، وما زال “سَمِينُك” الذي لا أقدام له سوى مؤخّرته يمثّل القيادات الفلسطينية والعربية المطبّعة والخائنة.

■ كلمة تقولينها للناس في غزّة؟

سأصمت أمامهم. سأصمت خجلاً. أخجل من نفسي أمام آلامهم وصبره. أخجل أمام ثباتهم وعزيمتهم.

■ كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

إنّه لشيءٌ مؤلم بالنسبة لي أن أقول إنّه في اعتقادي أنا التي ترعرعت على شعارٍ آمنت به حدّ الثمالة، شعارٌ أتقنت ترديده لكنني لم أتقن فعله “أمّةٌ عربيةٌ واحدة ذات رسالةٍ خالدة”، كم أحببته. لكن في الواقع لم يعد هناك إنسانٌ عربي، أو ربما منذ البداية لم يكن هناك إنسان عربي. يوجد إنسان سوري ومصري ويمني ولبناني وأردني… لم تعد القضية الفلسطينية قضية عربية، إنّها قضية الفلسطيني وحده، فهو من سيحرر أرضه. لقد خذلناه. غزّة عرّتنا مرةً أخرى حتّى إنسانياً.

■ حين سئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت “رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي”.. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟

يا إلهي! أيُّ كلمةٍ يمكن لها أن تليق بحجم مصابها! كم أودُّ لو أقول لها اطمئني يا صغيرتي، ففلسطين اليوم أقرب من أي وقتٍ مضى، هذا الكيان الإسرائيلي اليوم أضعف من أي وقت مضى، العودة اليوم أقرب من أي وقتٍ مضى. لكنني لن أجرؤ، بل سأصمت وأمدّ ذراعيّ وأحضنها وأغمض عينيّ عليها، لعلّي أحمي ما تبقّى من حلم طفولتها.

بطاقة

مترجمة سورية من مواليد مصياف 1978، وتقيم في إسبانيا. حاصلة على إجازة في الأدب الإنكليزي من “جامعة دمشق”، وعلى الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من “جامعة كومبلوتنسي” بمدريد عام 2012. صدر لها في الترجمة عن الإسبانية رواية “أشلاء” للكاتبة والصحافية تيريسا أرانغورِن (دار الحوار، 2011). لها العديد من الترجمات الشعرية إلى الإسبانية.

——————————–

المشهد الفلسطيني بعيداً عن النبوءات الدينية والتنبؤات والسياسية/ لؤي صافي

23 فبراير 2024

تتركّز الأنظار اليوم على الصراع العسكري بين الكتائب الفلسطينية المقاتلة، التي نفّذت عملية طوفان الأقصى لكسر الحصار الإسرائيلي على غزّة، والجيش الإسرائيلي الذي وظف تلك العملية لتحقيق رغبة اليمين الإسرائيلي في إعادة احتلال غزّة وطرد الفلسطينيين منها إلى صحراء سيناء. المشهد مؤلم وحزين، ولكن الأكثر إيلاماً العجز العربي في مواجهته، وتفرّق الإرادة العربية في التعاطي معه رغم المشاورات والمؤتمرات والقمم. وهو مشهدٌ لا أريد هنا الحديث عن تفاصيله ومآلاته السياسية، فقد كفاني أصحاب الرأي من الزملاء في الصحف العربية هذا العناء، لذلك أكتفي بوضعه في سياقه العربي وأبعاده القيمية والحضارية، وبطرح أسئلة يحتاج الظرف التاريخي وطبيعة التحدّيات التي تحيق بالأمة إجابات عليها.

شكّلت عملية طوفان الأقصى ضربة مادية ونفسية كبيرة للدولة الصهيونية، وأظهرت أن حصارها المطبق على غزّة، وكل الإجراءات الأمنية التي حشدتها على حدود المنطقة الفلسطينية الوحيدة التي تخضع لإدارة فلسطينية مستقلة، غير كافية لترويض الفلسطينيين وسحب أوراق المقاومة من بين أيديهم. حرّك الحدث الكبير مشاعر عميقة في الشارع العربي المتعاطف مع الحقّ الفلسطيني المستلب، والغاضب من العجز العربي الرسمي عن رفع الظلم الصارخ عن الأرض المحتلة المستمرّ منذ عقود طويلة. كان الهدف من “طوفان الأقصى” تسديد ضربة موجعة للدولة الصهيونية تُخرجها من أوهام الهيمنة الكامنة على أبناء غزّة، وتزوّد الكتائب الفلسطينية المقاتلة بأسرى لاستخدامهم في عمليات التفاوض للإفراج عن المحتجزين الفلسطينيين الذين وضعهم الاحتلال عنوة ومن دون تهم أو محاكماتٍ في سجونه، وتغيير شروط الحصار الإسرائيلي الجائر.

تبع “طوفان الأقصى” سيلٌ من التصريحات النارية والتحليلات السياسية، وسمعنا التنبؤات عن بداية النهاية للوجود الإسرائيلي في فلسطين وقيام دولة فلسطين الحرّة، مدعومة بشواهد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ومن تحليلات سياسية بشأن الوضع الداخلي لإسرائيل، والتعاطف الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية، وعن الضربات القاتلة التي سدّدتها المقاومة الفلسطينية ضد هجمات جيش الاحتلال، وأعداد الجنود الذين سقطوا والمدرّعات التي دمرت خلال الشهور الماضية.

وكي لا يذهب الخيال بعيدا عن الأسئلة الرئيسية التي يفرضها الصراع القائم، والتي تسعى هذه المقالة إلى الإضاءة عليها، أؤكد هنا أنني لا أنكر بالضرورة صحّة النصوص الدينية أو المعطيات السياسية والعسكرية التي تنطلق النبوءات والتحليلات منها، ولا أقلّل من القدرات العالية والإرادة الصلبة والصمود المذهل لعرب فلسطين، كما لا أتجاهل، في سياق تحليل الخطابين، الديني والسياسي، أهمية ما جرى في الأشهر الماضية وأبعاده، وأثرهما على صيرورة الصراع العربي – الصهيوني. نعم، تشكل جهود الفلسطينيين المذهلة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وصمودهم الهائل أمام دولة توسّعية تملك الدعم الكامل وغير المشروط من الدول الكبرى، نقطة انعطاف مهم في الصراع العربي الإسرائيلي، وتظهر لكل من يرى ثمرات الإيمان العميق، والإرادة الحرّة، والعمل الدؤوب، في تغيير معادلات الصراع رغم التباين الهائل في الإمكانات والقدرات.

وبالتأكيد، تأتي المواقف الرافضة عجرفة القوة والمتمسّكة بالحقوق والقيم والمبادئ في لحظة تراجع وضعف واستسلام عربي رسمي لتعيد للأجيال الناشئة الثقة بالنفس والثقة بالحقّ الذي يعلو ولا يُعلى عليه. ولكن هذه المشاعر والمواقف لا تبرّر حالات النشوة والشعور بالانتصار الذي تردّد بين قادة الرأي في الإعلام، وبين الخطباء والوعّاظ ورجال الفتاوي والتنبؤات، فنشوة النصر الصادرة عن تفاعل عاطفي يمكن أن تنقلب إلى إحباط ويأس عندما يتغيّر المشهد لأسبابٍ تتعلق، بالدرجة الأولى، بأشكال ردّ الفعل العربي بعدما تحوّل المواطن العربي عموما إلى مُشاهد منفعل يجلس خلف الشاشة مترقّبا التحرّكات الميدانية تماما كما يجلس جمهور كرة القدم وهو يتابع الفرق المتنافسة بحثا عن نشوة الانتصار.

أما النبوءات فسرعان ما تتحوّل إلى مسكّنات ومفتّرات، خصوصاً وأنها تفتقر إلى المؤشّرات الكافية لربطها مباشرة بحدث سياسي محدد، لعموم الألفاظ التي صيغت بها ولافتقارها للإطار الزماني والمكاني الدقيق. مشكلة التنبؤات لا تتوقف عند طابعها الظني والهلامي، بل تتعلق في المقام الأول بتجاهل دور الإنسان العربي بوصفه الفاعل الاجتماعي والتاريخي في أي صراع سياسي وإنساني يجري على أرضه وداخل دائرة مسؤوليته الوجودية، فالصراع على مستوى الفعل التاريخي هو بين أشخاص وقوى اجتماعية لا محض صراع فكري نظري، فالأفكار لا تأخذ شكلاً اجتماعيا تاريخيا إلا عندما تتحوّل إلى أشخاص وحركات اجتماعية. وكذلك فإن التنبؤات في صيغتها السياسية تتجاهل مسؤولية المحيط العربي الذي ينتمي إليه أبناء فلسطين، ودوره الجوهري في الصراع التاريخي والحضاري الذي يجري منذ عقود على أرض فلسطين المغتصبة.

السؤال الذي يجب أن يُطرح عند الحديث عن انتصار الحقّ الفلسطيني وبداية نهاية الدولة الصهيونية هو الدور العربي في هذا الصراع. هل ثمّة دور واضح للعرب في الصراع الذي بدأ عربيا صهيونيا قبل أن تنجح الحركة الصهيونية بتحويله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي؟ هل يمكن للفلسطيني أن يواجِه منفردا العدوان الإسرائيلي المدعوم غربيا؟ وأين يصطفّ العرب في هذا الصراع؟ ثم هل يمكن لمشروع يقوم على العدوان واغتصاب الأرض وتجاهل الحقوق أن ينهار من دون قيام مشروع بديل يقوم على الدفاع عن الحقوق وتجريم العدوان على الأنفس والممتلكات والحريات؟ أعلم أن هذه أسئلة كبرى تتطلّب جهوداً كبيرة وزمانا ممتدّاً قبل أن تظهر آثارها. ومع ذلك، من واجب القيادات السياسية والثقافية والدينية طرحها، وتحديد الخطوات الأولى والطريق المناسب للوصول إليها، وهذا هو البعد الغائب في الوعي الجمعي عند الحديث عن الحاضر والمستقبل، فالانتصار ليس أمنية تجول في النفس، وإنما فعلٌ يتجلى على الأرض ويتجسّد في مسرح التاريخ، حيث تتلاحق الأفعال التي تحكي قصة الإنسان. بل لا نبالغ إن قلنا إن غياب الإطار القيمي والمعرفي الضروري لطرح سؤال التحدّي الذي يشكله المشروع الإسرائيلي المستمر في التقدّم مع التراجع المستمر للقدرات العربية، يرتبط مباشرةً بتزايد حجم التحدّيات التي تلامس حياة العرب اليومية، من نقص في الموارد، وتنامي التسلط والاستبداد، وهجرة الشباب الطامح للبناء هربا من العبث والظلم، كما يرتبط بزيادة التضخم المالي والتفاوت الاجتماعي وانتشار الفقر في المجتمع العربي.

ولنعد إلى سؤالنا الأول وما يتبعه من أسئلة رئيسية في سياق تقدير الموقف: هل يمكن للحقّ الفلسطيني أن يعود ضمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المدعوم دوليا مع غياب الحقوق في مجمل المجتمعات العربية المنشرة من الخليج إلى المحيط؟ وكيف يمكن للعربي الذي يفتقد أبسط حقوق الإنسان، حقه في الاحتجاج على الظلم الإداري والفساد المالي الذي يهدد أمنه وينهب ثرواته، أن يساهم بقوة وجدارة بدعم الحقّ الفلسطيني؟ وهل يستطيع العربي ممارسة حقوقه “النظرية” من دون أن يمتلك القوة السياسية الضرورية لتحقيقها، ومن دون استشعار مسؤولياته الأخلاقية والوطنية تجاه أبناء بلده ومجتمعه؟ وكيف يستطيع التونسي أو المصري أو السوري أن يقف وقفة عملية إلى جانب الفلسطيني، وهو الذي يرى الظلم والعدوان على الحقوق والممتلكات ينخر في أهله وأبناء قريته ومدينته، بينما يقف هو عاجزاً عن دعمهم والدفاع عنهم خوفاً من بطش السلطان أو طمعا بعطائه؟ ثمّة خطوة أولية وصعبة على الأجيال الصاعدة من العرب القيام بها لتحويل الحديث عن الحقوق من شعاراتٍ إلى ممارسات، وثمة خطوة أولية تتعلق بالتعاون العربي يجب تحقيقها قبل الحديث عن تجلّ حقيقي للحق الفلسطيني في صراع يقوم على تناقضات في الرؤى الكلية والاصطفافات الثقافية والحضارية. ترتبط هذه الخطوة الأولية بترجمة الحقوق من شعاراتٍ نظريةٍ إلى علاقاتٍ ومؤسّساتٍ اجتماعية. بتعبير أدقّ، ثمّة حاجة إلى ترجمة الحقوق الاجتماعية والسياسية إلى ممارساتٍ عمليةٍ وعاداتٍ اجتماعيةٍ تدفع الناس تلقائيا للاصطفاف مع المظلوم ضد ظالمه، وإلى ممارساتٍ يستنشقها الطفل بملء وعيه وهو ينشأ في محيطه الأسري والاجتماعي تماما كما نراها تتجلى كل يوم في سلوك الطفل الفلسطيني في الأرض المحتلة. هذا الترابط بين القيمة والفكرة والسلوك هو البعد الغائب الذي يحوّل العربي إلى متفرّج في ساحة الصراع لإحقاق الحق ودحر الباطل، فهو يرى حقوق الضعيف تستلب في حيّه وبلدته ووطنه، فيحتقر ضعف الفقير ويغبط القوي على شطارته، ولا يرى أن واجبه التعاون مع أبناء جواره وبلدته لمساعدة المظلوم والأخذ على يد الظالم ومنعه من ظلمه.

نعم، الكفاح الفلسطيني ضد التسلط الدولي هو جوهر المعضلة العربية، ولكنه لن يكون بديلا عن كفاح الإنسان العربي على امتداد الأرض التي يقف عليها لإصلاح الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل رديف له في السعي الدؤوب إلى تشكيل المجتمع القادر على تحويل العاطفة والغضب إلى علاقات ومؤسّسات ومنظمّات قادرة على بناء المستقبل والدفاع فعليا عن الأرض والكرامة والوجود.

——————–

غزّة وعنصرية العالم الحديث/ سمير الزبن

23 فبراير 2024

الشعور بالقهر هو الطاغي من بين مشاعر كثيرة سيئة تفرض نفسها عليّ بسبب ما يجري من عدوان إسرائيلي وحشي على قطاع غزّة. ترتكب الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية هناك علناً، وأمام أنظار العالم الذي لا يفعل شيئاً، سوى تأييد إسرائيل في جرائمها بوصفها “دفاعاً عن النفس”، والطلب منها تخفيف عدد القتلى بين المدنّيين الفلسطينيين. وفي الاعتراض على معركة رفح التي تتحدّث عنها إسرائيل عدواناً قادماً لا محالة. يسأل الأميركيون والأوروبيون: ماذا ستفعلون باللاجئين؟ لتقوموا بالعملية العسكرية عليكم نقلهم مرّة أخرى إلى مكان آمن. أين يذهب سكان غزّة الذين لجأوا مرّة بعد أخرى إلى أماكن يفترض أنها آمنة، ولاحقتهم القذائف الإسرائيلية في كل مكان، ويُقادون من مكان إلى آخر كالخراف، من دون اعتبار لأي من حقوق الانسان التي يُفترض أنهم يتمتعون بها، والتي يتشدق بها العالم، لكنها لا تنطبق علينا. أيُّ نفاقٍ تمارسه هذه الدول لتغطي على الجريمة الإسرائيلية الممتدّة منذ أشهر والتي قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وجعلت أوضاع الجميع في القطاع أوضاعاً كارثية، كل المؤسّسات الإنسانية تحذّر من عواقبها، خصوصاً على أكثر الفئات ضعفاً في قطاع غزّة، الأطفال والنساء والشيوخ؟ وأي نقل آمن للاجئين يتحدّث الأميركيون عنه في ظل القصف الإسرائيلي الذي لم يترك مكاناً في غزّة لم يستهدفه، وهو السجن المغلق على الفلسطينيين بسبب الحصار الإسرائيلي منذ سنوات طويلة؟

تختصر السياسات الأميركية والأوروبية الداعمة لإسرائيل في حربها الوحشية على الفلسطينيين صورتنا عند صانعي هذه السياسات، والتي تدلّ على ما يمكن تسميتها “عنصرية ناعمة” تختفي وراء تصوير مزيّف لواقع قائم من أجل تبرير سياسات لا يمكن تبريرها من دون هذا التزييف للواقع الحقيقي. وهي سياساتٌ لطالما اتبعها الغرب بعد انهيار الدول الاشتراكية واستئثار الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، وفرض منطقها وشروطها على كل العالم. والسياسات بوصفها مستندة إلى معامل لتزييف الحقائق، كانت ذروتها في اختراع الأكاذيب في العراق في العام 2003 من دونها ما كان للولايات المتحدة أن تجد مبرّرات لغزوها العراق واستكمال تدميره، وتبين أن أسلحة الدمار الشامل التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي في حينها، كولن باول، أمام مجلس الأمن لتبرير الحرب، لا وجود لها، وعلاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة، لم يكن لها أي أساس أيضاً. ولكن المهم في ذلك أنه جرى احتلال العراق، وليس مهماً سواء كانت الوقائع مزيّفة أم لا، ولم يعد من الممكن التراجع عن احتلال العراق الذي أصبح واقعاً ورسم مستقبل المنطقة اللاحق.

والسياسات الأكثر وحشية كانت حصار الدول التي اعتبرتها الولايات المتحدة “دولاً مارقة”، والتي اختارت أن تفرض الحصار عليها، سمتها في بعض الحالات “عقوبات ذكية”، وماذا كان مفعول هذه العقوبات؟ لم تدفع الأنظمة الحاكمة ثمن هذه العقوبات، ذكية أم غبية. والناس البسطاء هم الذين دفعوا ثمن هذه العقوبات، وأي باحث في العقوبات التي فرضت على العراق وليبيا وسورية وغيرها، يعرف أن أنظمة هذه البلدان استطاعت أن تصدّر هذه العقوبات إلى شعوبها. رغم ذلك استمرّت الولايات المتحدة وحلفاؤها في معاقبة الناس، بدلاً من إجراءاتٍ تمسّ الأنظمة نفسها. نستذكر هذه العقوبات، وقد ابتكرت إسرائيل نسختها في محاصرة قطاع غزّة من السياسات العقابية الأميركية، ولم تكن أفضل حالاً، لقد جرى عقاب الناس الأكثر ضعفاً في قطاع غزّة عبر الحصار، رغم أن الذريعة معاقبة حركة حماس.

لم تقف إسرائيل عند العقوبات والحصار والتحكّم بقطاع غزّة، بل خاضت الحرب بعد الأخرى مستهدفة بنيته المتهالكة أصلاً، وحوّلت القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، رغم عيش أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة 350 كيلومترا، وهي من أعلى المناطق كثافة سكانياً في العالم. ولكن هذا لم يمنع هذا العالم، تحديداً الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية، من أن ترى الحرب الاسرائيلية على هذا المكان البائس عادلة من جيش يملك أكثر العتاد تطوراً، يلاحق الناس العزل بالطائرات المقاتلة والدبابات في كل مكان بذريعة أن مقاتلي “حماس” يستعملونهم دروعاً بشرية! وتأتي الادارة الأميركية والدول الأوروبية لتتحدّث عن حقّ اسرائيل بـ”الدفاع عن نفسها” ضد من؟ ضد العزّل في قطاع غزّة.

لا يمكن الحديث عن حربٍ بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، إلا لمن يريد تزييف الحقائق، ويجعل من حركة تملك سلاحاً فردياً بدائياً ندّاً لأقوى قوة عسكرية في المنطقة. ما يجري عدوان اسرائيلي مستمرٌّ منذ عقود، وما جرى في 7 أكتوبر، رغم قسوته على إسرائيل وفشلها الأمني، لا يقلب الحقائق ويجعل الضحية جلاداً والجلاد ضحية. هذا الخطاب الاسرائيلي الذي يقلب الحقائق وتتبناه الدول الداعمة لإسرائيل ما هو سوى تزييف عنصري لواقع ظالم بحقّ الفلسطينيين لا بد حتى للأعمى أن يراه. ولأن هذه الدول صاحبة عيون مفتوحة للآخر، فهي تتبنّى رواية تدرك زيفها، وتتوغّل في تزييفها، لسبب واضح، فهي لا ترى ضحايا العدوان من الفلسطينيين مساوين للضحايا الإسرائيليين في القيمة الإنسانية، وهذا ما يعبّر عن عنصرية وقحة، ولأنها وقاحة بالمعنيين، السياسي والإنساني، فهم لا يرون ما يجري في غزّة كارثة انسانية، بل على العكس حرب “دفاع عن النفس” من أكبر قوة عدوانية في المنطقة.

العنصرية التي تمارسها هذه الدول بحق شعوب الدول الفقيرة، والتي تتجلى اليوم في التعامل مع هذا العدوان، سياسة يمكن رؤيتها في كل مكان في هذا العالم، حيث تتناقض مصالح هذه الدول مع قضايا حقوق الإنسان، ما يجعلها تتحوّل إلى سياسات عنصرية، تكون الحساسية الإنسانية تجاههم أقلّ من أن يكونوا بشراً، اليوم، العنوان قطاع غزّة، وغداً عناوين أخرى في الدول الفقيرة.

—————————–

أين غزّة في اليوم العالمي للغة الأم؟/ سوسن جميل حسن

23 فبراير 2024

لو نبتعد قليلاً عن التحليلات السياسية والتخمينات والاقتراحات ومتابعة الفعاليات الرسمية والدولية وفي مجالس الهيئات والجمعيات التابعة للأمم المتحدة وغيرها، فهناك عمق خفي للحياة في غزّة الواقعة تحت حرب بلغت آماداً لا يمكن تصوّرها وقبولها في الوحشية والإجرام، عمق تصاب فيه الحياة في شرايينها التي يسري فيها النسغ، كما لو أن سمّاً مديداً يُدس فيها بمكر، يَعدُ المجرم بموت كما يهوى في المستقبل. هذا الموت ربما لا يلتفت إليه إلّا قلائل أمام الموت الفاجر الذي يحدث بلا أدنى حدّ من المحاسبة للمجرم، إنّه موتُ أجيال عاشت طفولة مجروحة “اللغة الأم” منذ أول احتلال لغزّة، انطلاقاً من أنها عاشت هذه العقود تحت الحصار أو تحت الحرب، فلو أحصينا الحروب التي شنتها إسرائيل على القطاع لرأينا ان أجيالاً من الأطفال ولدت وكبرت ولم تراكم في ذاكرتها غير القلق والخوف والتهديد الوجودي، حياة يحاول الاحتلال تفريغها من كل معاني الحياة.

كل عام، تحتفي الأمم المتحدة باليوم الدولي للغة الأم في 21 فبراير/ شباط. وترمي المنظمّة إلى تعزيز اللغات البشرية بما أن 45% من أصل سبعة آلاف لغة يتحدّثها الناس على الكوكب مهدّدة بالانقراض، وما يستخدم منها في الفضاء الرقمي لا يتجاوز المائة لغة. صحيح أن “اليونسكو” خصّصت يوماً للغة العربية، واللغة العربية ليست مهدّدة بسبب الحرب على غزّة، لكن ما يهدّد سكان غزّة الذين يبلغ عددهم مليونين وثلاثمئة ألف شخص، هو تشظّي حياتهم بسبب استهداف النساء والأطفال، بسبب اغتيال كل لحظة يمكن أن توفّر فرصة لعيشٍ يليق بالكائن البشري مثل بقية الأفراد في العالم، هذا التشظّي الذي سينسحب على كل مجالات الحياة، ومنها اللغة.

ما هي اللغة الأم؟ واحد من التعريفات التي وضعها علماء اللغة والاجتماع والإنسانيات للغة الأم هو الأكثر صدقاً وشفافية، “هي اللغة التي يتعرّض لها الشخص منذ الولادة، أو خلال الفترة الحرجة”، ومن هو أول شخص يتعامل معه الوليد غير الأم؟ وهي عامل رئيس في تشكل الهوية الشخصية والاجتماعية والثقافية الخاصة به وتطورها، ووسيلة تعدّ انعكاساً وتعلماً للأنماط الاجتماعية في التمثيل والتحدث.

اللغة الأم تلك التي يبدأ الطفل يألفها وهو بعدُ جنين في رحم أمّه، فتلك العلاقة “السرّية” بينهما لا أحد يستطيع فهم مفرداتها وسماع إيقاعاتها والشعور بدفئها وعاطفتها غيرهما، هذه العتبة الأولى التي تفضي إلى “مدرسة” الحياة، فيها تتابع الأم تغذية الحياة ورعايتها لدى وليدها حتى يقوى عوده قليلاً وينطلق إلى رحابها، لكنها أهم المراحل في بناء الإنسان وبناء منظومته اللغوية والمعرفية، بل تكوينه عامّة. وفيها يتعلم، بينما يتعلم اللغة، القدرة على فهم الذات والآخر والقدرة على التعبير عن الأفكار.

كيف للغةٍ أن تنتعش في ظل حربٍ من هذا النوع؟ حرب ممتدّة، اليوم الذي يصفونه باليوم التالي مديد، ضارب في أمس غزّة ويمتد إلى مستقبلها، غزّة التي لم تعرف غير الحصار والحرب، تسعى إسرائيل إلى تجفيف موارد الحياة كلها فيها، فلا يبقى معنى للبهجة في وجدان ساكنيها، وأكثر من يحتجن البهجة هنّ الأمهات. فكيف لطفلٍ أن يشعر بالأمان بينما حضن والدته، إن حضر، مترع بالقلق والخوف؟

اعتادت المرأة الفلسطينية، شأن كل أمهات الأرض، أن تترنّم بالأغنيات لطفلها منذ تكونه في رحمها، لا تغني الأغنيات الشعبية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا منذ ولادته، فحسب، بل تبتكر الأغنيات والترانيم والألحان بينما تسبح في بحر عواطفها الدافئة وهي تهدهد صغيرها. وتترنّح بما يتناغم وحركات إيقاع المهد، أو حركات يديها ورجليها إن نام في حضنها، تعده بأغانيها بأن الملائكة تحرُسه، وأن الهدايا تنتظرُه، وتحبّبه بكائنات البيئة. كلنا يعرف أغنية “يلا تنام يلا تنام لـ جبلك طيرين حمام”، كما تتضمّن الأغاني عديداً من أسماء “الطيبات” لدى ذائقة المحيطين، كالفستق واللوز والجوز وغيرها، وتعده بأنه سيأكلها عندما تظهر أسنانه ويصبح قادراً على أكلها: “صباح الخير يا لوز بدي لحبيبي جوز/ يكون غني وفرحان ويملّي الخوابي جوز/ صباح الخير بزيادة يقلع عين الحسّادة”.

ينام الطفل نوماً هادئاً “تحرُسه الملائكة”، وينتظر الـ”الهدية”، أو ربما نام على خيال ينمو ويكبر وهو يستعيد الحكايات التي كانت تحكيها له قبل النوم، برقتها وصوتها الهادئ، خصوصاً إذا كان الطقس الذي سبق هو طقس الـ “الحمّام”، الذي ينام الطفل بعده نوماً هادئاً هانئاً.

“الطفل اللي ما بنام وبظلّ يبكي يا بكون جوعان أو بكون موجوع أو موسّخ على حاله”، هذا ما تحكيه الأمهات والجدات في جلساتهن، ما ينصحن به أمّاً طفلها يبكي، ويقلن أيضاً: “الراحة غلبت السّراحة والنوم دلايل العافية”. فماذا عن طفلٍ لا ينام ولا يستحم ولا يأكل ولا يلعب؟ كيف ينمّي مهاراته اللغوية والحبال “اللغوية” التي تربطه بأمه وأسرته ورفاق حارته والمدرسة، قطعت كلها ولم يبقَ في بيئته غير القنابل والصواريخ والطائرات “الزنّانة” وغيرها؟

الطفل الفلسطيني حرمته الظروف من ألعابه وانتزعنه من طفولته، وهدمت مدرسته وحرم من وسائل التعليم الأخرى، التلفزيون والسينما التي يشاهد بهما برامج ترفيهية وتعليمية، وانتهاء بما يغنيه هو في ألعابه مع أترابه، فلم يبق في محيطه مكان للعب، ضاقت بالطفل الفلسطيني في غزّة حتى مساحة نومه، هذا طفل محروم من كل شيء، من ترنيمات أمٍّ لم تعد تجيد حتى “الحزن”، لم يبقَ في وجدانها غير القهر والخوف والقلق والترقب و… الصمت. لقد علّمتها الحرب الصمت، فانقطع حبل الوصال والتواصل بينها وبين أطفالها، الصمت الذي لا تقطعه إلّا صرخات الخوف أو الهلع أو الندب، أو الصراخ: يا وليدي” بينما تحضن الأم جثة ابنها الذي اغتالته يد الغول.

عن أي “لغة أمّ” يتحدّث العالم وترصد لها اليونسكو يوماً للاحتفاء بها، وفي غزّة اليوم لم يبقَ مكان للبهجة، لم يبقَ مكان للحلم، لم يبقَ مجال لفهم ما يحدث، وفهم الذات، وفهم الآخر. الحرب الوحشية اغتالت كل شيء، وانقطعت الحبال السرية بين الأمهات وأطفالهن، فأي لغة ستبقى في ذاكرة هذه الأجيال المغدورة؟ أيّ مفردات ستكرسها الحرب في وعيهم، وأيّ صيغ للحياة؟

كُتب في موقع اليونسكو “هناك اليوم وعي متزايد بأن اللغات تلعب دوراً حيوياً في التنمية، وفي ضمان التنوّع الثقافي والحوار بين الثقافات، ولكن أيضاً في تعزيز التعاون وتحقيق التعليم الجيد للجميع، وفي بناء مجتمعات المعرفة الشاملة والحفاظ على التراث الثقافي، وفي تعبئة الإرادة السياسية لتطبيق فوائد العلم والتكنولوجيا على التنمية المستدامة”. فأين الشعب الفلسطيني عموماً، وفي غزّة خصوصاً من هذا التنظير؟ وبماذا يفيد الكلام عن التنمية المستدامة، والحياة مهدّدة لديه بألا تكون مستدامة؟

يحتاج الاحتفاء باللغات الأم أكثر ما يحتاج إلى صون الحياة قيمة عليا يستحقها كل البشر من دون تمييز، بعدها تُحفظ اللغات وتزدهر، ويصبح كل أفراد البشرية مساهمين في صناعة الحياة، وليسوا واقعين بغالبيتهم تحت تهديد الموت الجبار، كما تفعل إسرائيل بوحشيّتها اليوم.

———————————

=========================

المدن

——————————

أنصار للأسد على دبابة إسرائيلية/ عمر قدور

الثلاثاء 2024/02/27

يواصل جنود إسرائيليون نشر الصور التي تُظهر تشفّيهم بأهالي غزة، ومنها صور إحراق مواد غذائية بينما أهالي القطاع يكابدون للحصول عليها، أو فيديوهات تفجير أبنية فلسطينية يهديها الجنود إلى أحبائهم. والحدث الذي تكرر هو التقاط أولئك الجنود صوراً لهم مع ألبسة داخلية نسائية نبشوها من البيوت المستباحة، في مشاهد تبدو للوهلة الأولى وكأنها لأشخاص مهووسين أو منحرفين، وهذا الافتراض يسهّل على قيادة الحكومة والجيش الإسرائيليين ردّ تلك الانتهاكات وغيرها إلى أفعال فردية لا تمثّل ما ينتمي إليه أولئك الجنود.

ثمة نصف مفاجأة في ممارسات هؤلاء، إذا اعتبرنا أنهم أذكى من أن يكونوا على شاكلة جنود وشبيحة الأسد الذين ارتكبوا الممارسات ذاتها ضد الثائرين على الأسد منذ آذار 2011. هذا التشابه يدحض حتى الدعاية الإسرائيلية عن تفوقها الحضاري على الجوار، فجنودها “ولو قلّة منهم” يباهون بانتهاك حرمات الآخرين، تماماً على النحو الذي يباهي فيه أولئك الذين يُنظر إليهم كشرقيين متزمتين.

كي يكون الأمر أوضح، التنكيل بالملابس الداخلية للنساء هو رمز لاغتصاب نساء الخصم، في إشارة معروفة وشائعة في الحروب كناية عن مزيد من الإذلال عبر أجساد النساء. استكمال الجريمة بتصويرها، ثم نشرها عمداً على وسائل التواصل، هو استمرار للحرب بوسيلة أخرى غايتها إذلال الخصم ضمن النطاق الواسع الذي تستهدف الصورة الوصول إليه، وإرهابه وإرهاب “جماعته” بإذلالهم على هذا النحو الذي ينتمي إلى ثقافة ذكورية شديدة البشاعة. تصوير المعتقلين الفلسطينيين الذكور وهم بالسراويل فقط لا يخرج عن الإطار السابق لجهة إظهار القدرة على انتهاك أجسادهم، ونشر الفيديوهات والصور لا يخرج عن الهدف ذاته.

ربما ليزول نصف المفاجأة بسبب ظهور هؤلاء كأنهم جنود أو شبيحة الأسد على دبابة إسرائيلية، يجب أن نتذكر أن حرب الأسد على السوريين وحرب نتنياهو الحالية على الفلسطينيين هما من حروب زمن وسائل التواصل الاجتماعي، ووحشية الممارسات هي جزء من ثقافة هذا الزمن. أي أن التصوير والنشر “كاستكمال للحرب” هما في أساس ارتكاب هذه الجرائم، ما يعني شيوعها لأنها تؤدي وظيفة عامة، وشيوع ارتكابها تالياً لأنها لا تعبّر عن هوس أو انحراف فرديين.

على ذلك، من المتوقع تكاثر الوحشية المصوَّرة، وتكاثر عدد مرتكبيها، على الضد مما سعت إليه البشرية بسنّ قوانين خاصة بالحروب. لا مصادفة في أن حجم توثيق انتهاكات قوات الأسد وشبيحته “بشهادة خبراء دوليين” غير مسبوق على الإطلاق، ومن شبه المؤكد أن حجم توثيق حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية يفوق “بالصورة والصوت” الوثائق المتوفرة عن حروب إسرائيلية سابقة. وحده استخدام هذه الوثائق من أجل تحقيق العدالة لن يلجم تصويرها فحسب، بل سيضع حداً لهذا النوع من الوحشية المدفوع أصلاً بالنشر على نطاق واسع.

لا غرابة في أن تدعم جرائمُ الأسد الجرائمَ الإسرائيلية، خاصة لجهة بقاء جرائمه بلا عقاب، ما يعزز في العقول فكرة الإفلات من العدالة كواقع لا خلاص منه. لكنّ الأسد يستفيد أيضاً من إفلات إسرائيل من العقاب، ويستفيد في أثناء الحرب نفسها من المقارنة التي تُظهره جزءاً من إسرائيليين عديدين في المنطقة لا أكثر، كلما أثبتت إسرائيل أنها على صعيد الهمجية ليست أقلّ أسدية من الأسد.

تبادُلُ المكاسب لا يقتصر على استخدام الجريمة لتبرير الجريمة بالمعنى المباشر فقط، فعلى التوازي كسب الأسد أنصاراً على ظهر الدبابة الإسرائيلية رغم أنهم يجهرون صادقين بآراء مضادة له. وبالتأكيد لا نعني بوجود هؤلاء على ظهر الدبابة الإسرائيلية تخوينهم، بل هو استخدام يتوخّى الدقة من حيث القول أن هناك آراء إزاء الحرب على غزة تستقوي حقاً ومباشرة بالقوة العسكرية الإسرائيلية، وهي الآراء المكتفية بإدانة حماس من منطلق أنها استفزّت ردّ فعل إسرائيلي نرى آثاره المدمِّرة على الفلسطينيين.

أيضاً، هذه هي الحرب الإسرائيلية الأولى التي نشهد فيها وفرة في هذا الصنف بـ”فضل” شيوع وسائل التواصل. ولسنا هنا في صدد مناقشة صواب أو خطأ عملية حماس في السابع من أكتوبر، سواء أكان الخطأ والصواب نسبيين أو مطلقين. كذلك ليس من شأن هذه الحيز الضيق مناقشة أيديولوجيا حماس، وصِلاتها الفكرية والعملياتية بتيارات الإسلام السياسي في المنطقة. في هذا كله مساحة للرأي ينبغي احترامها بشدة، وعدم التفريط فيها في أسوأ الأوقات.

ما نذهب إليه، كمتضررين مباشرين، هو أن أي موقف مبني سلفاً على الإقرار بسياسة العقاب الجماعي، ولو بوصفها واقعاً يصعب تغييره، هو موقف يناصر الأسد. لسنا بحاجة للعودة سنيناً إلى الوراء، فمثل هذا الموقف يدعم الآن مثلاً قصف إدلب بكافة أسلحة الأسد وإيران وروسيا، وإبادة أهلها، من أجل القضاء على جبهة النصرة. وقد يستقوي أصحابه بالقول ضمناً أن الذين سيتعرضون للعقاب الجماعي إما أنهم من أنصار الجولاني ولا بأس في استهدافهم، أو أنهم تخاذلوا عن تغيير الجولاني بأنفسهم ما حتّم مجيء التغيير من الخارج. بل إن هذا الموقف يدعم قصف الاعتصامات السلمية في السويداء، ويحمّل المعتصمين المسؤولية عن كونهم ضحايا القصف لأنهم استفزوا الأسد مع درايتهم بأنه لا يتورع عن إبادتهم.

الإقرار بأحقية العقاب الجماعي، ولو من باب الواقعية، قد يبدو لوهلة استثناءً إذ ينصرف إلى احتساب الشرق الأوسط برمّته استثناءً. إلا أنه عملياً يدعم انعزال المنطقة عن العالم تحت مظلة الاستثناء، ويدعم تخلّي أبنائها عن المطالبة بالعدالة بوصفهم أبناء للعالم ككل، وبوصف السعي إلى العدالة مشروعاً عالمياً أيضاً. ومن نافل القول أن الحديث عن المنطقة والعالم لا يهدف إلى إقامة فصل جغرافي أو حضاري بينهما، لأن الفصل المعنيّ في هذا السياق قائم على القيم، والانتساب إلى مسعى العدالة يضع أصحابه مع قوى عالمية مؤمنة به، على الضد من قوى عالمية تسعى لتكريس مختلف أنواع الهيمنة واعتبارها من طبائع الحياة.

المنطق نفسه يعمل استباقياً فيقارن مواربة أو صراحة بين عواقب التمرّد وفضائل الاستكانة، عندما يكون الخصم مالكاً القوة ونوايا البطش بها. لقد كان أنصار للأسد سبّاقين إذ اختزلوا هذه الأفكار بتعبير عامّي هو: كنا عايشين. ويقصدون به أن الأحوال قبل الثورة كانت أفضل مما حدث بسببها، ونستطيع اليوم الموافقة بلا تحفّظ على أن ما كان قبل آذار 2011 أفضل بالتأكيد من إبادة مئات الألوف وتهجير الملايين وتدمير البلد. إلا أن هذا الكلام يحصر خيارات ملايين البشر في سيء وأسوأ، ولا يقول شيئاً على الإطلاق عن حقوق الذين ثاروا من أجل حياة أفضل؛ عن أولئك الذين قرروا أنهم ليسوا محض كائنات بيولوجية تكتفي بلقمة عيش؛ الذين “بعبارة أخرى” قرروا أنهم يستحقون أن يكونوا كائنات سياسية.

إذا كان من احترام حقيقي “غير خبيث أو مزعوم” لحيوات الضحايا فيجب أن يكون متكاملاً بحيث يلحظ الحفاظ عليها بالمعنى المباشر، وإدانة كافة المتسببين بهلاك أصحابها، ويلحظ حتى في أوقات المجزرة حقوق هؤلاء الضحايا في مقاومة إعادتهم مرة تلو الأخرى إلى كائنات بيولوجية. الموافقة على بقائهم عند مستوى الكائن البيولوجي تعني أن هؤلاء يستحقون العبودية لا غير، وأصحاب هذه النظرة ينتمون مع الأسف إلى عالم اليوم أيضاً، تحديداً إلى أسوأ ما في اليمين المتطرف والشعبوي الغربيين. يا لفرحة الأسد بهم!

—————————–

نفاق المثقفين..وازدواجيتهم/ سلام الكواكبي

الإثنين 2024/02/26

مع انطلاقة الثورات العربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، وخصوصًا عندما بدأت في تونس منتقلة الى مصر ثم ليبيا، بدا واضحًا وقوف المثقفين العرب والغربيين، بشكل لا استثناء فيه إلا نادرًا، مع هذه الثورات او الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الإصلاحية او التغييرية. كما إتضح تمامًا أن النخبة العربية المثقفة فوجئت بهذه الثورات واعترفت أغلبها بقراءتها المنقوصة لمسارات التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في بلادها. بالمقابل، فلقد نجحت في ركوب القطار اثناء انطلاقته او بعدها بقليل لتحاول ان تأخذ موقعًا، إن لم يكن قيادياً، فعلى الأقل يمكن له أن يكون توجيهياً. وفي بعض الأحيان، نجحت في ذلك، وفي بعضها الآخر فشلت ولا بل أنها نقلت فشلها الى مجمل الحراك الاحتجاجي وعكسته عليه مما أدى ببعضه إلى الاصطدام بعوائق وخيمة وقاتلة.

إضافة الى المثقفين، كانت هناك مواقف مناصرة لهذه الثورات من قبل قيادات سياسية يسارية، خصوصًا في فلسطين وفي دول المغرب العربي. كما ساندتها مجموعات شبه عسكرية تبنّت مفهوم المقاومة ضد الاحتلالات كما ضد مظاهر الاستبداد في فلسفتها المعلنة قبل أن تُفصح عن عمق تفكيرها المرتبط بمسارات غير محلية. وأكبر مثال على ذلك، هو حزب الله اللبناني، والذي دعم كل الثورات العربية البعيدة نسبيًا عن مسرح نشاطه، بخطابه الرنان، وسرعان ما توقف وانقلب في موقفه ليصبح معاديًا للتغيير فور بدء الثورة السورية. ولم يكتف بذلك، بل انضم الى المؤسسة العسكرية السورية في الاعتداء على المدنيين والثوار متذرّعًا بمحاربة من أسماهم بالتكفيريين، ممهدًّا بذلك، كما ظل يروج له، الطريق إلى القدس الشريف عبورًا من حلب وحمص والقصير. مع الاختلاف في اتجاهات الجغرافيا، إلا أن القراءة الإيرانية لمصالح طهران في الإقليم وجهت البوصلة، واصابت بمقتل صورة الحزب الذي كان جلّ ضحاياه السوريين ممن سبق لهم أن أشادوا بإنجازاته ضد العدو الإسرائيلي، بل وفتحوا بيوتهم ليستقبلوا عائلاته إثر العدوان الإسرائيلي سنة 2006.

مع العدوان الروسي على أوكرانيا، مال المثقفون العرب عمومًا، عدا متبني المسار الليبرالي، إلى خيارين أحلاهما مرٌّ. فهم إما اختاروا الصمت أو دعموا العدوان متبنين الخطاب الدعائي الرسمي الروسي. ونسي بعضهم بأن موسكو لم تعد عاصمة الاتحاد السوفييتي التي كانوا يهرعون لفتح مظلاتهم فور هطول المطر فيها. وفي أحسن الأحوال، فقد برروا صمتهم تبريرًا بافلوفيًا بامتياز، حيث أنه لا يمكن تأييد ضحية تؤيدها قوى غربية لا تؤيد قضايانا العادلة.

وفي المقابل، كثيرٌ من المثقفين الغربيين الذين ساندوا أوكرانيا ضد العدوان الروسي، خرسوا عن اتخاذ أي موقف ضد العدوان الإسرائيلي على غزة بعد السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي. بل وانضموا لجوقة المنددين بالضحية والمروجين للقاتل. متناسين بذلك أن يعكسوا موقفهم “الأخلاقي” من العدوان الروسي على أوكرانيا، كما روّجوا له، على موقفهم من الحرب على غزة. ولقد ظهر بوضوح التمييز بين الضحايا بناءً على اعتبارات متشابكة لا تخلو من العنصرية ومن الأحكام المسبقة ومن الدعاية الصهيونية المهيمنة.

نادرون هم من حافظوا طوال الوقت على موقف متناسق ومتجانس مبني على مبادئ وقيم ما فتئوا يتبنونها ويروجون لها. ومن أبرزهم فرنسيًا، الطبيب الجراح، رافائيل بيتي، المتخصّص في جراحة الحروب. فمنذ بدء حرب النظام على المدنيين في سوريا، سارع هذا الطبيب للالتحاق بالمشافي الميدانية عندما تمكن من ذلك، أو أنه قام بتدريب أطباء وممرضين محليين على التعامل مع إصابات الحروب، وصولاً الى قيامه بالتدريب عبر شبكة الانترنت. كما انخرط في معالجة ضحايا الروس في أوكرانيا لينتقل بعدها إلى غزة. ورب قائل يُشير إلى أنه طبيب ومن الطبيعي ان يقوم بما قام به مع جميع الأطراف التزامًا برسالته الطبية. إلا أن رافائيل بيتي ساهم، وبشدة، في تعريف الراي العام الأوروبي عبر شهادات في مختلف وسائل الإعلام، عن حقيقة الأوضاع المأساوية على أرض المقتلة السورية والعدوان الروسي في أوكرانيا والحرب على غزة.

هذا الطبيب الانسان المولود في الجزائر لأسرة إيطالية هربت من النظام الفاشي في حقبة موسوليني، تبنّى علاج ضحايا الظلم والاستبداد والاحتلال. وبمجرد متابعته إعلاميًا، يمكن أن نشعر بإيمانه العميق برسالته عبر نبرة صوته المتهدجّ عند قيامه بتوصيف الحالة المأساوية التي يعبر من خلالها الضحايا. وقد رفض وسام الشرف سنة 2017 والذي يقدمه رئيس الجمهورية احتجاجًا على ضعف الموقف الرسمي الفرنسي من المقتلة السورية.

رافائيل بيتي هو مثال من حالات عدة، أثبت أصحابها من خلال تبنيهم مواقف متناسقة أمام كل الظلم الواقع بالبشر، بأنهم أصحاب مبدأ إنساني وأخلاقي غاب عمّن تناقضوا في مواقفهم لارتباطات إقليمية أو مواقف إيديولوجية صدئة. وأحيانًا، يقوم البعض بدعم قضية عادلة، وبتطرف، لشراء الصمت على مواقفهم الرثّة أو الهلامية أو المضادة لقضية عادلة أخرى. هم إذًا يقومون بالاختيار بما يناسب أوضاعهم ويفضلون أن تكون القضية التي يساندونها تحصل على إجماع أوسع ليكونوا من المرضي عليهم ولا الضالين.

 ————————————

=========================

درج،

————————–

من يملكون ومن لا يملكون… “حلف الأقليات الجديد” في الشرق الأوسط/ شكري الريان

29.02.2024

ما يحصل مع أهل غزة الآن ليس إلا مثالاً لما ينتظرنا جميعنا. كتلة بشرية لا مكان لها في صورة يريد القوي أن يرسمها لمحيطه كله وبما يخدم مصالحه وحده. وبالتالي، فإن الحل الذي سيفرضه علينا جميعاً، وليس على أهل غزة وحدهم هو… الإبادة أو الترحيل.إما أن نكتب ملحمتنا بأنفسنا، أو نموت ويطوينا النسيان.

“ملحمة التيه” أو The Exodus، هي واحدة من أعظم الملاحم التي عرفها التاريخ البشري. وإن نظرنا إليها بصفتها فعلاً إنسانياً محضاً، إبداعاً وصل فيه الخيال إلى مرحلة بات فيها الإنسان، وعبر عصاة، قادراً على شق البحر للنجاة من موت محقق على يد مستبد ظالم، فإنها بهذا قد تكون الأعظم في تاريخنا كلّه.

لكنها، ومع وصول العبرانيين، أبطال تلك الملحمة، إلى برّ أمان ما، لم تلبث أن تحولت إلى “دين قبيلة”، كما أسلف يوفال نوح هراري. وإن أردنا ترجمة عبارة هراري إلى السورية الدارجة، فإن تلك الملحمة لم تلبث أن تحولت إلى “دين أقلية”. (مفهوم “الأقلية” المستخدم في سياق هذه المقالة، سيأتي شرحه لاحقاً وبالتفصيل، المزدوجان وُضعا فقط للتأكيد على أن السياق المستخدم فيه هذا التوصيف، ليست الغاية منه “التقليل” من شأن أي فئة من فئات أي شعب من شعوب المنطقة، بالمطلق).

لم يكن غريباً على السوريين، في عمومهم، أن ينظروا بعين الشك إلى تلك العلاقة “الغامضة” التي ربطت حكم السلالة الأسدية، بدعم إسرائيلي خفيّ. هذا الدعم الذي بقي راسخاً، في نظر عموم السوريين، في أحلك المراحل التي مرّ بها هذا الحكم الاستبدادي المفترس، بدءاً من مذبحة حماة، مروراً بوصول النظام، مع الوريث، إلى حافة مرحلة الإزالة، عام 2005 إثر اغتيال رفيق الحريري وطرد القوات السورية من لبنان، وصولاً إلى ثورة السوريين العظمى 2011.

في تلك المراحل كلها، كان الموقف الإسرائيلي، الملمّح إليه تارة، والمعلن بوضوح طوراً، ينظر إلى ما يحدث في سوريا بصفته مواجهة بين نظام “علماني” من جهة، وجحافل من “الجهاديين” السنة شديدي التعصب، من جهة أخرى. بل إن موقف الحكومة الإسرائيلية إثر ثورة السوريين ضد نظام السلالة المفترسة 2011، لم يتردد في إعلان تفضيله بقاء الأسد في سدة الحكم. وهو، أي الموقف هذا، لم يكتف بالإعلان عن نفسه عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ الأيام الأولى لتلك الثورة، بل إنه شارك في فرض موقف فعلي على الأرض، إثر ما سمي بـ “اتفاق التسوية”، 31 تموز/ يوليو 2018، إذ بدأت قوات النظام بالعودة إلى الجنوب السوري، الأمر الذي ما كان يمكن أن يتم لولا وجود موافقة إسرائيلية ضمنّية عليه.

هذا كله عزّز تلك “الفرضية” القائلة بأن الأسد، بنسختيه، ما بقي في سدة الحكم لولا وجود “تنسيق” ما بين هاتين النسختين، على التوالي، وبين الإسرائيليين. ووجهة النظر هذه كانت تستند بدورها إلى قناعة راسخة، عند عموم السوريين، مردّها إلى طبيعة النظامين الحاكمين، في إسرائيل وسوريا، فكلاهما نظامان “أقلويّان” يستندان إلى أقلية حاكمة، تتمتع بكامل الامتيازات على حساب المكونات الأخرى للسكان، على أساس ديني أو طائفي. وهذا بدوره انعكس على رؤية السوريين لمصير الصراع الإقليمي في المنطقة بين إسرائيل وإيران، إذ لم يأخذه أحد من السوريين أبداً على محمل الجد. وهذا مرده إلى تلك الرؤية، أو وجهة النظر، المستندة إلى “البعد الأقلوي”. إذ لا يمكن لـ “أقليتين”، هما هنا “اليهودية الصهيونية” من جهة، و”الشيعية الإيرانية” من جهة أخرى، إلا أن تتحالفا، ولو على المدى الطويل، في مواجهة “غالبية”، العربية السنية (في فلسطين بالنسبة الى إسرائيل، وفي الدول العربية التي استطاعت إيران وميليشياتها الوصول إليها)، إذ لم يبخل كلا الطرفين بالإيغال في دم تلك “الغالبية”، الى درجة بات معها هذا التحالف ضرورة لكلَي الطرفين، بعد هذا الفحش كله في حق ضحاياهما.

وبغض النظر عما بإمكان عبارة مثل “الأقلية” أن تثيره من تحفّظات، خصوصاً في منطقة مشهورة بكونها “فسيفساء” حقيقية بكامل مكوناتها، دينياً وطائفياً وعرقياً وحتى قبلياً، إلا أنها، أي تلك العبارة، بقيت تقريباً الناظم المشترك الأعظم في توصيف الخلفيات الحقيقية التي خيضت كامل الصراعات في منطقتنا بالاستناد إليها. ربما بدءاً من مرحلة “التيه” حيث فرض على العبرانيين، وبصفتهم عبرانيين حصراً، مغادرة مصر، وتم إلقاؤهم في صحراء سيناء مجرّدين من كل شيء. وصولاً إلى المرحلة التي شهدت فيها المنطقة ذروة غير مسبوقة في تاريخها، الإمبراطورية الإسلامية، حيث بقي ذلك الكيان المهيمن محكوماً بالمقولة الشهيرة، حسب الحديث النبوي المتّفق عليه: “لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي منهم اثنان”[1].

ورفعاً للالتباس، فإن تعريفاً واضحاً، قدر الإمكان، بمعنى كلمة “أقلية”، يمكن أن يساعدنا في المضي في محاولة فهم ما يحدث في منطقتنا، على ضوء تلك المستجدات التي حصلت خلال العقد الأخير على الأقل. حيث لا غنى حقيقة عن استخدام هذا “المصطلح” في محاولة استشراف رؤية ما لمستقبل منطقتنا، ليس بالتأكيد بمعزل عن تاريخها الموغل في القدم. وهذا ما تحاوله هذه السطور، ضمن المنظور المتاح لكاتبها.

لتزخيم السخط ضد الأقليات

“أقلية” هنا لا تعني عدداً. والواضح، أن “العدد” أمر يستفز كثراً في منطقتنا، يتعاملون مع تلك الصيغة بصفتها انتقاصاً من قدر المقصودين بهذا التوصيف “الأقلية”، خصوصاً إن كان المقصودون بهذه الصفة، هم “الغالبية” في مواطن سكناهم الأصليّة. وهو أمر مفهوم إن أحلناه إلى أسباب ربما مردّها الشعور بالتهديد في ظل نظام عام لا يحمي الضعيف (في كل الأحوال، فإن الضعيف لم يكن محمياً أبداًفي منطقتنا طيلة تاريخها). وهذا بدوره يحيل إلى أن العدد هو أساس القوة والمنعة. وما يحدث في منطقتنا الآن، ومنذ تأسيس دولة إسرائيل على الأقل، يشير إلى أمر آخر في تحقيق تلك القوة والمنعة، لا علاقة للعدد فيه.

من جهة أخرى، فإن هذا المفهوم “الأقلية”، وباستبعاد العامل العددي منه، أي في محاولة جعله توصيفياً قدر الإمكان ومن دون تضمينه أية شحنة انتقاص، يشمل أي نظام أو صيغة تبقي الامتيازات، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، حصرية في يد فئة محدّدة من البشر بالاستناد إلى عامل عرقي أو طائفي أو ديني أو قبلي أو حتى عائلي- من اختراع الله في صحراء التيه، الذي صار، وبصفته نصيراً لا غنى عنه للمظلوم، حكراً على العبرانيين وحدهم؛ إلى حكم بضع كيلومترات مربعة في محيط المكتب الرئاسي في منطقة المهاجرين في دمشق، حيث سيبقى ذلك الامتياز “الأقلوي” قائماً ولو اقتصر على مساحة مكتب الرئيس فقط. ومن هنا، فإن نظاماً (ليس نظام حكم فقط، بل نظام حياة أيضاً) على طريقة داعش، أو طالبان، أو النصرة في شمال سوريا، أو حزب الله في الضاحية الجنوبية في بيروت، أو حماس في غزة، هو حكم أقلية، بامتياز، حتى ولو استند إلى غالبية عددية كبيرة في مناطق نفوذه.

وهناك عنصر مهم يجب أن يضاف إلى هذا التعريف، وهو أن “الأقلية” ليست في حال كمون، إلا إذا فرضت عليها الظروف هذا الأمر، وهي تتعامل معه كأمر عارض لا بد من تجاوزه للوصول إلى الهدف الأسمى: الهيمنة على المحيط (أي أن تصبح الفئة الغالبة). وبالتالي، فهي في حالة تكيّف مستمرة للوصول إلى هذا الهدف، وبحث دائم عن حلفاء محتملين، واستعداد لصد أعداء موجودين أو حتى محتملين. وبالتالي، فنحن أمام حالة أقرب إلى الكيان العضوي، الموجود في محيط يدافع فيه عن بقائه ويتطور. شعار داعش كان: وجدت وتتمدد. وهذه هي “الأقلية” أو “الأقلوية” في أعلى ذراها.

وبموجب هذا التعريف، وإن نظرنا إلى أحوال منطقتنا بالاستناد إليه، سنجدها، وكما كانت دائماً، حُبلى بـ “الأقليات”، من مختلف الأشكال والأحجام والأنواع والألوان. والسؤال هنا: ما هو العامل الأكثر حضوراً الآن، في تمييز تلك “الأقلية”، أو مجموعة “الأقليات” المختلفة، عن باقي تلك “الأقليات”، وبموجب عيشنا في عالم شديد التغير، وفي الوقت ذاته شديد التواصل، بحيث يمكن أن نقول إن هذه “الأقلية”، أو مجموعة “الأقليات”، ستلعب دوراً أكبر من “الأقليات” الأخرى في بسط سيطرتها على مسار الأحداث في منطقتنا؟

الفارق الآن، وفي منطقتنا، في تمييز “الأقليات” عن بعضها البعض، ما عاد عرقياً أو طائفياً أو دينياً أو حتى قبلياً (مع أن تلك العوامل يمكن أن تستمر في لعب دورها، ولو كخلفية لتشكيل بذور تلك “الأقلية” في مراحلها الأولى) العامل الأهم الآن، وبالاستناد إلى وضع منطقتنا الحالي، وبعد “ربيع” عاصف لم يبق ولم يذر، هو بين يملكون ومن لا يملكون، وبالتالي من هم مهيأون فعلاً للهيمنة، ومن هم ضحايا تلك الهيمنة. في منطقة دُمرت مراكزها الحضرية التقليدية، أو نُحّيت تماماً عن الفعل والتأثير، وبالتالي دخلت في طور مختلف تماماً من مراحل تطوّرها التاريخي.

والمُلك هنا، وفي ظل ضعف وإملاق طاغيين في عموم المنطقة، لا بد أن يعني أمرين: مال يسعى أصحابه حثيثاً الى فرض نفوذهم أينما أمكنهم ذلك (في حالة منطقتنا يمكن أن نضيف أن أصحاب المال يفعلون هذا من دون التفكير بالأثمان المدفوعة، مهما كانت باهظة، من الناحية الإنسانية، طالما أن غيرهم هم من يدفعون الثمن)؛ وقوة عسكرية ضاربة، بإمكان أصحابها أن يفرضوا مصالحهم فوق مصالح الجميع، في الزمان والمكان اللذين يناسبانهم.

وبالاستناد إلى العاملين أعلاه، فإن إيران، بكل ما لها، لا يمكن أن تصنَّف ضمن أي من التعريفين أعلاه، إن قارناها، من ناحية المال والنفوذ، بدول الخليج؛ أو لو قارنها من ناحية القوة العسكرية الفعالة والضاربة، بإسرائيل. وبالتالي، فحظوظها ضمن حلف الأقليات الجديد، هي الأضعف. وأن أضفنا أنها، إيران الملالي، حصرت خياراتها، عبر تكريس قدسية شعار “تحرير فلسطين” بما فاق حتى مغالاة أنظمة الفساد والاستبداد العسكرية، حتى تضمن لنفسها أي شكل من أشكال النفوذ بين شعوب منطقة تكاد تدمرها عن بكرة أبيها بسياساتها المبنية على عقد تاريخية لا شفاء لها؛ إن أضفنا هذا الشعار إلى الصورة، يصبح من الصعب تماماً، حتى على إيران نفسها أن تدخل في حلف مع من يُفترض أنها تورطت واعتبرتها عدوتها الرئيسية: إسرائيل.

الحليف الجديد للقلعة العسكرية إسرائيل، “بلطجي” منطقتنا، الحليف الصاعد بقوة، والقادر على المشاركة في تقرير مسارات التحرك المستقبلية في منطقتنا، لا يرتدي عمامة ملا قادم من عمق التاريخ الدموي لمنطقتنا، بل يرتدي الغترة التي ميزت اللباس التقليدي للرجال في عموم منطقتنا، بما فيها الخليج العربي. إنه الأمير الخليجي القادم من التاريخ ذاته، ولكن الدارس في الوقت نفسه في جامعات الغرب، بل وفي أعلى مستوياتها. وهذا عامل إضافي يجعل التفاهم بينه وبين “البلطجي” الإسرائيلي أسلس وبما لا يقاس. من دون أن ننسى البعد التاريخي، إذ إن إسرائيل نفسها تستند إلى هذا التاريخ أيضاً.

بل إننا إن نظرنا إلى طرفي التحالف الجديد، سنجد أن كلَي الطرفين يكملان بعضهما البعض. من ناحية النفوذ الخليجي في منطقتنا، فهو قد بقي دائماً من دون “أسنان”. وهو لم يستطع، على الرغم من ماله الوفير، أن يبسط نفوذه إلى أبعد من حدود الهيمنة الإعلامية. يكفي التذكير بأن حوثيي اليمن ظلوا، حتى بضعة أشهر خلت، قادرين على تهديد المدن السعودية والإماراتية بصواريخهم، التي يمكن وصفها بالمفرقعات، مقارنة مع ما وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية في وقتنا الحالي. بل إن الأمر، وحسب النسخة الإماراتية، تطور إلى توظيف مجموعة كبيرة من المرتزقة، من جنسيات مختلفة، لبسط نفوذ تلك الإمارة في مواضع مختلفة من منطقتنا (بعض الجزر اليمنية، ومراكز عسكرية مختلفة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر). فيما بقي فيه الطرفان، السعودي والإماراتي، عاجزين عن حسم المعركة الرئيسية لهما في مواجهة النفوذ الإيراني، وحلفائه الحوثيين في اليمن، مع ما شكّله الحوثي من تهديد عسكري مباشر لكلَي الطرفين وفي بلادهما، وليس في اليمن وحده.

من الناحية المقابلة، فإن الطرف الآخر للتحالف المفترض، إسرائيل، لم يستطع أبداً تجاوز جدار الرفض العربي المحيط به بشكل مباشر، مع عمقه الكبير، خليجياً كان أو شمال أفريقي. بقيت إسرائيل ذلك “البلطجي”، الذي لا تلبث أن ترتفع أسهم الرفض له إلى السماء ما أن يبادر في مشروع إبادة جديد ضد الفلسطينيين، في غزة أو جنين أو القدس. نعم هذه العزلة لم تمنع الطرف الإسرائيلي من التقدم والتطور، وبل وبناء أكبر قوة عسكرية وأكثرها فاعلية في منطقتنا كلها، على الرغم من وجود جيوش فيها تتنافس على لقب “أقدم جيش في التاريخ”! ولكن في المقابل، وكما أسلفنا أعلاه، فإن المنطقة دخلت في مرحلة تغير حقيقي بدورها. والربيع العربي، كأبرز وجه من وجوه هذا التغير، وإن فشل في الوصول إلى أهدافه، إلا أنه كشف وبوضوح عن هشاشة بنى الطغيان التقليدية في المنطقة. الأمر الذي سيفرض على الجميع، وأولهم الإسرائيليون، إعادة النظر في الصيغ المعتادة لإدارة شؤونهم في منطقة عادت لتثبت أنها شديدة التقلب، والخطورة في آن. هل يكفي التذكير بما حدث في صبيحة 7 تشرين الأول مثلاً؟!

في هذا الوضع، العزلة ستكون نقطة ضعف أكيدة، حتى ولو بنى الإسرائيليون أكبر قلعة منيعة يمكن تصوّرها. إذ المفروض أن تكون هناك صلات ما، تساعد على إدارة شؤون الإسرائيليين ومصالحم، سواء داخل قلعتهم (الضفة والقطاع ليسا خارج هذا الفضاء بأي حال من الأحوال)، أو في محيطها القريب؛ ومن جهة أخرى فإن المصالح في عالم كامل، وليس في منطقة محددة، لا يمكنها أن تنمو وتزدهر في ظل حالة عزلة مفروضة بسبب سياسات تعسفية، ستجد في النهاية طريقة ما ليتم تمريرها (الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين لم تتوقف لحظة واحدة منذ تأسيس دولة إسرائيل، قبل بدء مشروع الإبادة الجماعية في غزة)، وبالتالي فإن إيجاد صيغة للتحالف مع طرف قادر على الوصول إلى المنطقة المحيطة وإلى العالم كله، بما له من مال ونفوذ، يصبح أمراً مستحباً، إن عطفنا هذا النفوذ على النفوذ الإسرائيلي نفسه، في ما يقع خارج منطقتنا بالتحديد، أي العالم بكامله، فسنجد أنفسنا أمام تحالف بدأ بإمكانات هائلة من دون شك.

ولا يتوهّم أحد بأن الجرائم الإسرائيلية في غزة الآن ستلعب دور المعيق لمشروع كهذا. ما نراه أخيراً، من دور قطري في تحرير الرهائن، مع ما جنته الإمارة، الصغيرة، وأميرها من سمعة عالمية في هذا الشأن، عبر وساطة مباشرة مع الإسرائيليين؛ ومن وعود سعودية بتطبيع كامل في حالة وقف إطلاق نار دائم في غزة، هذا كله يشير بوضوح إلى أن تلك الإمكانات لم تذو، بل زادت بريقاً.  في المحصلة، وككل تحالف، فإن أطراف هذا التحالف يجدون عدداً لا يُحصى من المبررات الحيوية، لكل الأطراف، لصونه والمضي فيه إلى أهدافه. وفي الحالة الخليجية – الإسرائيلية، فإن تلك المبررات أكثر مما تُحصى.

أما على الطرف المقابل، طرف الذين لا يملكون، فإننا سنجد صيغة تكاد تكون وحيدة. من جهة حكم أقلوي بامتياز… عسكري؛ طائفي؛ نخب حاكمة معزولة ومتشبّثة بإبقاء الصيغة الحامية لمصالحها كائنة ما كانت الأثمان التي تدفعها الشعوب الخاضعة لتلك النخب؛ ميليشيات مدعومة بقوة إقليمية تكرس نفوذها مقابل جعل يد تلك الميليشيا هي العليا في مناطقها، بواسطة الدعم العسكري والمالي والسياسي. تحكّم مطلق من تلك القوى الحاكمة، بكامل الموارد، المحدودة أصلاً، والتي بات مآلها التبديد والزوال، والبحث الدؤوب عن حماية، إقليمية أو دولية، للبقاء والاستمرار في النهب. ومن جهة أخرى شعوب، أو بالأحرى جماعات بشرية ما عاد هناك أي رابط بينها سوى ذلك البؤس المعمم. جماعات مسحوقة بالكامل ومحرومة من أبسط حقوقها بكامل وجوهها: سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، بل وإنسانياً بشكل كامل.

بل إننا لو نظرنا إلى دور الذين يملكون، جهة الذين لا يملكون، فإننا سنجد أن الأولين لم يقصروا في لعب دور معيق لأي تطور إيجابي لصالح تلك الشعوب المحرومة. من التدخل السعودي الإماراتي لدعم انقلاب السيسي في مصر، إلى الدعم القطري الكامل والحصري للتيارات الإسلامية، إخوان مصر وسوريا، وجبهة النصرة في سوريا، إلى وقوف إسرائيلي علني مع نظام الافتراس الأسدي، والدفاع عن جريمة محمد بن سلمان بحق جمال خاشقجي، بذريعة أن أي تغير في السعودية لن يكون لمصلحة إسرائيل، كما صرح نتانياهو علناً إبان تلك الجريمة البشعة.

وطالما الحال هكذا، فإن الحديث عن احتمال أن يعد تحالف كهذا بأفق أوسع للمنطقة كلها، يصبح مشكوكاً، ليس في جديته وحسب، بل ومصداقيته أيضاً. إذاً، عدا عن الوصول إلى صيغة ما مع إيران (وعلى العكس مما يأمله ضحايا الهيمنة الإيرانية المباشرة، من سوريين ولبنانيين وعراقيين ويمنيين)، بحيث تحصل تسوية تعترف بنفوذ إيراني ما في المناطق المسيطرة عليها فعلياً الآن من الإيرانيين، ومن دون أن يكون هناك ضرر للطرف الإسرائيلي والخليجي، وهذا المرجح غالباً، وهذا ما دل عليه بوضوح لا يقبل لبساً، “الاشتباك” الأخير بين الإيرانيين والأميركيين إثر مقتل ثلاثة جنود أميركيين على أيدي ميليشيات عراقية مدعومة من إيران؛ إذ عدى عن هذا، فلا يمكن التفاؤل بصيغ ما للتعاون، بل وحتى التعايش، بين هذا التحالف والأطراف الأخرى الضعيفة في منطقتنا التي لا تملك.

حيث مجرد التذكير بما قام به حكام الإمارات والسعودية، من ضغط لإعادة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية، كاف للقول بأي اتجاه يسيّر هذا التحالف مصالحه، وعلى حساب مصالح الشعوب المحيطة لو اقتضى الأمر، ومن دون أي لحظة تردّد. طبعاً، تجدر الإشارة هنا إلى أن أمير قطر رفض عودة الأسد إلى الجامعة العربية، ولكنه في المقابل أنشأ تحالفاً مضاداً ورعاه، هو فعلياً الأسوأ لمصير سوريا البديلة ولصورتها أمام العالم، وأمام المترددين في دعم أية صيغة مضادة للنظام من السوريين أنفسهم. إذ كيف بإمكان شخص يريد الحرية فعلاً ويؤمن بها أن يسير خلف قيادة أبو محمد الجولاني، مثلا؟!

وإن أضفنا إلى ما ذُكر أعلاه، تلك التجارب المريرة للمحيط الذي لا يملك، مع “الرؤى” الجديدة، أو النمط الذي يحاول الطرف الخليجي تعميمه منذ سنوات (من دون نسيان البلطجة الإسرائيلية بحق أقرب جيرانهم لهم، الفلسطينيين) سنجد ألا مكان لنا، نحن الذين لا نملك، في مشاريع أو “رؤى” كهذه، إلا بصفتنا ضحايا أو مستبعدين. يكفي أن نذكر دبي، كرمز لحصرية أنماط كهذه واقتصارها على فئات محددة ومحدودة من البشر، وفوقها “رؤية نيوم”، التي صرحت النشرات الدعائية لها بأنها مدينة لنوع محدد من السكان، مثالاً على ذلك.

هذه المواقف تعطينا مؤشراً إلى مآلات الصراع في منطقتنا، إن صار هذا التحالف مهيمناً، وهو في طريقه لأن يصبح كذلك، وإن بمواجهة بعض “الشغب الموضعي” المدعوم إيرانياً، والذي سيدفع ثمنه في النهاية أبناء المنطقة بعيداً عن إيران نفسها. هذا الصراع الذي سيبقى تحت السيطرة، ولن يسمح له بأن يمتد ليعيد تشكيل المنطقة من جديد، على الضد من مصالح التحالف المهيمن. وبالتالي، فإن مصير الكتلة البشرية الأكبر في هذه المنطقة (كتلة الذين لا يملكون) لن تعدو أن تكون مجرد دماء تراق على مذابح مصالح هذا التحالف، أو أي تحالف مضاد يريد إحداث بعض الشغب للحصول على مكاسب أكثر. ولا حلّ لهذه الكتلة، بالخروج من تلك الحالة، إلا بتحالف مفتوح، كاسر لمفهوم “الأقلية” نفسه، الذي حكم التاريخ السياسي لمنطقتنا، تحالف يعبر بشكل مباشر عن مصالح هؤلاء الناس بعيش كريم وحرية، مزيلاً أية عقبة تقف في وجهه، بدءاً بأنظمة الفساد والاستبداد، الـ “أقلوية” ومن أي نوع. وهذا لن يحصل إلا بإعادة الكرّة مرة أخرى، وبعدها مرات إن تطلب الأمر، وبوعي كامل للأخطاء التي ارتكبت وأدت إلى الفشل، للوصول إلى ما نريد: ربيعنا الذي لا خيار أمامنا سوى أن ينتصر، أو نموت… وما يحصل مع أهل غزة الآن ليس إلا مثالاً لما ينتظرنا جميعنا… كتلة بشرية لا مكان لها في صورة يريد القوي أن يرسمها لمحيطه كله وبما يخدم مصالحه وحده. وبالتالي، فإن الحل الذي سيفرضه علينا جميعاً، وليس على أهل غزة وحدهم هو… الإبادة أو الترحيل.

إما أن نكتب ملحمتنا بأنفسنا، أو نموت ويطوينا النسيان. كثر، غير العبرانيين، واجهوا مصيراً كهذا. العبرانيون وحدهم، قاوموا، حتى ولو عبر مخيّلتهم، فخلّدهم التاريخ…

[1]  رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر. وهناك أيضاً عبارة “كانت في قريش وستبقى فيها”، وهي منسوبة إلى الخليفة عثمان بن عفان.

– كاتب فلسطيني سوري

درج

——————————-

من حكايات الغزيين المحجوبة…/ ماجد كيالي

28.02.2024

“جربت تنام بخيمة؟ جربت تفقد كل شي بحياتك!؟ نفسي أحكي لأي حد بيقول لي حاسين فيكم؛ أقول له تعال حسّ عالمزبوط: إنك تنام بخيمة أو بغرفة صغيرة برفقة 10 أشخاص نصهم أطفال، هي غرفة الأكل والنوم والمعيشة والمطبخ، وأحياناً بنحمم الولاد بنفس الغرفة. تعال وقف في طابور الحمّام خصوصاً الصبح قدامك عشرة عشرين وراك عشرة عشرين.”

قبل ثلاثة أعوام، نشرت مقالاً هنا في “درج”، عنوانه: “هذه ليست لوحة فنية…” (11/10/2021)، تحدثت فيه عن صورة مزدوجة لغزّة. الأولى، تمثلت بحشد كبير من الشباب يتدافعون أمام كوة مكتب لتقديم طلبات العمل في إسرائيل (قبل الحرب كان ثمة 200 ألف عامل فلسطيني في إسرائيل، منهم 20 ألفاً من غزة)، وكان مرجحاً أن يزداد العدد، بل وأن يتضاعف، بسبب ضآلة فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة، وتالياً الفقر، بين الشباب في الأراضي المحتلة، بخاصة في قطاع غزة، قليل الموارد والمحاصر منذ 17 عاماً.

بالطبع، لا يدرك هؤلاء أنهم يعملون في إسرائيل، العدو الذي استولى على أراضيهم ويحاصرهم ويعتدي عليهم، هم يدركون فقط أن العمل لتحصيل قوت يومهم هو شرط حياتي لبقائهم في أرضهم، وأنه أحد أهم أشكال مقاومة إسرائيل، التي تريد سلبهم أرضهم وإخراجهم منها.

ويفيد التنويه هنا بأن المكتب المذكور كان يعمل بمعرفة سلطة “حماس”، وأن تلك الحركة تحصل على موارد مالية مباشرة من قطر، بمعرفة إسرائيل وبتنسيق معها أيضاً.

أما الصورة الثانية، فتتمثل بـ “مسيرات الاستعراض العسكري، وصور الصواريخ المنطلقة من غزة، وإطلالات “أبو عبيدة” إبان كل حرب مدمّرة تشنّها إسرائيل على غزة، متوعداً إياها بزلزلة الأرض من تحت أقدامها، وواعداً الفلسطينيين بفرض شروط المقاومة (ميناء في غزة وفتح المعابر ورفع الحصار وإعادة الإعمار)، من دون أن يحصل أي شيء من هذا أو ذاك، لا في الحرب الأولى (2008) ولا في الرابعة (أيار/ مايو 2021)”.

في ذاك المقال، طرحت إشكالية التناقض بين الصورتين، وبين اعتماد فلسطينيي غزة في كل شيء تقريباً على إسرائيل (ماء وكهرباء ووقود ومواد تموينية وطبّية)، والدخول في الوقت نفسه في حرب صاروخية معها، علماً أن ثمة خيارات أخرى للمقاومة، سواء كانت شعبية ومدنية أو مسلحة، وهو ما يجري في الضفة مثلاً.

أخيراً، وطوال خمسة أشهر تقريباً من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، برز ذلك التناقض بشكل حاد ومأساوي، بين ما تفعله إسرائيل في غزة، في البشر والشجر والحجر، مع قطع الماء والكهرباء والوقود والدواء، عن الفلسطينيين، وتجريف طرق غزة، وتدمير بيوتها وعمرانها، وتشريد مليوني فلسطيني، مع ضحايا يزيد عددهم عن مئة ألف، كقتلى وجرحى ومعتقلين (8000 معتقل جديد من الضفة لوحدها خلال الحرب) ومفقودين تحت الركام، وبين فيديوات وصور عمليات المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.

في الغضون، كان صوت المقاومة مسموعاً، وفيديوات كتائب القسام رائجة في نشرات محطات فضائية واسعة الانتشار، في حين أن صوت الفلسطيني البسيط، الذي خسر كل شيء، لا أحد يسمعه، تقريباً، سوى في وسائل التواصل الاجتماعي، على رغم أنه هو الذي دفع الثمن الأكبر لحرب الإبادة الإسرائيلية أساساً، التي حصلت بعد العملية الهجومية الكبيرة لحماس.

ومن خلال متابعتي المباشرة مع أصدقاء في غزة، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، بدا لي أن ثمة وجهة نظر تستحق الحضور، لا سيما مع مقولات لبعض مسؤولي حماس، ضارة وخاطئة وتقوض صدقية المقاومة ذاتها، كالقول إن المقاومة بخير، وإن إسرائيل لم تحقق أهدافها وستضرب وتدمّر لمدة أسبوع أو أسبوعين، وبعدها لن تستطيع القضاء على المقاومة، وأن الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه، كأن حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل لا تؤثر على “حماس”، أو كأن استهداف الشعب الفلسطيني أمر عادي وبسيط، لكأنه يجري في بلد آخر، ولشعب آخر، وكأن خسارة أب أو ابن أو أم أو إبنة، أو خسارة شخص يده أو رجله، أو خسارة بيته وأملاكه ومصادر رزقه، لا يعد شيئاً، أو لا يفترض حسابه من أجل “القضيةّ”!

ولئن أتت خطابات بعض مسؤولي “حماس” على هذا النحو، فقد جاءت كتابات فلسطينيين في غزة مشحونة بالألم والقهر والغضب، وكانت قاسية ومحبطة وساخرة أيضاً، من إسرائيل ومن العالم العربي، ومن دول العالم، ومن الحركة الوطنية الفلسطينية ومن “حماس” أيضاً.

كان الهاجس الأساسي أو القاسم المشترك بين معظم تلك الكتابات، الألم الذي لا يمكن وصفه بالكلمات، والسؤال المحير عن وضع غزة في مرمى حرب الإبادة الإسرائيلية، وقد شمل ذلك التساؤل عن الخذلان العربي والدولي.

في هذا الإطار، لخّص عبد الكريم الأشقر (24/2) الوضع بكلمات قليلة: “كنا بدنا نضم الغلاف لغزة – قام الغلاف ضم غزة للغلاف… كنا بدنا نحرر فلسطين – احتلوا هم غزة… كنا رايحين على القدس – صرنا في رفح … كنا نريد الدولة والتنمية – أصبح أسمى الأماني الخيمة… كنا نريد رفع الحصار عن غزة – هدمت غزة ولم تعد صالحة للعيش… نحن لا نهزم ولكن يمكن أن نندثر… إحنا يتامى مغامرات متراكمة وفشل سياسي”.

وكتب نضال أبو شريعة (20/2): “أمس، ذهبت أبحث عن كيس طحين مثل عشرات الآلاف… في جو ممطر ورياح شديدة وبرد شديد وطبعاً شوارع لا توصف… الحمير والبغال لا تستطيع المشي فيها والزنانات (نوع طائرات تصدر ضجيجاً شديداً) وقصف الدبابات وإطلاق النار فوق رؤوسنا، لكن الجوع دفع الجموع الزاحفة نحو الطحين… وصلت الشاحنات الى النقطة التي تسيطر عليها دبابات الاحتلال، وفي هذه اللحظة انهمرت الرشاشات… وسقط العشرات… وفي نهاية المطاف اقتربت الشاحنات، وعلى بعد فقط 100 متر من نقطة الجيش كانت 6 شاحنات فقط محمّلة بالطحين، وفي أقل من 10 دقائق كانت فارغة بالكامل. وبتقديري، كانت تحمل 10 آلاف كيس، لكن عدد الناس كان لا يقل عن 120 الى 140 ألف شخص”.

أما الشاعر والكاتب الساخر أكرم الصوراني(15/2)، فقال: “لا وقت لدينا الآن لوصف حالتنا التي لا توصف، نُجهّز الحطب والنار، ونغلي الماء، ثم لا نجد ما نطبخه، نطبخ كل شيء إلا الطبيخ، نأكل كل شيء عدا الأكل، ما زلنا بحاجه لخبرة في الطبخ وفي التعرّف من جديد على طعم اللحم، رغم اللحم المسفوح في الطرقات، لا وقت الآن، جداً نحن مشغولون، وفارغون، ‘فاضيين أعمال’ أو كما أُحب أن أُردّد ‘وإحنا شو ورانا.. ورانا حرب’، الوقت من دم، سندفن جثة مجهولة الهوية، تحت شجرة مجهولة الهوية، لا وقت الآن، لا ماء، لا كهرباء، ولا سكر في المدينة، صواني المجدّرة والمعكرونة تجتاح خيم النازحين، وسط معركة أَشبَه بــ ‘معركة ذات الصواني’، ولا صوت يعلو فوق صوت المعلقة… بعد أربع ساعات من الانتظار، تذكرت أنّي نسيت هويتي في الخيمة، ويبدو أن جيراني المشرّدين هم الآخرون نسيوا هويتهم أيضاً في الخيمة… خيمة تخيّبنا!”.

وعن الضياع والتنقل من منطقة إلى أخرى، كتبت كوثر أبو هاني (12/2): “كلمت أهلي بعد القيامة في رفح، لقيتهم عاملين قيامة ثانية… مشاكل وهستيريا وضياع. أختي وزوجها وأهله وكل الأبناء بدهم يفكّوا الخيم ويحملوها وينزحوا، ما حدا بيعرف لوين! أمي بدها تنزح معهم، قالت بانكسار ‘يما لخّة الوضع (أي معقد). أبوك بطل يمشي عشان المرض تطور وما في أدوية وبدنا نلحق الشباب يحملوه مع الخيم’. أختي الثانية، تتهاوى وتتآكل، تشاجرت مع أمي بغضب شديد وتريد إجبارها على البقاء. أمي ليست في وضع تفهّم مشاعر ابنتها الخائفة، جميعهم مضطربون. أختي خائفة من البقاء وحيدة مع أطفالها في الخيمة في رفح التي لم تعد آمنة. كلهم تائهون ومنكسرون. أكبر انكسار هو حمل الخيمة والأب معاً والنزوح إلى المجهول.

“كنا بدنا نضم الغلاف لغزة – قام الغلاف ضم غزة للغلاف… كنا بدنا نحرر فلسطين – احتلوا هم غزة… كنا رايحين على القدس – صرنا في رفح …”

المحامية فاطمة عاشور، حاولت تلخيص الخيارات الصعبة أو الاضطرارية لفلسطينيي غزة، فكتبت (2/12): “الخيارات الصعبة التي وضعتنا إسرائيل فيها مرعبة ومحرجة ومربكة، الخيار الأول واقعة فيه مصر للأسف يا ترى تقفل المعبر عشان القضية ولا تخليهم يموتوا جوا من سكات واديني بنديهم شويه أكل وأسمنا فاتحين المعبر! الخيار الثاني إنه مش قادرين نحكي رأينا الحقيقي في حماس عشان المنسق الإسرائيلي بياخد كلامنا ويحطه في صفحته وبنطلع كأنه متفقين وده طبعاً مش حقيقي، بس سكوتنا مش معناه إننا موافقين أو عاجبنا. الخيار الثالث تسافر وتنفد بروحك ولا تضل وتنقصف ده في أحسن الأحوال بس الإشي إلي ما بنحكي عنه إنك بتعيش علي مدار الثانية، مش الساعة، على مدار الثانية، جعان وبردان وحزين وخايف ولا حول و لا قوة لك ولا تضلك مع أهلك وصحابك… وإذا طلعت هتتلام وهتزعل وهتندم وهتطلع وحش في عين كتار وفي عين نفسك كمان، في رحلة من جلد الذات ما بتخلص هادي خيارات بشعة بشعة جدا… تختار تعيش ألف ألف ألف موتة ويمكن تضل عايش بكمية وجع الله وحده الي ممكن يداويه ولا تغادر بلدك الي بتحبها مهما واجهت فيها”.

وذهب مروان أ

بو ثريا إلى طرح أسئلة تبعث على المرارة والألم، (5/2) بدأها بمقدمة قال فيها: “ليس هناك أكثر جهلاً وغباءً ممن يقول بأن إسرائيل خسرت الحرب لأنها لم تقضِ على حركة حماس. أيهما أهم بالنسبة الى إسرائيل: تدمير شعب أم تدمير تنظيم؟ هل تعلمون ماذا فعلت بنا إسرائيل؟ إسرائيل دمرت الشعب ونكبته في كل تفاصيل حياته. وجعلت الموت هو الخيار الأرحم بالنسبة إليه. إن اسرائيل لم تدمر البيوت فقط ولم تدمر البنى التحتية فقط، ولم تقتل وتجرح أكثر من 100 ألف فقط… ولم تهجر الشعب فقط. بحيث جعلت ثلاثة أرباعه مهجرين. إنها دمرت البنية الأخلاقية في المجتمع. حولت النظام الاجتماعي الحضاري إلى نظام حيواني غرائزي ليس له علاقة بالإنسانية. تحكمه شريعة الغاب ويلتهم القوي فيه الضعيف. ماذا يعني أن تُسرق المساعدات الإنسانية والإغاثات ويتم بيعها في الأسواق؟ ماذا عن السطو والاستغلال؟ وماذا يعني أن تشتري طبق البيض بمائة شيكل وكيلوغرام البصل بـ 40 شيكل والخيمة بـ 2000 شيكل لناس معدمين”.

في الوقت ذاته، سأل حسن الداوودي (27/2): “ما الذي لا نراه ويرونه يرفع المعنويات في مشهد عناصره: إعادة احتلال قطاع غزة، فقدان ثلاثة أرباع المباني، تشريد ثمانية أعشار السكان، ظروف لا آدمية لكل السكان (طوابير دورات مياه حتى طوابير الخبز وأمراض وجوع وبرد)، كل ساعة خيار الهجرة الطوعية ينفرد بكل فرد إن لم يسبقه تهجير قسري، إبادة عائلات وتخريج أفواج أرامل ويتامى، في النكبة أيضاً كان هناك رصاص يصيب الجنود، لكن النتيجة جعلتها نكبة وإلا لو كنتم أونلاين آنذاك لسميتموها طوفاناً”.

كذلك، عرض سعيد الكحلوت حالته، كعينة لحال معظم أهل غزة، فكتب (14/12/2023): “إسمي سعيد محمد الكحلوت متزوج ولدي أربعة أطفال. أحمل درجة الدكتواره في الصحة النفسية، وأحب عملي جداً، بل أمارسه كهواية. أنا أيضا كاتب وقاص أكتب المقالات والقصص القصيرة ولي كتب منشورة… لي بيت جميل تبلغ مساحته ٢٢٠٠ متر مربع، اعتنيت جداً في تفاصيل بنائه، في داخله مكتبة تحتوي على 878 كتاباً، أحفظ أسماءها كما أحفظ أسماء أطفالي. في العاشر من أكتوبر الماضي، أي ثالث يوم الحرب، انقلبت حياتي رأساً على عقب.  دمرت الطائرات المقاتلة البيت وحوّلته إلى ركام وضاعت كتبي بين الحجر والحديد. وأمسيت أنا وأسرتي مُشردين نبحث عن مأوى نحمي به أجسادنا وأحلامنا من شظايا القصف. الآن وبعد أكثر من ستين يوماً من الحرب، أعيش مرة أخرى تجربة اللجوء التي عاشها أجدادي قبل 76 سنة، وقد سجلتُ في مدرسة للنازحين. أصلي الفجر ثم أسير في الظلام، تنبح علينا الكلاب الضالة، ويعضنا البرد القارس، أحمل في يدي عبوات كبيرة وأتوجه لمحطة المياه، أصطف في طابور طويل جداً، يقول الرجل الأول فيه إنه أتى هنا منذ منتصف ليل الأمس.  بعد ساعتين، أحصل على 32 ليتراً تقريباً من المياه، أحمل عبواتها بيدين مُجردتين وأعود لاهثاً لمكان لجوئي بعد قطع مسافة تصل إلى كيلومتر. أغسل وجهي بكوب صغيرة من الماء وأعطي تعليمات مُشددة لأسرتي بأن يحافظوا على كل قطرة ماء ليكفي الماء للشرب والطبيخ والنظافة لليوم التالي… أقف في طوابير للحصول على قليل من (الملح، السُكر، الخميرة، الدقيق، الأرز… وأشياء بسيطة وسخيفة جداً يمكن لأي رب بيت القيام بها في العالم ابن القحبة). أعكف هذه الأيام على كتابة رواية جديدة، وأنتظر صدور مجموعتي الجديدة “رُبع رغيف” و \التي وثقتُ فيها صعوبة حصول المواطن العربي على سُبل الحياة، كما يحدث معنا الآن. أقضي الليل تحت القصف في الكتابة على الورق والقراءة من الجوال”.

سميح القاسم كتب بدوره:  “لا أحب الموت لكني لا أخاف منه،   وأخشى يوماً ما أن أضطر لاستخدام الورق الذي أسجل عليه روايتي الجديدة في إشعال النار لإعداد الطعام لأطفالي، فالحياة أولويات والضرورة أحياناً لها أحكام كافرة”.

ثمة حكاية لناجية من تحت الأنقاض كتبتها صاحبتها عايدة أبو لاشين (5/11/2023): لم أنج بعد من الموت… لم أكن أتوقع أن أعيش بعد هذا اليوم !! العاشر من أكتوبر، الساعة الثانية من منتصف الليل.  صوت الانفجارات يبدو بعيداً. بلحظة كل شي تغير، تزلزلت الأرض من تحتي وتساقطت الأشياء فوقي. بعد ساعة تجمعوا الناس والدفاع المدني لإنقاذنا، ولكن تم إعلان موتنا جميعاً، لأنهم وجدوا محمد أخ زوجي (جمال)، جثة واقعة على الأرض. كنت أسمعهم وأنا تحت الأنقاض، الإسعاف والدفاع المدني وأصوات الجيران. من بين الأنقاض حاولت الصراخ عليهم بكل قوة: نحن هنا أحياء، لم نمت. نحن أحياء تحت الأنقاض، لكن رائحة البارود والغبار التي تدخل في نفسي، أقوى من ذلك الصراخ الذي لم يسمعه أحد… ذهب الجميع للبحث عن أحياء عند سماع غارة جوية جديدة في مكان آخر… استيقظت من النوم، لا أدري، كان المكان معتماً جداً، شعرت بشيء ثقيل فوقي. المساحة ضيقة جداً وجسم متخشب لا شي يتحرك مني، لا شي، بالكاد أستطيع التنفس، بالكاد يصلني الأوكسجين المختلط برائحة الغاز. ناديت على زوجي: جمال، جمال، فلم يرد، المكان معتم جداً، حاولت تحرير نفسي ورفع الأثقال، ولكن كان سقف المنزل الإسمنتي أقوى بكثير من محاولاتي… وبكل هذا الوقت أنزف الدم من يدي ورأسي ورجلي محشورة بين الحجارة، مر الوقت: صباح، ظهر، مساء.  وأنا أرتجف من البرد وأشعر بالعطش الشديد. وفي صباح اليوم التالي، سمعت خطوات شخص يمشي فوق الأنقاض، مسكت حجر وحاولت أن أضربه بالسقف من فوق رأسي حتى سمعوا الصوت وسألوا: هل من أحد حي هنا. قلت لهم نعم أنا عايدة. أخيراً، بعد 48 ساعة خرجت من تحت الركام، سألتهم عن زوجي (جمال) قال لي أبي إنه بخير، ذهبت إلى المستشفى لمعالجة إصابتي، لم يكن لي سرير، الأموات والمصابون في كل مكان، انتقلت إلى منزل والدي سألتهم مجدداً أين زوجي جمال؟ فكانت الإجابة في أعينهم، مات جمال ومات أخوه محمد وزوجته سلامه وطفلاهما هادي وشام… أنا الناجية الوحيدة من هذه المجزرة. أنا عايدة أبو لا شين من مدينة غزة، لم أنج بعد من الموت… حياتي ممكن أن تنتهي في ثانية، ربما الليلة ربما لا. أوقفوا هذه الحرب”.

هناء عليوة طالبت بالنظر إلى فلسطينيي غزة، في مآسيهم المهولة، كبشر عاديين، يتألمون ويجوعون ويخافون، من دون أسطرة متخيّلة، قد ترضي ذات البعض، لكنها لا تفيد الناس في غزة، خاطبت هذا البعض قائلة:

“جربت تنام بخيمة؟ جربت تفقد كل شي بحياتك!؟

نفسي أحكي لأي حد بيقول لي حاسين فيكم؛ أقول له تعال حسّ عالمزبوط: إنك تنام بخيمة أو بغرفة صغيرة برفقة 10 أشخاص نصهم أطفال، هي غرفة الأكل والنوم والمعيشة والمطبخ، وأحياناً بنحمم الولاد بنفس الغرفة. تعال وقف في طابور الحمّام خصوصاً الصبح قدامك عشرة عشرين وراك عشرة عشرين. إجا دورك تفوت يلا تلحق تعمل شي واحد فقط. شي واحد. تقضي حاجتك أو تغسل وجهك. وصدقني ممكن تكسب وقت أكتر لو فات معك حد تاني وتتبادلوا الأدوار، مهو مفيش خصوصية! اه والله. استنى… الحمام غالباً ما فيه مي، دبر حالك وتعال قلي قديه حاسس فينا. جرب شعور يطلبوا ولادك أكلة بسيطة خبزة ولا بيضة ولا تفاحة، وما تقدر تجيب، ما معك مصاري، وأصلاً ما في شي تجيبه. حاسس فينا… جرب تنام بنفس اللبس وتصحى بنفس اللبس وتطلع بنفس اللبس وتعمل كل شي بنفس اللبس… جرب تموت من البرد ومش لاقي لبس شتوي وتعال قلي قديه حاسس فينا. جربت تكون مرتك حامل في شهرها بالحرب! عارف إنه انقطع حليب الأمهات من صدورهن بسبب الخوف وقلة الأكل! جربت تحتاج دوا وما تلاقيه !! جرب عيش هاد القلق وتعال قلي قديه حسيت فينا!! بشو حاسين بالضبط!! جرب ما تروح على شغلك وتمارس حياتك كإنسان، جرب تفقد مصدر رزقك، جرب تنسى إنه عندك حياة، جرب تنحرم من إنسانيتك، جرب تنذل، اه تنذل، اه والله… وتعال قلي قديه حاسس فينا. هَنا عليوة، نازحة ومتنيلة بستين نيلة…”.

—————————————

==============================

خطة نتنياهو… و”مبادئ طوكيو”/ إبراهيم حميدي

26 فبراير 2024

لعل أوضح تصور يقدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن “اليوم التالي” في غزة، جاء في خريطة المبادئ التي قدمها إلى المجلس الأمني المصغر قبل أيام.

ولعل أوضح تصور لموقف إدارة الرئيس جو بايدن إزاء “اليوم التالي”، كان في الوثيقة التي عرفت بـ”مبادئ طوكيو” بعد اجتماع وزراء خارجية السبع الكبار في العاصمة اليابانية، شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكان بريت ماكغورك مسؤول الشرق الأوسط في إدارة بايدن قد أعلنها أمام وزراء خارجية عرب وإقليميين وأوروبيين على هامش “حوار المنامة” في نوفمبر.

بعد أكثر من 140 يوما على حرب غزة، قدم نتنياهو “وثيقة المبادئ” الخاصة به، ونصت على أن الجيش الاسرائيلي سيواصل الحرب حتى تحقيق “أهدافه”، وهي تدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية الحكومية لـ”حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، وإعادة المحتجزين. وتضمنت استمرار الوجود الأمني في القطاع، والعزم على إقامة “منطقة آمنة” شماله قرب المستوطنات، و”الإغلاق الجنوبي” على حدود مصر. كما تنص على أن إسرائيل ستعمل على إغلاق “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين” (أونروا)، لـ”ضلوعها في هجوم 7 أكتوبر”، وإنهاء أنشطتها واستبدالها بوكالات مساعدات دولية أخرى، وهو هدف له أبعاد سياسية تتعلق بـ”حق العودة”.

وعلى المدى الطويل يرفض نتنياهو “الاعتراف الأحادي الجانب” بدولة فلسطينية، و”الإملاءات الدولية بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين”. ويرى إن التسوية مع الفلسطينيين لن تتم “إلا من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين، من دون شروط مسبقة”. كما يعتبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد أحداث 7 أكتوبر، من شأنه أن “يمنع أي تسوية سلمية في المستقبل”.

أقل ما يمكن قوله عن “خطة نتيناهو” إنها تتحدى نصائح و ضغوطات دول غربية باحتمال “الاعتراف” بالدولة الفلسطينية، كان بينها كلام وزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون، وتتجاهل كليا “مبادئ طوكيو”  وتتناقض تماما مع كل ما ظلت الإدارة الأميركية تسعى إلى تحقيقه منذ شهور، رغم سقفه المنخفض، إذ إن ماكغورك، المقرب جدا من بايدن، كان قد قال في “حوار المنامة” إن “مبادئ طوكيو” الخمسة، تشمل: “لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة. ولا لإعادة احتلال غزة. ولا تقليص لمساحة/ أراضي غزة، فهي أرض فلسطينية وستبقى فلسطينية. ولا تهديد لأمن إسرائيل من غزة. ولا لحصار غزة، فالمدنيون يجب عزلهم عن حماس وهم غير مسؤولين عن جرائمها”.

كما أن هذه الخطة، تضرب بعرض الحائط التصور المستقبلي المتواضع، الذي أعلنه ماكغورك في المنامة،  ويتضمن أن “صوت وتطلعات الشعب الفلسطيني مركز الحوكمة في غزة، وأن الضفة والقطاع يجب أن يعودا تحت حكم السلطة الفلسطينية”، إضافة إلى ضرورة وضع أسس طريق “حل الدولتين”، وتوفير الأمن لإسرائيل، ووضع خطة لإعمار غزة على المدى الطويل.

عند المقارنة بين الوثيقتين، تكشف “خطة نتنياهو” الرغبة الواضحة في السيطرة الأمنية على قطاع غزة والضفة، التي يفترض أن إدارة بايدن ودولا أوروبية وعربية تعتبرها أساس الدولة الفلسطينية، لاعتقادها أن “السلام على المدى الطويل لن يحققه إلا تنفيذ حل الدولتين”. كما تكشف استمرار حكومة نتنياهو ي وأد مواضيع المرحلة النهائية من المفاوضات (القدس، اللاجئون، المستوطنات، الدولة وحدودها) وتوسيع المستوطنات، التي قال عنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن إنها لا تتسق مع القانون الدولي، في عودة البيت الأبيض إلى سياسة أميركية راسخة بعدما تخلت عنها إدارة دونالد ترمب.

واضح أن حكومة نتنياهو وضعت هذه المبادئ أهدافا لحربها في غزة وتصورا لـ”اليوم التالي” في الضفة والقطاع. وبايدن الذي هو في الأصل منحاز لإسرائيل ومتماهٍ معها، كما أعلن أكثر من مرة، لن يغامر بالمغامرة بأصوات جماعات الضغط الإسرائيلية في أميركا في الأشهر المقبلة. كما أنه كان قد أعلن أكثر من مرة أنه لن يضع “أي شروط مقيدة” على المساعدات العسكرية المقدمة لإسرائيل، والبيت الأبيض أعلن “استثناء” تل أبيب من القيود التي وضعت على مستوردي السلاح وضرورة التزامهم بمبادئ حقوق الإنسان.

واضح أن “جرأة” نتنياهو تزيد، وقدرة الرئيس الأميركي على الضغط على الحكومة الإسرائيلية تتلاشى، مع اقتراب السباق الى البيت الأبيض آخر العام. ليس في السجل، ما يشير الى عكس هذا الاستنتاج.

المجلة

————————–

ما بعد 7 أكتوبر كما قبله؟/ عالية منصور

25 فبراير 2024

مع اقتراب مرور خمسة أشهر على بدء الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة والفلسطينيين، وسقوط أكثر من 28 ألف فلسطيني وفلسطينية وتهجير ما يقارب مليوني فلسطيني من بيوتهم في القطاع، تتوالى الأنباء عن تقدم في المفاوضات التي تجري في العاصمة الفرنسية باريس بمشاركة وفد إسرائيلي برئاسة رئيس الموساد ديفيد برنيع، ورئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز، ورئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل، في محاولة للوصول إلى صفقة بين إسرائيل و”حماس”.

وفيما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عن مسؤولين مطلعين أن “المفاوضات كانت جيدة واستمرت لفترة أطول من المخطط لها”، تحدثت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية عن “أربعة مطالب لحماس تعارضها إسرائيل”.

وكان رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية قد سبق وأعلن أن “مقترح وقف إطلاق النار يجب أن يُفضي إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي وإنهاء العدوان كليا ورفع الحصار وإعادة الإعمار وإنجاز صفقة تبادل متكاملة وعودة جميع سكان شمال القطاع”.

يقف المرء طويلا أمام مطالب حركة “حماس” ويسأل: هل هذه هي أهداف عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها “حركة المقاومة الإسلامية” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت؟ فالحركة بهذه المطالب تريد العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، وعمليات تبادل الأسرى بين الطرفين ليست بجديدة ولا وليدة عملية السابع من أكتوبر.

لقد نجحت “حماس” يوم السابع من أكتوبر في إظهار ضعف إسرائيل على المستوى الأمني والسياسي والعسكري، وكسرت ليلتها مقولة “الجيش الذي لا يقهر”، وفرح قسم كبير من الشعوب العربية وانتشى بالنصر، ولكن منذ الثامن من أكتوبر والفلسطينيون في غزة يدفعون ثمن هذا “الانتصار” وحدهم، فآلة الإجرام الإسرائيلي لم تدع وسيلة إلا واتبعتها لقتل وتجويع وتهجير أهالي غزة، ولكن ألم تقم أساسا دولة إسرائيل على القتل والإجرام والتهجير؟ فهل يعقل أن “حماس” تفاجأت بقدرة إسرائيل على الإجرام؟

قد يقول البعض إن “حماس” أخطأت في حساباتها عند القيام بالعملية، أو إنها راهنت على دعم وتدخل فصائل “المقاومة” في المنطقة، كما تذكر الوثائق المسربة. ولكن ألم نكتفِ من تجميل الحقائق؟ ألم ندفع أثمانا كبيرة جدا لأننا رفضنا تسمية الأمور بأسمائها؟ نعم إسرائيل مجرمة ويجب أن تحاسب على كل نقطة دم سالت في غزة وغير غزة، ولكن هل يحق للفلسطينيين أيضا ومعهم كل الشعوب العربية وغير العربية المتألمة لمصاب أهالي غزة أن يحاسبوا حكومة “حماس” في غزة سياسيا وأخلاقيا؟ الخطأ يمكن إصلاحه، ولكن ما حل بالفلسطينيين كيف يتم إصلاحه؟ وهل بالنية الطيبة تدار شؤون البلاد والمواطنيين؟ ألم تكن النتيجة واضحة منذ اللحظة الأولى لمن يتعقل ولو قليلا؟ فكيف لم تكن واضحة لمن هم في سدة الحكم والمسؤولية؟

الأولوية اليوم هي لوقف إطلاق النار الفوري في غزة، ولا شيء ولا أحد يحق له أن “يجاهد” بدماء الفلسطينيين، معركة فلسطين هي معركة تحرر وطنية يخوضها الفلسطينيون وليست رحلة انتحار أو نحر جماعي للفلسطينيين في غزة.

وقف إطلاق نار فوري تلحقه خارطة طريق فلسطينية- فلسطينية، تنهي الانقسام الفلسطيني، وتنضوي بموجبه جميع الفصائل التي تؤمن بقيام دولة فلسطين تحت مظلة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بالتزامن مع إصلاحها، ولكن هل أدركت “حماس” أن إيران وميليشياتها لم ولن يقدموا شيئا في رحلة تحرير فلسطين؟ وأن أجندتهم في الواقع لا تختلف عن أجندة إسرائيل، وأن فلسطين ليست سوى ذريعة ومادة للمتاجرة والضحك على أصحاب العقول البسيطة؟

وإن كان من حق الفلسطينيين محاسبة “حماس” على ما ألحقته بغزة، وهي الحكومة المسؤولة في غزة وعنها، فإنه على العالم بأسره أن يحاسب إسرائيل على الفظائع التي ارتكبتها وترتكبها. لم يعد مقبولا أن تبقى إسرائيل “طفلا مدللا” لعالم يدعي التحضر، فالمشاهد الآتية من غزة يوميا على مدى الشهور الخمسة الماضية برهنت أن حكومة يرأسها بنيامين نتنياهو ومن هو على شاكلته لا مكان لها في عالم متحضر أو عالم يدعي أنه يسعى للسلام، وإن اختار العالم أن تبقى إسرائيل خارج رادار المحاسبة فلا يستغرب أحد كم نتنياهو جديد قد يطل علينا في إسرائيل وغير إسرائيل.

وأيا كان حكم محكمة العدل الدولية سواء حكم لصالح الفلسطينيين أو ضدهم، فإن تعليق ردة فعل العالم بانتظار حكم المحكمة هو عار أخلاقي يقع عبؤه على الجميع، فالدول والشعوب والمنظمات الدولية مطالبة بأن تمسك زمام المبادرة وتدين إسرائيل على جرائمها، وتعاقبها دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا، هذا ما يمليه القانون الدولي وقواعد العدل والإنصاف التي يفترض أن تحكم عالم اليوم، أما تعليق كل شيء بانتظار ما سيقوله 15 قاضيا جليلا فهو مجرد هروب من استحقاق أخلاقي، وهو تلطٍ وراء محكمة لا تملك من القوة سوى قوة كلمتها الأخلاقية.

المجلة

—————————-

========================

تلفزيون سوريا

——————————

إيران وترك غزة لوحدها.. الخوف من فتح جبهات أخرى/ منير الربيع

2024.03.01

على الرغم من الإصرار الإيراني على معادلة “وحدة الجبهات” أو “الساحات” فإن مسار الحرب على غزة والتصعيد الإسرائيلي المدعوم أميركياً، والضغط الأميركي الذي دفع إيران إلى التنصل والتبرؤ من كل ما يجري أو ما يقوم به حلفاؤها في المنطقة من العراق، إلى سوريا فلبنان وصولاً لليمن، أرسى معادلة أميركية جديدة قوامها تفكيك الجبهات الإيرانية. وهو ما يثبت قدرة الولايات المتحدة الأميركية الدائمة على تغيير موازين ومسارات. فالتصعيد الأميركي جعل إيران تتراجع ليس في كل تلك الساحات فقط بل حتى في فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة بدءاً من اعتبار أن حركة حماس هي التي اتخذت القرار وحدها، وصولاً إلى كلام وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان حول ضرورة الذهاب إلى حل سياسي، ودعوته إلى “الطرفين” بضرورة عدم التعويل على المسار العسكري.

من اللافت أن يصدر مثل هذا الموقف عن مسؤول ايراني، إذ لطالما خوّنت إيران الدول العربية وحتى منظمة التحرير الفلسطينية وكل من كان يراهن على حلول بالاستناد إلى المفاوضات أو المسارات السياسية. لكن إيران التي تريد تجنّب أي حرب أو تصعيد، هي تعلم أن أي موقف لها داعم بالمعنى الفعلي والعسكري لحماس وغزة سيكون له تداعيات تشكل خطراً على المستوى العسكري، وعلى ديمومة النظام الذي قال الخامنئي إن الهدف الأساسي هو حمايته والحفاظ عليه. كل ذلك يشير الى أن إيران أصبحت في مرحلة ما بعد التخلي عن غزة وعن المقاومة الفلسطينية بالمعنى الفعلي، والاحتفاظ بالمسار الكلامي أو اللفظي الداعم لفلسطين.

ما أنتج هذا الموقف الإيراني هو الخوف على الخسارة في حال تطورت الأمور عسكرياً في أكثر من جبهة، فهي لا تريد أن تخسر في العراق ولا سوريا ولا لبنان، في حين تترك مسار الحوثيين مفتوحاً في البحر الأحمر بحثاً عن نفوذ هناك واعتراف به، أما في لبنان فإن عمليات حزب الله تبقى في إطار مضبوط أيضاً للقدرة على التفاوض لاحقاً وللقول إن لديها قوة ومخالب قادرة على غرزها عندما تقتضي الحاجة. أصبحت غزة وفلسطين ككل قضية عربية في حين إيران تجد نفسها بعيدة عنها، وهي تراهن على الوقت لمرور الأزمة والوصول إلى حلّ مقابل تقليل أكبر قدر من الخسائر عليها وعلى حلفائها. ولذلك ألزمت حلفاءها في العراق بوقف العمليات ضد المصالح الأميركية في العراق وسوريا، وتبحث دوماً مع حزب الله في ضبط الجبهة الجنوبية للبنان ومنع توسعها، لتجنب الحرب الواسعة وهذا ما نوقش أيضاً في لقاء عقد مؤخراً بين أمين عام حزب الله حسن نصر الله وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني.

لكن تراجع إيران عن معادلة توحيد الجبهات، وسعيها إلى تجنب الحرب ضد حلفائها أو ضدها بشكل مباشر هو الذي دفعها إلى التخلي عن غزة التي تركت وحيدة. ولكن أبرز ما تكتشفه إيران هو عدم قدرتها على تسيير المفاوضات مع الولايات المتحدة كما تشتهي، فهي كانت قد طلبت وقف استهداف الحوثيين في اليمن، ووقف الاغتيالات في العراق، والضغط على إسرائيل لوقف الاغتيالات بصفوف كوادر ومسؤولي حزب الله في لبنان، لكن واشنطن لم تلتزم بأي من هذه الشروط والمطالب وأصرت على التصعيد الذي دفع طهران للانكفاء أكثر. حالياً، تراهن إيران على وقف إطلاق النار في غزة، أو على إنجاز الهدنة وتمديدها لتجنب أي احتمال من احتمالات التصعيد لاحقاً.

في المقابل، هناك إصرار إسرائيلي على المضي في التصعيد بغزة وحتى في الضفة الغربية، لا سيما أن نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد الحرب إلى أن يحين موعد الانتخابات الأميركية، ويريد لهذه الحرب التي تخوضها إسرائيل أن تكون عنصراً مقرراً في الانتخابات الأميركية فيستخدمها ضد جو بايدن لصالح دونالد ترامب، هذا يبقي كل احتمالات التصعيد مفتوحة خصوصاً أن شهية نتنياهو ستكون مفتوحة على تنفيذ ضربات خارج فلسطين ضد إيران وحلفائها، وهو ما سيبقي المنطقة متأرجحة بين حالة الحرب واللاحرب، وفي سنة الانتخابات لا يمكن لأميركا أن تذهب إلى أي اتفاقات دولية أو إقليمية، فلا يمكن لإيران التوقع بالذهاب إلى اتفاق مع الولايات المتحدة. ما يهم طهران في هذه المرحلة أن لا يلجأ نتنياهو إلى الانتقال من غزة إلى ساحات أخرى.

————————

لا يوجد خطة يوم تال لدى نتنياهو/ محمود سمير الرنتيسي

2024.03.01

طرح رئيس وزراء حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام وثيقة خاصة بشأن إدارة قطاع غزة بعد الحرب وقد نشرها ديوان رئاسة الحكومة، وتتلخص هذه الخطة بتمتع جيش الاحتلال الإسرائيلي بحرية مطلقة للعمل في جميع أنحاء مناطق قطاع غزة من أجل منع عودة أي نشاط مسلح مع المضي قدما في إنشاء منطقة أمنية عازلة في الجانب الفلسطيني من الحدود.

وتتبنى خطة نتنياهو تعيين مسؤولين محليين لإدارة الشؤون المدنية بدلا من حركة حماس، وإغلاق منظمة الأونروا ونزع سلاح غزة وتعديل المؤسسات الدينية والتعليمية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية في غزة، بحيث يتم إلغاء تطرف سكان القطاع على حد وصف نتنياهو.

في الحقيقة ليست هذه خطة قابلة للتطبيق، وأكثر من يدرك ذلك هو نتنياهو نفسه، وحتى لو افترضنا إمكانية تطبيقها فإنها عملية طويلة الأمد، ولذلك فإن نتنياهو يراها مجرد عملية من أجل إطالة أمد الحرب أو إطالة المرحلة الحالية حتى مع فترات هدوء مؤقتة دون التوصل لحل شامل، وفي كل ذلك يسعى نتنياهو لزيادة عمره السياسي في رئاسة الحكومة الصهيونية.

وهذا ليس تحليلا فحسب من جهات ترى في الكيان الصهيوني عدوا بل إن عدة مؤسسات وشخصيات أمنية وعسكرية يرون أن مسارات الحرب ونتائجها لا تتوافق مع ما يتحدث نتنياهو عنه، ويرى معظم هؤلاء أن ما يسميه نتنياهو اليوم التالي للحرب ليس قريبا أبدا ويعللون ذلك ببقاء قادة حماس مثل يحي السنوار وبقاء جماهيرية حركة حماس وعدد لا بأس به من كتائبها العسكرية دون ضرر حقيقي، وحتى في شمال غزة ما تزال حماس تحظى بشعبية واسعة.

من جهة أخرى يدغدغ نتنياهو مشاعر التيار القومي الديني وقادته وعلى رأسهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، فهو يقدم نصا نظريا يتماشى مع خزعبلاتهم الأيديولوجية وخططهم للتهجير والاستيطان في غزة والتي لم يملوا من تكرارها والحديث عنها منذ بداية العدوان على غزة.

رفح كلمة السر

يروج نتنياهو أن رؤيته لليوم التالي ستتحقق بعد السيطرة على رفح، وحتى الآن فإنه ليس من المرجح أن تبدأ أي عملية في رفح قبل نهاية شهر مارس، وليس معلوما كم ستمتد العملية في رفح والتي من المتوقع أن تشهد تعقيدات كبيرة مع الأميركان والمصريين والرأي العام الدولي، فضلا عن أن فكرة إجلاء السكان من رفح إلى الشمال كما تحدث نتنياهو ستحتاج عملية تجهيز طويلة حتى يمكن حث السكان على التوجه لشمال القطاع.

يبدو أن الساسة الإسرائيليين نسوا أن حكومتهم وجيشهم سيطروا على قطاع غزة حتى عام 2005 وكانوا يقومون باجتياحات في مناطق القطاع المختلفة، وكان هناك عدة مستوطنات منها نتساريم وغوش قطيف وكفار داروم في قلب القطاع وكان الجيش الإسرائيلي يسيطر على محور فلادلفيا لكن لم يمنع هذا حماس من بناء قوة عسكرية، ولم يمنع من تهريب السلاح والعتاد من سيناء، ولم يمنع التدريب والتصنيع حيث إن صواريخ القسام والياسين بدأ إنتاجها في هذه الفترة بل على العكس من ذلك أصبحت مساحة تعرض الجيش الإسرائيلي لعمليات المقاومة أكبر.

باختصار رؤية نتنياهو ليست رؤية عملية وهي تضر بمصالح دولة الاحتلال نفسها وتعرض علاقتها لواشنطن لمشكلات أكثر، ولهذا يمكننا القول إنه لا يوجد ما يسمى يوماً تالياً بالنسبة لنتنياهو بل أيام تالية يتمنى من خلالها أن تطول الحرب إلى أكبر فترة ممكنة، وهذا هو هدفه لكي يطيل بقاءه في الحكم هو وجوقته من اليمين المتطرف.

وبالتالي يدرك نتنياهو أن مجرد رسو مصطلح اليوم التالي يعني أنه اليوم الأول لرئيس وزراء جديد يحل محله وينهي حقبة صاحب أطول رئاسة وزراء في تاريخ دولة الاحتلال، ولهذا لا يوجد شيء اسمه يوم تال بالنسبة لنتنياهو على الأقل.

—————————-

استهداف بعلبك وربط الحرب على لبنان بالميدان السوري/ شادي علاء الدين

2024.02.29

رسائل كثيرة وخطيرة يطلقها الاستهداف الإسرائيلي لمنطقة بعلبك الذي يعد الأول من نوعه منذ العام 2006.

قواعد الاشتباك كان قد سبق لها أن سقطت مع سلسلة خروقات طالت النبطية والضاحية الجنوبية، ولكنها بقيت منضبطة في إطار عمليات محددة ومحدودة في معانيها وأهدافها وما تنطوي عليه من علاقات بالمجال اللبناني.

مع استهداف بعلبك اختلف الوضع وباتت الحرب على لبنان متصلة إسرائيليا بالمسألة السورية، كما أن إسرائيل التي لا تزال تفصل بين الحرب على لبنان وغزة قد تذهب في اتجاه الربط العسكري والاستراتيجي بينهما. إذا كان الحزب يصر على وصل لبنان بغزة فإن إسرائيل تعلن أنها قد تصله بسوريا وإيران كذلك.

تمثل بعلبك الخزان الاستراتيجي الأبرز لحزب الله، كما تمثل في علاقاتها المتشابكة حدوديا واجتماعيا وسياسيا مع سوريا حالة لا يمكن معها فصل ما يحدث فيها وعليها عن المسألة السورية.

ولطالما كانت إسرائيل تحرص على ضرب الحزب وإيران في سوريا ردا على أي تصعيد من لبنان. قبل حرب غزة كان الرد في الداخل السوري يقع ضمن استراتيجية الضربات الاستباقية التي تهدف إلى شل القدرة على استهداف الداخل الإسرائيلي. مع احتدام الوضع في غزة ارتفعت وتيرة التصعيد عبر توالي الاستهدافات وارتفاع شدتها وحدتها، ولكن الجديد الذي تعلنه العملية الإسرائيلية في بعلبك يقول بشكل مباشر إن الأمر لم يعد محصورا في إطار الأمن الوقائي، بل بات جزءا من معركة مفتوحة على امتداد المنطقة.

وكانت منطقة بعلبك أخضعت لضبط حاد بعد دخول الحزب في الحرب السورية عام 2011 والتي غيرت طبيعة علاقة المنطقة الإيجابية مع الداخل السوري واستبدلتها بعلاقات يشوبها الحذر والعدائية كما وضعت الاعتماد والتواصل الاقتصادي والتجاري والاجتماعي بين أهل المنطقة عموما وسوريا في يد الحزب وشبكاته المختلفة، والتي اصطدمت مع الشبكات العشائرية والعائلية، ولم تستقر الأمور لها إلا من خلالها، وعبر مراعاة مواقعها ومصالحها.

منذ تلك الفترة حتى الآن تحولت الحدود اللبنانية السورية إلى مركز لتهريب السلاح الثقيل، فكثرت الاستهدافات التي تطول محاولات نقله إلى لبنان لاستخدامه في خلق معادلات جديدة في الكباش مع إسرائيل.

ولعل الحدث الذي فجر التصعيد الأخير في بعلبك ناتج عن امتلاك الحزب لقدرات دفاعية جوية نجحت في إسقاط طائرة هرمز 450 التي تتمتع بميزات تكنولوجية عالية بصاروخ أرض جو.

نجاح إسقاط هذه الطائرة كان عنوانا تهديديا نظرت إليه إسرائيل بجدية، لأنه يشير إلى إمكانية إسقاط طائرات حربية والتأثير الجدي على معادلات الحرب في المنطقة، وكذلك على كل سياقات التفاوض، لذا كان الرد عبر بوابة بعلبك تحديدا عنوانا لوحدة ساحات إسرائيلية مضادة للساحات التي يسعى الحزب إلى توحيدها ضدها، وإيذانا بفتح جبهة تضع لبنان في إطار معركة سوريا إضافة إلى معركة غزة.

يقود ذلك إلى تعقيد عسكري وأمني وكذلك سياسي وتفاوضي، فإسرائيل تهدف إلى خلق معضلات تستعصي على الحلول الجزئية والخاصة، وتدرج بموجبها لبنان وحزب الله في إطار معادلات الحل الشامل للمنطقة والذي لم تتضح معالمه بعد. تعزز من ناحية أخرى الحجج التي تقول بصناعة السياسة والحلول من خلال العسكر والميدان، فقد كان لافتا تركيز شبكة الدعاية التي يبثها الجيش الإسرائيلي حول إمكانية تحرير الأسرى الذين تحتجزهم حماس والفصائل الفلسطينية في غزة عبر العمل العسكري، وكذلك الإصرار على إقفال أبواب كل المسارات السياسية وتأجيلها إلى موعد تصبح فيه مجرد ارتداد وانعكاس لمعطيات الميدان.

تدعم هذه المعطيات مسار التفجير الشامل، فقد جاء التطور الأخير في بعلبك بعد تسلم لبنان المبادرة الفرنسية التي تهدف إلى إيجاد حلول خاصة بلبنان، ولكن الرد المسبق من الحزب والحكومة اللبنانية كان يؤكد على ربط لبنان بغزة.

من هنا قد يكون من الممكن تفسير التصعيد الإسرائيلي ليس بوصفه مجرد رد على التطور المتمثل بإسقاط طائرة مسيرة متطورة، ولكن في أنه رد على العنوان الكبير الذي يريد من خلاله الحزب تكريس نفسه ومن ورائه إيران كلاعب أساسي في المعادلة الفلسطينية بعد أن كان قد انتزع لنفسه موقعا في سوريا.

ويلاحظ أن الاستهدافات الأعنف التي طالت الحزب وإيران في هذه الفترة كانت في سوريا، ولكن الرد عليها لم ينطلق من سوريا التي تقيم نظام ضبط صارم مرعي روسيا وأسديا يحول دون ذلك، ولكن عبر محاولات مستميتة لنقل السلاح الثقيل والنوعي إلى لبنان كونه الساحة التي يحكم سيطرته عليها بالكامل، وقد ترجم هذا الأمر بإطلاق حزمة من الصواريخ من لبنان على الجولان المحتل بعد ساعات من العملية التي طالت بعلبك.

تقود إسرائيل الحزب إلى ساحات قلقة وخطيرة وتفتحها كلها في وجهه، فبعد أن كانت القيادة العسكرية الإسرائيلية تطلق تصريحات تعتبر فيها أن عنوان القضاء على حماس بعيد المنال نجدها تعزز هذا الهدف وتعتبره ممكنا ومتاحا، لا بل ضروريا ولا بديل عن تحقيقه.

الأمر نفسه ينطبق على حزب الله والخطر الإيراني الذي تنظر إليه إسرائيل كعنوان لتهديد وجودي، لذا تسارع في رفع وتيرة التصعيد وتشبيك ساحات المواجهة مستفيدة من الارتباك الأميركي في ظل الأشهر الأخيرة من ولاية جو بايدن حيث تعتقد أنها ستنجح في جره إلى مشاركتها المباشرة في مشروع إنجاز الحل النهائي القائم على توسيع دائرة الحرب والمجازر وربط لبنان بالجحيم السوري، ومسار الإبادة الغزاوي.

—————————–

ماذا يعني تظهير إسرائيل البُعد الديني في الصراع؟/ د. أسامة عثمان

2024.02.28

لم تعد الأبعاد الدينية خافية في الصراع الذي أجَّجته الحرب العدوانية على غزة، وهو لم يكن مضمرًا قبلها، وتحديدًا منذ تشكَّلت حكومة بنيامين نتنياهو، بوزيرين بالغي التطرف، هما إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، بتصعيد خطير في المسجد الأقصى، ولم تسلم الكنائس وأتباعها؛ ليعزِّز ذلك الانفراد الصهيوني الديني المتطرف بالقدس؛ ليعزز تهويدها، والتقدُّم الحثيث في فرْض السيادة الاحتلالية عليها، وكنَّا شهدنا تحوُّلا لافتًا ودالًّا، حين أخفقت حكومة الاحتلال، برئاسة نتنياهو، يوليو/ تموز 2017، في تمرير قرار البوابات الإلكترونية على المسجد الأقصى، حين خلُصَ جسُّ النبض الاحتلالي إلى أن الإصرار عليها سيفجّر الحالة، في وقت غير مناسب، وغير ناضج؛ فأُجبِرت على التراجع عنها.

وهذه الأيام، ونحن على أعتاب شهر رمضان، يزداد الاتجاه نحو الاستفزاز الخطير، بالحدّ الكبير من الأعداد المسموح لها بالصلاة في المسجد الأقصى.

لعلّ الدافع هو الاستمرار في الحفاظ على الزخم المُنجَز من الانتهاكات اليومية، وبأعداد متزايدة من اليهود المتطرفين المنادين بإقامة الهيكل، والإجهاز على المسجد الأقصى، بوضعه الراهن. وقد تكون التقديرات أن الوقت مناسب لتثمير الحرب على غزة، بعد إنهاك لا يدفَع ألمَّ بحركات المقاومة، وحركة حماس، والحالة الفلسطينية عمومًا، في ظروف شديدة الضيق في الضفة الغربية، من حيث إحكام السيطرة الأمنية، وفرْض المزيد من الحواجز، وعسكرة الضفة الغربية، بزيادة منسوب الردود التي يمارسها جيش الاحتلال، في مناطق المقاومة، كما في جنين ومخيمها، وطولكرم ومخيميِّها، دون ظهور علامات اكتراث، أو نيّات نحو الاستجابة للمواقف الأميركية المطالبة التزام قيود أكبر، سواء من الجيش، أو من المستوطنين، حتى بعد فرض عقوبات أميركية، على قادة من المستوطنين، والتلويح بفرْض عقوبات تالية على قادة في الجيش، في حال ثبت تقاعسُهم عن كفّ اعتداءات المستوطنين على أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم.

ولا يخفى أن الجيش ومجمل أجهزة دولة الاحتلال تخضع، هذه الفترة لمزيد من التدخُّل من وزير الأمن القومي بن غفير، ووزير المالية المشبَع بروح استيطانية إقصائية، سموتريتش، هذا التدخُّل المتزايد ينتقص، بالطبع، من صلاحيات قادة الجيش وأجهزة أمنية أخرى كجهاز الأمن العام (الشاباك)، ويقرّب جيش الاحتلال مسافة أقرب من ممارسات المستوطنين، وفكرهم، حيث في مواقع كثيرة يوفر لهم الغطاء والحماية، حتى يفرغوا من اعتداءاتهم.

هذه النسخة الأحدث من الاحتلال، الأكثر سفورًا، والأقل تحسُّبًا لاعتبارات أوسع من عقلية قادة المستوطنين الضيقة، تستخفّ بتحذيرات (مهنية) تراعي في المقام مصلحة دولة الاحتلال، على الصعيد الدولي، وعلى صعيد القانون الإسرائيلي، كما ظهر، مثلًا، في رفْض البؤر الاستيطانية غير القانونية، وفي منطلقات الجيش بوصفه مؤسسة لها مرجعياتُها السابقة على اعتبارات المستوطنين المتعجِّلة والمستهترة، والسافرة في استباحة أرواح الفلسطينيين ووجودهم.

هذا الجيش يقرِّر خطواته بناء على رؤية سياسية، مصاحِبة، وبناء على تقديرات ردّات الفعل، بناء على تقارير عن الحالة الفلسطينية، من جميع الجوانب، تقريبًا، الاقتصادية، والنفسية، والفكرية. وبالنظر للمرحلة الحالية بوجود حلفاء نتنياهو من أقصى اليمين، ومقارنتها بمرحلة سابقة، نلحظ أن حالات الاصطدام بين الجيش والمستوطنين تراجعت، إلى درجة كبيرة، لصالح إطلاق يد المستوطنين.

والعقلية الغالبة الآن على السياسة الاحتلالية هي عقلية الإرغام الصريح، وتغذّت هذه الأخيرة، بالحرب مع حماس وفصائل المقاومة، بعد عملية طوفان الأقصى التي رفعت درجات التديُّن، السياسي، في إسرائيل، وقلّصت مساحات الدعاوى السلمية، أو ما يسمى بمعسكر السلام.

وفي هذا السياق، كشفت نتائج الاستطلاع الأول، الذي نشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، مؤخرًا، وأجراه «معهد د. مناحيم ليزر»، أن 33 في المئة من المواطنين اليهود ذكروا أن إيمانهم بالله زاد بسبب الحرب، “أما على الصعيد السياسي، فقد تجلَّت زيادة التطرُّف اليميني، في نتائج الاستطلاع الأسبوعي الذي تنشره صحيفة «معاريف»، واتضح منها أن كلًا من حزب «الليكود» برئاسة نتنياهو وحزب «المعسكر الرسمي» برئاسة بيني غانتس، خسر من قوته. والحزب الذي ازدهر تمامًا هو حزب «العظمة اليهودية» بقيادة بن غفير، الذي يتمثل، وقت إجراء الاستطلاع، في الكنيست، بستة مقاعد، وتمنحه الاستطلاعات 10 مقاعد.

وقد تكاثرت التحذيرات الرسمية العربية من إمعان إسرائيل في هذه السياسة التي تتجاهل الوجود الفلسطيني واستحقاقاته، من ذلك ما ورد على لسان الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، وفق ما نشرت صحيفة الشرق الأوسط، من أن مقاربة إسرائيل للحرب الدائرة في غزة “لا تزيد من أمنها بل تزيد الخطر عليها”. وقال الأمير فيصل في جلسة حوارية في مؤتمر ميونيخ للأمن، إن «الرد المفرط» لإسرائيل في غزة “سيؤدي إلى احتدام المشاعر”(…) المأساة التي نشهدها مسألة تحشد كثيراً من الانفعالات، وفيها مخاطرة بإعادة تنشيط الرسالة لدى البعض في العالم العربي، بأن التعايش غير ممكن».

وبعد ذلك، أوردت صحيفة “العربي الجديد” أن مصادر مصرية كشفت عن تحذيرات

مصرية لأميركا وإسرائيل من خطورة المساعي الإسرائيلية لمواصلة حرب غزة، خلال شهر رمضان (10 مارس/آذار المقبل) وذكر أحد تلك المصادر أن “المسؤولين المصريين أكدوا، خلال تلك الاتصالات، أن استمرار العمليات العسكرية، بشكل عام، وشنّ عملية واسعة في رفح، خلال رمضان، سيضع المنطقة برمتها على فوهة بركان، وأن خطورة ذلك لن تكون على إسرائيل فقط، ولكن على جميع دول المنطقة”.

هذا، ولا يخفى الامتعاض الأميركي، في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن من اشتمال حكومة نتنياهو على هذين الوزيرين المتطرفين، بن غفير وسموتريتش، (إذ يبتعدان ومعهما نتنياهو بإسرائيل عن الصورة التي تعرفها، وتستبقيها أميركا والغرب عمومًا، من حيث الصبغة الديمقراطية)، وهما اللذان لا يهتمَّان بالتوافق مع الإدارة الأميركية، بل يعربان، في العلن، عن إصرار، يصل أحيانًا حدَّ التحدي، يقدِّم ما يريانه مصلحة إسرائيل على المقاربات والمواقف الأميركية، ولو كانت الأخيرة إنما تراعي فيها مصلحة إسرائيل، لتضاف إلى الموقف المعهودة للإدارات المتعاقبة، في تقديم دعم يكاد يكون غير مشروط لإسرائيل، سواء من الناحية العسكرية، أو الاقتصادية، أو الديبلوماسية، كما توفِّر لها الغطاء الدولي الحامي، ولا سيما في مجلس الأمن، ولدى تعرّض دولة الاحتلال إلى المساءلات القانونية، أو المحاكمات الدولية، كما يجري، في محكمة العدل الدولية الناظرة في اتهام إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

ومن شأن هذا الوضع الذي يبدو فيه نتنياهو أكثر تماهيًا مع وزيريه المتطرفين، أن يغذِّي التساؤلات عن المصلحة الأميركية في استبقاء هذه العلاقة الفريدة والاستثنائية بإسرائيل، في وقت تزداد فيه صورة إسرائيل، على خلفية مجازرها الرهيبة في قطاع غزة، على المستوى الدولي، وفي أوساط أميركية، طلّابية، وشبابية، وأكاديمية، وغيرها، تزداد قتامة. 

ولِتغذِّي هذه الحالة أطروحات حذرت من تأثير اللوبي الإسرائيلي الضارة بأميركا، كما فعل جون ج. ميرشايمر وستيفن م. والت في كتابيهما ” اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية” الذي ترجمه أنطوان باسيل، وصدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، إذ جاء في الكتاب: “نجح اللوبي الإسرائيلي في إقناع كثير من الأميركيين بأن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة أساسًا، وهي في الواقع ليست كذلك”.

ويصبح هذا التوجُّه نحو الحدّ من التماهي مع دولة الاحتلال أقربَ إلى المراعاة في عالم اليوم الذي تفقد فيه الولاياتُ المتحدة بعض نفوذها وتفرُّدها العالمي، مع تصاعد المنافس الصيني، والروسي، وطموحات البلدين المنافسين المتزايدة في المنطقة العربية والإسلامية، وهي منطقة حيوية، إستراتيجية، سريعة التقلُّب، فثمَّة حدٌّ للمغامرة بصدقية أميركا، على صعيد الاتساق بين شعاراتها ومرتكزاتها للتدخُّل، على الصعيد الإنساني، والحقوقي، في وقت تتعامى فيه عن تلك الحالة الاحتلالية النافرة، سواء في الأقوال، حيث تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، أو في الممارسات المفرطة القوة، والعقوبات الجماعية الممنهَجة.

——————————–

لبنان.. عن الحرب جنوباً حين تلتفت شمالاً/ مهند حاج علي

2024.02.26

تُثير الحرب الدائرة حالياً في جنوبي لبنان أسئلة عديدة أمامنا عمّا ينتظرنا لو قرر المشاركون فيها وقف القتال خلال أسابيع أو حتى شهور.

قيل الكثير عن أضرار الحرب في الجنوب، على البشر والحجر والاقتصاد، ذلك أن الكلفة ما زالت متصاعدة، وتشمل الآثار البيئية للأسلحة المحرّمة (الفوسفور) التي تستخدمها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق زراعية شاسعة. آلاف المنازل والأبنية تدمرت وهناك حقول احترقت وتربة باتت بحاجة للإصلاح في مساحات شاسعة. مع هذا الدمار، هناك سؤال أساسي ينتظرنا، ويطرحه كثيرون في السياسة، وهو إذا كانت الدولة اللبنانية غير مسؤولة عن هذه الحرب، ولم تتخذ قرار المشاركة فيها، لماذا عليها أن تتحمل كلفة أضرارها؟ وهذا سؤال يُطرح اليوم، وقد يتكرر كثيراً بعد نهاية الحرب.

لكن إلى جانب هذا الحديث في الاقتصاد والأضرار العينية والبشرية، من الضروري اليوم التطرق إلى آثار واضحة في السياسة والأمن لن يمحوها انتهاء الحرب بصفقة أو اتفاق أو شحطة قلم.

في السياسة، من الواضح أن الخلاف على قرار الحرب وتداعياتها والاتفاق على إنهائها، سيتصاعد ومن دون أفق واضح، نظراً لضعف الأطراف المعارضة وعجزها عن الائتلاف. الأصوات الرافضة للانخراط في المواجهة السياسية وربما الشعبية، خافتة الآن، لكن الأرجح أنها لن تبقى كذلك بعد توقف القتال، مع تداعيات مرجحة على التوترات الأهلية.

والواقع الأمني ينسحب أيضاً على السياسة. ذلك أن دخول حركة “حماس” رقعة القتال من البوابة اللبنانية ومعها حلفاؤها من “الجماعة الإسلامية”، ينعكس أيضاً على طبيعة الانقسام، إذ بات في جانب منه أقرب لخلافات الحرب الأهلية، وهي جذرية وتمس فكرة الدولة والكيان وسيادته أو ما تبقى منها طبعاً.

ما الفارق اليوم بين الانخراط في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من بوابة التضامن، وفقاً للخطاب الأول لأمين عام “حزب الله” بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ودعم نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في سنوات ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية؟ أصل هذا الموقف على ارتباط كذلك بالعقد الاجتماعي بين جماعات اللبنانيين والدولة اللبنانية بعد الحرب الأهلية. وهذا نقاش طويل منفصل ومن الضروري إعادة فتحه.

وهذه الحرب أيضاً أعادت السلاح الفلسطيني إلى الواجهة، مع ظهور مسلح لحركة “حماس” خارج المخيمات وداخلها ونشاط علني لا يحظى فقط بتأييد “حزب الله”، بل من لبنانيين خارج بيئته المعتادة. هل يبقى هذا النشاط والوجود على حاله بعد هذه الحرب؟

والحال أن هذا الظهور المسلح في تشييع من سقط في القتال، وفي بعض العمليات في الشطر الأول من الحرب المستمرة، يترافق كذلك مع خطاب سياسي لدى “الجماعة الإسلامية” المنخرطة في المواجهة، وآخرين غيرها، يُشبه خطاب المقاومة بعد عام 2000. من يضبط هذا الاتساع في رقعة من يُسمون أنفسهم مقاومة، وعلى أي أسس وضوابط؟ هذه أسئلة باقية معنا بعد الحرب أيضاً.

وإذا كانت نهاية الحرب مقترنة بما يحدث في قطاع غزة، هل يعني ذلك أننا أمام الإقرار باستراتيجية وحدة الساحات كإحدى وسائل المقاومة، وبالتالي تصير ضمناً في البيان الوزاري ونظامنا الأمني؟ بيد أن هذا الحلف ليس على غرار الناتو أو وارسو مثلاً، وهدفه الدمج بين النفوذ الإقليمي وبين ردع الحرب وحماية دول لم تدخل في صراع لعقود طويلة. هذا الحلف مكون من تنظيمات وجماعات تعيش وتقتات على الحروب والنزاعات، وفي صراع مع دول تعتمد الضربات الاستباقية استراتيجية دائمة. إنها وصفة لنزاعات متجددة لعقود. وهذه أسئلة عن الأمن والاستقرار باقية معنا بعد أي نهاية للحرب.

صحيح أننا اليوم قد لا نكون أمام نهاية حتمية أو وشيكة للقتال جنوباً، لكن أمامنا كومة أسئلة وقضايا قد تكون أشد صعوبة من الأضرار العينية، ومن الصعب غضّ النظر عنها طويلاً.

—————————

رقصة التانغو بين بايدن وإيران.. ليبقى الشرق الأوسط ساحة مضطربة/ رائد المصري

2024.02.23

يبدو المشهد الإقليمي بعد الضَّبط الأميركي له عقب الضربات العسكرية في سوريا والعراق، والتي طالت قواعد عسكرية لفصائل موالية لإيران في تلك البلدان، قد أعاد وجدَّد وأطلق وكالة طهران في المنطقة، من خلال تفاهمات على دور إقليمي لها، يُعاد فيه رسم خريطة الشرق الأوسط من منظار التفاهم الأميركي_الإيراني، بحسب مصادر ديبلوماسية عربية وأوروبية، ومن خلال المقاربة للأحداث الجارية وتطوراتها على أكثر من صعيد، خصوصاً في غزة والعِناد الإسرائيلي بضرورة إخراج الفلسطينيين من رفح، كورقة مساومة قوية باتت تمتلكها تل أبيب في وجه مصر والعرب ومحور المقاومة، وفي حين أن كلّ المِلفّات تبدو منضبطة وفق الخطّة المطلوبة، وحدها سوريا تبدو ساحةً للبَلبلة ومحاولات خلق اجتهادات خاصة، وهو ما يقتضي التدقيق والبحث الجدي في مصير مستقبل هذه الدولة وشعبها المعذب..

هي تطورات تصبغ المرحلة التي تمرُّ بها المنطقة، ما بين القلق الإسرائيلي، وعسكرة متزايدة للبحر الأحمر، وتعليق الفصائل المسلحة في العراق لعملياتها على القوات الأميركية، وضبط حدود الاشتباك بين حزب الله في جنوب لبنان مع إسرائيل، والاستمرار بالسير على هذا المنوال، فيما يدفع الشعب الفلسطيني الأثمان الكبرى من قتل وتنكيل وتهجير ومسْح للقضية، والاكتفاء بمناظرات في محكمة العدل الدولية لمداخلات 52 دولة، لا تُلزم إسرائيل بأية قرارات، حتى لو تمَّت إدانتها في توثيق كامل وشامل وناجز، والمرافق له الفيتو الأميركي الجاهز عند كل مفصل وطريق، وعليه تبدو الصفقة بين إيران وأميركا جاهزة، بانتظار نضوج عواملها ومقبوليتها الشعبية، لتصبح طهران الوكيلة الشرعية والحصرية لسياسات واشنطن وبسط نفوذها في المنطقة، رغم الحديث المُعلن لكن غير الموثَّق لدبلوماسيين غربيين، بأن طهران اليوم تلملم خسائرها وتحدُّ من انهياراتها.

بناء عليه، تلقَّت المنطقة حركتين منسَّقتين عبر هجوم عسكري أميركي، واستيعاب دبلوماسي وسياسي سعودي، وهو ما جعل إيران في مأزق لتعمِّم على أذرعها في المنطقة بضرورة التحلِّي مجدداً بالصبر الاستراتيجي، وكذلك كان مضمون زيارة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت.

فالتطورات المخفية تأخذ أبعاداً عسكرية منظمة في تبادل واضح للأدوار في البحر الأحمر، ‏ في حين بدأت الموجة الثانية من الصراع على المضائق وصارت استهدافات الحوثيين تضرُّ بالصين أولاً ومصر من بعدها، ولذلك ضغطت بكين في مجلس الأمن، وصولاً إلى تصدّرها المسوّقين للقرار الأممي بصدّ ضربات الحوثيين، في حين مصر تردّ بالضغط على حماس للتوصّل إلى تسوية. وبحسب مصادر ديبلوماسية غربية في بيروت، فإن التقديرات تؤكد بأن البحر الأحمر يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى سلاح في المعركة ضدّ إيران نفسها، لتوصف بأنها صارت أشبه بمؤامرة من خلال بعض الأحداث ومفبركة من قبل أميركا وإسرائيل، إذ إنّ معظم السفن المستهدفة بعد سلسلة الضربات الأميركية للحوثيين، هي صينية أو روسية أو من دول أخرى قريبة من طهران، ومنها ما يحمل موادّ مستوردة إلى إيران، أو مصدّرة من روسيا… أي إنّ الطرف الغربي أصبح هو من يفرض الحصار، وهو من يستغلّ إعلام الحوثي بالشكل المعاكس، فالحصار حالياً صار أميركياً إسرائيلياً ولم يَعُد من قِبل الحوثي.

أما في سوريا، فإنَّ أموراً كثيرة وخطيرة تحصل وتتطوّر، عبر استعراض الوقائع المسجّلة والموثّقة وبعد سلسلة القصف الإسرائيلي شبه اليومي، والمرافقة لاغتيالات مسؤولين عسكريين وأمنيّين إيرانيين فيها، اتهمت جهات رسمية إيرانية الروس والسوريين بتسريب معلوماتٍ ساعدت على هذه الاستهدافات، لكنّ المفاجأة كانت باعتقال النظام السوري قيادياً في الميليشيات الإيرانية ومعه 56 من عناصره، وكذلك اعتقال العشرات من عناصر مسلّحين موالين للميليشيات الإيرانية، بتهمة إعطاء معلومات وإحداثيات للضربات الجوّية الأميركية، التي استهدفت عشرات المواقع للميليشيات الإيرانية في دير الزور وريفها. فهذا حكماً يؤشر إلى أمر أو أزمة عميقة تحصل بين النظامين والجيشين القائمين على أرض واحدة.

كل ذلك حصل خلال زيارات وفود سعودية عدّة إلى سوريا بلا مراسم إعلامية، تزامن ذلك مع انسحاب إيراني جزئي من بعض المواقع في سوريا، ورفض النظام السوري اقتراحاً إيرانياً بحلول عناصر من حزب الله مكان المنسحبين، هذا إضافة إلى معلومات عن انتشار وحدات من الفرقة الرابعة لتحلَّ محلّ المنسحبين الإيرانيين، وفي نقاط تمهّد للإمساك بالحدود بين سوريا ولبنان، تلاه انفتاح سعودي على دمشق في مِلف الحج وإعادة تنشيط التنسيق الأمني السعودي معها تحت الطاولة، عبر تسلم وفد الرياض لائحة من الأشخاص المطلوبين في ملفّات تهريب الكبتاغون، في حين كانت وتيرة كشف السعودية لعمليات التهريب ترتفع، وبات النظام السوري بين فكي كماشة عربية ودولية، وسط تأزُّم مكشوف مع روسيا وايران، بعد تركهما النظام فريسة سهلة، أمام الضربات الإسرائيلية المستمرة كقاعدة اشتباك صار الانفكاك عنها صعباً بين الطرفين.

في العراق، تراجعت حكومة بغداد حليفة إيران، وانسحب وكلاؤها كلّياً من المشهد السياسي، بعد تصفية واشنطن لأبرز مسؤول عراقي تابع لإيران، وهو أبو باقر الساعدي، حيث عجز مجلس النواب عن إكمال نصابه القانوني لمناقشة انسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو ما يعني بأنّ رفض إملاءات أذرع إيران هناك، بات يتخطّى السُّنّة والكرد العراقيين، ليبلغ شيعة العراق المحسوبين على إيران نفسها، وهو حكماً من نتائج الهجوم الأميركي، فصار الحديث عن بدء التحضيرات للانتخابات العراقية في الخريف المقبل، وإمكان عودة الرئيس السابق مصطفى الكاظمي بالتحالف مع الزعيم السنّي محمد الحلبوسي، في ظلّ تنسيق حتمي مع أربيل ومقتدى الصدر، وهو يبدو أنه نتاج الحركة السعودية الاستيعابية لهذه التطورات.

أما البحر الأحمر، فهو يتحوّل إلى سلاحٍ في المعركة ضدّ إيران، من دون أن تتوقف الضربات الغربية على اليمن والحوثي، وكلّ ما يحصل في الشرق الأوسط حالياً، من حرب تدميرية_تهجيرية في غزة، إلى خفايا وأسرار ما يدور في دمشق، عبر استقبالها وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، هو نتاج منطق واحد ومدخل واحد، متعلِّق بإنجاز الاتفاق الأميركي الإيراني، على الرغم من تدفّق الأساطيل باتجاه البحر الأحمر، لذا فإنّ واشنطن وحلفاءها يتجنّبون الاعتراف بأنّ الأزمة سببها صراع اليمن، وغياب الدولة لإنهاء العَبَث. وفي حين طهران توحي بقدرتها على التحكّم بالممرّات المائية، تعسكرت منطقة البحر الأحمر وباتت تجوب داخلها الأساطيل الدولية، في وقت ترفض فيه الدول المطلّة على البحر الانخراط في أيّ من التحالفات الدولية المقترحة لحماية الملاحة والدفاع عن سلاسل التوريد. فهذه العسكرة تبدو طويلة الأمد، إذ بدأت دول المنطقة تحمّل جماعة الحوثي وإيران من خلفها مسؤولية التلاعب بمصالحها أوّلاً، وخصوصاً قناة السويس في مصر، وتحويل البحر الآمن إلى فضاء عسكري مزنَّر بالنار، ليكون عرضة للتدخل الدولي الواسع، الذي قد يصبح طويل الأمد ونهائياً.

وعليه، تبدو إيران قد نجحت في تأكيد إطلالتها على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وهو ما سبق أن لوّحت به ممّا يمكن أن تطلقه من أخطار على الممرّات المائية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، واليمنيون ودول المنطقة اليوم، يشتبهون بتواطؤ غربي مع إيران، يمنع بشكل ملتبس فتح ملفّ اليمن، فكل ما يحصل كان لتمهيد الأرض قبل أن تنجح واشنطن في إنجاز تسوية عربية إسرائيلية، بشراكة خليجية وسعودية، بعنوان “المسار لإنشاء دولة فلسطينية”، للبدء بمشروع تنموي اقتصادي شامل.

وباختصار، تحجز واشنطن لنفسها الموقع سلفاً، في أية تسوية في الشرق الأوسط قبل الدخول الروسي الى حلبة التنافس، واستدعاء الفصائل الفلسطينية الى موسكو للتشاور، فهي أقامت حزاماً عسكرياً بحرياً، من بحر العرب إلى المتوسط، تعاونها طهران في ضبط المشهد الإقليمي ومنع انفلاته، مع إعطاء الأفضلية الاقتصادية للرياض في استكمال مشروعها بشروط التطبيع، وكل ما عدا ذلك، تتكفَّل إيران في ضبطه تحت بطانتها الداخلية، فخلال هذه الفترة وحتى الانتخابات الرئاسة في أميركا، المطلوب من طهران المشاركة في رقصة التانغو العسكرية لإعادة انتخاب بايدن، والقبول بضرباتٍ محدودة ومضبوطة، لإعطائه صورة الرجل القويّ، بدَل مجيء ترامب القريب من الكرملين والمعادي للصين وإيران، وذلك يتطلب ضبطاً لحسابات دقيقة في موازين القوى الدولية.. فهذا هو جوهر اللُّعبة في الوقت الراهن، وهذا ما يفسّر الكثير من ألغاز التطوّرات والتباساتها.

———————————

القيود التي تعيق عملية إسرائيلية في رفح/ محمود سمير الرنتيسي

2024.02.22

منذ أسابيع وحتى مع بدايات العملية العسكرية في خان يونس والجيش الإسرائيلي يلوح بعملية عسكرية في رفح على غرار بقية المدن في قطاع غزة من الشمال إلى خان يونس، ويرى جيش الاحتلال أنه يتحتم عليه أن يفكك ما تبقى من بنية كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية في رفح كما أنه يمنّي النفس بالنجاح فيما فشل فيه في بقية المدن وهو العثور على أسراه، كما أن عملية الهجوم على رفح تروق كثيرا للفريق القومي الديني في حكومة نتنياهو والذي يرى أن العملية الأوسع مهمة من أجل سيناريو التهجير.

بداية قد يكون الحديث مضللا عندما يظن القارئ أن العملية العسكرية لم تبدأ بعد في رفح، فمنذ أكثر من 130 يوما تتعرض رفح إلى قصف جوي ومدفعي، وقد خلف القصف مئات الشهداء وآلاف الجرحى وعددا كبيرا من البيوت المهدمة، كما استهدف الاحتلال القوات الشرطية في المدينة بهدف نشر الفوضى في المدينة وتأليب الناس على المقاومة والمقصود هنا بالعملية هو عملية برية لاحتلال مدينة رفح.

مع تأكيد نتنياهو وقادة الجيش والحكومة على ضرورة المضي في عملية رفح فإن هناك جملة من القيود التي تصعب الأمر ومنها الموقف الأميركي الرافض وإن كان ليس بشكل قطعي. وقد بات واضحا أن الأميركان يريدون إنهاء الحرب بأسرع وقت، ولديهم خشية من طول أمدها أكثر من ذلك خاصة أنهم كانوا يريدون انتهاء العملية قبل نهاية العام 2023 في ظل اقتراب موعد الانتخابات وتأثير الحرب عليها في غير صالح إدارة بايدن.

مع الاتهام الموجه لحكومة الاحتلال في محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية ووجود أكثر من مليون ونصف مليون نازح في رفح في ظل وضع إنساني مأساوي فإن أي عملية عسكرية ستجعل الأمور كارثية وستطلق موجة جديدة من الانتقادات والاحتجاجات على الاحتلال، قد يصعب السيطرة على نتائجها في ظل تحذيرات دولية حتى من حلفاء تل أبيب مثل واشنطن وباريس، وهذا الأمر يجعل جيش الاحتلال يفكر كثيرا قبل التوجه إلى احتلال رفح كما فعل في خان يونس وغزة.

من جانب آخر فيما تعد رفح آخر معاقل المقاومة التي لم تمس بنيتها بضرر من قبل الاحتلال بشكل كبير فإن الهجوم على رفح يفتح معه آفاق توسع أكبر للحرب على المستوى الإقليمي، خاصة أن أطرافا إقليمية مثل حزب الله والحوثيين تعهدوا بعدم السماح بالقضاء على المقاومة في غزة وتخشى واشنطن أيضا من هذا السيناريو.

على مستوى ثالث ترتبط رفح بحدود مع مصر ويبقى أحد سيناريوهات أي عملية عسكرية هو توجه موجات من السكان إلى مصر بحثا عن الأمان، وهو ما ترفضه مصر بشكل معلن حتى الآن ولا تريد أن يكون عليها أي تبعات جراء أي عملية عسكرية محتملة في رفح.

تتزايد القناعات لدى الاحتلال أن عددا كبيرا من أسراه موجود في رفح وبالتالي فإن أي عملية عسكرية ستعني المخاطرة بفقدان هؤلاء الأسرى إلى الأبد، وهذا سيزيد من الضغط على حكومة نتنياهو بشكل كبير جدا.

لا يتناقض مع هذه القيود أن يقوم الاحتلال بعمليات استطلاع بالقوة أو اجتياحات لبعض الأطراف في المدينة بهدف تحقيق مزيد من الضغط على طاولة المفاوضات وهذا هو النهج الذي تتبناه حكومة نتنياهو.

كما أن هذه العوائق لا تلغي بالرغم من موضوعيتها وجود تصميم من جيش الاحتلال على المضي نحو رفح لتدمير بنية المقاومة، فهو خيار قد حسمه نظريا منذ 7 أكتوبر، لكن كما ذكرنا فإن هذه العوائق تبطيء من سيره وإذا توفر بجانبها عوامل أخرى مستجدة ضاغطة على الاحتلال فإن إمكانية دخوله لرفح في ظل المعطيات الحالية تبدو صعبة.

—————————–

=========================

تحديث 22 شباط 2024

=====================

العربي الجديد

———————————–

هذا الاستثمار الإيراني في حرب غزّة/ مروان قبلان

21 فبراير 2024

منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإيران لا تكفّ عن محاولات الاستثمار في حرب غزّة لتعزيز وضع نظامها في الداخل، أو لتحسين مواقعها التفاوضية في العلاقة مع الخارج. بدأت إيران هذه المحاولات بعد أن استوعبت صدمة 7 أكتوبر، سواء لجهة نتائجها أو توقيتها، إذ كانت منخرطةً في محاولة جدّية أخيرة للتفاوض مع واشنطن على العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات قبل أن يدخل موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث يلوح شبح عودة ترامب في الأفق ومعه مخاوف العودة إلى سياسة “الضغوط القصوى” التي استخدمها لإضعاف طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018.

ردّ فعل إيران الأولي على هجمات 7 أكتوبر تمثل في الترحيب بها مع “النأي بالنفس” عنها، وهو ما جاء على لسان المرشد مباشرة في اليوم التالي، خوفاً من ردّة فعل أميركية أو إسرائيلية ضد ايران، بعد أن حاول الطرفان تصوير الهجمات وكأنها “11 سبتمبر” إسرائيلية، لكن الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة دفع إلى إعادة إيران النظر في موقفها، فبدأت تنسب لنفسها فضلاً في نجاحات المقاومة، وتلمّح إلى علاقة لها بها، حتى بلغ الأمر بأحد قادة الحرس الثوري أن يزعم إن عملية طوفان الأقصى جاءت رد فعل على قتل أميركا قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في مطار بغداد مطلع يناير/ كانون الثاني 2020، ولو أن العملية تأخّرت قليلا لتتوافق مع الذكرى الرابعة لتصفية سليماني، لوجدنا من يشدّد في إيران على هذه الرواية البائسة، وهو ما لم تتحمّله حركة حماس التي ثارت ثائرتها على محاولات تقزيم تضحيات الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهي التي بدأت قبل مولد سليماني، لا بل قبل ولادة نظام الملالي نفسه في طهران.

محاولات إيران الاستثمار في حرب غزّة، وتجيير الدم الفلسطيني لخدمة أجندتها الإقليمية والدولية (وهي استمرار لسياسة محاربتها بالدم العربي في سورية والعراق واليمن ولبنان وغيرها خدمة لمصالحها)، لم تتوقّف هنا، بل سلكت طريقها المعهودة في تحريك أدواتها الإقليمية، بعيداً عنها، لإحداث حالة من الفوضى، ثم التفاوض مع واشنطن على إعادة الاستقرار، بعد أن تكون قد قبضت الثمن. إذ أوعزت إيران، بعد أن برّأتها واشنطن من أي علاقةٍ بهجمات 7 أكتوبر، لوكلائها في العراق وسورية (من غير الواضح ما إذا كان هذا ينطبق على الحوثيين في اليمن) بشنّ هجماتٍ ضد الوجود العسكري الأميركي في البلدين بحجّة الضغط على واشنطن لوقف الحرب في غزّة، في حين أن الهدف الحقيقي هو دفع واشنطن إلى التفاوض، بما في ذلك على خروجها من العراق وسورية. وكانت إيران تطلب في ذلك كله من حلفائها اتباع استراتيجية شديدة الحذر، بمعنى مهاجمة القواعد الأميركية من دون توليد رد فعل كبير من واشنطن قد تدفع طهران ثمنه. لكن الأمور لم تسرِ دائما بهذا الاتجاه، اذ سقط في آخر هجوم على قاعدة أميركية (البرج 22) شمال الأردن، ثلاثة قتلى، ما تسبّب في هجوم أميركي واسع طاول 85 هدفا للمليشيات التابعة لإيران واستهداف بعض رؤوسها.

هنا تغير كل شيء. وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز الأحد الماضي، أرسلت إيران على عجل قائد عملياتها في المشرق العربي، إسماعيل قاآني، في زيارة سريعة لم يخرج خلالها من مطار بغداد، خشية أن يلقى مصير سليماني، بعد يومين فقط من استهداف البرج 22، وطلب من قادة المليشيات التابعين له وقف كل الهجمات على القوات الأميركية في سورية والعراق “لأن استمرارَها قد يؤدّي إلى هجوم أميركي ضد إيران”. وبالفعل، منذ 4 فبراير/ شباط الجاري، لم تتعرّض القواعد الأميركية في سورية والعراق، بحسب وزارة الدفاع الأميركية، لأيّ هجمات، رغم قتل واشنطن القيادي في “كتائب حزب الله” العراقي أبو باقر الساعدي في السابع من الشهر نفسه. كانت رسالة إيران واضحة هنا: نحن من أطلق الهجمات ونحن من على واشنطن الحديث معه لإعادة الاستقرار الإقليمي. … اللوم كل اللوم في ذلك يقع على عاتق الطرف العربي الذي نأى بنفسه عن قضاياه، وترك إيران “تبيع وتشتري” بالدم العربي.

—————————

أحاديث السلام أم ألعابه في المنطقة؟/ غازي دحمان

21 فبراير 2024

يتناثر الحديث عن مشروع سلام شامل في الشرق الأوسط، تتفاهم بشأنه بعض الأطراف الدولية والإقليمية، بل ثمّة من يذهب إلى أن إطار هذا المشروع بات جاهزاً، وأن ما يجري في العواصم العربية والدولية تعديلات تفصيلية هنا وهناك، لتتناسب مع مصالح الأطراف المعنية وتفضيلاتها.

بدأ الحديث عن هذا المشروع يتبلور في نهاية العام الماضي، أي بعد بدء الحرب في غزّة بشهرين، ونتيجة مخاوف الفاعلين الدوليين من انفجار الأوضاع في المنطقة على خلفية الوقائع الصادمة التي تشهدها غزّة، ووصول التطرّف الإسرائيلي إلى حد تجاوز كل منطق سياسي وعسكري، من خلال طرح تهجير سكان غزّة أو إبادتهم، والخوف من التفاعلات السلبية التي قد تُنتجها الديناميكيات الصاعدة في المنطقة.

جابت عشرات الوفود الدولية عواصم المنطقة، بالإضافة إلى حراكٍ بيْني في العالم العربي، ومفاوضات سرّية تجري في بعض العواصم العربية، ومفاوضات بين مندوبين دبلوماسيين، غير أن ما رشح عن هذه الديناميكية لا يتعدّى وجود تصوّرات عن حل سياسي للقضية الفلسطينية، يتمثل بحلّ الدولتين، لكن ما هي حدوده، وما هي شروطُه، فالأمر ما زال في طور التفاوض.

لكن السؤال البديهي في ظلّ المعطيات الراهنة؛ ما الذي يدفع حكومة إسرائيل الموصوفة بالأشد تطرّفاً في تاريخ الكيان إلى قبول صفقة سلام، في وقتٍ تعمل فيه على هندسة الواقع الفلسطيني في غزّة أولاً والضفة الغربية ومناطق الخط الأخضر ثانياً، من دون وجود أي ضغط عربي أو دولي، أو بلغة أكثر تحديداً، من دون أوراق تفاوضية يملكها هؤلاء في مواجهة حكومة نتنياهو؟ وهل تختلف الظروف الحالية عن المناخ الذي تمّت فيه صفقة أوسلو في تسعينيات القرن الماضي؟

بحسب المعطيات الراهنة، إسرائيل في وضع يسمح لها بالمناورة ومواجهة أي ضغط إقليمي ودولي، إذ هو في الأصل غير موجود بدرجة كافية تجعلها تخضع لشروطه ومتطلباته. وانطلاقاً من ذلك، تمارس تكتيكات إجهاد الطرف الفلسطيني المقاوم واستنزاف قوته وزيادة حجم المعاناة على حاضنته الشعبية، بالقدر نفسه، تمارس سياسة الابتزاز تجاه دول الجوار وتدفعها إلى موقف دفاعي خوفاً من تهجير الفلسطينيين إليها.

على ذلك، لا يبدو السياق الحالي محفّزاً لحكومة نتنياهو على السير في خطّة سلام مع الفلسطينيين، فقد استطاعت، عبر السنوات الماضية، تحييد تطبيع علاقاتها مع الدول العربية من سياق صراعها مع الفلسطينيين، ما أفقد العرب، قبل الفلسطينيين، من وزنهم وتأثير نتيجة حسابات ضيقة إلى أبعد الحدود، ومن دون إدراك أن العامل الفلسطيني بالنسبة للعرب، وإنْ لم يكن مصدر قوّة، يشكّل التخلي عنه انكشافاً خطيراً لهم تجاه القوى المتطرّفة داخلياً وإيران إقليمياً وإسرائيل وأميركا دولياً، إذ من دون البعد الفلسطيني يصبح أي فاعل عربي في تفاوضه مع إسرائيل، حتى واشنطن، من دون مساند حماية، ومجرّد طرفٍ مطلوب منه التمويل أو ضخّ النفط أو تحقيق انفراجاتٍ في مجال حقوق الإنسان، وهو أمر أدركته إيران جيّداً، وتعرف كيف توظفه في خدمة مشروعها الجيوسياسي في المنطقة.

السؤال الآن، هل هذه الظروف مناسبة للتفاوض بشأن حلٍّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بين طرفٍ يسعى إلى إنقاذ وجوده من خطر الفناء والتهجير، وطرفٍ آخر يرسم ويخطّط ليوم تالٍ يحصل فيه على الجوائز الكبرى المتمثلة بإعادة المستوطنات إلى غزّة، والحصول على ترتيباتٍ أمنية تضمن أمنه وسلامه لأجيال قادمة؟ ثم هل ثمّة ملامح استشفّها القائمون على تصميم صفقة السلام، عن تغيّر في النسق العقدي لدى عتاة المتطرّفين في حكم إسرائيل؟ هل وصلوا إلى إدراك أن السلام أقلّ تكلفة من الحرب إلى درجة أن الوصول إلى تسوية ستكون مكسباً لهم؟ الجواب بالطبع لا، ولن يجري الوصول إلى هذه المرحلة، وأي صفقة سلام يجري العمل عليها، بناء على الوقائع لن تكون سوى القضاء على ما تبقّى من حلم إقامة الدولة الفلسطينية.

تحتاج صفقة السلام الموعودة، لكي تحقّق للفلسطينيين الحصول على حقوقهم إلى متغيّرين، الأول: انسحاب أميركا من المنطقة، وانكفائها نهائياً عن التفاعلات الحاصلة فيها، عندئذ ستبحث إسرائيل مرغمةً عن البحث عن بدائل تؤمّن لها الاندماج في المنطقة وتؤمّن لها الحماية، في ظل واقع تغيّرت فيه معايير قوة الدول وظهور أنماط جديدة من الأسلحة اخترقت كثيراً التوازنات السابقة. الثاني: تجميد العلاقات العربية مع إسرائيل، ووقف تنفيذ الاتفاقيات معها، وثمّة فرصة مناسبة لعمل ذلك، تتمثل أولاً بأفعال إسرائيل التي تجاوزت الحد تجاه شعب عربي شقيق، وإدانة محكمة العدل الدولية ممارسات إسرائيل، وهي مرجعية مهمّة للقانون الدولي، بالإضافة إلى رأي عام عربي، كشفته عدة استطلاعات للرأي، يؤيد قطع العلاقات مع إسرائيل، وسيشكّل هذا الموقف ورقة تفاوضية مهمة بيد الدول العربية في مواجهة إسرائيل قد تتحصل منه على مكاسب أمنية وسياسية تحصّلها من واشنطن، مقابل صفر خسارة قد تلحق بها جرّاء تجميد علاقاتها مع إسرائيل.

إلى حين تحقق هذين المتغيرين، أو أحدهما، تبدو أحاديث السلام وصفقاته نوعاً من الألعاب التي تعمل إسرائيل إلى استدراج الآخرين للتورّط بها، ولتحقيق مكاسب يبدو أنها غير قادرة على تحقيقها بالحرب وحدها.

————————-

غزّة والمأزق الأميركي/ علي العبدالله

21 فبراير 2024

دخل التحرّك السياسي الإقليمي والدولي لإيجاد مخرج للمواجهة الدامية بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبقية حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة حالة استعصاء، على خلفية الرفض الإسرائيلي للمعروض بشأن تبادل الأسرى والمعتقلين في إطار صفقة هدن طويلة تقود إلى وقف إطلاق النار، والدخول في خطة لتنفيذ حلّ الدولتين.

لا تكمن معضلة الإدارة الأميركية في عدم نجاحها في تليين موقف نتنياهو ودفعه إلى قبول تصوّرها المعلن عن حلّ الدولتين، بل في تصوّرها لمستقبل الإقليم وتوازناته الجيوسياسية والجيوستراتيجية، فالاستراتيجية الأميركية قائمة على الاحتفاظ بهيمنتها وسيطرتها على البحار والمحيطات، الممرّات البحرية بشكل خاص، وعلى التحكّم بالتفاعلات الإقليمية والدولية، لذا عملت على دمج إسرائيل في الإقليم ومنحها دوراً قيادياً مقرّراً، على خلفية دورها في خدمة المصالح الأميركية، عبر عمليات تطبيع عربية معها بذريعة مواجهة التوسّع الإيراني واختراقه المجتمعات والدول العربية، عبر أذرعه المذهبية، وما عمله النظام الإيراني لتحقيق هيمنة وسيطرة شاملة في الإقليم. وقد وجدت الولايات المتحدة في ترهل الأنظمة العربية وتآكل قدراتها على صيانة استقلالها وحماية مجتمعاتها من التغلغل الإيراني فرصة لترويج التطبيع تحت شعار تشكيل جبهة موحّدة لمقاومة إيران، تم التطبيع مع عدة دول العربية في فترة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الإمارات والبحرين تحت هذه الذريعة، والمغرب والسودان لاعتبارات خاصة بكل منهما، وحاولت الإدارة الحالية استكمال العملية بضم السعودية إليه، لما لذلك من تأثير قوي على موقف بقية الدول العربية والإسلامية، لكن بتجاهل تام للقضية الفلسطينية ولتطلعات الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، حيث همّشت خلال مفاوضات التطبيع مع السعودية مطالب الفلسطينيين. ولكن عملية التطبيع لم تتقدّم بسلاسة، خصوصاً على المسار السعودي، لاعتباراتٍ تتعلق بطلبات المملكة الخاصة: اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة تلتزم فيها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية، بيعها أسلحة متطوّرة، وبرنامج نووي مدني، بما في ذلك دورة تخصيب كاملة. أخذت الإدارة وقتا كي تقنع إسرائيل بالمطالب السعودية خاصة بالبرنامج النووي ودورة التخصيب، ما عنى القفز على القضية الفلسطينية؛ فقد قلّل القادة السعوديون في المفاوضات مع المسؤولين الأميركيين بشأن التطبيع مع إسرائيل من أهمية المطالب المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وأصرّوا فقط على “التقدّم” نحو حلّ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو أمر غير مضمون العواقب، بعد تجربة المفاوضات الطويلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي استمرّت عقودا من دون أن تقود إلى حلٍّ يحقّق مطالب الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحكم ذاته، قبل أن تخلط عملية طوفان الأقصى الأوراق، وتضع الجميع أمام ساعة الحقيقة بإعادة القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي بقوة.

جاءت لاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: لا للسلطة الوطنية الفلسطينية، لا لإقامة دولة فلسطينية، لا لخطّة اليوم التالي، مع إصراره على السيطرة الأمنية على كامل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، وعلى اجتياح رفح وتحقيق “النصر المطلق”، جاءت لتحوّل المشهد السياسي إلى مأزق خانق، واضعا الإدارة الأميركية في موقف حرج، فالإدارة التي تحاول منع توسّع الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية بحاجة إلى هدنة طويلة علّها توقف المناوشات مع أذرع إيران في سورية والعراق والبحر الأحمر، وتوقّف المناوشات بين حزب الله وإسرائيل على الحدود اللبنانية، وتنفس الاحتقان الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، وتحتوي ردود الأفعال المتصاعدة في الكتلة الناخبة التقدمية والشبابية في الحزب الديمقراطي المستاءة من موقف الإدارة الداعم للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وتغذية حملة الإبادة الجماعية بالسلاح والمال والسياسة. وفي الوقت نفسه، لا تريد الضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول بصفقة تبادل الأسرى، والدخول في هدنة طويلة تنفيذا لتصوّرها عن اليوم التالي الذي ينتهي بحلّ الدولتين، بحيث تظهر كمن يتدخّل في قرارٍ يتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، كي لا تستفزّ مؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة، وهي على أبواب حملة انتخابية رئاسية صعبة. وقد زاد موقفها دقّة وجود إجماع إسرائيلي على رفض حلّ الدولتين، أبدى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، وزعيم المعارضة يئير لبيد، وزعيم حزب أزرق أبيض الوزير في مجلس الحرب بني غانتس، انزعاجهم من دعوتها إلى حلّ الدولتين، وطالبوها بالتوقّف عن الدعوة علنا، فالدعوة غير مقبولة بعد هجوم حركة حماس على غلاف غزّة في 7 أكتوبر/تشرين الأول وقتلها المئات، وأخذها رهائن مدنيين وعسكريين، فالرأي العام الإسرائيلي ليس في وارد تفهم دعوة كهذه أو قبولها بعد هجوم “حماس”، وهو مع مواصلة الحرب حتى القضاء على “حماس”، كي لا يتكرّر الهجوم على غلاف غزّة، وفق ما كتبه معلقون ومحلّلون إسرائيليون.

لقد وجد الرئيس الأميركي نفسه على مفترق طرق، حيث الضغط على إسرائيل وإجبارها على قبول صفقة تبادل الأسرى وتبعاتها ستضعه في مواجهة اللوبي اليهودي، وتأثيره الكبير في الانتخابات، وتغاضيه عن الوحشية الإسرائيلية وجرائمها ضد المدنيين في قطاع غزّة سيُفقده أصوات العرب والمسلمين والتقدّميين في الحزب الديمقراطي، فلجأ إلى إدارة الأزمة عبر تكتيك سياسي من مستويين، أول قائم على مواصلة دعم إسرائيل بالأموال والأسلحة، وآخرها مساعدات عسكرية بعشرات ملايين الدولارات، تشمل آلاف القنابل والذخائر المتطوّرة والدقيقة لضرب الأنفاق، وتزويد إسرائيل بآلياتٍ عملاقة لتسوية الأرض لإنشاء منطقة عازلة مهجورة وغير قابلة للعبور على طول الحدود مع قطاع غزّة، في تناقض صارخ مع إعلانها رفض تقليص مساحة القطاع، ورفضها دعوات إلى وقف إطلاق النار، على الرغم من مطالبة نصف الدول بذلك. قالت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد إنها ستستخدم حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار جزائري يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية. ومستوى ثان بالدعوة إلى قيام دولة فلسطينية بعد توقّف الحرب، دولة منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزّة، على أن يتم تحديد حدودها عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وسرّبت إلى الصحف الأميركية أنباء عن تكليف وزارة الخارجية فريق عمل لدراسة إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية في الفترة القريبة الآتية. وهذا على أمل استرضاء الطرفين ومؤيديهما لاحتواء التفاعلات السلبية الماثلة، وتبريد المشهد قبل الدخول في أجواء الحملة الانتخابية.

لم ينجح تكتيك الإدارة في اختراق الرفض الإسرائيلي لقبول الصفقة والدخول في هدنة طويلة، تمهيدا للدخول في حلّ الدولتين مقابل تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في حاجة لمواصلة الحرب، كي لا يفقد تأييد حلفائه في الوزارة، وينهار الائتلاف الحاكم، ويذهب إلى انتخابات مبكّرة نتيجتها في غير صالحه، وقادة الجيش بحاجة لمواصلة الحرب والخروج بصورة منتصر لردّ الاعتبار إليهم بعد الهزيمة القاسية والمذلّة التي ألحقتها بهم حماس في هجومها على غلاف غزة، فلجأ كل منهم إلى التصعيد في قطاع غزّة والضفة الغربية، ووسع حدود ضرباته في لبنان، ونفّذ هجماتٍ على خطّي أنابيب غاز رئيسيين في إيران، تسببت في تعطيل تدفّق الغاز إلى محافظاتٍ إيرانية يقطنها الملايين، في محاولة لاستدراج ردود أفعال كبيرة، ودفع الحرب نحو حربٍ إقليمية تضطر الولايات المتحدة إلى الانخراط فيها أو خلط الأوراق، والدفع نحو خياراتٍ محدّدةٍ تريدها على أقل تقدير، فالحكومة الإسرائيلية مصرّة على موقفها لأن تصورها للحل يختلف جذريا عن هذه الخطة، فهي مع دولة يهودية خالصة، ما يعني تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزّة، وتمتلك أوراقا قوية في مواجهة الضغط الأميركي: اللوبي اليهودي القوي في الولايات المتحدة وعلاقتها العميقة مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)؛ خصوصاً أنها لم تشعر بجدّية هذا الضغط، حيث لم تنقطع المساعدات المالية والعسكرية والسياسية الأميركية، من جهة، ومراهنتها، من جهة ثانية، على حاجة الولايات المتحدة لها وصعوبة الإضرار بدورها الوظيفي وبقدرتها على القيام بهذا الدور في الإقليم خدمة للمصالح الغربية. حاولت الإدارة الأميركية التغطية على فشلها في جلب إسرائيل إلى طاولة التفاوض بشأن صفقة الرهائن وعملية اليوم التالي، بتسريب أنباء عن خلافات بايدن مع نتنياهو وعن الأوصاف التي أطلقها الأول على الثاني، “أحمق” “سيئ”، وبتكرار الدعوة لحماية المدنيين وإدخال المساعدات إلى غزّة. وهذا بالإضافة إلى عدم وجود قوى ضاغطة على الإدارة الأميركية للوفاء بوعودها الفلسطينية، فدول عربية كثيرة ترى “حماس” أخطر عليها من إسرائيل، وهذا يدفعها إلى التفريط بالحقّ الفلسطيني مقابل التخلص من “حماس”، ومعظمها بحاجة للولايات المتحدة حامية ومعينة ومصدّراً للأسلحة والتقنيات. حتى مليشيات محور المقاومة، الذي حرّكته إيران لزيادة الضغوط على القوى الإقليمية والدولية وإسرائيل لإنهاء العدوان على غزّة وحماية سلطة “حماس”، لم تنخرط في المواجهة بقوة وشمولية، حرصا منها على “البقاء”، وتفضيلها المكاسب المحدودة على الخسائر الحاسمة، وفق تحليل لمنتدى الخليج الدولي.

واقع الحال أن الإدارة الأميركية في مأزق كبير، على خلفية خسارتها صورتها مدافعة عن حقوق الإنسان، خصوصاً لدى دول الجنوب العالمي وشعوب العالمين العربي والإسلامي، ولدى قطاعات واسعة من الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية؛ ولعبتها بالوعد بدولة فلسطينية لكسب الوقت والمماطلة سنوات لن تجدي نفعا في تحسين صورتها، بعد أن وضعت نفسها في موقع المؤيد وشريكة في حرب إبادة جماعية ضد شعبٍ يعاني من الاحتلال والقهر منذ عقود.

—————————

حاجة منطقتنا إلى الوساطات لا الحروب/ عبد الباسط سيدا

20 فبراير 2024

تعيش منطقتنا أجواء عاصفةً تُنذر بانهيارات وفيضانات سياسية تهدّد دولها ومجتمعاتها التي عانت كثيراً على مدى عقودٍ من الانقلابات والنزاعات والحروب والمخاوف من المجهول القادم. يؤكد مشروعية هذه الهواجس وجود جروحٍ مفتوحةٍ تنزف بغزارة، تتمثل في مئات آلاف من الضحايا والمعوّقين والمغتصبات والمغيبين؛ إلى جانب ملايين من المهجّرين والنازحين والمشرّدين. وهناك الاستنزاف الاقتصادي الذي يبدّد موارد المنطقة، ويوجّهها نحو ميادين لا تخدم مصلحة الأمن والاستقرار والتنمية فيها. ويدفع ذلك كله الشباب نحو البحث عن فرصهم في بلاد الآخرين لتخسر بلدانهم الأم مواردها البشرية التي لا استغناء عنها في أي عملية نهوض سلمية، تكون في صالح شعوب المنطقة ودولها من دون أي استثناء.

وهذه الأجواء هي حصيلة منطقية لواقع الاستقطاب وعدم الاستقرار الذي يخيّم على العالم بأسره، نتيجة تعارض التوجّهات والحسابات بين القوى الكبرى، لا سيما بين روسيا والولايات المتحدة. إذ تريد الأولى العودة إلى نادي القوى العظمى من البوابة العسكرية من خلال تهديد الأمن العالمي، والتلويح بقدرتها على تفجير الأوضاع في مناطق عدة، منها: أوروبا حيث الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرّة منذ نحو عامين تحت اسم “العملية العسكرية الخاصة”، وفي جنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط بطبيعة الحال عبر وجودها الفعلي أو من خلال تحالفها الوظيفي مع النظام الإيراني. هذا في حين أن الثانية تصرّ على الاحتفاط بدور القوة الأكبر اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً على الصعيد الكوني.

وفي سياق ما نحن بصدد تناوله هنا، نرى أن الحرب الإسرائيلية على غزّة بعد العملية التي نفذتها حماس بالتعاون مع “الجهاد الإسلامي” تحت اسم طوفان الأقصى فرضت واقعاً جديداً متعدّد الاحتمالات، وذلك يتوقف على الموقف الدولي العام؛ سيما الغربي ببعديه، الأميركي والأوروبي، والتفاعلات التي ستكون ضمن المجتمع الإسرائيلي نفسه؛ ويُضاف إلى ذلك طبيعة التعامل الفلسطيني مع التحدّي الوجودي الذي يستوجب ارتقاء بالموقف الوطني الفلسطيني ليكون قادراً على مواجهة الضغوط؛ وفي موقع المؤهل لطرح المبادرات التي تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وتراعي، في الوقت ذاته، واقع الاستقطاب الإقليمي والدولي وانعكاساته وتبعاته وأبعاده.

ومن بين الاحتمالات المتوقعة لمآلات المأساة التي يعاني منها الفلسطينيون، خصوصا الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى في غزة هناك ثلاثة احتمالات رئيسة متوقعة: أولاً، تهدئة الأوضاع تحت شعار إنعاش “حلّ الدولتين” الذي كان في طريقه نحو النسيان والتلاشي في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهناك اليوم خشية لتجاوزه مجدّداً في حال نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل؛ هذا مع أهمية الأخذ بالاعتبار ضرورة اتخاذ خطوات جادّة ملموسة، حتى يمتلك هذا الحل المطروح المصداقية، ويمكّن الطرف الفلسطيني من التعويل عليه. ويتشخص الاحتمال الثاني في ما يلوّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في محاولة لإنقاذ حكومته من التداعي، وإنقاذ نفسه من المحاكمة والحكم القضائي، وربما الخروج الكامل من الحياة السياسية. ولذلك يلجأ إلى التهديد بمزيد من التدمير، والتهجير، وحتى محاولة إلغاء فكرة وجود قطاع غزّة ضمن الخريطة الجغرافية السياسية الفلسطينية تحت ذريعة محاربة حركة حماس، وإخراجها من دائرة الفعل السياسي الفلسطيني. وقد يتمظهر الاحتمال الثالث في عملية تجميد الوضع بعد التوصل إلى هدنة طويلة سيفسّرها كل طرف انتصاراً له، ويهدّد، خصوصاً من نتنياهو وحكومته، بتفجير الأوضاع في الوقت المناسب.

ومن الملاحظ في هذا المنحى أن الموقف التصعيدي الذي يعتمده نتنياهو يتكامل بهذه الصيغة أو تلك مع الموقف الإيراني الذي يسعى إلى جمع النقاط بغية صرفها لاحقاً على مائدة المفاوضات مع الغرب. ولتحقيق ذلك لجأ النظام الإيراني، ويلجأ، إلى أسلوب تفجير الأوضاع عبر أذرعه في العراق وسورية ولبنان واليمن، الأمر الذي أدّى إلى نشوب أزمة تجارية عالمية، وهدّد استقرار إقليم كردستان العراق الذي يعد أساساً لاستقرار العراق، وبوابته المستقبلية على الاستقرار الإقليمي والدولي. ولعله من المناسب أن يُشار هنا إلى سياسات الإقليم (كردستان العراق) المستقرّة الناضجة من جهة فتح أبوابه أمام سائر المكوّنات المجتمعية العراقية التي تعيش فيه بأمان ووئام؛ كما أنه على علاقة وثيقة مع مختلف التيارات والقوى السياسية العراقية، ويلتزم في تعامله معها سياسة معتدلة هادئة، تتمفصل حول نهج حل الخلافات والإشكالات بالحوارات والتفاهمات، وبعيداً عن الاستقطابات والتفجيرات الإرهابية. كما يرتبط الإقليم، في الوقت ذاته، بعلاقات فاعلة متوازنة مع الدول المحورية، على المستوى الإقليمي والصعيد العالمي. ويصبّ ذلك كله في مصلحة العراق، ومصلحة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.

وربما سيكون من المفيد التنويه هنا بأهمية دور إقليم كردستان في ميدان الوساطات وقابلية القيام بمزيد منها؛ وهو الدور الذي يتقاطع، في أوجه عديدة منه، مع الدور القطري النشط في ميدان الوساطات لحلحلة العقد الصعبة. مع ضرورة الإشارة في هذا المجال إلى أن هذا الدور أكثر حيوية وتأثيراً لأنه، في نهاية المطاف، يخصّ دولة ذات سيادة، تمتلك إمكانات مادية كبيرة، ورؤية مستقبلية تمكّنها من توظيف تلك الإمكانات لصالح نهضة شعبها، واستقرار المنطقة، لقناعتها التامة بأن العلاقة بين الموضوعين تضايفية متبادلة التأثير. وفي جميع الأحوال، سيكون التكامل والتفاعل بين الدور القطري ودور إقليم كردستان العراق، وحتى مع الدور العُماني المعهود، في مصلحة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، فلإقليم كردستان هو الآخر دوره المهم ووزنه على صعيد إمكانية التواصل والتوسّط، بحكم علاقاته القديمة، وفي مختلف المراحل، مع دول الجوار المحورية. ويُشار هنا بصورة أساسية إلى تركيا وإيران ودول الخليج لا سيما السعودية والإمارات وقطر نفسها، والأردن، وغيرها. وقد قام ممثلو الإقليم في الحكومة العراقية بدور حيوي للتقريب بين وجهات نظر الفرقاء العراقيين؛ وكانت لهم جهودٌ لافتة من ناحية الوساطات الإقليمية، خصوصاً بين إيران والسعودية. وهم مؤهلون لإنجاز عمل إيجابي بين تركيا وجوارها العربي والكردي، وبينها وبين كردها للوصول إلى حل عادل مقبول للقضية الكردية ضمن إطار الوحدة الجغرافية والسياسية للبلد، وهو الأمر الذي سيكون لمصلحة الجميع، وفي مقدمتهم تركيا نفسها التي ستتفرّغ لتجاوز مشكلاتها الاقتصادية، وتتحوّل، بناء على مؤهلاتها، إلى رافعة تنموية تساهم مع القوى الإقليمية الرئيسة الأخرى في نهضة المنطقة وازدهارها؛ وسيساهم ذلك كله في ضمان مستقبل زاهر لأجيالنا المقبلة.

منطقتنا في حاجة إلى حوار عقلاني، يقطع مع نزعات التجييش الشعاراتية والشحن المذهبي الطائفي والقومية، وسيؤدّي ذلك كله، في حال تحقّقه، إلى تمكّن أطراف هذا الحوار من معالجة العقد المزمنة بعقلية مفتوحة إيجابية، تتقبّل الآخر المختلف، وتهيئ السبل للدخول في حوارات بغية التوصل إلى تفاهماتٍ معه؛ تكون مقدّمة لبلورة معالم واقع جديد يقوم على أساس احترام سيادة مجتمعات ودول المنطقة، وعدم التدخّل في شؤونها، واستثمار الموارد الطبيعة والبشرية بحكمة وعقلانية، وضمان توظيفها بصورة متوازنة لمصلحة تطوير الميادين الإنتاجية والثقافية والحضارية، وبالمعنى الأوسع لهذه المصطلحات.

قطعت أوروبا مع نزاعاتها المذهبية، وحدّدت العلاقة بين الدولة والدين على أساس الاحترام المبتادل، وضمان حرية التعبير من دون أي مساس بمعتقدات المواطنين التي تُمارس هي الآخرى بحرية، ويراعي كل طرفٍ احترام معتقدات الطرف الآخر. كما تجاوزت أوروبا واقع التعصّب القومي الذي كان السبب في اندلاع حربين عالميتين، كلفتا شعوب القارّة الملايين من الضحايا، وتمكّنت من الوصول إلى اتحاد عام يجمع بين شعوب غرب القارّة وشرقها، وهو اتحاد يجدّد اليوم نفسه رغم كل المخاطر التي تهدّده من أصحاب الأحلام الإمبراطورية والنزعات القومية المتطرفة.

ومنطقتنا هي الأخرى في حاجة ماسّة إلى حلول إبداعية عقلانية شجاعة، تضع حدّاً للحروب والآلام والمآسي، وترسّخ في أذهان الشباب ثقافة الحياة المتفائلة المنتجة، لا ثقافة الموت العدمية؛ ويستوجب ذلك كله الحوار والتفاهم، وبلورة معالم فكرة مؤتمر إقليمي دولي جامع يكون منصّة لمناقشة جميع القضايا، والتمعّن في كل الهواجس؛ وإيجاد المناخات القابلة لتعزيز الثقة بين مختلف الأطراف المتنازعة، وتكريس الاطمئنان المتبادل المتفاعل بينها عن طريق مشاريع تنموية ترنو نحو المستقبل، وتتجاوز مخاطر النكوص إلى الماضي المتخيّل، فقد أثبتت التجارب كلها منذ ما يربو على القرن أن النفخ في رماد الماضي لن يؤدي سوى إلى حرائق جديدة تلتهم الكثير من إمكانات المنطقة الهائلة، وهي تؤهلها لأن تكون من أكثر مناطق العالم ازدهاراً وتقدّماً على الصعيد الاقتصادي، وأغناها من جهة التنوّع الثقافي والحضاري.

—————————

الرقص الخطير بين إسرائيل وحزب الله/ فاطمة ياسين

18 فبراير 2024

من الواضح أن ثمّة قراراً داخل إسرائيل بمواصلة الحرب على غزّة، بإجماع يعكس رغبة إسرائيلية بإحكام السيطرة على المدينة الساحلية، وإن بإعادة الاحتلال المباشر. ولا يبدو أن نتنياهو سيستسلم لضغوط الإدارة الأميركية التي يطلق مسؤولوها تصريحاتٍ تنتقد الاستمرار في الحرب من دون أخذ المدنيين بالاعتبار، ويشكِّل التهديد الإسرائيلي بمواصلة الهجوم نحو رفح المحاذية لمصر خطراً وشيكاً يمكن أن ينشأ عنه ضحايا بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات الحالية، خصوصاً أن رفح كانت الملاذ الأخير لكل من انتقل من الأماكن الساخنة في وسط غزّة وشمالها، وهي تؤوي اليوم حوالي المليون ونصف المليون فلسطيني.

يقاوم نتنياهو مطالبات بايدن، ويقدّم له خططا لإخلاء سكان رفح بنقلهم إلى مخيّمات تبنى لهم على شاطئ البحر غرب غزّة، باعتبار ذلك يوفر وسيلةً آمنة تجنّبهم التعرّض لنيران الحرب، ويتأخّر الهجوم ريثما يقنع الجانب الإسرائيلي بايدن بهذه الخطة، أو يقدّم له بديلا مرضيا، ولكن نتنياهو، من جهة أخرى، يحتاج لتحقيق نصر كامل غير منقوص من دون تأخير كبير، فيما يرزح بايدن تحت ضغوط انتخابية قوية، ويرغب “بتملق” الناخبين المسلمين وإرضاء جمهور أميركي أصبح يرى وحشية إسرائيلية في الحرب. يشجّع وجود حزب الله في الشمال نتنياهو ليجد مخرجا من أزمة الوقت، فهو لا يصعّد الهجوم على لبنان ليرقى إلى إعلان حربٍ مستمرّة، ويكتفي بهجماتٍ متقطّعة، ورغم إخلاء المستوطنات الشمالية حتى لا تشكّل ضغطا عليه، نرى نتنياهو يردّ على هجمات حزب الله بطريقة مركّزة، راح ضحيتها أكثر من مائتي فرد من أعضاء الحزب، بمن فيهم قيادات ميدانية، جاءت إحداها أخيراً ردّا على هجوم صاروخي على صفد، ومن اللافت للنظر أن حزب الله لم يتبنَّ الهجوم، رغم أنه يحمل البصمة التي تطبع عملياته كلها.

من الواضح أن التكتيك الذي اتبعه حزب الله في التعامل مع إسرائيل بعد الهجوم على غزّة يعتمد على الوقوف على الحافة الحادّة، من دون الانزلاق إلى المواجهة الشاملة التي تعيد حكاية العام 2006، عندما واجه جنوب لبنان هجومَ الجيش الإسرائيلي، وقُصفت مواقع حزب الله بقوة، ولم تتوقف الحرب إلا بقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية بالإجماع، وينصّ على ضرورة تراجع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، وهو القرار الذي لم يُنفذ، وأرسيت، عوضا عنه، قواعد غير مكتوبة بين الحزب وإسرائيل. ويحاول نتنياهو إقناع جمهوره بأنه يسعى إلى فرض تنفيذ القرار الدولي، لكن أمر الحرب مع لبنان يبدو أنه ما زال تحت السيطرة، حتى بعد التصعيد الذي قام به أخيراً حزب الله، فأوقع قتيلا وجرحى إسرائيليين في صفد، وردّت إسرائيل بقتل مسؤول كبير من حزب الله، وأعقبه خطاب سريع من نصر الله، كرّر فيه التهديدات وبعض المقولات السابقة، من دون أن يحتوي كلامه ما يوحي بدخول عوامل جديدة على ثوابت سلوكيات حزب الله تجاه إسرائيل.

يكاد خطاب نصر الله، بعد ساعات من مقتل القيادي في الحزب علي الدبس، يشبه خطاب الرابع من يناير هذا العام بعد ساعات من اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، وهذه معطيات تدلّ على أن الهجوم المرتقب على رفح يمكن أن يمرّ من دون قرارات تصعيدية كبيرة من قائد حزب الله، الذي يبدو كأنه سياسيٌ يحاول أن يتجنّب حربا جديدة تشبه حرب 2006، لأنها قد تؤدي هذه المرّة إلى إبعاد الحزب فعليا عن الجنوب، ما قد يجعل المعادلة اللبنانية تختلّ بشدة لغير صالحه، خصوصاً أن إسرائيل تبدو مستعدّة لحرب تزيد مدّتها عن شهر، وهي المدّة التي استغرقتها حرب تموز 2006.

———————————

سورية التي تبدو كجثّة/ عمار ديوب

17 فبراير 2024

لم يعد نظام دمشق، المستبد، يدير السياسة في سورية، أو أنَّ له دوراً في السياسة الإقليمية، كما قبل 2011. صار ملحقاً للسياسات الإيرانية والروسية بعد ذلك العام، وبتتالي الأعوام، ووصولاً إلى 2024 أصبح جثّة وتنتظر الدفن؛ فقط يعيق ذلك أوصياؤها، والمتدخلون الدوليون والإقليميون.

بعد طوفان الأقصى، وابتعاده عن التضامن مع غزّة وفلسطين، تبدى نظام دمشق كأنّه ينتظر مكافأة لدوره هذا. ينتظر أن يُعاد تعويمه عالمياً ودولياً؛ هي أوهام محضة، ورغم محاولات كلٍّ من السعودية والإمارات إسناده كي لا يسقط، وقد أرسلتا سفيريهما إلى دمشق، وربما يبحثان له عن صفقةٍ ما مع الدول المتدخّلة في سورية، فإنهم يسيرون بخطوات خاطئة، حيث لن تشتريها الدول المتدخّلة، والنظام بحكم الميّت؛ فلا الدولة الصهيونية بقادرة، وهي في أسوأ حالاتها، وأتت الدول الغربية لإسنادها بدورها، وليس من صفقةٍ ستتقبلها إيران وستتنازل بموجبها عن حصصٍ لها في سورية، وهي المتوهمة بأنها ستظلُّ مهيمنة، وتركيا مقيدة بسياسات الروس والأميركان بما يخص سورية، والأخيرتان ليستا في وارد الاتفاق على ذلك التعويم، وكذلك لا تضعان خطة لإنهاء الوضع المتعفن في سورية.

مؤلم للغاية ألّا يرى السوريون أملاً في نهاية النفق، وأن يروا أن النفق يزداد عتمة وغياباً لأي سيناريو ما لنهوض بلدهم. لا يصح الكلام عن تبعيّة النظام وضعفه الشديد، من دون الكلام عن ضعف المعارضة السورية، الرسمية والممثّلَة في الائتلاف الوطني ومن خارجها، وحتى انتفاضة السويداء لم تستطع انتشال سورية، وبدت وحيدة في مسارها الذي يقترب من النصف عام، وتبدو منهكة في الأشهر الأخيرة؛ لم يهتم بها بقية السوريين، ولا الدول المتدخّلة. والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة لا يمتلك أيَّ مشروعٍ وطني أو أيّة شرعيةٍ، دولية أو إقليمية، وتقتصر نشاطاته على بعض الاجتماعات واللقاءات في مناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا.

غير النظام والمعارضة، هناك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام، والاثنتان تتنافسان في السوء مع النظام، وتتبنيان أنظمة شمولية، واحدة تسمّيها ديمقراطية والأخرى إسلامية. لا تحوز الاثنتان على صفة الوطني، ولا تمتلكان مشروعاً لبقية سورية، وموقفهما من التدخّل الخارجي هو التبعية لهذه الدولة أو تلك. “الأنظمة” السورية هذه تكمّل دور سلطة دمشق في التبعية، وتفسيخ البلد. وعدا عن الأزمات الشاملة، هي تعيق ولادة أيّة قوى وطنية وعابرة للسوريات تلك، أو تحاول طرح الأسئلة السورية الصعبة، والتي تبدأ بكيف يجتمع السوريون على مؤتمر للخلاص، وإنهاء الأنظمة تلك، والتدخّلات الخارجية، والنهوض بكل جوانب الحياة السورية. المفجع أن هذا السؤال لا يتبنّاه الفاعلون السوريون؛ فالجميع أصبح بدوره كجثةٍ وتنتظر الدفن؛ لأسباب داخلية، ولما يجري في غزّة من تدميرٍ لمدنها أو مجازر تُرتكب بأهلها، وقد قاربت مأساتها على الخمسة أشهر، والقتلى والجرحى فاقت أعدادهم المائة ألف.

النظام الذي حاول أن يغيّر من آلياته في الأشهر الأخيرة “ضمن أجهزة الأمن وحزب البعث والرئاسة والجيش وحتى اتحاد الطلبة” منقسمٌ على نفسه، والشخصيات الرئيسية مختلفة التوجّهات، والتبعية (الرئيس، أخوه، زوجته). وربما يوضح هذا الانقسام غياب الخطة الفعلية للإصلاح، وبالتالي، هي محض تزجية للوقت. إنّه، لا يستطيع تغيير موقع التبعية من إيران للسعودية وللإمارات وللأردن ومصر مثلاً، وضمن مسار الخطوة خطوة. المسار العربي هذا لا يحمل الخير لسورية، هو مسار أنظمة لا تقيم وزناً للديمقراطية، ولا تمتلك مشاريع للنهوض، ولن يكون تفسيرها القرارات الأممية المنصفة للشعب السوري أفضل من تفسير النظام القائم. يمتلك السوريون أوهاماً كثيرة بشأن المسار العربي، ولو افترضنا فعلاً أنّه يقترب من القراءة الغربية، أي تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 واستناداً إلى بيان جنيف 2012، فإن إيران وروسيا ستُميّعان وتمنعان أيّة خطوات بهذا الاتجاه. إيران هذه ترسل دبلوماسييها وقادتها العسكريين وبصورة مستمرة، أو عبر حزب الله، وذلك لتذكير النظام بأنّ التفاوض على مستقبله يتمّ في طهران، وبالشراكة مع روسيا، ولهذا فشل المساران العربي والتركي، وقبالة ذلك تزداد أوضاع النظام تأزّماً، ولهذا، لن تساهم آلياته الإصلاحية أبداً في تغيير سياساته، وسيظلُّ الوضع متأزّماً، وسيزداد.

المعارضة بدورها، وعدا عمّا ذُكر أعلاه، مشتّتة، ومشاريعها أقرب إلى الذاتية، أو لهذه الشلّة أو تلك، وهي تابعة لهذه الدولة أو تلك، بينما تغيب المشاريع العامة أو المؤتمرات العامة لإنقاذ سورية من فكوك الدول المتدخلة فيها، ومن التأزم المستمر.

أحوال الشعوب من أحوال الأنظمة، ولا يبدو أنّ السوريين قادرون على الانفكاك من ثقل أزمات الأنظمة والمعارضات؛ إذ لم يستجب أهل بقية المحافظات لانتفاضة السويداء، والتي لم يشارك أهلها بأعداد ضخمة، فأكثر من 80% من أهلها لم تطأ أقدامهم ساحة الكرامة. أيضاً لم يتظاهروا لما يحصل في غزّة؛ ليس الشعب السوري فقط بل أغلبية الشعوب العربية. سوريّاً، هذه أسوأ فترة يمرّون بها، وبعيداً عن الكلام عن قلب العروبة، وأن فلسطين راسخة في وجدان السوريين، فإن مشاركاتهم حتى في المنافي، والمظاهرات الغربية هناك حاشدة، في غاية الهامشية.

رغم الإشارة إلى بعض أحوال السوريين هنا، فإن أوضاعهم ستزداد سوءاً؛ سماء سورية حكرٌ للدول المتدخلة، وأرضها مقسّمة بينهم، والسؤال عمّا ستكون عليه الأحوال، إن ظلّت الأوضاع تتجه نحو مزيد من التبعية، والانقسامات الاجتماعية، والاحتلالات ورسمها الخرائط الجديدة، فهل تتّجه نحو التقسيم؟

تبدو أحوال سورية كجثّةٍ متفسخةٍ؛ ينهش المتدخّلون بها، ويشيح أهلها أنظارهم عنها، أو ينهشونها. هذه الأحوال أمام مفترقٍ حقيقي، إمّا المزيد من التعفّن والانقسام والتبعية والمشاريع الذاتية والشللية. ولا قيمة لإصلاحات النظام ولا المسار العربي كذلك، وإمّا العودة إلى تبنّي المشروع الوطني الجامع، والانفتاح على كل الرؤى والمشاريع السورية، التي تعزّز المشروع المذكور. لم يعد للنظام والائتلاف الوطني للمعارضة أيّة أدوار في النهوض، بينما بقية القوى، ومهما كان الاختلاف فيما بينها، هي من عليها المسؤولية التاريخية في إنقاذ سورية، واستعادة استقلالها الوطني وحضورها الإقليمي والعربي.

———————————–

الحرب على غزّة والمواطنة الأوروبية/ بشير البكر

16 فبراير 2024

هدّدت بعض الدول الأوروبية بسحب جنسيات مواطنين من أصول أجنبية، في حال مخالفة بعض المواقف الرسمية الخاصة بالحرب الإسرائيلية على غزّة. وهذه ليست المرّة الأولى، ولا الأخيرة، التي يجري فيها التلويح بهذا السلاح، من سلطات بعض دول أوروبا، بالرغم من أن تأثيره سيئ، ومفعوله سلبي على ملايين، اكتسبوا المواطنة الأوروبية منذ عدة عقود، بوصفها حقّا شرعيا، تجيزه قوانين هذه الدول، وهم استحقّوها لأنهم استوفوا جملة من الشروط، خصوصاً الواجبات، ولم تمنح لهم هدية أو مكرمة من حاكم. ومن بين قواعد هذه المسألة اعتماد مبدأ المساواة، بين المتقدّمين للحصول على الجنسية، الأمر الذي يعني عدم التمييز الهويّاتي بين مواطن وآخر، من أبناء البلاد الأصليين، أو الذين وفدوا إليها من بلدانٍ أخرى، إلا أن الواقع يحفل بأمثلةٍ تخالف القوانين والأعراف، بالإضافة إلى أن التهديد بسحب الجنسية لا يشمل كل المواطنين من أصول أجنبية، بل يقتصر على المجنّسين من بلدان عربية وإسلامية، وهو ما يثير جملة من الإشكالات، تعكس خللا في النظر إلى المواطنة، بحيث يمكن تصنيفها إلى مراتب ومستويات.

ثمّة من يعتبر المواطنة جواز سفر، يسهل سحبه من شخصٍ يخالف القانون، وطرده إلى خارج الحدود، حتى لو كان قد ولد على أرض البلد الذي يحمل جنسيته، ولم يسبق له أن وطئت قدماه أرض الآباء والأجداد. وهذا تفسيرٌ تعسّفي، وغير أخلاقي، وانتقائي، وتمييزي للقوانين، ويعبّر عن استخدام السلطات أساليب قمعية في التعامل مع أشخاصٍ أصبحوا مواطنيها، وباتت مسؤولة عنهم قانونيا وأخلاقيا، حتى لو ارتكبوا جرائم. ولا يحق لها، تحت أي ظروف، حسب شرعة حقوق الإنسان، أن تجرّدهم من حقّ المواطنة، التي استحقّوها بجدارة. ويعكس هذا التمييز نظرة إلى مستويات مختلفة من المواطنة، فهناك مواطن درجة أولى، وثانية، وثالثة، ولكل منهم حقوق مختلفة عن الآخر. ومن يقع في أسفل السلم هو المواطن الذي تم التكرّم عليه بجواز سفر يمكن سحبه منه لدى أي مخالفة للتعليمات.

تعكس هذه السياسات نفسها من خلال تعطيل الديمقراطية التمثيلية، والتي تعني، في أحد وجوهها، تمثيل المواطنين على نحو متساوٍ في المؤسّسات المنتخبة، وخصوصا البرلمانات. وهو أمر غير متحقّق في ما يخصّ العرب والمسلمين في أوروبا، وهذا لا يقتصر على بلد أوروبي واحد، بل ينسحب على غالبية الدول التي تستقبل أعدادا كبيرة من الأجانب، مثل فرنسا وألمانيا، حيث علت أصوات تطالب بمعاقبة العرب والمسلمين الذين تضامنوا مع غزّة من خلال سحب الجنسية، وذهبت ألمانيا بعيدا، عندما عدّلت قوانينها لتضع شرط الاعتراف بإسرائيل في صلب قانون الجنسية، مثله مثل أي واجب على من يريد أن يصبح مواطنا ألمانيا، ما يتعارض بصورة واضحة مع حرية الرأي والموقف السياسي.

لا يمكن تبرير التعامل مع المواطنين حسب سلّم الدرجات، غير أن هذا لا يعفي أصحاب الشأن من قسطٍ من المسؤولية، وذلك لعدّة أسباب، منها أن هناك تيارا واسعا، يتعاطى مع قضية المواطنة بخفة، وينظر إليها كجنسية، ومكتسبات يحصل عليها من هذا البلد الأجنبي، لكن انتماءه الفعلي للبلد الأصلي. وعلى هذا الأساس، لا يتم التعامل بجدّية مع قضايا المواطنة السياسية التي تعني الانخراط في الحياة الحزبية للبلد، وممارسة الحقوق الانتخابية من خلال المشاركة في التصويت، وهذا ما يفسّر ضعف تمثيل هذه الكتلة الكبيرة في البرلمانات والحكومات، وبالتالي، تعرّضها إلى تمييز وتنميط يضعانها خارج الحسابات السياسية، ويحوّلها إلى كتلة بلا وزن أو دور أو تأثير، ويجرّدها من حقها في الدفاع عن نفسها وإيصال صوتها ومطالبها إلى باقي مكونات البلد، وللذين يتولّون المسؤولية.

———————————-

هل يعمل نتنياهو على إسقاط بايدن؟/ مروان قبلان

14 فبراير 2024

لم يكن سرّاً قبل الحرب الإسرائيلية على غزّة افتقار العلاقة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى ود ظاهر. وكان بايدن، وما زال، يُحجم عن توجيه دعوة رسمية إلى نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، ما يعني أن نتنياهو قد يصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي لا يزور البيت الأبيض خلال ولاية رئيس أميركي منذ أيام إيزنهاور (1953-1961). وكان بايدن قد أخذ موقفاً معارضاً من “إصلاحات” نتنياهو القضائية الهادفة إلى تحصينه من اتهامات بالفساد، وثارت شكوكٌ أن بايدن ربما ساعد في إسقاط نتنياهو عام 2021، وتشكيل تحالف جمع يئير ليبيد ونفتالي بنيت لإبقاء نتنياهو خارج الحكم (2021-2022). وهناك تراكمات منذ أيام إدارة باراك أوباما التي خدم فيها بايدن نائباً للرئيس، واصطدم خلالها بنتنياهو بشأن أكثر من ملف (الاستيطان، اتفاق إيران النووي، عملية السلام).

عندما وقعت هجمات 7 أكتوبر، بدا أن بايدن يتّجه إلى تجاوز خلافاته مع نتنياهو، فتبنّى أجندته كاملة، وقدّم دعماً غير مسبوق لإسرائيل في عدوانها على غزّة، فكان أول رئيس أميركي يحضر مجلس حرب إسرائيلي، ويرسل قوات كبيرة إلى المنطقة لمساعدتها في تحقيق أهدافها العسكرية. لكن فشل نتنياهو في استثمار الغطاء الأميركي (الدبلوماسي والعسكري) في حسم الحرب سريعاً، بدأ يدفع نحو افتراق الأجندات، وتمحورت نقاط الخلاف على طريقة نتنياهو في إدارة الحرب لتحقيق الهدف المشترك (القضاء على حركة حماس وحكمها في غزّة)، حيث باتت إدارة بايدن تشعر بحرج شديد نتيجة العدد الكبير من القتلى المدنيين، وتضغط من أجل التوصل إلى اتفاق يتضمّن وقفاً مؤقتاً للقتال، وعملية تبادل للأسرى، والاكتفاء بعد ذلك بعمليات خاصة بدل الهجوم البرّي المترافق بقصف جوي ومدفعي، والدفع نحو استلام سلطة فلسطينية “متجدّدة” إدارة غزّة في مرحلة ما بعد الحرب.

لقد تسبّبت الحرب في إنتاج تناقض أكثر عمقاً مما كان سابقاً بين بايدن ونتنياهو، ما عاد بإمكان العبارات الدبلوماسية اللبقة تجميله أو إخفاؤه، ذلك أن بقاء أي منهما سياسياً بات يعتمد حتماً على سقوط الآخر، فتنفيذ نتنياهو مطالب بايدن، المشار إليها آنفاً، يعني سقوطه وبدء عملية محاسبته، لأن شركاءه من عتاة المستوطنين في الحكومة لن يقبلوا قطعاً بوقف الحرب قبل “القضاء” على “حماس”، أو الانسحاب من غزّة كليّاً، دع جانباً مسألة تسليمها للسلطة الفلسطينية، أو القبول بدولة ما فيها. بقاء نتنياهو في الحكم لما تبقى من ولاية الكنيست الحالي (2022 – 2026) يعتمد كليّاً على رضا هؤلاء وبقائهم في تحالفه الحاكم. بالنسبة إلى بايدن، بات استمرار الحرب في غزّة، كما تظهر على شاشات التلفزة، يهدّد فرص إعادة انتخابه، نظراً إلى الانقسامات التي تسبّبت بها الحرب في صفوف الحزب الديمقراطي، واتجاه الجاليات العربية والمسلمة في ولايات متأرجحة حاسمة (مثل متشيغان) لمعاقبة بايدن على سياساته في غزّة. هذا يعني أن بايدن سوف يزيد ضغوطه على نتنياهو في الفترة المقبلة، وقد يحاول إسقاطه، كما فعل سابقاً، ومحاولة تشكيل تحالف حكومي جديد يعزّز فرص بايدن في انتخابات نوفمبر (المقبل) من خلال منحه “إنجازاً” كبيراً في السياسة الخارجية، يتضمن وقف الحرب على غزّة، والقبول “بشكلٍ ما” بدولة فلسطينية، في مقابل تطبيع كامل مع السعودية.

سوف يسعى نتنياهو، في المقابل، إلى التشبث بفرص بقائه، وهذا لن يتم إلا باستمرار الحرب على غزّة بالكيفية القائمة، ما يعني حتماً ضرب فرص بايدن بولاية جديدة، ومساعدة ترامب على العودة إلى الحكم، وإتمام “صفقة القرن”، علماً أن ترامب حاول مساعدة نتنياهو في انتخابات 2019 عندما قرّر في العام الذي سبقه نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة “موحّدة وأبدية” لدولة إسرائيل، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ورفع معارضة واشنطن الاستيطان، وعمل على تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرّد قضية اقتصادية، بحسب رؤية “الصهر” جاريد كوشنر التي قدّمها في مؤتمر المنامة عام 2019.

قد يساعد حلفاء واشنطن الآخرون في المنطقة نتنياهو في إسقاط بايدن، إذا تبيّن لهم في الأسابيع القليلة المقبلة أنه خاسر لا محالة، فلماذا يعطون رئيساً منتهية ولايته (ولا يودّونه أصلاً) إنجازاً يتطلّع إليه الرئيس المقبل، خصوصاً أنّ “الاتفاقات الإبراهيمية” هي فكرة ترامب أصلاً.

———————————-

رفح حاضنة القهر والوجع بوابة فلسطين إلى الحقّ والعدالة/ سوسن جميل حسن

14 فبراير 2024

لا تزيد مساحة رفح عن 64 كيلومتراً مربّعاً، ينبض فوق ترابها مليون وأربعمئة قلب مقهور، ومثلها روح لا يملك حق تقرير حصّتها من الحياة سوى خالقها، هذا ما تقوله الشرعة الدولية وناموس الكون، لكن إسرائيل تعمل على امتلاكها متحدّيةً ضمير العالم والناموس. رفح اليوم هي الأولى في الكثافة السكانية فوق وجه الأرض، ما يفوق العشرين ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد فوق أرضها، معظمهم في الخيام، بلا ماء صالح للشرب، بلا كهرباء، بلا وقود، بلا غذاء، بلا مدارس، بلا مستشفيات إلّا ما سلم منها، بعد أن كانت هدفاً لوحشية إسرائيل منذ الأيام الأولى لحربها على غزّة. رفح هي الأولى في حصّتها من الموت، لكنها الأولى أيضاً في معنى الكرامة الإنسانية، مثلها مثل كل قطاع غزّة، والأولى في معنى التكافل الإنساني، فهي تقدّم كل لحظة برهاناً على هذا التكافل على الرغم من فداحة واقعها.

ينشغل العالم اليوم بسؤال مصير رفح: هل تجتاحها إسرائيل؟ وتخرج التصريحات من هنا وهناك، تطالب إسرائيل بهدنة طويلة لأجل وصول المساعدات الإنسانية فحسب، على أهمية هذا الأمر بالنسبة لشعبٍ يباد، ليس بالقصف والنيران فحسب، إنما بكل وسائل القتل المتاحة، قتل بطيء وقتل آني. لكننا لا نسمع من الحكومات المؤثرة صوتأً يطالب بوقف دائم لإطلاق النار. حثّ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي على العمل من أجل هدنة في غزّة تسمح بإطلاق سراح مزيد من الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس وتعزيز تدفق المساعدات الإنسانية سريعاً إلى المدنيين الفلسطينيين، وقال إن أزمة غزّة لن تنتهي إلا إذا أطلقت “حماس” سراح جميع الرهائن. وماذا لدى الإدارة الأميركية قبل الحرب على غزّة وبعدها؟ هل ستنتهي القضية الفلسطينية إلى حل، أقلّه وفقاً للقوانين الدولية التي تعترف بدولة فلسطينية على مساحة لا تتجاوز 20% من مساحة فلسطين التاريخية، تُقضم باستمرار على مدى السنوات ببناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين، وزيادة الحصار على المناطق المحسوبة لهم؟ ماذا فعلت الإدارة الأميركية منذ بدء الحرب على غزّة، وماذا قدمت من مواقف فعلية تكبح جموح إسرائيل وفجورها؟ منذ اليوم الأول من الحرب تقول إن دعمها إسرائيل في الدفاع عن نفسها لا يمكن التفاوض عليه.

قال المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، يوم 12 فبراير/ شباط الحالي، عبر منصة إكس، إنه يشعر “بقلق عميق من تقارير عن قصف وتوغل بري محتمل للقوات الإسرائيلية في رفح”، وأضاف أن المحكمة “منهمكة في التحقيق في أي جرائم يُزعم ارتكابها” في قطاع غزّة، وأن “من ينتهكون القانون سيُحاسبون”. هل تمت محاسبة إسرائيل يوماً وهي ماضية في غيّها وبغيها منذ إعلانها دولة محتلّة؟

لو أراد المجتمع الدولي حلّاً عادلاً لقضية الشعب الفلسطيني لسعى إليه، لكن، وعلى الرغم من الحرب الحالية المكشوفة والمفضوحة أمام العالم مجتمعاً، والتي حرّكت صور قتل الأطفال والمدنيين وتدمير البيوت والمشافي والمدارس وتهجير السكان فيها ضمير الشعوب، فإن الأنظمة والحكومات في الدول الداعمة لإسرائيل لم تقم بخطوة فعلية لوقف هذه الكارثة الإنسانية التي يندى لها الضمير. لقد تهافت زعماء هذا العالم إلى تأييد إسرائيل منذ اليوم الأول، ومنهم من قدّم أوراق اعتماده إسرائيليّاً وليس يهودياً فحسب. واليوم يصدّع الرؤوس خطاب لا يعدو أن يكون أفضل من قنبلة صوتية في المحافل الدولية أو المؤتمرات الصحافية أو تغريدات وتصريحات على منصات التواصل للاستهلاك أمام الرأي العام، تبلغ أقصى ذراها بأن تطالب إسرائيل بهدنة إنسانية، وإسرائيل تصرّ على الحرب، حتى لو طال أمدها الذي قد يصل إلى عام أو أكثر بحسب تصريحات نتنياهو، والهدف المعلن: تحرير الرهائن والقضاء على حركة حماس والفصائل، وهي بهذه الشراسة والعنجهية تزرع لمستقبل متخم بالكراهية، فكيف لفلسطيني أن ينسى طفولة مترعة بالقهر إلى هذا الحدّ؟ كيف لجيل جاء إلى الدنيا فلم يعرف منها غير جهنم تنهمر عليه وابلاً من السماء وتنبع من الأرض، فلا يعرف أمّاً ولا أباً ولا إخوة، لا مدرسة ولا طعاماً ولا لعباً ولا دواء، ولا بيتاً ولا أسرة؟ لا يعرف غير الموت والفقدان.

إسرائيل ماضية في حربها، وإذا لم تجتح رفح بريّاً، سيكون لديها من البدائل ما يخدم مشروعها “تهجير الفلسطينيين من غزّة” وربما قد تفرضه أمراً واقعاً، حتى لو صرّح مسؤولوها بأنها ملتزمة بمعاهدة السلام مع مصر، ما أسهل أن ينزل صاروخ أو أكثر فوق المعابر يرافقه جهنّم من السماء، الخطأ وارد في الحروب، ألم تنزل قذيفتان على سوتشي بالخطأ في الحرب العالمية الثانية، بعد أن كان هتلر قد أوصى بتجنّب قصفها لأنه ينوي اتخاذها منتجعاً له، وقد كان واثقاً من انتصاره فهزمته الحرب وهزمه التاريخ؟ كل قذيفة تنزل من السماء فوق هذه الكثافة السكانية ستحصد الآلاف، بدلاً من العشرات أو المئات في باقي أنحاء القطاع منذ بدء الحرب، وهي إن كانت تردّد أنها ستوفر ممرّات آمنة للمدنيين، انسجاماً مع تصريحات نتنياهو بأنهم يخوضون حرباً “إنسانية”، فلن تكون باتجاه وسط وشمال القطاع، فهي تمنع حتى المساعدات الإنسانية من الوصول إلى من تبقوا فيها، بل ستحاصرهم حتى لا يكون أمامهم خيار سوى منفذ أُحدث بالخطأ، كما يمكن أن تدّعي إسرائيل، وتتركهم يفرّون من الموت باتجاه سيناء، لمَ لا يكون هذا السيناريو الماكر، بقدر تفاهته، يخطر في بال إسرائيل التي لا تدير أذناً لكل التصريحات الدولية، فهي تعرف حقّ المعرفة أن جميع القوى الغربية معها، وأهمها أميركا، أميركا المقبلة على انتخابات، لن يحدث الفائز برئاستها أي فارق بالنسبة لدعمها إسرائيل، لا يختلف جو بايدن، الذي يبدو بتصريحاته وادّعاء الجفاء بينه وبين نتنياهو مثل أب يطبطب على كتف ابنه “المشاغب” كي يخفّف من جموحه، بينما يبتسم في صدره تحبّباً وإعجاباً، لا يختلف عن ترامب سوى بأن ترامب غاوي أن يكون “ترند” وواضح حدّ السفه، يرى العالم مجتمعاً والحياة كلها من منظور تاجر، المال بالنسبة إليه هو اللغة الكونية، وعليه، يهدّد، قبل أن يصل إلى الرئاسة، أعضاء حلف الناتو بأن يشجّع روسيا في الحرب عليهم إذا لم يدفعوا، والمقصود غالباً هي ألمانيا بالدرجة الأولى. هذه هو ترامب، وهذا هو بايدن، والاثنان لو أرادا الانحياز إلى الضمير العالمي والشرعة الدولية وقضية العدالة الإنسانية، لقاما بخطوات فعلية، ولتبعهما الغرب أيضاً، خطوة يمكن بواسطتها الضغط على إسرائيل وكبح جموحها الأرعن الوحشي.

العالم منشغلٌ، ويقف قلبه على كفّه، باحتمال اجتياح رفح، بينما يقتل الفلسطينيون كل دقيقة، وتقتل القضية الفلسطينية، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل بكل ما تملك من أدوات شريرة. تهدف إسرائيل إلى محو الوجود الفلسطيني، وأخمّن أن العالم كله يعرف هذه الحقيقة، ومع هذا للفلسطينيين قضيتهم، وثمن أرضهم يقدّر بالأرواح وليس بدولارات الأنظمة.

——————————–

عن غزّة… آخر القلاع/ مالك ونوس

13 فبراير 2024

تُذِّكر السيناريوهات الإسرائيلية الموضوعة الآن لقطاع غزّة بتجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المقاومة من بيروت، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال عاصمته سنة 1982. يومها، أدّى ذلك الخروج إلى تراجع المشروع الوطني الفلسطيني بقدر كبير، إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انطلقت من غزّة) والانتفاضة الثانية، وأعادتا له بعض القوة التي تمثلت في الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقه في دولة مستقلة، وصولاً إلى اتفاق أوسلو الذي أسّس لشكلٍ من الإدارة الذاتية. يتكرر اليوم ذلك السيناريو مع الحرب الإسرائيلية القائمة على غزة التي أكملت شهرها الرابع، والتي حين شنّها الإسرائيليون قالوا إنهم سيقضون على “حماس” وعلى المقاومة في غزة التي باتت بحقّ آخر قلاع المقاومة العربية والفلسطينية للمشروع الإسرائيلي.

لا يمكن إدراك مقدار الثقل الذي تشكّله غزة، والذي شكلته تاريخياً، على صدور قادة الاحتلال إلا عبر استحضار حلم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، عندما قال: “أتمنّى أن أستيقظ ذات يوم من النوم وأرى غزّة وقد ابتلعها البحر”. إلا أن هذا القطاع الفلسطيني الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا بقي عصياً على البحر وعلى أحلام رابين وجرائم جنوده وأسلحتهم الفتاكة، وعلى حروب الاحتلال السبعة منذ انسحابه من القطاع سنة 2005، وكان هدفها دفعه إلى الاستسلام، إلا أنه وبدلاً من الاستسلام واليأس راكمَ من عوامل القوة والإرادة، ما مكّن مقاومته من تنفيذ عملية طوفان الأقصى اللافتة التي حملت رمزيات عديدة، وكشفت الكثير، والتي ربما ستكشف أكثر في المستقبل.

لعل أهم ما كشفته العملية كان الكشف الخطير، أن الماضي الاستعماري الذي ظنّ كثيرون أن دول الغرب قد خرجت منه ما زال متغلغلاً في قلب مؤسّسات صناعة القرار فيه، وفي طيّات السياسة الغربية التي تظهر علينا بأردية الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان واحترام إرادة الشعوب. كما بيّنت أنه عندما شن الإسرائيليون الحرب الحالية على الشعب في غزّة لم تكن إسرائيلية فحسب، بل كانت حرب الغرب أيضاً، والذي خشيَ على إسرائيل من الزوال. إذ اندفع الغرب للمشاركة في الحرب بأشكال عدّة، نتيجة الرمزية الضاغطة التي أظهرتها عملية طوفان الأقصى، وهي رمزية التحرير، فأدرك أن إرادة التحرير ما زالت في وجدان هذا الشعب وعقله، وليس إرادة المقاومة وحدها. هذا التحرير الذي يُعدُّ كابوساً مستجداً صدّع رأس قادة الغرب ومنع عنهم راحة البال، بعدما ظنّوا طويلاً أن حلم تحرير الأرض المحتلة بات في طيّ النسيان والاستسلام. لذلك سارع الغرب إلى نجدة دولة الاحتلال معنوياً ومادياً، وغامر بالتورّط في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فاستمر في تقديم الأسلحة القاتلة للإسرائيليين، في الوقت الذي كانت تحاكَم فيه إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وتُوجَّه إليها الاتهامات باقتراف تلك الجرائم.

لم يكن الانسحاب الإسرائيلي من غزة وتفكيك المستوطنات فيها، سنة 2005، إلا بسبب إدراك الإسرائيليين أن لا هذا الشعب يستسلم ولا البحر يبتلع الأرض التي يقيم عليها. وجاء فوز “حماس” في الانتخابات التشريعية سنة 2006، ليؤكّد أن الشعب قد اختار الجهة التي تبنّت المقاومة، ولم يختر السلطة لأنه رأى فيها رجوعاً عن المقاومة، ورأى فيها الاستسلام والخضوع للاحتلال، وأدرك أن حلم التحرير سيندثر على أيادي رموز هذه السلطة، فخسرت في انتخاباتٍ جرت بحضور مراقبين دوليين أقرّوا بنزاهتها. وفي هذا الجو الحاضن للمقاومة، استطاعت الأخيرة أن تبني قلعتها؛ تحت الأرض في الأنفاق، حيث صناعة الأسلحة النوعية في ظل الحصار والمراقبة والتجسّس على مدار الساعة، وتدريب مقاومين أشداء في ظل ظروف القلة والعوز، وفوق الأرض شعب يحمي المقاومة ويرفض النزوح، على الرغم من كل الحروب، ويحتفظ بالحلم الدائم، حلم التحرير الذي لا يتأثر بتطبيع الأشقاء ولا باستسلام الإخوة وتنسيقهم الأمني.

بعد التمعّن في واقع السلطة الفلسطينية التي يريد لها الاحتلال أن تحكم غزة، يمكن تصوّر حال قطاع غزّة في اليوم التالي للحرب، وفق المخطّط الإسرائيلي، تلك السلطة التي حالت حتى دون خروج الفلسطينيين في مناطق سيطرتها بمظاهرات للتضامن مع القطاع، وساهمت في إفشال عمليات عسكرية ضد الاحتلال، وربما ساهمت في كشف مقاومين وأبلغت عنهم، عملاً باتفاق التنسيق الأمني الذي يجمعها مع الاحتلال. لذلك، إذا استطاع الإسرائيليون تمكين السلطة من قطاع غزّة، ستحاول القيام بما عجز عنه الاحتلال، وسيتحوّل هذا القطاع من قلعة للمقاومة ومواجهة المشروع الإسرائيلي، إلى كيان منزوع السلاح وهشٍّ أمنياً، بعد أن كان منيعاً على الإسرائيليين. ومن المرجح أن يتسلل الاستيطان ويعود إلى أرضه، ويبدأ الإسرائيليون بقضمه وعزل قراه ومدنه عن بعضها وجعلها جزراً متناثرة، كما فعلوا بالضفة، عبر مصادرة أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات فوقها، وإقامة الجدار العازل والطرق الالتفافية، وغيرها من الإجراءات التي ستجعل القطاع يتحوّل بمقاومته من رافع للمشروع الفلسطيني التحرّري إلى مكان لدفن هذا المشروع، وربما إلى الأبد.

رأى المصريون والأردنيون بأمّ أعينهم أنه لا يمكن الوثوق بهذا الكيان الذي بيّنت عملية طوفان الأقصى أن لديه خططاً سيغدر عبرها بمن وثقوا فيه. لذلك رأينا أن الإسرائيليين لم يخجلوا، بحكم العلاقات التي تربطهم مع هذين البلدين، من الإعلان عن خطتهم التي ظهرت وكأنها معدّة من قبل ولها أسس ودوافع، لتهجير سكان غزّة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن، وكأن هذين البلدين من دون قرار أو سيادة. وإذا كان هذا موقع أصدقائهم عندهم، فما هو موقع السلطة ومصيرها، وهي التي لا ينظر إليها الإسرائيليون، في النهاية، سوى أنها كيانٌ مؤقت، وأنها زائلة، سيتخلصون منها عندما تنتهي مهمتها في إعانتهم في القضاء على المقاومة.

اقترفت إسرائيل مجازر غير مسبوقة بحقّ أهل غزة، وقتلت عشرات الآلاف منهم، وهجّرت مئات الآلاف، ومنعت الغذاء والماء والدواء عنهم، وجرفت المدن والقرى والأراضي، ولم تَسلم حتى المقابر من جرافات جيشها، وذلك كله بهدف كسر المقاومة ودفع الشعب إلى الاستسلام وترك أرضه والهجرة إلى مصر وغيرها، إلا أن الشعب احتفظ بإرادة الحياة على هذه الأرض، ورفض مغادرتها، كما احتفظ بالمقاومة. وأثبتت هذه الحرب، وجميع الحروب الإسرائيلية على غزّة، أن المقاومة فكرة، والفكرة لا يمكن لأيٍّ كان أن يقضي عليها. لذلك بدا واضحاً أن من مصلحة الجميع المحافظة على هذه الفكرة في قلعةٍ، ليس مهمّاً مدى صغر المساحة التي تقوم عليها، بل المهم قوة الدفع التي يمكن للمقاومين أن يزودوها بها لكي تنطلق وتعود فتحلق في سماواتٍ غابت عنها طويلاً.

————————-

هل لا تزال فلسطين قضية عربية؟/ برهان غليون

12 فبراير 2024

أولاً، مفاجآت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية:

بالرغم من أنّ معركة غزّة أعادت إلى الواجهة القضية الفلسطينية التي اعتقد الأميركيون والأوروبيون ومعظم الحكومات العربية أيضاً أنها انتهت وأسدل عليها الستار، فإن الصراع الحقيقي في المشرق والشرق الأوسط عموماً كان خلال العقود القليلة الماضية على منطقة الخليج العربي، وما تمثله من احتياطي كبير للطاقة الأحفورية وفوائض مالية استثنائية وأسواق استهلاكية عسكرية ومدنية، تشكّل السيطرة عليها ورقة استراتيجية رئيسة في يد الدول الكبرى المتنافسة على إعادة تشكيل النظام الدولي، بعد ما ظهر من إفلاس النظام الأحادي القطبية منذ بداية القرن الراهن.

ومن أجل الاحتفاظ بالسيطرة على هذا الكنز والاستفادة من كل ما يدرّ على الحائزين عليه من عوائد وريوع مادية واستراتيجية، خاضت الولايات المتحدة وشركاؤها من الدول الصناعية الأوروبية معارك وحروباً باردة وناريّة منذ أكثر من سبعة عقود، ضد الاتحاد السوفييتي السابق، وضد الدول الإقليمية التي بدأت تعتقد في التسعينيات أن بإمكانها المشاركة، ولو جزئياً، في هذا الكنز، واليوم ضد محاولات الصين وروسيا التغلغل في الإقليم وتكوين تحالفات تزيد من فرصها في زحزحة الدول الصناعية الغربية عن مواقعها الراسخة. وفي هذا السبيل، كبّدت مصر ثلاث هزائم عسكرية لتحييدها وإجبارها على الانسحاب من المنافسة وتوقيع اتفاقية مهينة تخلّت فيها عن سيادتها في سيناء التي فقدتها في حرب 1967، وقضي على العراق ودمّرت سورية وليبيا وزعزعت أركان الدول الصغيرة التي برزت فيها حركات مقاومة فلسطينية أو لبنانية. وفي جميع هذه الحروب، لعبت إسرائيل دور القاعدة المتقدّمة والعصا الغليظة لهذا التحالف، وكان لها قصب السبق في خوض هذه الحروب وربحها لصالح الغرب وبتأييده ودعمه الكاملين بالسلاح العسكري والدبلوماسي والسياسي، بما في ذلك تحييد القانون الدولي وتقويض عمل الأمم المتحدة للحفاظ على ما تبقّى من هذا النظام وما يرتبط به من وهم القيادة العالمية.

في هذا السياق، وقع هجوم 7 أكتوبر وقوع الصاعقة على وضع إقليمي كان الجميع يعتقد فيه أن سلام الأقوياء بدل الشجعان قد فرض نفسه، وزالت جميع العوائق أمام بسط “السلام” الأميركي والإسرائيلي وزوال المخاطر التي تفاقمت في العقود الماضية، فجاء “طوفان الأقصى” ليحطّم الآمال ويزعزع التوازنات التي كانت تُبنى لبنة لبنة منذ عقود. لم تأت المفاجأة من الجرأة الاستثنائية التي ميّزت هجوم المقاتلين الفلسطينيين واختراقهم حاجز الموت، ولكنها جاءت أكثر من الانهيار السريع وغير المسبوق لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية. أما المفاجأة الثالثة في هذه الحرب، والتي جعلت مآلاتها مستحيلة الحسم على جميع الأطراف، فهي من دون شك التخطيط المسبق لميدان المعركة والمقاومة طويلة النفس التي أبدتها الفصائل الفلسطينية، بالإضافة إلى صمود شعب غزّة والضفة الغربية البطولي والفدائي بالفعل، وكذلك من مقاومة العرب الوقوع في فخّ إدانة الفصائل الفلسطينية ومسايرة السياسة الأميركية.

هذه المفاجآت الثلاث هي التي جعلت من عملية عسكرية أو غارة فدائية محدودة الهدف، ترمي، على الأغلب، إلى تحرير بعض الرهائن والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال والاحتجاج على اعتداءات الإسرائيليين المتكرّرة على المسجد الأقصى ووقف عجلة التطبيع العربي الإسرائيلي، إلى حرب طاحنة يرى فيها الأميركيون والغربيون عامة تهديداً خطيراً لخطوطهم الدفاعية ونفوذهم الكبير في المشرق، وتستدعي، بالتالي، مواجهة شاملة لحماية مصالحهم واستثماراتهم الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الكبيرة والتاريخية التي اعتقدوا أنها تتعرّض لتهديد خطير فيها، وفي المناسبة ذاتها فرصة لتلقين درسٍ قاسٍ ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما أيضاً لجميع القوى الدولية والإقليمية التي تحاول منافستهم وتغيير موازين القوى لصالحها في المنطقة. كان الهدف الأكبر من الحرب الإسرائيلية الغربية في غزّة إعادة تثبيت نظام الشرق الأوسط الأميركي الأطلسي ومنع الدول العربية من الاعتقاد بانهيار الردع الإسرائيلي، واستعادة حريتها في إقامة علاقات دولية متنوعة، وبالتالي، إجبارها على الاصطفاف القوي وراءها والعمل حسب الأجندة الأميركية، ثم أخيراً حل المسألة الفلسطينية بما يتوافق مع مصالح إسرائيل وأهدافها التوسعية الاستيطانية والانتهاء منها مرّة واحدة وإلى الأبد.

لذلك، لم يأت الرد على سبيل التأديب والعقاب للفصائل “المتمرّدة”، وإنما من أجل إعادة تشكيل المنطقة التي بدأت تتحلّل شيئاً فشيئاً من ارتهانها للسياسة الأميركية وترسيخ أقدام إسرائيل في الشرق الأوسط، بوصفها قلعة الدفاع المتقدّمة عن المصالح الغربية وإزالة غزّة التي لا تزال شوكة في جسم الكيان الدخيل من الوجود، تمهيداً لخنق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، و”إقناع” الدول العربية، التي لا تزال متردّدة، بقبول التطبيع المجاني مع إسرائيل. لذلك لم تتأخّر العواصم الغربية ووسائل إعلامها، منذ اللحظة الأولى، عن تحويل “حقّ دفاع إسرائيل عن نفسها” إلى شعار مقدّس يخفي وراءه أغراض الحرب الحقيقية ويُجبر الجميع، بما فيهم العواصم العربية، على السير في خطى الحرب الأميركية وتحمل قسطهم فيها من “التضحيات”، وهو الموافقة على ترحيل الفلسطينيين من غزّة والضفة إلى سيناء والأردن، كما ناقشه وزير الخارجية الأميركي في أول زيارة له إلى القاهرة في بداية الحرب.

ثانياً: بين أميركا وإسرائيل

عقّد رفض الدول العربية هذا المشروع المسألة على الأميركيين الذين تبنّوا خطة نتنياهو كاملة، ورفضوا حتى الحديث عن هدنة أو حماية المدنيين، كما تبنّوا أهداف الحرب الإسرائيلية في القضاء على “حماس” ودفع الفلسطينيين إلى النزوح الجماعي من غزّة. ومرة ثانية، أحبطت المقاومة الفلسطينية القوية والمديدة أوهام الأميركيين والإسرائيليين في حسم الحرب على شروطهم وبتحقيق أهدافهم ووضعهم أمام اختيارات صعبة وشبه مستحيلة: الاستمرار في حرب الإبادة الجماعية مع تحمّل تكاليفها السياسية والأخلاقية الباهظة التي كان أفضل تجسيد لها دفع ملف إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، أو وقف الحرب من دون تحقيق أهدافها الرئيسية، وتحمّل عواقب ما سوف يتحوّل إلى هزيمة استراتيجية لواشنطن وتل أبيب وحلفائهما معاً. هكذا دخلت الحرب في نفقٍ لا يعرف مُشعلوها كيف ينهونها ولا كيف يستمرّون فيها. وهذا ما تشير إليه الخلافات أو ما يبدو كأنه خلافات أميركية إسرائيلية، والذي يتجلّى في مواقف الرئيس بايدن ووزير خارجيته التي لم تدعُ إلى وقف الحرب، بالرغم من الإدانات العالمية، ولكن فقط إلى التخفيف من وتيرة القتل بالجملة للمدنيين، والتراجع عن تهجير السكّان إلى سيناء، مع الوعد بالبحث في مسألة دولة فلسطينية بصيغة محسّنة لواقع غزّة المحاصرة وفي مستقبلٍ غير منظور.

وعلى الرغم من هذه التصريحات المهدئة على مستوى الفعل، لم ينقص الدعم الأميركي المالي والعسكري والتقني للحرب الإسرائيلية ولكنه ازداد. ولم يحذف خطر الترحيل الجماعي لسكان غزّة من قائمة الأولويات، بل أصبح تحقيقه أكثر من أي حقبة سابقة ضرورة لتجنيب إسرائيل الاعتراف بالهزيمة وانهيار بنيانها الهش وتفجّر تناقضاتها الداخلية. وبصرف النظر عن النفي الأميركي، لم يزُل خطر هذا التهجير أبداً، ولن يكون من المفاجئ لأحد أن تضع إسرائيل العالم أمام الأمر الواقع وتتحمّل الإدانة اللفظية من واشنطن، ما دامت ضامنة وقوف الإدارة الأميركية وراءها وحمايتها من أي عقاب، مهما كان نوع الجرائم التي ترتكبها. وفي التحليل النهائي، واشنطن أحرص من إسرائيل على عدم خسارة الحرب. وهي ليست معنية كثيراً بتهمة خرق القانون الدولي أو حتى الاتهام بدعم حرب الإبادة لأنها تعتقد أنها هي التي تصنع القانون، وتفرضه على الآخرين. فهي، تماماً كما تعتقد إسرائيل وتفعل، دولة فوق القانون. ولا أعتقد أن واشنطن تخلت عن مشروع ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء. أما الدولة الفلسطينية فهي الجزرة التي يستخدمها الأميركيون إلى جانب العصا الإسرائيلية الغليظة لجرّ العرب إلى القيام بالتنازلات المطلوبة، ومنها التطبيع مع إسرائيل ودمجها في المنطقة من دون تنازلاتٍ تذكر. ربما كان هناك خلاف مع نتنياهو الذي يتحدث انطلاقاً من أجندة شخصية في أكثر الأحيان، ويستخدم لذلك لغة استفزازية تجاه العرب وحتى الرأي العام الدولي. لكن هذا لا يلغي أنه يخوض الحرب مع واشنطن وتحت رايتها وبأسلحتها وللأهداف ذاتها.

لن توقف الولايات المتحدة، أي المؤسسة الحاكمة بصرف النظر عن تغير الإدارات السياسية، الحرب في الشرق الأوسط، وهو إحدى الساحات المهمّة في الصراع على الهيمنة الدولية، بما يعنيه ذلك من وضع مسافة بينها وبين إسرائيل ووقف الدعم الشامل واللامشروط لمشاريع الأخيرة الاستيطانية والعدوانية. إنها تراهن بالعكس على استخدام نفوذها وقوتها وسطوتها العسكرية والسياسية والمالية الراهنة من أجل إتمام دمج الدول العربية بإسرائيل بوصفها مركز هيمنة إقليمية غربية مستدامة وضمان تمديد سيطرتها على المنطقة إلى أبعد مدى ممكن. وفي هذه الحالة، تستطيع أن تحقق حلم رؤسائها منذ تولي الرئيس أوباما الحكم في بداية القرن في الانسحاب من الشرق الأوسط مع ضمان استمرار نفوذها فيه.

هذا هو المشروع الذي تسعى إليه واشنطن. لذلك لا أعتقد أن الوقت حان في نظرها لوقف الاستثمار في إسرائيل عسكرياً ومالياً وسياسياً وأخلاقياً أيضاً أو للعمل على بسط السلام في الشرق الأوسط. ولا تكفي ضربة قوية وموجعة لإسرائيل كي ترضخ واشنطن لمبدأ التعامل مع دول الخليج كشريك، وتتخلى عن التعامل معها كفريسة سائغة. معركة إنهاء النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لا تزال في بدايتها، وبالتالي، فإن الرهان الأميركي والأطلسي على إسرائيل لن يضعف، على الرغم من كل ما حصل، بل سوف يزيد. ولن تتخلّى عنها وعما تمثله من شوكة عميقة في خاصرة جميع الشعوب العربية، إلا عندما تجبر بالقوة على ذلك أو تصبح تكاليف حروبها فيها أكبر بكثير مما تستطيع أن تتحمّله أو تفيده من التشبث بها.

ثالثاً: الدور العربي الغائب الحاضر

لا يعني هذا أن إسرائيل سوف تنجح في مشروعها. وعلى الأغلب أنها سوف تخوض فيه حرباً خاسرة. لكن هذا لا يقدّم أي عزاء لا للعرب ولا للفلسطينيين، فبغياب فاعل قوي محلي وطني قادر على توحيد الشعب، في فلسطين وسورية والعراق ولبنان، لن يستطيع أن يقطف ثمار النكسة العسكرية والسياسية والأخلاقية التي شهدها الغرب ومعه إسرائيل. إنما سيصبح مسرحاً للقوى الإقليمية والدولية التي تتمتع بمبادرة أكبر وتسعى إلى ملء الفراغ. وفي هذه الحالة، لا ينبغي أن نتوقّع السير إلى حالة من السلام والاستقرار، وإنما نحو تحوّل المنطقة إلى ساحة لاستعراض القوة، ونجد أنفسنا ضحية هذه الحروب الممتدّة المباشرة أو بالوكالة على امتداد المشرق العربي. ولن تجد دول الخليج المستهدفة الأولى من هذه الحروب من يشدّ من أزرها أو يدعم جهودها للاحتفاظ بأمنها واستقرارها لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا الدول الغربية التي سيكون همّها مواجهة خصومها على هذه الأرض ذاتها.

يطرح هذا، في نظري، من جديد اليوم، بعد موت النسخة القديمة الرومانسية للقومية، التفكير في إعادة بناء ساحة العمل العربي، وتوحيد المقاومات المتعددة الأشكال للتدخلات الأجنبية التي سوف تشهد نمواً كبيراً في المستقبل، والعمل على بناء تفاهمات عربية جديدة، بهدف توسيع هامش مبادرة الشعوب العربية واستقلالها في مواجهة تحدّي أن تتحوّل بلدانها إلى مسرح لصراع القوى الأجنبية الغربية والشرقية والإقليمية معاً. يحتاج هذا لنقاش كيف نعيد العلاقة أيضاً بين عرب الخليج وعرب جوار الخليج المدان بجريرة ثروته وموقعه بالتحييد، والذين يتحمّلون عبء إخضاعه والهيمنة عليه لصالح الدول التي لا تزال تفكر بروح استعمارية، وترفض أن تتعامل مع العرب من خارج تصوّرها لهم كآبار نفط وعشائر وفصائل إرهابية ومخرّبين، حتى عندما يتعلق الأمر بمن يعيشون على الأرض الأوروبية والغربية ويتمثلون قيم مجتمعاتها وثقافتها.

دول الخليج العربي هي اليوم الأقدر والأجدر بأخذ هذه المبادرة ولمّ شمل الشعوب العربية إذا عرفت كيف تستفيد من حالة الإنهاك العسكري والمعنوي للمعسكر الغربي الإسرائيلي القابع عليها كالكابوس، وتتجرّأ على تأكيد استقلال إرادتها وتعزيز روح الاستقلال عند نخبها ومواطنيها، وتوسيع هامش مبادرتها وثقتها بنفسها. وهو ما يجعل منها قوة فاعلة، لا بد من أن تظهر نتائجها الإيجابية في المستقبل على عموم المنطقة بعودة الاستقرار والحدّ من صراع الدول الإقليمية عليها. 

باختصار، لم تكن حرب فلسطين في الأساس، وليست اليوم، حرباً فلسطينية إسرائيلية، إنها حرب أميركية غربية موضوعها الإبقاء على المنطقة تحت سيطرتها، وبشكل خاص على منطقة الخليج، ليس في مواجهة العرب الذين جرى القضاء عليهم واحدهم بعد الآخر، وإنما اليوم أمام طموح قوى إقليمية ودولية عديدة صاعدة وراغبة في المشاركة في الغنيمة أو انتزاعها، إيرانيين وأتراكاً وروسا وصينيين وهنوداً. وليست إسرائيل سوى حصان طروادة الذي صنعته وجهزته، ليس من أجل سواد عيون الشعب اليهودي، وإنما لتجنيد “ضحايا النازية” في الصراع الكبير والقتال من ورائهم. وهذا ما يتجلّى بشكل أوضح في خطاب الرئيس السابق دونالد ترامب وخياراته الشرق أوسطية، والذي سيعود، على الأغلب، إلى الساحة، وهو لا يخفي أن المقصود من دمج إسرائيل في العالم العربي ليس تحقيق الانسجام بين مصالح الطرفين وإنما العكس: إلحاق الدول العربية بإسرائيل للعمل تحت إمرتها وتنفيذ أجندتها وجعلها تدور في مدارها وتحت رقابة أجهزتها الأمنية ومخابراتها في سبيل إدامة النفوذ الأميركي والغربي أطول ما يمكن أمام تزايد ضغط القوى المنافسة الإقليمية والدولية.

————————–

تداعيات العدوان على غزّة بعد 4 أشهر صهيونيّاً/ حيّان جابر

12 فبراير 2024

انقضى الشهر الرابع من العدوان الصهيوني على قطاع غزّة ومجمل فلسطين، مخلفًا تداعياتٍ ونتائج عديدة، على مختلف الأصعدة والمستويات، فلسطينيّاً وإقليميّاً ودولياً وصهيونيّاً. وتتعلق المطالعة التالية بتداعياته الصهيونية.

لعدوان الاحتلال على فلسطين وقطاع غزّة تداعياتٌ داخليةٌ كثيرةٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ، تترافق مع بوادر جدّيةٍ لتداعياتٍ اجتماعيةٍ كبرى، إلى جانب تداعياتٍ خارجيةٍ قد تؤثر على مستقبل الاحتلال وماهيته.

خلف العدوان وعملية 7 أكتوبر تداعياتٍ اقتصاديةً ملموسةً، لكنها لم ترقَ إلى أزمةٍ بنيويةٍ كبرى، نتيجة عوامل كثيرة، أهمّها دور داعمي الكيان الصهيوني المحوري في حلّ مشكلاته الاقتصادية المحتملة، عبر تدخلٍ أميركيٍ وغربيٍ مباشرٍ، من خلال الدعم المادي والتقني، أو غير مباشر، بزيادة حجم التبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي، والتسهيلات الاقتصادية المختلفة. فمن ناحيةٍ أولى، يرهق العدوان كاهل الميزانية الصهيونية، إذ صادق الكنيست في مايو الماضي 2023، على ميزانية الاحتلال لعامي 2023 و2024، بمبلغ وقدره 484 مليار شيكل للأولى، و514 مليار شيكل للثانية، لكن ونتيجة عدوانه الهمجي والمسعور بعد 7 أكتوبر اضطر مجلس الوزراء الصهيوني إلى الاتفاق على ميزانية معدلة لعام 2024، بلغت في مجملها 582 مليار شيكل؛ تنتظر موافقة الكنيست لإقرارها رسميّاً، أي بزيادةٍ قدرها 72 مليار شيكل، أي أقلّ بقليل من 20 مليار دولار، كما تضمن الاتّفاق بعض الاقتطاعات المالية من مخصّصات بعض الوزارات، لصالح تمويل العدوان ومعالجة تداعيات عملية 7 أكتوبر، إذ بلغت الاقتطاعات نحو 20 مليار شيكل. كما وافق الكنيست في 14/12/2023 على إضافة 25.9 مليار شيكل؛ نحو سبعة مليارات دولار، على ميزانية عام 2023، لتمويل العدوان على قطاع غزّة وفلسطين.

إذًا فقد فرض العدوان الصهيوني ارتفاعًا كبيرًا في ميزانية الاحتلال لعامي 2023 و2024، بلغ 15 مليار شيكل للأول، و72 مليار شيكل للثاني، أي بلغت الزيادة 5.35% لعام 2023، و14% لعام 2024، مع العلم أن زيادة ميزانية العام الحالي تفترض انتهاء العدوان في الربع الأول من هذا العام، وهو ما يعني انتهاءه خلال شهرين على أبعد تقدير، في حين يصر قادة الاحتلال، خصوصاً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، على أن تحقيق أهداف الاحتلال من عدوانه يتطلب عدوانًا طويلاً ومستمرّاً لأشهرٍ طويلةٍ، وربّما لسنواتٍ أيضًا!

نجد أيضاً على صعيد الأرقام الاقتصادية أنّ إقرار ميزانيّة 2024 المعدّلة سوف يفرض ارتفاعًاً في عجز الموازنة من 2.25% إلى 6.6%، فضلاً عن توقّعات الخبراء الاقتصاديين والمراكز البحثية الاقتصادية بتراجع معدل النمو الاقتصادي الصهيوني لعام 2023 إلى 2% فقط، بعدما كان 6.5% في 2022. كذلك تراجعت الصادرات الصهيونية في 2023 بـ 6% مقارنةً بعام 2022، ويعزى انخفاض حجم الصادرات الصهيونية؛ خصوصًا بعد 7 أكتوبر، إلى عوامل عديدة، منها انخفاض حجم الرحلات الجوية من وإلى تل أبيب، وتراجع النقل الجوي والبحري، فضلاً عن انخفاض الإنتاجية الصهيونية نتيجة الاستغناء عن العمالة الفلسطينية القادمة من الضفّة الغربية، وبدرجة أقلّ من قطاع غزّة، إلى جانب الاستدعاء الواسع لجيش الاحتياط؛ إذ أفادت صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية أن قطاع الهايتك الصهيوني يعاني من خسارة 10% من موظفيه بسبب التجنيد الاحتياطي، فضلاً عن تراجع ثقة المستثمرين الأجانب في منتجات الهايتك الصهيونية، خصوصًا بعد فشلها في منع عملية 7 أكتوبر، أو على الأقلّ في رصد تحرّكات عناصر كتائب عزّ الدين القسام قبل العملية.

سياسيّاً واجتماعيّاً

تبدو التداعيات السياسية الصهيونية مربكةً ومشوّشةً مقارنةً بالتداعيات الاقتصادية، إذ تتفق مجمل القوى السياسية الصهيونية، وقسمٌ كبيرٌ من حاضنتهم الاجتماعية على ضرورة مواصلة العدوان حتّى تحقيق أهدافه المعلنة صهيونيًا، لكن تتباين مواقفهم من عقد اتّفاقٍ لتبادل الأسرى، يتضمن تبييضًا للسجون الصهيونية، من خلال تحرير جميع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني. كما تتوارى الأصوات السياسية الداعية إلى إنهاء العدوان، خلف شعاراتٍ فضفاضةٍ، من قبيل استحالة تحقيق الأهداف المعلنة، وخطر انفجار الأوضاع في الضفّة الغربية، والدعوة إلى الموافقة على شروط حركة حماس لصفقة تبادل الأسرى مهما كانت الشروط، وتراجع الدعم الدولي، أو الخشية من تراجعه، وسواها من العناوين السياسية العريضة التي تخفي خلفها دعواتٍ خجولةً لوقف إطلاق النار.

دعوات بعض الساسة؛ وأحيانًا بعض قادة الأمن والجيش الحاليين أو السابقين، الفضفاضة إلى وقف العدوان؛ أو هدنةٍ طويلةٍ، فوراً، أو بأسرع وقتٍ ممكن، تعود إلى أسبابٍ تنافسيةٍ انتخابيةٍ، إذ تظهر مجمل الدراسات الاستقصائية، واستطلاعات الرأي الصهيوني تأييد معظم حاضنة الاحتلال الاجتماعية لاستمرار العدوان، كما في استقصاء معهد الدراسات الأمنية الاستراتيجية الصهيوني (INSS)، التي أظهرت تأييد أكثر من 76% من المستطلعة آراؤهم لهدف إطاحة حكم “حماس” في غزّة. كما يظهر استطلاع معهد الديمقراطية الصهيوني (IDI) الثامن بخصوص العدوان على غزّة أنّ 66% من العينة المستطلعة آراؤهم ترفض الموافقة على المطالب الأميركية بشأن العدوان على غزّة، أي الانتقال إلى مرحلةٍ ثالثةٍ أقلّ كثافةً وحدّةً، في ما اعتبر 54% أنّ العدوان الصهيوني على غزّة هو السبيل الأفضل لاستعادة أسراهم، مقابل 24% اعتبروا أنّ اتّفاقاً مع حركة حماس هو السبيل الأفضل لذلك، حتّى لو كان الثمن الموافقة على جميع شروط حماس؛ بما فيها وقف العدوان وتبييض السجون.

من هنا، ننتقل إلى حجم تأييد حاضنة الاحتلال الاجتماعية الكبير للعدوان على غزّة، على الرغم من الثمن الباهظ بشريًا وماديًا، وعلى الرغم من خسارة الاحتلال الدعم الشعبي على المستوى الدولي، ومن تراجع دعم المجتمع الدولي؛ ربّما باستثناء الدعم الأميركي. إن فهم أسباب هذا التأييد تتباين قليلاً تبعاً لتباينات هذه الحاضنة سياسيّاً وأيديولوجيّاً، خصوصًا بين تيارات الصهيونية الدينية المختلفة من جهة، والتيار الأقلّ تطرفًا من جهةٍ أخرى الذي يدعى بتيار العلمانية الصهيونية. إذ تعتبر تيارات الصهيونية الدينية وقف العدوان من دون تحقيق أهدافه الكاملة وفقًا لرؤيتهم لها، انكساراً بنيويّاً، وتراجعًا خطيرًا في المشروع الصهيوني، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أهداف العدوان وفقًا لهذا التيار لا تقتصر على استعادة الأسرى والمحتجزين، ولا على تقويض سلطة حماس، أو حتّى تدمير حركة حماس، بل يسعى إلى السيطرة الكاملة والمطلقة على كلّ قطاع غزّة، ونشر بؤرٍ استيطانيةٍ جديدة وواسعةٍ.

بناءً عليه، يبدو العدوان على غزّة من وجهة نظر الصهيونية الدينية خطوةً تكتيكيةً ضروريةً لتحقيق رؤيتهم الأشمل لمجمل أرض فلسطين التاريخية، على اعتبارها أرضًا صهيونيةً بالمطلق، خاليةً من الوجود الفلسطيني، أو على الأقلّ بأغلبيةٍ يهوديةٍ وبأقليةٍ فلسطينيةٍ منزوعةٍ من أيّ حقوقٍ سياسيةٍ أو حتّى مدنيةٍ. كما يؤمن مؤيدو هذا التيار بأنّ هذه مهمةٌ دينيةٌ واجبةٌ على كلّ يهوديٍ، تنفيذًا لرغبة الله، وعليه فهي معركةٌ دينيةٌ أولاً، وواجبٌ مقدسٌ ثانيًا، لذا فهم لا يكترثون برأي الآخرين، بما فيهم الولايات المتّحدة، والمعسكر الغربي قاطبةً. فوفقًا لاعتقاداتهم وخرافاتهم، سوف يساعدهم الرب بطريقةٍ ما، ومنها تهيئة المناخ الدولي المناسب لتحقيق هذه المهمة المقدسة. باختصارٍ شديدٍ العدوان وفق هذا التيار في الدرجات، الأولى والثانية والثالثة، واجبٌ دينيٌ مقدسٌ وإلزاميٌ، ومن ثم وكهدفٍ ثانٍ يلبي نزعتهم للثأر من عملية “طوفان الأقصى”.

في مقابل هذا التيار المتطرّف، نلحظ شبه تطابقٍ في مواقف التيار الآخر، الذي يوصف من قبل بعضهم خطأً بالتيار العلماني، ربّما لإبراز الاختلاف والتباين عن التيار الديني المتطرف، وهو تيارٌ عريض ومتنوع الانتماءات السياسية والعقائدية؛ يتضمن قوى يسارية وعلمانية ودينية أقلّ تطرفًا من تيارات الصهيونية الدينية فضلاً عن قسمٍ من جمهور حزب الليكود نفسه، ينظر هذا التيار إلى العدوان على غزّة نوعاً من رد الاعتبار (على الأصح الثأر وفق مفهومه القبلي) على الهزيمة الصادمة في 7 أكتوبر، وعلى الخسائر البشرية الباهظة لأول مرّةٍ في تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني، بل وفي تاريخ كلّ الصراع العربي أو الإقليمي مع الاحتلال الصهيوني. إذ تكشف الأرقام أنّ خسائر الاحتلال البشرية اليوم أكبر من مجمل خسائره على مدار أكثر من عشرين عامًا، أي من عام 2000 إلى نهاية عام 2022 (يبلغ مجموعهم قرابة 1754 قتيلاً)، رغم العمليات العنيفة/ المسلحة التي رافقت الانتفاضة الثانية، التي أخذت طابعًا عسكريًا نشطًا، إذ بلغ مجمل قتلى الاحتلال منذ سبتمبر/ أيلول 2000، حتّى نهاية يوليو/ تموز 2007 نحو 1024 صهيونيّاً فقط؛ من دون احتساب قتلاه على الجبهة اللبنانية، في حين لم يتجاوز عدد قتلى الاحتلال سنويًا منذ نهاية الانتفاضة الثانية حتّى أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قتل 35 صهيونيّاً، باستثناء عامي 2006 و2014 حين قتل 165 صهيونيّاً في الأول، و75 صهيونيًا في الثاني، وهنا نتحدّث عن مجمل القتلى بغض النظر عن العمر والجنس والصفة المدنية أو العسكرية.

ردَ هذا الثمن الباهظ بشريًا حاضنة الاحتلال إلى وعيها القبلي البدائي، لتبحث عن ثأرٍ مدوٍّ ودمويٍ باهظٍ، انعكس تلقائيّاً في خطابٍ عنصريٍ إجراميٍ يدعو إلى إبادة كامل سكان قطاع غزّة جماعيًا، لم ينحصر هذا الخطاب الإجرامي في تصريحات قادة الاحتلال ودوائره الإعلامية فقط، بل شمل آلاف المنشورات الصهيونية على مواقع التواصل الاجتماعي، بما يعكس امتداده الاجتماعي وتجذره في شرائح واسعةٍ وعريضةٍ، ضمّت من بين ما ضمّت؛ خصوصًا في الأسابيع الأولى التي أعقبت عملية “طوفان الأقصى”، قسماً وازناً من مؤيدي وناشطي ما يعرف بـ اليسار الصهيوني، إذ حاجج قسمٌ من مناصري اليسار الصهيوني بأن الأولوية اليوم للقضاء على حركة حماس مهما كان الثمن، مبررين إجرام جيش الاحتلال، ورافضين أي إشارةٍ إلى مسؤولية ممارسات الاحتلال وسياساته على مدار سنوات احتلاله الطويلة عن عملية “طوفان الأقصى”.

إذاً يحرّك تيار “العلمانية الصهيونية” دافع الثأر، ما يعكس عقيدةً صهيونيةً عنصريةً وإجراميةً قائمةً على مفهوم “تفوقها العرقي على الآخر”؛ الفلسطيني هنا، هذا التفوق الذي تُصدرُه كمبررٍ سياسيٍ وأخلاقيٍ ودينيٍ لسيطرتها المطلقة على أرض فلسطين وشعبها، وهنا يتلاقى مناصرو هذا التيار (الموصوف خطأً بالتيار العلماني) مع مناصري تيار الصهيونية الدينية، حول هدف سيطرتهم المطلقة على كامل أرض فلسطين وشعبها، لكنهم يختلفون حول سبل تحقيق ذلك، إذ يرى التيار الأول في سحق الكيانية الفلسطينية ووجودها بخطواتٍ مباشرةٍ وفجةٍ سلوكًا استفزازيًا باهظ الثمن، لذا فإنهم يؤيدون هدف السحق لكنهم يختلفون حول طريقته وآلياته، مفضلين أسلوب السحق الناعم المتدرج، القائم على سلسلةٍ طويلةٍ من الممارسات العدائية المتتابعة التي تفضي في محصلتها الأخيرة إلى سحق هذه الكيانية الفلسطينية، بل والوجود الفلسطيني أيضًا.

يرتكز السحق الناعم المتدرج على ركائز أساسيةٍ أهمّها في الوقت الراهن: أولاً؛ تعزيز دورٍ أمنيٍ فلسطينيٍ، عماده التنسيق الأمني مع سلطةٍ فلسطينيةٍ منزوعة السيادة مكلفةٍ بأدوارٍ أمنيةٍ مركزيةٍ في حماية أمن الاحتلال ومستوطنيه وحاضنته الاجتماعية. ثانيًا؛ حوافز اقتصاديةٌ يتحكم بها الاحتلال كلّيًا، وترتبط بمدى خضوع الفلسطينيين وخنوعهم للأوامر الصهيونية ومصالحها. ثالثًا؛ تمددٌ استيطانيٌ متسارعٌ ومستمرٌ وعدوانيٌ تجاه سكان فلسطين الأصليين، يلغي رويدًا رويدًا أيّ إمكانيةٍ لإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ مستقبلاً، فضلاً عن دوره المباشر وغير المباشر في تهجير الفلسطينيين قسرًا. رابعًا؛ سيطرةٌ صهيونيةٌ أمنيةٌ مطلقةٌ على مجمل أرض فلسطين وشعبها، تعكس سيطرةً سياسيةً واقتصاديةً مطلقةً أيضًا. خامسًا؛ تقسيمٌ زمانيٌ ومكانيٌ للأماكن المقدسة، يفضي في نهايته إلى تثبيت السيطرة والتحكم الصهيوني المطلق بها. سادسًا؛ إطارٌ دوليٌ داعمٌ ومؤيدٌ للمشروع الصهيوني.

استراتيجية أو أسلوب السحق الناعم هي طريقة تيار “الصهيونية العلمانية” في التحكم بأرض فلسطين وشعبها، وإدامة السيطرة الصهيونية الكاملة في المراحل التي يسود فيها التفوق الصهيوني الكامل من دون أي شكٍّ، أما في مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”، التي مثّلت صدمةً بنيويةً وعقائدية، عصفت بمفهوم التفوق الصهيوني المطلق، وأثارت العديد من الشكوك والخوف داخل الحاضنة الصهيونية الشعبية، وخارجها في أوساط داعمي الاحتلال ومناصريه، فقد عاد التيار الصهيوني العلماني إلى جذوره القبلية باحثًا عن ثأرٍ مدوٍّ، يعيد به ترميم التفوق الصهيوني المطلق، على جثث الأطفال والمدنيين الفلسطينيين العزل.

أخيرًا؛ ينحكّم هذا التيار إلى قواعد ضابطةٍ مؤثرةٍ، تتمثّل في ضرورة الحفاظ على موقع الاحتلال دوليًا، على اعتباره امتدادًا استراتيجيًا للقوى العظمى، أميركا تحديداً، ويخضع لحمايتها المطلقة، كما يخدم أهدافها إقليميًا ودوليًا. إذ يقر مناصرو هذا التيار بحاجة الاحتلال إلى دعمٍ دوليٍ مستمرٍ ودائمٍ، نظرًا لمحدودية قدراته وطبيعته العدوانية التي تخلق مناخًا إقليميًا عدائيًا واسعًا. كما يسعى هؤلاء إلى الحفاظ على نمطٍ معيشيٍ مرفهٍ يشابه نظيره السائد في دول العالم المتحضر، أوروبا وأميركا، وهو ما يتطلب كذلك ارتباطًا وثيقًا بالمعسكر الغربي، القادر على تأمين هذا المناخ اقتصاديًا وماليًا ولوجستيًا. من هنا يتمسك تيار العلمانية الصهيونية بالتحالف مع الولايات المتّحدة، ويتجنب أيّ صدامٍ معها، فهي الركيزة الأهمّ والأولوية الأولى، التي يستوجب الحفاظ عليها التخلي عن أيّ أمرٍ آخر، حتّى لو كان الثمن باهظًا، من قبيل وقف العدوان، أو تنازلٍ سياسيٍ ما، أو انكفاءٍ مؤقتٍ أو حتّى دائمٍ.

إذًا تتراوح دوافع حاضنة الاحتلال الشعبية بين الواجب الديني والثأر المدوي والحاسم، الأمر الذي يعكس تباين الأولويات الآنية والدائمة بين خدمة الرب وبالتالي حمايته ودعمه، أو خدمة أميركا ودعمها، ينعكس هذا التباين اليوم في قابلية تغيير الموقف الشعبي والسياسي من عدوان الاحتلال على قطاع غزّة، وعلى مجمل أرض فلسطين وشعبها.

تأثير التداعيات على سياسات الاحتلال وعدوانه

أدت تداعيات عملية “طوفان الأقصى” وعدوان الاحتلال على كلّ فلسطين، وتحديدًا على قطاع غزّة إلى زيادة مستوى عدم استقرار الاحتلال داخليّا، فقد تكرس التباين السياسي اجتماعيًا بين تياري الصهيونية الدينية والعلمانية الصهيونية، كما تكرست التباينات السياسية حتّى داخل حكومة الاحتلال، بين ممثلي التيارين، فضلاً عن التباينات خارجها. الأهمّ من ذلك ارتفعت احتمالية المخاطر الخارجية، سواء الناتجة عن تعدد الجبهات، أو رقعة الأطراف المشاركة في صد العدوان ومواجهة الاحتلال، من قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة والضفّة الغربية، إلى دور أطرافٍ إقليميةٍ عديدةٍ منها حزب الله وقوى عراقية وجماعة الحوثيين، وصولاً إلى أطرافٍ دوليةٍ مثل جنوب أفريقيا (مواجهة قانونية وسياسية). كما أن هناك مخاطر خارجية محدقة متعلقة بجهود فضح طبيعة الاحتلال وحقيقته دوليًا، تحفزها مئات التقارير اليومية الصادرة عن جهاتٍ دوليةٍ وأمميةٍ لها مكانتها المرموقة دوليًا، إلى جانب جهود جهاتٍ ومنظماتٍ حقوقيةٍ وتنمويةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ عديدةٍ حول العالم، أهمّها الحركات النسوية وحركات حياة السود مهمة ومجموعة حماية البيئة والمجموعات الملونة وهيئاتٌ قانونيةٌ وسواها، إلى جانب ناشطين من مختلف الدول ومشاربه. أضف إلى ذلك مخاطر استراتيجية، لم ترق حتّى اللحظة إلى مستوياتٍ خطيرةٍ، لكنها تحمل خطرًا في طياته، إذ تهدد حالة عدم الاستقرار العالمي، وتحديدًا التنافس؛ أو شبه الصراع، الأميركي- الصيني، والأميركي- الروسي، متانة علاقات الاحتلال الاستراتيجية وأولوياتها مع أميركا، ومع مجمل المعسكر الغربي على المدى البعيد، خصوصاً في ظلّ حاجة الاحتلال اليوم إلى دعمٍ طويلٍ وكبيرٍ من أجل تحقيق كامل أهدافه التي أعلن عنها بعد 7 أكتوبر، والتي يعتقد الاحتلال؛ وفق تصريحات قادته ومسؤوليه، أن تحقيقها يتطلب معركةً طويلةً وشاقةً ذات تكاليف ماديةٍ وبشريةٍ وبنيويةٍ باهظةٍ تمتدّ لأشهر عديدةٍ وربّما لسنواتٍ. كما تهدد فداحة جرائم الاحتلال وفجاجتها بالتأثير على علاقات الاحتلال الاستراتيجية كذلك، نظرًا لتعدد الدعاوى القضائية ضدّ الاحتلال وداعميه أمام المحاكم الدولية، والوطنية، ونظراً كذلك لانكشاف حقيقية الاحتلال أمام قسمٍ كبيرٍ من شعوب العالم، خصوصًا في دول المعسكر الغربي.

تؤدّي هذه النتائج الأولية بدورها إلى نتائج داخلية تمس الاحتلال وسياساته وعدوانه الحالي، بل قد تؤثر على ممارساته تجاه أرض فلسطين وشعبها على المديين القصير والمتوسط. هنا لا بدّ من العودة إلى التيارين الرئيسين الناظمين لحاضنة الاحتلال الاجتماعية داخل فلسطين، هما تيارا الصهيونية الدينية والعلمانية الصهيونية، إذ لا يكترث الأول بمجمل النتائج التي تمس مكانة الاحتلال الدولية وصورته وعلاقاته الاستراتيجية مع دول العالم، بما فيها علاقته مع راعيه الأهمّ اليوم الولايات المتّحدة. في حين يضع التيار الثاني هذه النتائج على رأس أولوياته، لإيمانه بأنها عوامل حاسمةٌ لبقاء الاحتلال واستمراره.

إن التيار الموصوف بـ تيار الصهيونية العلماني يدعم العدوان الحالي انطلاقًا من دوافع الثأر الناتجة عن تداعيات عملية “طوفان الأقصى” وتأثيرها على مبدأ التفوق الصهيوني المطلق، الأمر الذي يجعل من احتمال تراجعه عن هذا الأمر ممكناً مستقبلاً في ثلاث حالات: أولا؛ توسّع عمليات المقاومة الفلسطينية النوعية، عبر عملياتٍ نوعيةٍ تعيد إثارة الشكوك بالتفوق الصهيوني المطلق. ثانيًا؛ تصاعد خسائر جيش الاحتلال البشرية، ما يؤدي إلى عزوفٍ عن الالتحاق بالوحدات المقاتلة، وتصاعدٍ كبيرٍ في الحركة الاحتجاجية الرافضة لاستمرار العدوان. ثالثًا؛ ضغوطٌ أميركيةٌ واضحةٌ، وبدرجةٍ أقلّ ضغوط دولية تطالب بوضوحٍ بوقف العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، وعلى مجمل أرض فلسطين.

وفي ما يتعلق بتيار الصهيونية الدينية، من المستبعد تراجعه عن خياره العقائدي المتمثّل في استمرار عدوان الاحتلال الهمجي على قطاع غزّة، وعلى مجمل أرض فلسطين وشعبها، إلّا في إحدى حالتين اثنتين: الأولى هزيمةٌ صهيونيةٌ شاملةٌ عسكريةٌ وميدانيةٌ، وهو احتمالٌ مستبعدٌ جدّاً نتيجة إمكانيات الاحتلال العسكرية والتقنية، وبحكم احتمال التدخّل الدولي والأميركي لنصرة الاحتلال لمنع هذه الهزيمة. أما الاحتمال الثاني؛ فهو استبعاد ممثلي تيار الصهيونية الدينية عن مواقع صنع القرار الصهيوني (هنا لا يتراجع هذا التيار عن دعمه المطلق للعدوان لكن يفقد تأثيره بهذا الخصوص)، وهو ما بات موضعا من مواضع الخلافات الصهيونية الداخلية، إذ تصاعدت الأصوات السياسية المطالبة بتنحية ممثّلي هذا التيار عن مواقع صنع القرار، من داخل حكومة الاحتلال عبر تصريحات بني غانتس وغادي آيزنكوت، كما من خارج الحكومة عبر قياداتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ صهيونيةٍ سابقةٍ، وعبر ممثّل المعارضة الصهيونية الأبرز اليوم يائير لبيد، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً مستقبلاً، وإن لم يرق حتّى اللحظة إلى مستوياتٍ جدّيةٍ.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن استبعاد تيار الصهيونية الدينية من مواقع صنع القرار الصهيوني، وتهميشه سياسيّاً وأمنيّاً وعسكريّاً، وما قد يتبعه من إنهاء العدوان، قد يساهم في تحول التباينات الصهيونية الداخلية إلى انقساماتٍ عميقةٍ، قد تصل حد الصدام المباشر بين مناصري التيارين، أو على الأقلّ بين قيادات التيارين.

خلاصة

تعبّر مؤشّرات الاحتلال الداخلية الحالية عن إجماعٍ صهيونيٍ على استمرار العدوان، يترافق مع اختلافٍ واضحٍ على أولويات الأهداف الصهيونية، بين القضاء على المقاومة الفلسطينية، واستعادة أسرى الاحتلال من غزّة. تخفي هذه الخلافات تبايناتٍ حقيقيةٍ تحمل بزور تحولها إلى انقساماتٍ جديةٍ يرجح أن يؤدي إلى تفكيك حكومة الطوارئ، وربّما استبعاد بنيامين نتنياهو؛ استبعاده حاليّاً غير مرجّحٍ، وتكوين حكومةٍ جديدةٍ مكونة من قوى سياسيةٍ صهيونيةٍ تنتمي لما يوصف بالتيار الصهيوني العلماني. وهو ما قد يتحوّل إلى انقسامٍ اجتماعيٍ أعمق لاحقاً.

سرعة هذه التحولات الصهيونية الداخلية مرتبطة بأمرين اثنين: أولهما؛ استمرار المقاومة الفلسطينية وتزايد وتيرة عملياتها النوعية وكفاءتها، وثانيهما؛ نجاح الحركة الشعبية المناصرة لحقوق الفلسطينيين في إرغام المجتمع الدولي على ممارسة ضغطٍ جدّيٍ لإنهاء العدوان، أهمها الضغط الأميركي، وهما أمران يرجّح حدوثهما في الفترة القريبة المقبلة.

—————————–

خيارات حماس/ سميرة المسالمة

12 فبراير 2024

تؤكد تصريحات القادة الإيرانيين أنهم يعملون على تبريد ساحات الاشتباك التي فتحتها حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة، وحصرها ضمن الحدود الجغرافية للقطاع، وضمن الحدود السياسية، التي تمكّن الأطراف المعنية من متابعة عملية التفاوض الشاملة في المنطقة، مع الولايات المتحدة. وهم يسعون، من خلال ذلك، لبعث رسالة إلى القوى الإقليمية والدولية بأن إيران هي التي تملك القرار النهائي في مختلف الجبهات التي تديرها أذرعها المحلية في لبنان وسورية والعراق واليمن، من جانب. ومن جانب آخر، يعطي ذلك انطباعا للمعنيين، ولا سيما الولايات المتحدة، بنوع من عقلانية، أو واقعية، في سياسة إيران الخارجية، إذ هي جاهزة للتفاوض، وتسيطر على الوضع، في الصراع مع إسرائيل، علماً أن ذلك يتناقض مع ما ظلت تروّجه عبر سياساتها السابقة، في تبريرها إنشاء مليشيات طائفية مسلحة في بلدان المشرق العربي، وفي ادّعاء إمكانية محو إسرائيل وتسويتها بالأرض خلال أيام.

في هذا الإطار، يمكن النظر إلى تصريحات وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان في بيروت (10 فبراير/ شباط)، في مؤتمره الصحافي في لبنان، أنها بداية لمرحلة جديدة في الحوار الإيراني – الأميركي، تتموضع فيه إيران في جهة المعارضين لتوسيع الحرب ضد إسرائيل، عبر الجبهات التي تحكمها، أو تهيمن فيها، وهو إذ يقول: “إن إيران ولبنان يؤكّدان أن الحرب ليست الحل، وأنهما لم يسعيا لتوسيعها”، يدلّ على أن الرسائل المتبادلة مع الجانب الأميركي، بما فيها مطالب الأخير، ولا سيما في لبنان، قد حقّقتها إيران، ما ترك حركة حماس وحيدة في مواجهة إسرائيل، وهو ما يحصل منذ أربعة أشهر، من دون أي مؤازرة من حلف “وحدة الساحات”، أو مساعدة فاعلة تتناسب مع قوة حرب إسرائيل في قطاع غزّة وقسوتها ووحشيتها.

خروج ما يُسمى حلف “المقاومة والممانعة” من الصراع الدائر اليوم في غزّة، أو نأيه عنه، يعني استفراد إسرائيل بحركة حماس، وهو بالقدر الذي ينطبق فيه على الحرب، أي إنها حرب “حماس” وحدها، يعني أن الحل سيكون، أيضاً، على حساب حماس فقط، بحسب ما تفرضه معادلات القوة، التي تتفوّق بها إسرائيل، وأيضاً المعطيات العربية والدولية غير المواتية لحماس، بحيث تبقى تلك الحركة وحيدة قوة مسلحة في الميدان في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، إلى جانب الجهاد الإسلامي، مع استثناء قطر وتركيا من الحالة الدولية اللامبالية لأي دور فاعل لحل الصراع، وهما (قطر وتركيا) تعملان من أجل التهدئة الدائمة لتجنيب الفلسطينيين مزيداً من الخسائر، والعودة إلى القرارات الدولية بما يضمن قيام دولة فلسطين.

إضافة إلى الواقع الدولي والعربي المحبط عموماً، فقد أُخرِج نحو مليوني فلسطيني من معادلات الصراع مع إسرائيل في قطاع غزّة، إذ باتوا مجرد لاجئين ونازحين يطلبون النجاة، وهم بالكاد يتدبرون أمور حياتهم اليومية، ما يزيد الضغوط الموجهة على “حماس” ويجعل خياراتها محدودة وصعبة ومكلفة لضمان سلامة من بقي من الفلسطينيين، وكي تحافظ على مكانتها السياسية وصورتها كجهة مسؤولة أمام شعبها.

ضمن ذلك تواجه “حماس” خيار الاستمرار في المعركة الجارية، وغير المتكافئة، حتى النهاية تحت شعار “إما نصر وإما استشهاد”، كما طرحته قياداتها، وهو خيار مكلف جداً على الفلسطينيين وعلى “حماس”، ضمن الظروف العربية والدولية التي تحدثنا عنها، حيث من الصعب تحميل “حماس” مسؤولية دحر إسرائيل، بالنظر لقوة إسرائيل الذاتية، وبالنظر للدعم الأميركي والغربي لها، وبالنظر لحال تجاهل الأنظمة العربية لدورها في الصراع مع إسرائيل، ولا سيما مع اقتراب معظم الدول العربية من إتمام صفقة التطبيع مع إسرائيل.

ثمّة خيار آخر أمام حماس وأصدقائها، قوامه العمل على وقف هذه الحرب، من مدخل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، عبر إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية، وهو أحد الخيارات التي تعمل عليها الأطراف الفاعلة المقربة من “حماس” والسلطة الفلسطينية في رام الله، وفي هذا الخيار تتكبّد حماس بعض الخسائر، مقابل تجنيب الشعب الفلسطيني في غزّة المزيد من المعاناة والتضحيات، وهو خيار لا يعني هزيمة المقاومة، بالقدر الذي يعزز صورتها كجهة مسؤولة إزاء الشعب الفلسطيني، وهو خيار سبقها إليه في لحظة تاريخية سجلت للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1982 عندما اختار مغادرة بيروت لإنقاذ المدينة وسكانها.

لقد مارست حركة حماس في قطاع غزّة، في فلسطين، حقها المشروع في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كما هو حال كل قوى النضال ضد المحتلين في العالم، بيد أن ذلك لا يعني صوابية كل أشكال الكفاح، بالنظر إلى حسابات الجدوى، أو للمخاطر التي نجمت عن هذا الشكل أو ذاك، على الشعب الفلسطيني، إذ يجب أن يخضع كل شكل للدراسة والتأكّد من نجاعته في استنزاف إسرائيل أكثر من استنزاف الشعب الفلسطيني، من دون أن يقلل ذلك من قدر العمل النضالي وقيمته، أو من مشروعيّته.

على الجانب الآخر، إعادة تقييم أي عملية، وما آلت إليه نتائجها، ونقدها، والاستفادة من دروسها، واجب على أي جهة تتصدّر العمل السياسي أو العسكري، وقد حدث هذا مع حزب الله في تقييمه عملية خطف جنديين إسرائيليين (الوعد الصادق) ومآلاتها على لبنان وشعبه عام (2006)، وتصريح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله: “لو علمت أن عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة (قتل أكثر من ألف لبناني وتدمير الضاحية الجنوبية لبيروت وقرى في الجنوب) لما قمنا بها”، على الرغم من أن حزب الله أغلق من خلالها ملف الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل، وهو ما لم يتحقّق للجانب الفلسطيني، رغم كل الأثمان المدفوعة في هذه الحرب، لكنها حتما غيّرت من مفاهيم كثيرة سوّقتها إسرائيل عن نفسها، أنها الدولة الآمنة لشعبها، وهو ما لم يتحقق في ظل تعنّتها، وعدم استجابتها لمشاريع التسوية العادلة للقضية الفلسطينية.

————————————-

تلك الضربات الأميركية لإيران/ فاطمة ياسين

11 فبراير 2024

تسمّي الولايات المتحدة المجموعات المسلّحة التي تشترك مع إيران بعلاقات دعمٍ ومساندة الأذرع الإيرانية، وتستخدم التسمية من دون مواربة في اتهام مباشر لإيران، وهي تدرك أن هذه الجماعات لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون أن تتلقّى التمويل والدعم السياسي والعسكري من إيران. ورغم أن هذه المجموعات المنتشرة في كل من سورية ولبنان والعراق واليمن قامت، في الأشهر الأخيرة، بهجماتٍ مباشرةٍ استهدفت التجمّعات الأميركية في المنطقة، إلا أن قادة الولايات المتحدة تجنّبوا توجيه ضربات انتقامية على الأراضي الإيرانية بشكل مباشر، واكتفوا بمهاجمة أهداف محدّدة ضد الأذرع الإيرانية في الدول المذكورة، وقد كرّرت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين الهجمات مرّات عدة، مع الحرص على أن تكون الشخصيات العسكرية التي تُستهدَف موجودةً خارج الأراضي الإيرانية.

تاريخ العداء الأميركي الإيراني طويل، يعود إلى اليوم الذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية بقيادة الخميني، وتحولت إيران من حليف نوعي لأميركا إلى عدو فعلي. وأضاف الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان إيران إلى قائمة الإرهاب، وضمّها جورج بوش الابن إلى دول محور الشر الذي أضاف إليه العراق زمن صدّام حسين، وكوريا الشمالية، وشهد تاريخ العداء الطويل لحظات تلاقت فيها مصالح الطرفين، نتج عنها تلقّي إيران أسلحة أميركية خلال حرب الخليج الأولى مقابل تحرير رهائن أميركيين، واستعمل الرئيس ريغان أموال الصفقة في الإنفاق على نشاطاتٍ أخرى لم يوافق الكونغرس على تمويلها. وفي عام 1983، ساهمت الولايات المتحدة في لفت نظر طهران إلى اختراق واسع النطاق يهدّد الحكومة من حزب توده الشيوعي والكوادر الموالية للسوفييت في إيران. وبسبب ذلك، اتخذت حكومة الخميني إجراءاتٍ منها إعدامات جماعية، أدّت فعلاً إلى القضاء على البنية التحتية الموالية للسوفييت في إيران، ولكن الالتقاء الأكبر كان في إبرام الاتفاق النووي الذي كان مسعىً رئيسياً لباراك أوباما، جنَّد له إمكاناته الدبلوماسية، وحشد خلفه مجموعة الدول الأوروبية، لتعود العلاقات إلى التدهور بعد أن ألغى ترامب الاتفاق ذاته، وكاد أن يعطي الأمر بالهجوم على إيران، حين أسقطت طائرةً أميركية في يوليو/ تموز 2019، ولكنه ألغى القرار، وعوَّض عنه بهجوم إلكتروني على مواقع إيرانية حساسة.

قامت قوات أميركية، في فبراير/ شباط 1980، بهجوم على الأراضي الإيرانية، من خلال عملية أطلق عليها مخلب العقاب، أمر بها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر بهدف إنقاذ دبلوماسيين ومواطنين أميركيين احتجزهم مسلحون إيرانيون، وطلبوا من الولايات المتّحدة تسليم الشاه الذي لجأ إلى أميركا مقابل تسليم الرهائن. نشأت أزمة دولية كبيرة أراد الرئيس كارتر حلها بعملية مخلب العقاب، ولكن العملية فشلت، لأن القوة المكونة من ثماني طائرات أصيبت بأعطال مختلفة، واصطدمت طائراتٌ في الهواء، ما أدّى إلى مقتل ثمانية جنود أميركان وإلغاء العملية، وكانت من نتائجها خسارة كارتر انتخابات الرئاسة لصالح ريغان، وأَفرجت إيران عن الرهائن بعد دقائق من إعلان فوز الأخير بالانتخابات. لم تمنع هذه العملية الفاشلة الولايات المتحدة من تكرار الهجوم على إيران، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1987، هاجمت قوات البحرية الأميركية منصّتين نفطيتين إيرانيتين في الخليج، في عملية سمّيت “رامي السهام الرشيق”، ردّاً على الهجوم الصاروخي الإيراني على ناقلة نفط كويتية تحمل العلم راسية قبالة سواحل الكويت.

وجاء الهجوم الأخير في عام 1988، حين أطلقت الولايات المتحدة عملية “فرس النبي”، بسبب نشاط تلغيم قامت به إيران في مياه الخليج العربي خلال الحرب الإيرانية العراقية، وكان الهجوم أكبر عملية قتالية بحرية تقوم بها أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، وأدّى إلى تحييد منصتي ساسان وسيري النفطيتين، وساعد الهجوم الأميركي في الضغط على إيران للموافقة على وقف إطلاق النار مع العراق لاحقاً.

تُبقي هذه العمليات الكبرى احتمالية الضربات المباشرة على إيران واردة، رغم كل ما يقال عن الحذر الأميركي.

——————————-

الإنكار الأميركي يؤجّج الصراع في المنطقة/ عمر كوش

09 فبراير 2024

يصرّ المسؤولون الأميركيون على نفي وجود أي ترابط بين زيادة وتيرة الصراعات في الشرق الأوسط والحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة، ويحاولون تسويق أن الصراعات في المنطقة كانت موجودة قبل هذه الحرب، وأن لا علاقة لموقفهم المنحاز مع الحرب الإسرائيلية بالهجمات التي شُنت على القوات الأميركية في العراق وسورية وفي البحر الأحمر، بما فيها الهجوم على القاعدة الأميركية (البرج 22)، في شمال شرقي الأردن، في 28 من يناير/ كانون الثاني الماضي، وأدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة نحو 40.

لا يمكن التسليم بالموقف الأميركي القائم على الإنكار، بوصفه نهجاً لا يشير إلى حالة متعدّدة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، والجنوح إلى نهج شن الحروب، الذي لا يعرف سوى لغة القتل والإيغال في استخدام العنف المنفلت من عقاله، فكل المعطيات على الأرض تؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزّة ساهمت في تأجيج العنف وعدم الاستقرار في المنطقة، على الرغم من محاولات الولايات المتحدة حصر الصراع في غزّة، وعدم توسّعه إلى دولها، فالقصف المتبادل والمناوشات على الحدود اللبنانية الجنوبية لم تكن قائمة قبلها، ولم تشهد القواعد الأميركية زيادة وتيرة استهدافها من قبل، خصوصاً بعد توصل إدارة بايدن إلى صفقة تبادل سجناء ومعتقلين مع إيران في الصيف الماضي. فضلاً عن أن هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر لا تزال قائمة. فواقع الحال يشي بأن الصراع امتد على طول منطقة المشرق العربي، وبالتالي لا يمكن التظاهر بأنه ليست للانحياز الأميركي لإسرائيل عواقب على المنطقة واستقرارها، إلا إذا اعتمدنا منطق التضليل والكذب للتغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وجرائم المستوطنين في الضفة الغربية.

قد تكون للمليشيات الإيرانية في كل من العراق وسورية أسبابها الخاصة المرتبطة بالأجندة الإيرانية، لكنها وجدت في الحرب على غزّة فرصة لاستهداف القوات الأميركية، وينسحب الأمر على ما يقوم به حزب الله اللبناني والحوثيون، الذين يريدون تعزيز مواقعهم ومواقفهم، لكن ذلك لا يعني أن عملياتهم العسكرية غير مرتبطة بالحرب الإسرائيلية على غزّة والانحياز الأميركي.

تستند سياسة الإنكار التي تلجأ إليها الإدارة الأميركية إلى السياسة نفسها التي تنتهجها دولة الاحتلال الاستيطاني للتغطية على ما يرتكبه جيشها ومستوطنوها بحق الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية من جرائم قتل وإبادة بحقهم، الأمر الذي يثير التساؤل عن حيثيات هذا الانحياز الكامل الذي يصل إلى حدّ التغطية على جرائم قصف الأماكن السكنية، ومعها مختلف المرافق المدنية، من مستشفيات ومدارس وأسواق، حيث يمتد الانحياز إلى سعي الإدارة الأميركية لتوفير تبريرات له، وتأمين تمرير مليارات الدولارات إلى حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، فضلاً عن تزويدها بكل أنواع القنابل والقذائف والمعلومات الاستخباراتية، وبالتالي، يحتاج كل هذا الدعم إلى تبرير أمام الناخب الأميركي. فضلاً عن أن الإدارة الأميركية تريد الإيهام بأن سقوط قتلى أميركيين ليس بسبب دعم الحرب الإسرائيلية، إنما بسبب صراعات أخرى لها علاقة بالعداء لأميركا وللغرب وما شابه ذلك. يضاف إلى ذلك أن الرد الأميركي على الهجوم الذي استهدف قاعدتها في الأردن عكس مدى ارتباك إدارة بايدن وتناقضها، فقد أرادت تأكيد ردّها العسكري على مواقع المليشيات، لكنها لا تريد أن يتطوّر ردّها إلى مواجهة مفتوحة مع إيران، فالرئيس الأميركي جو بايدن لم يفوّت فرصة إلا وتحدّث عن أن بلاده لا تريد اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، لذلك جاء ردّها محسوباً ومنزوعاً من أي تداعياتٍ فائضة، وانحصر هدفه في إيصال رسالة إلى الداخل الأميركي بشكل أساسي.

لا يبتعد إصرار الإدارة الأميركية على تكرار مقولة “عدم امتداد الصراع” وحصره في غزّة، عن محاولاتها تسويق أن ما يجري هو حرب بين إسرائيل وحركة حماس، وتقوم بها دولة الاحتلال الاستيطاني “دفاعاً عن النفس” وليس بغرض إبادة أهل قطاع غزّة وتهجيرهم. في حين أن التاريخ يشهد على أن أصل القضية الفلسطينية، وما ترتّب عليها من صراع، هو الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، أي أن السياق التاريخي لها يعود إلى نشأة إسرائيل وما قبلها في 1948، في حين أن “حماس” تأسست عام 1987، في سياق رد فعل الفلسطينيين على ممارسات إسرائيل ضدهم. واتسمت نشأة إسرائيل بأنها كيان غير طبيعي، فهي ليست كباقي الدول التي تشكلت وفق سيرورات اجتماعية بين مجموعات بشرية تسكن إقليماً من الأرض، ويجمعها تاريخ وعيش مشترك، بل أنشئت ككيان استعماري استيطاني، يقوم على اقتلاع السكان الأصليين وتهجيرهم بالقوة، وإحلال مجموعات يهودية هجينة ومتعدّدة الأصول والأعراق والثقافات والجنسيات محلهم. وقد أظهرت الحرب على قطاع غزّة حجم التغول الإسرائيلي في قتل الفلسطينيين، الذي لا ينفصل عن سياقه التاريخي، وعن العقاب الجماعي المستمر الذي مارسته على الفلسطينيين طوال أكثر من خمسين عاماً، فضلاً عن ممارسات جيش الاحتلال والمستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية.

المشكلة أن سعي الولايات المتحدة إلى عدم توسيع رقعة الحرب لا يعني تجنّبها الانخراط في صراعات جديدة، كونه لا يترافق مع بذلها أي مساع لوقف الحرب الإسرائيلية على غزّة، باعتبار أن هذه الحرب هي العامل الرئيس في تأجيج العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى سحب قواتها من المنطقة، وبما يقلل من إمكانية استهدافها، وعدم دفع الكلفة، لكنها تتبع سياسة تقود إلى زيادة أجواء التوتر والصراع، مستندة إلى منطق القوة، ليس في المنطقة وحسب، بل على مستوى العالم، حيث رفعت وتيرة عدائها تجاه روسيا، وتسعى إلى معاقبة الصين وسوى ذلك. كما أن ساسة البيت الأبيض يرفضون الاحتكام إلى مرجعية معينة في معالجة مشكلات العالم وقضاياه، بما في ذلك القانون الدولي، ويعتمدون على مرجعيات ذاتية الاعتبار، لا تقبل مقاييس من خارجها، حتى لو كانت تلك المقاييس مما أورثه “الآباء المؤسّسون” الأميركيون أنفسهم.

————————

المشرق العربي في مهبّ التغيرات/ غازي دحمان

09 فبراير 2024

تؤشّر اتجاهات الأحداث التي تتفاعل بقوة في المشرق العربي إلى ولادة مساراتٍ نعرف بداياتها، لكننا نجهل مساربها وتفرّعاتها ونهاياتها، فكل الديناميكيات التي ولّدتها تحولات السنين الأخيرة وصلت الى حد الانفجار لصناعة الشكل الجديد للمنطقة، بعد اكتمال مراحل التجريب والاختبار وتجهيز البنى التحتية.

وما بين احتلالاتٍ ومناطق نفوذ وصراعات أهلية، طائفية وعرقية، وثورات شعبية وثورات مضادّة، يبدو أن مرحلة تطوي أذيالها وترحل، بعد انتهاء بنوك أهدافها وتحوّل فعاليّاتها إلى مجرد أفعال نمطية صار الفاعلون معها يخشون تأثيرها على مستقبل مشاريعهم، وبالتالي صار لزاما ترشيق خططهم عبر نقلها من تصاميم الخرائط الى التنفيذ الحي.

أبطال هذه المرحلة هم أنفسهم أبطال المرحلة السابقة، إيران والولايات المتحدة، الطرفان اللذان سيطرا على المشهد المشرقي وشكّلاه بمساطر وبيكارات معيّنة، بعد أن ورثت واشنطن وطهران القوى المحلية وسجلتاهم في خانتيهما، وكلاء للمشروع الجيوسياسي لكل منهما، وموظفين يتبعون تعليمات المركز.

تعايش المشروعان في المشرق العربي، كانت الحصص تتناسب مع قدرة كل طرف على هضم ما تحصل عليه وقدرة أدواته على الأرض في إدارة هذه الحصّة، ولكن يبدو أن هذه المرحلة انتهت، فقد شكلت حرب غزّة والديناميكيات الناتجة منها متغيّرا مهمّا سيكون له انعكاسات على خطوط الصراع ومواقع اللاعبين، فقد اكتشفت إيران أن لديها قدرات تشغيلية فاعلة لم تكن مختبرة بعد، فيما لمست إدارة بايدن، التي طالما فضلت التعايش مع مشروع إيران في المنطقة، أن مستقبل النفوذ الأميركي في المنطقة بات على المحك.

بالنسبة لإيران، بات الوجود الأميركي في المشرق يشكل عائقا أمام نفوذٍ لم يعد ينقصه شيء لتحويل العراق وسورية ولبنان الى ولاياتٍ في هيكلية الجمهورية الإسلامية، ففي هذه البلدان يسيطر حلفاء إيران، أو بالأصح، عملاؤها، على السلطة، وبالتالي يتحكّمون في مصائر تلك البلدان، وتشكّل الظروف الإقليمية والدولية فرصة مثالية لإيران لإعلان استتباع هذه الدول، الولايات، نهائيا، إلى المركز في طهران، التي ستتحوّل إلى عاصمة الإقليم، والناطقة باسمه، والمتحكّمة بتفاعلاته وتوجهاته.

يبقى الأردن خارج هذه الخريطة، فشلت كل محاولات إيران الناعمة لجذبه الى مدارها، ما دفعها إلى استخدام الأساليب الخشنة لتسريع ضمّه الى كوكبة البلدان المشرقية الواقعة ضمن تأثيرات المجال الإيراني، مستثمرة الحرب في غزّة لتسريع عملية صناعة حواضن أردنية لها ودعمها بالسلاح والمال، عبر إشراكها في تجارة المخدّرات، وإن ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليها وكشفها، ويشيع حلفاء إيران أن هذه الأسلحة كانت في طريقها الى الضفة الغربية للمساعدة في مواجهة الحرب الإسرائيلية!

بالنسبة لأميركا، لا تستطيع إدارة بايدن تكرار تجربة الانسحاب الأميركي المُذل من أفغانستان، بعيدا عن الأصوات التي تنادي في واشنطن بسحب القوات الأميركية من سورية والعراق، فإن الحسابات الإستراتيجية الأميركية تخالف تماما هذه الرغبات، إذ سيكون من غير المنطقي، في ظل تشكيك أطراف دولية بقدرة واشنطن على إدارة التفاعلات الدولية، أن تنهزم أميركا أمام قوة إقليمية بحجم إيران، فضلا عن أن الوجود الأميركي في العراق وسورية يتعدّى، في دوره ووظيفته، مجرّد مناكفة طهران بقدر ما هو جزء من حسابات واشنطن في الصراع مع الصين وروسيا على النفوذ في المنطقة.

بعد الحرب على غزّة، تغيّرت حسابات الفاعلين في المنطقة، وتغيّرت طرائق تفكيرهم، فالجميع، بطريقة او أخرى، انخرطوا في الحرب الدائرة على أرض فلسطين، اكتشف الجميع أن المعادلات التي جرى إرساؤها سابقا لم تعد مناسبة، فالجميع اختبروا قواهم واكتشفوا نقاط الضعف والقوة لديهم ولدى خصومهم، وثبت من مجريات الحرب أن لكل الأطراف، وفي ظل الاصطفافات والانقسامات الداخلية والخارجية، حواضن مستعدّة لتقديم الدعم للحرب الى حدود بعيدة، ما يغري القيادات بتوسيع رقع الحرب والذهاب بعيدا بها.

ولعل ما يعزّز احتمالية السير في الحرب الى نهاياتٍ غير متوقعة، اكتشاف اللاعبين أن الفوز بمعركة أو ساحة لا يعني الفوز بالحرب، في ظل الترابط الهائل بين القضايا والمشاريع وتداخل الجغرافيا، إذ على مدار العقد الماضي جرى تفكيك وإعادة تركيب المنطقة على كل المستويات، وتداخلت مكوّنات أزماتها وقضاياها بشكلٍ يصعُب تفكيكها، وبالتالي، أي تغيير في ساحة معينة سينعكس حكما على جميع الساحات، ما يستدعي الحسم في كامل البقعة الجغرافية للمشرق العربي إن أراد أيٌّ من أطراف الصراع تحقيق النصر في هذا الصراع.

لم تعد نظرية الفراغ تصلح لتحليل الواقع في المشرق العربي، بعد أن ملأ الفاعلون الخارجيون كامل الفضاء المشرقي، وأخرجوا نهائيا الفاعلين المحليين من سلطة القرار، وبالتالي، لا نستطيع الحديث عن مصالح شعوب المنطقة وتوجّهات النخب السياسية فيها، حيث لا ملامح لشعوب ونخب ولا تأثير لهذه المكوّنات على مجريات الأحداث، ما يجعل الصراع أشدّ قساوة ويحوّل المشرق العربي إلى مجرّد ساحة اختبار لمعادلات القوى وموازينها، ولأن التعايش بين مشاريع اللاعبين الخارجيين صار خطأ لا ينبغي تكرارُه، فلنا توقع أن تدوم الحرب طويلا في المشرق العربي، وانتظار الخرائط الجديدة التي سيفرزها التطاحن الحاصل، والذي يأخذ نمط صراعات وجودية.

———————————–

واشنطن – طهران… مواجهات محسوبة/ بشير البكر

09 فبراير 2024

تبدو المواجهات بين الولايات المتحدة وإيران محسوبة جيدا، كي لا تخرُج عن الخطوط المرسومة، وتقود إلى ما هو أكبر. وهي تجري، حتى الآن، في كل من سورية والعراق واليمن، وفق مقاييس دقيقة، تحسب كل خطوة، ومستوى ردّ الفعل المناسب عليها. ورغم التصعيد في اللهجة من مسؤولي البلدين، لا تبدو الحرب المباشرة قريبة، بسبب إدراك كل منهما الكلفة العالية، وعدم وجود مصلحةٍ فعليةٍ لأيٍّ من الطرفين في تفجيرها. وحسب ما هو واضح من تجارب العقود الماضية، مهما ارتفع منسوب التوتر بين واشنطن وطهران، تبقى هناك مساحة للحوار والتفاهم، ومثال ذلك التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 بين إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وإيران. ورغم أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تراجعت عن الاتفاق، وصعّدت ضد إيران من خلال اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، بقي احتمال الحرب في درجةٍ دنيا. وعلى هذا الأساس، يمكن قراءة سلسلة العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الأميركية ضد حلفاء إيران في كل من سورية والعراق، في ردٍّ على العملية العسكرية ضد القاعدة الأميركية في الأراضي السورية، في 25 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، والتي سقط فيها ثلاثة قتلى بين الجنود الأميركيين، وأكثر من 30 جريحا.

يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تجد مفرّا من الرد بقوة، بعدما واجهت اتهامات من الداخل والخارج بأنها متهاونة تجاه إيران، التي تحرّك حلفاؤها في لبنان لتوجيه ضربات يومية لإسرائيل، وفي اليمن لتهديد أمن الملاحة في البحر الأحمر، ومهاجمة القواعد الأميركية في سورية والعراق. وكي لا يبدو ضعيفا، وهو على أبواب حملة الانتخابات الرئاسية، فقد قرّر بايدن أن يعطي للرد طابعا استعراضيا، يقتصر على العراق وسورية واليمن، والاستمرار ضمن معادلة عدم توسيع حرب إسرائيل على غزّة، وإبقاء إيران خارج مجال النيران، وضبط حلفائها تحت سقفٍ معيّن. ورغم تواتر العمليات العسكرية في جنوب لبنان والبحر الأحمر، لا يزال الوضع تحت السيطرة، ولم يتم خرق قواعد الاشتباك، بحيث تنتقل الأطراف من سياق العمليات التحذيرية والانتقامية إلى الردع ذي البعد التدميري. ومن المستبعد أن يتطوّر الموقف باتجاه ما يخالف ذلك، ويقود إلى مشاركة إيران، أو توجيه ضربات مباشرة لها داخل أراضيها. وفي الحسابات كافة، لن يتجاوز الموقف حافة الهاوية، إلى لحظة من الخطر تطيح كل ما جرى العمل به من قواعد اشتباك في السنوات الأخيرة. وعلى هذا، تحافظ طهران على توزيع مجال نفوذها، والاستثمار السياسي في المنطقة العربية بين اليمن ولبنان وسورية والعراق وفلسطين، وستظلّ سورية والعراق ساحة اشتباك إيراني أميركي لتنازع النفوذ.

الولايات المتحدة مهتمة بعدم توسيع الحرب، لكن العمليات التي تقوم بها ربما قادت إلى عكس ما تريد. وقد تتلقّى ردوداً تورّطها في النزاع، وهو أمرٌ تعمل إسرائيل عليه من أجل إشعال حربٍ واسعة، بعد عجزها عن تحقيق أهدافها في غزّة. وما لم تضغط واشنطن من أجل وقف إطلاق النار في غزّة، قد يصعب عليها تدارك الانزلاق نحو دورة من العنف تتحوّل إلى حربٍ واسعة، طالما أن الأطراف تحتفظ جميعها بحقّ الرد. ومن المرجّح أن ما يحصل من مناوشاتٍ في سورية والعراق لن ينتهي بمجرّد توقف الحرب على غزّة. ولذا يمكن للمعادلة أن تنقلب في حال عاد ترامب إلى الرئاسة، وهذا أمرٌ لا يبدو أن طهران غافلة عنه، وهي تأخذه في الحساب، ولذا تحاول تحقيق مزيد من المكاسب على حساب الولايات المتحدة، بما في ذلك بناء تفاهماتٍ مع بعض الخصوم التقليديين، مثل السعودية.

—————————–

فلسطين وفقّاعة اليوم التالي/ علي العبدالله

07 فبراير 2024

قاد عدم تحقيق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة أهدافه المعلنة في “سحق” حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتحرير الرهائن لديها، وتصاعد ضغط الرأي العام العالمي تحت تأثير صور القتل والدمار والنزوح لوقف الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في القطاع، وتصاعد المخاوف من الانزلاق نحو حربٍ إقليميةٍ واسعة في ضوء تنامي عمليات “محور المقاومة” وتنوعها، واستهدافه القواعد الأميركية وطرق الشحن الدولية في البحر الأحمر وبحر العرب، كما باستهدافه الكيان الإسرائيلي بالصواريخ البالستية والمسيّرات، ونفاد الوقت، حيث شهر رمضان والانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب، قاد هذا كله إلى نشوء ميل سياسي دولي إلى وقف العدوان والدخول في مسارٍ لإحلال “السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين على قاعدة حلّ الدولتين جسّدته مشاريع تحت عنوان “اليوم التالي” طرحتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.

بدأ حديث الإدارة الأميركية عن “اليوم التالي” في ذروة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة كما لو كان مناورة لاحتواء ردّات الفعل العربية والإسلامية وتنفيس الاحتقان الشعبي المتصاعد، الذي أجّجته صور القتلى، خصوصا بين الأطفال والنساء، وصور الغزّيين الهائمين على وجوههم هربا من القصف الوحشي وصور الدمار الذي لم يترُك مجمّعات سكنية أو مستشفيات أو مدارس وجامعات ومساجد ومواقع أثرية ومقابر وبنى تحتية إلا واستهدفها، خصوصا وأن حديثها عن “اليوم التالي” اقترن بدعمها العسكري والسياسي غير المحدود للعدوان الإسرائيلي ورفضها دعوات وقف إطلاق النار. وجاء إطلاق مليشيات تابعة لإيران هجمات بالصواريخ والمسيّرات على القواعد الأميركية في سورية والعراق واستهداف حركة أنصار الله اليمنية السفن الإسرائيلية والمتوجّهة إلى إسرائيل، ما أدّى إلى عرقلة الملاحة في البحر الأحمر ودفع الإدارة إلى الرد بقصف مواقع “الحركة” في اليمن وقصف مواقع المليشيات التابعة لإيران في سورية والعراق، ليصبّ الزيت على النار ويجعل احتمال اتّساع دائرة الحرب راجحا.

كما أدّى انطلاق التظاهرات الضخمة في المدن الأميركية ومقاطعة العرب والمسلمين الأميركيين حملة الرئيس جو بايدن، الانتخابية، ومقاطعته في لقاءاته الانتخابية بالهتافات المطالبة بوقف العدوان على غزّة، وإصدار 48 مدينة أميركية على الأقل قرارات رمزية تدعو إلى وقف القصف الإسرائيلي على غزّة، وست مدن أخرى قرارات تدعو إلى السلام، إلى تصعيد الضغط على الإدارة، وإلى ضغط الإدارة على إسرائيل كي تأخذ الدعوة إلى “اليوم التالي” على محمل الجدّ وتطرح تصوّرها حول ذلك.

انطوى مشروع الإدارة الأميركية لليوم التالي على خطواتٍ تبدأ بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن وإصلاح مؤسّسات السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها، وتفعيل منظمة التحرير كي تلعب الأولى دورا في إدارة قطاع غزّة وتلعب الثانية دورا في شرعنة هذا الدور من دون اعتراض على انضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها بعد قبولهما بما تبنّته من مواقف وعقدته من اتفاقات مع الكيان الإسرائيلي، والخاتمة دولة فلسطينية منزوعة السلاح لضمان أمن إسرائيل. ولتحفيز رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ونيل موافقته على المشروع، ربطت بين التطبيع السعودي وإنشاء دولة فلسطينية.

اشتمل المشروع البريطاني على وقف القتال والبدء بإدخال مزيدٍ من المساعدات الإنسانية للاستجابة للأوضاع المأساوية في القطاع، والعمل على إخراج الرهائن وتبادل الأسرى، إلى جانب الشروع بسلسلة من الترتيبات السياسية التي تفضي إلى “تغييرات جذرية” لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بهدف التمهيد للبدء بإعادة إعمار غزّة، والمضي إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، واعتراف الأطراف الدولية فيها بما في ذلك الأمم المتحدة. وهذا كله مرتبطٌ بجملة مسلّمات أولاها سلطة وطنية فلسطينية جديدة يقودها تقنيون، وثانيها رفض أي دور لحركة حماس في إدارة قطاع غزّة أو المشاركة في أي حكومة لإدارة شؤون الفلسطينيين في المرحلة المقبلة، وثالثها مرحلة انتقالية هدفها التحضير لإجراء انتخابات عامة تفضي إلى تشكيل قيادة فلسطينية جديدة وفق نتائج صندوق الاقتراع.

وجاء المشروع الأوروبي على شكل خريطة طريق بعشرة بنود إجرائية هدفها الوصول إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تبدأ بعقد مؤتمر دولي للسلام على مستوى وزراء خارجية ومديري المنظّمات الدولية لا يحضرُه طرفا الصراع مع عقد اجتماعات منفصلة معهما لوضعهما في صورة ما يُطرح في المؤتمر، الذي سيحدّد صيغة للسلام الشامل بناءً على قرارات الأمم المتحدة السابقة وجهود الوساطة الدولية، لينتهي بوضع “إطار مبدئي” خلال عام يقدّم إلى طرفي الصراع، ويدعوهما إلى التفاوض على الصيغة النهائية.

استند المشروع إلى جملة مسلّمات، أولها هدف مؤتمر السلام إقامة دولة فلسطينية، وثانيها التطبيع الكامل بين الدول العربية وإسرائيل، وثالثها أن توفر الخطّة ضمانات أمنية قوية لإسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، ورابعها الاعتراف الدبلوماسي الكامل المتبادل، وخامسها التكامل بين إسرائيل وفلسطين.

عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على احتواء ضغط الإدارة وقطع الطريق على مشاريع “اليوم التالي” الأخرى، فلجأ إلى تبنّي تصوّر لليوم التالي، اعتبره الكاتب الإسرائيلي في صحيفة معاريف، بن كسبيت، “بالون اختبار”، وأرسله مع رجل يثق به كثيرا، وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، لمناقشته مع مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، أساسُه إقامة حكم عسكري إسرائيلي كامل في غزّة، يدير نقل المساعدات الإنسانية ويتحمّل المسؤولية عن العناية بالسكّان المدنيين، تشكيل ائتلاف دولي من دول عربية تشارك فيه السعودية، مصر، المغرب، الإمارات، البحرين ودول أخرى، سيكون هذا الائتلاف جزءاً من اتفاق التطبيع الإقليمي، إقامة جسم جديد يسمّى “السلطة الفلسطينية الجديدة” لإدارة قطاع غزّة، مع حقّ إسرائيل في العمل الأمني في القطاع بالصيغة التي تعمل فيها داخل الضفة. إجراء إصلاح لأداء السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي مواد التعليم الفلسطيني، وفي معالجة الإرهاب. وهذا من دون إخلاء المستوطنات القائمة. وإذا نُفذت هذه المراحل كما تريد إسرائيل تعترف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح.

تتطابق مشاريع “اليوم التالي” المذكورة حول البدء بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة وتبادل الرهائن والأسرى لدى الطرفين، وحول خاتمة العملية السياسية: دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة وعاصمتها القدس الشرقية، حدود عام 1967 مع تعديلاتٍ على قاعدة تبادل أراضٍ، وتتباين في المسار لبلوغ النهاية “السعيدة”، وفي الموقف من مصير حركة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية، فمشروع الإدارة الأميركية يتبنّى موقفاً داعماً لـ “السلطة” ومعتدلاً من انضمام حركة حماس لمنظمة التحرير، بينما موقف مشروعي المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إيجابي من “السلطة” ومتطابقٌ مع المشروع الإسرائيلي في رفضه القاطع أي دور لحركة حماس.

أثار التطابق والتباين بين مشاريع “اليوم التالي” أسئلة بشأن فرص تعاون أصحاب هذه المشاريع وتوافقها على صيغة مشتركة لإنجاح التوجّه ودفعه نحو النهاية المعلنة: سلام على قاعدة حل الدولتين، ومخاطر ذهابهم إلى المفاضلة وتمسك صاحب كل مشروع بمشروعه وضياع الوقت والجهد.

واقع الحال أن ثمّة إمكانية لتوافق وتنسيق بين الإدارة الأميركية والمملكة المتحدة، وفي حين لن يحصل المشروع الأوروبي على فرصة للوجود على الطاولة لاستحالة قيام توافق دولي بسبب انفجار التنافس بين القوى العظمى وتحفظ الولايات المتحدة على قيام الاتحاد الأوروبي بدور مستقل وقيادي في عملية السلام في الشرق الأوسط واستياء الجنوب العالمي من سياسات الغرب، فإن الراجح ذهاب الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية نحو المفاضلة والانخراط في سجال بيزنطي، لأن نتنياهو ورغم وضعه تصوّرا “لليوم التالي”، إلا أنه أغلق الطريق بلاءاته الكثيرة: لا للسلطة الوطنية ولا لحركة حماس ولا لسيادة فلسطينية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط… إلخ. كما أنه مقيّد بائتلاف حاكم فيه وزراء من أقصى اليمين لا يرفضون الحديث عن وقف الحرب والتنازل في ملف الرهائن فقط، بل ويدعون إلى ترحيل الفلسطينيين وضمّ قطاع غزّة وإعادة الاستيطان فيه، وأي تقدّم في المفاوضات أو القبول بحلّ الدولتين سيقود إلى انهيار الائتلاف والذهاب إلى انتخابات مبكّرة لن تكون في مصلحته وهو حريص ويقاتل من أجل مستقبله السياسي ونجاته من الإدانة بتهم بالفساد. لذا سيناور لكسب الوقت حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، على أمل عودة الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض من دون استبعاد استخدامه ورقة تفجير مواجهة شاملة مع حزب الله اللبناني لخلط الأوراق وتوريط الإدارة الأميركية في الحرب. كما هناك تباينات بين الإدارة والسلطة الوطنية الفلسطينية بشأن حدود دولة فلسطين والسيادة على الأرض، حيث ما زالت الإدارة تربط الاتفاق على الحدود باتفاق طرفي الصراع، ما سيعيد الموقف إلى المربّع الأول، حيث لم تنجح المفاوضات السابقة بين الطرفين في الاتفاق على حلٍّ لقضايا الحدود والسيادة والأمن.

وما يزيد الموقف تعقيدا ضعف أوراق الطرف الفلسطيني في ضوء الانقسام الفلسطيني وانعدام فرص الاتفاق بين “السلطة” وحركة حماس، فالخلاف بين الرؤى والتصوّرات وعلى الأوزان والأدوار والحصص أفشل كل مفاوضات المصالحة التي تمت في السنوات الماضية، فما بالك ووزن حركة حماس قد تضاعف لدى الشارع الفلسطيني بعد عملية طوفان الأقصى، وتخلّي الأنظمة العربية عن مساندة “السلطة” وتركها تواجه مصيرها منفردة، فالبرغم مما قيل عن تزايد التنسيق بينها والسعودية فإن موقف الأخيرة لا يشكّل غطاء وحماية لها. قال مستشار الأمن الوطني السعودي في اجتماع مديري أجهزة المخابرات العربية في الرياض “إن المملكة لا تزال مهتمة بالمضي في التطبيع مع إسرائيل مقابل خطوات عملية وغير قابلة للنقض من إسرائيل من شأنها أن تمهد الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية، حتى لو لم تتم إقامة هذه الدولة على الفور”. وكانت ثلاثة مصادر قد قالت لوكالة رويترز إن السعودية، وفي مسعى إلى إبرام اتفاق دفاعي مع واشنطن قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون مستعدّة لقبول التزام سياسي من إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية بدلا من أي تعهدات أكثر إلزاما، فلدى الأنظمة العربية مشكلاتها وحلولها الخاصة، ولا تنوي التصعيد لتحسين أوراق “السلطة” وحماية الحقّ الفلسطيني.

ستبقى مشاريع “اليوم التالي” معلقة، ما لم تدفع التطورات الميدانية إلى خضوع الموقف الإسرائيلي للضغط الدولي عموما، والأميركي خصوصا، وتسليمه بحلّ الدولتين.

——————————–

هل فقدت إيران السيطرة على فرانكشتاين؟/ مروان قبلان

07 فبراير 2024

ليلة عيد الميلاد (25 ديسمبر/ كانون الأول) 1979، اجتاحت القوات السوفييتية أفغانستان، ونصبَّت حكومة عميلة لها بقيادة بابراك كارمال بعد فترة اضطرابات تلت إطاحة الملك ظاهر شاه عام 1974. على الأثر، قرّرت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر الدخول في حرب وكالة هدفها استنزاف السوفييت ومنعهم من التفكير بغزو باكستان والوصول إلى بحر العرب، والتحكّم، من ثم، بإمدادات النفط من الخليج العربي. تولى مستشار الأمن القومي زبغينو بريجنسكي مهمة تنفيذ هذه السياسة، وعلى الأثر زار المنطقة، واجتمع بقيادات أجهزة استخبارات حليفة، وانتهى إلى إنشاء “كونسورتيوم” أو “ناد أمني” ضمّ إلى جانب الولايات المتحدة كلا من السعودية، ومصر، والمغرب، وباكستان، وباشر العمل على تنظيم حرب عصابات ضد القوات السوفييتية في أفغانستان، بما يشمل تقديم السلاح والأموال والتدريب وتجنيد المقاتلين. وشجّعت الدول العربية الأعضاء في النادي مواطنيها على الذهاب إلى أفغانستان للجهاد ضد “جحافل القوات السوفييتية الكافرة”، وأدّى ذلك إلى ظهور ما سميت حينها ظاهرة “الأفغان العرب”.

نجحت الخطة الأميركية نجاحا عظيما، وخلال عقد فقط تمت هزيمة موسكو عسكرياً وإخراجها من أفغانستان. وقاد ذلك لاحقاً إلى تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، وخروج موسكو حتى من جمهوريات آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان. ومع انتهاء الصراع بهذه النتيجة، بدأ المجاهدون العرب العودة إلى بلدانهم، وقد صار الجهاد، بالنسبة إلى أكثرهم، مهنة وعقيدة، فبدأوا الاصطدام بالنظم الحاكمة في بلدانهم بعدما اتهموها بالكُفر والعمالة للغرب، وظهرت بذلك ما تُسمّى ظاهرة “العائدين من أفغانستان”. ونتيجة ذلك، شهدت دول عربية، خصوصا مصر والجزائر، ابتداء من مطلع التسعينيات، أعمال عنفٍ واسعة، إذ شنّت حركات، مثل تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، هجمات كبرى طاولت خصوصا قوات الأمن والسياح الأجانب، فيما فعلت “الجماعة الإسلامية المقاتلة” في الجزائر، وجل أعضائها من الأفغان العرب، الشيء نفسه، إنما على نطاق أوسع بعد انقلاب الجيش على العملية الديمقراطية عام 1992. وقد أسفر ذلك عن سقوط مئات الآلاف من القتلى. عانت السعودية ودول خليجية أخرى أيضاً، وإنْ على مستوى أقلّ، من الظاهرة التي بلغت ذروتها في هجمات 11 سبتمبر/ أيلول (2001) ضد الولايات المتحدة التي لم تسلم هي الأخرى من ارتدادات السياسة التي تبنّتها والظاهرة التي ساهمت في صنعها.

على مدى أكثر من عقد من الحرب في سورية، بعد تحول ثورتها إلى نزاع مسلح إقليمي ودولي، أنشأت إيران “جيشاً شيعياً” عابراً للحدود، عبر تجنيد آلاف المقاتلين الشيعة من العراق ولبنان، وباكستان، وأفغانستان، وأذربيجان، ونظمتهم في نحو 70 فصيلا مسلحا وزجّت بعضهم (زينبيون، فاطميون، حيدريون، محمديون، نجباء… إلخ)، في أتون الحرب السورية. بعض حكومات البلدان التي ينتسب إليها هؤلاء المقاتلون (باكستان وأذربيجان وأفغانستان خصوصا)، بدأت تُعرب علنا عن خشيتها من بروز ظاهرة “عائدين شيعة” أو “عائدين من سورية” تنعكس سلبا على استقرارها، بعدما اكتسب هؤلاء “خبرة قتالية” في الحرب السورية. لكن جانباً آخر غير معروف سابقاً برز أخيراً، خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة، وبدأ يطاول إيران نفسها، إذ أخذت مصادر عديدة تتحدّث عن احتمال فقدان إيران السيطرة على بعض المليشيات التي صنعتها.

ورغم أنه لا دليل يُعتدّ به على صحة هذا الزعم، بدليل أن مليشيا “كتائب حزب الله” العراقية أعلنت عن وقف هجماتها على القوات الأميركية فور بروز احتمال تلقّي إيران ضربة أميركية بعد الهجوم على قاعدة البرج 22، شمال الأردن، ورغم أن هذه المزاعم قد تكون مجرّد تسريبات مصدرها إدارة بادين نفسها لإعفاء إيران من المسؤولية لتجنّب مواجهة معها، إلا أن هناك احتمالا، ولو ضئيلا، على أنه بعد مقتل عرّاب تلك المليشيات قاسم سليماني بدأت بعض فصائل جيش إيران الشيعي العابر للحدود تتصرّف بطريقة مستقلة نسبيا عنها، ما يعني أن الأدوات التي صنعتها إيران لردع خصومها عن ضربها وإبعاد الحرب عن نفسها قد تكون سبباً في جلب الحرب إليها، عندها تكون إيران قد وقعت في ما وقع فيه غيرها، فقدان السيطرة على فرانكشتاين!

————————-

حرّية البحث عن الحقيقة/ فوّاز حداد

06 فبراير 2024

يُمكن تحديد تاريخ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بأنه اليوم الذي سجّل اندلاع أكبر مُواجهة عسكرية بين حركات المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي في غزّة، وكان أيضاً بداية أُخرى، إضافية وصارخة لانكشاف وسائل الإعلام الغربية، بعد تاريخ طويل من التحيُّز في الصراع العربي الإسرائيلي، ومن بعده ضدّ الشعب الفلسطيني في أرضه المُحتلّة.

وفي المرحلة الأخيرة ظهر جليّاً بمُحاولات دؤوبة خلال العدوان على غزّة، وكانت في تقييد نقل الخبر، وإخفائه والتلاعُب فيه إلى حدود لا يُستهان بها، بلَغت درجة تزييفه، باختلاق اتّهاماتٍ بجرائم تُشوِّه صورة المقاومة عن تعمُّد صارخ. يُمكن القول، إنّ “طوفان الأقصى” وُوجِهَ بطوفانٍ من الأكاذيب.

إنّ مهنة الإعلام بأنواعها، خصوصاً الصحافة المعروفة بالبحث عن المتاعب، تُحيلنا إلى المشاقّ التي يتحمّلها الصحافيّون والعاملون في وسائل الإعلام بحثاً عن الحقائق، غدت في ظلّ الهيمنة الغربية ليست بحثاً عن الحقائق، بقدر ما هي اختراعُ الأكاذيب وتلفيق الذرائع لإخفاء الحقيقة.

لن نتطرّق إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساهمت بِنَشْر كمّية هائلة من المُغالطات والإشاعات، فالذُّباب الإلكتروني متنوّع الجنسيّات والمُموَّل من مؤسّسات وجهات عدّة معروفة ومجهولة، أسفر عن غضِّ النَّظر من الحكومات، إنْ لم يكن بتأييدها، ما يساعد سياساتها على التسرّب إلى الفضاء الإلكتروني من خلال دعاوى وادّعاءات شعبوية ضدّ العرب وفلسطين والإسلام، والتحريض عليها، بينما كان النشطاء المتعاطفون مع غزّة تحت رقابة مُنحازة ضدّ المقاومة على حسابات “فيسبوك” و”إكس” (تويتر سابقاً).

شكّلت تدخُّلات الغرب في حرّية التعبير امتحاناً، سقط فيه، بأزمة تجاوزت المنطقة العربية وأصبحت دوليّة. كانت السيطرة على وسائل الإعلام تكاد أن تكون مُتكاملة، وأيّ خروج عنها يتعرّض الفاعل للعقوبة، إن لم يُجبر على تقديم استقالته، أو طرده أو التعرُّض للمُضايقة، وهو ما حدث أيضاً في الجامعات والوظائف العامة، لم تُستثنَ منه القنوات التلفزيونية، ظهر التأثير في المقابلات السياسية، والتضليل في نشرات الأخبار. ولم يكن الخروج عن هذه الظواهر القمعيّة قويّاً ومؤثّراً إلّا في المظاهرات، فالشوارع وحدها منحت المحتجّين حرّية التعبير.

تبدأ صناعة الأكاذيب في “إسرائيل”، هناك مصدرها، ويجري توزيعها إلى أوروبا وأميركا. أوّل من تبنّاها الرئيس جو بايدن بالذات، وعمل على ترويجها، فوصف عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بأنها أشبه بهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في نيويورك، بذلك نسَب “حركة حماس” إلى “تنظيم القاعدة”، والأقرب إلى “داعش”. وكرّر أكثر من مرّة بأن “حركة حماس” تستهدف اليهود، ما أحال المقاومة إلى مُنظَّمة نازيّة، وحوّل “طوفان الأقصى” إلى “هولوكوست”. بينما كان جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفّذ مجازرَه في غزّة، وكانت العمليات الهمجيّة التي لا تقلّ عن “هولوكوست” مُستمرّة على مدار الساعة. 

تلك كانت إحدى المرّات النادرة في غرابتها، حيث قيّدت الصحافة نفسها بتعليمات الحكومات واللُّوبيات ورجال المال والأعمال، وتصرّفت على الضدّ من حرّياتها إلى حَدٍّ باتت تأخذ أخبارها من الناطقين المُعتمَدين في إدارات الدَّولة، والمُثير للسُّخرية أنّ الصحافة أصبحت تستمدّ رؤيتها منهم، وليس ممّا يحدث على الأرض، فـ”إسرائيل” عدا أنها وضعت مُراسلي القنوات التلفزيونية تحت الرقابة العسكرية، منعتهم من نقل مُجريات الحرب في غزّة بمنعهم من الدخول إليها.

أمّا المركز الرئيسي لنشر الأكاذيب، فكان في واشنطن، عندما وقف المتحدّث باسم “مجلس الأمن القومي” في “البيت الأبيض”، جون كيربي، وهو أميرال سابق، عُيّن من قبل ناطقاً في الإدارة الأميركيّة مرّة باسم “البنتاغون” وأُخرى باسم وزارة الخارجية؛ ونظراً لـ”مواهبه” أُعطي مسؤوليّات أكبر، ليقول: “أريد أن أكون واضحاً، وأعرف أنّني قلتها مليون مرّة، إن الأرقام الصحيحة لعدد الضحايا المدنيّين في غزّة هو صفر، ولم نر دليلاً على قيام إسرائيل بإبادة جماعية”.

هذا الرجل ليس أحمق، لم يُسنَد إليه هذا المنصب الحسّاس ليُجيب عن أسئلة من مُراسلين مُخضرَمين لجرائد كبرى، تتطلّب الدِّقّة، ولم تكن هذه الدِّقّة، إلّا قدراته على التلاعُب بالكلام. المطلوب منه، عدم إدانة “إسرائيل” على القصف العشوائي، والتأكيد بكلّ ثقة أنها لم ترتكب أيّة مُخالفة، من ناحية عدم التمييز بين مُقاتلين ومدنيّين، فهو مُكلَّف بأن يُفهمنا أنّ آلاف الضحايا ليسوا من المدنيّين، وكأنّ أيّ إنسان فلسطيني ليس مدنيّاً، حتى لو كان شيخاً أو امرأة أو طفلاً، بل مجرّد هدف للقتل، على الإنسان الفلسطيني ألّا يكون له وجود إلّا كضحيّة لا حساب لها. ومثله الادّعاء بأن واشنطن لم ترَ دليلاً على ارتكاب “إسرائيل” إبادة جماعية، ولو أنّ العالَم كلّه رأى. إنّ الفضاء مفتوح، الجميع يعرفون، وكلّهم يرون.

تخسر صحافة الغرب من ناحية أساسية المصداقية، بتورُّطها بِنَشْر أخبار مزعومة، ومن دون تأكُّد، عن جرائم ارتكبتها “حركة حماس”، حتى إنها اضطرّت إلى الصمت عن نشرها تلك الأخبار، ومحاولة المراوغة لولا وُرود تقارير من الداخل الإسرائيلي تنفيها. فالكذب لم يعُد للكذب، وإنما ذريعة لقيام “إسرائيل” بتنفيذ أفظع المجازر.

كما وبالدرجة الأُولى، تخسر الصحافة الحرّية، حرّية البحث عن الحقيقة، وهو حقّ ممنوح لكافة وسائل الإعلام، المطبوع منها والإلكتروني، حرّية يكفلها الدستور والقانون، تَضمن عدم تدخُّل الدّولة، في حين تضرب بهذه الحرّية عرض الحائط، ومعها بالحقيقة، كذلك الحقّ الذي منحته إيّاه ليس الدّولة، وإنما عقود طويلة من الزمن في الدّفاع عن حرّياتها ضدّ الدّولة بالذات.

* روائي من سوريّة

———————-

عندما تمد السياسة لسانها إلى الرياضة/ سميرة المسالمة

6 فبراير 2024

بين “شاشتين” متناقضتين، واحدة منهما، ترى من خلالها الحداثة بأبشع صورها، وكارثية انعكاساتها على البشرية، حيث تشاهد عبر بثها نيران الحروب ودوي المدافع ووحشية نتائجها، وتجعلك تشارك خوف الناس، وأنين النساء، ورجفة طفل يبحث عن أشلاء عائلته تحت الركام المتناثر على جنبات قناة إخبارية، بينما أنت جالس على أريكتك، عاجز، بكل المعاني، وكأنك إما ميت مع الأموات، أو ناج مهزوم وهارب إلى الذكريات، هناك كانوا أهلك في سورية، في اليمن، في ليبيا، في العراق، في السودان، وفي غزة، وصاروا اليوم مجرد أرقام على لوائح الهائمين على وجوههم، أو باتوا عناوين في صناديق بريدية أو على شواهد القبور.

و”شاشة” أخرى تنقل لك الحياة بكل صخبها وحلوها وألق لحظاتها، تأخذك في “استراحة مشاهد” من على ذات الأريكة التي أتعبتها أخبار الموت إلى ضجيج الحياة وثمار البهجة وأخبار الفوز، إنها فرصة النجاة من طوق حصار الفجائع، تذهب معها، تدخل في أروقتها أنت الآن في الملعب بين 11 لاعبًا، تنتمي لا إراديًا إلى فرق تعرف أسماء لاعبيها من أقنية التلفزيون، تتحدث إليهم، تصرخ بوجه الحكم معهم، ثم تنساق إلى مرمى الخصم، تطلب من زميلك أن يسدد، تعلن عن هدف قبل أن تراه، وقد لا تراه، تعاتب المدرب على اختياراته، وتطلق تعليماتك له، بدّل هذا، وأخرج ذاك، أنت بلحظة ما تركل تلك الكرة وتبكي على إتقانها أو ضياعها، أنت هناك في المستطيل الأخضر أحد الناجين من شاشة أخبار الحرب الملونة بدمائنا، لكنك بطريقة أو بأخرى قد تتحول من لاعب إلى مقاتل.

في كل بيت عربي انقسمت القلوب بين فريق وطني ينتمي لك، وفريق فلسطين الذي تنتمي له، بإنسانيتك وعروبتك وهويتك، في الملاعب على أرض قطر حيث تقام بطولة كأس آسيا بين (12 كانون الثاني/ يناير و10 شباط/ فبراير)، وفي كل مباراة كان الرابح هو فريق فلسطين، بغض النظر عن حقيقة النتائج، وأسماء الفرق، فقد حضرت فلسطين وأعلام فلسطين، وحضرت غزة، بآلامها وصمودها، كأنها الحقيقة التي تقاوم غيابها عن ماضي وحاضر الشعوب العربية، وكأن ممارسة الحياة عبر رفاهية الحضور الرياضي، هو انتصار على الموت، والتغييب، والدمار.

ربما وحده فريق سورية لكرة القدم الذي شارك في بطولة كأس آسيا 2023/ قطر، يتشارك مع فريق فلسطين ذات الظروف الانقسامية لشعبه بين حكامه، من حيث التمزق بين التبعيات السياسية، والاحتلال لأرضه، فبينما ينقسم الفلسطينيون بحكم الاحتلال والمنازعات السياسية بين منظماته وفصائله العسكرية إلى فلسطينيي (1948) الذين يعيشون تحت ظل إسرائيل، وفلسطينيي الضفة الغربية الذين تحكمهم السلطة الفلسطينية، دون أن تنتزع عنهم مخالب دولة الاحتلال وأجهزته الأمنية، وفلسطينيي قطاع غزة، وفلسطينيي اللجوء والشتات، ينقسم أيضًا الشعب السوري ما بين سوريين  تحت حكم نظام الأسد، وسوريين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وآخرين تحكمهم الفصائل المسلحة وجبهة تحرير الشام، وسوريين تحت حكم الإدارة الذاتية، وسوريي اللجوء والشتات والخيام.

إلا أن ما ميّز الفريق الفلسطيني الذي جاء بعض لاعبيه من مناطق الخطر المحدق بهم وبأهاليهم، من نقاط التماس مع الموت، ومن بين سلاسل قمع المحتل وخلافات ساسة السلطة وتشتت هويات المبعدين، أنه بكل لاعبيه، كان فلسطينيًا فقط، رمى عنه كل ملحقات الأسماء، وحّد المشاعر بانتمائه إلى كل فلسطين، وعزّز موقع الرياضة في جسر الخلافات بين الأصول من شعبه وبين الشعوب على اختلاف هوياتها وثقافاتها، قال كلمته في الملعب وخارجها هنا فلسطين، وهنا قلب العرب، لقد حضر إلى الملعب حاملًا محبة كل الفلسطينيين، فاز بما يستطيع ولم يخسر ما جاء من أجله، لقد رسخ اسم فلسطين في مرمى قلوب العالم.

وفي الوقت الذي كان السوريون يريدون للرياضة أن تسمو على الخلافات، وأن تكون الرقم الوطني لكل سوري، وأن يستعيد الشعب من خلالها قدرته على بناء ذاكرة جديدة يدّخرها لمستقبله القادم، وأن يعبد من خلالها الطريق إلى مصالحة توحد القلوب قبل أن تردم الحدود، وتزيل الحواجز والجدران، مدت السياسة أنفها، لتقول: ما آن أوان وحدة السوريين، ولا يزال لكل من مناطق سورية الأربع (التي تحكمها سلطات الأمر الواقع) حسابات لم تسدد، ولا يزال الطريق إلى الهدف المأمول غير معبد.

نعم، لقد وقعت الواقعة، وبددت السياسة ما كان للرياضة أن تجسره، وأن تبني عليه في إعادة توحيد السوريين، من أصغر نقطة لقاء في الملعب، وأكبر تجمع للسوريين وهي الرياضة، فقد جرى استخدامها في غير غايتها وهدفها، لتكون أداة تفريق، وسواء كان مجبرًا أم مخيّرًا، من تطوع لأداء هذا الدور، من لاعبين، أو جمهور عبر الشاشات، ومن خلف بنادق الكمبيوترات، فقد أسهم من حيث يدري أو لا يدري، بضياع فرصة الفوز ليس بالكرة، وأهدافها، وإنما بالوطن الموحد، ومواطنيه، على أي بقعة كان، وتحت حكم أي سلطة.

نعم، الرياضة هي جسر بين الشعوب، توطد العلاقات الدولية، وتعزّز قيم الاحترام، وتصنع لجدران السياسة الصماء نوافذ وأبواب غفلت عنها أدواتها، وقد رأينا ذلك بأعيننا وعبر شاشات التلفزة في بطولة كأس العالم/ قطر 2022، وكان يمكن للاعبي الفريق السوري خلال بطولة كأس آسيا المقامة في قطر أيضًا، أن يعززوا ذلك الأمل القادم من الملاعب الخضراء لترميم الصدع السوري، بالتأكيد على أن عالم الرياضة هو عالم السلام، والحب، والتنافس على رفاهية المتعة والتسلية والانتماء خارج مفهوم التنازع على السياسة، لأنه انتماء للشعوب وثقافاتها، ومشاركتهم في فرحة يصنعها بعض قليل لكثير منهم منتشر في الأرجاء، حيث تعلو مطامحهم الإنسانية على مطامع السياسة السلطوية، ويلهمون الناس على مكامن الخير وأدوات التعريف به، وينسجون روابط المودة وأسبابها، كما فعلها فريق فلسطين القادم من تحت ركام الحرب، والمنتمي إلى فلسطين واحدة، رغم كل هذا التمزق الذي يعيشه شعبه، على أرضه، وتحت حكم سلطاته والاحتلال.

*كاتبة سورية.

———————————-

عن سرديات الطغاة وكشف حقائقها/ سميرة المسالمة

6 يناير 2024

تحمل الحروب منذ الأزل الثنائيات المتناقضة في الحياة، فحيث هي تعني الخراب والموت، تعني على الوجه الآخر الحرية والحياة. وكما ترسم صور الطغاة والمجرمين، تمثل في وجهها الآخر قصص أولئك المناضلين ضد الاحتلال والظلم واستباحة الكرامة الإنسانية. وهي، أي الحروب، كما كانت البدايات لدول تنهض، وكيانات تنشأ، كانت أيضًا النهايات لغيرها، وسجلت التأريخ الحديث باسمها، ما قبل الحرب، وما بعدها.

وإذا كانت الحروب الوحشية في عصرنا الحديث، بخاصة الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية (1939 ـ 1945)، شغلت مساحات مهمة في خيالات وأعمال كتاب وشعراء وفنانين ومخرجين كثر، بل باتت أحد أهم المواضيع التي صورتها السينما العالمية، ولا تزال تشد جماهيرها، من خلال سردياتها لوقائعها المأساوية، وصورها الإنسانية، أو بطولات مقاوميها الفردية، أو الجمعية، أو فضحها الخبايا الخبيثة ما بين سطور قرارات قرع طبولها، وأطماع صانعيها، وحجم خسائرها بين الرابح والخاسر، وبين المنتصر والمهزوم، فإن الواقع الحالي يحمل أحداثًا مهولة، وفظائع قد تسبق كل خيالات الفن وإبداعاته.

ولعل إسرائيل تعمل على استرجاع تاريخ تلك الحروب وأسبابها، وتقف على ذلك الجانب الظالم من الصراع، نافية عنها دور الضحية، الذي استندت عليه في أسباب قيامها، ممسكة بسوط الجلاد، ترتدي عباءته وتمارس جرائمه، تمسح عن ماضيها ذرائع التعاطف مع يهود العالم عامة، وأوروبا خاصة، وكأن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في حربه الهمجية على الفلسطينيين يريد التعافي من سردية المظلومية، لينقل العالم إلى حقيقة أن وجودهم في أرض فلسطين هو ناتج بطشه، وقتله الشعب الفلسطيني على أرضه في فلسطين بكل مساحتها، وعلى غزة بما تمثله له، وللعالم من إرادة البقاء وصناعة الحياة، على الرغم مما فرضته عليها دولة الاحتلال من  حصار وفقر وتهميش.

وكما كانت الكلمة والصورة والفن العالمي بكل فروعه، من مكتوب ومصور ومسموع، في مواجهة ما خلفته الحروب من دمار للبشر والحجر، وحملت مسؤولية فضح المستور في تلك الحروب، وتقديم الحقائق بوجهها الإنساني، والجرائم بصورتها القانونية، ولكن مع التذكير أن معظم ذلك جاء على أنه شيء من الماضي يجب الاعتبار منه، أو محاكمة من يمكن تحميله المسؤولية، ولو أدبيًا، فإن كل أشكال التعبير غير المأجورة، والتي تشهد عبر بث مباشر لأحداث حرب دموية تشنها إسرائيل على المدنيين في قطاع غزة، وتتوسع بها لتنال من كل صوت ضدها، مطالبة اليوم، بل تقع على عاتقها مهمة التحفيز على معرفة الحقيقة ومساندتها، ونقلها كما هي، حيث التوثيق والمصداقية لا يلغي عن الأعمال فنيتها وإبداع كتابها.

ولعل ما صرحت به هيئة المحلفين في جائزة التسامح في الفكر والعمل، التي يمنحها اتحاد الناشرين النمساويين منذ عام 1990، في مهرجان أيام الأدب الأوروبي، والذي أقيم في مدينة كريمس النمساوية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، عن مسوغات منحها الجائزة (كما ذكر موقع الجزيرة في مقالته عن الحدث الثقافي) للمحامي والكاتب البريطاني اليهودي فيليب ساندز (1960) بأنه يُعد بلا شك “أحد أبرز المحامين والمثقفين في العالم الذين يجدّدون الخطاب الاجتماعي، ويعملون من أجل عالم أفضل”. فحاجتنا إلى “الالتزام بالحقائق والتفكير النقي ليسا على خلاف مع الالتزام بالمحتوى الحقيقي، بل هو الأكثر فائدة له” يأخذنا إلى حقيقة أن قدرة إسرائيل على التعمية على شعوب الغرب ونخبتها المثقفة لم تعد فاعلة بالقدر الذي يغيب الحقائق كاملة، أو بعضها.

إن اختلاف الآراء حول عملية “حماس” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ضد الاحتلال الإسرائيلي لا يغير من أن حرب إسرائيل على غزة وحشية، وهي تتجاوز ردة الفعل إلى استنباط أسباب وهمية لإبادة الشعب الفلسطيني، وأن هذه الحقائق حاضرة في ضمير وتصريحات النخب المثقفة في العالم الغربي، على الرغم من تغييبها عن عمد في إعلامهم وأنشطتهم، بسبب محاباة الأنظمة الحاكمة لإسرائيل من جهة، وامتلاك اللوبي الصهيوني لأهم الصروح الإعلامية من جهة ثانية، ما يجعل مهمة أصحاب القضية الفلسطينية من كل الشرائح واضحة، بداية من التعريف والاعتراف بتقصيرهم في مواجهة المنظومة الصهيونية، إلى ما يجب أن تكون عليهم أنشطتهم ومواجهاتهم بالفن والأدب والقانون.

لهذا، من المهم التأكيد على أن ما قاله ساندز مع رفاقه الثمانية من المحامين اليهود البريطانيين، وبخاصة انه يعمل في مهنة المحاماة، أمام محاكم دولية يمكن الاستفادة منه، والتعويل عليه إعلاميًا وحقوقيًا، ليس من باب أننا نتصيد مقولة هنا، أو هناك، تساندنا في الرأي، بل لأن المكانة المهنية لهذه النخبة تحملها مسؤولية تصريحاتها وتبعاتها، فهي لا تنطق بفعل العاطفة التي تستدرها مشاهد القتل، بل بفعل التوثيق الذي قد تسأل عنه.

حيث يمكن اعتبار ما ورد في رؤيتهم من أن “رد فعل إسرائيل كان وحشيًا، ولا يُمكن تبريره، خاصة مع مقتل آلاف المدنيين، وأكثرهم من الأطفال والنساء والمرضى”، وما قامت به كذلك من هدم وتدمير البنية التحتية، “ومنع الحاجات الأساسية للعيش، من ماء وكهرباء ووقود وأدوية، ومن الوصول إلى المحاصرين في غزة”. وأن الفلسطينيين “يجب أن يتمتعوا بحقوق كاملة، مثلهم مثل أي بشر على هذه الأرض، وتجب حماية هذه الحقوق، إذ لا يُمكن لنا، نحن المحامين ودعاة حقوق الإنسان، أن نحمي حقوق طرف ما، ونفرّط بحقوق طرف آخر”، كشهادة حقوقية أكثر منها كرأي.

فكما هزمت أنسنة القوانين ما شرعته الحروب من وحشية، وغيرت مواقع الدول وأدوارها وتحالفاتها، فإن سرديات الواقع تقول إن التغيير لا يزال ممكنًا، فما صنعته المآسي المكتوبة والمصورة، ووضعت من خلالها البشرية في مواجهته، ونتج عنه ذاك الكم الهائل من المؤازرة لشرعة حقوق الإنسان وتوابعها من مناهضة للتمييز العنصري، وانتهاك حقوق المواطنة، إلى مساندة حركات التحرر والاستقلال في العالم، من شأنه اليوم أن يقاس عليه بما يحدث على أرض فلسطين، وخارجها، من جرائم ترتكبها إسرائيل بقيادة نتنياهو، على الذرائع ذاتها، والخديعة التي تبناها مجرمو التاريخ، من أمثال الديكتاتور النازي أدولف هتلر، وبالأساليب ذاتها ليتغير موقع “يهود العالم”، من دون إرادة بعضهم، من موقع الضحية، كما كانت حاله في الهولوكوست (سيئة الذكر) إلى موقع الجلاد.

*كاتبة سورية.

—————————-

على هامش الطوفان والإبادة/ عزيز تبسي

5 يناير 2024

تندرج “طوفان الأقصى” في سياق عملية طويلة ومعقدة للتحرر الوطني، مرت عبر تاريخها الممتد منذ عام 1936 إلى اليوم بمحطات عديدة، تعاقبت على قيادتها والمساهمة فيها قوى مقاومة شعبية وجيوش عربية.

لم تكن نتائجها سوى تراكم الهزائم المرحلية، عبرت بعمومها عن التناقض بين الطموحات الوطنية، مشفوعة بالرومانسية والآمال العاطفية، بأمل الوصول إلى انتصار استراتيجي للشعب الفلسطيني، وبين انعدام القدرة الواقعية لتحقيقها.

يتكرر مشهد اصطدام القوى الشعبية العربية بجبل سياسي وأيديولوجي من تضليل الصهيونية، سياسيًا وأيديولوجيًا، والأكاذيب الواضحة والمتخفية، التي احتاجت إرادة هرقلية وهي تستعد لتنظيف إسطبلات أوجياس المعاصرة، حيث لا تزال تعمل أجهزة السلطة الاستعمارية بأيديولوجيتها الصهيونية على إخفاء الأساس العدواني للاستيطان، والوظيفة الإمبريالية لكيانها السياسي، وعلى حقيقة الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، والجذور العميقة لثقافته التي تعكسها أنماط حياته في العمارة والزراعة والحرف والغناء…

(1)

تبزغ الشعوب من بين الأنقاض التي دفنتها تحتها أنظمة الاستعمار وما بعده، كقدر يتربص بالمحتلين والطغاة.

حملت “طوفان الأقصى” بعدًا إعجازيًا، بما رسخته فكرة المعجزة من عزيمة التمرد على الشروط السائدة والقوانين الوضعية الراسخة، بخروجها على قوانين فيزياء السياسة، وبوصفها ردًّا شعبيًّا على ظلم تاريخي، وعلى اضطهاد يومي “بتسويد عيشة” أكثر من مليوني إنسان محاصرين بـ360 كم مربع، في شرط متجدد أساسه الحصار الاقتصادي، والتضييق على الحياة اليومية، ليترك الباب الوحيد مفتوحًا للمغادرة والهجرة.

لكن في غمرة الحماسة لإنجاز العملية العسكرية، وحصاد نتائجها، غابت عن القيادة العسكرية للمقاومة حزمة من الشروط الموضوعية.

خُطط لعملية “طوفان الأقصى”، ونُفذت في شروط عالمية وإقليمية ومحلية تشير في عمومها إلى الموقع النقيض لتحرر الشعوب، حيث تتصاعد مواقع القوى اليمينية في الدول الأوروبية، باسمها الأصلي، أو بانزياح الأحزاب الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية إلى مواقع اليمين. وحتى لو لم تتبنَّ خطابه الفاشي، فإن ذلك لا يحول دون تبني برامجه السياسية والاجتماعية. يشير إلى ذلك ما أوضحته الحرب الروسية ـ الأوكرانية من قدرة حلف شمال الأطلسي على التحشيد العسكري، والفعالية القانونية، لمواجهة الخصم وعزله، والدور القيادي للإدارة الأميركية في قيادته وتوجيهه وفق مصالحها… وإخفاق الانتفاضات الشعبية العربية، وجر عموم مجتمعاتها إلى الحروب الأهلية، وتنامي الاتجاهات الأشد تطرفًا داخل المجتمع الصهيوني، التي أوشكت أن تصطدم بصراعات دموية مع الاتجاهات الصهيونية الأقل عنصرية في الأشهر التي سبقت 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وانقسام الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مقاربتين سياسيتين متفارقتين.

ويستكمل هذا المشهد المأساوي بغياب الديمقراطية، وعموم الحقوق الأساسية عن الشعوب العربية، ففي حين تتصاعد الاحتجاجات، وتعم التظاهرات شوارع وساحات مدن وعواصم أوروبا وأميركا، لا يسمح بخروج تظاهرة في البلدان العربية، “وكأن بطيور المقاومة تغني، ظانة أن الوقت لم يعد ليلًا”(*).

ركزت المقاومة على الخيار العسكري، الذي لم يتجاوز في كل أطواره التاريخية شكل الدفاع عن حق وجود الشعب الفلسطيني، ومهام التذكير بقضيته وحقوقه المسلوبة، ليعبر عن إرادة الرحيل إلى المكان الأثير للسلطة الصهيونية وأجهزتها العسكرية والمخابراتية. أعدت لهذا الخيار جيدًا بحفر الأنفاق وتجهيزها، واستجلاب الأسلحة وتحديثها، وتوظيف الطائرات، وأنظمة رصد، وكأنها تتماهى مع جيش احترافي… ونحت جانبًا الشرط السياسي للصراع وشروطه المعقدة.

شكل العدوان الذي أخذ شكل إبادة جماعية تجاوزت حيوات البشر إلى الحجر والطبيعة الحية، وإطاحة متعمدة بموقع المكان الآمن (المدارس والمشافي والمساجد والكنائس…) الذي يحتمي به الشعب الأعزل. ليعيد بذلك ذاكرة الشعوب إلى النازية، الذي خال كثيرون أنها باتت نسيًا منسيًا بعد اندحارها العسكري، وتهافت مقولاتها، وما تلا ذلك من مراجعات نقدية شملت حقول السياسة والفكر.

(2)

حددت العملية العسكرية لنفسها هدفًا واضحًا، تحرير السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، واستبدالهم بالأسرى الذين واللاتي خطفوا من مستوطنات غلاف غزة.

في الوقت الذي لم يتأخر فيه الجيش الإسرائيلي وأجهزة الشرطة عن اعتقال أضعاف أعدادهم، بمواجهتهما الاحتجاجات التي انطلقت في بلدات وقرى الضفة الغربية.

لكن ما الذي تُرك لشعب محاصر يشعر كل يوم أنه يجري التخلي عنه من العالم الإمبريالي المنسوب للحضارة، الذي لم يتوقف عن مساندة قاتليه بالمال والأسلحة، وتبني أكاذيبه وتضليله الإعلامي المبرر لجرائمه، أمام واقع تعجز تنظيمات المقاومة الشعبية عن حمايته، وحين يصلها الإسناد الشرطي يكون من أنظمة تعتاش على جثث شعوبها، وتسوية حياة من تبقى حيًا منهم بحياة المقابر، وتتبنى خطابات عنصرية تجاه شعوبها، لا تقل عن أضاليل صهيونية الكيان الاستعماري.

امتدت سواعد الشعب وهو يواجه حاضره، ليهز الماضي الإمبريالي برمته، جرائمه، ولاشرعية خططه، وتضليل مقولاته، وقوانينه التي فرضها كأقدار على الشعوب المضطهدة، وينشرها كفضائح ورسائل تحرر أمام شعوب الأرض. السواعد التي لما تزل عاجزة عن هزيمته وتثبيت انتصار مادي عليه.

يدافع الشعب الفلسطيني عن حقوقه وشرطه الوجودي، وهي مساهمته الملطخة بدماء أبنائه وتراب بيوته المدمرة، لتحرير الشعب اليهودي من أوهام أيديولوجيته الغيبية، التي احتلت موقع العقيدة الدينية، والذي بات يعلم أبناءه الأسرى وأهاليهم أنهم هدف لجنود جيشهم، كحال مرافقيهم، من المقاومين في غزة.

يموت المقاومون في معركة الحرية والتحرر، لكن المقاومة الشعبية لا تموت، تخمد، تتراجع، تتوقف لمراجعة تجاربها، وتعود لتنطلق وتجدد أمل الشعوب في التحرر، وها هي تنقل رسالتها وقضيتها من غيفارا غزة (1973) إلى جيل المقاومين الجدد، مرورًا بتجارب مئات المقاومين.

لهذا لا مندوحة من البحث في شروط التحرر من هذا الاستعصاء التاريخي، الرابض كقدر إمبريالي فوق صدر الشعب الفلسطيني والشعوب المضطهدة.

(*) عيناها السماويتان تنثران عبر الهواء شلالًا من ضياء/ فتغني الطيور ظانة أن الوقت لم يعد ليلًا (من مسرحية “روميو وجولييت”، وليم شكسبير).

—————————–

لعنة التمويل الغربي للمجتمع المدني العربي/ سلام الكواكبي

04 فبراير 2024

بعد هجوم 7 أكتوبر الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على منطقة غلاف غزّة، والدعم الغربي الحاشد والأعمى لدولة إسرائيل وهجومها الدموي الذي تلاه والمستمرّ، مخلّفًا عشرات الألوف من الشهداء المدنيين، بدأت المنظمات الأهلية العربية، وخصوصاً التي تنشط في مجال حقوق الإنسان، تتعرّض لضغوط كبرى من الدول والمنظمّات الغربية المانحة، وقد وصل بعضها إلى إيقاف تامّ لبرامج الدعم التي استفادت وتستفيد منها هذه المنظمات العربية منذ عشرات السنين، في ظل التضييق على أنشطتها محلياً، ومنعها من القيام بحملات تحسيس وجذب لرؤوس المال المحلية. وتبريراً لهذه المواقف العقابية من الجهات الغربية المانحة، راوحت الأسباب بين اتهام عاملين في هذه المنظمات بالمشاركة في نقل بعض الوقائع والأحداث الدموية من غزّة على الصفحات الشخصية في وسائل التواصل، أو توقيع المسؤولين عنها على عرائض محلّية أو إقليمية أو دولية، تدين العقاب الجماعي الهمجي الواقع بحقّ المدنيين الفلسطينيين، أو تجرّؤها على وصف ما يحدث بأنه عملية إبادة جماعية، أو حتى إنها تشير الى مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي القائم منذ 1948 عن كل مآسي المنطقة، أو إنها تصف النظام السياسي الإسرائيلي بنظام الفصل العنصري.

ولقد تميّزت الجهات المانحة الألمانية، التي تساهم تقليديًا بدعمها منظمات حقوقية عربية، وخصوصًا غداة انفجار ثورات الربيع العربي سنة 2011، بتبنّي المواقف الأكثر وقاحة أخلاقياً وسياسياً تجاه من تتعامل معهم من المستفيدين العرب. إذ إنه، تحت وطأة عقدة الذنب الألمانية بالمسؤولية عن الهولوكوست الذي أوقعته الحكومة النازية باليهود في أوروبا، التي ما فتئت تُصاحب الدولة والمجتمع، تُمارس الجهات المانحة الألمانية، مهما تعدّدت مشاربها السياسية، نوعاً من القمع الفكري وفرض خطابٍ سياسي محدّد يلتزم من خلاله مجمل المستفيدين من دعمها المالي قاموس مفردات تصدره “الشرطة الفكرية” العاملة فيها، فمن المفروض إدانة “حماس” خطيًا مع كتابة العبارات المناسبة لتوصيف طبيعتها “الإرهابية” وعملياتها “الوحشية” وتهديدها السلم الإقليمي وتحريضها على كراهية الدين اليهودي. وتسعى هذه التعليمات لقطع الطريق أمام أية محاولة، ولو متواضعة وخجولة، للبحث في أسباب ما حصل واسترجاع التاريخين، القريب والمتوسط، ووضع الأمور في إطار السياق التاريخ والسياسي والاجتماعي والأمني القائم في هذه المنطقة.

النموذج الألماني الصارخ خوفأً وتحيُّزأً بالتعامل مع هذا الملف، والذي نجم عنه شعور عارم لدى المستفيدين العرب من التمويل الغربي عموماً، والألماني خصوصاً، بترسّخ تحيّز واضح وبظلم متعمّد وبتناقض قيمي، تبعته دول أخرى مانحة ومؤثرة، كالسويد وسويسرا والدنمارك. كذلك وجّهت مؤسساتٌ مانحة أميركية كبرى رسائل إلى من يتعامل معها في المنطقة العربية مليئة بالتحذيرات والتنبيهات والتوجيهات، وكأنها ترفُض مبدأ الشراكة والتبادلية وتلجأ إلى التأسيس لمبدأ الخضوع والتبعية.

وبعد أن كانت المنظمات المدنية العربية، التي تمارس نشاطاتها، منذ انبثاقها، في ظروف صعبة للغاية، مرتبطة أساساً بتأميم المشهد العام والتضييق على الحريات، في ظلّ الأنظمة الحاكمة التي تتميّز بكرهها البنيوي دور المجتمع المدني، تُتهم ظلماً وبهتاناً من أسياد الاستبداد المحلي بالتبعية لجهاتٍ خارجية مُغرِضة تُملي عليها شروطها وثقافتها وخطابها، صارت اليوم ضحية مزدوجة لمستبدٍ داخلي وقامعٍ خارجي يشترط خضوعها الكامل لخياراته السياسية ليستمر في دعمها. تعرّي هذه الأساليب خطاب حقوق الإنسان ونشر ثقافته، كما خطاب السلام وتعزيز ركائزه اللذين تُبشّر بهما الحكومات كما المنظمات الغربية.

اليوم، بعد حصول ما حصل، هل سيحاول المجتمع المدني العربي البحث عن أنجح الطرق للتنظّم بجرأة وفاعلية ليكون قادراً على فرض أجندته الوطنية تجاه المانحين، مستخدماً الموقف الجماعي ووسائل الإعلام وفضح الأساليب الملتوية المستخدمة ضدّه، أو على أن يتعاضد لمحاولة التوجّه إلى مانحين عرب، على صعوبة هذا التوجّه، فمفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى القادرين على أن يكونوا “مانحين” عربًا، ضعيف للغاية، ومحصورٌ بالدعم الإنساني في أفضل تعبيراته. إضافة إلى ترسّخ ثقافة التبعية في ذهنية المانح الذي يبحث عن ولاءاتٍ، لا عن تحالفات.

في مناخ الخضوع الغربي الراهن لمحاباة سياسة إسرائيل بقياداتها المتطرّفة، وفي اليوم التالي لصدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، الذي تدعو فيه المحكمة دولة إسرائيل إلى الامتناع عن ارتكاب إبادة جماعية في غزّة، اتهمت إسرائيل وكالة أونروا الأممية المعنية بغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم منذ قيامها سنة 1949، بأن 12 من موظفيها الـ 13000 في غزّة الذين قُتل 130 منهم في أثناء العدوان، أعضاء في حركة حماس وشاركوا في أحداث 7 أكتوبر بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو اتهام يدخل في إطار استراتيجية إسرائيلية تسعى لمحاربتها والقضاء عليها بهدف تأكيد أسطورة غياب الإنسان الفلسطيني وليس تغييبه من الاحتلال والمذابح والتهجير. وانطلاقًا من نفي وجود مسألة لاجئين، تسعى العقيدة الصهيونية لإثبات قيام الدولة على أرضٍ لا شعب فيها.

إثر هذا الاتهام غير المثبت، علّقت الدول المانحة تمويلها الوكالة، معرّضة حيوات ملايين المدنيين للخطر. والسؤال المطروح: إن كان أثرياء العرب يخشون المجتمعات المدنية والحقوقية، فيعزفون عن تمويلها غير المشروط، فهل هم أيضاً عاجزون عن تمويل إغاثة الملهوف؟

—————————–

الوجود الأميركي المعلن والمخفي في المنطقة/ فاطمة ياسين

04 فبراير 2024

تمتلك الولايات المتحدة محطّة عسكرية تقطع الطريق الواصل بين العراق وسورية في منطقة التنف التي تحاذي أيضا الحدود الأردنية، والهدف المعلن هو المرابطة على مقربةٍ من الأماكن التي يُحتمل أن ينتعش فيها تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن ثمة أهداف أخرى تخص الوجود الإيراني في المنطقة، فمن شأن هذه المحطّة أن تجعل الانتقال بين العراق وسورية تحت نظر القوات الأميركية، ما قد يخفف انتقال السلاح إلى سورية من إيران عبر العراق، وتبيّن أن لهذه المحطّة نقطة إسناد ودعم أرضي داخل الأردن! وعلى بعد عشرة كيلومترات من الحدود المشتركة للدول الثلاث، والسيطرة على هذه الحدود مهم لمراقبة التحرّكات في كل الاتجاهات. يدلّ وجود نقطة الإسناد هذه على عمق الوجود الأميركي، رغم ما يُشاع عن رغبة الولايات المتحدة في مغادرة الشرق الأوسط، ففي هذه النقطة مراكز تدريب ويشغلها أكثر من 350 جندياً ينضمذون إلى ثلاثة آلاف موجودين في الأردن و2500 في العراق، وألف آخرين في سورية. لا تبدو الولايات المتحدة قادرة على مغادرة المنطقة في ظل التوتر الذي لم يغادرها أبدا، ومع التصعيد أخيراً في غزّة، وإمكانية انتقال القتال إلى أماكن مجاورة، يصبح الوجود الأميركي أساسياً لتدعيم حركة الولايات المتحدة الدبلوماسية، وتثبيت مكانتها السياسية، حيث لا يكاد وزير الخارجية، بلينكن، يغادر المنطقة ليعود إليها مجدّدا.

تعرّضت نقطة الدعم غير الشهيرة إلى الهجوم الجوي الشهير بطائرة مسيّرة أودت بحياة ثلاثة جنود من الجانب الأميركي، يبدو أنه نُفذ بطريقة مدروسة خالفت أجهزة الرقابة المتطورة لتصل إلى هدفها بنجاح. لا تمرّر الولايات المتحدة هجماتٍ كهذه بسهولة، وعادة ما تحضِّر ردودا مناسبة، وهي لم تُخفِ ذلك في دأب كل سياسي أميركي أو معلق رسمي بتكرار الحرص على الردّ وفق عدة مستويات، والذي سيشمل أهدافا إيرانية في العراق وسورية.

ولن يشكّل الهجوم الأميركي بالرد تصعيداً كبيراً، خصوصاً مع الوجود الروسي في سورية، وقد سبق أن قصفت الولايات المتحدة أهدافا في سورية العراق، ونفّذت هجماتٍ واسعة، بمساعدة شركاء، على حلفاء إيران في اليمن، ومع ذلك استمرت محادثات الهدنة بين حماس وإسرائيل عبر وسطاء من دون أن تتأثر بذلك، ما يعكس رغبة حقيقية في عدم التصعيد. ورغم أن الهجوم أخيراً استهدف قاعدة غير معلنة وعلى أرض أردنية، وحقق إصابة مباشرة في الجانب الأميركي، إلا أنه يمكن أن يقرأ من باب تسجيل النقاط الذي دأب الطرف الإيراني عليه منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، فقد كانت إيران حريصة في تأكيد عدم مسؤوليتها عن الحادث، وكرّرت ذلك عقب كل حادث مماثل، وأدرك الطرف الأميركي، الحريص على عدم توسيع الحرب، لعبةَ تسجيل النقاط، وجاء تعليق الرئيس الأميركي، بايدن، بأنه سيردّ بالطريقة والوقت المناسبين من دون أن ينجر إلى صراع مفتوح في الشرق الأسط.

قدّمت الولايات المتحدة دعما غير محدود لإسرائيل، وكانت حاسمة في تمكينها من غزّة، وشكلت غطاءً دوليا لعمليّاتها في القطاع، فسارعت بأساطيلها البحرية إلى المرابطة بالقرب من الشواطئ الإسرائيلية منعا لأي تدخّل محتمل، لتسجِّل وجوداً استثنائيا في الشرق الأوسط، يضم ما يقرب من سبعة آلاف جندي، وظهور نقطة البرج 22 التي قُتِل فيها الجنود الأميركان، يمكن أن ينبئ عن وجود قواعد أخرى مخفية للولايات المتحدة في المنطقة، بما يعني أن الوجود الأميركي لا مفرّ منه تحتّمه العلاقة مع إسرائيل، وتفرضه سلوكيات إيران وحلفائها، وتوجبه ثوابت السياسة الأميركية، وأي حديث عن مغادرةٍ أو ضعفِ اهتمامٍ ليس جدّيا، بل قد يترسّخ الوجود الأميركي ويزداد بحسب متطلّبات الصراع في غزّة أو ما قد يفتحه هذا الصراع من جبهات، وهو متوقّف على مدى اتساعها إقليميا ودوليا في الوقت ذاته.

——————————-

ماذا بعد الاستهداف في الأردن؟/ عبد الجبار عكيدي

01 فبراير 2024

منذ انطلاقة عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، لم تتوقّف إيران عن إعلانها المستمرّ البراءة منها، وأنه لا يدَ لها فعلية في ما خطّطت له ونفّذته حركة حماس، موازاةً مع الإفصاح عن موقفها المؤيد للحركة في مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي. ولم تتردّد الولايات المتحدة في نزع التهمة عن إيران، إذ تواترت التطمينات الأميركية تباعاً ببراءة طهران من أي دور في عملية طوفان الأقصى، مع إعلان موقفها الصريح الداعم إسرائيل من جهة، والمناهض للسياسة الإيرانية كداعم للقوى والمليشيات المناهضة لإسرائيل وفقاً لمنطق واشنطن.

نحن إذاً حيال موقف مركّب ينطوي لدى الطرفين (واشنطن وطهران معاً) على رغبة ضمنية بعدم المواجهة العسكرية المباشرة، بالتوازي مع رغبة ثنائية أيضاً باستمرار حربٍ يقودها “الوكلاء”، إلّا أنّ هذه الحرب ينبغي أن تكون منضبطةً لا تخرُج عن السياقات المرسومة لها، وفي الوقت ذاته، خاضعة للتحكّم الدقيق، كي تبقى قواعد الاشتباك شديدة المرونة لجهة قابلية التصعيد أو التهدئة. وهذه هي بالفعل الاستراتيجية التي التزم بها الطرفان، الإيراني والأميركي، في التعاطي مع حرب غزّة، ذلك أن أي تصعيد من القوى المرتبطة بإيران تجاه المصالح الأميركية أو الإسرائيلية يلقى ردّاً على المستوى نفسه من الطرف الآخر. لكن يبدو أن نزق بنيامين نتنياهو الناتج عن ازدياد الضغوط التي تحاصره داخل إسرائيل، وكذلك فشله في تحقيق أي منجزٍ عسكري في حربه على غزّة، دفعاه إلى كسر ضوابط الاشتباك وقواعده، فرفع وتيرة التصعيد ضد الذراع الإيراني الخارجي الأبرز، حين استهدفت الطائرات الإسرائيلية خمسة قادة ومستشارين من الحرس الثوري الإيراني في حي المزّة في دمشق في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، موازاةً مع استهدافها اثنين من قادة حزب الله في الجنوب اللبناني، الأمر الذي دفع طهران إلى الردّ على هذا التصعيد بتصعيد نوعي آخر، تجسّد باستهداف طائرة مسيّرة إيرانية قاعدة أميركية داخل الأراضي الأردنية، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح أكثر من 30.

يمكن التأكيد على أن ايقاع هذا العدد من الضحايا الأميركيين يحمل في طيّاته نقلة نوعية في التصعيد، وهي ذات اتجاهين: يتجسّد الأول في أن الخسائر البشرية لم تكن من المقاتلين الوكلاء، بل هم جنود من الجيش الأميركي، الأمر الذي لم يعُد يتيح لإدارة بايدن التنصّل من المسؤولية أو غضّ الطرف، بل لعل الخيار الوحيد أمام هذه الإدارة هو البحث في سبل الردّ ولا شيء سوى ذلك، وأولى ملامح هذا البحث تجلّت بالاستنفار الذي بدا واضحاً في واشنطن، حيث الوعود التي أطلقها الرئيس بايدن بمحاسبة الجناة وهو يرتدي البزة العسكرية. أما الاتجاه الآخر لهذا التصعيد فهو ذو صلة بالجغرافيا، أعني انتقال النشاط العسكري الإيراني من مجاله التقليدي (العراق، اليمن، جنوبي لبنان، سورية)، إلى إيجاد مسرح جديد هو الأراضي الأردنية، إذ لم يعُد الأردن مستهدفاً بتصدير الكبتاغون والسلاح إلى أراضيه من نظام الأسد ومليشيات إيران وأذرعها فحسب، بل بات مُهدّداً بالاختراق الذي يحاول تقصّي المصالح الأميركية أينما وُجدت.

وكان الأردن قد سعى طوال السنوات الثلاث الماضية إلى فتح سبل التطبيع مع نظام الأسد، في خطوة منه تهدف إلى تحاشي التغوّل الإيراني، مع الاعتقاد أن الوصول إلى استرضاء إيران واحتواء نزوعها العدواني والتوسّعي إنما يكون عبر المرور من بوّابة دمشق، ولكن يبدو أن نقل إيران عملياتها العسكرية في مواجهة أميركا إلى داخل المملكة هو إعلان إيراني صريح باستهداف الأردن، ليس من خلال المخدّرات فحسب، بل بتهديد أمنه بشكل مباشر أيضاً، وهذا ما كان واضحاً منذ بداية العدوان الصهيوني على غزّة، عندما طالبت المليشيات التابعة لإيران في العراق الأردن بفتح حدوده من أجل وصول عناصرها إلى فلسطين بذريعة الانتصار لغزّة، متجاهلة جبهة الجولان السورية التي تعجّ بعناصر تلك الفصائل، وجبهة جنوبي لبنان التي يسيطر عليها حلف المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله، الذي يمتلك ترسانة صاروخية تزيد عن مائة وخمسين ألفاً من صواريخ أرض أرض التي يتجاوز مداها العمق الإسرائيلي بكثير، وهذا ما أدركته مبكّراً القيادة الأردنية التي طالبت الولايات المتحدة بتعزيز قواتها وقواعدها المتمركزة على أراضيها.

هل سيعيد الأردن على ضوء ما حصل حساباته في ما يخص التعاطي مع بوابة إيران (نظام الأسد)؟ وهل ستأخذ واشنطن بالحسبان القصف الإيراني على الأردن في سياق ردّها المفترض على طهران؟ وبالتالي، هل سيكون الاختراق الإيراني الحيّز الجغرافي الأردني مفصل تحوّل في قواعد الصراع التقليدي بين واشنطن وطهران؟

————————

إسرائيل التي تريد إخراس العالم/ سمير الزبن

01 فبراير 2024

لا يسعى المحتلّ الوقح إلى تبرير جرائمه بحقّ الشعب الذي يرزح تحت نيْر احتلاله فحسب، بل ويبتزّ العالم بوصفه كان ضحيةً يوماً ما، ورغم أنه دولة احتلالٍ فهذا لا يمنع أن يكون ضحيّة من يحتله أيضاً. هذا ما تفعله إسرائيل، وعلى العالم أن يقرّ للاحتلال بحقّه في إبادة الشعب المحتلّ، لأن هذا الشعب تجرّأ وكشف ثغرةً في أمن الدولة المعسكر التي تُرعب المحيط الجغرافي، وكشف أن كل التكنولوجيا المتطوّرة المستخدمة في اعتقال شعب وحبسه ومنع استقلاله، لن تمنع هذا الشعب من تحدّي عنجهية المحتل وغطرسته، والعمل الحثيث على المسّ بأمنه، كما يمسّ الاحتلال يومياً بحياة الفلسطينيين الذين يتعرّضون للقتل والاعتقال ومصادرة أملاكهم وتعذيبهم على الحواجز العسكرية، ومحاصرتهم سنواتٍ طويلة في قطاع غزّة.

في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل عدواناً سافراً على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ويدّعي القادة الإسرائيليون أنهم يخوضون حربَهم، “دفاعاً عن النفس” ضد “إرهاب حماس” هم لا يقنعون أنفسهم بمشروعية حربهم التي يرتكبون فيها جرائم حرب، ترقى إلى حدّ الإبادة الجماعية” حسب الدعوى الشجاعة التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. كل المستويات السياسية، من رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى وزير الدفاع يوآف غالانت، إلى المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية، وزيري المالية والأمن بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير… وغيرهم الكثير. أدلوا بتصريحاتٍ تحمل مضموناً عنصرياً وتتضمّن مخطّطات إبادة جماعةٍ وتهجير جماعي بحقّ سكان غزّة، وهذا ما وثّقته بجدارة المرافعة الموضوعية التي تقدّمت بها دولة جنوب أفريقيا في المحكمة.

لا تريد إسرائيل بحكومتها اليمينية المتطرّفة، أن تقول شيئاً عن اليوم التالي للحرب. ما يصرّ نتنياهو عليه باستمرار هو هدف الحرب، القضاء على حركة حماس واستعادة المخطوفين. ورغم أنهما هدفان متعارضان كما قال عسكريون إسرائيليون سابقون عديدون، كما أنها أهدافٌ غير واقعية. إلا أن نتنياهو وعصابته يعتقدون أن تكرار الكلام عن أهداف الحرب التي لا تراجع عنها، والحديث عن حربٍ طويلةٍ حتى نهاية العام الحالي، يغطّي على الفشل الذي حصل في 7 أكتوبر، ويؤجّل المحاسبة في لجان التحقيق فحسب، بل هو يغطّي أيضاً على الحديث عما ستفعله إسرائيل في اليوم التالي للحرب، حتى لو حقّقت أهدافها بشكل مثالي. كل ما يقوله نتنياهو، ردّاً على أسئلة ما بعد الحرب، إنه لا يريد حماسستان ولا فتحستان في قطاع غزّة، بمعنى هو يرفض رفضاً قاطعاً عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة، وهو ما تريده الولايات المتحدة بأن تستلم سلطة محسّنة عن السلطة الفلسطينية قطاع غزّة بعد الحرب. ونتنياهو يقول إن سيطرة أمنية دائمة ستكون ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، تترجم “سيطرة أمنية” إلى احتلال دائم.

تعمل الإدارة الأميركية على إخراج الوضع المتهاوي الذي فرضته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على المنطقة لحفظ ماء الوجه، من خلال إطلاق عملية معقدة، يكون فيها التطبيع بين إسرائيل والعربية السعودية الهدية التي تقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل، والتي تحتاج مقابلها إلى اعتراف إسرائيل بمسارٍ طويلٍ للوصول إلى الدولة الفلسطينية، مسار قابل للارتداد، رغم مطلب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي قال لـ “سي إن إن” إن بلاده منفتحة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل فقط إذا كانت هناك عملية لا رجعة فيها لإنشاء دولة فلسطينية. رغم إصرار الإدارة الأميركية على إعلان إسرائيلي بأن هناك دولة فلسطينية في نهاية الطريق، وأن هذا الطريق الزمني غير محدود، خصوصا أن الرئيس الأميركي عندما حشد لدعم أوكرانيا في مواجهة الاحتلال الروسي، وأثناء زيارته رام الله، قال بشكل واضح، إنه يعتقد بحقّ الفلسطينيين بدولة، لكنها لن تكون “في المدى المنظور”.

طالب مسؤولون أميركيون كثيرون إسرائيل بأن يكون هدف إنشاء دولة فلسطينية جزءاً من مسار ما بعد الحرب، وجاء الرفض من نتنياهو أي كلام عن الدولة الفلسطينية كخيار في المستقبل القريب أو البعيد. وعندما حاول الرئيس بايدن تخفيف حدّة رفض نتنياهو بالقول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعارض حلّ الدولتين، مضيفا أن ثمة أنماطاً مختلفة لهذه الدولة، سرعان ما نفى نتنياهو أقوال بايدن.

من خلال التجربة التاريخية مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، يمكن رصد تراجع الموقف الأميركي المستمرّ من القضية الفلسطينية، بانحياز فاضح لإسرائيل. وحديث الإدارة الأميركية عن دولة فلسطينية في مستقبل غير منظور هو بيع الوهم للمنطقة وللفلسطينيين تحديداً، ويتم استخدامه في هذه الفترة لسببين: الأول، لأسبابٍ انتخابية أميركية، فإدارة بايدن مُقدمة على انتخابات رئاسية نهاية العام. الثاني، لأسبابٍ تتعلق بترتيب الوضع لعملية تطبيع كبرى بين إسرائيل والسعودية. أما في الجانب الإسرائيلي فإن رفض الحديث عن مسار دولة فلسطينية لا يتعلق بالمتطرّفين في حكومة نتنياهو فحسب، بل هو يشمل كل النخبة السياسية في إسرائيل، وقد دعا هرتسوغ والمحسوب على (التيار المعتدل!) إلى تأجيل الحديث بشأن حلّ الدولتين، قائلا إن “الوقت ليس مناسباً للحديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة”. ولكن في الوقت الذي يتجاهل فيه الرئيس “المعتدل” الحديث عن دولة فلسطينية، يقول بوقاحة: “ندرك جميعاً أنه يجب أن تكون هناك رؤية، وأعتقد أن جزءاً منها يجب أن يكون العودة إلى عملية التطبيع بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة”.

تسود روح انتقام المحتلّ في إسرائيل، والتي لا ترى الحلّ سوى بإراقة دماء الفلسطينيين والسيطرة عليهم، متحدّية كل الدول التي تدعمها التي ترى أن لا حلّ من دون حلّ المشكلة الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية. أما إسرائيل فهي ترى على العالم أن يدعمَها في حربها على الفلسطينيين، عندما ترمي عرض الحائط برؤية حلفائها للحلّ، وحتى تتحدّى الولايات المتحدة والحامية لها. وعلى العالم أن يخرس عندما يختلف مع إسرائيل، وأن يستمرّ بدعم جرائمها. وحسب أستاذة السياسة الخارجية والأمنية الأميركية بجامعة كولومبيا، فيرجينيا بيج فورتنا، فإن الضغط الأميركي على نتنياهو “هو فقط الذي يمكن أن يشكّل فارقاً في مسار الحرب وليس جزرة التطبيع، نظراً إلى تصريحاته المعادية لإنشاء دولة فلسطينية”، وغير ذلك سيبقى العالم يدعم الإجرام الوقح.

———————————-

أميركا قبل الانتخابات في خانة الضعف الخارجية/ حسان الأسود

31 يناير 2024

تواجه الإدارة الأميركية تحدّيات كبيرة في مناطق عديدة، لعلّ الحرب الروسية الأوكرانية باتت في مراتب متأخّرة بعد التطورات في الشرق الأوسط، إثر الحرب الإسرائيلية على غزّة. ما يلفت النظر في معادلات الصراع الراهنة عمليات عضّ الأصابع المتبادلة بين أطرافٍ دولية وأخرى إقليمية، وأنّها تؤثّر، بشكل كبير، على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستؤثر نتيجتها، في المقابل، كثيراً على مسارات الأحداث العالمية أربع سنوات مقبلة. ثمّة من يرى في الحرب استثماراً أميركيّاً قبل الانتخابات، وهذا أمرٌ قد تلجأ إليه الإدارة الأميركية الحالية، إذا ما انسدّت الآفاق بوجه مرشّحها الرئيس الحالي، جو بايدن، لكنّ مسار تعامل الإدارة الديمقراطية منذ عهد أوباما مع الصراعات المختلفة لا يرجّح هذا الاحتمال، فمجمل السياسة الأميركية منذ سنوات عدّة سبقت الانسحاب من أفغانستان يدلّ على انحسار الشهيّة الأميركية لخوض الحروب.

إيرانياً، ثمّة ضغطٌ كبيرٌ ممارسٌ على الإدارة الأميركية الحاليّة بهدف انتزاع أكبر قدرٍ ممكن من التنازلات قبل الانتخابات المرتقبة. تُحرّكُ إيران أدواتها في لبنان وسورية لمناوشة إسرائيل بحجّة مناصرة الفلسطينيين، وتُطلق العنان لمليشياتها في العراق واليمن لقصف القواعد العسكرية الأميركية واستهداف السفن التجارية في باب المندب. لكنّ هذا الضغط سلاحٌ ذو حدّين، فهو يقوّي حجج المنافس الجمهوري في مواجهة الحزب الديمقراطي الذي تبنّى منذ عهد أوباما سياسةً أكثر انفتاحاً على إيران. ومن شأن فوز ترامب في الانتخابات وعودته رئيساً للولايات المتحدة أن يفاقم من حصار النظام الإيراني، ويشدّد الخناق عليه في برنامجه النووي وفي تمدّده في الإقليم كله. لن يتورّع ترامب عن دعم حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة في حربٍ قد تشنّها على إيران، حتى من دون اتفاقٍ مسبق معه. تهدف التحرّشات الإيرانية للاستثمار في الفوضى العارمة السائدة في الشرق الأوسط بل والعالم، لكنّ أثرها يبقى محدوداً نظراً إلى وجود لاعبين أقوياء في الساحة. أثبت الردّ الباكستاني الكبير والصارم حجم القوّة الإيرانية، فنظام الملالي يسعى إلى نقل الصراع بأدواته المختلفة خارج حدود إيران، فإذا ما اندلعت على أرضه عاد إلى حجمه الطبيعي.

روسياً، هناك تقدّم على الصعيد العسكري في الحرب على أوكرانيا، وهذا متوقّعٌ مع طول فترة الحرب وبدء تضعضع الحلف الغربي المناصر لأوكرانيا وانشغال الأميركيين بإسرائيل وبانتخاباتهم الرئاسية. أثبت التاريخ أنّ الروس لم ينهزموا هزيمة نهائية في أي حربٍ ضدّ الأوروبيين، حتى وإن كانوا خاسرين تجاههم في أي تنافس صناعي أو تجاري أو معرفي أو علمي. ومن مصلحة روسيا دعم التحرّشات الإيرانية بالأميركيين أينما وُجدت، فلا يُستغرب أن تيسّر لهم تزويد الحوثيين بتقنياتٍ جديدة وبمعلومات استخبارية مهمّة لاستهداف السفن الأميركية والبريطانية. كذلك يمكن لروسيا أن تلعب دوراً مهماً في تغطية الإيرانيين عسكرياً وسياسياً حتى في تحرّشات وكلائهم في العراق وسورية ولبنان. إنّ من مصلحة بوتين عودة صديقه الشخصي ترامب إلى سدّة الرئاسة، لأنّ من شأن ذلك أن يثبّت له ما أنجزته قواته العسكرية في أوكرانيا سياسياً من خلال وقف الحرب ضمن اتفاقٍ يضمن المطالب الروسية بحدّها الأعلى. سيكون على الأوروبيين تدبّر أمر عداوتهم التي خرجت عن كل معقول لروسيا، فمقاطعة الغاز الروسي ووقف التجارة البينية وكل أشكال التعاون، حتى الثقافي والرياضي منه، ليست مجرّد وسيلة للضغط عليها من أجل وقف الحرب، بل هي تصعيدٌ خطيرٌ سيضرّ أوروبا أكثر من روسيا. لقد تخطّت أوروبا أحد أهمّ مقدّساتها الرأسمالية المتمثلة بصيانة رأس المال من أي حرب. من شأن مصادرة الأصول الروسية في أوروبا كقفزة كبيرة في المجهول أن تهزّ الثقة بالنظام الرأسمالي ذاته.

سعودياً، ثمّة نزوعٌ واضحٌ إلى مزيد من الاستقلالية في القرار، ترى المملكة أنّ دخولها في حروبٍ مباشرة أو بالوكالة مع أي طرفٍ سيؤدي إلى تعثّر مشروعها الريادي في الشرق الأوسط. لقد تعلّم السعوديون درساً قاسياً من حرب اليمن، فلا قدرة لدى الجيوش النظامية على هزم المليشيات، وتجربة السوفييت والأميركان في أفغانستان خير دليل على ذلك، وجاءت التجربة السعودية لتؤكد هذا المذهب. من مصلحة القيادة السعودية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فهو براغماتي إلى درجة أنّه يعفي نفسه من تصنّع الوعظ الأخلاقي والإنساني لحكّام الدول الأخرى. بعودته يمكن استكمال مشاريع كثيرة توقفت مع قدوم الديمقراطيين، من بين ذلك العودة إلى مشروع صفقة القرن، وقد تكون لهذا المشروع روافع اقتصادية قوية بالتعاون بين الهند والسعودية وإسرائيل. تمثّل جوهر صفقة القرن بدفن القضية الفلسطينية، لكنّ “طوفان الأقصى” أزاح الستار عن جولات جديدة من الصراعات والحروب، وأعاد القضيّة إلى واجهة الأحداث العالمية.

التنافس العالمي اليوم على أشدّه مع تخلّق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب من رحم النظام العالمي وحيد القطب الذي كان أميركياً بامتياز منذ انهيار المعسكر الشرقي. ثمّة مصلحة هندية مشتركة مع أميركا في فتح خطوط تجارية منافسة للعملاق الصيني، ومن هنا كان طريق التوابل محاولة لوصل جنوب آسيا بأوروبا عبر الدول الرئيسية في الخليج والشرق الأوسط، أي الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل. لقد بات واضحاً سبب هذا الاصطفاف الهندي مع إسرائيل في حربها على غزّة، فقد تعاضدت المصالح الاقتصادية المشتركة مع التطرّف اليمني الهندوسي لحزب بهارتيا جناتا الذي يرى في المسلمين أعداءً يجب القضاء عليهم أينما كانوا، والذي يرى في الإبادة الجماعية لأهل غزّة مثالاً يمكن احتذاؤه في الهند وكشمير. لكن الهند، رغم كل إمكاناتها، تواجه خصماً نووياً في الجوار، فهي غير قادرة على المضيّ بسياساتها هذه إلى نهاياتها مع وجود باكستان على كتفها. بالتالي، سيكون عليها تقدير المصالح الباكستانية المرتبطة بمشروع الصين العظيم، الحزام والطريق، فباكستان إحدى أهمّ حلقات هذا المشروع العابر للقارّات. يعني هذا، من حيث النتيجة، محدودية الدعم الهندي الموقف الأميركي في المنطقة.

تدلّ مؤشراتٌ كثيرة على حالة الإرباك، أو حتى العطالة التي تمرّ بها مؤسّسة الرئاسة الأميركية في السنة الأخيرة من كل فترة رئاسية، يكون التركيز عادةً على كسب القواعد الحزبية للمرشّحين في كل حزبٍ على حدة، ثم يأتي التركيز على أصوات الناخبين في الانتخابات النهائية، وهذا يعني، من حيث المبدأ، التركيز على السياسات الداخلية. وقبل “طوفان الأقصى” كان التنافس بين مرشّحي كلا الحزبين على الفوز بتأييد اللوبي الصهيوني من خلال التعهد بتقديم الدعم اللامشروط لإسرائيل، وهي من أهم الإشارات الخارجية في الانتخابات، لكن، بعد الطوفان، كيف سيتم التعامل مع الأمر، خصوصاً أنّ استطلاعات الرأي تشير إلى تغيّر كبير في المزاج الأميركي، خصوصاً عند الفئات الشابّة وعند الجاليات العربية والمسلمة، وهذا كلّه يدعم مسألة الضعف الخارجي الأميركي في مرحلة السباق الرئاسي.

—————————–

يتجنّبون الحرب الإقليمية ويتّجهون إليها/ عمار ديوب

30 يناير 2024

بدا، مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر أن الولايات المتحدة وإيران تتجنّبان الحرب الإقليمية؛ فأميركا لجمت الدولة الصهيونية عن مهاجمة حزب الله في لبنان، وأكّدت إيران بدورها أن لا صلة لها بالعملية، وضبطت حزب الله. رافقت المواقف هذه عمليات عسكرية وأمنية محدودة، ومضبوطة، كالمناوشات على الحدود اللبنانية، وإطلاق الحوثيين الصواريخ وتهديد السفن المتجهة نحو الدولة الصهيونية، ولكن ذلك أعاق حركة السفن التجارية الضخمة في باب المندب ووصولاً إلى قناة السويس، ويُهدّد بأزماتٍ اقتصادية إضافية لمختلف الدول، وتطوّر الأمر أخيراً إلى عمليات عسكرية من تحالف “الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة، وأعادت الأخيرة تصنيف الحركة الحوثية منظمة إرهابية، وتتدارس وضع خطة عسكرية مستمرّة تستهدف الحوثيين، كما نشرت صحيفة واشنطن بوست أخيراً، وفي الوقت ذاته، شهدنا عمليات عسكرية للمليشيات التابعة لإيران وضد قواعد عسكرية أميركية في سورية والعراق، وردّت عليها أميركا؛ ولم تتوقف الدولة الصهيونية عن استهداف شخصيات عسكرية وأمنية بارزة في الاستخبارات الإيرانية التابعة للحرس الثوري.

لا يمكن عزل أيّة تحرّكات سياسية أو عسكرية أو أمنية في المنطقة بعيداً عما يجري في غزّة، والتهديد الخطير الذي أصيبت به الدولة الصهيونية، حيث استطاعت قوّة عسكرية فلسطينية “صغيرة” أن تشكّل تهديداً أمنياً وعسكرياً ووجودياً، وقد استدعى تدخّلاً غربياً لحمايتها، وهذا يدلّل على ضعفٍ شديدٍ في الدولة الصهيونية، ويهدّد بزوالها، وهو ما يتحدّث به كثيراً البروفيسور اليهودي إيلان بابيه، ويأتي قرار محكمة العدل الدولية، أخيراً، ليضفي عزلة كبيرة عليها في العالم. الآن، أصبحت الدولة الصهيونية في وضع سيئ، فهي تشنّ إبادة جماعية في غزّة؛ فرغم مرور قرابة ثلاثة أشهر ونصف شهر، لم تتوقف عمليات المقاومة، وفشلت مراحل العملية العسكرية الصهيونية بشكل كامل، ولم تستطع قتل قادة “حماس”، ولا اجتثاث الحركة ولا تهجير الناس خارج قطاع غزّة، ويظلّ هدفاً لدولة العدو، ولا استطاعت إعادة الاسرى.

الفشل الكبير هذا، ومقتل عددٍ كبيرٍ من الجنود الصهاينة، ووجود الآلاف منهم في حالةٍ سيّئةٍ للغاية، وتوجيه الاتهام لقادة الدولة الصهيونية بشبهة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وهناك الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، كل هذا يستدعي إيجاد حلّ ما، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، يحفظ أمن الدولة الصهيونية. هذا الفشل، والضغوط الشديدة التي تلاحق الإدارة الأميركية لإيقاف إطلاق النار، واتساع الحركة الدولية المتضامنة مع فلسطين وغزّة، والأسباب سابقة الذكر، دوافع متعدّدة لمقاربة جديدة للوضع في غزّة. وقد كانت زيارة بلينكن إلى المنطقة أخيراً لهذه الغاية، وتؤكد الاتصالات الأميركية مع بقية الدول الخليجية ضرورة حلّ الدولتين، وأن لا إمكانية لاستئناف علاقات التطبيع من دون إيجاد حلٍّ للمسألة الفلسطينية وليس فقط إيقاف العدوان على غزّة، ولا مشاركة في إعمار غزّة قبل ذلك.

تراقب إيران المشهد بأكمله، والعمليات العسكرية الصهيونية ضد مليشياتها في كل المنطقة، وكذلك العمليات الجوية ضد الحوثيين، وفي الوقت ذاته، العلاقات “الدافئة” بين واشطن والرياض والدوحة وسواها، والتنسيق مع تركيا بخصوص غزّة كذلك، وهذا يعني تراجع موقع إيران في الاستراتيجية الأميركية، فقد كانت “معتمَدة” من الأخيرة في “السيطرة” على المنطقة العربية، لا سيما بعد غزو العراق في 2003، بينما تبدو الآن أقرب إلى التحييد، إن لم نقل التحجيم، رغم غياب استراتيجية أميركية واضحة بخصوص هذا الأمر. رغم ذلك، يهمّش الحراك الأميركي تجاه مجريات العدوان على غزّة إيران، وربما دفعها هذا إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى إلى كل من أربيل وإدلب وباكستان لخلط الأوراق، وللفت نظر الإدارة الأميركية، إلى أن أيّة ترتيبات في غزّة أو المنطقة يجب ألّا تتجاهل المصالح الإيرانية، كما من قبل.

لا يبدو أن هناك تنسيقاً بين دول الخليج ومصر والأردن مع إيران بخصوص الوضع في غزّة، وكل النقاشات التي دارت منذ “طوفان الأقصى” ليس لإيران موقعٌ فيها، والمبادرات التي تُطرح بخصوص اليوم التالي في غزّة توضع بالضد من التمدّد الإيراني في المنطقة؛ ففي لبنان، هناك إصرارٌ على ترسيم الحدود وإيقاف الحرب ودفع حزب الله إلى الابتعاد عن الحدود، وهو ما سيَطرح لاحقاً الجدوى من بقاء سلاحه! وفي اليمن، تتجه الأوضاع إلى الاستقرار، لا سيّما مع استمرار الاتفاق بين السعودية والحوثيين على إيقاف العداء رغم التصعيد أخيرا بين “تحالف الازدهار” الأميركي والحوثيين. وفي العراق، هناك خلافات كبيرة بخصوص مستقبل المليشيات الطائفية التابعة لإيران، والتململ الواسع ضدها في الأوساط الشيعية، وفي سورية الأمور في غاية التعقيد.

إيران التي ظهرت لاعباً إقليمياً كبيراً مع بداية “طوفان الأقصى” لا تبدو كذلك في الأسابيع الأخيرة، بل كان قصفها الصاروخي للفت النظر، وقد أحدَث لها مشكلاتٍ كبرى مع باكستان والحكومة العراقية، تجتهد لتطويقها، وبالتالي، تجد نفسَها محاصرة. لا تبدو طهران الوحيدة المتضرّرة، بل كذلك الدولة الصهيونية، فهي تنطلق من سياسة التهجير، وعدم الاعتراف بحلّ الدولتين. وهذا بالضد من أيّة مبادرةٍ قد تتضمّن إيقاف إطلاق النار في غزّة وتخفيف الضغوط على الضفة الغربية، خشية إطلاق انتفاضة ثالثة، وهو ما تخافه أميركا أولاً، ولهذا تصرُّ على “حلّ الدولتين”، وتخشاه الدول الخليجية المطبّعة ثانياً؛ فإن كانت عملية طوفان الأقصى قد قضت على أوهام التطبيع من دون إيجاد سلطة فلسطينية وطنية في أراضي الـ67، فإن قيام انتفاضة ثالثة، وعلى أرضية الانتصار في غزّة، ستتعدّى آثارها الضفة إلى أراضي الـ48، وربما تَرفع سقف التفاوض للأنظمة العربية مع الدولة الصهيونية، ومن دون ذلك، ستكون أغلبية الأنظمة العربية مهدّدة بالسقوط، أو ستواجه مشكلاتٍ كبرى مع شعوبها.

الآن، هناك تجنّبٌ مضبوطٌ لمنع اندلاع الحرب الإقليمية، وحصرها في غزّة، ولكن الدولة الصهيونية أصبحت بحالة “هزيمة”، وهي انتصارٌ “مرٌّ” للمقاومة؛ فغزّة محاصرَة من الدولة الصهيونية ومن مصر! والدول العربية تتجنّب التفاوض على أرضية الانتصار، وسقط من أهل غزّة أكثر من مائة ألف شهيد وجريح، وما تتداوله الصحافة من تسريبات وأخبار لا ينطلق من الانتصار هذا، وهو ما ترفضه الدولة الصهيونية ومعها الإدارة الأميركية ودول غربية كثيرة وبعض الدول العربية.

المبادرات المطروحة لليوم التالي تُحجّم من دور إيران وتُبعدها عن ترتيبات الوضع الأمني والسياسي للمنطقة مستقبلاً، وقد تدفع الدولة الصهيونية نحو توسيع الحرب، وهذا ما لا تريده الإدارة الأميركية، ولكن وفي حال تجاهلت، من جديد، الحقوق الفلسطينية في إقامة دولة في أراضي الـ67 وتفكيك المستوطنات فوراً والانسحاب من غزّة، فلن تهدأ الحرب في غزّة، ولا في الضفة الغربية، وهناك إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة، وربما وقوع الحرب الإقليمية.

التلكّؤ باتجاه تطبيق حلّ الدولتين، وقبله الانسحاب من غزّة، سيفتح الأفق الفلسطيني واسعاً لإعادة طرح الدولة الواحدة على أرض فلسطين، وستفشل كل اتفاقيات التطبيع، التي ما زالت الدول العربية المطبّعة تتمسّك بها، ولن يكون هناك نظامٌ أمنيٌّ للمنطقة بعامة، كما تطمح أميركا، وبقيادة الدولة الصهيونية! فهل تعي الإدارة الأميركية، راعية الدولة الصهيونية، خطورة الوضع في فلسطين أو في المنطقة؟

لا يبدو ذلك، ولهذا ليس مستبعداً توسّعٌ في الحرب الإقليمية، وإن إمكانية أن تتبنّى الإدارة الأميركية حملة عسكرية مُستدامة ضد الحوثيين قد تدفع بهذا الاتجاه، وهناك إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة في عموم الأراضي الفلسطينية.

——————————

هل حلّ الدولتين ممكن مع إطالة أمد الحرب؟/ سوسن جميل حسن

28 يناير 2024

قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، يوم 22 يناير/ كانون الثاني الجاري، إن الوضع الإنساني في قطاع غزّة، الذي تفرض إسرائيل حصاراً مطبقاً عليه حالياً بواسطة حربها على حركة حماس، “لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك”، وقال للصحافيين قبيل اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي “من الآن فصاعدًا لن أتحدّث عن عملية السلام، ولكنني أريد عملية حلّ الدولتين”. مؤكّدًا أن الطريقة الوحيدة لتحقيق سلام دائم في المنطقة هي في “فرض حلّ الدولتين من الخارج”. وكان مسؤولون في الاتحاد الأوروبي قد وضعوا شروطًا عامة “لليوم التالي” لانتهاء الحرب الحالية، رافضين أي احتلال اسرائيلي طويل الأمد، داعين إلى إنهاء حكم حماس وإعطاء دور للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع.

يطرح هذا التصريح سؤالًا عن أهمية الموقف الأوروبي، والدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد الأوروبي في إنجاز هذه الفكرة التي حصلت فيما مضى على موافقة العالم في هيئاته الدولية.

في الواقع، ليست دول الاتحاد الأوروبي على “قلب” واحد في ما يخصّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، أو لم تتّخذ موقفاً موحّداً جامعاً لها، فهناك دول اتخذت موقفا داعما بقوة لإسرائيل مثل ألمانيا التي ما زالت ترفض وقف إطلاق النار، في وقتٍ اختلف معه موقف بعضها الآخر كإسبانيا وبلجيكا وإيرلندا، يأتي خطاب بوريل في وقتٍ يسعى الاتحاد إلى توحيد موقفه درءاً لتهمة تلّوث أيدي حكومات دوله بدماء الفلسطينيين الذين باتت مقتلتهم الجماعية تهزّ ضمائر شعوب كثيرة، ومن بينها الشعوب الأوروبية، فالمظاهرات الحاشدة التي تجوب مدنا عديدة في العالم من أجل وقف الحرب وحماية المدنيين والأطفال، ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزّة الذي بات من لم تحصُده الحرب منهم في حالة جوع وفاقة حقيقية وعرضة للأمراض القاتلة، عامل ضاغط على الحكومات، إنما يبقى الأمر في نطاق الخطابات من دون طرح أفكار عمليّة يمكن من خلالها تكوين صورة عن حلّ الدولتين المطلوب، وكيف يمكن إنجازه.

غالبًا ما كان الدور الأوروبي في الشرق الأوسط تحت المظلّة الأميركية، فما زال غزو العراق ماثلاً في البال، والوجود الأميركي الحالي في شمال شرق سورية، وكان داعماً بالمال والسلاح، ومشاركاً أحياناً في عمليات قتالية، ليس في الشرق الأوسط وحده، بل في كل منطقةٍ تدور فيها الصراعات في ظل الأزمة العالمية الممتدّة، وصعود قوى دولية وإقليمية تطمح أن يكون لها مراكز قوى وموطئ قدم في السيطرة العالمية والإقليمية، والحرب الروسية على أوكرانيا دليلٌ حيٌّ حاليّاً.

لكن الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط لم يعد كما كان، بالقوة نفسها والتفرّد نفسه، هناك قوى دخلت على الخط، وباتت لاعبًا في صراعاتٍ، مثل الاتحاد الروسي والصين، من دون أن ننسى إيران وعلاقة الغرب بها، وحالة التوتّر الدائم منذ إلغاء أميركا الاتفاق النووي في العام 2018، هذا التوتر الذي جعل من مضيق باب المندب والنقل البحري في البحر الأحمر بؤرة صراع ساخنة، إضافة إلى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية التي بدأت تجعل من موقف الحكومة الأميركية من الحرب في غزّة، وقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قضية حساسة ووازنة بالنسبة لتحديد المرشّح الفائز بالرئاسة، فالمواطن الأميركي لم يعُد يقبل بدفع فواتير كل الحروب التي تخوضها بلادُه، والتيار المناهض للحرب في غزّة يزداد اتساعًا.

فإذا كان هناك توافق عالمي على حلّ الدولتين الذي ترفضه حكومة نتنياهو بكل فجاجة ووضوح، كيف سيكون هذا الحل؟ وما هي الخطوات القابلة للتنفيذ التي بالإمكان البدء بها، ما دام نتنياهو لن يوقف الحرب، لأنه يعرف أن خروجه مهزوماً يعني نهايته السياسية وجرّه إلى المحاكم الدولية، بل وجرّ إسرائيل معه، فيما لو انضمّت دول أخرى إلى جنوب إفريقيا في دعاوى مماثلة ضد إسرائيل، وبقاء الحرب مفتوحةً على أمد غير معلوم يعني مزيداً من القتل والتدمير والتهجير والنزوح بحقّ الفلسطينيين، يعني المضي في إماتة قضيتهم، يعني مزيداً من الشعور بالظلم والقهر، وتكريس العنصرية بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، ما دام هناك أيضاً شريحة كبيرة من الإسرائيليين تُضمر نزعات فائقة العنصرية والكره للفلسطينيين. ولم تأت التصريحات التي قالها بعض المسؤولين، أو حتى النخب الإسرائيلية، من وصف الفلسطينيين بالحيوانات او العماليق أو وجوب إلقاء قنبلة ذرّية عليهم، من الفراغ، بل هناك عشرات الأطباء دعوا إلى تدمير المستشفيات والقضاء على المنظومة الصحّية الفلسطينية، في وقتٍ أكثر ما تحتاج إليه الشعوب هو هذه المنظومات، وقت الحرب.

حلّ الدولتين، الذي يمكن القول عنه إنه يلقى توافقًا من العالم، عدا إسرائيل بالطبع، أو على الأقلّ حكومة نتنياهو والأحزاب اليمينية، إضافة إلى جزء كبير من الناخبين الإسرائيليين، يحتاج في المقابل إلى توافق فلسطيني، وإلى أسسٍ واضحةٍ وخريطة طريق، وإلّا، لماذا الفشل منذ اتفاقية أوسلو؟ لماذا يخسر الفلسطينيون مع كل مرحلة مفصلية ما كان متاحاً قبلها؟ وكيف يمكن الحديث عن حلّ دولتين يأتي بالسلام بعده إلى المنطقة، ما دامت إسرائيل تتمادى على الأراضي الفلسطينية منذ ذلك التاريخ، حتى إن 40% من الضفة الغربية بات للمستوطنات، وفاق عددهم الثمانمئة ألف مستوطن، يمارس معظمهم عنصرية فائقة ضد الفلسطينيين، ولقد تمّ تسليح جزء كبير منهم؟

ما هو شكل الدولة الفلسطينية المقترحة؟ وما هي التنازلات التي يمكن لإسرائيل “بجبروتها” أن تقدّمها، حتى لو ضغط عليها أكبر حلفائها وأكثرهم التصاقاً عضويّاً بها؟ وهل العالم المتوافق في نظرته إلى القضية الفلسطينية على أن حلّ الدولتين هو العصا السحرية التي ستجلب السلام إلى المنطقة، لديه موقف واضح تجاه أن يكون للشعب الفلسطيني المحتلة أرضه، بإقرار هذا العالم ذلك، أن يكون له مقاومة أسوةً بكل الشعوب التي عانت من الاحتلال على مرّ التاريخ، ومنها الشعوب الأوروبية؟

أمام حلّ الدولتين عقبات كثيرة، يُفترض من العالم الذي يدّعي اهمامه بقضايا الشعوب وحقوقها، ومنها الحق في تقرير المصير والعيش الآمن، أن يناقش كل هذه القضايا المحورية، التي من دون توافق عليها لن يكون هناك إمكانية للحل، ولا جنوح نحو السلام في وقتٍ تصعد فيه القوى اليمينية والمتطرّفة والشعبوية في معظم أنحاء العالم، ولن يكون الوضع أقلّ من ذلك في فلسطين المحتلة، فهمجيّة الحرب التي فاقت التصوّر، وضرب إسرائيل عرض الحائط بكل مواقف الشعوب والدول والقوانين الدولية، لن يولّد غير التطرّف ومحاولات المحو والإقصاء بين الطرفين.

ما الذي يمكن أن تقدّمه أوروبا فعليّاً بالنسبة لحلّ الدولتين؟ أم إن الأمر لا يتعدّى الخطاب السياسي في إطار المواقف الإنسانية والأخلاقية، وصوناً لماء الوجه من الأنظمة أمام شعوبها؟

——————————-

تركيا وإيران… لقاء الضرورة/ فاطمة ياسين

28 يناير 2024

على وقْع هواجس توسُّع الحرب في المنطقة، يجتمع قطبا الإقليم البارزان، إيران وتركيا، ولهما قضايا مشتركة كثيرة تستدعي مثل هذا اللقاء. فهناك إطلالةٌ سياسيةٌ وجغرافية للبلدين على منطقة القوقاز التي لم تنعُم بالهدوء بعد، وقضايا أخرى في العراق وفي سورية. تركيا وإيران عضوان في لقاء أستانا الذي لم يزل يبحث عن حلولٍ في سورية، وتأتي أحداث غزّة ويمتد الصراع وهو مرشّح للتصاعد، ليلتقي الرئيسان، أردوغان ورئيسي، بعد سلسلة ضربات قوات التحالف على مواقع الحوثيين.

تنتمي تركيا جغرافياً وعسكرياً إلى أوروبا مع تمايز سياسي عنها، فهي ما زالت تدين الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزّة بلهجة قاسية شديدة الوضوح، ولكنها تحتفظ بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل، ولطالما مثّلت تركيا جبهةً أطلسيةً متقدّمة في وجه السوفييت سابقاً، وفي وجه الروس حالياً، أما إيران التي تتزعّم تحالفاً يسمّى محور المقاومة، ويضم مجموعة من المليشيات الموزّعة في اليمن وسورية والعراق ولبنان، فستبحث مع تركيا عن نقاطٍ يمكن التحكّم بها بشكل ثنائي للإبقاء على المنطقة في حالةٍ أقرب إلى الهدوء، ولا سيما مع قدرة البلدين الكبيرة ووجودهما الإقليمي الواسع.

تتقارب الثقافتان الفارسية والتركية وتتباعدان، وتوجد قواسم لغوية وتقاليدية عديدة، وحدود مشتركة بطول يزيد على خمسمائة كيلو متر، ورغم التباين المذهبي إلا أن معظم السلالات العائلية التي حكمت إيران بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تنتمي إلى العنصر التركي، وقد تأسّس نظام الحكم الإقليمي القديم في إيران وتركيا على التنافس العسكري بين قبيلتين تركيتين، الصفويين والعثمانيين، وحاول كل منهما التوسّع في أراضي الآخر. وشهد الإقليم الذي تشرف عليه الدولتان حروباً عديدة لعب فيها الغرب بتحالفاته المتغيّرة دوراً في تسمية المنتصر والخاسر. حاولت الدولتان خلال عقود طويلة من القرن الماضي التقرّب من الغرب، مع المحافظة على مشاعر قومية قوية، وانتهت إيران إلى دولة دينية تحكمها سلسلة من رجال الدين مع انكفاءٍ إلى الإقليم بمشاعر وسلوك تصادمي مع الغرب، بينما مرّت تركيا بفتراتٍ أدارت فيها ظهرها بشكل كامل للإقليم، وركّزت على المشهد الغربي، في محاولة إثبات للغرب بأنها جزءٌ منه، ومن حقّها الوجود ضمن كتلته السياسية، وأن لا يقتصر وجودها على الجانب العسكري، ولكنها وجدت نفسها مضطرّة إلى التعامل مع الجنوب والشرق، رغم احتفاظها بمشاعر انتماء نحو الشمال الأوروبي.

بهذا الإرث الذي يحمله كل من رئيسي وأردوغان، جرى اللقاء بينهما الأربعاء الماضي، وكان من المقرّر أن يزور رئيسي تركيا في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فتأجّلت الزيارة وجُدولت في الرابع من هذا الشهر، ثم تأجّلت ثانية ليقوم بها رئيسي أخيراً بعد 20 يوماً، ولكن على خلفية التشابك الإقليمي الذي تتورّط فيه إيران بشكل كبير، وبعد القصف الذي جرى تبادله بين إيران وباكستان، سارع البلدان إلى احتواء الموقف، كما أسرع رئيسي إلى أنقرة للقاء أردوغان. أظهرت ردود الفعل الإيرانية خلال فترة الحرب على غزّة صعوبة إدارتها طرق الرد، ووجدت طهران نفسها تتحرّك على جبهات عدة، ولديها صعوبة في التحكّم بها بشكل كامل، وخصوصاً مع ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية في البحر الأحمر وجنوب لبنان. يلجأ رئيسي إلى تركيا، ويوقّع اتفاقيات كثيرة، مُظهراً وجهاً اقتصادياً وانفتاحاً سياسياً، فإيران ترغب في إبقاء الحرب ضمن نطاقها الحالي، وهي تدرك أنها غير قادرة على الوجود العسكري على جبهات عديدة متورّطة فيها بالفعل، ومن البوابة التركية ذات العلاقات الأطلسية، تحاول إيران أن تُظهر رغبتها في إبقاء الحرب محصورة، وهي تختار شريكاً تاريخياً كان مناسباً ليلعب دور المنافس، وهو في الوقت نفسه مناسب الآن، للاعتبارات التاريخية نفسها، للعب دور مهدئ، وقد ينجح هذا المسعى نظراً إلى رغبة أميركا وشركائها في عدم التوسّع أكثر.

———————————

انقطاعات النوم/ سمر يزبك

27 يناير 2024

لنبدأْ بقصّةٍ قصيرة، سنفترضُ أنّها حكايةٌ بسيطة يرويها الأهل لأبنائهم قبيلَ النوم، عن أطفالٍ يعيشون قربَ البحر في مكانٍ يسمّى غزّة.

عنوانُ القصة: انقطاعاتُ النوم! … بالتأكيد هذا غريبٌ، ليسَ لأنّ عنواناً كهذا لا يمتُّ على الإطلاق بأيِّ صلةٍ مع رواية خوسيه ساراماغو “انقطاعات الموت”، بلْ لأنّها تتجاوزها في غرائبيّتها حدَّ الذهول، فذلك المكانُ المسمّى غزّةَ، وإنْ كان من السهل حقّاً إيجاده في خرائط العالم، لكنّه اليومَ يمتلك من صفات الخيال أكثر مما يطيقُه الواقع.

في وسعنا اختصار القصّة بجملةٍ قصيرة: أطفالُ غزّة يموتون من انقطاعات النوم! … يبدأ زمنُ الحكاية من تاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل على وجه التحديد، بعد مرور شهرين على هذا التاريخ، حينَ ذكرتْ صحافيّةٌ أميركيّةٌ هذا الخبرَ، ليتواترَ بعد ذلك الكثيرُ من الأنباء والتقارير التي تخبرنا عن هذا الشكلِ الغريب لموت الأطفال.

موتٌ مبتكر، مصنوعٌ بأناقةٍ ونعومة، لا يمكن مضاهاة وحشيّتهِ إلّا بإخفائهِ هكذا ضمنَ كلماتٍ مجرّدة تشكّل خبراً باردا منزوعَ المشاعر، وكأنّ هذا الموت هو من مضاعفات مَرضٍ شائع انتشر أخيراً، يقول الخبرُ إنّ أطفالَ غزّة يموتون بالسكتة القلبيّة نتيجةً عدم قدرتهم على النوم، وبذلك قد يكونون من المحظوظين الناجين، فقط لأنّ أجسادهم الغضّة لم تتحولْ إلى أشلاءٍ ودماء معجونةٍ بالغبار، كغيرهم من الأطفال القتلى.

الخبر لا يأتي من مجرّد معلومةٍ إحصائيّة، بلْ الأساسَ فيه يستند إلى تفسيرٍ علميّ بأنّ الرعب الذي سببّته أصواتُ القصف الإسرئيليّ، المستمر هناك أكثرَ من ثلاثة أشهرٍ، رفع معدّلات الأدرينالين في أجسادهم إلى درجةٍ جعلتهم عاجزينَ عن النوم خوفاً وتوتّرا، وهو ما أدّى بدوره إلى تعطل قلوبهم وتوقفها عن العمل. … هكذا فجأةً ينامون مرّةً واحدة وإلى الأبد، من دون أيِّ ضجيج!

يكتب الصَحافي في “الغارديان”، أرشي بلاند، إن الأرقام التي أكدّتها وكالاتُ الإغاثة الدوليّة للضحايا في القطاع ليست دقيقة وشاملة، ويضيف إنَّ الحروبَ على مرِّ التاريخ دائما ما تبتلع ضحاياها، وهو أمرٌ يعْزوه، كما كتب، إلى ظاهرة ضبابِ الحرب، من دون أن يشيرَ هنا إلى أنّ القصف الإسرائيليّ المستمرَ على البيوت والمستشفيات ومنعَ المساعدات الإنسانيّة هما السببُ الرئيسيُّ لهذه الأعداد من القتلى، في عملية إبادةٍ معلنةٍ وعلنيّة، ويكتفي، كغيره من الصحافيّين، بذكر أرقامٍ باردةٍ مجرّدة؛ هناكَ ثلاثةٌ وعشرون ألفاً لقَوا حتفَهم، سبعةُ آلافٍ ما زالوا مفقودين تحت الأنقاض، 70% من الضحايا هم من النساء والأطفال، منهم عشرةُ آلاف طفل.

عشرة آلاف طفل!. … تتحدّث الاحصائياتُ هنا عن الأطفال ضحايا القصف والجوع فقط، ولا تتحدّث عن أطفال انقطاعات النوم، فهؤلاءِ لم يدخلوا في أعدادِ الضحايا. لم يجرِ أيُّ إحصاءٍ عن موتٍ كهذا، ولا تتحدّث عن أطفالٍ آخرين قتلهم الخوفُ بسكتةٍ قلبيّة، بينما كانوا ملاحَقين من جنديٍّ إسرائيليٍّ أو طائرة كواد كابتر مسيّرة، ولا عن الذين فقدوا أصواتَهم وهم يرون آباءهم وأمهاتهم أشلاءً أمام أعينهم، ولا من فقدوا أبصارهم أو أطرافهم أو من فقدوا كلَّ شيء….

تجربةُ العملِ على التحديق في الموت السوريّ الذي لم يزلْ مستمرّاً بتنويعاته وفنونه، تمكّننا من القولِ بثقةٍ إنّ إعطاءَ الأرقام هو أسوأ ما يمكن القيام به، لأنَّ الأعدادَ الحقيقيّةَ للضحايا تكون غالباً أكثرَ من العددِ الموثّقِ المُعلن عنه، ولأنّ الأشلاء البشريةَ في وحشيّةِ الحرب تستحيلُ إلى أجزاءٍ من تراب، ويصير حديثُ المؤسسات البيرواقرطيّ عن أرقامٍ محضَ هراءٍ، نلجأ إليها أحياناً لتمثيلِ صوت الضحايا، أو لمحاولة استجلابِ العدالة لهم، أو ربّما فقط لنعفيَ أنفسنا من المسؤولية، في محاولةٍ لنخيّط ذلك الجرحِ الغائر في أرواحنا، والذي يُسمّى الذنبَ في أنّنا ما زلنا نعيش!

ولكنْ هل هناكَ من يستطيع أن يدرسَ، على سبيل المثال لا الحصرِ، حالةَ الضحايا هؤلاء؛ الأطفالُ الذين يموتون بهدوءٍ نتيجة توقّف قلوبهم عن العمل؟ كيف؟ وأين؟ كم عددهم؟ الأطفال الذين يعيشون في قطاع غزّة ويسمعون أصوات القصف ويدمّر الأدرينالينُ قلوبَهم، من يستطيع أن يُحصي نبضات أوردتهم قبل انفجارها، من ينظُر إلى فجيعةِ أمّهاتهم، كيف نردّدُ أسماءهم بين الضحايا مع موتهم الأنيق هذا؟ ثم من قرّر أنّهم ليسوا ضحايا لمجرّدِ أنّ القذائفَ لم تمزّق أجسادهم. من يعرفهم أساساً؟ وموتهم لا يدخل في حسابات الأمم المتحدة ولا مؤسّسات العناية بالطفولة، ولا في مقالاتِ كبار الصحافيّين حولَ العالم. موتُهم أنظفُ من التلصّص عليه، ولكنّه يخفي الكثيرَ من خساراتِ الحرب.

لنتركْ الحديثَ عن الأرقام وعن المؤسّسات التي تريدنا أن نستوعبَ الكارثة بأدواتٍ إحصائيّةٍ بيرواقراطيّة، فهؤلاء الأطفال الذين سيوصَف من يتبقون منهم على قيد الحياة بأنّهم ناجون، ما زالوا وجبةً طازجةً على مائدة الموت، طالما بقيَ العالمُ عاجزاً عن فرضِ وقفٍ لإطلاق النار. هذه هي الحقيقةُ، إنّهم المستهدفون الأكثرَ هشاشةً، الذين يموتون حقيقةً من الخوف أحياناً ولا يأتي على ذكرهم أحدٌ، إذْ إنّهم يموتون ببراعة.

تكون الكارثة أحياناً صامتة؛ مثل قدرتنا على رؤيتها وابتلاعها في حناجرنا، مثلَ اعتراضنا الخجولِ عليها ومثل عجزنا الدائم حيالها. وفي الوقت نفسه، تنطوي الكارثةُ أيضاً على عدّةِ تمثلاتٍ خفيّةٍ وقائمةٍ ومتكرّرة، فهي من وجهة نظرٍ أخرى تجعلُ من أطفال غزّة، أعصياء على عين المتلصّص من التحديق في أجسادهم، إنّهم بلا اكتراثٍ وبلا درايةٍ يحمون حرمةَ ما تبقّى لهم، ويبعدون الذبابَ عن جراحهم الطازجةِ ويمنعون قلوبَهم الغضةَ أن تستحيلَ إلى مسرحٍ للفُرجة، وهم في ذلك يمضون بهدوءٍ مع كرامتهم جنباً إلى جنبٍ، هكذا مع كلّ تلك الوحشيّة اللامتناهية، ربّما هم، ولسببٍ غامضٍ، يعرفون أنّ تلك الجرائمَ لن تهزَّ الضمير البشريّ إلّا في حال حصوله على المزيد من صور المآسي والمجازر، لكنّ هذا لا يعنيهم، ولم يخطرْ حتّى في بالهم، لقد حظيَ أولئك الذين لم يتحوّلوا إلى أرقامٍ بموتٍ غريب، جعلهم في مرتبة الضحايا اللامرئيّين.

للموتِ مَعنىً كثيفٌ يحضُر دائماً عبر غيابه، كما كان في رواية خوسيه ساراماغو “انقطاعات الموت”، لكنّه في غزّةَ مقيمٌ لَزجٌ لا يفارقُ واقعَ الغزيّين ولا خيالهم؛ كبارهم، وصغارهم، نساءهم، ورجالهم، منذ أن احتلَ القراصنةُ غزّة، ومنذُ أن فرضوا الحصار عليها، هم القراصنة أنفسهم الذين حاولوا منعَ ساراماغو ذاتَه من زيارةٍ لمخيم جنين إثرَ مجزرةٍ سابقة، لا لسببٍ مهمٍّ، سوى روايةٍ كان كتبها بعنوان “حصار لشبونة”، ولم يدرِ ساراماغو وقتها ربّما عن التشابهاتِ التي ستثارُ بين روايته وروايةٍ لم تُكتب بعد، قدْ تكونُ بعنوان “حصار غزّة”.

—————————-

الدولة الفلسطينية بين بايدن ونتنياهو/ بشير البكر

26 يناير 2024

تحفل وسائل الإعلام، منذ أسابيع، بأحاديث عن خلافات بين كل من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بشأن الدولة الفلسطينية. وتتسرّب معلومات، من حين إلى آخر، عن مشادّات ومناكفات ووقف مكالمات هاتفية وإيفاد كل من وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، في جولات إلى الشرق الأوسط لمناقشة القضية مع المسؤولين في السعودية ومصر ورام الله، لا تحقّق نتائج، بل يصل جواب الرفض صريحا على لسان نتنياهو، وبقية الشخصيات السياسية في المعسكرات الإسرائيلية كافة. ولكن بايدن لا ييأس، وأعلن الأسبوع الماضي أن إقناع نتنياهو ليس بالأمر المستحيل، وخصوصا أن هناك أنماطا مختلفة من الدول المنزوعة السلاح، ويمكن للدولة الفلسطينية التي يطرحها أن تكون مفصّلة حسب مصالح إسرائيل، ومقرونة، على نحو خاص، باعتراف بقية الدول العربية بإسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها، ولا سيما السعودية التي يعتبر بايدن أن حركة حماس شنّت هجمات 7 أكتوبر لقطع الطريق على التطبيع معها.

لو كان بايدن جادّا في إيجاد حل للنزاع، لتصرّفت إدارته على نحو مختلف تجاه القضية الفلسطينية منذ وصولها إلى البيت الأبيض. وكان منتظراً منها أن تقوم بخطوة نحو تصحيح المسار الذي شقته الإدارة الأميركية السابقة نحو التطبيع، وطرح صفقة القرن بديلاً عن حل القضية الفلسطينية على أساس قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحدود 4 يونيو/ حزيران (1967). والامتحان المهم الذي لم يقترب منه بايدن هو الاستيطان، باستخدام تأثير الولايات المتحدة لطرح موضوع المستوطنات على بساط البحث، بعدما تشكلت حكومة من المستوطنين بقيادة نتنياهو، وفي وقت أصبحت فيه المستوطنات تشكل ما نسبته 42% من مساحة الضفة الغربية، وتمت السيطرة على 68% من مساحة المنطقة “ج” في اتفاق أوسلو لمصلحة المستوطنات، وهي منطقة تضم 87% من موارد الضفة الغربية الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها. وكي لا نذهب كثيرا نحو الوراء، ثمّة سؤال يطرح نفسه: لماذا يرفض بايدن وقف إطلاق النار في غزّة، إذا كان جادا في حل القضية الفلسطينية؟ وقد تبيّن أنه لم يمارس ضغطا كافيا على نتنياهو ليسمح بإدخال المساعدات الإنسانية والأدوية، ما يهدّد بمجاعة وشيكة.

يبدو نتنياهو أكثر صدقا في موقفه من بايدن، وهو منسجم مع الإجماع الإسرائيلي على رفض قيام دولة فلسطينية، ولذلك يشهر هذا الرفض، ويتمسّك به برنامجاً انتخابياً للمرحلة المقبلة التي تلي الحرب على غزّة، وفي وقت تسعى فيه قوى أخرى لإطاحته، بسبب الإخفاق الأمني في 7 أكتوبر، يستطيع أن يقدّم نفسه على أساس أنه الذي قاوم الضغوط الأميركية من أجل قيام دولة فلسطينية، وهو بذلك يحافظ على معسكر اليمين المتطرّف من حوله، لأنه ضمانة لاستكمال مشاريع الاستيطان والضم والتهجير من الضفة الغربية. وفي السياق ذاته، يتحكّم الشأن الانتخابي بتمسّك بايدن بورقة الدولة الفلسطينية، وهو يحاول من خلال ذلك خداع قطاعات من الناخبين المؤيدين للقضية الفلسطينية، الذين بات من المرجّح أنهم سيصوّتون ضده، بسبب موقفه من الحرب الإسرائيلية على غزّة. كما يطمح إلى تسويق هذا الموقف عربياً من أجل توسيع دائرة التطبيع، وتقديمه إنجازاً سياسياً في المعركة الانتخابية، غير أنه لم يبق من عمر الإدارة أكثر من عام سوف تنفق القسط الأكبر منه في حملة الانتخابات الرئاسية المقرّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ولن يكون لديها الكافي من الوقت للسير في مشروع الدولة الفلسطينية، حتى لو كانت الطرقات معبّدة في جميع الاتجاهات.

——————————

ليس دفاعاً عن الإسلاميين/ راتب شعبو

25 يناير 2024

من السهل نقد الإسلاميين. القليل من الاتساق المنطقي كافٍ لإظهار ضعف الأرضية التي يقفون عليها في زعمهم أنهم يمثّلون الإسلام في السياسة. والحقّ أنه ليس بمقدور أي جماعة منهم إقناع أحد (عدا أنصارها) بتمثيل الإسلام. كلّ جماعةٍ منهم تمثّل “إسلاماً” يخصّها، وغالباً ما يكون إسلاماً مبسّطاً وقطعياً وفقيراً، كي يصبح قادراً بالتالي على أن يكون أداة سياسية. وتحويل “إسلام” جماعةٍ ما من جماعات الإسلام السياسي إلى “الإسلام”، بما يعني ذلك من تمثيلها الأمة، يحتاج إلى فرض ذاتها بالقسْر والعنف، أكانت الجماعة في السلطة أو خارجها، وهو ما يفسّر ميل معظم هذه الجماعات إلى العنف. وحين أتيح للإسلاميين أن يحكموا، كما في السودان جعفر النميري أو عمر البشير، كانوا دمويين، ولم يقدّموا، في الواقع، نموذجاً ناجحاً في إدارة المجتمع، وقد جمعوا، مثلهم في ذلك مثل غيرهم، بين التسلط والفشل التنموي.

حين نقول “الإسلاميين” نقصد الجماعات التي تستند في تدخّلها في الشأن السياسي العام إلى الإسلام، ليس بوصفه ثقافةً وإطاراً حضارياً، بل بوصفه ديناً، وتُمارس السياسة على أنها وسيلة لتحقيق الغاية الكبرى التي هي سيادة الإسلام (الصورة التي يعتقدونها عنه، وعلى الشاكلة التي يتخيّلونها)، ويبقى كل ما دون هذه الغاية، مؤقتاً وتكتيكياً، وتبقى كل علاقة مع قوى غير إسلامية، أو حتى مع قوى إسلامية مغايرة، مجرّد ممرّ وعبور إلى غاية هي ما يتصوّرون أنه الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية أو المجتمع المسلم الصحيح… إلخ. يشبهون في ذلك، رغم التضادّ الفكري الصريح، التيار السياسي الشيوعي الذي وسم معظم القرن العشرين، وسيطر في بلدانٍ عديدة وشكّل قوة عظمى في مواجهة “العالم الحر”، قبل أن يكتشف أن غايته العليا المتخيّلة، أي المجتمع الشيوعي، التي تجعل كل ما دونها (تحالفات، هدن، مساومات… إلخ) مؤقتاً، كانت أقصى بكثير مما تصوّر، وأن “المؤقت” لم يكن، في المحصلة، سوى سيطرة هذا التيار التي امتدّت بضعة عقود… غير أن هذا المقال لا يذهب إلى نقد الإسلاميين، بل يذهب في اتجاه معاكس بالأحرى، ليقول ما للإسلاميين وليس ما عليهم.

ما لا يمكن إنكاره لدى الإسلاميين ثباتهم وفشل محاولات محوهم المتكرّرة، الأمر الذي يتجلّى في قدرتهم على النهوض وجاهزيّتهم المستمرّة على العمل بطاقات متجدّدة، وعلى تقديم التضحيات. كما لا يمكن إنكار حسن تنظيم الإسلاميين شؤونهم بما يمكّنهم من الظهور على غيرهم. أكان ذلك في البلدان ذات الغالبية المسلمة أو في البلدان التي يشكّلون فيها أقلية، وبصورة خاصة، البلدان الديمقراطية التي تسمح بحرّية النشاط والتعبير، فهم في هذه البلدان يفهمون شروط العمل، ويستفيدون منها على أفضل وجه، في النشاط المتعدّد المستويات لصيانة ما يعتبرونه هويّتهم الخاصة، وفي تشكيل الجمعيات وإدارتها وشبك العلاقات، وينتهي ذلك كله إلى إنشاء هيكلية مؤثرة ومثابرة، تقدّم الخدمات بطريقة فعّالة لمناصرة توجّهات سياسية محددة يريدونها.

غالباً ما يتفوّق الإسلاميون في المجال النضالي الذي ينخرطون فيه. يصحّ هذا في الصراع ضد أنظمة حكمٍ محليّة، كما شهدنا في الثورات العربية في مستهل العقد الثاني من هذا القرن، أو ضد احتلال، كما شهدنا في لبنان وفلسطين. وغالباً ما يُنسب تفوّقهم إلى عامليْن من خارجهم، الأول هو الدعم الخارجي، والثاني هو تديّن المجتمع أو “ثقافته”. على أهمية هذين العاملين، يغفل هذا التفسير العامل الأهم، وهو الانضباط التنظيمي للعناصر واستعدادهم النضالي العالي، ذلك أن هذا العامل هو المحلّ الذي يستقبل الدعم الخارجي ويجعله مُجدياً، وهو أيضاً الأداة التي تستثمر في الطاقة “الثقافية” للمجتمع. والحقيقة أن الإسلام السياسي في المجتمعات المسلمة غالباً ما يبدو كأنه الامتداد السياسي العضوي للمجتمع. إذا كانت التيارات السياسية “الحديثة” تعاني بعض الاغتراب عن مجتمعاتها المسلمة وتحتاج إلى طاقة إضافية كي تغرس نفسها في المجتمع، فإنّ التيار الإسلامي لا يعاني من هذه المشكلة، على العكس فإنّ هذا التيار يجتهد في معالجة ما يراه مظاهر اغتراب المجتمع عن ذاته. التيار الإسلامي ينظر إلى نفسه على أنه ذات المجتمع.

يوحي الإسلاميون في جدّيتهم ومثابرتهم أنهم ينطلقون في المجال الذي يعملون فيه من قناعة راسخة في أنهم هم أصحاب “القضية”. وهم قادرون على خدمة ما يزعمونه، ليس فقط بفضل عزيمتهم الناجمة عن إيمانهم العميق بأنهم ممثلو مجتمعهم وحماة هويّته، وإنما أيضاً بفضل ما تتيح لهم هذه القناعة من تسويغ كل ما يساعدهم على خدمة “القضية”. وفي السياق، ينظر الإسلاميون إلى الجماعات السياسية الأخرى أنها طارئة وخارجية. والحقّ أنّ الإسلاميين يثبتون على الدوام أنهم الأكثر قدرة على الثبات، والأكثر صلة بمجتمعهم، الأمر الذي غالباً ما يحيل الجماعات الأخرى إلى الهامش، لا تملك سوى الشكوى من سيطرة الإسلاميين.

إذا وضعنا جانباً المآخذ السياسية والأمنية المعروفة، وهي صحيحة، فإنّ المقارنة بين العمل المسلح ضد إسرائيل في جنوب لبنان قبل حزب الله وبعده تظهر فارقاً مهماً لصالح الحزب، من ناحية الانضباط والفاعلية العملياتية والإنجاز. وفي ما لو تناولنا عملية طوفان الأقصى، بوصفها عملاً عسكرياً معزولاً عما استجرّه من انتقام وحشي طاول سكّان غزّة الذين لم يُجهزوا مسبقاً بوسائل الحماية اللازمة، ولا بالمؤن الضرورية … إلخ، ومعزولاً عمّا تضمّنته العملية نفسها من استهداف للمدنيين (تأخّرت حماس كثيراً في نشر وثيقة أصدرتها أخيرا بعنوان “هذه روايتنا” توضح فيها أسباب العملية، وأنها لم تتقصد استهداف المدنيين)، فإنها تشير إلى إرادة ثابتة عند الإسلاميين، وإلى أنهم جاهزون للمضي إلى أقصى ما يمكن تصوّره في الإعداد والتنفيذ، لتحقيق ما يريدونه. في سورية أيضاً، وبعد وقت قصير من اشتعال الثورة السورية، سيطر الإسلاميون على كامل مفاصل العمل المواجه للنظام، إن على المستوى العسكري أو السياسي أو الإغاثي، أما الهيئات المستقلة عن الإسلاميين، فقد كانت، وما زالت، ذات فاعلية محدودة.

الاستناد إلى الدين بوصفه المصدر الذي يستمدّ منه الإسلاميون مشروعيتهم وأحقيتهم يشكل بوّابة النقد الأساسية التي تطاولهم، لكنه يشكّل، في الوقت نفسه، مصدر قوتهم وتجدد طاقاتهم. ومن المرجّح أن يبقى هذا الحال طويلاً في أمة مشت حضارتها الغابرة يداً بيد مع دينها وتسمّت باسمه.

العربي الجديد

—————————–

هل بات الأسد راغباً في التخلّص من هيمنة طهران؟/ غازي دحمان

25 يناير 2024

لا يبدو أن علاقات النظام السوري مع إيران تسير بدون مشكلات وتعقيدات في هذه المرحلة، فالخلاف بين الطرفين جرى التعبير عنه في تفاصيل جارية، وترتيبات مستقبلية يزمع نظام الأسد إجراءها، وثمّة مؤشرات عديدة على وجود أطراف ثالثة ربما قدّمت عروضا للأسد شريطة تخفيف ارتباطه بإيران.

أن تخرج أصوات من طهران تطالب باعتقال الجواسيس الذين يقدّمون المعلومات لإسرائيل لاستهداف قيادات الحرس الثوري، فذلك مؤشّر على مستوى عال من الغضب الإيراني على نظام الأسد، بل أكثر من ذلك، اتهام صريح بوجود اختراقٍ لمنظومة الأسد الضيّقة بالعمالة لإسرائيل، بالتذكير بأن الجاسوس الإسرائيلي، إيلي كوهين، كان قد وصل إلى منصبٍ مهمّ في هيكلية الحكومة السورية في ستينيات القرن الماضي.

في الفترة الأخيرة، أقدم نظام الأسد على إجراء تغييراتٍ على مستوى الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى القيام بإجراءات على مستوى الجيش، بدا أن الهدف منها بناء منظومة عسكرية تكون للأسد السيطرة الكاملة عليها، بديلاً عن المنظومة المُخترقة بشكل فاضح من اللاعبين الخارجيين، وخصوصا إيران، ويبدو أن ثمّة طرفاً خارجياً قدّم للأسد وعوداً بتمويل بناء هذه المنظومة، وذلك ما يبدو جليّا من خلال حجم المكافأة التي يتم طرحها للراغبين في التطوّع في هياكل جيش النظام.

من الواضح أن تداعيات حرب غزّة، والاحتمالات التي تنطوي عليها، وخصوصا لجهة احتمال توسّع نطاق الحرب ليشمل دولاً إقليمية، كان لها صدى لدى نظام الأسد، الذي جرى إبلاغه، منذ بداية الحرب، بأن يأخذ جانب الحذر قدر ما يستطيع، كما أشارت تقديراتٌ إلى أن استمرار بقاء الوضع السوري على حاله، أي سيطرة إيران ومليشياتها على الأوضاع، سيرسّخ معادلات أمنية لم تعُد مقبولة إقليميا ودوليا، وبالتالي، للخروج من هذا الوضع يستلزم إرباك خطط إيران وترتيباتها الإقليمية من خلال إزاحة الأسد وتشكيل بديلٍ لنظامه في دمشق.

ويدرك الأسد أنه ونتيجة المتغيّرات التي شهدتها المنطقة بات مقيما بين فكّي كمّاشة إيران التي تدير جزءاً من الصراع مع الولايات المتحدة والغرب، من خلال أدواتها في المنطقة، في اليمن والعراق ولبنان، وبين إسرائيل وواشنطن اللتين تبحثان عن كبش فداء تقدّمانه هدية لجمهورهما، حيث يعتبر الأسد أسهل هذه الأهداف، ما دامت الحرب على الحوثي مجرّد رمايات على جبال صنعاء، وللحرب على حزب الله حساباتها المعقدة وتكاليفها الباهظة، فيما إعلان الحرب على فصائل الحشد الشعبي العراقي تعني إعلان واشنطن الحرب في العراق، وهو ما لا تريدُه في هذه المرحلة.

وتفيد الترتيبات الروسية أخيرا بأن موسكو التقطت الفكرة، أو جرى إشراكها بطريقة معيّنة بالمعلومات والسيناريوهات التي يتم إعدادها، أو حتى وضعها أمام خياراتٍ محدّدةٍ لإدارة الجبهة السورية تحت التهديد باتخاذ إجراءات حاسمة غير التي تم اتخاذها على مدار سنوات الحرب السابقة، والتي اقتصرَت على توجيه ضرباتٍ لبعض المراكز أو المنشآت، إذ من الواضح أن تطوّر الضربات الإسرائيلية في سورية يشير إلى تدحرج العمليات إلى ما هو أبعد من قتل بعض القيادات الإيرانية.

وفيما يبدو محاولة لاستباق مثل هذه السيناريوهات، أعادت القوات الروسية انتشارها على خط الحدود الفاصل بين الجولان ومناطق سيطرة النظام، في محاولةٍ لمنع المليشيات الإيرانية من تشكيل بنية عسكرية في هذه المنطقة تحاكي التي أسّسها حزب الله في جنوب لبنان، وهو أمر تعتبره إسرائيل خطّا أحمر، ويبدو أنها قرعت جرس الإنذار الأخير لروسيا، التي أرادت في مرحلة من مراحل الحرب مساومة إسرائيل على موقفها من الحرب الأوكرانية بالضغط عليها من جبهة الجولان.

لا تعمل روسيا منفردة في هذا السياق، والأرجح انها تنسّق مع أطرافٍ عربية أخرى لديها قنوات اتصال مع واشنطن، التي لا تريد توسيع الحرب في المنطقة، وقد يكون لتخفيف نظام الأسد علاقاته مع إيران ثمناً سياسياً واقتصادياً معيناً، كما حصل حافظ الأسد على ثمن مشاركته في حرب تحرير الكويت، ويحتاج الأسد الابن في هذه المرحلة إلى فرصةٍ من هذا النوع لإعادة بعث الحياة لنظامه، أقلّه للخروج من ورطة أن يكون ثمناً لطموحات إيران في المنطقة.

بالنسبة للأسد، سيظهر، إذا استطاع التقدّم في مسار تخفيف التأثيرات الإيرانية على نظامه، وكأنه يطبّق المبادرة العربية، التي تطلب منه، بعد إجراء حزم من الترتيبات الداخلية، إنهاء الوجود الإيراني، وبالتالي، سيكون حرق المراحل لتحقيق الانفتاح العربي عليه، الذي هو مقدّمة لانفتاح دولي، وفي الوقت نفسه، تصبح مسألة تقديم تنازلاتٍ داخلية مسألةً قد تجاوزتها الأحداث، وتفصيلاً غير مهم في ظلّ مساهمته في التأثير على مسارات الصراع في المنطقة التي يُراد لها التجهز لخرائط جيوسياسية جديدة تكون إيران خارجها.

ولكن، إلى أي مدىً يستطيع الأسد السير بمسار تفكيك العلاقات مع إيران؟ وما هي المدة التي ستستغرقها إجراءات الأسد لتشكيل واقع خارج عن الهيمنة الإيرانية؟ وهل ستسمح له طهران بالتغريد بعيداً عن نفوذها؟ المؤكّد أن ما يهمّ الأسد حماية رأسه الذي أصبح في صلب المساومات الإقليمية، وبالتالي، ستكون إجراءاته وسياساته في المرحلة المقبلة انعكاسا لشعوره بالتهديد وبحثه عن أفضل طرق الحماية

——————————–

باب المندب على صفيح ساخن/ علي العبدالله

24 يناير 2024

شكّل منع حركة أنصار الله (الحوثيين) اليمنية السفن الإسرائيلية والسفن المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية من المرور عبر مضيق باب المندب توسيعا للمواجهة الدائرة بين القوات الإسرائيلية وكتائب الشهيد عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزّة، وتصعيدا للضغوط الإقليمية والدولية على الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني هناك. وقد جاءت الضربات الجوية والصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد مواقع عسكرية لـ”الحركة” على الأرض اليمنية لتصب الزيت على نار المواجهة وترفع درجة التحدي في ضوء تمسّك “الحركة” بموقفها ووضعها السفن الأميركية والبريطانية على قائمة أهدافها، واستهداف بعضها، وتوجيه ضربات أميركية استباقية ضد مواقع إطلاق الصواريخ والمسيّرات على البر اليمني، بلغت إلى كتابة هذه السطور سبع ضربات، واعتراض الصواريخ والمسيّرات التي تطلقها “أنصار الله” باتجاه سفن الشحن والقطع البحرية الأميركية والبريطانية.

وتدفع الضربات الوضع نحو مزيدٍ من التصعيد يُنذر بانفجار مواجهةٍ إقليميةٍ شاملة، فهي إعلان واضح من الولايات المتحدة عن أنها متمسّكة بدورها وحضورها في منطقة لها أهمية استراتيجية بالغة لمصالحها ومصالح حلفائها، وأنها لن تستنكف عن الضرب بقوة للحفاظ على هيمنتها وسيطرتها على هذا الممرّ الملاحي الدولي الهام. يتم عبور 15% من السلع المستوردة من آسيا والخليج العربي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا، و21.5% من النفط المكرّر، وأكثر من 13% من النفط الخام و30% من تجارة الحاويات من البحر الأحمر.

أرتبط تحرّك حركة أنصار الله اليمنية في البحر الأحمر بتقاطع مصالح بينها وبين إيران تحقق هي مكانة لدى الرأي العام العربي من خلال ربط تحرّكها بدعم الشعب الفلسطيني وتحدّيها الولايات المتحدة، التي باتت مكروهة لدى الرأي العام العربي والإسلامي على خلفية تأييدها ودعمها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، ما يحوّلها إلى قوة إقليمية، ويضفي على طموحاتها شرعيةً، ويعزّز دورها في مستقبل اليمن. وتحقق إيران بإبراز نفوذها في الإقليم عبر إشعال كل الجبهات الممكنة بواسطة أذرعها المليشياوية في سورية والعراق ولبنان واليمن، وتوظيف ذلك لحجز موقع متقدّم في المساومات السياسية والدبلوماسية لتحقيق هدفها الجيوسياسي والجيواستراتيجي بالاعتراف بنفوذها في الإقليم والتسليم به. واستخدام سردية مساندة الشعب الفلسطيني في التحريض على التحرّك الأميركي، بدءا بالهدف من تشكيله تحالف “حارس الازدهار” وصولاً إلى توجيهه الضربات ضد مواقع “الحركة” باعتباره دعما لإسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، ما وضع الإدارة الأميركية أمام معضلة تبرير تحرّكها العسكري، الذي تقول إنه رد على مهاجمة “الحركة” للسفن التجارية العابرة من مضيق باب المندب، وتهديدها حركة الشحن في هذا الممر الدولي الحيوي، والعمل على فصل تحرّكها عن المواجهة الدائرة في قطاع غزّة. فللبحر الأحمر، بموقعه ودوره في الملاحة الدولية، أهمية كبيرة جعلته ساحة لصراع جيوسياسي بين القوى العظمى عبر السعي إلى حجز موطئ قدم فيه، وبالقرب من ممرّه الحيوي، حيث القواعد الأميركية والفرنسية والصينية متجاورة ومتزاحمة في جيبوتي، والقاعدة الروسية في ميناء بورتسودان السوداني، ما جعل الموقف فيه دقيقا وحسّاسا وخطرا، زاد في خطورته سعي قوى إقليمية متوسطة إلى لعب دور وازن فيه من خلال إقامة قواعد عسكرية على سواحله ونشر قطع بحرية في مياهه، تركيا وقاعدتها في الصومال، كانت بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية بالاتفاق مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ألغي الاتفاق بعد إطاحته، وإيران وقاعدتها في ميناء عصب الإريتري وإسرائيل وقواعدها في أرخبيل دهلك الإريتري، جزر “ديسي” و”دهوم” و”شومي”، والسعودية في جيبوتي، وقوى صغيرة مثل الإمارات في ميناء عصب الإريتري وجزيرة سوقطرى اليمنية، وسيطرة قوى يمنية متنافسة على جزر وموانئ اليمن، حركة أنصار الله على موانئ الحديدة والصليف والمكلا، وقوات المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح، ابن شقيق الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح، على باب المندب، والمجلس الانتقالي الجنوبي على ميناء عدن والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا على ميناء المخا.

أثارت الضربات الأميركية البريطانية مخاوف القيادة الإيرانية من إضعاف عزيمة “الحركة” واستسلامها للضغوط العسكرية، خصوصا بعد سحب البحرية الإيرانية قطعها من البحر الأحمر إبّان القصف الأميركي البريطاني على مواقع “الحركة”، لتحاشي الاستفزاز والمواجهة المباشرة؛ وتحوّل المواجهة على جبهة جنوب لبنان بين حزب الله والقوات الإسرائيلية على الضد من طموحاتها في ضوء تصعيد القصف الإسرائيلي وتوسّعه واستهدافه مواقع وقيادات فرقة الرضوان وقتل عدد من قادتها، فلجأت إلى استعراض ضخم للقوة بعرض عضلاتها العسكرية وقدراتها الصاروخية، مداها ودقّتها، بقصف مواقع في كردستان العراق وسورية وباكستان، في رسائل إلى الداخل الإيراني والحلفاء في الإقليم، لرفع معنوياتهم وتعزيز ثقتهم بها، وللأعداء، لردعهم ولجم اندفاعاتهم بعد قيامهم بأعمالٍ تشي باستخفافهم بها وبقدراتها الردعية: تجاهل حكومة الإقليم تحذيراتها بشأن وجود قواعد لأحزاب كردية إيرانية على أرض الإقليم تعمل ضد النظام الإيراني؛ تفجير كرمان قرب قبر قاسم سلياني ذهب ضحيته أكثر من مائة مدني تبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قتل العشرات من ضباط الشرطة الإيرانيين في انفجار هز قاعدتهم في مدينة راسك قرب الحدود الباكستانية تبنّاها جيش العدل البلوشي الذي يقيم قواعده داخل باكستان. لكن الرد الباكستاني السريع بضربة داخل الأراضي الإيرانية (80 كيلومتراً عن الحدود)، بعد يومين من الضربة الإيرانية، والغارة الإسرائيلية على مبنى في حي المزّة الدمشقي وقتل خمسة من قادة الحرس الثوري الإيراني، بينهم مسؤول استخبارات فيلق القدس في سورية والعراق، أجهض خطوتها لاستعادة قوة ردعها ودفعها إلى تحريك أذرعها في الحشد الشعبي العراقي لقصف قاعدة عين الأسد بـ20 صاروخا بالستيا متوسّط المدى. اعتبر استخدام الصواريخ البالستية مجازفة وتصعيدا خطيرا رفع درجة التوتر في العراق.

جدّد التصعيد الميداني في أكثر من موقع الهواجس والمخاوف الإقليمية والدولية من الانزلاق نحو مواجهة شاملة نتيجة تهور بعضهم أو خطأ في حساباتهم، فإيران، التي سبق ونأت بنفسها عن عملية طوفان الأقصى، عادت لتربط التصعيد الميداني الحاصل نصرة للشعب الفلسطيني بتشكيلها وتفعيلها محور المقاومة وتوظيفها لمليشياته في المواجهة المشتعلة، ما يجعل مطالبتها بمكاسب استراتيجية في الإقليم، وأبرزها خروج الولايات المتحدة منه، أمرا مبرّرا. وقد شجّعها على رفع سقف مطالبها تقديرها لحساسية اللحظة السياسية بالنسبة للإدارة الأميركية، سنة انتخابات رئاسية، وعدم وجود إجماع غربي حول قيادة الولايات المتحدة قوة “حارس الازدهار”، حيث تحفّظت فرنسا وإسبانيا وإيطاليا على ذلك، وقرار الاتحاد الأوروبي تشكيل قوة بحرية خاصة لحماية الملاحة في البحر الأحمر، ورفض دول عربية وازنة، السعودية ومصر والإمارات، المشاركة فيها. لكن وجاهة هذه الاعتبارات لا تلغي وجود نقاط ضعف في موقفها، أبرزها الحرج الذي تسبّبه لها عمليات إسرائيل ضد قادتها العسكريين في سورية وضد قوة النخبة في حزب الله اللبناني، فرقة الرضوان، ما جعلها في موقفٍ دفاعي لا تريد البقاء فيه، وثانيها عدم قدرتها على الجزم بمدى سيطرتها على قرار حركة أنصار الله والحدّ من طموحاتها الكبيرة للعب دور قوة إقليمية، على شاكلة حزب الله اللبناني، تعتقد “الحركة” أنها حصلت على ذلك من خلال مواجهتها مع الولايات المتحدة في البحر الأحمر، واندفاعها نحو التصعيد من أجل تأكيد ذلك، والتي قد تدفع الأوضاع نحو حرب إقليمية واسعة، وهو ما تحاول القيادة الإيرانية تجنّبه خوفا من نتائجها غير المضمونة، وعدم الجزم بقدرتها على استخدام “الحركة” ورقة مساومة وجعلها عند منعطف محدّد توقف هجماتها ضد سفن الشحن والقطع البحرية الأميركية والبريطانية. وقد زاد موقفها دقّة وحرجا تغيير الإدارة الأميركية مقاربتها في التعاطي معها ومع أذرعها، حيث باتت تحمّلها مسؤولية أعمال أذرعها وتردّ على كل ضربة على مواقعها في سورية والعراق واليمن بقوة أكبر.

الإدارة الأميركية هي الأخرى عالقة في مأزق دقيق، من جهةٍ لا يناسبها الانخراط في حربٍ إقليميةٍ واسعة في سنة انتخابية. ومن جهةٍ ثانية، لا يناسبها أن تبدو متردّدة في مواجهة الهجمات المتصاعدة ضد قواتها في سورية والعراق وضد السفن في البحر الأحمر، خاصة مع تعالي أصوات في الكونغرس تطالبها باستهداف النظام الإيراني وأذرعه عبر حملة شاملة من الإجراءات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية، فلجأت إلى الضربات الجراحية ضد أذرع إيران في سورية والعراق، وأخرى استباقية ضد حركة أنصار الله في اليمن، وضعتها “الحركة” بمواصلتها عرقلة مرور السفن أمام خيار التصعيد والذهاب لمواجهة واسعة معها في حربٍ مديدة، وقد أضعف موقفها المؤيد والداعم للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وموقفها الرخو من عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وعجزها أما تعنت نتنياهو فرصها في تشكيل تحالف واسعة ضد “الحركة” وتسويق سرديّتها عن اليوم التالي في غزة وشكك في جدية طرحها لحل الدولتين.

التوتر شديد والأسلحة مذخّرة ولحظة الانفجار ليست بعيدة، ما لم تتغير المقاربات وتبدأ خطوات عملية على طريق التهدئة ونزع فتيل المواجهة.

——————————–

سورية وغزّة في 2024/ مروان قبلان

24 يناير 2024

فيما تتركّز الأنظار، بشكل مبرّر بالمطلق، على العدوان الإسرائيلي المستمرّ من دون هوادة على غزّة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفيما يظلّ أكثر المراقبين “مهمومين” في البحث عن إجابة للسؤال الافتراضي المتّصل باحتمال توسّع دائرة الحرب، تشهد الساحة السورية تطوّرات مهمّة، لا يلفت انتباه كثيرين منها سوى تلك المتّصلة بالحرب في غزّة، من قبيل شنّ إسرائيل، مثلًا، هجمات، تزايدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، تستهدف خصوصاً قياديين في الحرس الثوري الإيراني، أو بحزب الله اللبناني، في حين أن الساحة السورية تشهد، تحت حجابٍ من سُحب الدّخان التي ترتفع في غزّة، جملة تغييرات هامة تمسّ بنية النظام، ومؤسّساته، وآليات عمله، وتطرح أسئلة كثيرة بشأن توقيتها والغاية منها.

على مدى الشهور الثلاثة الماضية، أي في ذروة جلبة الحرب على غزّة، وفي غيابٍ ملفتٍ عنها، انطلقت عملية إعادة هيكلة واسعة طاولت أبرز مراكز قوة النظام ومؤسّساته. بدأت التغييرات بإعادة هيكلة مؤسّسة الرئاسة، حيث تم إلغاء منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وهو المنصب الذي يتولّى عادة نقل سياسات الرئاسة إلى بقية مؤسّسات الدولة، خصوصا مجلس الوزراء، ليُصار إلى ترجمتها وتنفيذها، وتمت الاستعاضة عنه بمنصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وهو منصب تقني – إداري يخلو من أي بعد سياسي. ورغم أنه يصعُب فهم الغاية من هذه الخطوة، وما إذا كانت مجرّد نقلة تنظيمية بحتة، إلا أنه يمكن قراءتها أيضاً في سياق توجّه إلى تعزيز دور رئاسة مجلس الوزراء وتفعيله، بمعنى أن الأمين العام للرئاسة سوف يتولّى مهمّة التنسيق، وليس إصدار التعليمات، لرئاسة الحكومة، كما كان الحال سابقاً.

بالتوازي مع التغييرات في مؤسسة الرئاسة، تم إطلاق مسار يهدف، على ما يبدو، إلى إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، حيث توالت في الفترة الأخيرة المراسيم والقرارات التي تصبّ في اتجاه إعادة بناء الجيش، وتحويله من جسم يعتمد على التجنيد الإلزامي إلى جسم احترافي يعتمد على المتطوعين أو المتعاقدين، مع توجّه إلى إلغاء خدمة الاحتياط أو تقليصها. ورغم أن أسباباً اقتصاديةً قد تكون الدافع الرئيس لهذه الخطوة، إلا أن إعادة هيكلة الجيش لطالما كانت أيضاً مدخلاً رئيساً لأي حل سياسي للأزمة في سورية. ينطبق الأمر نفسه على التغييرات التي طاولت الأجهزة الأمنية في الفترة الأخيرة، إذ جرى إلغاء أقسام كبرى في بعض أجهزة الأمن ودمج أقسام أخرى. وتذهب تقديراتٌ إلى أن الهدف النهائي هو إنشاء ثلاثة أجهزة أمنية كبرى (داخلي – خارجي – وجهاز أمن عسكري يختصّ بشؤون الجيش). ومن غير الواضح ما إذا كانت عملية الهيكلة سوف تتضمّن كفّ يد أجهزة الأمن عن التدخّل في حياة المواطنين، وفرض نوع من الوصاية على مؤسّسات الدولة، هذا سؤال يبقى رهن الوقت للإجابة عنه.

إعادة هيكلة مؤسّسات النظام تطوّر لا شك مهم، لكن الأهم معرفة ما إذا كانت تلك السياسة أحادية نابعة من احتياجات ذاتية، اقتصادية، وسياسية وأمنية، يتطلبها وضع النظام بعد 13 عاماً من الأزمة التي عصفت به، أضعفت قبضته، واستنزفت موارده، البشرية والاقتصادية، ودمّرت شرعيته السياسية، أم هي جزء من تفاهمات عربية – إقليمية – دولية مرتبطة بالحل السياسي المنشود للقضية السورية، والمقترن بسلة حوافز أقرّها اجتماع عمّان الوزاري العربي في الأول من مايو/ أيار الماضي؟

يمكن أن نسترشد في محاولة الإجابة عن هذا السؤال بالتطوّرات التي تشهدها، أو يرجّح أن تشهدها، علاقات النظام الخارجية، من قبيل ما يقال عن تنسيق مع النظام في عمليات القصف (العشوائي) التي يقوم بها سلاح الجو الأردني في مناطق جنوب سورية لاستهداف عمليات تهريب المخدّرات والسلاح، والتوجّه نحو استئناف التواصل العربي مع النظام، واستئناف وشيك للمفاوضات مع تركيا، وأخيراً ما نشرته “المونيتور” عن خطّة أميركية لإنشاء “شراكة” بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام لمحاربة داعش، استباقاً لانسحاب محتمل للقوات الأميركية من مناطق شرق الفرات تفرضه أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية، بفعل الهجمات التي تتعرّض لها بسبب موقف واشنطن من حرب غزّة. من الصعب القفز إلى استنتاجات كبرى في هذه المرحلة، لكن من المهم إبقاء عين على غزّة وثانية على دمشق، فمصير المنطقة بات معلّقاً بما يجري بين المدينتين.

—————————–

إنها حرب نتنياهو/ مالك ونوس

23 يناير 2024

يتناقل كثيرون في دولة الاحتلال الإسرائيلي ودول الغرب هذه العبارة: “إنها حرب نتنياهو” التي لا يريد أن يضع موعداً لإنهائها. وليس مردّ ذلك أنه من أعطى الأوامر بقصف قطاع غزّة براً وبحراً وجواً، عشية 7 أكتوبر، ثم أتبعها بعد أيام بالغزو البرّي، فحسب، بل لسببٍ يعود إلى تاريخ يسبق تلك الليلة بكثير، حين امتنع عن المضيّ بمسار حلّ الدولتين، واستعاض عنه بسياسة الحصار والحروب الدورية على غزّة، وبسياسة الاستيطان في الضفة الغربية وإضعاف السلطة الفلسطينية، حتى لم يبقَ لها سوى دور واحد، هو التنسيق الأمني مع الإسرائيليين لوأد أي عمل مقاوم ضد احتلالهم. وفي المحصلة، يبدو لكثيرين أن نتنياهو سيطيل هذه الحرب، من أجل إرضاء غروره ونزواته وتحقيق مصالحه، مهما بلغ عدد الضحايا والخسائر، ومهما بدت الأهداف التي طرحها صعبة التحقق. ولم ينتظروا كثيراً حتى أكّد لهم، قبل أيام، أنها ستستمر خلال سنة 2025 أيضاً، مع عدم معرفتهم ما إذا كان سيوقفها مع انتهاء تلك السنة.

للتأكّد من أن هذه الحرب التي شنتها دولة الاحتلال على غزّة، وتجاوزت مدّتها أكثر من مائة يوم، قد أصبحت حرب نتنياهو، يمكننا ملاحظة الطريقة التي استغلها فيها نتنياهو وحوّلها لتصبح حرباً بلا أفق، حين طرحت حكومته، منذ لحظات الحرب الأولى، أهدافاً غير قابلة للتحقيق، منها القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى الإسرائيليين والسيطرة على غزّة وفق رؤيته لما بعد الحرب، مع تحقيق غاية تجريد القطاع من السلاح لمنعه من تشكيل خطرٍ على الكيان في المستقبل. كما رفض الاستجابة لدعوات وقف الحرب، علاوةً على خلافاته المتواصلة مع أعضاء مجلس الحرب بشأن مجرياتها وشكلها ومدّتها واليوم التالي لها. وبينما يقول إسرائيليون إن حكومة نتنياهو قد وفَّرت الشروط والفرصة لحركة حماس لكي تنفِّذ عملية طوفان الأقصى، عندما كان أقطابها يتصارعون، وكان رئيسُهم يحاول تمرير الإصلاحات القضائية، لكي ينجو بجلده من المحاسبة على فساده، يقول فلسطينيون إن نتنياهو الذي يسعى إلى التطبيع مع العرب وتوقيع معاهدات سلام مع الدول العربية والإسلامية عمل عقديْن على نسف عملية السلام معهم.

أمّا مقوّمات الحرب، وكذلك العمليات المشابهة لعملية طوفان الأقصى، فقد بقيت ماثلةً من اللحظة التي عمل فيها نتنياهو على تقويض الأسس التي يمكن أن تساعد في عملية السلام، حين دمّر السلطة الفلسطينية وضرب مؤسّسات المجتمع المدني والاقتصاد الفلسطيني، وأفشل المؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات غير الحكومية التي تدعِّم أسس الدولة الفلسطينية التي يمكنها المضي بعملية السلام. وخلال ذلك الوقت، صادرت حكوماته المتتالية الأراضي الفلسطينية وزرعت المستوطنات فوقها، وواصلت بناء الجدار العازل الذي جعل الضفة الغربية جُزراً متناثرة لا رابط بينها، ووضع نُصبَ عينيه تحقيق هدف واحد، ألا يتبقى للفلسطينيين أرض تكون أساساً لدولة وفق رؤية حلّ الدولتين. وبينما قال نتنياهو قبل عشر سنوات ما مفاده إن هنالك إجماعا يتبلور في إسرائيل أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام، كان هو من يسعى إلى الوصول إلى هذه الحال، واستمرّ يعمل من أجل تكريسها في السنوات التي تلت. وفي كل ممارساته خلال تلك الفترة الطويلة، ظهر للجميع أن لا خطط لديه للتعامل مع الفلسطينيين سوى خطط الحرب والاستيطان والتهجير، فكانت هذه الحرب الجديدة التي يشنّها على الفلسطينيين، والتي أكملت شهرها الثالث، والمخطّط لها أن تستمر أكثر.

مع التقرير الذي نقلته القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية قبل أيام، وأوردت فيه كلام نتنياهو خلال لقاء جمعه وأعضاء مجلس الحرب مع رؤساء المجالس المحلية في النقب الغربي القريبة من غزّة، في 16 يناير/ كانون الثاني الجاري، وقال فيه: “وفقاً للتقييمات الحالية، قد تستمرّ الحرب خلال سنة 2025″، يتأكّد للإسرائيليين أن نتنياهو يريد شنّ حربٍ طويلة وربما أبدية لا نهاية لها. ووفقاً للشروط التي وضعها نتنياهو من أجل إنهاء الحرب، فإن توقعات استمرارها إلى سنة 2025، والسنوات التي تليها، تُعدّ منطقية. ويعود السبب في ذلك إلى أن السيطرة على غزّة، وإخضاع المدنيين والمقاومين، ثم الشروع بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية أو غيرها، أهداف تتطلّب سنواتٍ طويلة، ما يجعل وقف الحرب مهمّة مستحيلة خلال سنوات. وخلال هذه الفترة، سيكون نتنياهو قد ضمن التغييرات القضائية التي يحلم، هو واليمين الديني المتطرّف، بتنفيذها، ويكون أيضاً قد وجد فتوى ما تُخرجه من ورطة المحاكمة، وربما أمّنت له حصانة مدى الحياة، أو تغيّرت نظرة الجمهور الإسرائيلي إليه، وهي مهماتٌ يستحيل تحقيقها في زمن قصير، تماماً مثلما تصعُب تنحيته وتغيير حكومته لنزع الحصانة عنه حين تكون الحرب قائمة.

هل يمكن أن يتحوّل نتنياهو إلى ديكتاتور؟ إذا لم يتحوّل عبر التعديلات القضائية التي تسعى إلى خنق المحكمة العليا وتحيل إلى السلطة التنفيذية صلاحياتٍ أوسع تضمن لها قراراً أقوى، وتعطي لرئيسها حصانةً وتقوي تحالفه مع اليمين الديني المتطرّف، إن لم يتحوّل عبر ذلك إلى ديكتاتور فإن الحرب الطويلة كفيلة بأن تضمن له ما يريده في هذا الإطار. ومن الإشارات على ذلك رفضه بنوداً في الرسالة تضمنت مطالب أعضاء مجلس الحرب، ومنها تغيير أهداف الحرب وأولوياتها، خصوصاً دفع هدف تحرير الأسرى ليصبح البند رقم 1 على سلم الأولويات، بدلاً من هدف القضاء على “حماس”، وهو ما يمكن أن يؤجّج الخلاف والحساسيات أكثر داخل هذا المجلس، ويُحدث انقسامات خارجه، خصوصاً أن “حماس” ترفض الخوض فيه قبل وقف الحرب.

وفي السياق الطويل الذي يخطّطه نتنياهو للحرب، لكي ينجو بجلده، قد تظهر تداعياتٌ جديدةٌ غير محسوبة على الكيان الإسرائيلي، ليس أقلّها التوتر الدائم بين أعضاء مجلس الحرب، وازدياد الاستقطاب الشديد والقائم في الشارع الإسرائيلي، إضافة إلى خروج احتجاجاتٍ مطالبة برحيله بسبب عدم تحقيقه أهداف الحرب. احتجاجاتٌ لا يُعرَف إلى أي هاويةٍ يمكن أن تدفع الكيان، مع استعداد مليشيا اليمين المتطرّف الوليدة في المستوطنات لمواجهتها وقمعها، وبالتالي، إدخال البلاد في قلاقل أمنية، قد تكون شرارةً لحربٍ أهلية. كما قد تظهر التداعيات على المنطقة؛ فقد يتوسّع الصراع وتدخل فيه قوى لم تكن في الحسبان، قوى ترى في الحرب على غزّة تهديداً لكياناتها، علاوة على القوى التي ترى في نصرة أهل غزّة واجباً مقدّساً. ولأن الولايات المتحدة والدول التي تحالفت معها لضرب اليمن قد دشّنت لتوسيع الصراع في المنطقة، فإن نتنياهو السعيد بإطالة أمد الحرب على غزّة سيكون أكثر سعادة حين يلتفت الجميع إلى الحرب الجديدة ويتركونه متفرّغاً لحربه.

————————-

الحرب على غزة تلد حروباً أخرى/ بشير البكر

23 يناير 2024

معركتان حصلتا الأسبوع الماضي بعيداً عن ساحة الحرب على غزة الطرف الأساسي فيهما إيران، والطرفان الآخران هما إقليم كردستان العراق وباكستان. ولم يتأخر الوقت حتى تكشّف أن هناك طرفاً آخر هو إسرائيل.

طهران هي التي أعلنت أن سبب قيامها بقصف مواقع في مدينة أربيل العراقية، وإقليم بلوشستان، جنوب غربي باكستان، هو على صلة بما تقوم به إسرائيل من عمليات تجسس وتخريب واستهداف شخصيات سياسية وعسكرية ومنشآت حيوية داخل إيران وخارجها.

وكما هو معروف فإن عملية القصف الإيراني داخل إقليم كردستان العراق ليست الأولى، وسبقتها عدة عمليات خلال العامين الماضيين، كما أن انفجار النزاع مع باكستان ليس وليد اللحظة، بل حصيلة تراكمات كثيرة، وكانت الحرب على غزة بمثابة الصاعق.

لم تقم طهران بربط التطورات بعضها ببعض، وإنما من قام بذلك هي واشنطن. وقد وضع الرئيس الأميركي جو بايدن جملة التطورات ضمن ما سمّاه “تصرفات إيران غير مقبولة في المنطقة”. وقال إن الاشتباكات بين إيران وباكستان تُظهر أن “طهران لا تحظى بقبول أحد في المنطقة”. ولم يقف بايدن عند ذلك، بل أعلن أن واشنطن تعمل الآن لتحديد مآل كل هذا، “لا أعلم إلى أين سيؤول الأمر”. وقد قرأ مراقبون هذا التصريح على أنه يتجاوز مجرد القلق وإبداء الاهتمام إلى الانخراط المباشر، ودعم موقف باكستان وإقليم كردستان العراق.

ويرى خبراء غربيون أن إسلام أباد تلقت مساندة أميركية للقيام برد على هجمات إيران، وقامت بقصف مواقع مسلحين انفصاليين داخل إيران، وذلك في ضربة انتقامية بعد إعلان طهران أنها هاجمت قواعد مجموعة أخرى داخل الأراضي الباكستانية.

 إيران تعودت الرد على اغتيال مسؤوليها، ويبدو أن القصف على أربيل هو رد مباشر على اغتيال القيادي في الحرس الثوري رضا موسوي قرب دمشق، الشهر الماضي، كما أن تصعيد العمليات في البحر لا ينفصل عن ذلك.

وجاء القصف الإيراني على باكستان كرد على مقتل وجرح العشرات في انفجار مزدوج بمدينة كرمان في 3 يناير/ كانون الثاني الحالي، وقع قرب قبر قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني أثناء تجمّع الحشود لإحياء الذكرى السنوية الرابعة لاغتياله بضربة أميركية.

ولم تقف إيران عند مهاجمة أهداف في باكستان، بل هاجمت أيضاً أهدافاً في العراق وسورية، وقالت إنها ضربت “تنظيم الدولة الإسلامية” ومقراً لـ”الموساد” الإسرائيلي، متهمة كلاً منهما بالتورط في هجوم مدينة كرمان. لكن رد إسلام أباد بتنفيذ ضربات داخل إيران استدعى محاولة طهران لاحتواء الموقف.

وأعلنت وزارة الخارجية الباكستانية، أمس الاثنين، أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان سيزور إسلام أباد في الأسبوع المقبل، في إشارة إلى الجهود المبذولة لتحسين العلاقات. وذكرت أن البلدين سيتبادلان السفراء مرة أخرى يوم 26 يناير/ كانون الثاني. واستدعت باكستان سفيرها في طهران ولم تسمح لنظيره بالعودة إلى إسلام أباد، كما ألغت جميع الارتباطات الدبلوماسية والتجارية المهمة.

تأثيرات الحرب على غزة

تتأثر هذه العمليات بالحرب على غزة وتؤثر فيها، ومن جانب واشنطن هناك إدراك بأن الدور الإيراني في الحرب على غزة يتعاظم، والدليل على ذلك التصعيد في البحر الأحمر. ويرى خبراء غربيون أن هناك تصميماً إيرانياً على توريط الولايات المتحدة أكثر فأكثر بالنزاع.

شيئاً فشيئاً ترفع إيران درجة تدخلها في الحرب، وتلعب حتى الآن ضمن تكتيك يقوم على استثمار الوضع حتى أقصى قدر ممكن، حتى تحصد ثمار النصر كطرف وحيد في هذه الحرب، بعد أن تتكبّد كل الأطراف خسائر فادحة. وتستعيد إيران بذلك التكتيك الذي اتّبعته في حرب روسيا على أوكرانيا، فهي حتى الآن لاعب رئيسي فيها من دون أن تطلق طلقة واحدة، ولكنها غذّت روسيا بالسلاح.

تنظر واشنطن إلى هذا التكتيك بعين الخطورة، وتتخوف من أن يحقق النتائج المرجوة في الحرب على غزة. وأولها تحويل الحرب، كما هو الأمر في أوكرانيا، إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تتكبّد فيها إسرائيل وأميركا خسائر كبيرة. ويبدو من ردود الفعل الأميركية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، أن هناك خلافاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على استمرار الحرب وفق الصيغة الحالية، وضرورة الانتقال إلى مرحلة تمنع الغرق في المستنقع.

والأمر ذاته تحاول واشنطن تطبيقه على الجبهات الأخرى في جنوب لبنان واليمن والعراق وسورية، وذلك عملاً بقاعدة عدم توسيع رقعة النزاع الذي تستفيد منه طهران على المدى الطويل.

تكتيك إشعال الحرائق في أكثر من منطقة هو الذي يفرض نفسه على الأطراف جميعاً، وهو على صلة مباشرة بالحرب على غزة ويتغذى منها، وصار واضحاً أن الاحتمالات باتت مفتوحة على أكثر من سيناريو، وتعد باشتعال نزاعات لم تكن في الحسبان حتى وقت قريب جداً.

وعلى هذا الأساس يمكن قراءة حدثي الهجمات بين إيران وباكستان، والضربات التي وجّهتها إيران داخل العراق وسورية. مثلما تستفيد إيران من ذلك يمكن لها أن تتضرر، والمثال على ذلك الضربات التي تتلقاها من إسرائيل في سورية، وآخرها اغتيال مجموعة من قيادات الصف الأول للحرس الثوري في دمشق في العشرين من الشهر الحالي.

تفاصيل غير معلنة في النزاع الإيراني الباكستاني

وفي ما يخص النزاع مع باكستان، يقول المنطق الإيراني إن الأمن موضوع أساسي لطهران، وهي مضطرة لضرب من يهدد أمنها في منطقة حدودية جبلية تضاريسها صعبة، ربما يتم استخدامها للقيام بعمليات ضدها، ولذا جاءت الحاجة إلى عملية عسكرية.

لكن العديد من القراءات الأمنية والسياسية تؤكد أن الأزمة بين البلدين تخفي وراءها الكثير من التفاصيل غير المعلنة، وهي غير منفصلة عن التطورات الدولية والأزمات الدولية والإقليمية. ويرى محللون أن الهجمات الإيرانية على عدة جبهات كانت مدفوعة بالديناميكيات “المضطربة” الحالية في الشرق الأوسط.

المفترض أن العلاقات بين إيران وباكستان لا تسمح بتطور الأزمة أكثر من الحدود التي عرفتها، ذلك أن التصريحات الصادرة عن الطرفين تتحدث عما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ولذا تبرز روحية باتجاه تجاوز التصعيد والعودة للتهدئة، ولكن هناك عوامل إقليمية ودولية قد تأخذ العلاقات خارج الحسابات.

وما صدر عن طهران من تصريحات يرى أن الانتقام الباكستاني يزيد خطر التصعيد، لكنه في نظر المراقبين يوفر فرصة للتراجع عن حافة الهاوية. وفي الواقع، فإن الجانبين متعادلان الآن.

وتبدو طهران منزعجة من أن لدى إسلام أباد حافزاً قوياً لمحاولة استعادة الردع، لا سيما مع قيام إيران بالهجوم في جميع أنحاء المنطقة الأوسع، حيث تشن ضربات مباشرة وتنشر وكلاء لضرب التهديدات والمنافسين. في الواقع، لو أن باكستان تراجعت، لواجهت خطر التعرض لضربات إضافية.

وليس من فراغ إعلان الإدارة الأميركية أنها لا تريد أن تشهد تصعيداً في جنوب ووسط آسيا، وهي على اتصال “بنظرائنا الباكستانيين”. وهذه رسالة مساندة لباكستان، التي قد تجد الفرصة مناسبة لتسوية عدد من الملفات مع إيران.

وتبادلت باكستان وإيران الاتهامات منذ فترة طويلة بإيواء “جماعات متشددة” تشن هجمات من مناطق على طول حدودهما المشتركة. طهران تدعو إسلام أباد إلى الحيلولة دون تدشين “قواعد وجماعات إرهابية مسلحة” على التراب الباكستاني. وقالت باكستان إن ضرباتها أصابت “ملاذات للإرهابيين” في جنوب شرقي إيران.

وأعلنت باكستان أنها تصرفت في ضوء “معلومات استخباراتية موثوقة عن أنشطة إرهابية وشيكة واسعة النطاق”، وقالت إن عدداً من “الإرهابيين” قُتلوا. بينما أصرت إيران على أن ضرباتها كانت تستهدف فقط حركة “جيش العدل”، وهي جماعة سنّية بلوشية نفذت هجمات داخل إيران، وليس المواطنين الباكستانيين.

وما حرك باكستان بهذه السرعة هو أن إيران كانت تشتبك في السابق مع “جيش العدل” على امتداد المناطق الحدودية، ولذا اعتبرت أن الهجوم الصاروخي وبالطائرات المسيّرة على الأراضي الباكستانية يظهر أن نهج إيران أصبح أكثر عدوانية في التعامل مع هذه الجماعة.

الأمر ذاته ينسحب على التوتر العراقي الإيراني، الذي دفع بغداد إلى رفع شكوى رسمية ضد طهران أمام مجلس الأمن الدولي، تتعلق “بالعدوان الصاروخي الإيراني” الذي استهدف أربيل وأدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين الأبرياء وإصابة آخرين وتسبب بأضرار في الممتلكات العامة والخاصة.

وصدرت عن المسؤولين العراقيين تصريحات حادة غير مسبوقة، على غرار ما ورد على لسان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي قال إن القصف الإيراني على مدينة أربيل يمثل “عملاً عدوانياً وتطوراً خطيراً يقوّض العلاقات القوية بين بغداد وطهران”.

—————————–

أميركا وإيران: عضّ الأصابع على وقع حرب غزّة/ رانيا مصطفى

22 يناير 2024

منذ بدء الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزّة بعد عملية 7 أكتوبر، اهتم الأميركيون بفصل ساحات “المقاومة” المرتبطة بإيران عما يجري في غزّة، وتحديداً جنوب لبنان؛ استقدموا حاملات طائرات وصواريخ كروز إلى شرق المتوسط، وكان في مقدّمة مهام وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في جولاته الخمس إلى المنطقة، تهدئة جنون حكومة نتنياهو المتطرّفة، ومنع جنوحها باتجاه رفع مستوى الرد على استفزازات حزب الله شمالاً إلى حربٍ في لبنان. وأرسلت إدارة بايدن موفدها، عاموس هوكشتاين، بين بيروت وتل أبيب، للتوسّط في تسوية وفق القرار 1701 حول ترسيم الحدود البحرية، والمقابل إطلاق يد حزب الله في الداخل اللبناني، لكن الحزب اشترط وقف العدوان على غزّة للبدء في التفاوض، ويصعّد يومياً ضرباته العسكرية المحدودة على الأراضي المحتلة شمال إسرائيل. التصعيد الحوثي في البحر الأحمر، ربطاً بما يجري في غزّة، كان مفاجئاً بالنسبة لواشنطن، وردّت عليه الأخيرة بحذر، بأن ارتجلت تحالفاً دولياً رمزياً، رفضت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا الانضمام إليه، وكذلك دول عربية وازنة، كالسعودية ومصر والإمارات، فيما اقتصرت الضربات الأميركية المحدودة والرمزية أيضاً ضد جماعة أنصار الله في اليمن، على مشاركة بريطانية، في رسالة واضحة إلى طهران ومليشياتها المنتشرة في أربع دول عربية، لمنعها من تحقيق الانتصارات في لعبة تصعيد محدود بين الطرفين تبدو أشبه بالعضّ على الأصابع.

رفعت إيران عبر وكلائها منسوب التصعيد، في لبنان ضد استقرار شمال إسرائيل، وفي اليمن ضد حركة التجارة البحرية، وفي العراق وسورية ضد القوات الأميركية، بأسلوب حرب العصابات، رافعة شعار نصرة حركة حماس؛ بذلك اختارت أن تتقدّم الساحات لتكريس دورها في المنطقة، بعد أن توقفت المفاوضات مع الغرب بشأن برنامجها النووي، ولرفع تكلفة الانتشار الأميركي في الشرق الأوسط، وأن يصبح محل جدل وإرباك لإدارة بايدن في أروقة الكونغرس في سنة انتخابية. ليست إيران أيضاً في وارد توسيع الحرب خارج غزّة، لأنها غير مستعدّة لخسارة استثماراتها في أيٍّ من مليشياتها بعد أن أمضت سنوات في دعمها وتمويلها، والتي تلخص نفوذها في المنطقة، وتشكل العمود الفقري لمجمل سياستها الخارجية، كما أن الحرب ستقود إلى تصاعد حدّة الاحتجاجات الشعبية الإيرانية في الداخل. ما تريد طهران تحصيله من تصعيدٍ عالٍ في المنطقة، لكن من دون مستوى الحرب الإقليمية، هو تسجيل النقاط، وحجز مقعدٍ متقدّمٍ للتفاوض مع الغرب على كل الملفات الإقليمية بعد غزّة، وبالتالي أن تصبح هي الدولة الإقليمية الأقوى في المنطقة، في غياب تركيا المأزومة اقتصادياً عما يجري في فلسطين، وضعف الموقف العربي الذي يميل إلى إظهار الحيادية، والانكسار الإسرائيلي أمام طوفان الأقصى وصمود المقاومة.

يدعم الموقف الإيراني في التصعيد كلٌّ من روسيا والصين، خصوصاً بالنسبة للتهديد الحوثي للتجارة الإسرائيلية عبر البحر الأحمر، كجزء من الصراع مع الغرب على الممرات الملاحية العالمية؛ حيث رفضت موسكو وبكين التصويت في مجلس الأمن على قرار يطالب الحوثيين بوقف الهجمات على السفن. ورغم أن تجارة الصين باتجاه شمال أفريقيا وأوروبا متضررة، لكنها متحمسة لإلهاء أميركا في حروب جديدة في الشرق الأوسط. الضربات الأميركية- البريطانية لمواقع تخصّ البنية التحتية لجماعة أنصار الله محدودة ورمزية، كان قد تم تسريب معلومات في وسائل الإعلام عن توقيتها وأهدافها العسكرية، ولم يوقف استهداف الحوثيين عبور السفن بالصواريخ؛ كما أن طهران أبعدت سفنها قبيل الضربات بساعات، ما يدلّ على تجنّب الطرفين للمواجهة المباشرة. كما أن حماية ممرّ البحر الأحمر، والذي يعبر منه 15% من التجارة الملاحية في العالم، أمر مكلف بالنسبة للغرب ولا يمكن أن يكون استراتيجية مستدامة.

بقي القول إن انتشار المليشيات الطائفية المدعومة من إيران في المنطقة، قد تم تحت نظر وموافقة أميركيين ضمناً؛ فقد انسحبت إدارة أوباما من العراق وتركته للمليشيات المدعومة من إيران، وسمحت بدور بارز للحرس الثوري الإيراني في سورية لدعم نظام الأسد، وتركت لضربات إسرائيل على المواقع الإيرانية في سورية مهمّة تحديد هذا الدور، فيما تمر قوافل الإمداد الإيراني إلى الضاحية الجنوبية في لبنان عبر العراق وسورية ضمن كوريدور لا يبعد سوى عشرات الكيلومترات عن قاعدة التنف الأميركية في سورية على المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي. وفي اليمن، أوقف بايدن، حال وصوله إلى البيت الأبيض، الدعم الأميركي لحرب اليمن، ورفع جماعة أنصار الله (الحوثيين) من قوائم الإرهاب، وهو الآن يعيد إدراجهم في تلك القوائم في تخبّط واضح للإدارة الأميركية.

هذا التخبّط الأميركي سببه خيارات واشنطن لتنفيذ استراتيجيتها في التحكّم في منطقة تعتبرها، هي وحلفاؤها الغربيون، مسرحاً لمصالحهم. واستمرار تقديم الإنعاش العسكري والاقتصادي إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي هو في أساس هذه المصالح، لأن استمرار هذا الكيان والمضي في التطبيع العربي معه، وفق منطق استعلائه “الحضاري” وتفوّقه العسكري، يضمن تحكمه في المنطقة كأداة بيد الغرب، خصوصا بعد اتضاح قوة المخزون البشري في المنطقة بعد موجة الثورات العربية. وبالتالي، من الأنسب حرف الصراع في المنطقة، من صراع عربي “جماهيري” ضد الوجود الصهيوني، إلى صراعاتٍ طائفية. هكذا كان هناك تواطؤ أميركي إيراني لنشر مليشيات شيعية في أربع دول عربية، وأن يشكّل تصاعد نفوذ طهران فيها أساساً لدخول دول عربية في تحالفاتٍ مع إسرائيل ضدّ إيران. قلبت عملية طوفان الأقصى الطاولة في وجه الأميركيين، فهم يواجهون اليوم صراعاتٍ جانبية مع وكلاء إيران كنتائج لتركهم تلك المليشيات تنتشر في المنطقة، إلى جانب التعاطي مع اندلاع الصراع الأساسي ضدّ الكيان الصهيوني في غزة.

—————————

إلى متى تستمر إسرائيل في استهداف الصحفيين؟/ عمر كوش

21 يناير 2024

مع دخول حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة شهرها الرابع، سجل جيشها أرقاماً قياسية دامية، حيث تجاوز عدد ضحاياه من المدنيين الفلسطينيين 23 ألفاً، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال الأبرياء، فضلاً عن المفقودين تحت الأنقاض والجرحى والمصابين والمعاقين. ومنذ بدء حربها، عملت إسرائيل على طمس الحقيقة وإخفاء جرائمها الوحشية، وتعمّدت إسكات الأصوات التي تنقل حقيقة ما ترتكبه على أرض غزّة، من خلال الاستهداف المتعمّد للصحفيين والإعلاميين، إذ تفيد تقارير دولية ومحلية بأنها قتلت أكثر من 109 صحفيين منذ 7 أكتوبر، وتعمدت استهداف أفراد عائلاتهم، وقتلت عديدين منهم، وتجاوز عدد العاملين في وسائل الإعلام الذين قتلتهم إسرائيل خلال الثلاثة أشهر الماضية عدد للصحفيين الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت 20 عاماً، وهم 63 صحفياً، كما تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا، على مدى ست سنوات من الحرب العالمية الثانية، وهم 69 صحفياً.

بات السؤال الذي يُطرح، مع تواتر الاستهداف الإسرائيلي للصحفيين، بشأن حيثيات استمرارها في هذه السياسة من دون رادع، خصوصا وأنها لا تتوقف عند استهداف الصحفيين وعائلاتهم، عبر القتل والترويع والاعتقالات، وقصف استهداف منازلهم، إلى جانب التهديدات والاعتقالات في غزّة والضفة الغربية، بل تمتد إلى قصف جيش الاحتلال مكاتب وسائل الإعلام ومقرّاتها، وتدميره أكثر من 50 مقراً إعلامياً لوسائل محلية وأجنبية داخل قطاع غزّة، من ضمنها مكاتب عدة مؤسّسات إعلامية في برج الغفري، الذي كان يضم وكالة الأنباء الفرنسية وقناتي الجزيرة والشرق والمجموعة الإعلامية الفلسطينية، فضلاً عن تعطل كل الإذاعات العاملة في القطاع، وتوقفها عن البث، بسبب منع الكهرباء ونفاد مصادر الطاقة.

لم تكتف إسرائيل باستهداف الصحفيين الفلسطينيين في غزّة، بل فرضت قيوداً على ما تنشره وسائل الإعلام الغربية بشكل عام، حيث اشترطت الخضوع لرقابتها قبل نشرها أي صورة أو خبر عن وقائع حربها على الفلسطينيين، فضلاً عن عدم سماحها بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزّة، والتضييق على كل من يحاول إظهار قدرٍ من الموضوعية في تغطية وقائع وأحداث حربها في غزّة، وممارساتها وأفعالها في الضفة الغربية.

يبدو أن إسرائيل ماضية في سياسة استهدف العاملين في مجال الإعلام، طالما أن محكمة الجنايات الدولية، أو سواها من المنظمات الأممية ذات الصلة، لم تتحرّك للتحقيق في جرائم إسرائيل، على الرغم من أن منظمة “مراسلون بلا حدود” سبق وأن تقدّمت بطلبيْن إلى “الجنايات الدولية” بشأن الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر. وخرج أخيرا المدعي العام للمحكمة، كريم خان، ليعلن أن “التحقيق في الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية سيشمل الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين”، بعدما طالب الأمين العام للمنظمة، كريستوف ديلوار، بردٍّ حاسم من المحكمة على الاستهداف الإسرائيلي المتعمد للصحفيين في هجمات ترقى إلى مستوى جرائم حرب، لكن التحقيقات لم تبدأ بعد، ولم يتم اتخاذ إجراءات ملموسة وضرورية طال انتظارها.

الواقع أن عدم وجود رادع حقيقي من مجلس الأمن والمنظمات الأممية جعل إسرائيل تتمادى في استهداف العاملين في وسائل الإعلام. ولعل قتلها مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أحد أبرز الشواهد على تعمّد الجيش الإسرائيلي قتل الصحفيين بدم بارد، ومع ذلك بقيت جريمتها من دون محاسبة أو مساءلة، ولجأت إلى إنكارها بوقاحة، لكن الأمر لم يتغيّر كثيراً حين توفرت مجموعة من أدلة دامغة، وردّت في تقرير الهيئة التابعة للأمم المتحدة، الذي اعتبر أن الجيش الإسرائيلي استخدم “القوة المميتة من دون مبرّر” في استهدافه أبو عاقلة، إضافة إلى أدلة أوردتها تحقيقات نشرتها شبكة سي أن أن وصحيفة نيويورك تايمز.

اعتادت إسرائيل على أن تضع نفسها فوق القانون الدولي والإنساني، بالنظر إلى الحماية التي تتلقاها من معظم دول الغرب ودعمها غير المشروط، وخصوصا من الولايات المتحدة، وبالتالي، لم تعد يهمّها كثيراً تقارير المنظمات الصحفية، التي تفضح سياساتها العنصرية، ولا التي تدينها وتفضحها وتشجب ممارساتها الدموية، فالقتل باتت عنواناً لدولةٍ تحكمها منذ نشأتها حكومات تعتبر استهداف الصحافيين الذين يحاولون نقل الحقيقة، والاعتداء عليهم، أمراً عادياً. لذلك تعوّدت قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين والأجهزة الأمنية، منذ سنوات طويلة، على قتل الصحفيين، الفلسطينيين والأجانب، أولئك الذين يرمون إلى إظهار حقيقة أفعالها، ويكشفون للرأي العام العالمي زيف الدعاية الصهيونية، التي تحاول دوماً الظهور بمظهر الضحية، وإخفاء حقيقة ما تفعله بضحاياها الفلسطينيين، الذي يرزحون تحت نير الاحتلال الاستيطاني والحصار الجائر، ونظام الغطرسة والفصل العنصري.

المثير للسخرية والاستهجان الانحياز الأعمى من معظم وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل في حربها على غزّة، وتبنّيها الكامل للرواية الإسرائيلية، من دون تدقيق أو تمحيص، وفرضها رقابة مشدّدة على ما ينشر بخصوص الحرب الإسرائيلية، وبات الخوف يسيطر على العاملين فيها، الذين يجنحون نحو الحيادية والمهنية، الأمر الذي أفقدها استقلاليتَها وحياديّتها المهنيّة، بالنظر إلى خضوعها لضغوط أصحابها والداعمين لها من أصحاب المال السياسي المنحازين لإسرائيل. وطاول ذلك كله مؤسّسات عريقة، مثل صحف نيويورك تايمز ولوس أنجلس تايمز والغارديان واللوموند وليبراسيون، وكذلك “بي بي سي” ووكالة أسوشييتد بريس، وغيرها. ووصل الانحياز لإسرائيل إلى درجة أن شبكة سي أن أن الإخبارية عيّنت مجندةً إسرائيليةً، عملت سابقاً في مكتب الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، مراسلة لها في تغطية أحداث الحرب الإسرائيلية على غزّة.

لقد بذل مشرّعون وحقوقيون جهوداً كبيرة، وعلى مدى عقود عديدة، من أجل وضع قواعد القانون الدولي الإنساني في أثناء الحروب والنزاعات، التي تحمي المدنيين بشكل عام. ونظراً إلى الاستهداف المتكرّر للصحفيين في أثناء عملهم الميداني، اعتمد مجلس الأمن في 27 مايو/ أيار 2015، وبالإجماع، القرار 2222، الخاص بحماية الصحافيين في مناطق النزاعات المسلحة، حيث أدرج هذا القرار مسألة حماية الصحفيين والعاملين في مجال الصحافة والأطقم المساعدة ضمن القانون الدولي الإنساني، حسبما نصّت عليه اتفاقية جنيف الرابعة، لكن هذا القرار وسواه من القرارات لم تردع إسرائيل عن استهدافهم، لتبقى المسألة معلقة في رسم المجتمع الدولي، فهل ستتحرّك مؤسّساته أخيراً؟

————————–

ثمن تصعيد المعارك في المنطقة/ فاطمة ياسين

21 يناير 2024

منذ عملية 7 أكتوبر والردّ الإسرائيلي العنيف على غزّة، بدت أميركا وكأنها اتخذت قرارا بعدم تمدّد الحرب إلى مرحلة المواجهة الواسعة المباشرة. لذلك أكّد وزير الخارجية بلينكن على عدم التوسّع، مع حرصه على حقّ إسرائيل “في الدفاع عن النفس”. ظلّ الوضع العسكري تحت السيطرة رغم تكرار المناوشات الحدودية بين حزب الله وإسرائيل، ورغم سقوط قتلى لحزب الله بينهم قادة، وحتى الغارة الدقيقة على ضاحية بيروت الجنوبية معقل حزب الله الحصين واغتيال أحد قادة حماس الكبار في الخارج (صالح العاروي)، لم تجرّ حزب الله إلا إلى ردود “تقليدية”، شملت قصفاً صاروخياً محدوداً. وقد حرصت إسرائيل على أن تكون غارتها على الضاحية الجنوبية في منتهى الدقّة بعكس غاراتها على غزة، في رسالة واضحة المعاني إلى حزب الله. مع هذه الإجراءات كلها، بقيت الحرب محصورةً كما ترغب الولايات المتحدة ضمن غزة شمالاً وجنوباً من دون أن تلتهب المناطق الأخرى، ولكن المدة الطويلة التي صرفتها إسرائيل في تصفية حسابها مع غزة أثارت نقاطا قلقة أخرى، وفتحت الباب للحوثيين في اليمن لإيجاد مضايقات بحرية على باب المندب، مهدّدة أحد أهم خطوط التجارة الدولية، ما جعل الولايات المتحدة وبعد 15 أسبوعا من الحرب في غزّة أن تبدأ الأسبوع السادس عشر بقصف لمواقع الحوثيين في العمق اليمني، وكالعادة، اصطحبت معها بريطانيا للمشاركة والمساندة في عمليات قصفٍ لم تُخطّط له.

أعلن الناطق الرسمي باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، دانيال هاغاري، في 9 يناير/كانون الثاني الحالي، عن بدء مرحلة جديدة “أقلّ كثافة” في الحرب على غزّة، ولكن التصعيد المتسارع جعل جبهة المعارك أكثر وأوسع نطاقا، يمكن تلمّسها منذ ذلك الإعلان، فقد سبقه أسبوعٌ دامٍ بدأ بعد الانتهاء من احتفالات رأس السنة مباشرة باستشهاد العاروري في لبنان، ثم بتفجير ثنائي في إيران استهدف المحتشدين في ذكرى اغتيال قاسم سليماني، وفي اليوم الذي تلاه هاجمت طائرات أميركية مقرّا للحشد الشعبي في بغداد قتلت فيه القائد العسكري مشتاق طالب السعيدي مع آخرين. وأعقب إعلان إسرائيل عن المرحلة الجديدة الهجومُ الأميركي البريطاني على القوات الحوثية في اليمن، ليأخذ منحى التصعيد منعطفاً جديداً، لا سيما بعد أن كرّرت الولايات المتحدة قصفها قوات الحوثي عدّة مرّات، وأعلنت عن نيّتها بالاستمرار في القصف، ثم أعادت إدراج اسم جماعة الحوثي ضمن قوائم الإرهاب لديها. لم تترك إيران هي الأخرى المجال خاليا لقصف قواعد حلفائها الحوثيين، فنفذت هجماتٍ طاولت بغداد وأربيل وحتى مناطق بلوشستان في باكستان، وفي هذه الأجواء استهدفت غارت جوية أردنية مناطق في ريف السويداء جنوب سورية، وأسفرت عن سقوط قتلى. … تعكّرت أجواء المنطقة وازدحمت بالطائرات المقاتلة أو الصواريخ البالستية المسرعة إلى أهدافها، ليصبح التوسّع أمرا واقعا ويشمل جبهاتٍ أكثر، وصار على الولايات المتحدة أن تبحث عن تكتيك جديد تواجه به الموقف.

وسط الضجة المسلحة التي اجتاحت طول الإقليم وعرضه اعتبارا من بداية العام الحالي، ضاعت ملامح مشروع اتفاق الهدنة الجديد الذي كان الحديث قويا عنه، ومن ضمنه الإفراج عن بعض المحتجزين في غزّة وبعضهم من الأميركيين، مقابل بضعة أيام من التهدئة، ومن الأسباب التي تقدّمها الولايات المتحدة لإصرارها على عدم التوسّع في الحرب مصير المحتجزين. يقع بايدن تحت ضغوط الكونغرس، ويتلقى انتقادات لتركه الحوثيين يمرحون حول مضيق البحر الأحمر الهامّ، لكنه يتابع حديثه عن تهدئة مقرونة بمصير المحتجزين. لم يتخلَّ بايدن كليا عن مبدأ عدم التوسّع، رغم هجماته المتكرّرة على مواقع الحوثيين، وهي مرشّحة للاستمرار، ولكنه يبدو واثقا من الطرف الآخر الذي يُظهِر بدوره حرصاً على عدم التوسيع، رغم انهمار الضربات عليه، فهو يتوقّع ثمنا بحجم مشروع الاتفاق النووي.

—————————

رسائل إيرانية عبر الأجواء السورية/ عبد الجبار عكيدي

20 يناير 2024

يمثّل القصف الإيراني أخيرا على أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق تحوّلاً خطيراً في قواعد الاشتباك المتبعة بين طهران من جهة، وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى، حيث استخدم الحرس الثوري الإيراني، ولأول مرّة، صواريخ بالستية، استهدف بها القنصلية الأميركية ومحيطها في أربيل، ما أدّى إلى سقوط أربعة قتلى من المدنيين، بينما لم يسفر قصف إيراني مماثل في باكستان عن خسائر بشرية.

تزامن هذا القصف مع إرسال الولايات المتحدة تعزيزاتٍ عسكريةً جديدةً إلى قواعدها في غرب العراق وشرق سورية، وهي بالمجمل تطوراتٌ لا يمكن فصلها عن المشهد العام المتوتر جداً في المنطقة، وتحديداً منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في قطاع غزّة، في 7 أكتوبر، حيث امتدت المواجهة، وإن بشكل محدود إلى جنوب لبنان والبحر الأحمر. لكن اللافت أنه في اللحظة نفسها التي استهدف الحرس الثوري بها أربيل بصواريخه متوسطة المدى من طراز فاتح 110، وطائراته المسيّرة من طراز شاهد 136، تم إطلاق أحدث صواريخ خيبر شيكان البالستية متوسّطة المدى من محافظة خوزستان باتجاه شمال غرب سورية قاطعة مسافة 1230 كيلومتراً في استعراض قوة غير مسبوق، فالمواقع المستهدفة في شمال غرب محافظة إدلب لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن مرابض المدفعية الإيرانية في مدينة سراقب، وقواعد صواريخها في الفوج 46 غرب حلب.

لا يمكن التعامل مع هذا القصف الإيراني في أربيل وسورية، والذي أعقبه استهداف غير مسبوق بالصواريخ والطائرات المسيرة لإقليم بلوشستان جنوب غربي باكستان، إلا باعتباره تطوّراً نوعياً في سياقٍ متصاعد، قد يصبح أكثر تشابكاً وتعقيداً إذا ما أخذنا بالاعتبار التغييرات اللافتة في قواعد المواجهة أيضاً بين حزب العمال الكردستاني وتركيا أخيرا، والتي شنّت الأخيرة هجمات مكثفة وضربات قوية نفذتها وما تزال القوات التركية ضد أهداف تابعة للحزب المصنّف على قوائم الإرهاب طوال الأيام الأخيرة الماضية، ردّاً على هجوم للحزب استهدف قاعدة عسكرية تركية شمال العراق يوم 13 يناير/ كانون الثاني الحالي، وشمل الردّ التركي تجمّعات ومواقع للحزب في إقليم كردستان العراقي، كما طاول حقولاً ومنشآت نفط شمال شرق سورية، في تركيز واضح على ضرب موارد الحزب المالية. ولكن التطور النوعي اللافت على هذا الصعيد حدث يوم 12 يناير/ كانون الثاني الحالي في شمال غرب سورية، عندما دخلت، للمرة الأولى، طائرات تركية من طراز إف 16، المجال الجوي السوري للتعامل مع طائرة من دون طيار (درون) مجهولة الهوية، كما ذكرت وزارة الدفاع التركية أن المقاتلات التابعة لسلاح الجو التركي اعترضت طائرة من دون طيار كانت تقترب من المواقع العسكرية التركية في إدلب، وأعاقتها وأبعدتها من دون الحاجة إلى أي تعامل عسكري.

لم توجّه أنقرة الاتهام لحزب العمّال الكردستاني بالمسؤولية عن إرسال هذه المسيّرة، لكنها أيضاً لم تتهم أي طرفٍ آخر، بل كان لافتاً تجنّب المسؤولين من مختلف الأطراف التعليق على الحدث، سواء الروس أو الإيرانيين أو الأميركيين، وكذلك النظام السوري بطبيعة الحال. لكن هذا لا يقلّل من أهمية الأمر، بل يجعل الغموض الذي اكتنف هذا التدخل (النوعي) الذي يحدُث للمرّة الأولى في المجال الجوي لسورية مسألة بحثٍ مهمّة للمحللين من أجل استشراف وتوقع ما يمكن أن يترتب عليه. فعلى مدار ما يقارب العقد من التدخل العسكري الأجنبي في سورية، بدءاً من الانخراط الإيراني المبكّر في المواجهة بين النظام وقوى الثورة والمعارضة، مروراً بتشكيل قوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014، وصولاً إلى التدخل العسكري الروسي المباشر، وليس انتهاءً بالعمليات التركية شمال البلاد، ظلت الأجواء السورية محظورة على الطيران الحربي التركي، باستثناء وحيد حصلت عليه عندما نفذت عمليتها المعروفة باسم “درع الفرات” ضد “داعش” شمال حلب بين عامي 2016 و 2017، ومنحت هذا الترخيص تحت غطاء عمليات قوات التحالف الدولي.

اللافت أنه حتى عندما تعرّضت القواعد العسكرية ونقاط المراقبة التركية في ريفي حماة وإدلب، شمال غرب سورية، لهجمات عنيفة من قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وخصوصا نقطة المراقبة في بلدة بليون في منطقة جبل الزاوية في شهر فبراير/ شباط 2020 وراح ضحيتها 34 من الجنود الأتراك، وردّت تركيا على قوات النظام بعملية عسكرية سمتها “درع الربيع” لم يتدخّل سلاح الجو التركي، فيما بدا أنه التزام بتفاهمات المجال الجوي السوري التي أباحته فقط لمقاتلات الروس والإسرائيليين وقوات التحالف. ولكن عندما تتحرّك مقاتلات تركية متطوّرة تحت مبرّر التعامل مع مسيرة كانت تتوجّه إلى إحدى قواعدها قرب إدلب، فإن الحدث يستدعي توقّفاً ملياً، كما تتطلب قراءته التعامل بجدّية هذه المرّة، ليس فقط مع ما يجري في عموم المنطقة وحسب، بل وبشكلٍ أكثر تركيزاً مع ما تبدو أنها ملامح هندسة جديدة للوضع الميداني في سورية.

على صعيد الغليان في الشرق الأوسط، لا يبدو أن أنقرة بعيدة عن تفاعلاته، لكنها لا تبدو على تماسٍّ مباشرٍ كذلك مع التصعيد الحاصل بين المحور الإيراني والغرب، إلا إذا كان لدى مخابراتها معلومات جدّية بدور محتمل لحزب العمال الكردستاني في هذا التصعيد يرتب له منذ الآن، الأمر الذي جعل موسكو تسمح لأنقرة باستخدام المجال الجوي السوري، وعندها سيكون هذا التحليق الذي نفذته مقاتلات إف 16 التركية في سماء إدلب بمثابة رسالة، وأيضاً بمثابة طلعة تدريبية تحضراً لعمليات حقيقية في أي لحظة، وإلا من غير المنطقي أن تتكلّف أنقرة عبء إرسال مقاتلاتها المتطوّرة هذه من أجل التعامل مع مسيرة بدائية تكلفة صنعها لا يتعدّى بضع مئات من الدولارات، ويمكن التعامل معها من خلال وسائط الدفاع الجوي والمضادّات الأرضية، أو بواسطة صواريخ جو جو من الحوّامات القتالية التي تتمتع بمناورة وقدرة على التعامل مع المسيّرات من خلال الرمي المباشر أيضاً وبأقل تكلفة.

الاحتمال الآخر الذي يجب أخذه على محمل الجد هذه المرّة، ومن خلاله يمكن تفسير سبب حجز مسار للطيران الحربي التركي في الأجواء السورية، وهو التكهنات بتفاهماتٍ غير معلنة تمت أو تتم بين المتدخلين في الصراع السوري، من أجل إحداث تغييرات جذرية في المشهد العسكري، لا يمكن فصلها في النهاية عن صراعات المحاور الشاملة في عموم المنطقة. ففي الجنوب، يخشى حلفاء النظام من مآلات انتفاضة السويداء، مع تزايد اهتمام الإدارة الذاتية شمال شرق سورية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بهذا الحراك، والدعوات المتكرّرة إلى ربط المنطقتين عبر البادية السورية بغطاء وحماية أميركيتين، وهو أمرٌ لا يروق لأنقرة بطبيعة الحال. وفي مناطق النفوذ التركي أوقفت تشكيلات تابعة لـ”الجيش الوطني”، المدعوم من أنقرة، مفاوضاتها لتأسيس تحالفٍ جديدٍ كانت هيئة تحرير الشام تدفع نحوه بقوة، بالتوازي مع تفجر صراع داخلي عنيف داخل الهيئة، لا يستبعد أن تكون قد ساهمت فيه أيد مخابراتية من هنا وهناك، بهدف إضعاف التنظيم تمهيداً لمرحلةٍ جديدة، لا يستبعد معها منح أنقرة دوراً واسعاً في الشمال، ما يتطلّب حرية تحرّك عسكري وعملياتي أوسع للجيش التركي، وهو ما لا يمكن أن تقبل به (إن حدث) من دون الحصول على مكافأة مجزية على حساب “قسد” ومناطق سيطرتها، وهو ما ألمح إليه يوم الثلاثاء الماضي رئيس حزب الحركة القومية التركية، دولت بهجلي، حيث طالب بمنطقة آمنة على الحدود السورية بعمق 60 كيلومتراً.

لا يمكن استبعاد مثل هذه التفاهمات في منطقةٍ رخوةٍ ووسط أحداث سيّالة لا تتوقّف، لكن لا يمكن، في الوقت نفسه، القطع بها، بل ولا حتى الجزم بتطبيقها حتى إذا صحّت، حيث سبق أن فشلت الدول المتدخّلة في سورية بتنفيذ تفاهماتٍ سابقة فيما بينها، لكن تطوّرات المنطقة المشتعلة اليوم قد تدفع صفائح الجغرافية السورية إلى التحرّك على وقع هزات ارتدادية بعد زلزال غزّة.

————————–

المعايير الأخلاقية والأيديولوجيا/ رشا عمران

20 يناير 2024

قد يجد سوريون كثيرون معارضون أنفسهم حالياً في مأزق سياسي وأخلاقي إزاء الوضع السياسي العربي والدولي، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين؛ ذلك أنه لا خلاف بشأن صوابية الموقف من حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد أهل غزة. ولا خلاف حول أخلاقية مساندة القضية الفلسطينية منذ نشوئها. ولا خلاف أيضاً حول الموقف من النظام السوري، بوصفه وجهاً آخر لأنظمة الإبادة، فما فعله في سورية خلال العقد الماضي لا يختلف كثيراً عما فعله الاحتلال بفلسطين، بل هو أعطى مبرّراً للحكومة الإسرائيلية التي صرّحت أكثر من مرّة بأن جيشها لا يفعل أكثر مما فعله الأسد بالسوريين، فلماذا لم يُجبر الأسد على التوقف عن القتل والتهجير والتدمير؟ وفي الحقيقة لا يمكن لنا، نحن السوريين، إلا طرح السؤال نفسه: لماذا لم تطلب الدول المناهضة لإسرائيل من النظام السوري التوقف عن حربه ضد شعبه، ولماذا لم تجر محاكمته في المحكمة الدولية؟

ولكن موازين الحق والأخلاق في زمن التخبط السياسي يجب أن تكون في غاية الدقة، وألا يتم فيها خلط الصالح بالطالح ولا ترجيح كفّة على أخرى، ذلك أن التعويل على أخلاق السياسة الدولية، والتعويل على تنحية الأيديولوجيا في تناول قضايا الشعوب يكاد يكون من ضروب المستحيلات. بالنسبة إلى سياسات الدول وأنظمتها هناك أيديولوجيات يجري الاحتكام إليها في العلاقة مع أي نظام آخر، وهو ما جعل دولاً وأنظمة عديدة تقف مع النظام السوري في حربه المجنونة ضد شعبه؛ فهو بالنسبة لتلك الدول أحد الأنظمة المعادية لأميركا وللغرب الإمبريالي الاستعماري، وهذا يكفي لها لتسانده ولترى بما حدث في سورية مؤامرة إمبريالية عليه. من دون شك، هذا منطق بالغ السذاجة، ولا ينبغي أن يكون هو من يسيّر سياسات الدول، لكن ثمة قول “شعبي” عن الأيديولوجيا إنها أحياناً “تشبه الرسن تقود الثور الذي يفلح الأرض إلى خط وحيد لا يحيد عنه”. لكن هذا الرسن يؤدي، في مرّات كثيرة، مهمته على الوجه الصحيح، لذلك وجوده ضروري على رقبة الثور.

ينطبق هذا تماماً على دول أميركا الجنوبية التي تقف من دون شرط مع الفلسطينيين، وينطبق على معظم الدول التي ساندت نظام الأسد، وينطبق أكثر على جنوب أفريقيا التي قامت بخطوة تاريخية وغير مسبوقة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي. ساندت كل هذه الدول النظام السوري وأيّدته من منطق أيديولوجي (نستثني إيران وروسيا والصين كدول تتبع مصالحها لا أيديولوجياتها السياسية)، وهي، في الوقت نفسه، الدول الوحيدة التي تقف موقفاً بالغ الاحترام والقوة والحسم ضد العدو الصهيوني، وهي الدول الوحيدة التي يمكن القول عنها إن لها موقفاً أخلاقياً وإنسانياً مما يحدث للفلسطينيين حالياً، خصوصاً مع الصمت العربي المريب، والبالغ حد التواطؤ مع العدو، والإعلانات المتتالية عن مكافأته بالتطبيع مقابل حلّ الدولتين غير العادل وغير المنصف للفلسطينيين.

الدعم السابق لتلك الدول للنظام السوري في حربه ضد السوريين، ينبغي ألا يجعل منا، نحن السوريين المعارضين نظام الأسد، متنمّرين وناكري جميل لما تفعله حالياً من الوقوف المبدئي ضد دولة الاحتلال، والتفرّد الدولي في محاولة معاقبتها على جرائمها، عبر المسارات القانونية الدولية، ليس فقط من باب الصوابية الأخلاقية والسياسية والقيمية، بل أيضاً من باب المصلحة الصرفة؛ ذلك أن سقوط دولة الاحتلال أو تقليص نفوذها يخدم بلادنا، وسورية بشكل خاص، خدمة كبيرة. فمنذ بداية ظهور حكم العسكر في بلاد العرب، استخدمت أنظمته القضية الفلسطينية ذريعة للاستبداد والتسلط والفساد الذي أوصل بلادنا إلى حالة الفشل والتدهور الذي نعاني منه حالياً. وبعد الربيع العربي، اتضح أن أول داعمي هذه الأنظمة إسرائيل، لا سيما في سورية، رغم محاولات اتهام الثورة السورية بأنها مؤامرة إسرائيلية، واتهام المؤيدين لها بالعمالة والخيانة؛ لكن كل مجريات الأحداث خلال العقد الماضي أكّدت دور إسرائيل في حماية النظام، وهو ما صرّح به أيضاً عدة مسؤولين سوريين بداية الثورة من دون تردّد.

ثمّة مصلحةٌ سوريةٌ وعربيةٌ شعبيةٌ بفضح إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، ليس فقط لإنقاذ فلسطين والفلسطينيين، بل أيضاً لإنقاذ غالبية الشعوب العربية مما هي فيه. ربما لهذا السبب، رفضت الأنظمة العربية مساندة جنوب أفريقيا في دعواها الدولية ضد إسرائيل، فهي تدرك أن الخطر الذي سيلحق بإسرائيل سوف يطاول وجودها بعد حين.

——————————

أمن البحر الأحمر بين واشنطن وطهران/ بشير البكر

19 يناير 2024

الحرب الإسرائيلية على غزّة تلد حرباً أخرى، تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد الحوثيين في اليمن. وبات الموقف يُنذر بتطوّر الرد على هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر إلى نزاع أوسع. ورغم أن عمليات القصف الأميركي البريطاني في اليمن تبدو مدروسة، فإن احتمالات التصعيد واتّساع مساحة المواجهات نحو الخليج العربي ومناطق من سورية والعراق ولبنان غير مستبعدة، وسواء تدخلت إيران في النزاع على نحو مباشر أم بقيت تمارس حربها بالوكالة، فإن أحد أهداف الضربات العسكرية توجيه رسالة ردْع لها بوصفها الداعم الأساسي للحوثيين، وصرح بذلك الرئيس الأميركي جو بايدن عندما تحدّث عن رسالة أميركية خاصة لإيران، تبعها اتصال من أجل وقف الهجمات بين وزير الخارجية البريطاني ديفيد كامرون ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. وظهر من عدّة مؤشرات أن إيران ليست في وارد التراجع أمام رسائل القوة الأميركية البريطانية في البحر الأحمر، بل تبدو في موقع من له مصلحة في استدراج الولايات المتحدة إلى التورّط أكثر في النزاع وتوسيع نطاقه الجغرافي، ليطول مداه في ظروف حسّاسة جداً بالنسبة لإدارة بايدن، التي تستعد لحملة الانتخابات الرئاسة الأميركية. وأهم نقاط ضعف واشنطن في القضية فشلها، الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، في تدويل أمن البحر الأحمر من خلال تشكيل قوة عالمية باسم “حارس الازدهار”، تتولّى منع الهجمات التي يقوم بها الحوثيون على السفن المتّجهة نحو ميناء إيلات الإسرائيلي. وكان انسحاب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا من القوة، وعدم استجابة الدول العربية المتشاطئة على البحر للمشاركة فيها، رفضاً صريحاً للاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة في هذه المعركة، والسبب الرئيسي أن واشنطن شكّلت التحالف من أجل حماية إسرائيل، وليس من أجل أمن حركة الملاحة البحرية التجارية في البحر الأحمر. وأكدت الدول الأوروبية أن هذه المهمّة الخاصة يجب أن يكون لها نطاق عملها، ووسائلها، وأهدافها الخاصة، التي تحددها الهيئات المختصة في الاتحاد الأوروبي، بالشراكة مع دول المنطقة.

باتت معركة أمن البحر الأحمر مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران، التي تعتبر على لسان حلفائها الحوثيين أن الوجود الأميركي في البحر الأحمر غير مشروع. وفي بداية الشهر الحالي (يناير/ كانون الثاني)، عزّزت طهران وجودها هناك بدخول واحدة من أهم مدمّراتها الحربية عبر مضيق باب المندب الاستراتيجي، لتنضمّ إلى عدة سفن من البحرية الإيرانية الموجودة في المنطقة وتزايد عددها بقوة منذ عام 2009. واللافت في الأمر غياب أصحاب الشأن من العرب، كما هو الحال في أي قضية عربية مشتركة. أمر جيدٌ أن ترفض مصر والسعودية المشاركة في قوة دولية تتولى حماية مصالح إسرائيل البحرية، ولكن التخلي عن الدور في مسألة حيوية، كأمن البحر الأحمر، يثير أسئلةً كثيرة، وخصوصا أنهما الدولتان المعنيّتان بالدرجة الأولى بهذا الشريان الحيوي. ويشكل انسحابهما تخلّياً عن شأن سيادي عربي، وتركه مجالاً للنزاع بين قوى أجنبية في طليعتها الولايات المتحدة وإيران. وفي وُسع القاهرة والرياض أن تتوليّا القضية وتديراها بما يتماشى مع المصالح العربية والالتزامات الدولية، لكنهما تصرّان على النأي بالنفس. ولا يمكن قراءة الموقفين المصري والسعودي إلا في ضوْء تراجع الاهتمام بالأمن العربي في العقد الأخير، وهذا ما يفسّر إهمال مؤسسات العمل العربي المشترك كجامعة الدول العربية، وإسقاط قضية التضامن العربي من الحساب، وهو ما أدّى إلى اتساع مساحة التدخلات الأجنبية في الشؤون العربية. ومهما تكن نتيجة النزاع الراهن، فإن أمن هذه المنطقة بدأ بالخروج من يد الدول العربية. وعلاوة على الخسارة الاقتصادية، فإنها تفرّط بحقوقها السيادية، وأمنها المائي للقوى الأجنبية، التي لن تغادر المنطقة بمجرّد انتهاء المواجهة مع الحوثيين.

————————-

في إفراط اللاعدالة/ سمر يزبك

17 يناير 2024

عبَرت الصورة مسرعةً داخل طوفان التشكيلات المرئية في الحرب على غزّة. خطفاً رُسمت الفاجعة، تسلّلت وتناثرت؛ روْعنا تلاشى، ورعبُنا صار بحاجة لمحفّزاتٍ جديدةٍ رهيبةٍ من نوع آخر!

صورةٌ تكرّرت في الذاكرة البشرية، حدثت قبلاً في سورية والعراق و… لكنّ الموقع واحد، والحفرة ذاتها؛ حفرة شبه أسطوانية هي، في حقيقة الأمر، قبرٌ جماعيُّ يضم أجساداً بشريةً مصفوفة ومتلاصقة، تم وضعها كإعلان مقاربة أو مفاضلة بين وحشياتٍ أنتجها البشر.

على الشقّ الأيمن صورة بالأبيض والأسود لضحايا يهود سقطوا سنة 1945 في أوروبا، يغلب على الصورة اللون الأبيض، لون العدم، وعلى الضفّة اليسرى مقبرة جماعية لضحايا فلسطينيين سقطوا سنة 2023. الجسد الفلسطيني مغلّفُ باللون الأزرق، أصل حيواتنا؛ البحر والسماء. … تقول الصورة؛ انظروا من منّا الضحية ومن هو الجلاد؟ في الأصل تقول: هنا ما لا يُرى ولن يُرى إلا هنا .

لو لم تكن في تلك الحالة التي تُفاضل بين صورتين من مشهديةٍ جنائزيةٍ كبرى لبَدَت أقلّ اصطناعاً! لكنّ وضعها ضمن هذه التفاضلية هو وحشيتها ذاته! لا مأساوية هنا في التحديق إليها، إنها نظيفة أكثر مما ينبغي للترويع. لا خريطة للجسد، الأبيض والأسود من فعل الامحاء وعدم الوضوح واليقين، والثانية تضع مسافةً بينها وبين دهشتنا، نحن الأحياء الذين نبحث عما وراء الأكفان الزرقاء، لا أحد يستطيع التدقيق مليّاً، ولا حتى التحديق في تلك الصورة، لتحديد ما تُخفيه خريطة الأجساد وتوثيقه.

يتراجع فعلُ التحديق والانقباض، نحن نحتاج لرؤية الدماء! هذا الموتُ مغلّفٌ بالخفاء. ورغم المعرفة بسياقه إلّا أنّه يحيل في مخيّلتنا إلى العادي، نعم! تغلّف الأكياس – الأكفان – أياً يكن مسمّاها، تغلّف الرّوْع.

رفاهية الصورة هي في إيجاد الوقت بين موتٍ وموت لحماية أجساد الضحايا من التحلّل في العراء وهذا ترفٌ لا تحظى به الأجساد عادة في الحروب. هذه المسافة المانعة عن التحديق لا تحمي الضحايا ولا تحفظ فقط حرمة الجسد البشري كما نردد، إنها تحمينا نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة من رؤية الوجه الآخر لأجسادنا، أو حقيقتنا الكامنة في مواصلة عيشنا! الحقيقة التي تعني أنّ الحياة هي الموت، إذ لا يمكن إطلاق صفة كائنٍ حيٍّ من دون أن يتضمّن ذلك سيراً زمنياً نحو الموت. الذي يعيش سوف يموت، ونحن لا نريد رؤية ذلك على الأقل، إلى حين! عدا عن حماية أنفسنا من رؤية الفظاعة، فهذه الصورة التفاضلية الوحشية تصل إلينا ملساءَ مرقّطةً لا تضاريس فيها سوى إحالتها وسياق الحدث الذي تدور فيها، لا تفترض الصرخة عند رؤيتها ولا الشهقة. تمشي وتسيل بنعومةٍ لتنضمّ إلى ملايين الصور السائلة والناعمة للجسد الفلسطيني، حتى تصيب الرائي بالعمى.

في المقابل، الصورة القادمة من سردية الهولوكست، الأجساد القادمة من التاريخ، مَحميةٌ أكثر منها؛ هي باللونين الأبيض والأسود، بعيدةٌ وغائرةٌ في الزمن. وإذا أضفناها إلى السردية المرئيّة التي فرضتها الثورة الرقمية في المجزرة المستمرّة على أهل غزّة فإنها تتلاشى نهائياً.

العاديّ المهموم بالرؤية البصرية يُحيل إلى ما هو أبعد في انشقاق معنى الضحيّة عن الجلاد، صار هو الوحشي الذي غدا مألوفاً، وما تمّ إخفاؤه يكمن في سِيَر أولئك المجهولين للناظر وحيواتهم، وهذا أهون الشرور، لكنّ الصورة المخفية والعميقة، والتي تتسرّب في الزمن بعيداً عن أعين المتفرّجين، هي ذلك الشر الخفي المقنع كأفعى ناعمة ملساء تختبئ في أوكار التاريخ. أفعى تتسلّل في مسرح اللاعدالة، تلبس طاقية الإخفاء وتُسمّى تدوير العنف.

الصورة المخفيّة الملساء التي تشبه أجهزة هواتفنا وحيواتنا الظاهرية هي الصورة الأصل لتلك الأجساد، الصورة الأصلية تصير المسودّة، تضيع في أدراج اللاوعي، هي الصورة غير المنظورة والمخفية؛ صورة أبناء الضحايا اليهود، الصورة حكايةٌ ولا يمكن النظر إليها إلّا بوصفها امتداداً لملايين صور جزئيةٍ مشتقّة منها، هذا إذا استطعنا الوقوف عند هذه الحقيقة، كلّ صورة هي رواية، والرواية شبه الحقيقية لمآلات حيوات أحفاد الأجساد المرميّة في المقبرة اليهودية، صورةٌ لا تهمّ أحداً، فمصائر حيوات الأحفاد الذين نجوا من الإبادة في أربعينيات القرن الماضي، تدخُل في سياق العادي، هم تابعوا حيواتهم وانتشروا في بقاع الأرض، وعلى الأغلب هاجر معظمهم من بلدانهم الأصلية إلى البلد الموعود، حيث أعادوا إنتاج المجزرة بعيداً عن عين المتلصّص، إنهم نظيفون لمن يراهم عن بعد، بشوشون، ناجون، أهالوا التراب على الصورة التي حوّلوا فيها الآخرين إلى صورة مطابقة لمصائر أسلافهم، صنعوا نسخاً مكرّرة عن موت أهلهم، ومشوا فوق الأجساد الفلسطينية المطمورة داخل حفر جماعية بطمأنينةٍ، لا فضيحة في صورهم وحيواتهم، لا معنى للفداحة في أنهم بقوا على قيد الحياة عبر سرقة حيوات بشرٍ آخرين، لن تظهر صورُهم لتشير إليهم بالبنان: هؤلاء هم القتلة الجدد.

المخفيًُ في أحد وجوه تمثلات صورة الجسد الفلسطيني يتحوّل إلى فرجةٍ ومطحنةٍ يوميةٍ من الفاجعة؛ الموتُ قصفاً، جوعاً، تقطيعاً… الموتُ بكلّ تشكيلاته وفنونه اللامتناهية هنا في هذه الصورة الملساء، تحديداً يظهر في كتل زرقاء ملفوفة في أكياس بلاستيكية. يريد القتلة الجدُد احتلال حتى صورة الموت الفلسطيني عبر هذه التفاضلية، وهناك صمتٌ من نوع آخر يلفّ الضحية الفلسطينية، بإعادة تكرار انتهاكها اليومي. وللأسف، فهي الوسيلة الوحيدة الباقية للضحية للتعبير والقول: انظروا إلى موتنا، حدّقوا! الفرجة مجانيّة، صدّقونا، نحن نُباد! بين هاتين الصورتين تحديداً، تختفي صورة الأحفاد الأحياء الذين نجوا من الحفرة الجماعية (صورة الأبيض والأسود) لا تحيل إلا إلى معنى واحد لمن يريد أن يرى أبعد: انظروا هؤلاء قتلوا أهلهم مرّتين! مرّة عندما قتل النازيون أهلهم، ومرّة ثانية عندما أعادوا صناعة قتلهم وتمثيله وصناعة الفاجعة بالوحشية ذاتها عبر الجسد الفلسطيني.

الكارثة من نوع آخر قادمة، من تمثّلات الصور القادمة في المستقبل، صورة أحفاد الفلسطينيين أو أولادهم، الذين ننتظر أن يحدّقوا في صورة الأكياس الزرقاء التي كانت يوماً عائلة، ماذا لو فكّروا أنّ الوقت سيكون مناسباً دوماً لمنح عائلاتهم العدالة، وجعل من قتل آباءهم يعودون الى تلك الحفرة حتى ولو بعد حين، هذا أمرٌ طبيعيٌّ ما دامت الأفعى الملساء لا تنظُر إلى عين العدالة!

نحن ننظُر الآن إلى عالمٍ هويّتُه وسلعتُه الصور، وربما في عالم سرعة الضوء الذي نعيش فيه، كلّ شيء فيه قابلٌ للامحاء بالإعلان عنه، وكأنّ الصمت حماية، والصراخ انتهاك! وإذ نجد أنفسنا أمام غرابةٍ من نوعٍ جديدٍ وخرابٍ وفراغٍ كبيرٍ يقود العالم في هذه اللحظة، فربما هذا لا يعود فقط إلى أنّ الصورة المخفيّة، الصورة الانتقامية في ظلّ إفراط اللاعدالة ستُعيد إنتاج نفسها، لكن وربما في هذه الفوضى التي تستهلك كلّ شيء ولا يبقى أحيانا أمام رواية الكارثة سوى الوعد بمزيدٍ من الظلام والوحشية. يبقى النظر إلى الصورة المخفيّة في عالم ما بعد النيوليبرالية وهي تعيد إنتاج العنف، ما قد يمنحنا بعض الوقت تأمّلأ في الصور الصامتة، وربما التحديق فيها. صورة أولئك الأحياء الذين لن نراهم حتى يتحوّلوا إلى موتى وتلك الأفعى السامّة التي حكمت تاريخ وجودنا البشري والتي تُطبق فكّيها الآن على الجسد الفلسطيني

—————————-

من ينتصر: رهانات العرب أم ديناميكيّة إيران؟/ غازي دحمان

17 يناير 2024

بدا في بداية الحرب على غزّة أن ثمّة موقفاً عربياً أخذ في التبلور، بهدف ضبط الصراع والسيطرة على تفاعلات الحرب، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الحظيرة العربية، لكن الحراك العربي لم يتطوّر، وبقي عند حدود معينة نتيجة حسابات ورهانات معيّنة، في مقابل حراكٍ إيرانيٍّ يتخذ بعداً استراتيجياً من خلال محاولة توظيف الحرب لتعزيز أوراق إيران الإقليمية والدولية.

بدون مقدّمات، همَدت، إلى حد بعيد، حركية الأطراف العربية التي عبّرت عن نفسها عبر نشاط وزراء الخارجية العرب وتحرّكهم بين عواصم القرار العالمية، في محاولة بدا الهدف منها استعراض قوّة الدبلوماسية العربية أكثر منها توظيف القدرات العربية في إحداث تأثير على مجريات الحرب، لكن الحركيّة العربية وصلت إلى ذروتها من دون أن تحقّق نتائج موازية، أولاً لأن الجهات المتلقية رسالتها إما أنها، في الأصل، لا تملك فعالية التأثير على إسرائيل، مثل الصين وروسيا، أو لأن تغيير موقفها يحتاج أكثر من مجرّد “فزعة” دبلوماسية، وهذا ينطبق على أميركا والغرب. ثانياً، لأن الطرف العربي لم يدعم تحرّكه بأوراق تفاوضية وازنة، لم يرصدها بالأصل من أجل الضغط على إسرائيل.

لكن وقائع السنوات الأخيرة، التي كشفت أن العرب يستطيعون تحقيق خروقاتٍ مهمّة في السياسة الدولية إن أرادوا، تثبت أن التحرّك العربي الأخير لم يكن أكثر من محاولةٍ لرفع العتب عن كاهل النظام الرسمي العربي، فقد سيطر على حسابات صنّاع القرار العربي مدركَان كان لهما التأثير الأساسي على تحركهما: الأول، أن هذه الحرب هي حرب الإخوان المسلمين، العدو اللدود لعواصم عربية عديدة، والحرب فرصة للتخلص من واحدة من أقوى أوراق قوتهم، أي حماس، وبالتالي لا داعي لاستخدام أوراق القوة في حوزتهم، أي الأنظمة العربية، من أجل حماس، والاحتفاظ بها لقضايا تهمّ أمن الأنظمة ذاتها.

الثاني: أن الحرب فرصةٌ لإضعاف التأثيرات الإيرانية ونزع أوراقها في فلسطين والمنطقة، ما قد يدفعها الى عقلنة سلوكها في المنطقة وإنهاء سياساتها القائمة على التمدّد والتدخّل في شؤون دول المنطقة. وبالطبع، لم يأخذ هذا المدرك بالاعتبار إمكانية نجاة “حماس” وبقائها لاعباً أساسياً، وبالتالي، تعظيم دور إيران التي ستظهر أنها الطرف الوحيد الذي ساندها، بغضّ النظر عن حجم المساندة وفعاليّتها.

حاول الطرف العربي إضافة بُعد استراتيجي على موقفه، يتمثّل بمطالبة الأميركيين إيجاد مسار لقيام دولة فلسطينية، أو على أقلّ قدر تحقيق قدرٍ معيّن من الاستقلالية للفلسطينيين بعد الحرب، وهو ما كشفت عنه مفاوضات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في العواصم العربية، الذي يبدو أنه دمج المطلب العربي ضمن مطالب أميركية تطالب بتكفّل الدول العربية إعمار غزّة بعد الحرب، وربما التزامات مالية أخرى، لكن المشكلة أن هذه وعود يصعُب إلزام إسرائيل بها كما لم يستطع الأميركيون إلزامها باتفاق أوسلو، وبالتالي من الصعب أن يحقّق العرب اختراقاً مهمّاً في هذا المجال، في ظل انزياح المجتمع الإسرائيلي صوب اليمين.

في المقابل، كانت إيران أكثر عملانيةً من العرب، واستطاعت تحويل التحدّي إلى فرصة، وهي خبيرة بهذا الأمر، إذ مارسته جيّداً في الإقليم واستثمرت في الدم والخراب، وحوّلت الوقائع لصالحها، وفي هذه الحرب أطلقت إيران منظومة وكلائها في المنطقة، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان، لعبت على قضايا استراتيجية تقع في صلب مصالح الغرب، فقد ضغطت على العراق ليطلب من واشنطن بدء التفاوض على خروج قوات التحالف الدولي من العراق، مع ما يعنيه ذلك من فتح الباب لتحطيم استثمارات أميركا في كردستان العراق وشرق سورية، وأوجدت وقائع ومعادلات أمنية خطيرة في البحر الأحمر، أدّت إلى إرباك طرق الإمداد العالمي وإحداث تأثيراتٍ مباشرة على المستهلكين في أوروبا ومناطق أخرى.

وثمّة مؤشّراتٌ على مكاسب بدأت إيران بتحصيلها جرّاء استراتيجيّتها الراهنة، تتمثل في طلب الأميركيين، حسب تصريحات الخارجية الإيرانية، التفاوض مع طهران لإيجاد صيغة لإدارة النزاع في المنطقة، وربما التوصل إلى صفقة معيّنة، ستكون بالحكم لصالح إيران على حساب العرب، الذين ضيّعوا فرصةً نادرة ليكون لهم دور مؤثّر في السياسة الإقليمية، لو أنهم لم يبخلوا باستخدام أوراق قوتهم في هذه الحرب.

وتتمثّل المشكلة الأكثر خطورةً في الخسارة العربية في استقطاب إيران للشوارع العربية “السنية” في دول عربية عديدة بعد النكسة التي تعرّضت لها جهودُها للتقرّب من الشعوب العربية في أثناء الثورة السورية، ولا يقتصر الأمر هنا على أحزاب أو منظمّات، بل رأي عام بدأ يجد حرجاً في اتهام إيران بالتخاذل في دعم الفلسطينيين في غزّة، وثمّة من بدأ القول ليدعم العرب غزّة بحجم الدعم الذي تقدّمه طهران عبر المواجهات التي تقوم بها أذرعها في اليمن والعراق ولبنان، هذا أضعفُ الإيمان.

الفرق بين سياسات الأنظمة العربية وسياسات إيران اعتماد العرب على الرهانات التي يبدو أنها خاسرة في المجمل، ووضع كل الأوراق في السلّة الأميركية، والعرب هنا إن كسبوا سيكون بفضل الاستراتيجية الأميركية لمرحلة ما بعد حرب غزّة وقدرتها على تفعيل مسار الدولتين، وهو أمرٌ لا تدعمه المعطيات، مقابل اعتماد إيران على وقائع، وإدارة المخاطر بشكل جيد، واستخدام الميدان والدبلوماسية لتحقيق أهدافها. وفي الإجمال، يمكن القول إن إيران مقدمة على تحقيق نصر إضافي على العرب في محيطهم.

—————————–

الحرب الإسرائيلية بين الدعم الأميركي والاستسلام العربي/ سميرة المسالمة

15 يناير 2024

لا تخشى إسرائيل من الأعداد المتصاعدة لضحايا حربها على غزّة، فقد سبقها (إلى تلك الأعداد في منطقتنا العربية) غيرها في حروبهم في العقد الأخير، العراق وليبيا واليمن، وربما تكون سورية مثالها الواضح، لكنها (إسرائيل) تملك أدلّة كثيرة، أيضاً، على أن أعداد الضحايا في ضمير المجتمع الدولي تبقى مجرّد ذكرى، تعود إليها المنظمّات الإنسانية حين تقرّر التباكي على مآسي الشعوب في عالم لا ينتمي له “الرجل الأبيض”، فالتباكي الحاصل على ضحايا أحد طرفي الصراع دون الآخر مرآة لمعنى جديد للعنصرية القيمية، أو الأخلاقية، فحيثُ لا يُنكر أحدٌ أسفَه على وجود ضحايا مدنيين على أي ضفة من الصراع كانوا، وإلى أي بلدٍ ينتمون، تؤكّد جهاتٌ دولية وإعلامية التزامها بمبدأ مساندة القاتل على حساب الضحية، وتبرير الجريمة، بل وتحميلها مشاعر إنسانية على الضحية أن تتعاطف معها، لا أن تقاوم احتلالها أرضها أو اغتصابها مقوّمات الحياة فيها، أو حصارها ما يزيد عن 17 عاماً.

في عالم يعود إلى تذكيرنا لما قبل ثورات الحرية وشرعة حقوق الإنسان، يصبح قتل ما يقرب من 24 ألف فلسطيني، وتشريد نحو مليوني إنسان من بيوتهم وهدم مدنهم، حيث دمر الاحتلال أكثر من 69 ألف وحدة سكنية بالكامل، و290 ألف وحدة جزئياً، وكلها يعتبرها بعض الساسة الغربيين خسائر عادية، لحملة انتقام إسرائيلية من الفلسطينيين أصحاب الأرض التي احتلتها إسرائيل، بينما يجرّمون مقاومة الشعب الاحتلال، والصمود على أرضه.

وربما يكون أبشع من تبرير بعض الدول هذه الحرب الهمجية على المدنيين في غزّة بأنها “حرب الدفاع عن النفس”، هو تبرير بعض الإعلام الأميركي والأوروبي لها، بل محاولة الإعلام الغربي تصويرها حرباً رادعة للإرهاب، يتبيّن من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أولهما يقف مع السامية بمناصرة إسرائيل، والآخر ضدّها، ويجب محاكمته، لأنه لم ير في إبادة شعب فلسطين حقّاً مطلقاً لإسرائيل، بل ولم يقم بما عليه من تشجيع إسرائيل والتصفيق لها!

لا يستعجل بعض الأطراف المهيمنة في المجتمع الدولي قرار وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية، مستهدين بالموقف الأميركي المنحاز إلى التبرير الإسرائيلي للاستمرار في حربها على غزّة، حيث قال الأسبوع الماضي المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي: “موقفنا لم يتغيّر، وهو أننا لا ندعم وقفاً لإطلاق النار في غزّة في الوقت الحالي، لأنه لن يستفيد منه أحد سوى حماس، وما زلنا ندعم وقفات إنسانية، وليس وقفاً عاماً لإطلاق النار، والرئيس بايدن لم يعط أي اشاراتٍ بعكس ذلك”، أي إنهم مستمرّون منذ بداية الحرب حتى إعلان نهايتها على موقف داعم لإسرائيل، قاطعين الطريق على أي جهود دبلوماسية تخالف رأيهم المشترك مع إسرائيل، وهو موقفٌ لا تختلف معه دولٌ كثيرة في أوروبا، وإعلامها المنحاز إلى إسرائيل.

وعلى الرغم من الآمال التي يتعلق بها بعض الساسة من المواقف المتناقضة في التصريحات الأميركية من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزّة، فإن هذا لا يتناقض مع ما قاله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في إسرائيل إنهم يريدون “إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن”، بل هو يتكامل معه، لأن إنهاء الحرب من منظور إسرائيلي – أميركي تعني تنفيذ أهدافها، فإذا حدث ذلك في أقرب وقت، فالولايات المتحدة مع إنهاء الحرب بعدها، والوزير الذي ينفي وجود إبادة جماعية في غزّة بعد مقتل أكثر من 23 ألف مدني، إضافة إلى أعداد هائلة من المفقودين والجرحى والمشرّدين، في أكبر مجازر تحدُث على مرأى العالم ومسمعه، وتنقل في بثّ حي ومباشر إلى كل أصقاع العالم، على الرغم من محاولات اللوبي الصهيوني الإعلامي التعتيم قدر المستطاع على حقائقها، وطرق تنفيذ الجيش الإسرائيلي عمليات الإبادة والتهجير الجماعي للسكان، يمكنه أن يرى أن إنهاء الحرب بعد شهر، أو أشهر، أو حتى سنوات، وبعد وقوع عشرات الآلاف من الضحايا الجدد، هو ما يعنيه بالقول “أقرب وقت” الذي يراه بلينكن ممكناً.

ليست المرّة الأولى التي يقف فيها المجتمع الدولي عاجزاً عن وقف القتل الجماعي في منطقتنا العربية، سواء استطاع استنهاض مشاعر قادته، كما حدَث في الصراع السوري، ونتج عن ذلك عشرات القرارات والإدانات والمطالبة بوقف إطلاق النار، والبدء بمفاوضات تسوية، منذ عام 2011، ولم ينفّذ منها شيء على أرض الواقع، وكذلك في اليمن وليبيا والعراق، حيث لا يزال العنف سيّد الموقف، وهو أيضاً المجتمع نفسه الذي رأى في الحرب الروسية على أوكرانيا ما يستدعي الاستنفار لمناهضتها والمطالبة بوقفها، وحقّ الشعب الأوكراني بالدفاع عن أرضه ومنع احتلالها، ولا تزال ألسن نيران الحرب مشتعلة فيها، وتتصاعد، أو أن هذا المجتمع الدولي تجمّدت مشاعره تجاه الشعب الفلسطيني، فوقف متفرّجاً على اغتصاب أرض وإهدار حقوق شعب بأكمله، خلافاً للقرارات الدولية التي تحدّتها إسرائيل المدعومة اليوم من كل فج عميق، والمسكوت عن جرائمها منذ تأسيسها إلى حربها الانتقامية البغيضة من الفلسطينيين.

تأخذ الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، وبعض دول أوروبا، على عاتقها حماية إسرائيل، وتحصين موقعها الجغرافي، من جهة بمساندتها في حربها المستمرّة على الشعب الفلسطيني، لإنهاء فكرة المقاومة من قاموسه الحياتي. ومن جهة ثانية، بشراكتها في الحرب على غزّة، عبر الدرس الدموي الذي تدعمه بمختلف الوسائل المادية والإعلامية، والذي أنتج خلال مائة يوم آلاف الضحايا، منهم أكثر من عشرة آلاف طفل، وسبعة آلاف امرأة، و117 شهيداً صحافياً، ومئات آلاف المصابين والجرحى والمهجّرين، وهدم مدنهم ومرافقهم الحيوية جميعها، ومن جهة ثالثة، بتعويم مصطلح أنها حربُ الدفاع عن النفس، لزرع مشروعيّتها في عقول الشعوب الأوروبية، ومن جهة رابعة، بإحاطتها بعلاقاتٍ بينية مع دول منفتحة على التطبيع الاستسلامي مع إسرائيل، تحت العباءة الأميركية أو بدونها، أو دول منزوعة السيادة بحكم الصراعات المحلية والفوضى “المشبوهة” القائمة فيها، ما يسهُل على إسرائيل لاحقاً تمدّدها، وصناعة خريطة حدوها ودستورها الذي لم يولد، بعد رغم حمل دام نحو 75 عاماً!

—————————–

استطلاع المركز العربي وفلسطين قضية العرب/ عمار ديوب

15 يناير 2024

نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة الدراسات، أخيراً، نتائج استطلاع أجراه بين 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023 و5 يناير/ كانون الثاني 2024. تركّزت أسئلته حول قضايا كثيرة، وموجهة إلى عيّنة تمثيلية للرأي العام العربي، وصِيغت الأجوبة في نسبٍ إحصائية. شملت العينة، وهي من 16 دولة عربية، ثمانية آلاف شخص، وغابت سورية عنه. أظهرت أجوبة المُستطلعين توجهات أكثر من 95% من العرب؛ فقد تمحورت الأسئلة تجاه الحرب على غزّة، وتجاه مواقف القوى الإقليمية والعالمية ونحو القضية الفلسطينية، وآراء الفلسطينيين في الضفة الغربية نحو الظروف التي يمرّون فيها.

تحاول هذه المقالة مناقشة الرأي العام العربي بشأن القضية الفلسطينية، ونضع بعض الاستنتاجات. لقد تبيّن أن هناك إجماعاً عربيّاً حولها، وأنّها قضية العرب وليست قضية الفلسطينيين فقط، وبنسبة 92%، وهذا عكس آراء أغلبية المتشائمين العرب والمهزومين الذين يقولون إن هذه القضية تخصّ الفلسطينيين فقط، ورأيهم هذا لم يحرز سوى 6%، ويرون أنّ على الفلسطينيين أن يجدوا حلّاً لها بأنفسهم!

يستحقّ الموضوع الوقوف عند الأرقام، ونتائج الاستطلاع مرتبطة بالعدوان على غزّة، وتزايد المشاعر العربية المؤيدة للفلسطينيين، ولكن الأرقام تناولت الآراء ما قبل العدوان، بين نهاية عام 2022 والآن، و92% أعلى نسبة تأييد منذ 2011. لنتأمل في الأرقام؛ اعتبر السودانيون أن فلسطين قضية العرب بنسبة 76% في 2022، بينما النسبة حالياً 91% وكانت النسبة في المغرب 59% ثم صارت 95%، وفي مصر كانت 75% وصار 94%، وفي السعودية كانت النسبة 69% وأصبحت 95%. وتفيد دلالة هذه الأرقام، بوضوحٍ شديدٍ، بأن القضية الفلسطينية لم تكن هامشية من قبل، واستعادت أخيراً مكانتها الطبيعية، باعتبار فلسطين جزءاً من العالم العربي، والعدوان على غزّة هو عدوان على العرب أيضاً.

وهناك أسئلة عن التطبيع، إذ إن نسبة تأييده مع الدولة الصهيونية تقلّصت بشكلٍ كبير، وهي، في كل الأحوال، لم تكن في الأصل نسبة كبيرة، ولكن، ربما استغَلت أنظمة التطبيع، القديمة، والإبراهيمية، اليأس والإحباط والقمع، لإجراء تلك الاتفاقيات المذلّة. والآن، وبعد طوفان الأقصى، ووفق نتائج الاستطلاع، ستُعيد تلك الدول حساباتها بشكلٍ كبير؛ أو هذا ما يُفترض. يرفض 89% من الرأي العام العربي اعتراف الدول العربية بالدولة الصهيونية مقابل 4% فقط يوافقون على ذلك، وفي 2022، كانت نسبة الرفض 84%، ارتفعت في السعودية من 38% إلى 68%، وفي السودان من 72% إلى 81% وفي المغرب كانت 67% وصارت 78%. وهكذا أصبحت في 2024. إذاً، الرأي العام العربي رافض بالأصل اتفاقيات السلام والتطبيع مع الدولة الصهيونية، وجاءت عملية طوفان الأقصى والهمجية الصهيونية لتعيد إلى الوعي العربي توازناته وشعورَه بالقوة والفخر والتوقف عن مسايرة الأنظمة في مساراتها الكارثية على الدواخل العربية، وعلى القضية الفلسطينية، وليستعيد مواقفه الرافضة للدولة الصهيونية، بوصفها دولة احتلال استيطاني أولاً، ورفض تمييع الموقف منها، انطلاقاً من الإسلامو فوبيا، أو مساواة حركة حماس بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو القول إن “حماس” والحكومة الصهيونية متساويتان في التطرّف، وإن إبعاد الجهتين سيؤدّي إلى حل القضية الفلسطينية، ومن هذا الهراء… توضح الأرقام العالية لتأييد القضية الفلسطينية ورفض الاعتراف بالدولة الصهيونية أن الأخيرة ليست متساوية مع السلطة الفلسطينية في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو مع أيّة دولة في المنطقة، وأن الموقف العربي منها يتحدّد بضرورة التفكيك واسترجاع فلسطين، كقضية عربية وليس فلسطينية كما قالت الآراء المستطلعة.

تستدعي النسب العالية لاعتبار فلسطين قضية العرب من جديد سؤالاً جادّاً: لماذا لم نجد الشعوب العربية في الشوارع تأييداً لغزة، بل هناك كتلة سكانية ليست قليلة في الضفة الغربية ذاتها لم تشترك، وهناك المشاركات الهامشية لفلسطينيي الـ 48، وهناك أسئلة في الاستطلاع بشأن آثار العدوان على الضفة، وهي تبيّن أرقاماً مذهلة في الضرّر من سياسات حكومة الاحتلال والمستوطنين؛ 95% من فلسطينيي الضفة فقدوا الأمان بكل مستوياته. للتوضيح: يجب التدقيق في مستوى الهمجية الصهيونية والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار الطويل على غزّة، والتي تشكّل رادعاً كبيراً للامتناع عن التظاهر الواسع، رغم أن مناطق عديدة في الضفة تتظاهر وتقاوم، وتعدّى الشهداء منذ 7 أكتوبر الـ 350، والمعتقلين بالآلاف وجرت اقتحامات لمعظم المدن والبلدات. بالكاد شاركت الشعوب العربية، ما يعود إلى سطوة الأجهزة الأمنية، والتي مَنعت أيّة تحركات جماهيرية ليس تجاه العدوان على غزّة بل تجاه قضاياهم المحلية كذلك، منذ أن استحكمت الأنظمة المناهضة للثورات بالسلطة بعد 2011، ولكن هذا لا يعني أن الشعوب تدعم سياسات الأنظمة، وتحديداً التطبيعية، داخلياً أو نحو غزّة والقضية لفلسطينية.

أصبح واضحاً الدور الهامشي للعرب في رفض العدوان على غزّة، وتقول تسريبات كثيرة إن مواقف بعض الدول العربية مؤيدة لاجتثاث “حماس” والمقاومة في غزّة وداعمة للدولة الصهيونية، وهي لم تقطع علاقاتها معها في كل الأحوال، ولكن هذا بالضد من مواقف الشعوب العربية، وهذا ما تقوله نسب الاستطلاع. إن تلك الأنظمة متحالفة مع الدولة الصهيونية وبالضد من المصالح العربية، الحالية والمستقبلية، وتجتهد لعرقلة أيّة مواقف عربية مساندة للقضية الفلسطينية. لقد أعاقت تطوّر الموقف العربي لإيقاف عدوان الدولة الصهيونية. لقد ميّعت تلك الدول الموقف من العدوان، وأعطته مزيداً من الوقت للإجهاز على غزّة، وسحق المقاومة فيها، وفي الضفة، وهذا ما فشلتا فيه؛ الدول العربية المقصودة ودولة الاحتلال.

إذاً، هناك موقف عربي أصيل إلى جانب القضية الفلسطينية، ويعتبرها قضيته كذلك، وهذا ما يُؤسَس عليه مستقبلاً، ويسمح لنا بالقول إن “طوفان الأقصى” أعاد إلى الوعي العربي قضاياه الحقيقية، ودوره في رفض الشراكات الأمنية بين السلطات العربية ودولة الاحتلال، ورفض التخادم بين الطرفين، وبالتالي، يجب عدم التقليل من خطورة هذه الشراكات، والتي، لولا “طوفان الأقصى” لأصبحت متعدّدة المستويات وذات امتدادات إقليمية، وليست فقط أمنية.

العرب أمام استحقاقٍ تاريخيٍ كبير، يقول إمّا أن ينجح المشروع الصهيوني وبالتعامل مع بعض سلطات الدول العربية، أو أن يفشل وتسقط تلك السلطات أيضاً؛ الدعم الغربي الآن، بقيادة الولايات المتحدة، هو من أجل ترسيخ المشروع المهتزّ بقوّة وتلك السلطات. لا خيارات أخرى خارج تفكيك المشروع الصهيوني، وكل تهميشٍ لخطورة دور تلك الشركات يؤدّي إلى تهميش العرب والقضية الفلسطينية، ويساعد الدولة الصهيونية في فرض الهيمنة على العرب في المستقبل، وهو الهدف من وجود دولة الاحتلال، وهذا ما لا تستطيع فهمه السلطات العربية تلك، ومعها القلّة المتشائمة.

————————-

ما يقوله الرأي العام العربي في الحرب على غزّة/ عمر كوش

14 يناير 2024

تستدعي نتائج استطلاع الرأي العام العربي التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الأربعاء الماضي (10/1/ 2024)، التوقف عندها، والنظر فيما تحمله من دلالات، كونها تخصّ مواقف الشارع العربي حيال الحرب الإسرائيلية على غزّة، بالاستناد إلى عيّنة تكونت من ثمانية آلاف مستجيب ومستجيبة للاستطلاع، توزّعوا على 16 بلداً عربياً، يشكل مجموع سكانها ما يقارب 85% من تعداد سكان البلاد العربية مجتمعة.

يدخل الاستطلاع في سياق التقليد الذي دأب عليه المركز العربي منذ تأسيسه، ولعل استمراريّته في إجراء الاستطلاعات بشأن القضايا السياسية والاجتماعية تؤكّد إيلاءه أهمية لتطويرها، بغية تحقيق قدر أكبر من المشاركة المجتمعية العامة، وتأكيداً على دور استطلاعات الرأي العام، بوصفها ابتكاراً اجتماعياً، ووسيلةً لسبر مواقف (وميول) الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمعات، حيث يمكنهم التعبير فيها عن رأيهم الصريح في القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية التي تهمّهم، وتمسّ قضايا حياتهم، لكن هذا التقليد الهام لا يحتلّ مع الأسف مكانته المطلوبة في بلداننا العربية، على الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت جهوداً ومحاولات لتعزيزه، بغية الاستفادة منه لإيجاد رأي عام، الذي تعمل الأنظمة العربية على كبْته وتغييبه، بالنظر إلى دوره في ممكنات تحقيق الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وبناء دولة حديثة، تتّسع لمجموع مواطنيها.

يأتي الاستطلاع فيما تستمرّ حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وتتواصل معها معاناة الفلسطينيين وآلامهم، فيما يشعر غالبية أبناء الشارع العربي بأن دولهم لم تقدّم المطلوب، وعليه جاء الاستطلاع غنياً بالأرقام والمؤشّرات والدلالات التي تعكس مواقف الشارع العربي وآراءه حيال الحرب الإسرائيلية والقضية الفلسطينية، بالابتعاد عما تسوّقه الأجهزة الإعلامية والدعائية للأنظمة العربية، التي لا تعكس الواقع في البلدان العربية بأي حال، الأمر الذي يشكّل مادّة خام أولية وغنية للباحثين المهتمين بمعرفة آراء الشارع فيها بشأن إسرائيل، وحرب الإبادة التي تشنّها منذ أكثر من ثلاثة أشهر على غزّة، وحول القضية الفلسطينية، التي تعمقت مركزيتها لدى الغالبية مع نشوب هذه الحرب، حيث اعتبر 97% من المستجيبين أنهم يشعرون بضغط نفسي بدرجاتٍ متفاوتة، نتيجة للحرب، بل إن 84% قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير، ما يعني أنهم يتعاملون مع هذه القضية قضية ضاغطة، وتمسّهم بشكل مباشر. كما تدلّل المتابعة الشديدة من المستطلعين لوقائع الحرب على أهميتها بالنسبة للمواطنين العرب، حيث إن 80% من المستطلعين يداومون على متابعة أخبار الحرب، مقابل 7% قالوا إنهم لا يتابعونها، لكن هذه المتابعة لا تقتصر على قنوات التلفزيون، التي لا تتجاوز نسبة متابعيها 54%، مقابل أن نسبة 43% تتابعها على شبكة الإنترنت. إضافة إلى أن 92% من المستطلعين اعتبروا أن القضية الفلسطينية هي قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. واللافت أن هذه النسبة أصبحت غير مسبوقة لدى مقارنتها بنتائج استطلاعات سابقة، حيث ارتفعت من 76% في عام 2022 إلى 92% مع الحرب الإسرائيلية على غزّة، وارتفعت النسبة بشكل ملحوظ في بعض البلدان، ففي السعودية ارتفعت من 69% إلى 95%، وفي المغرب ارتفعت من 59% في عام 2022 إلى 95%، وفي مصر من 75% إلى 94%، وكذلك الأمر في معظم البلدان العربية الأخرى.

إن كان من غير الممكن في هذه العجالة استعراض جميع الأرقام والمؤشّرات التي وردت في الاستطلاع، إلا أن من المهم الوقوف على بعض المؤشّرات الهامة، والمعبّرة، التي تعكس فهم الشارع العربي ما يجري ومطالبه، خصوصا في ما يخصّ الانقسام الحاصل بين المواقف الرسمية والرأي العام تجاه ما يمكن أن تقوم به الأنظمة العربية من أجل إيقاف الحرب، فالمستطلعون لم يطالبوها بحشد الجيوش والتدخل عسكرياً، بل اعتبر 36% منهم أن الإجراء الأهم الذي يمكن أن تتّخذه حكومات بلادهم قطع علاقاتها مع إسرائيل، أو إلغاء عمليات التطبيع معها. إضافة إلى أن 89% من المستجيبين رفض أن تعترف حكومات بلدانهم بإسرائيل، مقابل 4% فقط يوافقون على ذلك. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن نسبة الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل ارتفعت من 84% في استطلاع أجري عام 2022 إلى 89% في هذا الاستطلاع، لكن المعبّر جداً أن هذا الرفض لم يأت على خلفية دينية أو عرقية أو ثقافية، بل أرجع رافضو الاعتراف بإسرائيل معارضتهم إلى جملة من العوامل والأسباب السياسية الموضوعية، التي يعود معظمها إلى الطبيعة الاستعمارية والعنصرية والتوسعية لدولة الاحتلال، ما يعني أن الرأي العام في غالبية البلدان العربية يرى في إسرائيل المصدر الأكثر تهديداً لاستقرار المنطقة وأمنها، ولن يعترف بها ما دامت دولة استعمارية استيطانية توسّعية، لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. وبالتالي، من الصعب عقد اتفاقيات سلام معها. ويلتقي هذا الرفض الواسع للاعتراف بإسرائيل مع حقيقة أن إسرائيل، وخصوصا قوى اليمين المتطرّف فيها، هي من رفضت (وما تزال) العيش بسلام مع الشعب الفلسطيني والجوار العربي. وكان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، على يد أحد متطرّفيها، الدلالة الأكثر تعبيراً عن رفض قطاعاتٍ واسعةٍ في المجتمع الإسرائيلي مسار السلام الذي بدأ مع اتفاقيات أوسلو، وعن جنوح إسرائيل نحو التطرّف والتمييز العنصري، ووصول قوى وشخصيات لا تؤمن إلا بإبادة وتهجير الفلسطينيين إلى سدّة الحكم فيها.

اللافت أيضاً أنه مقابل عدم الرغبة في انخراط الدول العربية في الحرب، طالب 14% من المستجيبين للاستطلاع حكومات بلادهم بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة من دون موافقة إسرائيل، فيما لوحظ أن غالبّيتهم لم تطالب الدول النفطية العربية باستخدام النفط كسلاح ضاغط من أجل وقف الحرب، إذ طالب فقط 11% منهم بهذا، من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، فيما طالب 9% بضرورة إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل، الأمر الذي يفيد بأن غالبية العرب باتوا غير مقتنعين بإمكانية استخدام النفط والغاز سلاحا لاعتباراتٍ عديدة.

————————

ماذا قصد بلينكن بعدم توسيع الحرب؟/ فاطمة ياسين

14 يناير 2024

كانت جولات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في الشرق الأوسط بعد هجمات 7 أكتوبر، الأوسع له في المنطقة، فقد شملت، بالإضافة إلى إسرائيل، دولا عربية، كالأردن وقطر والسعودية والإمارات ومصر، ولكنه توقّف في إسرائيل أولا، واستمع بحرقة إلى شاهدة عيان تحمل جنسية مزدوجة إسرائيلية أميركية نجت من هجمة “حماس” في ذلك اليوم، وهي تصف باكية ما جرى لها. أبدى بلينكن تعاطفا جارفا مع إسرائيل، وقال بحماس مخاطبا نتنياهو: قد تكون قويا بما يكفي للدفاع عن نفسك، ولكن طالما أن أميركا على قيد الوجود لن تكون مضطرّا إلى ذلك، سنكون دائما هنا إلى جانبك.. كان خطابا قويا وجدّيا، فقد أمدّت أميركا إسرائيل بالسلاح، وبدعم غير محدود في مجلس الأمن، وكانت ممانعتها قوية لمحاولات فرض وقفٍ لإطلاق النار. وفي زيارته الرابعة، وتضمّنت الدول السابقة نفسها (والبحرين)، كرّر بلينكن موقفه المساند للحرب الإسرائيلية في غزة، مع إشارة إلى رغبة الولايات المتحدة في تهدئة الموقف، من دون أن تخفي خشيتها المبدئية من تمدّد الصراع ليشمل دولا أخرى، وقد كان هو نفسه يهرع إلى المنطقة بعد كل تصعيدٍ يُخشى منه امتداد الصراع.

كانت موضوعات رحلة بلينكن الأولى ضمان اقتصار الحرب على غزّة ودعم إسرائيل إلى أقصى حد، ولكن ثلاثة أشهر مرّت على الحرب، من دون أن تقدّم إسرائيل تصورا لنهايتها، وترغب الولايات المتحدة في وضع ترتيباتٍ لما بعدها، ولذلك علا صوت بلينكن متحدثا عن إعادة الإعمار وعن دور بعض دول الإقليم في إدارة القطاع، بما يعني أنه يرى نهايةً قريبة للحرب، وجاء ليرتّب سيناريو ما بعد توقّفها. ضمّن بلينكن كلامه في هذه الزيارة حديثا عن دولة فلسطينية، وحديثا عن حلّ الدولتين الذي كان يعتبر تقليدا قديما يعود إلى أيام قرار التقسيم، لكنه اختفى من الأفق السياسي فترة، ويعود حاليا على لسان كبير الدبلوماسية الأميركية، ويُكرّر على مسمع رئيس الوزارة التي تعتبر الأكثر تطرّفا في تاريخ إسرائيل. لهجة بلينكن جديدة نوعا ما، وتختلف بمحتوياتها عما كان الوزير يأتي به في زياراته السابقة قبل أربعة أشهر.

لم تُخف الولايات المتحدة، منذ اليوم الأول للحرب، خشيتها من اتّساع الصراع، وبدت غير راغبة في الدخول مسلّحةً إلى الإقليم مرة ثانية، بعد أن شهدت السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين دخولا مجلجلا للقوات المسلحة الأميركية في المنطقة، وجاهدت بعد ذلك طوال عقد كامل محاولةً الخروج، وقد نفذت انسحابات عدة، مع إرسالها إشاراتٍ عن عدم الرغبة في العودة. لذلك بذل كبير الدبلوماسية الأميركية كل ما يستطيع، ليجعل الحرب مقتصرة على غزة، ويطرح حلولا بسقوف شديدة الارتفاع، وعلى مسمع من الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ليخفّف من جنونها ورغبتها في مزيد من الحرب، ما دفعها إلى اتباع تكتيك جديد بتسجيل نقاط حاسمة أمام حزب الله، عندما قتلت، وفي قلب مربعه الأمني، واحدا من قيادات “حماس” في الخارج، ثم عادت لتقتل قيادات أخرى في جنوب لبنان. وتدرك إسرائيل أن اغتيالاتٍ من هذا النوع لا تؤثر على شكل المعركة، إنما يمكنها أن تثير حزب الله ليعطي حجّة تشعل الحدود كلها.

غادر بلينكن المنطقة، منهياً زيارته الرابعة، وما زال صدى كلماته عن إعادة الإعمار وإعادة بناء غزة، مع إظهار حرصٍ على المدنيين، وحرص أكبر على عدم التوسيع، ليستيقظ العالم في اليوم التالي على خبر الهجوم الواسع الذي طاول مواقع عدة للحوثيين في اليمن، ومع تهديدٍ عالي اللهجة بعدم التعرّض لأمن مضيق البحر الأحمر، شريان التجارة الهام، ويبدو بعد هذا التوسيع الفعلي الذي طاول إلى أبعد نقاط الصراع أن علينا انتظار زيارة بلينكن الخامسة، لنتمكن من إعادة قراءة ما قاله.

————————————

الصحافيون الفلسطينيون في الميدان/ بشير البكر

12 يناير 2024

بتنا نحفظ أسماء أغلب الصحافيين الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، ومن لم يرسخ اسمه وكنيته في الذاكرة صار وجهه مألوفا. نعرف تفاصيل كثيرة عنهم، بما في ذلك ما يخصّ عائلات بعضهم. من أي قرية أو حي، وإلى أي مكانٍ تهجّروا. منهم من استشهد بعض أفراد عائلته، كما مراسلي قناتي الجزيرة وائل الدحدوح، والعربي أحمد البطّه. ومنذ 7 أكتوبر وهم يعيشون معنا، نجدهم بانتظارنا كلما أدرْنا جهاز التلفزيون وجلسنا أمام الشاشة كي نتابع أخبار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة. وكي نتأكّد من وجودهم جميعا على قيد الحياة في كل يوم، ننتقل من محطّة إلى أخرى، وننتظر لتتبدّل الوجوه بين رجال ونساء. نعرف بعضَهم من متابعتنا خلال الأعوام الماضية للحروب والمواجهات في عموم فلسطين، ولكن الأغلبية العظمى من الذين غطّوا هذه الحرب نتعرّف إليها جيدا للمرّة الأولى، وصاروا أقرب بكثير من كل الحروب السابقة. ووجدنا أمامنا وجوها جديدة من الشبان والشابات، الذين دخلوا ميدان التغطية التلفزيونية منذ وقت قريب، وهم يتمتّعون بحيوية ملحوظة وإلمام وافٍ بمجريات الحدث وأبعاده السياسية والعسكرية، والقدرة على نقل صورة مفصّلة عن التطورات المتسارعة.

ومن ملاحظاتٍ مهمةٍ يمكن تسجيلها أن الجيل الجديد من الصحافيين الميدانيين الفلسطينيين متمكّن من الأدوات الخاصة بنقل الصورة وتوصيلها. ويشكل هذا الفريق الكبير ذخيرة مهمّة، تكوّنت في ميدان المعركة. بعضهم مراسلون حربيون وسياسيون في الوقت نفسه، وآخرون محللون وخبراء في الشأنيْن الفلسطيني والإسرائيلي، وبالتالي وصلت الصورة إلى الخارج متكاملة على مدار الوقت وخلال ثلاثة أشهر. وبفضل هولاء، الذين لم يتعبوا من مطاردة الأخبار، جرى، أولا، التغلب على خطّة إسرائيل للتعتيم على الحدث، وتصدير رواية واحدة إلى العالم تناسبها، تلك التي تقدّم 7 أكتوبر عملية إرهابية، قام بها مقاتلون فلسطينيون ضد مدنيين إسرائيلين، وقتلوا خلالها الأطفال والنساء والشيوخ، وهو ما تكشّف لاحقا أنه كذب وتلفيق من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وفريقه.

والمسألة الثانية التي نجحت فيها التغطية الإعلامية نقل صورة الوضع في غزّة التي عملت إسرائيل على منعها بشتى الوسائل، ومن ذلك عدم السماح لوسائل الإعلام بدخول القطاع، وفرض رقابة مشدّدة، تمنع نشر الموضوعات وبثّ التقارير التلفزيونية الخاصة بالحرب قبل عرضها على الرقابة العسكرية الإسرائيلية. ونجح المراسلون الميدانيون الفلسطينيون في قنوات تلفزيونية، مثل العربي والجزيرة، في إظهار حجم الدمار الهائل في البنى التحتية الفلسطينية، وتغطية المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في المشافي والمدارس، وفي أكثر من مكان بحقّ المدنيين الفلسطينيين. ومن النتائج المهمة لذلك تحفيز بعض وسائل الإعلام الأجنبية على كسر جدار المنع الذي وضعته إسرائيل، والوصول إلى قطاع غزّة، وتقديم تقارير جيّدة عن آثار الحرب ومعاناة المدنيين الفلسطينيين، وساهم ذلك في تحريك الرأي العام العالمي للتضامن مع غزة.

الكلفة عالية التي تحملها الكادر الإعلامي الفلسطيني، الذي يغطّى هذه الحرب، ومنهم من دفع حياته، حيث تجاوز عدد من استشهدوا من الصحافيين 103، ومنهم من فقد بعض أفراد عائلته. وحين ننظر إلى وجوههم على الشاشات نجد أن التعب بلغ بهم مبلغا كبيرا. يبدو بعضهم شاحب الوجه، وآخرون فقدوا من أوزانهم نتيجة ساعات العمل الطويلة، والمعاناة في الميدان العسكري، والقلق على أفراد العائلة الذين استُشهدوا أو تهجّروا، وهناك مسألةٌ لا تقبل النقاش، أن استهداف بعضهم ليس مصادفة، بل مقصود، والسبب انزعاج إسرائيل من الصحافيين الفلسطينيين في الميدان.

——————————–

سورية القريبة الغائبة كأنها في غيبوبة/ دلال البزري

11 يناير 2024

صحيفة الوطن، الموالية لبشّار الأسد: مانشيت عريض لـ”مسؤولين” يزورون البطريركية الأرمنية للتهنئة بعيد الميلاد الشرقي، وتحته صورتان كبيرتان للأسد بعدما “أصدر” مشاريع قوانين إصلاح إداري وتنظيم عمل الاتحاد الوطني لطلبة سورية. ومن بعدها، صلوات وقداديس أيضا لعيد الميلاد الأرثوذكسي ودعوات محبّة، وأخبار “محلية” عن هجمات “النصرة”، و”أنشطة اتحاد الفلاحين” والتكاليف الباهظة للامتحانات، ومقالات رأي عن المشكلة الاقتصادية، وخطَط السعادة وقارئة الفنجان… وكخبر متوسّط، في الأسفل، عن رد حزب الله على اغتيال صالح العاروري، و”انتصاراته” ضد إسرائيل. ومن بعده، ستة أخبار “دولية عربية”: اثنان منها عن الحرب الدائرة في غزّة. وواحد تكرار لـ”انتصارات” حزب الله.

موقع “عنب بلدي” المعارض يختلف من حيث المضامين، ولكنه ينسجم مع العناوين. مشغول بزيادة سعر البنزين، بدرعا والقصف عليها، بمخيّم الهول في الحسَكة، بالاشتباكات على الحدود مع الأردن، بالكهرباء التي لا قطع غيار لها، بالنفايات في مدينة إدلب، بقصف إدلب بصواريخ النظام. ومقالات الرأي ثلاثة: عنوان الأول “لقطات العالم الرياضي”، والثاني عن اللجوء السوري في لبنان، والثالث عن الشبّيح وتقلباته. وفي الآخر، أخبار غزّة ثلاثة وحسب، وذات عناوين قريبة إلى العمومية. أي أنه يمكنك أن تجد تفاصيل أكثر جدّية منها في أية صحيفة أجنبية غير متخصّصة بالشأن الفلسطيني.

أما التقرير السنوي الذي أعدّه خبيران في الموقع نفسه، وعنوانه “2024 ماذا يحمل لسوريا؟”، فيتناول كل ما حصل في العام الماضي في سورية من أحداث جديرة بالتوقف: الملف الاقتصادي، الغلاء والتضخم والفقر، زلزال 6 شباط، توقّف مسار التقارب السوري التركي واحتمالات عودته، الانفتاح العربي على بشّار الأسد، والشروط التي لم ينفذها: المخدّرات، اللاجئون، النفوذ الإيراني. وتوقف مفاوضات أستانة بعد عشرين جولة، وانتفاضة محافظة السويداء ضد بشّار الأسد، وحملة “تحرير الشام”، ضد العملاء والجواسيس، وانشقاقات في داخلها، ومواجهات مسلحة بين “قسد” الكردية وعشائر تسمّي نفسها “مجلس دير الزور العسكري”…. كل هذا الحشد من أحداث العام الماضي، ولا كلمة واحدة عن الحرب على غزّة.

القصد من هذا العرض الموجز أن الحرب الراهنة ليست حاضرةً تماماً في أذهان السوريين، معارضة وموالاة، كما هي حاضرة في لبنان أو الأردن أو فلسطين نفسها… ناهيك بالعالم أجمع. حتى أصحاب الرأي من السوريين، خصوصاً المعارضين منهم والمهجّرين من بلادهم، تجدهم يكتبون عنها، ولكن بنفس خاص. بعضُهم مثلاً لا يشبه المرحلة: يستخدم عبارات تقليدية تقدّمية، ولا يبدو أن رأيه تطور، أو تعدّل بعد خفوت هذه العبارات. مثل آخر، كاتب يعتمد زاوية حيوية، وهي المقارنة بين وحشية الأسد بحقّ السوريين ووحشية إسرائيل بحق الفلسطينيين. ولكن فكرته تستحق الذهاب بها إلى مدى أبعد من ذلك، ولا تبقى عنواناً عريضاً.

الحرب على غزّة القريبة تبدو وكأنها حاصلة في ديار بعيدة عنها، رغم تماسّها المباشر معها. تعطي سورية انطباعا بأنها غير مبالية، عائشة في فقّاعة، مغلقة على نفسها، لا تؤثر عليها أحداث محيطها، في نوع خاص من الغيبوبة عن حدثٍ هو في صميم عقيدتها: سورية “قلب العروبة النابض”، التي كانت ممسكة بقضية فلسطين، وبأصحابها، وبالسجن الرهيب الذي يحمل اسمها، والذي كان يُدكّ فيه الفلسطينيون “الخونة، المتخاذلون”، العاصون لها. “قلعة العروبة”، التي استرزقت طوال عقود من “الكنز” الفلسطيني، مثل نبتة طفيليّة، ها هي غائبة عن أهم حدث فلسطيني بعد النكبة، سوف يغيّر وجهها ووجه المنطقة. والأصعب أن أحد أنشط أطراف الحرب في غزّة، هو مثل الأسد، من صميم محوره الممانع، صاحب “وحدة الساحات” ضد إسرائيل.

أين عقل سورية الآن؟ أو، أين أرض سورية؟ لم تَعُد سورية مالكة قرارها. أو على الأقل حاكمها بشّار لم يحفظ إرث أبيه بالإمساك بالخيوط الضامنة لبقائه. أصبحت خارجة عنه، لأنها واقعة تحت أنواع من الاحتلالات تتعامل مع هذا الإرث لحسابها الخاص، أو تبتدع بدلاً منه. فيما فلسطين تحتلّها إسرائيل، ولبنان تحتلّه المليشيات الإيرانية، هل نحتاج إلى إعادة التذكير بمحتلّي سورية؟

الاحتلال الإيراني ذو الأشكال الأكثر تنوّعا من غيره: الحرس الثوري، ومليشيات إيرانية، أنجحها حزب الله، ووظيفتها الدفاع عن كرسيه. يليه الروسي ذو القواعد المبهمة الذي أنقذ بشّار من عجز مليشيات إيران في وقف زحف الثورة عليه. وقد انشغل أخيرا بقصف إدلب بالطائرات. ثم إسرائيل التي لا تكتفي باحتلال هضبة الجولان، فتُغير دورياً على مطارَي حلب ودمشق، وثكنات وذخائر إيرانية. وجديد “إنجازاتها” أخيرا اغتيال المسؤول الرفيع في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي. ومقابل هضبة الجولان في الجانب السوري، ترى في هذه الأيام أيضا حشوداً مليشياوية إيرانية، تحاول أن تقوم بما لا نعلمه تماماً، أو أنها لا تريد أن نعلم. ثم الأردن. لا تنسَ الحدود الأردنية، حيث لم تتوقف الاشتباكات بين الجيش الأردني ومهرّبي المخدّرات من جماعة الأسد وشركائه من حزب الله… وذروة عمليات التهريب حصلت منذ أيام، عندما أغارت الطائرات الأردنية على المهرّبين. وتركيا في الشمال، وأولويتها الأكراد. تليهم “جيوش” المعارضة، على حدودها الجنوبية، المنشقّة والمتفقة، ومشاريع تبديل سكاني للاجئين… والأميركيون وقواعدهم على الحدود مع العراق، الوحيدون الذين أعلنوا عن عدد جنودهم: تسعمائة جندي أميركي، في التنف، في ريف حمص، والشدادي في ريف الحسكة، وعملياته، أخيرا، ضد “المقاومة الإسلامية”، وهي مليشيات إيرانية، عراقية سورية لبنانية.

متصدّع. كيان متصدّع. لم يعُد يملك الطاقة ليسيطر على اللعبة الإقليمية. حساباتُه صارت خارج فلسطين. واقعه أيضاً. بين ضرورات الاستمرار على قيد الحياة، خارج سورية وداخلها، وبين هذا التشتت في القضايا، في تنوّع معالمها، في تناقضاتها، في التعقيد الذي تضعه على أي محاولة لوضع منهج أو تصوّر للتعامل معها… تضيع سورية وتتشقّق. كأنها لم تعد بلداً، أو دولة. صارت موزاييك من الجماعات أو الجيوش أو الدول، لكل منها حساباتها، لا تدخل سورية من بينها. إلا لحماية بشّار الأسد من السقوط، تأمينا لاستمرارها.

وإذا عُدنا إلى تاريخ قريب، لتلمّس شيءٍ مما يمكن أن يخبئه، فليس أمامنا إلا واقعة واحدة: حافظ الأسد، مورِث بشّار، استولى على السلطة بعدما هُزم في حرب 1967. الآن، يحتاج ابنه بشّار إلى درجة عالية من التبصّر لكي لا تطيحه تلك التشكيلة من الاحتلالات، التي أحالت “السيادة الوطنية” إلى قاموس الغرائب.

ولكن الدور الوحيد المُتاح له، الدور الوحيد الممكن، والذي سيكون في خدمة “وحدة الساحات” الممانعة، أن يساهم في أي اتفاق محتمل، بين حزب الله وإسرائيل، يقضي بانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، فيعلن بشّار أن هذه الأخيرة ليست لبنانية، إنما سورية، أو العكس: إنها لبنانية لا سورية. حسب ما تمليه مصلحة أصحاب الأدوار الأولى من هذا الاتفاق، لو حصل…

—————————–

أسئلة أثارتها الحرب على غزّة/ مروان قبلان

10 يناير 2024

لا تحجُب التفاصيل اليومية للحرب الإسرائيلية على غزّة، على دمويتها وقساوتها، تداعياتٍ كبرى تتبلور على الساحة الدولية بصورة متزايدة نتيجة لها. من الدول والحكومات إلى مراكز الأبحاث والتفكير، مروراً بالشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى، يبدو العالم منغمساً تماماً، هذه الأيام، في محاولة الإحاطة بتلك التداعيات، وما تركته من آثار على جملة كبيرة من القضايا والموضوعات، تبدأ بمستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث صارت إمكانية تحقيق حلّ سياسي أبعد من أي وقت مضى، فيما تبقى احتمالات اتّساع المواجهات لتشمل ساحاتٍ أخرى في المنطقة قائمة وحقيقية.

إذا اختارت إسرائيل هذا، يجري، في هذه الحالة، التركيز على الانعكاسات على الاقتصاد العالمي (خصوصاً سلاسل التوريد، وأسعار السلع الأساسية)، في سنة انتخابية عالمية بامتياز، حيث يشهد نحو 50 بلداً انتخابات عامة رئاسية أو برلمانية (الولايات المتحدة، الهند، بريطانيا… إلخ). من القضايا التي تثير اهتماماً أيضاً اختلاف رؤيتنا إلى كيفية خوض الحروب الحديثة، في ضوء التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة في غزّة وصمودها الكبير في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، إضافة إلى بروز دور الفاعلين من غير الدول (قوى، تيّارات، جماعات، فصائل، … إلخ)، باعتبارهم قوى مؤثرة في النظام الدولي قادرة على خوض الحروب وتحدّي أجندات القوى الدولية الكبرى وخربطتها (عطلت حركة حماس مثلا توجهات الولايات المتحدة لتقليص التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط لصالح التركيز على الصين وروسيا، وأضرّت بفرص التقارب الأميركي الإيراني الذي بدأ باتفاق تبادل الرهائن في سبتمبر/ أيلول الماضي).

يجري البحث أيضاً في صدقية أطروحة “المجتمع الدولي”، التي يقول أصحابها بوجود جملة من القيم والمبادئ والأعراف التي طوّرتها الدول عبر العصور وتلتزم بها، بما في ذلك قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني، والأعراف والمواثيق الدبلوماسية، وانعكاسات الفشل في دفع إسرائيل إلى احترامها في غزّة، لا بل والتواطؤ معها، على التعامل المستقبلي بين الدول والمجتمعات في حالات السلم والحرب.

في ضوء صراع السرديات المحتدم، يبحث كثيرون في الأهمية المتزايدة لما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي، وفقدان الإعلام التقليدي دوره لصالح الإعلام البديل وشركات التكنولوجيا الكبرى. تثير الاهتمام أيضاً التغييرات الكبيرة على صعيد الرأي العام العالمي والفجوة الجيلية التي ما فتئت تتسع، خصوصاً بين جيل الألفيّة (الجيل Z) والأجيال السابقة، وتأثيرات ذلك المستقبلية على سياسات الحكومات، خصوصاً في دول الغرب “الديمقراطي”. من القضايا التي يجري البحث فيها أيضاً انكشاف هشاشة العالمين العربي والإسلامي وعجزهما عن الدفع نحو وقف الحرب على غزّة، والتصدّي لسياسات القوّة التي تتبعها إسرائيل، وانعكاس ذلك، مع انتشار صور المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ويجري بثها على الهواء مباشرة، على تفكير جيل كامل من الشباب العربي يأسى لعجز حكوماته عن الفعل، فيما تلتهب مخيّلته إعجاباً بصمود مقاومة مواردها محدودة في مواجهة جيشٍ يملك مقدّرات هائلة، ويتلقّى دعماً من أكبر قوة في العالم.

من القضايا التي يجري التركيز عليها أيضاً صعود أهمية الموانئ والممرّات البحرية في حركة التجارة الدولية وسلاسل التوريد، ونقل الطاقة، في ضوء تزايد التوتّر في البحر الأحمر نتيجة الهجمات التي يقوم بها الحوثيون على السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل أو المرتبطة بمصالحها. وقد دفع ذلك إلى تشكيل تحالفٍ بحري دولي جديد لحماية حركة السفن بقيادة الولايات المتحدة التي توشك على التورّط في حربٍ كانت مهتمّة أكثر بإنهائها (اليمن). جذب هذا الأمر أيضاً قوى خارجية إلى المنطقة، ونقصد هنا تحديداً الهند، التي باتت تبحثُ عن دورٍ أكبر بحجّة حماية الممرّات البحرية.

يجري البحث هنا أيضاً في دور الحرب في غزّة في إعادة تشكيل علاقات دول المنطقة، ومن أبرز الأمثلة التي يجري استحضارها هنا انكشاف مقدار التقارب الإسرائيلي الهندي في الرؤى والمواقف والسياسات، الأمر الذي يثير مخاوف إيران التي كانت تُراهن على الهند في مساعدتها للتحول إلى قطب تجاري دولي عبر ميناء تشابهار الذي تشرف الهند على تطويره، وممرّ شمال – جنوب الذي تروّجه إيران ويربط الهند عبر آسيا الوسطى بروسيا وشمال أوروبا.

منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كان واضحاً أن شيئاً مهماً قد تغيّر، لكن التغيير المقصود قد يكون أكثر عمقاً مما كنّا نعتقد.

————————

حرب غزّة والحروب والصراعات الموازية/ عبد الباسط سيدا

09 يناير 2024

بالتزامن مع الحرب الهمجية التي تخوضها حكومة نتنياهو المتطرّفة على المدنيين الفلسطينيين، ولا سيما الأطفال والنساء، في قطاع غزّة، وحملات التنكيل والاعتقال في الضفة الغربية، والتهديد بإمكانية توسيع رقعة الحرب على المستوى الإقليمي، هناك جملة حروب موازية، منها شبه علنية تتمظهر نتائجها في العمليات الخاصة والاغتيالات التي طاولت قادة في فصائل “محور المقاومة” في سورية ولبنان والعراق واليمن، وحتى في إيران، ومنها سياسية تتلخص في ممارسة الضغط في الغرف المغلقة عبر حوارات مباشرة، أو غير مباشرة، بين مختلف الأطراف المنخرطة، أصالة أو وكالة، في الفوضى العنيفة التي تشهدها المنطقة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فهناك جهود أميركية دبلوماسية مكثفة تشمل تقنيات التهديد والترغيب، تهدف إلى منع توسيع نطاق العمليات العسكرية، وتلحّ على ضرورة المحافظة على قواعد الاشتباك المتّبعة.

ولعل الزيارات المكرّرة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بالإضافة إلى المسؤولين الأميركان الآخرين، إلى جانب اتصالات الرئيس جو بايدن نفسه مع زعماء في دول المنطقة، بل وزيارته لإسرائيل في الأيام الأولى التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، وتأييده العدوان الإسرائيلي العنيف على غزّة، كل هذه الزيارات والاتصالات المعلنة، وعلى الأرجح هناك غير المعلن، تؤكّد عدم وجود رغبة أميركية حالياً تجاه منع اندفاع الأمور نحو مزيد من التصعيد، وخصوصا أن أميركا بدأت تستعد للانتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ومن الواضح أن الجانب الأميركي يحاول، بشتى السبل، المحافظة على وضعية التفاهمات الضرورية، ولو في حدودها الدنيا، مع إيران لتجاوز عام الانتخابات بأقل الخضّات الممكنة، ولا سيما أن انتخابات هذا العام تشهد انقساماً حادّاً داخل المجتمع الأميركي، سواء ضمن أوساط مؤيدي كل حزب أم على صعيد التنافس الشديد بين المؤيدين لكل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، والمراهنين على فوز هذا الحزب أو ذاك.

وما يُستشفّ من المؤشرات المتوفرة، بخصوص الانتخابات الأميركية، أن المنافسة ستكون بين كل من بايدن وترامب. ولكل منهما نقاطه الضعيفة المتمثلة في التهم الموجّهة إليه، ومن جهة التشكيك في مدّة أهليتهما العامة للتعامل مع التحدّيات التي ستواجهها الولايات المتحدة في المرحلة القريبة المقبلة. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق الوضع الأوكراني، والنزاع مع الروس، والمنافسة الاقتصادية الشديدة مع الصين، وموضوع إجراء مراجعة شاملة لآفاق الحل في الشرق الأوسط بعدما تبنّى ترامب فكرة تطبيع العلاقات الثنائية بين إسرائيل والدول العربية عوضاً عن الحلّ الشامل، وإعلان الموافقة الأميركية على اعتبار المناطق المتنازع عليها جزءاً من الدولة الإسرائيلية، في تناقض صارخ مع قرار التقسيم نفسه عام 1947، ومع موضوع حلّ الدولتين، وقد توافق ذلك كله مع هوى اليمين الإسرائيلي، ولا سيّما المتطرّف الذي يبني شعبيّته، ويقدّم تصوّره لمستقبل إسرائيل بناء على الماضي المتخيَّل الذي يتجاهل الوجود الفلسطيني، ويعتقد أن الأموال قادرة على تطبيق الخطط التي تتجاهل المشاعر، ومن دون الأخذ بالاعتبار تزايد الحجم والوعي الفلسطينيين، إلى جانب تجاهل تنامي شعور الاعتزاز بالهوية الفلسطينية، خصوصا عند الأجيال الشابة، التي تتمسّك بتلك الهوية، وتبدي استعدادها للتضحية في سبيلها بمختلف الأشكال.

وفي الوقت ذاته، لم تعد خافية على أيّ متابع مهتم ماهية وحجم الانقسامات التي تخيّم على القوى المجتمعية والسياسية الإسرائيلية، بل ضمن الحكومة نفسها بين وزراء تحالف نتنياهو والجيش والمؤسّسات الأمنية. ويوحي ذلك كله بحدوث اضطرابات سياسية ستحدُث بعد انقشاع غبار المعارك، وارتفاع الأصوات المطالبة داخل المجتمع الإسرائيلي بالمساءلة والمحاسبة. وعلى الأرجح، ستكون هناك حالة مشابهة على الجانب الفلسطيني، رغم المشاعر العاطفية الجيّاشة التي تساهم اليوم في تأجيل إظهار تململ الناس ورغبتهم في مساءلة المقصّرين عبر انتخابات نزيهة شفافة تكون مدخلاً لاختيار قيادة فلسطينية جديدة وطنية جامعة قادرة على التعامل مع المهام المنتظرة المنسجمة مع المصالح الفلسطينية الوطنية. أما المصالح الخاصة لهذا الفريق أو ذاك، أو حتى لهذا الشخص أو ذاك، التي قد تتوافق مع توجّهات (وحسابات) هذا المحور أو ذاك، هذا التوجه الإقليمي أو ذاك، فهي لا ترتقي في جميع الأحوال إلى مستوى المطلوب الاستثنائي في مرحلة مفصلية لا تتحمّل التسويف أو التضليل عبر التلاعب بعبارات عامة، هلامية، تقول كل شيء ولا تقول شيئاً في الوقت نفسه.

إلى جانب الحروب المكشوفة والمستترة التي تعيشها منطقتنا، ومناطق أخرى، هناك منافسة اقتصادية شديدة بين الصين والولايات المتحدة في التكنولوجيا المستقبلية، وميادين العمل والطاقة بمختلف أشكالها والتسويق، فهناك اليوم حديث عن استشكافات جديدة لاحتياطيات جديدة من الغاز والنفط في المنطقة، وفي أماكن كانت تُعدّ سابقاً خالية من مكامن الطاقة، ويُشار هنا إلى لبنان وفلسطين وإسرائيل وسورية وتركيا. هذا إلى جانب التنافس الصيني والهندي بشأن مهمة القيام بدور المصنع العالمي لإنتاج المنسوجات والألبسة الجاهزة والمنظفات إلى جانب الصناعات الإلكترونية الدقيقة وغيرها من تلك المنتوجات التي يمكن أن تنتجها الدولتان بتكاليف أقل، ولكنها تساهم في تلوّث البيئة، لذلك ترى الدول الغربية، بالدرجة الأولى، أن إنتاجها بعيدا عنها يكون أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، وأقلّ ضررا بالنسبة إليها من ناحية البيئة. فالصين التي قامت بهذا الدور منذ عقود، وكانت تتهيأ لدور أكثر تقدّماً من خلال مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها في 2013، وتمكنت بالفعل من الامتداد عبر سياسة شراء العقارات والمواقع والشركات في أفريقيا وآسيا، وحتى في أوروربا وأميركا، فوجئت بوجود خطّة  منافسة أعلن عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في اجتماع الهند لدول مجموعة العشرين (سبتمبر/ أيلول 2023)، تحت اسم مشروع “الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، الأمر الذي أربك الصين، ودفع بها نحو اعتماد خياراتٍ تصعيدية، ورفع لهجة التهديد بخصوص تايوان، كما فعلت سابقاً بخصوص هونغ كونغ، وليس من المستبعد أن تعود إلى الدفاتر القديمة من أجل كهربة الأجواء مع كوريا الجنوبية واليابان.

ورغم التوافق على إدارة الخلافات بين الجانبين الأميركي  والصيني، ولا سيما في سان فرانسيسكو بين الرئيسين الأميركي جو بادين والصيني شي جين بينغ على هامش قمّة التعاون الاتقاصدي لدول آسيا والمحيط الهادي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، إلا أن التنافس الحادّ موجود، والقوى الداخلة فيه من الجانبين تمتلك إمكانات كبيرة من الموارد البشرية والمادّية والتكنولوجيا العصرية.

ومن الواضح أن بوتين ينتظر، من ناحيته، تصاعد الاضطرابات والخلافات بين مختلف القوى الدولية والإقليمية التي يعتبرها من القوى غير الصديقة. وهو يراهن على عاملي الوقت والاستنزاف، هذا إلى جانب تداخل الحسابات، وارتفاع شعبية القوى اليمينية المتطرّفة في الدول الأوروبية، الغربية منها والشرقية. ولعلنا لا نذيع سراً إذا قلنا إنه في شوق إلى عودة ترامب رئيساً للبيت الأبيض، لعًله يكون ملهماً وسنداً للقوى العنصرية المتطرّفة التي يعتبرها بوتين جزءاً من طابوره المنتظر في الغرب، هذا رغم حرصه الظاهر على إبداء التعاطف مع الفلسطينيين في الحرب الإسرائيلية عليهم، كما أظهر تعاطفه الشعوبي مع المسلمين في أثناء عمليات حرق المصحف في السويد، وعدة دول أوروبية. مع معرفتنا جميعاً أن دخول قواته إلى سورية لم يكن له أن يتم لولا الموافقة الإسرائيلية، ولولا التفاهم الروسي الإسرائيلي على القواعد المطلوبة لحماية الحدود مع إسرائيل من أي منغّص راهن أو مستقبلي.

الحرب التي تجري في المنطقة هي بالوكالة، تنفذها الأذرع الإيرانية تحت شعار نصرة أهل غزّة، وهو كلام حقّ يراد به باطل. فما تقوم به مليشيات الحوثي من عمليات تهديد للملاحة الدولية في البحر الأحمر، وما تُقدم عليه قوات الحشد الشعبي (العراقي) في سورية من انتهاكات بحقّ السوريين المناهضين لحكم سلطة آل الأسد، إلى جانب تحكّم حزب الله بالقرار اللبناني، بعدما عطّل الدولة إلى إشعار آخر، يتم ذلك كله لمصلحة الحسابات الإيرانية التي يبدو أنها لم تكن هذه المرّة دقيقة تماماً، وهذا ربما ما يُستنتج من الضربة التي تلقّتها إيران في كرمان، حيث تعرّضت مجموعة كبيرة من المسؤولين الذين كانوا قد توجّهوا إلى قبر قاسم سليماني لإحياء الذكرى الرابعة لمقتله بفعل ضربة مسيّرة أميركية بناء على أمر من ترامب.  … وفي المقابل، هناك رسائل متبادلة بين الجانبين الإيراني والأميركي، عبر الوسطاء، الغرض منها قطع الطريق على التصعيد، والاكتفاء بواقع التصريحات النارية، والعمليات الاستعراضية الإبهارية التي لا تخرج عن نطاق دائرة رفع العتب، وذلك للاستهلاك المحلي.

هل ستستمرّ لعبة التصعيد على مستوى الأذرع التي يختبئ خلفها المنسق العام؟ وما هي الأهداف المتوخّاة في نهاية المطاف؟ هل ستتوافق دول المنطقة، في نهاية المطاف، على وضع حد لما جرى ويجري حفاظاً على الموارد البشرية والمادية؟ هل سيكون هناك تعاون إقليمي جاد لترسيخ وضع جديد في المنطقة أساسه الأمن والاستقرار، ومكافحة الفساد والآفات الناجمة عنه، مثل المخدّرات والتطرّف والإرهاب؟ سيفتح تحقيق كل ما تقدّم الطريق واسعاً أمام شبابنا وأجيالنا المقبلة نحو التعليم والعمل والإبداعات النوعية في مختلف الميادين، وعلى سائر المستويات.

—————————–

=====================

القدس العربي

—————————-

غزة وعالم الامتيازات والحل الفاشي/ ياسين الحاج صالح

22 شباط 2024

منذ بدء حرب التعذيب الإسرائيلية في غزة قبل أربعة أشهر ونصف، سيطرت المقاربات الحقوقية لتمثيل أوضاع القطاع المنكوب، فصار يجري الكلام على جينوسايد أو على جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ترتكبها إسرائيل بحق فلسطينيي غزة (والضفة الغربية). وهذا أمر مفهوم لأنه يتوافق مع الاستناد إلى القانون الدولي ضد المعتدين، ويساعد في حشد الانفعالات المضادة للجرائم الإسرائيلية. وبينما لا تستبعد اللغة الحقوقية حتماً تضمينات سياسية لجولة الصراع الجارية، ويتكلم كثيرون اليوم على حل الدولتين أو قيام دولة فلسطينية من نوع ما، فإن هناك مفهوما سياسياً، أنسب لشرح ما يجري دون أن يكون غير حساس حقوقياً: مفهوم الفاشية. ما نراه في غزة هو الحل الفاشي، التدمير الكلي لمجتمع تجاسرت قطاعات منه على توجيه لطمة قوية للسادة أصحاب الامتيازات الذين يحظون باستثناء مستمر من العدالة والقانون الدولي، منحه لهم أصحاب امتيازات أرسخ قدماً، أهمها امتياز السيادة في تقرير الاستثناء أو تعليق القانون (كارل شميت): القوى الغربية. الفاشية هي الحل الذي يلجأ إليه السادة أصحاب الامتيازات في مواجهة تمردات التابعين الذي يزعمون أن لهم حقوقاً ويطلبون المساواة. والإبادة مكتوبة سلفاً في أي مشروع فاشي من هذا الصنف، وإن أخذت شكلاً ممتداً وبارداً، وليس حتماً مشتداً وساخناً مثل أشهر الإبادات المعروفة. بوصفها سيادة ممتازين رافضين جوهرياً للمساواة، تتضمن إسرائيل في كيانها بالذات إبادة الفلسطينيين.

يحدث أن نقول إن إسرائيل لن تنجح قط في سحق الفلسطينيين، وأن مقاوماتهم مستمرة بعد 76 عاماً من إقامة الكيان، وأزيد من قرن من بدء المشروع الصهيوني. هذا بطبيعة الحال ليس خبراً طيباً لإسرائيل وشركائها، لكن هناك خبرا ليس طيباً للجميع في العالم إن لم يكن ذلك صحيحاً، أي إن تمكنت إسرائيل من سحق مقاومات الفلسطينيين وتحويلهم إلى نثار بشري بائس، دون السياسة ودون الحقوق؛ ومضمون هذا الخبر هو أن الفاشية تنجح، أن المشروع الفاشي فعال وناجع، بل أنه الحل. ألم نر ذلك في سوريا يا ترى؟ لقد كان الحل ناجحاً ومضى بلا عواقب، رغم أنه جرى بأسلحة محرمة دولياً وباستهداف نسقي للمدنيين والمرافق المدنية، حتى أن إسرائيل بالذات تتمثل به، وتجد في أن يحظى ركيك مثل بشار الأسد بمثل هذه الرخصة، وينكر عليها هي شيء مماثل، أمراً شاذاً (في واقع الأمر، إسرائيل بالذات كانت وراء الرخصة للحكم الأسدي، مفضلة إياه على أي بديل، بشهادة دورها في الصفقة الكيماوية الأمريكية الروسية في أيلول 2013).

وما يجعل خبر نجاح الفاشية الإسرائيلية سيئاً للجميع هو إمكانية تعمم الحل الفاشي عالمياً في مواجهة أزمة الديمقراطية الليبرالية المتفاقمة وفي غياب بدائل تحررية، تعالج أزمة الديمقراطية من يسارها. نرى منذ سنوات تراجع تيارات الوسط أمام صعود اليمين القومي والديني والحضاري في بلدان الغرب المركزية. الاستراتيجية التي تعتمدها هذه التيارات في مواجهة اليمين المتطرف هي تبني عناصر من لغته وبرنامجه المضاد للمهاجرين واللاجئين، من أجل الفوز عليه في الانتخابات. المحصلة هي انزياح السياسة بمجملها نحو الانتخابات، وانزياح المشهد الانتخابي بمجمله نحو اليمين، دون النجاح بعد هذا كله في إضعاف قوى اليمين التي تصير بالعكس جزءاً طبيعياً من المشهد السياسي، بعد أن كانت على هوامشه البعيدة المتطرفة. وهذا لأن قوى اليمين هذه هي المدافعة الأصلب عن نظام الامتيازات داخل بلدان الغرب ضد المهاجرين والملونين الباحثين عن فرص حياة، النظام الذي تعمل من ضمنه تيارات الوسط ويسار الوسط على الصعيد العالمي، وتغيب مساءلته بقدر كبير من أفق التفكير والممارسة. التناقض البنيوي لعالم اليوم يتمثل في أن نظام القوى القائدة في العالم يقوم على الامتياز لا على الحق، وعلى الاستثناء لا على القانون، وهو ما يثير مقاومات تمثل غزة مثالاً مُوضَّعاً، مخبرياً تقريباً، عنها، وعن الحل الفاشي في مواجهتها. من شأن اتساع مقاومة نظام الامتيازات، وهذا غير مستبعد لأن مئات ملايين البشر يجدون أنفسهم مهمشين فيه، أن يدفع إلى تفجر الكوامن الفاشية في النظام على يد تيارات اليمين الصاعدة، أو على يد قوى «المينستريم» ذاتها. ولا يبدو أن ذلك يواجه اليوم بمعارضات تحررية نشطة، رغم أصوات فكرية وأكاديمية شجاعة. بالعكس، إذا كانت غزة مثالاً يستأنس به، فقد رأينا نموذجاً غير مشرف للوقوف صفاً واحداً وراء حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، دون أن يشعر أحد بضرورة قول شيء مماثل عن الفلسطينيين ما دام الأمر يتعلق بحق، وما دام جوهر الحق هو عمومه أو قابليته للتعميم. ذلك أن ما لا يقبل التعميم، ما يقتصر على بعض الأطراف، هو امتياز وليس حقاً. وهذا ما نقوله، وما نقول إنه نظام وقاعدة مستقرة، وليس استثناء أو حدثاً طارئاً. ولأنه كذلك فإن الفاشية والحكم بالإرهاب أقدر على الدفاع عن هذا النظام من ديمقراطية لا تكف عن التراجع إلى آلية انتخابية، وتضمحل فيها الفروق السياسية بين التيارات المختلفة.

أوضاع عالم اليوم تبدو قريبة من أوضاع ما بين الحربين، وبخاصة بعد أزمة أواخر العشرينيات الاقتصادية، والصعود الفاشي الذي أعقبها. قد نكون في وضع مماثل بفعل الأزمة الذاتية للديمقراطية الليبرالية في بلدان الغرب، والمثال الفاشي الذي تضربه إسرائيل (والهند قبلها) وصعود انفعالات عالمية مضادة لعالم الممتازين بشهادة التضامن المتصاعد مع فلسطين في كل مكان، والقضية التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.

ولا وجه لأن يقال إن النجاح في تدمير المجتمع الفلسطيني غير ممكن، فنحن نراه بأعيننا، مرعياً من قبل القوى الغربية بالسلاح والمال والإعلام، والمشاركة البشرية والتكنولوجية المباشرة. وليس إلى جانب الفلسطينيين سند عربي فاعل، بل هو أقرب إلى سندان، ينحشرون بينه وبين المطرقة الإسرائيلية. ألم نر للتو تقريباً تدمير المجتمع السوري؟ ألا نراه مستمراً اليوم؟ صحيح أنه يقف إلى جانب فلسطين متضامنون دوليون، بمن فيهم دول بعيدة، وهذا بحكم كون أعداء فلسطين عالميي العالم، سادته وأكابره ونجومه، خلافاً لأعداء السوريين الذين يبدون للبعض، بالأحرى، جبهة ضد أولئك السادة (وهذا في غاية البطلان). لكن جبهة داعمي فلسطين الدولية، على أهليتها الأخلاقية الرفيعة، ليست في وضع يؤهلها لوقف التدمير الجاري للمجتمع الفلسطيني.

منطقتنا التي تشكل حقل تجريب للحل الفاشي مدعوة مثل غيرها على الأقل إلى المساهمة في مواجهة عالم الامتيازات وأزمة الديمقراطية الليبرالية على أساس من عمومية الحق، وليس مواجهة نظام امتيازاتهم بنظام امتيازاتنا نحن مثلما هو طابع مقاومات الإسلاميين، ومثلهم وأكثر الروس والإيرانيون، المسؤولون أكثر من غيرهم عن تدمير سوريا.

لسنا في وضع طيب من أجل مواجهة عالم السيادة والامتيازات. الواقع أننا في أسوأ حال منذ الحقبة الاستعمارية أي خلال قرن، ويبدو إقليمنا بالأحرى خاوياً من طاقة التجدد الروحية والأخلاقية، أي طاقة الحرية. وهذا ما يحكم على أي مقاومات جسورة من جهتنا بأن تبقى عقيمة، أو حتى أن تندرج في ترسيخ أوضاع التعفن والإفلاس الفكري والسياسي والأخلاقي الذي نغرق فيه. لكن هذا موضوع آخر، ويدعو إلى مناقشة أخرى.

كاتب سوري

—————————-

حول «اليوم التالي» و«حل الدولتين»/ بكر صدقي

22 شباط 2024

بصرف النظر عن الأفكار التي تطرح هنا وهناك حول «اليوم التالي» على انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، فلا شك أنه سيُظهِر قبل كل شيء حجم الكارثة التي حلت بتلك المساحة الصغيرة، قطاع غزة، وسكانها المنكوبين بعشرات آلاف القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعطوبين، وحجم الدمار في المباني والبنى التحتية. بالمقابل سينكشف حجم الخسائر الحقيقية في صفوف قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تبذل حكومة نتنياهو كل جهودها للتخفيف منها، تجنباً لتصاعد ردود الفعل في الرأي العام ضدها. قطاع غزة أصبح منذ الآن مكاناً غير قابل لعيش من سينجو من المقتلة من سكانها، ولا يعرف ما إذا كانت الدول المرشحة لتمويل وتنفيذ إعادة إعماره قادرة على ذلك، وما الفترة الزمنية التي يحتمل أن تستغرقها. أما الخسائر البشرية فهي لا تعوّض بطبيعة الحال.

مع ذلك لا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي تبلغ فيه الضغوط الخارجية والداخلية على الحكومة الإسرائيلية حداً ترغم معه على وقف آلة قتلها والجلوس إلى طاولة مفاوضات للتوافق على شروط سياسية لحل ما مؤقت قبل نضوج شروط غير متوفرة حالياً لحل دائم.

اللافت أن المتحدثين عن «اليوم التالي» يقفزون عموماً إلى فكرة «حل الدولتين» باعتباره حلاً دائماً ينهي الصراع الذي ولد مع نشوء الكيان الإسرائيلي وتفاقم باطراد بفعل الدعم الذي تتلقاه دولة الاحتلال من أقوياء العالم ويدفعه إلى مزيد من التصلب في مواجهة حق تقرير المصير للفلسطينيين. وسبب هذا القفز، في رأيي، هو أن أي حل مؤقت لا بد أن يكون أحد طرفيه حركة حماس الموصوفة من قبل إسرائيل والدول الداعمة بأنها حركة إرهابية، ويترتب على أي تفاوض معها اعتراف ضمني بها كأحد ممثلي الشعب الفلسطيني، وربما الممثل السياسي الوحيد لقطاع غزة إذا أخذ كوحدة سياسية بذاته.

والحال أن التفاوض مع الحركة يجري طوال الوقت، بوساطة قطرية ـ مصرية، وإن كان محصوراً في موضوع الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها. وإذا كان «اليوم التالي» سيتضمن ترتيبات سياسية ترضي الحد الأدنى من مطالب الطرفين، فلا يمكن التوافق عليها بمعزل عن حركة حماس، بما في ذلك وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لدى الطرفين المتحاربين، وطبيعة الحوكمة أو الجهة التي ستتولى إدارة الشؤون العامة في قطاع غزة بعد الحرب.

الأحلام المتطرفة لنتنياهو وحكومته في تجريف القطاع من سكانه، بعد قتل أكبر عدد ممكن منهم، وإرغامهم على النزوح إلى صحراء سيناء، لا تبدو واقعية بالنظر إلى الشروط الدولية القائمة والتحولات المهمة في الرأي العام العالمي على رغم الدعم المطلق الذي ما زالت إسرائيل تتمتع به. فطول أمد الحرب والفظاعات التي ترتكبها القوات الإسرائيلية على مرأى العالم، وعدم تحقيق النتائج المتناسبة مع الأهداف الخيالية (تدمير حركة حماس وتحرير الأسرى) ولا حتى الاقتراب من تلك الأهداف، هي عوامل غير مساعدة لإسرائيل على مواصلة حربها واستمرار الجهات الداعمة لها في التغطية السياسية عليها بزعم «حقها في الدفاع عن نفسها».

ولا تبدو الإدارة الأمريكية المنشغلة باستعداداتها لاستحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة في الخريف، و«الحرب الباردة» مع بكين وموسكو، جاهزة هي نفسها لليوم التالي في غزة، بمعنى أنها لا تملك تصورات مكتملة عن الصورة السياسية التي تريدها في القطاع بعد الحرب. فهي تطرح «أفكاراً» لا تجد صداها في الواقع السياسي، كاقتراح أن تتولى السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إدارة شؤون القطاع بعد الحرب، الأمر الذي رفضته كل من السلطة نفسها وحماس وإسرائيل، كل لأسبابه الخاصة. السلطة الفلسطينية طرحت، بالمقابل، «حكومة تكنوقراط» غير منتمية سياسياً، وهو ما لن يلقى قبولاً لدى حركة حماس التي تعتبر نفسها السلطة الشرعية في قطاع غزة، وإن كانت على وعي من أنها لا يمكن أن تعود إلى السلطة بعد الحرب وكأن شيئاً لم يحدث. ولا نعرف ما قد يكون دائراً من نقاش داخلي داخل القيادة السياسية للحركة بشأن دورها في المرحلة التي ستلي انتهاء الحرب الدائرة. فزلزال سياسي بحجم هذه الحرب المدمرة لا بد أن يهز القناعات السياسية داخل الحركة ويدفعها إلى إجراء تغييرات كبيرة في فكرها وبرامجها وممارستها السياسية والعسكرية.

أما في إسرائيل فحكومة نتنياهو المتطرفة ليست لديها أي تصورات سياسية لما بعد الحرب. هذا ما نراه من تصريحات قادتها الذين لا يتحدثون إلا عن «مواصلة الحرب» بلا أي أفق سياسي غير تكرار وجوب تدمير حماس وتحرير الأسرى بلا مقابل! في حين أن حربها تدمر المباني وترفع أعداد القتلى المدنيين الفلسطينيين باطراد، بما في ذلك مقتل بعض الأسرى الإسرائيليين، في وقت تواجه فيه تهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة الجنايات الدولية.

في مواجهة استحقاقات اليوم، وضبابية اليوم التالي الموصوفة أعلاه، تقفز بعض الدول إلى طرح فكرة «حل الدولتين» من خلال «تهديد» إسرائيل بالاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية مستقلة. وإذا كان هذا الاعتراف المحتمل بذاته يشكل، إذا حدث، مكسباً سياسياً لا شك فيه، لكنه لن يتجاوز قيمته المعنوية ما لم يرتبط بضغط جدي على إسرائيل يرغمها على القبول به. والحال أن نتنياهو نفسه قد تنصل من هذا الاستحقاق ويطلق تصريحات يومية حول رفضه قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، وهو ليس وحيداً في إسرائيل في هذا الرفض، بل تشاركه فيه معظم الطبقة السياسية.

الدولة الفلسطينية التي في تصور الإدارة الأمريكية، هي على أي حال «دولة» منزوعة السلاح، منقوصة السيادة، متعاونة أمنياً مع إسرائيل في «مكافحة التطرف» أي أنها لا تتجاوز نوعاً من الإدارة البلدية لشؤون السكان على جزء صغير من أرض فلسطين. حتى تحقيق «حل» من هذا النوع يحتاج إلى توافقات دولية وإقليمية في وقت تتصاعد فيه الصراعات في كلا الدائرتين.

كاتب سوري

—————————

الـ PEN الأمريكي: بلسان كيربي/ صبحي حديدي

18 – فبراير – 2024

حتى ساعة كتابة هذه السطور تجاوز العدد 600 توقيع على رسالة مفتوحة إلى الفرع الأمريكي من رابطة الكتّاب الدولية PEN International، تطالب المنظمة باتخاذ موقف أكثر قوّة تجاه الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، كما تدين «صمت» الفرع عن «الصحافيين والكتّاب والشعراء الذين قتلتهم إسرائيل». الموقعون على الرسالة يعملون في ميادين الكتابة الأدبية المختلفة في الولايات المتحدة، ولا مفاجأة في أنّ غالبية ملموسة بينهم تنتمي إلى أصول أفرو – أمريكية بالنظر إلى أنّ هذه الشريحة تحديداً تتصدر مظاهر الاحتجاج على حرب الإبادة الإسرائيلية.

والرسالة المفتوحة تلك لم تعبّر عن واحدة من طرائق الاحتجاج العديدة فقط، بل كانت أيضاً ردّ فعل طبيعياً إزاء تخلّف الفرع الأمريكي عن اللحاق بمواقف الغالبية الساحقة من فروع الرابطة على نطاق عالمي، وفي أوروبا على وجه الخصوص؛ بحيث لاح، تباعاً ومنذ ابتداء العدوان الإسرائيلي، أنّ الـPEN الأمريكية أشبه بجزيرة منعزلة عن التيار العامّ التضامني لكتّاب العالم بأسره، من جهة أولى؛ وأنه من جهة ثانية، يكاد ينسخ خطاب التبرير الذي تعتمده الإدارة الأمريكية أو مجموعات الضغط المناصرة لدولة الاحتلال هنا وهناك في الولايات المتحدة.

والرسالة لا تبدو متسامحة أو تصالحية مع الفرع الأمريكي حين تبدأ سطورها الأولى هكذا: «نطالب الـPEN بالردّ على تهديد إسرائيل الإبادي بحقّ أرواح الكتّاب في فلسطين، وضدّ حرّية التعبير في كلّ مكان. ونطلب من فرع أمريكا بياناً رسمياً بصدد 225 شاعراً وكاتباً مسرحياً وصحافياً وباحثاً وروائياً قُتلوا في غزّة، وتسمية قاتلهم: إسرائيل، الدولة الصهيونية الاستعمارية التي تموّلها حكومة الولايات المتحدة». وتمضي فقرة لاحقة إلى نبرة أشدّ إدانة: «تواصل PEN أمريكا إدامة حالة دولة – أمّة فاشية، وبات هذا خطيراً على نحو خاص بالنظر إلى أنّ المنظمة بالغة الحرص على تعريف المواطنة الأدبية وحرّية التعبير. فأية حرّية هذه التي تحميها الـPEN إذا كانت، بمعزل عن البيانات الصحافية المدفونة على الموقع، قد التزمت الصمت إزاء صحافيين وكتّاب وشعراء قتلتهم إسرائيل؟».

وفي التطرّق إلى عواقب ثقافية وتربوية وتعليمية مباشرة ناجمة عن حرب الإبادة الإسرائيلية، لم تغب عن الرسالة نبرة السخرية من معايير الفرع الأمريكي المزدوجة، فقالت فقرة أخرى: «نطالب الـPEN بأن ما تتحلى به من حماسة وحمية حول حظر الكتب في الولايات المتحدة يجب أن تبديه أيضاً وبصراحة إزاء النفوس البشرية الفعلية في فلسطين. وإذْ تصعّد PEN أمريكا حملتها ضدّ حظر الكتب وحرّية التعبير داخل الجامعات على امتداد الولايات المتحدة، فإنّ قوى الاحتلال الصهيوني خرّبت أو دمرت 372 منشأة تعليمية، بما في ذلك كلّ جامعة، ومكتبة غزّة البلدية التي خدمت كمركز ثقافي ومكتبة للأطفال. هذا إلى جانب استهداف الفنانين والشعراء والكتّاب».

الفاضح أنّ ردّ قيادة الفرع الأمريكي على هذه الرسالة المفتوحة كان إصدار بيان يقول: «نأمل في أنّ المفاوضات متعددة الجنسيات الجارية الآن سوف تقود إلى وقف إطلاق للنار متفق عليه، وإنهاء الضربات القاتلة، والتوصل إلى قرار يمكن أن ينقذ الأرواح في المنطقة، ويحفظ الثقافات الغنية والمتنوعة، ويعبّد الطريق نحو سلام دائم يتيح حرّية الإبداع للجميع». واضح بالطبع، أنّ هذه اللغة الدبلوماسية الخجولة يمكن بالفعل أن تجري على لسان جون كيربي منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي؛ وليس فرع منظمة كتّاب عالمية يعود تأسيسها إلى سنة 1921 في لندن، وحضر مناسبة إطلاقها أمثال جون غالزورذي وجوزيف كونراد وجورج برنارد شو وهـ. ج. ولز. وليست كذلك لغة منظمة تسعى إلى توطيد الصداقة والتعاون الفكري بين الكتّاب أينما كانوا، وتشدد على دور الأدب في تنمية التفاهم المشترك في عالم الثقافة، وتناضل من أجل حرّية التعبير، وتنطق بالنيابة عن كتّاب مقموعين أو سجناء وأحياناً قتلى دفاعاً عن آرائهم؛ كما تنصّ أهداف المنظمة.

وكي لا يعود المرء إلى زمن طويل مضى في صدد علاقة فرع PEN الأمريكي بالقضية الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ثمة موقف المنظمة، الخجول بدوره، حول قرار متحف إشكنازي للفنون، في جامعة إنديانا، إلغاء المعرض الاستعادي للتشكيلية الفلسطينية سامية حلبي، الذي كان من المقرر افتتاحه يوم 10 شباط (فبراير). إنها «استهانة مقلقة بحرّية التعبير»، قال بيان الفرع الأمريكي، تعليقاً على حدث يجري الإعداد له منذ ثلاث سنوات، لفنانة تبلغ من العمر 87 سنة، وتقيم في الولايات المتحدة منذ 50 سنة ونيف؛ وتمّ إلغاؤه استجابة لضغوط عضو مجلس النواب الأمريكي جيم بانكس، وبذريعة مكافحة العداء للسامية في الجامعات الأمريكية. وكلّ ما ارتفع إليه خطاب احتجاج الفرع الأمريكي على فعل الإلغاء كان إبداء الأسف لأنّ إدارة جامعة إنديانا «تحرم المجتمع الجامعي ومنطقة بلومنغنتون عموماً من فرصة معايشة وتثمين تجربة فنية نابضة ورائدة».

لا عجب، والحال هذه، أن تستخلص الرسالة المفتوحة: إذا كان الفرع «عاجزاً عن الارتقاء إلى مهمته في الحماية وتوفير المنبر ومنح الصوت لأولئك الكتّاب الذين تُعرّضهم للتهميش قوى شائنة، فخير له أن يحلّ نفسه»؛ أو على الأقلّ، ألا يقول همساً وحياءً ما يجب أن يُقال عالياً صريحاً.

—————————-

نانسي بيلوسي حول غزّة: مكارثية الدرجة 3/ صبحي حديدي

15 – فبراير – 2024

لعلّ المرء غير مضطر للاحتكام إلى الطبّ النفسي، فكيف بالمعطيات الأبسط لتأويل الخبل والخرف، كي يسائل هذا الحكم الجامع المانع القاطع: أنّ المتظاهرين في أمريكا ضدّ سياسة البيت الأبيض تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي عموماً، وبصدد حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة خصوصاً؛ ومثلهم دعاة وقف إطلاق النار، بذريعة تأمين احتياجات إنسانية قصوى مثل الغذاء والماء والدواء والوقود والمسكن؛ ليسوا سوى… عملاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين!

ولا يزيد بلّة في طين هذا التفكير المسطح المعوّج سوى حقيقة أنّ قائلته ليست سوى نانسي بيلوسي، عضو مجلس النوّاب الأمريكي عن الحزب الديمقراطي منذ العام 1987، وأوّل امرأة تتبوأ رئاسة المجلس في تاريخ أمريكا وتبقى فيه سنوات 2007 حتى 2011، ثمّ 2019 حتى 2023. ورغم أنّ المكارثية، تراث السناتور الشهير جون مكارثي الذي ساد الولايات المتحدة ابتداء من 1950 وحتى 1954، عقدت محاكم تفتيش لأولئك الذين اتُهموا بالشيوعية؛ فإنّ لجوء بيلوسي إلى اتهام بوتين بالوقوف خلف تظاهرات الرفض لسياسات بايدن/ نتنياهو، وللمجازر الإسرائيلية استطراداً، لا يستدعي مناخات تلك الحقبة السوداء الفاضحة لأسباب على صلة بالمحتد الروسي/ السوفييتي سابقاُ فحسب. ثمة، في جهاز التفكير الذي يدير عقل بيلوسي وأحكامها، جذور وأصول وربما بعض «جينات» ترتدّ إلى 74 سنة خلت في الحوليات الأمريكية.

هنا ما ذكرته بيلوسي في حوار مع محطة CNN الأمريكية: «أن يطالب هؤلاء بوقف إطلاق النار أمر يعني نقل رسالة السيد بوتين. لا تخطئوا، هذا مرتبط مباشرة بما يحلو له أن يراه. الشيء ذاته بخصوص أوكرانيا. إنها رسالة بوتين. وأنا أقول هذا بعد أن تفحصت الأمر طويلاً». وحين تسألها المذيعة إنْ كان بعض المحتجين المناهضين للحرب هم من «المزروعين» تجيب بيلوسي: «بذور أم زرع، أعتقد أنه يتوجب التحقيق في بعض التمويل. وأودّ أن أطلب من مكتب التحقيقات الفدرالي أن يتولى ذلك».

وحين اعترضت منظمات سياسية وحقوقية مشاركة في تلك الاحتجاجات، لم يتراجع مكتب بيلوسي عن الاتهام، ووزّع النصّ التالي: «لأنها عليمة عبر ثلاثة عقود من العمل في لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس النوّاب، فإنّ رئيسة المجلس عالية الإدراك لكيفية تدخل الخصوم الأجانب في السياسة الأمريكية بهدف بذر الشقاق والتأثير على انتخاباتنا، ويهمها أن ترى المزيد من التحقيق على أعتاب انتخابات 2024». والحال أنّ التاريخ لا يسجّل ذهاب مكارثي إلى هذه الدرجة من الحضّ على توريط مكتب التحقيقات الفدرالي، في مزاعم واهية مضحكة مثل تلك التي ساقتها بيلوسي، دون أن تكترث بتقديم أيّ برهان، أو حتى خيط دليل، على ما تقول.

هذه خلاصة تبيح الافتراض بأنّ بيلوسي لم تنتهج مكارثية «أصيلة» بمعنى أن تكون وفيّة في المعايير الدنيا لذلك التراث البغيض؛ بل اختارت الدرجة 3، في أفضل تقدير، من ذلك الهوس المَرَضي بتأثيم العالم الخارجي المتربص دائماً وأبداً بأمن الولايات المتحدة ومصالحها، وتلفيق نظريات المؤامرة على النحو الأشدّ استخداماً للهراء المحض.

لكنها تتجاهل، عامدة بالطبع إذْ لا يعقل أنها تجهل، حقيقة أولى أشارت إلى أنّ 10 فقط في مجلس النوّاب الأمريكي المؤلف من 435 عضواً؛ وافقوا على أيّ تحقيق بصدد انتهاكات دولة الاحتلال الإسرائيلي لحقوق الإنسان خلال حرب الإبادة على قطاع غزّة. حقيقة أخرى تتقصد بيلوسي إغماض العقل عنها، هي أنّ 61٪ من عموم الأمريكيين، و76٪ من أنصار الحزب الديمقراطي؛ يؤيدون وقف إطلاق النار.

فإذا وضع المرء جانباً أعراض الخبل والخرف، في اتهام المحتجين على الحرب بالعمالة للرئيس الروسي، فإنّ موازين بيلوسي بصدد الانحياز الأعمى لدولة الاحتلال ليست ثقيلة ومثقلة فقط، بل هي بدورها تقترب في كثير أو قليل من التفكير التخبّلي، إذا جاز اشتقاق كهذا. ففي سنة 2019، ومن سدّة رئاسة مجلس النوّاب تحديداً، خرجت بيلوسي بهذه المعادلة: «قلت لبعض الناس حين سألوني، لو أنّ مبنى الكابيتول هذا صار ركاماً على الأرض، فالأمر الوحيد الذي سوف يبقى هو التزامنا بالمساعدة إسرائيل، وإنني أيضاً لا أطلق عليها صفة المساعدة، بل التعاون. هذا أمر جوهري يخصّ هويتنا ومَن نكون». ولأنّ هذه السطور أتت على ذكر الجينات في هوس بيلوسي الإسرائيلي، هنا ما قالته أواخر تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، خلال خطبة تصويتها لصالح قرار مجلس النواب 771 المؤيد لدولة الاحتلال: «قبل 80 سنة، من منصة هذا المجلس، كان والدي عضو الكونغرس توماس دأليساندرو من ماريلاند قد دعا إدارة روزفلت لدعم تأسيس دولة إسرائيل في ما كان آنذاك يُعرف باسم فلسطين. كانت دعوته تلك مبكرة، ولهذا فإنّ حماية دولة إسرائيل كامنة في جيناتي».

ثمة، إلى هذا، مورّثات من طراز آخر يقود سلوكيات بيلوسي، وإنْ كان يفضي في نهاية المطاف إلى مراقصة أنظمة الطغيان والاستبداد والفساد، بعد نظام الاستيطان والتمييز العنصري والأبارتيد؛ ثمّ الجمع بينهما في سلّة واحدة، لا يكون التناقض مادّة تشكيلها. ففي نيسان (أبريل) 2007، قامت بيلوسي بزيارة دمشق والاجتماع مع رأس النظام السوري بشار الأسد؛ وأعلنت من هناك أهداف مبادرتها تلك: «جئنا من موقع الصداقة، والأمل، والتصميم على أنّ الطريق إلى دمشق هو طريق إلى السلام» و«ليست لدينا أوهام، بل أمل كبير» لمحادثات سوف تتركز على «محاربة الإرهاب». رئيس حكومة الاحتلال يومذاك، إيهود أولمرت، لم يتأخر في فضح الأكذوبة؛ ودافعه في ذلك كان اعتبارات إسرائيلية ـ إسرائيلية أساساً، فأعلن أنه لم يحمّل بيلوسي أية رسالة إلى الأسد، لأنّ النظام السوري يظلّ في تقدير الحكومة الإسرائيلية ضمن «محور الشرّ» الشهير، ذاته الذي سبق أن شخّصه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.

أكذوبة أخرى، وتالية، فضحها البيان الرسمي ذاته الذي أصدره وفد مجلس النواب الأمريكي الزائر (وتألف من توم لانتوس، هنري واكسمان، نك رحال، لويز سلوتر، وكيث إليسون) حين أوحى بأنه التقى مع «قادة المعارضة وممثلي عوائل المنشقين» ونقل لهم «اهتمامنا القوي بحالات الناشطين الديمقراطيين العراقيين أنور البني، عارف دليلة، محمود عيسى»…؛ فافتُضح عجز النوّاب الاشاوس عن التمييز بين معارضين عراقيين (كما قال البيان) وسوريين (كما أشارت الأسماء)؛ فضلاً عن عدم اكتراث مساعدي بيلوسي وصحبها حتى بتصحيح الخطأ، في سجلات المجلس لاحقاً.

ولعلّ المظهر الإضافي من هذا الولع بدولة الاحتلال، الأقرب إلى المسّ والهوس، يقتضي أن تكون بيلوسي إسرائيلية أكثر من كونها أمريكية، أو إسرائيلية أكثر من غالبية الإسرائيليين أيضاً؛ كما في الحكاية التالية التي يستطيب سردها سام لوتر، صديق بيلوسي وأحد كبار النشطاء في دعم الاحتلال: ذات يوم، خلال أحد اجتماعات «لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية» AIPAC، خلال فترة هجمات 11/9، كانت بيلوسي تلقي خطبة حين دوّت صفارات الإنذار، فساد القلق والاضطراب في القاعة، فما كان منها إلا أن أنشدت الـ»هاتيكفا» النشيد الوطني الإسرائيلي، فهدأ روع الحاضرين وانخرطوا في التصفيق.

وبالفعل، إذْ من دون مسرح مبتذل مثل هذا، أو مراقصة طاغية مثل الأسد، أو مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو، أو تلفيق اتهامات مثل عمالة لرافضي الحرب… كيف للدرجة الثالثة من مكارثية الزمن 2024، أن تتأصل في قرارة نفس بيلوسي!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

———————-

الحرب على غزة وهزيمة الإعلام الغربي/ رياض معسعس

12 – فبراير – 2024

بعد عشرين عاما من انطلاقة منصة “فيسبوك” وإنستغرام وما تلاها من منصات أخرى (تويتر أو إكس، واتس أب، ويوتيوب، تيك توك، ماسنجر، تيلغرام) أصبحت هذه المنصات ساحة للتواصل الاجتماعي كوسائل إعلامية بديلة عن الوسائل التقليدية، تسنح للمستخدمين بالتواصل و”الدردشة”، وإرسال الرسائل، ولكن الأهم من ذلك أنها أيضا تحولت إلى ساحة صراع سياسي حول قضايا معينة وتمكنت من التأثير المباشر في الرأي العام وحشد المتابعين لتأييد قضية ما تشغل موطنا معينا كما حصل في الربيع العربي مثلا وقضايا دولية أخرى تهم العالم كجائحة كوفيد، وحرب أوكرانيا، والانحباس الحراري. لكن الحدث الأبرز الذي شغل العالم أجمع منذ عملية “طوفان الأقصى” يعد من أهم الأحداث السياسية والحربية التي كان لها أكبر صدى وتفاعلا على منصات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم أجمع خلال العقدين الماضيين.

وقد أظهر هذا الحدث العالمي أن اهتمامات مستخدمي وسائل التواصل انصبت على متابعة الحدث الذي هز قناعات ملايين البشر في “بروباغندا” دولة إسرائيل التي كانت تسوق نفسها كدولة مهددة أمنيا من جيرانها، وأنها مضطرة للدفاع عن نفسها، وأن “جيش الدفاع الإسرائيلي” الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، وأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية المتقدمة الحقيقية الوحيدة بين دول دكتاتورية متخلفة تناصبها العداء.. وأن وجودها في فلسطين هو وجود على الأرض التوراتية التي وعد الله بها شعب إسرائيل..

وقد روجت هذه الدعاية وسائل الإعلام الصهيونية في معظم الدول الغربية التي تناصر إسرائيل وتدافع عنها وتهاجم كل من ينتقدها بإخراج ورقة “معاداة السامية” التي تعتبرها تخص اليهود حصريا دون غيرهم من الشعوب السامية في المنطقة.

وما لم يكن تتوقعه دولة الاحتلال، وداعموها من الدول الغربية أن حرب إسرائيل على غزة ستنقلب ضدها، فأمام مشاهد قتل الأطفال والنساء، وتهجير الفلسطينيين وتجويعهم والدمار الممنهج للمشافي ودور العبادة وللمربعات السكنية للمدنيين، ولم تفرق بين الأهداف العسكرية والمدنية، بل إن هذا العدوان كان موجهاً للأهداف المدنية في ظل عجز الاحتلال الإسرائيلي عن ضرب المقاومة الفلسطينية التي بهرت العالم بتصديها لأقوى جيش في الشرق الأوسط بمعدات حربية لا تقارن مع جيش يمتلك كل آليات ووسائل الحرب الحديثة، واستطاعت أن تكبده خسائر فادحة في العتاد والأرواح، مما جعل مئات الملايين من شعوب العالم يخرج في مظاهرات تنديد بالهمجية والبربرية الإسرائيلية وتطالب بوقف إطلاق النار، وبعبارة أخرى لقد انقلب السحر على الساحر.

نقطة التحول

نقطة التأثير المباشر لوسائل التواصل أنها أصبحت إعلاما أفقيا تشارك فيه شرائح واسعة من الناس أنشطة إعلامية فيما بينها ضمن غرف ومجموعات “فيسبوكية” في مواجهة إعلام عمودي متسلط، أي تحولت إلى منصة للأصوات التي تمارس عليها من قبل وسائل إعلام رسمية أو امبراطوريات إعلامية خاصة “ديكتاتورية إعلامية” موجهة من طرف واحد فجاءت وسائل التواصل لتقدم مساحة لحرية الرأي والتعبير والمعارضة دون رقيب. لكن حرب غزة كشفت أن الديمقراطيات الغربية الليبرالية التي تعتبر أن وسائل الإعلام هي سلطة رابعة، وتضمن لها حرية الرأي والتعبير، أن هناك من يتحكم بها أو يوجهها، وتعاقب من يخالف توجهاتها، خاصة إذا تعلق الأمر بإسرائيل، فخلال الأشهر الأربعة من الحرب على غزة ظهر الوجه الحقيقي “للإعلام المتصهين” المتستر خلف حرية الصحافة والتعامل مع الحدث بمصداقية. فعلى وسائل الإعلام التقليدية (صحافة مكتوبة، إذاعة، تلفزيون)، ظهر التحيز بشكل فاضح لتبرير العدوان الإسرائيلي على غزة، بل أن بعضها تبنى أكاذيب إسرائيل الملفقة حول “عمليات مقاتلي حماس” للاغتصاب، وقطع رؤوس الأطفال”.

وشاهدنا تهجما فظا من قبل مذيعين على أشخاص تمت استضافتهم كالتي حصلت مع الدكتور مصطفى البرغوثي في قناة “الحوار” البريطانية، أو عندما تمت المطالبة من القناة نفسها بطرد المذيعة التي ناقشت عضو الكنيست الإسرائيلي الذي طالب بترحيل الفلسطينيين إلى كندا لأنها طرحت عليه أسئلة أفحمته بها، وكذلك الأمر بالنسبة لقناة “بي بي سي” التي تظاهر الآلاف أمام مقرها ولطخوا أبوابها بمادة تشبه الدم للتعبير عن دعم القناة للمزاعم الإسرائيلية في حربها على الفلسطينيين، وفي نسخة القناة “بي بي سي عربي” قامت بالتحقيق مع 4 صحافيين بسبب تغريدات مؤيدة للفلسطينيين، واستقال منها عدة صحافيين احتجاجا على الخط التحريري للقناة. قناة “إم إس إن بي سي” قامت بطرد ثلاثة من صحافييها لأنهم قدموا صورة مغايرة عن الحرب في غزة عن تلك التي تقدمها الوسائل الغربية المؤيدة لإسرائيل، وقامت صحيفة “الغارديان” بطرد رسام الكاريكاتور الشهير ستيف بل بعد 40 سنة من العمل مع الصحيفة لأنه رسم بنيامين نتنياهو كجزار في غزة تحت حجة “معاداته للسامية”، أما قناة “سكاي نيوز” المعروفة بانحيازها الكامل لإسرائيل قامت بتضليل حقائق كثيرة حول الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في غزة وخاصة في مدرسة للأونروا.

ولا تختلف قناة “سي إن إن” عن القنوات الأخرى في معالجتها للمحتوى المتعلق بحرب غزة وتحيزها للخطاب الإسرائيلي. كما قامت مواقع التواصل الاجتماعي بإزالة ملايين المنشورات وحظر آلاف الحسابات التي تبث أخبار حرب غزة، وتلقت الشركات الكبرى لوسائل التواصل الأمريكية (ميتا، إكس) تحذيرات أمريكية أوروبية بعقوبات قانونية إذا لم تحذف أي محتوى مؤيد لحركة “حماس” في منصاتها (فيس بوك، إنستاغرام، إكس) وقد تم حذف حوالي 800 ألف محتوى خلال أسبوع من منصة “فيسبوك”، وأنها حذفت أكثر من 500 ألف مقطع فيديو، وأغلقت 8 آلاف بث مباشر مرتبط بالصراع بين إسرائيل وحركة “حماس”، بعد أيام من تحذّير الاتحاد الأوروبي. وأعلنت منصة “إكس”، حذف مئات الحسابات التابعة لحركة “حماس”، وحذف أو تصنيف عشرات الآلاف من المحتويات منذ بداية الحرب، وصرحت شركة “ميتا” أنها تقوم بتقييم متى يمكن أن نعتبر كلمة “صيهوني” بمثابة خطاب كراهية كي توسع حظر مستخدميها.

انقلاب الرأي العام

ما يميز حرب غزة عن باقي الحروب العربية ـ الإسرائيلية إعلاميا أن الحروب السابقة كانت ” الآلة الإعلامية” الغربية بالمطلق تنحاز لإسرائيل، وكذلك الرأي العام الذي خلال عشرات السنين يخضع “لغسيل دماغ” للتعاطف مع الشعب اليهودي ضحية “الهولوكست” وأن العرب يريدون رمي اليهود في البحر، ضد أي عمل يهدد أمنه، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت أن الرأي العام العالمي راح يتغير بشكل واضح، ففي بداية الحرب كانت نسبة المؤيدين للطرفين تقريبا متعادلة، لكن الكفة أصبحت تميل لصالح الفلسطينيين مع فداحة الصور التي تبث عن الجرائم المرتكبة بحقهم، وأكدت استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة الإيكونوميست أن النسبة أصبحت 4 أضعاف لصالح الفلسطينيين، وأتضح ذلك عبر المظاهرات الحاشدة في جميع أنحاء العالم التي تطالب بوقف الحرب وإنصاف الفلسطينيين.

وقد لعبت منصتا “تلغرام” الروسية و”تيك توك” الصينية دورا كبيرا باستقطاب مئات الآلاف من المشاركين من المنصات الأخرى كونهما يحافظان على المحتوى دون رقابة أو حذف، رغم التحذيرات الأوروبية، وقالت القناة 12 الإسرائيلية إن 83 ٪ من%منشورات مواقع التواصل مؤيدة للفلسطينيين، و9٪ لصالح إسرائيل، ومقالات وسائل الإعلام الدولية في مجملها تعارض حرب إسرائيل على غزة.

ويمكن القول اليوم إن هناك حربا إعلامية على مواقع التواصل موازية للحرب العسكرية في غزة، وهذه الحرب الإعلامية يشارك فيها عشرات الملايين حول العالم هزمت وسائل الإعلام الرسمية الأوروبية أو الخاصة الموجهة، نصرة للشعب الفلسطيني الذين أيقظتهم الحرب على غزة أن إسرائيل ومنذ 75 سنة لم تتوقف عن ممارسة أبشع صور الاستعمار الحقيقي للأراضي الفلسطينية، وممارسة التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، والتي حاول الإعلام الغربي بشكل عام إخفائها أو تجميلها.

 كاتب سوري

———————————-

«عقيدة بايدن»: رجيع من قديم أمريكي مكرور/ صبحي حديدي

8 – فبراير – 2024

في 2 شباط (فبراير) الحالي أبلغنا توماس ل. فردمان، على صفحات الرأي في «نيويورك تايمز» أنه لم يعد يفضّل متابعة أخبار الشرق الأوسط عبر محطة الـ CNN، وانقلب إلى المحطات التي تبثّ الأفلام عن عالم الحيوان. إيران دبور طفيلي يضع بيوضه في يرقات حية، تسارع يرقاته الوليدة إلى التهامها؛ كما يفعل «الحرس الثوري» الإيراني في لبنان واليمن وسوريا والعراق. «حماس» عنكبوت رابض على باب مصيدة، ماهر في تمويه شبكاته، وسريع في اصطياد فرائسه. بنيامين نتنياهو (ولكن ليس دولة الاحتلال، لاحظوا جيداً!) يشبه قرود السيفاكا، التي تستخدم القفز الجانبي في المشي، والتلويح بالذراعين أعلى وأسفل.

قبل يومين فقط من هذا التحوّل الحيواني، نسبة إلى عوالم فردمان المفضّلة حديثاً وليس إلى شخصه المترفع المهيب، أتتنا منه «بشرى» ثانية، لا تنظر إلى الشرق الأوسط من شاشات برامج الحيوان، بل من بدعة آخذة تدريجياً في التشكل، تُدعى «عقيدة بايدن»؛ نسبة، بالطبع، إلى الرئيس الأمريكي. ثلاثة أركان تقوم عليها تلك العقيدة: 1) موقف حازم وقوي تجاه إيران، بما في ذلك الردّ الانتقامي النشط على وكلائها ونوّابها في المنطقة؛ و2) مبادرة من الولايات المتحدة غير مسبوقة تروّج لدولة فلسطينية، تتضمن «شكلاً ما» من الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ترى النور شريطة نجاح الفلسطينيين بتطوير سلسلة من المؤسسات ذات المصداقية، والقدرة على «ضمان عدم تهديد تلك الدولة لأمن إسرائيل»؛ و3) إنشاء تحالف أمني أمريكي موسّع وعريض يشمل التطبيع السعودي مع دولة الاحتلال.

وفردمان يزعم (ومراقبون يصادقون على زعمه هذا) بأنه قريب من أفكار سيد البيت الأبيض ومشاريعه، أو هو على صلة وثيقة بكبار مساعديه، وكان قبل أيام قليلة قد حاور وزير خارجيته أنتوني بلينكن في منتدى دافوس. لهذا فثمة، استطراداً، احتمال أوّل أن تكون «العقيدة» تلك قد سُرّبت إليه، مختصَرة مبتسَرة تبسيطية، كي يتولى الترويج لها على نحو أكثر اختصاراً وابتساراً وتبسيطاً؛ واحتمال ثانٍ، مفاده أنها من بنات أفكاره، على شاكلة تفكير رغبوي أو تهيّؤ استيهامي، أو مزيج منهما معاً. ليس، في كلّ حال، من دون إدراج معيار حاسم لا ينتظم الاحتمالين معاً، فحسب، بل يحكم تسعة أعشار تقديرات فردمان في الماضي والحاضر والمستقبل: أنّ انحيازه إلى دولة الاحتلال مطلق وأعمى وعشوائي.

لا يصحّ، في ضوء ذلك المعيار، استبعاد جملة من الحوافز التي دفعت فردمان إلى ترويج، و/أو اختلاق، حكاية عقيدة بايدن المنتظَرة هذه، وفي رأسها بالطبع الانحياز الإسرائيلي إياه؛ كما لا يصحّ، إذْ لا يستقيم عقلياً، إغفال السياقات الزمنية الراهنة التي تحيط بتلك الحوافز، أو تسيّج حدودها وتقيم سقوفها أيضاً، لجهة استعصاء الفعل العسكري الإسرائيلي في القطاع بعد 3 أشهر من حرب إبادة شعواء وحشية ضارية، لم تنجز أياً من الأهداف التي أعلنها نتنياهو ساعة الصعود إلى أعلى شجرة التعهدات: لا دحر «حماس» ولا إعادة الرهائن الإسرائيليين، ولا تهجير سكان غزّة، ولا حتى… إغراق الأنفاق بمياه البحر أو الغازات الفتاكة.

صحيح أنّ انحياز فردمان إلى دولة الاحتلال ينطوي، في طياته الكثيرة المتنوعة، على رهبة خاصة تمتزج فيها مستويات الخوف والإشفاق والاصطفاف السياسي والانتماء الديني؛ الأمر الذي منعه من حَيْوَنة الكيان الصهيوني (كما فعل مع بلدان المنطقة، ومع بلده أمريكا ذاتها) واكتفى بإلقاء الصفة القِرْدية على نتنياهو وحده. ولكن من الصحيح، كذلك، أنّ حسّ الإشفاق على مآلات التدمير الذاتي التي ينزلق إليها «موطن اليهود» كان قد تملّك فردمان منذ تشكيل الائتلاف الأكثر يمينية وتطرفاً ونصرية وفاشية وأبارتيدية، ومنذ عزم نتنياهو وحلفاؤه أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترش على إحالة المحكمة العليا وخرافة «دولة القانون» إلى مزابل تاريخ الكيان.

اللهفة على الكيان الصهيوني، بوصفه «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، دفعته إلى التغنّي بخرافة أخرى ليست أقلّ إحالة إلى مزابل التاريخ الإسرائيلي عند نتنياهو وائتلافه: «الليبرالية الإسرائيلية» قشّة النجاة من غرق حثيث، والقربة التي يمكن النفخ فيها حتى إذا كانت ثقوبها لا تُعدّ ولا تُحصى. وهكذا لم يتورع فردمان عن مناشدة الرئيس الأمريكي بايدن كي يتدخل لإيقاف «تحوّل تاريخي» تشهده دولة الاحتلال: «من ديمقراطية تامّة إلى شيء أقلّ، ومن قوّة توازن في المنطقة إلى قوّة مزعزعة له»؛ حيث بايدن قد يكون «الوحيد القادر على منع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف من تحويل إسرائيل إلى معقل غلوّ غير ليبرالي». وهذه عيّنة واحدة من مسوّدة «مذكّرة» افتراضية كان فردمان يعتزم رفعها إلى بايدن لو قُيّض له هذا، وكان سيقول أيضاً إنّ دولة الاحتلال التي عرفها الرئيس الأمريكي «تضمحلّ» وتنبثق بدلاً عنها أخرى «جديدة» حيث العديد من الوزراء في حكومتها «معادون للقِيَم الأمريكية، وجميعهم تقريباً معادون للحزب الديمقراطي».

وكما في معظم «جديد» الإدارات الأمريكية المتعاقبة بصدد الشرق الأوسط، ثمة قسط أعلى طاغِ من قديم مستعاد، ليس سوى رجيع مكرور جُرّب مراراً، ولقي الفشل الذريع تلو الاندحار المريع؛ لأنه، ببساطة، كان في كلّ مرّة يتكسر على الحوافّ ذاتها التي تشحذ مصالح دولة الاحتلال، وسياسات الاستعمار والاستيطان والبطش والعنصرية والاستهتار بالقانون الدولي وشرعة «المجتمع الدولي» دون سواه. والمرء، عند خلاصة كهذه، لا يكاد يأتي بجديد خارج تلك الدائرة المغلقة التي صنعتها، وتصنعها، جدلية رسوخ القديم، العتيق المتآكل المستهلَك، في كلّ تفكير أمريكي حول الشرق الأوسط يُزعم أنه «عقيدة» جديدة!

فما الفارق، حقاً، بين أركان «عقيدة بايدن» الثلاثية، وأركان سالفة كانت حجر الأساس في «النظام الدولي الجديد» الذي سبق أن اقترحه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، عشية عمليات «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء» ومؤتمر مدريد حول السلام العربي ـ الإسرائيلي؟ وفي صياغة أخرى للسؤال، وربما التساؤل على نحو أصحّ: هل طُوي ذلك النظام؟ وإذا صحّ أنه طوي، فهل لأنّ النظام استنفد أغراضه جمعاء، ام لأنه لم يستنفد منها قسط الحدّ الأدنى، فكان محتماً أن يتآكل ويهترأ ويتفكك ذاتياً؟

ليست هذه الأسئلة ميكانيكية إلا عند الذين يعتقدون أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات حاسمة تدشن منعطفات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية، أو ما أشبها وكان منها مدانياً. وهؤلاء كانوا أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق، حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتى على حساب الشعوب؛ إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاك تلك الصادرات أم أبت!

وحسب مثل إنكليزي حصيف، يُرجَّج أنّ فردمان تعايش مع حكمته مراراً، فإنّ أكذوبة واحدة تُروّج في مكان يمكن أن تنقلب إلى 100 حقيقة مصنّعة في مكان آخر؛ خاصة حين تكون أدوات الترويج صحيفة واسعة النفوذ والسطوة مثل «نيويورك تايمز» بصدد «عقيدة» تُنسب إلى رئيس دولة يحدث أنها القوّة الكونية الأعظم. الأمر الذي لا يلغي عندنا، نحن أبناء اللغة العربية، حكمة كعب بن زهير، عن رَجيع من القول مُعاد ومكرور!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

—————————

ما يقع هو المستحيل… ماذا حدث للممكن؟/ ياسين الحاج صالح

7 – فبراير – 2024

قراءة تقرير جنوب أفريقيا المقدم إلى محكمة العدل الدولية حول احتمال ارتكاب إسرائيل لجريمة الجينوسايد يعطي الانطباع بأن ما يحدث في غزة هو المستحيل، ما يتجاوز حدود الممكن، وما يبدو استثناءً عن سير الأمور حتى عن سيرها الاستثنائي غالباً في فلسطين منذ قيام الكيان الإسرائيلي. تتكرر في التقرير عبارات عن «وضع قيامي» عن «رعب مفرط وعميق» «جحيم حي» «حرب تنطبق عليها كل أسماء التفضيل، وكل شيء فيها غير مسبوق» «غير معقول» «يتجاوز حدود التصديق» مزيج من «الموت والدمار واليأس» في «مناطق موت» ومشاهد «حمام دم» فضلاً عن تفاصيل كثيرة تثير في النفس مزيجاً من الذهول والغضب. منها مثلاً أن عدد الصحافيين الذين قتلوا في غزة خلال شهرين ونصف من حملة الإبادة الإسرائيلية يفوق ما قتل من صحافيين طوال الحرب العالمية الثانية، ومنها الشروط التي لا تطاق لعمل الكوادر الطبية في القليل المتبقي من مشاف فلسطينية (عمليات بتر بدون تخدير، استئصال أرحام نساء شابات لإنقاذ حياتهن من نزف رحمي، تعفن أجنة في أسرة مشفى بعد إجبار المشفى على الإخلاء…) ومنها قصة بالغة القسوة عن ولد من شمال غزة، مبتور أحد الساقين بفعل القصف، قضى أربعة أيام يحاول الوصول إلى جنوب غزة، تؤخره عن الوصول الحواجز الإسرائيلية…. جسده تخترقه الشظايا، ورائحة تعفن في أجزاء منه، ويبدو أنه أعمى، وتغطي الحروق فوق 50٪ من جسده» وهي في مجموعها تبدو «مشاهد من فيلم رعب».

أنقل هذه القصة المؤلمة فقط لإعطاء حس بالاستثنائية والاستحالة لما يجري من فظاعة موصولة ومكفولة دولياً، على نحو يثير تساؤلاً عما إذا كنا في عالم اليوم في نظام للواقع يقوم على أن الاستثناء هو القاعدة، والمستحيل هو الواقع، والفظيع هو المعتاد.

وما يدفع للتفكير في هذا الاتجاه هو أنه سبق لنا أن رأينا معظم ما يراه الناس في غزة اليوم، وما يغطيه تقرير جنوب أفريقيا، في سوريا، ولكن بإيقاع أبطأ. المستحيل هو الواقع في سوريا من أوجه عديدة، لا تنحصر في ضروب القتل والتدمير الرهيبة التي تثير هي الأخرى سؤال الجينوسايد، ولا في انقسام البلد إلى أربع سوريات ونيف، ولا في وجود خمس قوى احتلال والعديد من تنظيمات ما دون الدولة المسلحة العاملة في كنفها قادمة من بلدان مجاورة وغير مجاورة، ولا في لجوء ما لا يقل عن 30٪ من السوريين إلى بلدان قريبة وبعيدة، وهذا كله مع بقاء النظام الوراثي المسؤول عن هذه الكارثة محصناً ومحمياً على أنقاض بلد فقد شكله ويبدو مستحيلاً أن يعود إلى ما كان.

ومنذ سنوات، يجري البحث عن حلول الوضع السوري المستحيل في نطاق ما يسمح به المستحيل من ممكنات، وهذا خلل في المنطق والتصور لم يثمر ولن يثمر، مثلما لن يثمر أي كلام على القانون الدولي وحل الدولتين بخصوص فلسطين، هذا إلا بعد نزع الاستثنائية الإسرائيلية التي يشير إليها تقرير جنوب أفريقيا. والاسثتناء قاعدة سورية قديمة، ليس من حيث كون البلد عاش «حالة استثناء» مستمرة منذ اللحظات الأولى للحكم البعثي فقط، وإنما لأنه الاستثناء العربي الأكبر من حيث توريث الجمهورية سلالياً، فلا هو مثل السلالات في الخليج والأردن والمغرب، ولا هو مثل الجمهوريات التسلطية التي نجت من التوريث بفعل الثورات. وفي المثالين الإسرائيلي والأسدي لا يتحقق الاستثناء كقاعدة مستقرة دون عنف مهول، أو لنقل دون تطبيع الفظاعة. في سوريا أيضاً، لا حل دون نزع نظام الاستثناء الدائم.

ويبدو أن الأمر يتجاوز بكثير فلسطين سوريا، وأن سمة العصر الذي نعيشه اليوم هي تحقق المستحيل، أو تقارب المستحيل والواقع، مع هامشية متزايدة للممكن، أي المعقول الذي يتوقع حدوثه ويرتب أكثر الناس حياتهم على أساس ترجيح حدوثه. ما يحدث أكثر وأكثر هو غير الممكن، الاستثناء، خرق القاعدة، مما يعصف بعوالم أكثرية الناس، وتزدهر في ظله أقليات منهم فحسب.

ترى ماذ حدث للممكن؟ هذا الذي ربما يتجسد في «القانون الدولي» في مؤسسات الأمم المتحدة، في أصوات عقلانية وإنسانية في بلداننا وغيرها من بلدان العالم، في فكرة الديمقراطية، في أكثرية البشر من «الناس العاديين»؟ يبدو أن عالم الممكن يتهاوى كلما كان صناع العالم هم الأقوياء، مالكي السلطة والثروة والسلاح والمعلومات الأهم، مما هو الحال في عالم اليوم في كل مكان. بتفاوت دون شك، الميل العالمي العام هو في اتجاه حكم الأقوياء، عل مستوى العالم ككل وعلى مستوى البلدان المفردة. هذا ليس عالم الكدح والطبقات الأدنى أو من يحاولون التكلم باسمها، ولا هو عالم طبقات وسطى متصلة بالعمل والتنظيم والثقافة والسياسة، بل هو عالم أرستقراطيات ممتازة، تجد في قواعد مطردة وقيم جامعة ومعايير عامة وقوانين دولية، أي كل ما يميز عالم الممكن، ما يقيدها ويشل حركتها. قانون الأرستقراطية ليس الحق بل الامتياز. حين يقال إن من حق إسرائيل الدفاع نفسها، فإن القائلين يكذبون بوعي أو بدونه. فالحق لا يكون حقاً إن لم يكن عاماً، أي إن لم يكن مكفولاً للفلسطينيين، وهو ما لا يقوله أحد من داعمي إسرائيل. وفي واقع العالم اليوم، الدفاع عن النفس امتياز للقلة القادرة على المستوى العالمي وعلى المستويات المحلية. أكثرية بلدان العالم وأكثريات السكان في جميع بلدان العالم تقريباً قلما تملك القدرة على الدفاع عن النفس.

وخلافاً لما هو الحال في عالم المستحيل والاستثناء، ليس كل شيء ممكناً في عالم الممكن. يقول ديفيد روسيه إن «لا يعرف الأسوياء من الناس أن كل شي ممكن» وفي خلفية ما يكتب النازية التي جعلت كل شيء ممكناً، وحكمت بمعسكرات الاعتقال حيث القانون هو أنه ليس هناك لماذا (وهو ما عرفناه جيداً في سجن تدمر الأسدي). ليس خبراً طيباً لعموم الناس أن يكون كل شيء ممكناً، وهو حسب حنه آرنت مبدأ تقوم عليه التوتاليتارية. فقط في عالم المستحيل كل شيء ممكن، أما في عالم الممكن فهناك ما هو ممكن وما هو غير ممكن بالمعنيين الوجودي والقانوني للكلمة. فكرة القانون بالذات تقوم على الممكن، وعلى حماية الحياة من المستحيل ومن الاستثناء الدائم. وعلى الحق كحد: لا يحق لك أن تفعل كذا.

ما يطيح بمبدأ حقوق الإنسان أكثر وأكثر في العقود الأخيرة هو قيام عالم اليوم على الامتياز وحكم القوة، حيث كل شيء ممكن لمن يشغلون المراتب العليا من النظام، فيما لا يمكن للمحكومين أن يسألوهم لماذا. وأكثر ما يظهر تداعي عالم الممكن ورفض عالم الامتيازات لقواعد عامة تجمعه بغيره، بما في ذلك «القانون الدولي» هو تطرف وسوقية مواقف القوى الغربية في دعمها لحرب إسرائيل على غزة. الجماعة لا يبذلون جهداً للإقناع بأن دعمهم المفرط هذا يصدر عن قاعدة عامة، ومع ذلك يريدون من الجميع قبول منطقهم. الصادم بعد غزة هو انتقال أوضاع الامتياز إلى مستوى الخطاب بعد أن كانت واقعاً صامتاً، يترك الهيمنة لخطاب الحقوق والمساواة العالمي. حين ينتقل الامتياز إلى الخطاب لا يستطيع أن يظهر إلا فظاً سفيهاً سوقياً.

خارج نطاق القانون والحياة الاجتماعية، يمكن لفكرة المستحيل أن تكون ملهمة في الفن الذي يقوم جوهرياً على عدم الانضباط بقواعد عامة مستقرة، أو مغذية لنزعة المغامرة عند بعض الأفراد، بل يمكنها كذلك أن تعمل مصلحة العموم في الثورات، لكن لذلك بالذات الثورات أوضاع استثناء حقيقية حسب فالتر بنيامين، تقابل تحول الاستثنائي إلى قاعدة مثل أحوال اليوم (وأحوال أيام بينامين) ولأن الثورات استثناءات حقيقية فإنها لا يمكن أن تكون دائمة.

نظام الاستحالة والاستثناء القائم اليوم ليس من هذا الصنف الثوري، هو بالعكس ضد ثوري بامتياز، نظام الأقليات الممتازة الدائم.

كاتب سوري

—————————–

مشاهدات في أرض شعب الجبارين/ رياض معسعس

6 – فبراير – 2024

كان القرن العشرون، قرن مآسي العرب قاطبة، والفلسطينيين خاصة، على شفا أن يطلق أنفاسه الأخيرة، وكنت في حالة تحضير عمل استقصائي عن فلسطين ونكبة العرب بعد نصف قرن من دم ودموع.

أحداث غزة تقودني كل يوم في مشاهدها البطولية للمقاومة، والإجرامية المأساوية لدولة الاحتلال إلى مشاهداتي القديمة على أرض شعب الجبارين لأربطها بما يجري على أرض العزة.

عبرت جسر الملك حسين، وقفت في الطابور الطويل على شباك الأمن الفلسطيني فيما كان الأمن الإسرائيلي يعمل خلفه. جوازي الأجنبي سهل مروري. داست أقدامي أرض فلسطين، وكأني أدوس أرض الجنة. دلفت القدس من باب العامود، تخيلت كيف دخل منه الأيوبي وهزم الصليبيين، و”مررت بالشوارع، شوارع القدس العتيقة”، كان يوم جمعة، أمام مشهد المسجدين الأقصى وقبة الصخرة، وآلاف المصلين يقولون بعد الفاتحة: آمين تهدر في أركان المكان، وأنا أركع بينهم، شعرت كأن السماء باتت أقرب، “يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي”.

شهادة فيصل الحسيني

في بيت الشرق سجلت أول شهادة من المرحوم فيصل الحسيني. دخل عليه شيخ جليل بقامة أسطورية ولحية وعكاز وكأنه من رجالات فجر التاريخ. قال الحسيني: الشاعر الشيخ أبو عيشة بطل معركة باب الواد. تمسكت بجلبابه وقلت: أبحث عنك يا شيخ. قادني إلى هضبة خارج مدخل القدس فإذا بدبابات صهيونية قديمة طليت بلون بني، رفع أبو عيشة عكازه، وخبط على بوز الدبابة وقال: هذه التي أعطبتها، وتلك التي أعطبها الشهيد محمود، وهناك استشهد مصطفى، شعرت كأني أمام مشهد من فيلم خيالي، بعد الوصف قال: سآخذك إلى مقبرة شهدائنا، في تلة على مقربة من قرية “أبو شوشة” مقبرة بلا سور، وقف أبو عيشة بين القبور أخرج من جيبه لفة بلاستكية داخلها صور قديمة تآكلت أطرافها وأصابها اصفرار، أخذ صورة ووضعها على أول قبر وقال هذا الشهيد محمود، وثانية على قبر مواز، وهذا الشهيد مصطفى، وثالثة: وهذا الشهيد صلاح، ورابعة هذا الشهيد خالد.. قلت بتعجب: أتحتفظ بهذه الصور في جيبك؟

أجاب: منذ استشهادهم لا تفارق صورهم جيبي، وكم أتمنى الشهادة لألقاهم في الجنة. ثم وقف على حافة المقبرة وراح ينشد قصيدة مطلعها: أنتم يا شهداء الواد يا أطهر ما في العباد..

تجمد الدم في شراييني وهو يلقي رثائية طويلة، وكادت دمعة تخون جأشي. التفت إلي وقال: لو كان المتنبي حاضرا اليوم لقال لنا: لا الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفكم ولا السيف ولا الرمح ولا القرطاس ولا القلم، لأننا لم نحرر هذه الأرض المقدسة، ولقال لزعمائنا الأشاوس إنما الناس بالملوك ولا تفلح عرب ملوكها عجم. ظل الشيخ أبو عيشة في قرار مكين في الذاكرة خرج اليوم بنقرة غزاوية على ملف فلسطين.

في ذاكرة فلسطين

كنت باحثا عن العهدة العمرية (التي سنها الخليفة عمر بن الخطاب عندما دخل القدس والتي يضمن فيها التعايش بين كل الأديان بسلام وأمان) أرشدني الشيخ عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس إلى مكتبة تضم كل ذاكرة فلسطين.

في بهو واسع في زاوية من شارع عتيق تنبعث مذ تدخله رائحة الورق القديم، كتب فوق كتب، ومجلات تعلوها صحف، ومفاتيح علقت على الجدران، وأوراق ثبوت ملكية عقارات احتلها الصهاينة.

قال أحد العالمين في المكتبة هنا ذاكرة فلسطين، فيها كل ما كتب عن بلدنا، وجمعنا كل شهادات الملكية، ومفاتيح البيوت، وكل كتب تراثنا الثقافي، حتى ضاق علينا المكان، قلت: ألم تطلب إعانة: أجاب: أسمعت لو ناديت حيا. أرسلت للجامعة العربية، ونداءات لأكثر من زعيم عربي، وجمعيات، ونواد ثقافية، ذهبت جميعها أدراج الرياح، “صم عمي بكم فهم لا يعقلون” وحدها الجامعة العبرية طلبت مني شراءها، ولكن يمكن أن أتخلى عن دمي الفلسطيني ولا أتخلى عن ذاكرة فلسطين.

الطريق إلى أوسلو

تأبطت كتاب الطريق إلى أوسلو وطرقت باب الرئيس محمود عباس (كان رئيس وزراء)، كان قد مضى على اتفاق أوسلو ست سنوات عجاف، لا دولة فلسطينية في الأفق، ولا شيء يشي بنسمة أمل بعد اغتيال أسحق رابين. في كتابك الطريق إلى أوسلو الذي في يدي تقول:” تساءلت وأنت توقع اتفاق أوسلو أنك هل تتخلى عن نصف فلسطين، أم تكسب نصف فلسطين”، واليوم ما زلنا نراوح في غزة أريحا أولا، كيف ترى الآن هل كسبت نصف فلسطين والمستوطنات الصهيونية تنبت في الأراضي الفلسطينية كالفطر بعد مطر وتقضمها وتهضمها، ومتى سيتم الإعلان عن دولة فلسطينية؟ الرئيس عباس رأى أن باتفاق أوسلو سيكسب الفلسطينيون نصف فلسطين وإعلان الدولة لن يتأخر أكثر من سنة. صائب عريقات يقول إنها تعتمد على المفاوضات، وعلى الضغط العربي، لكن أين الضغط العربي على واشنطن، حنان عشراوي رأت أنها خدعت مع عبد الرحمن الشافي ومتشائمة من أوسلو.

استقبلني محمود درويش في مكتبه في رام الله، كان بقامة نحيلة يمشي ببطء بعد عملية جراحية أجراها، أنت كرمز لفلسطين تقول:” على هذه الأرض سيدةُ الأرض ما يستحق الحياة، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة” ماذا تقول اليوم؟ أقول:”على هذه الأرض ما يستحق الحياة والموت أيضا. كل فلسطيني على هذه الأرض مشروع شهادة” قالها شاعر فلسطين محمود درويش. قلت: بالأمس قابلت سميح القاسم في الناصرة والعجيب أنه رد علي بنفس الصيغة: “منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في قبضتي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي”. رحل الشاعران وعلى جدثيهما كتبت هذه العبارات الخالدة.

في حضرة الشيخ

في منزل الشيخ أحمد ياسين في وسط مخيم جباليا لا أنسى تلك اللحظة وأنا أنتظر في غرفة جلوس متواضعة قدومه، دخل جالسا على كرسي متحرك، يداه مثبتتان على مسنديه، الشاب الذي يدفع الكرسي ثبت جهازا في عنقه لمساعدته على الكلام، بعد عدة محاولات للنطق بدأ كلامه بصوت أجش مرحبا بضيف: “من بلاد القسام” كما قال. كلامه صارم، تفصيلي، منسق، موثق بشواهد تاريخية، ورؤية مستقبلية ثابتة وكأنه يقرأ في الغيب:” الدولة الفلسطينية آتية لا محالة ولكن بالمقاومة ولا شيء سوى المقاومة سندفع قافلة من الشهداء ثمنا وربما أنا أولهم. وستتحقق بأيدي أبنائها ربما خلال أول عقدين من القرن الجديد “. كم كانت نظرة الشيخ ثاقبة فكان من أول الشهداء.

اليوم وبعد ربع قرن تقريبا من زيارتي لفلسطين وعلى ضوء “طوفان الأقصى” لا شعب في العالم قاسى ما يقاسيه الشعب الفلسطيني، لا شعب تعرض للخيانات عربيا ودوليا كما تعرض، وأن مقاومته هي البوصلة الحقيقية لانتزاع حقوقه، وتحرير أرضه، فعندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية تتبنى المقاومة المسلحة كان كل مقاوم مشروع شهادة، من الرئيس ياسر عرفات، إلى خليل الوزير، وغسان كنفاني، وعشرات الشهداء، وقامت دولة الاحتلال باجتياح بيروت، للقضاء على منظمة التحرير”الإرهابية” وطردها بدعم من الأعداء والأعدقاء من لبنان، وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا، ومنذ أن تخلت عن المقاومة ودخلت متاهة أوسلو بقيت الضفة الغربية تحت الاحتلال، وفقدت المنظمة قدرتها على المقاومة، وعلى الدولة الموعودة، ولأن فصائل المقاومة في غزة تمسكت بخيار المقاومة باتت هي “الإرهابية” وقادتها مستهدفون من الشيخ أحمد ياسين، إلى عبد العزيز الرنتيسي، إلى خالد مشعل، وآخرهم صالح العاروري، وهي المطلوب تهجيرها مع الغزيين وقتلهم لأنهم “حيوانات”، وارتكاب أبشع المجازر بحقهم وتدمير غزة تدميرا كاملا. لكن جهود المقاومة وحدها هي التي قلبت الطاولة على الجميع، ومرغت أنف دولة الاحتلال بتراب غزة، ووحدها غيرت نظرة العالم أجمع من القضية الفلسطينية، واليوم عادت الدولة الفلسطينية حديث البيت الأبيض والدول الغربية بعد أن حاول كل رؤساء أمريكا وخاصة دونالد ترامب أن يطمسوا ذكرها إلى الأبد..كم كان “الختيار” محقا عندما كان يصف شعبه بـ”شعب الجبارين”

كاتب سوري

——————————————-

مطبخ غزّة والكعكة المعادية للسامية/ صبحي حديدي

4 – فبراير – 2024

الأمريكية لوريل هرمان مدرّبة طبخ وأستاذة في معهد الطامحين إلى مهنة الـ»شيف»، وتمارس تقنية خاصة تُعرف باسم «السرد المطبخي»، كما تزعم التخصص في الطبخ الطبي. ورغم أنها تقيم في ريشموند، فرجينيا، فإنّ معظم كتاباتها في هذه المواضيع يحتضنها موقع «تايمز أوف إسرائيل»، حيث تواظب على مدوّنة نشطة لا تقتصر مواضيعها على الطبخ وإنما تتناول السياسة أيضاً. وهي، كما كتبت في أحد تعليقاتها، «تزداد يهودية كلّ يوم» منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023.

وللمرء ألا يُفاجأ بهذا الطراز من «الازدياد»، ليس لأنه كان ويظلّ ظاهرة مزمنة وقرينة بملايين اليهود في العالم، كلما اتصل الأمر بدولة الاحتلال تحديداً، فحسب؛ بل كذلك لأنّ خيارات كهذه يمكن أن تندرج في خانة ما هو شخصي على أصعدة الرأي والموقف والقناعة. لولا، بالطبع، أنّ الشطط الفادح والصريح والفاضح على أكثر من نحو يمكن أن يطبع إيقاعات الازدياد فتنقلب إلى طراز من الإنقاص تجاه الآخر والانتقاص من السوية الدنيا للحقوق والمساواة والتكافؤ؛ فكيف إذا اتصل ذلك، وسواه، بتأويلات تقلب الحقائق الأبسط إلى ما ليس فيها البتة، ولا تجد غضاضة في جعل المنطق السليم يسير رأساً على عقب.

على سبيل المثال، وتحت عنوان «كعك بالأسود والأبيض مجاز مطبخي للعداء للسامية»، تساجل هرمان بأنّ الطعام مجاز في نظرها، وأنّ كعكة خُبزت كي تظهر بألوان الأبيض والأسود، أو حتى الرمادي، هي استعارة تتوخى العداء للسامية. تخيّلْ يا رعاك الله، حسب العبارة التي كانت أثيرة لدى محمد توفيق البجيرمي الإعلامي وأستاذ الأدب الإنكليزي الفلسطيني – السوري الراحل، لأنّ كعكة كهذه على صلة مباشرة بما خبزت «حماس» وتخبز في قطاع غزّة ومستوطنات الغلاف، حيث «مكوّنات الخليط الأكثر أذى، مثل المعلومات المضللِّة، والأكاذيب، والتهيئة، والكلمة الطنانة مثل الاستيطان والإبادة وسردية القاهر والاحتلال والتطهير العرقي. أي: الخلطة الأكثر اكتمالاً لمعاداة السامية».

لا جديد، بالطبع، في الحروب الشعواء التي لم تكفّ الأدبيات الصهيونية عن خوضها ضدّ المطبخ الفلسطيني، ضمن حملات لا تقلّ شراسة ضدّ مكوّنات الحياة الفلسطينية جمعاء؛ اليومية المعيشية منها والمستدامة التراثية على حدّ سواء، بصدد الآداب والفنون والفولكلور والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا، أسوة بالزيتون والزعتر والفرفحينة والطيون، فضلاً عن الورود والزهور والنباتات كافة. مع ذلك، ثمة أطوار من السعار في إدارة تلك المعارك، لا تبدأ من الإنكار والسعي إلى الاستئصال والاجتثاث، ولا تنتهي عند السرقة الصريحة وانتحال تاريخ هذا المكوّن أو ذاك.

وكان أمييل ألكالاي، الكاتب اليهودي أستاذ ثقافة الشرق الأوسط في كوينز كوليج، نيويورك، ومؤلف الكتاب المميز «بعد اليهود والعرب: إعادة صناعة ثقافة المشرق»، 1992؛ قد ناقش دلالات هوس الإسرائيليين بمصادرة الفلافل مثلاً، ثمّ البرتقال اليافوي والزعتر، فأدرجه في سياق هوس استيطان الأرض إياها. وعلى سيرة الفلافل، سعت الأدبيات المطبخية الصهيونية إلى الاستيلاء على القرص الصغير الشهي، والزعم بأنه وجبة عريقة في «المطبخ» الإسرائيلي؛ فلم نعدم أغنية إسرائيلية شعبية تعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي، عنوانها «ونحن عندنا الفلافل»، يقول أحد مقاطعها: «جرت العادة أن يقبّل اليهودي الأرض شاكراً عندما يصل إلى إسرائيل. والآن، حالماً ينزل من الطائرة، فإنه يتناول الفلافل».

في المقابل، لا تكترث ليلى الحداد وماغي شميت، في كتابهما «مطبخ غزّة: رحلة طهي فلسطينية»، 2016، بسَوْق الحجج حول عراقة المطبخ الفلسطيني عموماً، والغزاوي خصوصاً؛ لأنّ الأصل في هذا الطراز من التأليف هو التشديد على الثقافة الأعمق قبل الوصفة الأشطر، ولأنّ الطعام في نهاية المطاف هو الوجهة الأصدق تعبيراً عن شخصية أهل غزّة وكيف يقولون عند كلّ طبخة: فلنأكل هذه لأننا فلسطينيون، أو فلنأكل تلك كي نكون فلسطينيين أكثر اكتمالاً، أو فلتكن هذه أو تلك بمثابة احتفاء بذاكرة تؤكد أننا ما نحن عليه وما نكون؛ حسب تشخيصات نانسي جنكنز في مقدّمتها البديعة للكتاب.

فإذا كانت كعكة بالأسود والأبيض مجازاً عن العداء للسامية في ناظر هرمان، فما الذي يمكن أن تقوله عن الطحينة الحمراء التي ينفرد بها المطبخ الغزاوي؛ ليس من باب الابتكار أو مخالفة اللون الآخر الشائع للطحينة البيضاء، بل ببساطة لأنّ اضطرار أهل القطاع إلى تهريب السمسم يمرّ عبر الأنفاق وما تنطوي عليه شروط التخزين من عقابيل! وهكذا يصبح إنتاج هذه المادة وتوفيرها بمثابة «لعبة صراعية» بين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والشعب ذاته الذي اخترع الطحينة ورعاها وطوّرها وتماهى معها ويُجبر على استبدالها، من جهة ثانية. وتلك سيرورة يمكن أن تسفر عن طراز خاصّ من انقراض النوع، كما حين تتبدّل السماقية بوصفها طبقاً رئيسياً في القطاع، عند الاضطرار إلى استخدام حبوب السمسم الحمراء.

بذلك، فإنّ جندي الاحتلال الإسرائيلي الذي يرتكب المجازر، ويهدم البيوت، ويجرف الأراضي، ويقطع أشجار الزيتون المعمّرة، ويطلق النار بدم بارد على الشيوخ والنساء والأطفال العزل، ويمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية… يجد له ظهيراً عند هرمان وأمثالها من مغتصبي أطباق الحمّص والفلافل والشكشوكة، ومنظّري ألوان الكعك… المعادي للسامية!

————————–

المخابرات المركزية في غزة: بالتي كانت هي الداء!/ صبحي حديدي

1 – فبراير – 2024

ثمة العديد من المناطق الرمادية التي تتخلل أنساق الدعم الأمريكي لحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة، والذي قد لا يختلف إلا القلّة حول كونه مطلقاً غير محدود؛ لاعتبارات عديدة، جيو – سياسة وأمنية وعسكرية واستراتيجية وصناعية/ تسليحية واقتصادية، الكثير منها غير جديد والقليل لا يستجدّ في واقع الأمر إلا تأسيساً على قديم أو استكمالاً له. ولعلّ في عداد الرمادي الأبرز، ضمن مساحة اصطفاف صريحة لا اسوداد فيها ولا بياض، أدوار أجهزة الاستخبارات الأمريكية عموماً، والوكالة المركزية بصفة محددة وجوهرية؛ خاصة حين توضع الوكالة على خلفية التقصير وليس النجاح، غير بعيد عن سياقات أخرى أعرض سجلت فشل الوكالة الذريع في استبصار الأخطار الوشيكة، على شاكلة الاجتياح الروسي في أوكرانيا والنجاح الصاعق لعملية «طوفان الأقصى».

وفي مقال بعنوان «تحويل الـ CIA نحو عصر التنافس» نشره مؤخراً في مجلة «فورين أفيرز» التي يصدرها «مجلس العلاقات الخارجية» الأمريكي، أشار وليام برنز مدير الوكالة إلى أنّ النجوم الـ140 التي تزيّن مقرّ الوكالة في لونغلي، فرجينيا، تكرّم ضباط الجهاز الذين «بذلوا أرواحهم لخدمة بلدهم» وتسجّل «أفعال الشجاعة التي لا تُعدّ» لبطولاتهم، رغم أنّ تلك النجاحات الصريحة معروفة لدى الجمهور الأمريكي أقلّ من الأخطاء التي اكتنفت أحياناً تاريخ الوكالة. ذلك أنّ اختبار الاستخبارات التعريفي، كما يقرّ برنز على الفور، كان على الدوام «الاستباق إلى مساعدة صانعي السياسات في الإبحار ضمن النقلات العميقة في المشهد الدولي، حيث اللحظات التشكيلية التي لا تقع إلا مرّات قليلة في كلّ بلد».

إقرار ثانٍ، جدير بالإشارة هنا، هو التحديات الجيو ـ سياسية التي صنفها برنز تحت لافتة «صعود الصين ونزعة روسيا الارتجاعية» في عالم من التنافس الاستراتيجي «لم تعد فيه الولايات المتحدة تتمتع بتفوّق لا يُجارى» وسط «مناخ متصاعد من المخاطر الوجودية»؛ ولا يزيد في تعقيد هذه الحال سوى ثورة في التكنولوجيا أشدّ طغياناً من الثورة الصناعية أو ابتداء العصر النووي. ومن الرقائق الدقيقة إلى الذكاء الاصطناعي والحاسوبية الكوانتومية، تتكفل التكنولوجيات الصاعدة في تحويل العالم، بما في ذلك «مهنة الاستخبارات»؛ التي تجعل مهمة الـCIA «أصعب من أي وقت مضى، مانحة الخصوم أدوات جديدة جبارة لتشويشنا، والإفلات منّا، والتجسس علينا» حسب برنز.

وللمرء أن يدع جانباً الفقرات التي خصصها برنز في محاولة «استكناه» أغراض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من وراء اجتياح أوكرانيا، ليس لأنها غير محورية ضمن قراءته لواجبات الوكالة التنافسية في عالم/ عوالم التحدي التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم؛ بل لأنّ مقاربة برنز إنما تُستهلّ من زاوية شخصية وذاتية تطعن بمقادير الحدّ الأدنى من موضوعية التحليل والتشخيص والاستخلاص: «لقد صرفتُ معظم العقدين المنصرمين» يكتب برنز، «في محاولة فهم المزيج الانفجاري من الشكوى والطموح وانعدام الأمن التي يجسدها الرئيس الروسي». ففي جانب واحد على الأقلّ، لم يكن هذا توصيف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولا إدارة الوكالة ذاتها، للباطن العميق من أيّ إشكال تنازعي مع بوتين؛ عدا عن أنّ العقدين المنصرمين شهدا من المدّ في العلاقات الأمريكية ـ الروسية أكثر من الجزر، على أصعدة شتى جيو ـ سياسية وأمنية واقتصادية…

كذلك فإنّ إطلالة برنز على الملفّ الصيني لا تخلو بدورها من اجتزاء معيب، خاصة إذْ يصدر عن مدير الوكالة الاستخبارية الأولى لدى القوّة الكونية الأعظم، عنوانه الأوّل هو الاعتماد الاقتصادي المتبادل والروابط الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة؛ ونزوع الدبلوماسي المخضرم، قبل رجل الاستخبارات، إلى حصر التوتر في ملفات كوفيد ـ 19 وتايوان وإصرار الرئيس الصيني على النظر إلى الولايات المتحدة كـ»قوّة آخذة في الاضمحلال». الملفات الأخرى، التي يتقصد برنز إغفالها، اشدّ أهمية وأعلى حيوية، لأنها إذْ تسجّل اتساع النفوذ الصيني هنا وهناك خارج آسيا التاريخية، في أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، فإنّ تلك السيرورة لا تتمّ فعلياً من دون انحسار نفوذ القوى الكولونيالية الأوروبية السالفة، فرنسا وبريطانيا أوّلاً، صحبة الولايات المتحد قائدة الإمبريالية المعاصرة.

فما الذي يتبقى، ويقوله برنز، عن أدوار الوكالة قبل «طوفان الأقصى» وبعده بأيام قليلة، ثمّ على امتداد الـ100 يوم ونيف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؟ لا شيء، عملياً، أو على نحو أدقّ: 13 من أصل 4070 كلمة في النصّ الإنكليزية للمقالة، وهذه لا تفيد سوى تضخيم دور برنز الشخصي في المفاوضات مع «حماس» ودولة الاحتلال، بوساطة قطرية ومصرية أصلاً، حول صفقات الهدنة الإنسانية وتبادل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين. تأويل هذا الإغفال غير عسير طبعاً، ليس بالنظر إلى قصور الوكالة في تحقيق الاستباق المعلوماتي الشهير الذي يعرّف وجودها أصلاً حسب برنز، فحسب؛ بل كذلك لأن عشرات الخرافات التي اكتنفت سطوة الاستخبارات الإسرائيلية قد انهارت وافتُضحت جراء العجز عن تكهّن عملية «طوفان الأقصى» خاصة وأنّ التدريبات (الشاقة، المعقدة، المتطورة) قبيل تنفيذها، جرت في مساحة من الأرض استحقت صفة سجن مفتوح السقف، واقع تحت مجاهر الرصد الإسرائيلية والأمريكية الأعلى تقنية وتطوراً.

والحمقى وحدهم، وبرنز ليس في عدادهم غنيّ عن القول، سوف يستبعدون فضيحة العجز عن استباق «طوفان الأقصى» من أي، وربما من كلّ، مبادرات تحديثية يحلم مدير الوكالة باتخاذها لخوض غمار منافسة، حامية الوطيس أغلب الظنّ، مع أجهزة استخبارات شتى، لا تبدأ من الروسية أو الصينية، والأرجح أنها لن تنتهي عند الإيرانية ومَن لفّ لفّها هنا وهناك على امتداد ساحات المنطقة والعالم. جديرة بالاستعادة، هنا، واقعة ذات دلالة بين الوكالة والاستخبارات الإيرانية، تعود إلى عهد غير بعيد؛ تكفلت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» بكشف النقاب عنه.

وكانت الوكالة قد اعتمدت مبدأ «داوِها بالتي كانت هي الداء» حين تنبّهت إلى ازدياد أنشطة الأجهزة الإيرانية في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، فاخترقتها: ليس من البوّابة المحلية أو الشرق ـ أوسطية أو الإقليمية كما للمرء أن يتوقع، بل عبر وسيلة غير منتظرة هي تفعيل عملاء زعموا الاهتداء إلى الإسلام، بل وأفلحوا في الوصول إلى طهران عن طريق بعثات خاصة نظمتها الحكومة الإيرانية ذاتها لتلقين المهتدين تعاليم الدين في العلن، وتدريبهم على الأعمال الاستخباراتية في السرّ، حسب الرواية الأمريكية بالطبع. المثير أنّ الوكالة، التي تكشّف تقصيرها الفاضح في هزّة 11/9 قبل زمن طويل من غزو بوتين في أوكرانيا و«طوفان الأقصى» في غلاف غزّة، أغلقت المحطة الإيرانية بعد انهيار البرجين لأنّ العجز عن استباق الهزّة كان يقتضي حزم الحقائب على الفور!

وأمّا «الحداثة» التي يتطلع برنز إليها، فقد سبق أن جرّب العالم طرازاً فاضحاً منها خلال عقود الحرب الباردة، بتأسيس «مؤتمر الحرية الثقافية» حزيران (يونيو) 1952، في برلين الغربية، بمبادرة أمريكية؛ فموّل المؤتمر برامج ثقافية لا حصر لها، شمل نطاقُها الجغرافي بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط. ولسوف يُنتظر حتى سنة 1967، حين أُميط اللثام عن هوية المموّل الفعلي للمؤتمر، واتضح أنها المخابرات المركزية الأمريكية. هنا، أيضاً، كانت المداواة خاطئة، لأنّ الدواء أكثر احتواء على السموم من أن يفلح في طمس الهوية الفعلية لـ«نجوم» الوكالة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

—————————

حرب غزة… خطة طريق لعقد مؤتمر تحضيري للسلام/ موفق نيربية

30 – يناير – 2024

رغم تأكيد نتنياهو مجدداً على رفضه قيام دولة فلسطينية، لأن ذلك سيؤدّي إلى «خطر وجودي» على إسرائيل، إلّا أن جوزيب بوريل، تحدّث عكس ذلك، في اليوم التالي لذلك التصريح، مطلع الأسبوع الماضي، في الاجتماع الشهري لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الذي حضره هذه المرة نظراؤه من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والأمين العام لجامعة الدول العربية، إضافة إلى وجود منفصل أيضاً لوزيري خارجية إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

خرجت من ذلك الاجتماع خطة طريق، في قلبها دعوة لعقد «مؤتمر تحضيري للسلام» ينظمه الاتحاد الأوروبي ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية وجامعة الدول العربية، مع دعوة الولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضا للمشاركة في المؤتمر، وصيغت معالم «مشروع» من عشر نقاط مقترحة لذلك المسار:

ورد أولاً في خطة الطريق تلك أنّه ينبغي أن تؤدي هذه العملية إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة «تعيش جنباً إلى جنب» مع إسرائيل، وكذلك إلى تحقيق «التطبيع الكامل» للعلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، ومن أجل ذلك لا بدّ من قيام الجهات الفاعلة الدولية بمساعدة الطرفين على إعداد أسس للسلام… وفي بناء «بديل سياسي متجدد» لحماس.

أيضاً يتعين على الأطراف الدولية الفاعلة أن تعقد في أقرب وقت ممكن، مؤتمراً تحضيرياً للسلام، للتسوية وإنهاء الحرب المستمرة، خاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويمكن الوصول إلى تصميم للإطار المبدئي للخطة من خلال تشكيل مجموعات عمل خلال عام واحد. وتراعى في تلك الخطة تلك العناصر الأساسية في قرارات الأمم المتحدة، مع تأمين ضمانات أمنية قوية لكلّ من إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، بشرط الاعتراف الدبلوماسي المتبادل و»التكامل» بين الطرفين. وينبغي أيضاً استمرار التشاور مع الطرفين في جميع الخطى، ولكن «إذا قرر أحد الطرفين الانسحاب سيستمرّ المؤتمر في أعماله». وتتضمّن النقطة العاشرة من الخطّة تلك، الإجراءات التمهيدية والملحّة، مثل مواجهة الأزمة الإنسانية، وإطلاق الرهائن، ومنع التصعيد الإقليمي. تضمّنت كذلك تعزيز الشرعية الديمقراطية للسلطة الفلسطينية، ودعم إعمار غزّة، من بين أهداف أخرى.

للوهلة الأولى، يبدو ذلك المسار مستحيلاً، وفي الوهلة الثانية يبدو ضرورياً.

فقد كان مارتن غريفيث مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أكثر تواضعاً في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين طرح بدوره خطة من عشر نقاط، لكنّها تتعلّق باختصاصه الإغاثي، وتطالب «بتسهيل جهود وكالات الإغاثة لضمان التدفق المستمر والآمن لقوافل المساعدات، وفتح نقاط عبور إضافية لدخول الشاحنات التجارية والمساعدات، بما في ذلك معبر كرم أبو سالم، والسماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى والقطاعين العام والخاص، بالحصول على الوقود بكميات كافية لتقديم المساعدات والخدمات الأساسية»، كذلك «تمكين المنظمات الإنسانية من إيصال المساعدات في أنحاء غزة كافة، من دون عائق أو تدخل، والسماح بتوسيع عدد الملاجئ الآمنة للنازحين في المدارس والمرافق العامة الأخرى في أنحاء غزة والتأكد من بقائها في أماكن آمنة طوال فترة الأعمال العدائية، وتحسين آلية الإخطار الإنساني للمساعدة على تجنيب المدنيين والبنية التحتية المدنية التعرض للأعمال العدائية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية».

وردت في تلك الخطة نقاط عملية أيضاً مثل «السماح بإنشاء مراكز توزيع إغاثة للمدنيين، حسب الاحتياجات، والسماح للمدنيين بالانتقال إلى مناطق أكثر أماناً والعودة الطوعية إلى منازلهم، بالإضافة إلى تمويل الاستجابة الإنسانية التي تتطلب في الوقت الراهن 1.2 مليار دولار- في منتصف نوفمبرـ وتنفيذ وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية للسماح باستئناف الخدمات والأنشطة التجارية الأساسية، والذي يعد حيوياً أيضاً لتسهيل إيصال المساعدات، والسماح بالإفراج عن الرهائن، والسماح للمدنيين بالتقاط أنفاسهم». وما تمّ تنفيذه من خطة غريفيث العملية الإنقاذية تلك، لا يتعدّى كثيراً ما كان يمكن أن يتحقّق من دونها؛ فكيف بنا ونحن نتحدّث عن خطة للسلام الشامل، كما فعل بوريل، الذي ينشط كثيراً مع المفوّضية الأوروبية كلّها قبل أربعة أشهر من الانتخابات الأوروبية؟!

هنالك عقبتان أساسيّتان أمام مثل تلك الخطة التي تتصدّى لمسائل استراتيجية وذات عمق دام عقوداً:

أولى تلك العقبتين في الجانب الفلسطيني، حيث حركة حماس التي تصر إسرائيل على القضاء عليها وتدمير بنيتها، وهي – من طرفها- لم تستطع حتّى الآن أن تعطي انطباعاً أكثر جنوحاً للسلم، منذ ما حدث في» طوفان الأقصى»، ورغم ما أصدرته أخيراً من أوراق تتحدّث عن» دولة فلسطينية» تتعارض مع ما كانت تقوله – بشكل مباشر أو غير مباشر- حتى صباح «الطوفان» نفسه. وربّما كانت وطأة الهجوم الإسرائيلي ماديّاً وسياسياً وإنسانياً هي السبب في تلك المحاولة المستمرّة من دون أفق حتى الآن. يقول بوريل يُغري الحكومة الإسرائيلية، إن حماس قد أصبحت» ضعيفة بما فيه الكفاية»؛ لكنّ ذلك لا يبدو مقنعاً لنتنياهو وأصحابه حتّى الآن. هؤلاء ما زالوا مستمرّين في عمليّتهم، التي تترافق مع جهود فائقة الشراسة بدورها في الضفة الغربية، التي تجهد كما يبدو للقيام بعملية أخرى موازية لتلك التي في غزّة، تحاول أيضاً التأسيس لتفريغ الضفة من سكّانها. وإسرائيل هنا لا تلاحق حماس والجهاد وحدهما، بل تضعف السلطة الفلسطينية بأكثر ممّا هي ضعيفة، وتعطي بذلك ذريعة لتلك السلطة لتغطية عجزها وفسادها وتهافتها، بل انحطاطها بالمعنى الأكثر شمولاً. هنا تبدو إشارة خطة الطريق موضوع هذا المقال متحفّظة بعض الشيء، حين تتكلّم عن دعم شرعية السلطة «الديمقراطية»، بعد تراجع أسهمها الكبير حتى الآن… هنا السؤال الصعب الثاني بعد سؤال حماس: هل يمكن ترميم تلك السلطة وإيقافها على قدميها ولو بالجصّ والدعامات الخشبية، لتقوم بما ينبغي لها القيام به؟!

العقبة الثانية، تتركّز في الصعوبة الأكبر أمام أيْ مسار سياسي في الجهة الإسرائيلية، حيث تتربّع أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل، تخرج عن أي تصنيفات سياسية واجتماعية وفكرية معروفة. تلك الحكومة هي، تحالف تحتلّ القوى الاستيطانية التي تطلب طرد الفلسطينيين» من النهر إلى البحر» مكاناً مهمّاً فيه، لا يمكن لنتنياهو المهدّد شخصياً، ليس بخسارة أية انتخابات مقبلة، بل أيضاً بخسارة حريّته ودخول السجن بسبب قضاياه القانونية الكثيرة، أن يُغيّر فيه.

حين يعرف الإنسان شراسة هجوم تلك القوى التي يقف على رأسها نتنياهو، من خلال محاولتها التي كادت تكتمل بإنهاء استقلال السلطة القضائية وتحجيم قدرة المحكمة العليا وإقرار القوانين اللازمة لذلك، لتنال بذلك ليس من «أعدائها» الفلسطينيين أو العرب، بل من مصدر قوة إسرائيل الأكبر، بتفوّق بنيتها الديمقراطية نسبياً، التي ابتدأ قانون «يهودية الدولة» بالنيل منها أوّلاً بما يفتحه من أبواب على الفصل العنصري ضد عرب إسرائيل، ثمّ جاء قانون الحدّ من سلطات المحكمة العليا ليمنعها من إضعاف نتنياهو المطارد والمثقل بالقضايا.

وإذا كان لحرب غزّة من إيجابيات، فربّما تكون في إتاحة فرصة للمحكمة العليا لإلغاء فقرة تحدّ من سلطاتها «العليا»، مقابل» سلبيّات» كثيرة – تحرص عليها حماس غالباً – كلّها تغذّي التطرّف والتوحش في الجانب الإسرائيلي.

مع أهمّية ما سبق وضرورة التعامل معه، تبقى مسألة وقف إطلاق النار وتخفيف التوتّر مهمّة استثنائية لا بدّ من التركيز عليها وإعطائها الأهمية القصوى وبذل الجهود لتحقيقها، بما في ذلك تسهيل حلّ مسائل الرهائن والأسرى والمعتقلين- المدنيين خصوصاَ- يبقى أيضاً أن «حلّ الدولتين» يكاد يموت وينتهي عمليّاً، ولا يبدو في الأفق بديل له من نوع الدولة ثنائية القومية، من البحر إلى النهر للجميع!

*كاتب سوري

—————————-

خان يونس وحاخامات أوبئة الإبادة/ صبحي حديدي

28 – يناير – 2024

ملايين، أغلب الظنّ، تابعوا شريط الفيديو الذي سجّله الحاخام الضابط الإسرائيلي أفراهام زيربيف، من لواء غفعاتي؛ متقلداً رشاش العوزي، وخلفه مشهد بانورامي لبلدة خان يونس الفلسطينية. وخلال الأيام الـ 115 من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ في مختلف مناطق قطاع غزّة، توفرت أشرطة فيديو عديدة صوّرها رجال ونساء في جيش الاحتلال، عكست مظاهر شتى من السعار الفاشي والوحشية والهمجية، ومقداراً غير قليل من الهستيريا والجنون والاعتلال؛ غير أنّ الحاخام هذا قد يكون استأثر بالقسط الأوسع من اهتمام المشاهدين، بالنظر إلى خلائط الخبل والهذيان والهلوسة التي طبعت أقواله.

هنا، بصفة حرفية أو تكاد، ما هجس به الحاخام الضابط: «كما ترون، خان يونس بأسرها أمامنا. سُئلت في عيد الشابات: لماذا الربّ لم يخلّص إسرائيل فوراً؟ لماذا شاء أن يفعل ذلك عبر الأوبئة العشرة؟ ثمّ المزيد من الأوبئة؟ البعض يقول: إذا شئتَ معاقبتنا، فافعل. ولكن نجّنا من المصريين. ولهذا قلتُ لهم التالي: شرحت لهم أنّ الأوبئة لم تكن بحقّ المصريين وحدهم. نحن بالطبع لا نستمتع بآلامهم، ولكن من المؤكد أنهم تحملوا الأوبئة. غير أن الهدف الرئيسي للأوبئة كان لشعب إسرائيل. بعد أن قادنا الربّ إلى مصر، وقعت أحياناً بعض الانقسامات بين أسلافنا، فحالت دون عودة أبنائهم. وكي يعيد وصل هذا الرباط، تدخل الربّ وأرسل الوباء بعد الوباء، ومن خلالها أدرك شعب إسرائيل مقدار حبّ الربّ لهم. وهذا الإدراك وحّدهم ووثّق الرباط مع الربّ. وهنا نقف قبالة خان يونس، ننتظر الأوبئة التي سيرسلها الربّ، خدمة لهذه السيرورة من الرباط مع الربّ، وهذا أمر جوهري، وهذه الحرب تبرهن على عهد جديد، وثمة أشياء كانت خافية تحت السطح وهي ترى النور الآن، ولسوف تواصل الانبثاق، وبمعونة الربّ سوف نشهد خلاص العالم، الخلاص الختامي. شالوم، وأطيب الأمنيات من خان يونس».

الحاخام ليس مصاباً بمسّ من الجنون، بالطبع، أو على الأقلّ ليس إلى درجة مَرَضية سريرية؛ وإلا لاتخذت قيادة أركان اللواء غفعاتي إجراءً يبعده عن جبهات القتال والالتحام المباشر، وأسندت إليه مهامّ أخرى خلفية، إدارية الطابع أو منحصرة في وظائفه الدينية. لكنه في المقابل، ليس آدمياً معافى التفكير من حيث المدارك العقلية والتشخيص المنطقي للظواهر، وهو مشوّه الطوية الإنسانية وأقرب إلى التوحّش الأعمى بصدد المكوّن البشري الجَمْعي المقابل له، وقراءته للواقعة التوراتية تمزج ممارسة الاستغباء الأقصى على الذات بالحقد المطلق على الآخر. وإذا لم يكن مؤكداً أنّ تفسيره للأوبئة العشرة سوف يلقى القبول لدى التيارات الحاخامية الكبرى داخل دولة الاحتلال، أو في المراكز الدينية اليهودية على امتداد العالم؛ فالأقرب إلى الترجيح أنّ هذا الطراز من الهلوسة الهذيانية لقي لتوّه، أو سوف يلقى المزيد من التهليل والترحيب والترويج.

هذا عدا عن حقيقة أخرى مكمّلة تشير إلى تأويلات حاخامية ذات منحى مماثل، بل يذهب بعضها إلى درجات أعلى من الهذيان، كما في مقولة الحاخام شاي طحان الذي رأى أنّ التلمود تنبأ بوصول البوارج الأمريكية إلى شواطئ قطاع غزّة دعماً للشعب اليهودي ضدّ الفلسطينيين؛ أو رؤيا الحاخام يوشيا بينتو، حول ضرورة اقتران عملية «السيوف الحديدية» بسفك الكثير من دماء الفلسطينيين. وكان بنيامين نتنياهو قد تنطح لأدوار حاخامية جعلته الأسبق بينهم، أو كبيرهم في الواقع، حين لجأ إلى التوراة ليربط بين حرب الإبادة الإسرائيلية واستئصال العماليق، فاقتبس من سفر صموئيل الأول: «اذهبْ واضرب العماليق، وحرّمْ كل ما لهم ولا تعفُ عنهم. بل اقتلْ على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».

وفي كتابه الموسوعي الفريد «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان»، كان المفكر المصري الكبير الراحل جمال حمدان (1928 ـ 1993) قد توقف عند الأوبئة العشرة؛ كما يلي: صحيح أنّ العلم البسيط يمكن أن يفسّر الأسباب الطبيعية والفيزيائية وراء تلك الأوبئة ـ الأعاجيب، ويستقرئ موقعها في المخيّلة التوراتية أو الميثولوجية للمنطقة؛ ولكن من الصحيح أيضاً أنها لا تُفسّر ولا تُستقرأ بمنأى عن عبقرية المكان الاستثنائي الذي كان مسرحاً لها. وفي مفردات تلك العبقرية ثمة نهر النيل، بادئ ذي بدء، الشريان المائي الفذّ الذي يضخّ الأرض بالطمي والغموض والرهبة والأعجوبة؛ وثمة عبقرية المصري، الذي كان دائماً الضحية الكبرى لتلك الأوبئة التوراتية، في مختلف المواقع والأشغال: من الصيادين والعبيد والرعاة، إلى الواقفين خلف التنانير والمعاجن وأحجار الرحى، في الشوارع والدساكر والسهوب، على سقالات الأهرامات وأدراج المعابد، في بيوت الطين والطوب، دون إغفال الأبكار في القماط.

وليس عجيباً أنّ ما تُلحقه حرب الإبادة الإسرائيلية بقطاع غزّة، البشر مثل الشجر والحجر، ليس أقلّ مما أتى سفر الخروج على تفصيله بصدد الأوبئة التي حاقت بمصر: من تحويل «مياه المصريين وأنهارهم وسواقيهم وآجامهم وكل مجتمعات مياههم لتصير دماً»، مروراً بـ «ذرّ رماد الأتون في السماء»، وصولاً إلى «إسدال ظلام دامس، فلا يبصر أحد أخاه».

وأمّا المكان الغزاوي، فإنه ليس أقلّ عبقريةً واستثناءً وبقاءً…

————————–

غزّة… أسطورة العصر الحديث/ خليل النعيمي

28 – يناير – 2024

الوعي النوعي الجديد الذي اكتسبه المقاومون الفلسطينيون عبر تجاربهم الشخصية الخاصة في مقاومة الاحتلال الصهيوني أعواماً طويلة، يتجاوز كل تقدير. لكأنهم كانوا يحاربون في السِّلْم كما يفعلون الآن في معمعة الحرب. ذلك يعني أن الحرب لا تحدث لحظة انبثاقها، وإنما هي سيرورة مستمرّة منذ اللحظة التي نبدأ نفكّر فيها. وهو ما يجعلنا نعتقد أن ما يحدث في غزّة من أساطير ليس وليد هذه اللحظات القاسية، وإنما هو تطوّر متواصل في مواجهة القهر والسَّلْب والاحتلال. لذا فإن الأسطورة الفلسطينية التي نعايشها، اليوم، تتجاوز مخيّلتنا نحن العرب القابعين في سكونية بلا حدود، عرب الخذلان والتطبيع. ليس غريباً، إذن، أن أبطال غزة صاروا يبدون لنا من طينة أخرى، طينة تشبّعت بالاعتداد والصمود وتقديس الحرية وضرورة الوصول إليها مهما كلَّفَهم الأمر.

الحرية لا ثمن لها، ولا يستحقها إلاّ من أرادها بكل طاقته، هذا ما يوحي به سلوك مقاومي غزة العنيد، حيث صار لفعلهم معنى آخر، لا نعرف له، من قبل، مثيلاً. هؤلاء الأبطال الذين يتصدّون، منذ أكثر من مئة يوم، للهجوم الاستعماري الغاشم، الذي لم يبقَ على سطح الأرض غيره، يدفعوننا إلى طرح أسئلة جديدة، لا نملك أجوبة ملائمة لها، الآن، نحن الذين تعودنا على التلاؤم والخضوع.

لنتوقّفْ، قليلاً، إذن، قبل أن نغرق في وَحْل الإنشاء السهل، الذي بدأ يطفح في سُهوب المقالات العربية المتكاثرة، وَلْنَرَ عظمة هذا «الفن الجديد» في المقاومة. شيء خطير يتَخلّق، الآن، أمامنا: انبثاق فجر باهر يشرق على العالم العربي الصَدئ، ومن غزة بالتحديد. فَجْرُ فعلٍ مقاوِم يعرف ما يريد، ويتمتّع بسلوك إنساني غاية في التماسك والبراعة. يقارع أعتى قوة استعمارية لا تزال تؤمن بإمكانية الاستحْواذ على الأرض بعد إبادة أهلها. لكأننا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، ما زلنا.. وكأن العرب، اليوم، هم «هنود الشرق» الجاهزون للابتلاع. لكن، لا ذا صحيح، ولا ذاك. هذا ما يؤكده لنا: «إبداع المقاومة الفلسطينية» الذي يفضح هشاشة هذا الذيْل الاستعماريّ «الأعمى» في مواجهة أفراد مؤمنين بحقهم في الوجود والحرية، ويدافعون عن أرضهم. بل يفضح، أيضاً، هشاشة جيوش السلطات العربية التي حاولت، قَدْر إمكانها، أن تفعل ما لم يكن بإمكانها، تاريخياً، أن تفعله، لأسباب بات يعرفها الجميع.

لاحظوا: «صمت المقاومة» مقابل «ثرثرة الاحتلال». المقاومة تفكِّر وتخطّط وتفعل بصمت، لأن الفعل الصائب لا يحتاج إلى الكلمات. والاحتلال يثرثر ويدمّر. كلامه الاستعماري المتبجّح لا يكفي لإقناعه بجدوى ما يفعله، فيضيف إليه ثرثرة التدمير. هو يعتقد، لحماقته، أن التدمير حلّ، مع أنه ليس كذلك. أمّا المقاومة فتدرك أن أكبر الشرور هو أضألها شأناً. وأن التدمير هو شكل آخر من التعمير. وهي تؤمن، أيضاً، أن ما تفعله، الآن، أكثر عمقاً وشمولاً من نزعة الحرب الاستعمارية التي يمارسها الصهاينة مفتونين «بالتهديم». المقاومة هي إرادة الوصول إلى جوهر الوجود: الحرية والسلام. لكن الاستعمار أعمى، لا يرى ما تراه المقاومة. وقد كان، دائماً، أعمى. وهو سيظلّ يصر على عَماه، إلى أن يتجاوزه التاريخ، كما نعرف ذلك. لقد أثبت التاريخ أن وراء كل فعل مقاوم حدث جديد. حدث سيتحقق في ما بعد إن لم يتحقق الآن، وأن المقاومة تعني أن النهاية لم تكتب بعد، وأن كل ما هو غير ممكن يغدو بتأثيرها ممكناً.

المقاومة، اليوم، هي تذكير بالزمن العربي الرديء الذي مرّ من دون جدوى، ومحاولة خلق زمن عربي جديد يُنْهي الوعي العتيق الذي كان يسود في فضائه القديم: فضاء« الكائنات الخردة» ووَعْيها البسيط المطابق له.

كاتب سوري

—————————

راديكالية التَموّل: مَنْ يدفع ضريبة الأخلاق المفرطة؟/ محمد سامي الكيال

25 – يناير – 2024

بلغت معاناة الفلسطينيين، نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة، حداً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي بأكمله، لدرجة بات من الضروري معها الحديث عن جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان. يستمر هذا وسط تراجع الاهتمام بالحرب، على مستوى الرأي العام العربي والدولي، الذي عاد، بعد حماسه الأول، إلى الانشغال بـ»تريندات» أخرى، من الأزمات الاقتصادية وحتى كرة القدم.

لا يوجد في هذا الظرف ما قد يساعد الفلسطينيين، إلا عدد من المبادرات السياسية والحقوقية والإغاثية، التي تقوم بها بعض الدول، لكن من الملاحظ أن جهات عديدة، متداخلة في الصراع، لا تبدي المرونة الكافية في التعامل مع تلك المبادرات، خاصة السياسية منها. إذ تصر حكومة الاحتلال الإسرائيلي على مشاريعها، التي لا ترضى بأقل من إلغاء الوجود الفلسطيني بأكمله؛ فيما تتمسّك المقاومة بتحقيق النصر الموعود، الذي يصعب تحديد معالمه، وسط الدمار والتهجير وانتشار الجوع والأوبئة بين أهالي غزة. لا يبدو إذن أن أي محاولة حل، سواء كانت أمريكية أو خليجية أو مصرية، تحقق الحد الأدنى من طموحات أطراف الحرب.

يمكن التأكيد بالطبع أن جميع الحلول التي يطرحها عالمنا المعاصر، ظالمة للحق الفلسطيني، لكن المحيّر أن أنصار هذا الحق لا يطرحون بدائلهم عن كل ذلك الظلم، عبر مطالب وأهداف ملموسة، وإنما يكتفون بعبارات وطروحات، لا تبدو صالحة إلا لتحشيد الرأي العام، وهو أمر لا يمكن التعويل عليه كثيراً، مع طول أمد الحرب. ما هو حقاً البرنامج السياسي للخروج من الكارثة السياسية والإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني؟ يصعب إيجاد أي إجابة، وهذا يدفع لطرح سؤال آخر عمّا يمكن تسميته «الراديكالية التي لا تحدد ماذا تريد» وهي ظاهرة قد تكون قديمة في تاريخ القضية الفلسطينية، فعندما طرحت منظمة التحرير الفلسطينية أول برنامج سياسي فعلي لها (برنامج النقاط العشر) عام 1974، الذي دعا لتأسيس دولة فلسطينية، على أي رقعة أرض يمكن تحريرها، بعمل عسكري أو تفاوض، تكتّل عدد من الفصائل في «جبهة رفض» واتهم أنصار البرنامج بالخيانة، أما بديله السياسي فلم يكن إلا تكرار عبارات غامضة عن «تحرير فلسطين من البحر للنهر». إلا أن ظاهرة «الراديكالية» غير المحددة تلك ليست حكراً على الفلسطينيين، أو العرب، إذ نجد نظائر لها بين ناشطين متعددي الثقافات والجنسيات، لا يبدو أنهم يتبنّون الأيديولوجيات الإسلامية والقومية، التي ترفعها حركات المقاومة المعاصرة. لماذا يرفض راديكاليو عصرنا تقديم أي طرح واضح؟ وهل من طريقة لفهم ما يريدونه حقاً؟

ضد السياسة

ظاهرة الاستقالة السياسية، أي أن يجد الناشط نفسه في حِلٍّ من تقديم مطالب وبرامج محددة في الحيز العام، لم تكن يوماً منتمية للسياسة الراديكالية، بمختلف مشاربها، بل ربما كان العكس صحيحاً، بالغ المسيّسون، حتى ستينيات القرن الماضي، في صياغة البيانات والبرامج السياسية، لدرجة عرّضتهم لكثير من التهكّم. الأمر اختلف في ما بعد، لأسباب يمكن وصفها بالموضوعية، إذ بدا، في أواخر الستينيات، أن قنوات السياسة التقليدية في الدول الغربية قد تجمّدت وتصلّبت، لدرجة أنها لم تعد تفيد سوى بفرض هيمنة أجهزة الدولة على البشر المتنوّعين. كان تحطيم تلك القنوات ضرورة لـ»تحرير» السياسة من البقرطة العامة للحيز العام، وإطلاق حيوية الناس، الذين لم يجدوا تصنيفاً مناسباً لهم ضمن «الفئات المعترف بها» آنذاك، فهم ليسوا بورجوازيين، أو عمالاً ذكوراً بيض مسيحيين. ومع فقدان الأمل بالتغيير من داخل المجتمع المدني البورجوازي القائم، أو عبر الحركة العمالية التقليدية، التي ظهرت وكأنها ارتكبت «خيانة تاريخية» بالتواطؤ مع مؤسسات دولة الرفاه في الغرب، كان «الحل» إجراء انقلاب على المجتمع القائم نفسه، بدوله وأحزابه ونقاباته، وبالاستعانة بأساليب، تراوحت من الإرهاب المسلّح،؛ إلى الاحتفاء بـ»الفصام» في وجه المنظومة، عبر الأدب والفن والفلسفة.

بروز «اليسار الجديد» آنذاك لم يكن مجرّد ظاهرة غربيّة، انتشرت في فرنسا أو إيطاليا أو الولايات المتحدة، بل شاركت به حركات سياسية عربية، ومنها فصائل مقاومة فلسطينية، مثل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي كانت حليفاً، بل وملهماً، لكثير من الحركات السياسية والمسلّحة حول العالم. إلا أن كل هذا يبقى مجرّد تاريخ مضى، فـ»اليسار الجديد» الذي كان على هامش الحركة العمالية ودول المنظومة الاشتراكية في الغرب؛ وأنظمة التحرر الوطني في العالم الثالث، انتهى بانتهاء تلك المنظومات. ما بقي اليوم هو نمط غريب من الراديكالية، خاصة بعد امتزاجه بكثير من الدعوات الدينية والأصولية، وارتباطه بنوع آخر من الداعمين والحلفاء. توجد اليوم جماعات، تتطرّف أكثر وأكثر في رفض «المنظومة الظالمة» إلا أنها لم تعد مكوّنة من بعض الطلاب والمثقفين والمغامرين والعمال غير النقابيين، الذين لم يجدوا لأنفسهم مكاناً في المجتمع القائم، وإنما تنظيمات تبدو أقوى من المجتمع نفسه، وقادرة على فرض إيقاعها عليه. ما يثير الاستغراب حقاً أن تلك التنظيمات «فصامية» بالفعل، ليس بالمعنى الفلسفي الذي قد نجده لدى مفكرين مثل جيل دولوز، وإنما بمعنى «واقعي» للغاية، إذ أن قوتها وحضورها، ونقاءها الراديكالي، ليسا إلا بفضل دعم من أطراف في «المنظومة» لا يمكن وصفها أبداً بالنقاء، بل مساهمة عضوياً في كل ظاهرة ظلم واستغلال يمكن رصدها في عالمنا؛ كما ليس من الصعب تتبّع علاقاتها، مع كل ما يرفضه ناشطو ومقاتلو تلك التنظيمات.

الحل المستحيل

يمكن اعتبار بعض جماعات المتدينين والمستوطنين الإسرائيليين نموذجاً جيداً على النمط المذكور من الراديكالية، التي باتت عابرة لليمين واليسار، إذ يرى كثير منهم الدولة العبرية نوعاً من الهرطقة العلمانية، و»الديكتاتورية الليبرالية» المخالفة للعقيدة القويمة، إلا أنهم يستفيدون دائماً من دعمها، سواء كان مادياً، عبر نظام الرعاية الاجتماعية؛ أو عينياً، عبر توزيع السلاح عليهم وحمايتهم من قبل جيش الاحتلال. الراديكالية هنا مدعومة مما ترفضه وتدينه تحديداً، بل تبدو ظاهرة طفيلية ضمنه، وتلعب في الوقت نفسه دوراً محورياً فيه. قد يكون أولئك المستوطنون من أكثر الجهات وضوحاً وصراحة في عالمنا، فهم يرون أن الصراع مستمر إلى يوم القيامة، ولذلك فإن رفض وعرقلة أي حل أو اتفاق، يمكن أن يتوصّل له السياسيون العلمانيون، هو أفضل طريقة لتحقيق إرادة الرب. وهكذا فإن الحالة التي يعيشونها، من عدم الوضوح السياسي والقانوني، تتيح لهم استيطان مزيد من الأراضي في الضفة الغربية المحتلة؛ كذلك فإن بقاء العنف والكراهية والتوتر العرقي، هو الوضع الروحي الأفضل، وكأننا في واحدة من حكايات العهد القديم، إلا أن أولئك المستوطنين لا يكسبون رزقهم من التبشير بالتوراة مثلاً، وإنما يعتمدون في كثير من الأحيان على ضرائب يدفعها من يعتبرونهم أغياراً، أي اليهود العلمانيين والمحافظين، وكذلك العرب من مواطني دولة الاحتلال. لا يمكن تفسير العدوانية الإسرائيلية بممارسات وتفكير أولئك المستوطنين بالطبع، فالتطرّف، ورفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، مشترك بين اليمين واليسار الإسرائيلي، إلا أن منظورهم هذا يبدو النسخة الدينية الأصليّة للراديكالية المعاصرة، المتسمة بالأخلاقية المفرطة، إذ تعتاش جماعات كثيرة على استمرار الصراع، والتذكير بالمظالم التاريخية، وإدانة السياسة التقليدية، و»تستوطن» مواقع جديدة في المؤسسات القائمة بفضل ذلك؛ وسيكون التوصّل إلى حل، أو طرح مطالب وبرامج في هذا السبيل، نهاية فعلية لمكاسبها، و»هويتها» القائمة على التظلّم.

دافعو الضرائب

بعيداً عن دولة الاحتلال، التي كاد الصراع فيها بين المتدينين والعلمانيين يصل إلى حرب أهلية، فإن الراديكالية المعاصرة باتت تضطهد المجتمعات فعلاً، في الشرق والغرب، فوسط الإفقار المتزايد، نتيجة الأزمات الاقتصادية، والحروب المستجدة التي لا تنتهي، لا يجد المتن الاجتماعي أي نخب أو تنظيمات تطرح له برامج سياسية واضحة للخروج من الأزمات، أو حتى تخفيفها، هنالك فقط متحدثون وناشطون، يكررون رطانة أخلاقية مفرطة، كثيراً ما تدين معظم أفراد المجتمع، على أساس العرق، أو الجنس، أو نمط الحياة، أو تاريخ الآباء والأجداد؛ وغالباً ما تستسهل اتهام الآخرين بالتخاذل والخيانة.

لا يكمن الضرر في أن أولئك الناشطين «منفصلون عن الواقع» بل على العكس، ربما كانوا الواقع المعاصر بحد ذاته، أو أسوأ ما فيه، فالصراعات والمظالم التي يعتاشون على استمراريتها، ويجدون مصادر التموّل على أساسها، مسبّب أساسي للأزمات العالمية الحالية، ما يجعلهم بالفعل «طليعة» النظام العالمي القائم.

ربما كانت السياسة، القائمة على البرامج والمطالب، ومحاولة ابتكار الحلول، تعني البشر المتضررين بالفعل، و»دافعي الضرائب» الحقيقيين، سواء كانوا من ضحايا الحروب ومشرّديها، كما في حالة الشعب الفلسطيني؛ أو عموم العاملين في المجتمع، الذين يأتي منهم كل دعم أو تمويل أو تمكين حقيقي في هذا العالم، وربما عليهم فقط يمكن التعويل.

كاتب سوري

———————–

في شأن مفهوم «الجينوسايد» ومشكلاته/ ياسين الحاج صالح

24 – يناير – 2024

دخل مفهوم الجينوسايد في التداول العام منذ وقت مبكر من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. ولم يكن ملف جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيه إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، حسب الترجمة العربية الأشيع للمفهوم، غير مسبوق ببيانات مفصلة قليلاً أو كثيراً من دارسي الجينوسايد. لكن الملف عزز تداول المفهوم الذي لم يكن مألوفاً في النطاق العربي حتى وقت قريب. الجينوسايد، إبادة الجينوس (ومنها على الأرجح الكلمة العربية جنس التي تجمع على أجناس) محاولة لتسمية جريمة لم يكن لها اسم قبل عام 1942 باسم لم يكن موجوداً من قبل. هذا الاسم اخترع أثناء الحرب العالمية الثانية على يد محام يهودي بولندي الأصل، رافائيل لمكين، عمل بعد لجوئه إلى أمريكا على إدراج جريمة الجينوسايد في القانون الدولي. في كانون الأول/ديسمبر من عام 1948 تبنت الأمم المتحدة اتفاقية خاصة لتجريم ومعاقبة جريمة الجينوسايد، فحازت «جريمة الجرائم» هذه، حسب لمكين، على قيمة قانونية وسياسية وعالمية، كانت من وجه آخر بمثابة ضغط مستمر على استخدامه التحليلي المفتوح.

عرفت الأمم المتحدة الجينوسايد بأنه أي «من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه». وهي تشمل «(أ) قتل أعضاء من الجماعة»؛ «(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة»؛ «(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً»؛ «(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة»؛ وأخيراً «(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى».

وهذا يثير ثلاث مشكلات تتصل بالمفهوم، ومشكلة رابعة تتصل بـ«تجريم ومعاقبة» المرتكبين.

أول المشكلات ما يتصل بالنية، أو «القصد» حسب الترجمة العربية للاتفاقية، أي وجود قصد مسبق بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة… وهو ما استند فيه الملف الجنوب أفريقي إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين من الصف الأول، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الدولة وآخرون. وفي هذا الشأن المسألة تأويلية، إذ لا يأتي التعبير عن النية في صورة قرار علني أو سري بالإبادة، وإنما في لغة يمكن اعتبارها إبادية، تتكلم مثلاً على حيوانات بشرية مثلما وصف وزير الدفاع الإسرائيلي الفلسطينيين، أو مثل إحالة رئيس الوزراء نتنياهو على العماليق، وهم شعب قديم تروي التوراة قصة إبادتهم على يد اليهود، مع تضمين ذلك أن الفلسطنيين هم عماليق اليوم. ومن اللغة الإبادية فيما يخصنا إنكار وجود مدنيين إسرائيليين، وبالتالي تشريع قتل الجميع.

لو لم نكن في إطار قانوني قضائي لوجب انتقاد هذا الطرح الضيق للنية، والكلام ربما على مقاصد أو نيات بنيوية، تنشأ من الهياكل السياسية القائمة في إسرائيل، كدولة تمييز عنصري، تنكر حق الشعب الفلسطيني في الأرض وما فوقها وما تحتها، ولم تعترف قط بمسؤوليتها عن نكبته المستمرة. لا يحتاج الأمر إلى نية، يستدل عليها من تصريحات، يرد على الاستدلال بتأويلات لا تنتهي. في السياق السوري مثلاً يمكن أن نتكلم على مقصد إبادي بنيوي «مكتوب» في البنية الطائفية للحكم الأسدي، وعدم الاعتراف بالمسؤولية عما حل بسوريا من كوارث خلال أزيد من خمسين سنة، ورفض أدنى حد من المشاركة في السلطة.

وتتصل المشكلة الثانية بتعريف الجماعة المستهدفة بالتدمير الكلي أو الجزئي: «قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه». هنا مصادرة على أن الجماعة معطاة سلفاً، على نحو يفترض أن الصفة القومية أو ألإثنية أو العنصرية أوالدينية، للجماعات ناجزة على الدوام، وأن هذه الجماعات «دائمية» متماثلة مع ذاتها في كل حال، وليست هي بالذات نتاج عمليات تصنيف وتمييز وفصل وضم محددة سياسياً، ومتغيرة تاريخياً، وأن التقاليد والأعراف «الأصيلة» التي تميز واحدتها عن الأخر قد تكون مخترعة قبل جيل أو جيلين فحسب. نعرف على سبيل المثال أن «الطوائف» في سياقاتنا المشرقية ليست شيئاً نصادفه في الطبيعة، بل هي نتاج عمليات سياسية متنوعة، بمن فيه عنف موجه ضد غير الطائفيين من ضمن الجماعات المختلفة، ومن صنع مظلوميات وإضفاء صفة نسقية عليها، فضلاً عن ضروب من التمييز تغذي الوعي الذاتي الطائفي عند الجميع. القصد أن الجماعات الناجزة قلما توجد قبل الأوضاع الإبادية، بل يغلب أن توجد في سياق الإبادة التي يتعين النظر إليها في هذه الحالة كقتل جمعي أو على الهوية، بقدر ما هي كذلك صنع لـ«الهويات القاتلة» والمقتولة.

أما المشكلة الثالثة فهي مضمنة في هذه العبارة الصغيرة: «بصفتها هذه» ما يعني أن الجماعات تباد لكونها هي من هي، وليس لأي شيء فعلته أو فعله أعضاء منها. يتعلق الأمر باستهداف جماعة «بريئة» لمجرد اختلافها، مع تضمين غالب بكونها أقلية عزلاء. فإن لم يكن الأمر كذلك، أي حين لا تكون الجماعة المستهدفة عزلاء كلياً، فإننا حيال حرب أهلية أو قمع تمرد أو حرب بالوكالة… وهذا يحجب حقيقة أن الجماعات المستهدفة قلما تمتنع عن صور من المقاومة، وهو ما ينطبق بصور مختلفة حتى على اليهود أثناء الحقبة النازية، علما أن الهولوكوست هو النموذج الضمني هنا. فقد شارك يهود في مجموعات الأنصار التي استهدفت مؤخرات الجيوش النازية، وتمردوا هنا وهناك كما في المثال الشهير لغيتو وارسو. وأهم من ذلك ليست كل حرب حرباً حتى حين يقاوم الناس ببسالة. هل يمكن بالفعل الكلام على «حرب» بين إسرائيل وحماس في غزة، على بسالة استثنائية بالفعل لمقاتلي غزة من حماس وغيرها؟ يتعلق الأمر بعنف بين طرف بالغ القوة، مسلح بالطيران ومدعوم من أقوى أقوياء العالم، وطرف آخر أضعف بكثير؛ والكلمة الأصلح لتسمية هذا الصنف من العنف هي التعذيب بالأحرى وليس الحرب، أو ربما نتكلم على حرب تعذيبية. وهو ما ينطبق بقدر كبير على حرب الحكم الأسدي على بيئات الثورة السورية، بما فيها التي شهدت مقاومات مسلحة جسورة. فاحتكار سلاح الطيران والصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل، والعتاد الثقيل عموماً، فضلا عن الموارد العامة، تدرج حربه في نطاق الحرب التعذيبية التي لا تبتعد كثيراً عن استهداف جماعات عزلاء. وهذا حتى لو لم نأخذ بالاعتبار الاستهداف النسقي للمدنيين والمرافق المدنية في هذه البيئات الثائرة.

وتتصل مشكلة رابعة بتجريم ومنع الجينوسايد، وما يقتضيه ذلك من قوة منظمة تتدخل للمنع، وتعمل من أجل التجريم. فعدا أنه لم يحدث قط أن شخص جينوسايد وقت حدوثه، من يتدخل، يا ترى إذا جرى هذا التشخيص الإسعافي؟ ليس لدى الأمم المتحدة قوات جاهزة، والقادرون على التدخل هم أساسا الأمريكيون ومن يمكن أن يجروهم وراءهم. ولكن الأمريكيين حين لا يكونون داعمين لإبادة مثلما هو جار الآن في غزة، فإن تشخيصهم للإرهاب بوصفه الشر السياسي الأساسي عالمياً، إن لم يكن الوحيد، لا يحجب الجينوسايد، ولا كذلك الاستعمار الاستيطاني والتمييز العنصري، ولا من باب أولى طغيان الدول، بل هو فوق ذلك مُشرّع على مسالك إبادية مثلما جرى في سوريا.

والقصد أن في تصور الجينوسايد حسب تعريف اتفاقية الأمم المتحدة له مشكلات مفهومية يتعين التنبه لها، ومشكلات قانونية وسياسية تحد بشدة من أثر الاتفاقية في التجريم والمنع.

ومع ذلك فالجينوسايد حقل بحثي بالغ الأهمية، يتوفر في نطاقه أدب واسع، قد يكون أنسب مدخل لإعاة التفكير في الدولة والعنف لدينا وفي كل مكان، لأنه يعطي فكرة أغنى مما نعرف في أي حقل آخر عن العنفية البشرية وعن الأقاصي الوحشية التي يمكن أن تبلغها. وفي بلداننا المستباحة لضروب قصوى من العنف، لا تفي مفاهيم مثل القمع والتسلط والديكتاتورية بتمثيلها، فإن هذا الحقل الدراسي يحوز أهمية خاصة، هذا إن كان لنا أن نتحكم يوما ببهائم العنف الإبادي التي تتحكم بحياتنا.

كاتب سوري

——————————-

أخبار سوريّة في ظل الحرب على غزة/ بكر صدقي

24 – يناير – 2024

انطلقت اجتماعات الجولة 21 من اجتماعات «مسار آستانة» أمس الأربعاء 24 كانون الثاني/يناير في عاصمة كازاخستان، بعدما كانت حكومتها قد أعلنت أن الاجتماع السابق هو الأخير.

قمت ببحث موجز على محرك البحث غوغل، فلاحظت أن عدد المنابر الإعلامية الناطقة بالعربية التي اهتمت بالخبر محدود، يكاد يقتصر على «روسيا اليوم» ووكالة نظام الأسد الأخبارية «سانا» بما في ذلك المنابر المهتمة بسوريا بصورة رئيسية. حتى وسائل الإعلام التركية تجاهلت عموماً اجتماع مسار آستانة الذي هي من الدول الضامنة له. هذا مفهوم، ليس فقط بسبب الاهتمام الإعلامي المتواصل بحرب غزة وارتداداتها الإقليمية، بل أيضاً لأن أحداً لم يعد يعير أي اهتمام بمسار آستانة الذي كاد يصبح بلا موضوع، وتجاوزته الأحوال السورية وما يحيط بها.

كذلك اقتصر الاهتمام بالمجزرة التي أدت إليها غارة للطيران الأردني على قرى في جنوب محافظة السويداء على منابر سورية معارضة، وصفحات سورية معارضة على وسائل تواصل اجتماعي.

الجديد، بشأن الغارة المذكورة هو إصدار وزارة خارجية النظام بياناً «معتدل النبرة» تجاه الأردن خلا من الإدانة أو أي تهديد بإجراءات مقابلة، وإن لم يخلُ مما يشبه العتب على الأردن وتذكير بدورها في «مد الإرهابيين بالمال والسلاح» خلال سنوات «الأزمة».

إنها المرة الأولى التي يخرج فيها النظام عن صمته إزاء الغارات الجوية الأردنية المتكررة على الأراضي السورية في إطار مواجهتها لعمليات تهريب المخدرات التي لم تتوقف، بل ارتفعت وتيرتها وتنوعت أساليبها وشملت تهريب السلاح أيضاً، منذ إطلاق المبادرة العربية للتطبيع مع النظام والعمل على إنضاج تسوية سياسة في سوريا. كذلك تأخر صدور البيان خمسة أيام بعد وقوع الغارة، الأمر الذي قد يشير إلى تردد بشأن مضمونه وصياغته. غير أن المعنى الأهم الذي يمكن استخلاصه من صدور البيان، وبهذه الصيغة، هو أن سلسلة العمليات العسكرية الأردنية في إطار مكافحة تهريب المخدرات إنما حدثت وتحدث بتوافق أردني مع النظام وليس كأمر واقع يعجز النظام عن مواجهته حتى بموقف إعلامي.

سبقت هذه الأحداث أخرى تتعلق بترتيبات هيكلية أجراها رأس النظام بواسطة مراسيم على أجهزته الأمنية و«المؤسساتية» والحزبية. فقد نقل رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك إلى منصب هامشي هو مستشار الرئاسة للشؤون الأمنية، وحل محله في رئاسة «المكتب» حسام لوقا. وسبق لوزير الدفاع علي عباس أن تحدث عن نية النظام في تحويل الجيش إلى جيش احترافي، بمعنى خفض الاعتماد على التجنيد الإلزامي مقابل زيادة نسبة المتطوعين. وتم استحداث «أمانة عامة لرئاسة الجمهورية» لتحل محل وزارة شؤون رئاسة الجمهورية. وقبل ذلك رأس الأسد اجتماعاً للجنة المركزية لحزب البعث يهدف إلى الإعداد لانتخاب قيادة جديدة للحزب، وتحدث فيه رأس النظام عن أن الحزب بصدد القيام بـ«انعطافة تاريخية».

كل هذه الترتيبات الإدارية والتنظيمية في وقت بلغت فيها أحوال البلاد الحضيض الاقتصادي – الاجتماعي، وتحولت أراضيها إلى مكسر عصا للقوى الإقليمية والدولية المنخرطة، إسرائيل وتركيا وإيران والولايات المتحدة وروسيا والأردن، وفي وقت يستمر فيه أهالي السويداء في انتفاضتهم المستحيلة منذ الصيف.

كان الانطباع السائد منذ أشهر الصيف أن المبادرة العربية قد انتهت إلى الفشل بسبب عدم استجابة النظام لمتطلباتها. اليوم، وبعد اتضاح أن الغارات الجوية الأردنية تتم بالتوافق الصامت مع النظام، قد تجوز إعادة النظر في ذلك والقول إن النظام المحشور بين الضغوط العربية والضغط الإيراني الذي اشتد عليه في الأشهر الأخيرة لتحصيل الديون الفلكية، ربما يستجيب بطريقته الخاصة من خلال الاستسلام للعجز المطلق أمام تلك الضغوط، ومن خلال ترتيبات إدارية ليقول إن هذه هي حدود «التغيير» التي يستطيع القيام بها استعداداً للتسوية السياسية للصراع السوري.

من جهة أخرى واظب رأس النظام على صمته إزاء حرب غزة منذ اندلاعها، بل صرح قائلاً، في الاجتماع الحزبي المشار إليه أعلاه، إنه «لا جديد في قتل إسرائيل للفلسطينيين»! في الوقت الذي يجمع فيه المراقبون وتصريحات سياسيين على أن ترتيبات جديدة للنظام الإقليمي لا بد أن تلي انتهاء حرب غزة، وتقترح فيه إسرائيل على الأمم المتحدة إنشاء جزيرة اصطناعية في البحر لإيواء الفلسطينيين!

وكأن رأس النظام في حالة إحباط عميق من تحقيق «النصر» الذي طالما توعد به، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل ثورة 2011، فغرق في صمته وقهره ليترك للحلفاء الروس والإيرانيين حتى اتخاذ المواقف من الأحداث التي تهز سوريا، ووصلت حد قصف منطقة إدلب بصواريخ منطلقة من الأراضي الإيرانية، والضربات الإسرائيلية المتواصلة، وآخرها في حي مزة في العاصمة دمشق التي استهدفت قادة مهمين في فيلق القدس. وغرقت في النسيان أحداث كانت واعدة من زاوية نظره كمشاركته في اجتماع القمة العربية في جدة، والمفاوضات مع تركيا، وزيارة رأس النظام للصين.

تصريحات ممثل الرئيس الروسي لافرينتيف في المؤتمر الصحافي الذي عقده في افتتاح اجتماع آستانة الجديد تشير إلى عدد من النقاط هي ما يبدو أن روسيا مهتمة بطرحها على المشاركين: فقد أشار إلى عقد اجتماع مع الوفد الأردني للتباحث حول «الوضع الصعب» على الحدود الأردنية السورية، بما في ذلك مشكلة تهريب المخدرات. كما كرر الشكوى الروسية الدائمة من وجود القوات الأمريكية على الأراضي السورية، الذي يحول دون المضي في عملية التسوية حسب قوله. وتطرق أيضاً إلى الضربات الأمريكية ضد أهداف للحوثيين داخل اليمن، وهو لزوم ما لا يلزم في الخطاب السياسي الروسي منذ بداية الحرب في أوكرانيا.

وكان لافتاً من جهة أخرى أن وفد المعارضة السورية إلى آستانة اجتمع مع وفد الصليب الأحمر، في الوقت الذي انصب اهتمام الوفود الأخرى على إجراء لقاءات بأطراف فاعلة في الصراع السوري. فلا توقعات لدى أحد بشأن تحقيق تقدم في التسوية السياسية، بل ربما يأمل الوفد المعارض في عودة تدفق المساعدات الإغاثية عبر المعابر الحدودية.

كاتب سوري

——————————

الأمركة في الشرق الأوسط/ غسان المفلح

19 – يناير – 2024

الأمركة، (بالإنجليزية أمريكانيزيشن Americanization) مصطلح خلافي داخل المعجم السياسي العربي والغربي، دون أن يتم تعريفه رغم شيوعه. الأمركة في تصوري هي محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية. ويوجد مصطلح طريف قريب منه للغاية هو مصطلح “الكوكلة” أو “الكوكاكوليزيشن” Cocacolization. والكوكاكولا هي رمز نمط الحياة الأمريكية وانتشارها وتدويلها. يضيف الباحث عبد الوهاب المسيري: وقال أحدهم إن الأمر ليس كوكلة وحسب وإنما هي كوكاكولونيالية، بدلا من “كولونيالية” أي أن الكوكلة هي الاستعمار في عصر الاستهلاكية العالمية، وهي استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء. وألّف أحد علماء الاجتماع كتابا بعنوان “The Macdonaldization of the World” أي “مكدلة العالم” (نسبة إلى مطاعم ماكدونالدز) الذي يصبح هنا رمز الأمركة بدلا من الكوكاكولا.

هذه المادة عن مفهوم الأمركة، رغم غزارة المعلومات الواردة فيها، تحتاج منا إلى مناقشتها بقليل من الروية كي نتعرف على الوجه الحقيقي للأمركة في الشرق الأوسط.

في كتابه “توازن الغد” يشير “روبرت شتراوس” إلى أن المهمة الأساسية لأمريكا تتمثل في توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها واستمرار الهيمنة الثقافية الغربية وأن هذه المهمة لا بد من إنجازها لمواجهة القوى التي لا تنتمي للحضارة الغربية. الأمركة نزوع لغزو الآخرين ثقافيا واقتصاديا ومهاجمة الهويات الأممية وإذابة النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب وفرض التبعية عليها. كما تقول الكاتبة زكية إبراهيم الحجي.

التقاطعات بين المهتمين بظاهرة الأمركة كثيرة، لكن هناك اتفاقا عاما تقريبا هو أن الأمركة شكل استعماري “حداثي” خاص.

الحقيقة أن أغلب من ناقش هذا المفهوم وهذه الظاهرة العالمية من مهتمي الشرق الأوسط، ناقشها انطلاقا من مصلحة سلطات دول هذه المنطقة المليئة بالنفط وإسرائيل، بينما دول هذه المنطقة هي “محميات” سلطوية شرق أوسطية. أي أن هذه السلطات لسان حالها يقول: أمريكا تحمي سلطاتنا فقط، وغير مطلوب منها أمركة مجتمعاتنا إلا بما يتناسب مع استمرار أبديتنا كسلطات ديكتاتورية فاسدة، وهي تملك الشعوب في هذه الدول مع ثرواتها. أي أن غالبية المهتمين تتناول الظاهرة من زاوية المصلحة السلطوية فيما يعرف بالبلدان الإسلامية ومنها العربية. هذا من جانب ومن جانب آخر يعتقد هؤلاء أن أمريكا فعلا تريد أمركة هذه المجتمعات! هنا المعضلة في هذا المبحث. أي أن أمريكا تريد علمنة ودمقرطة مجتمعاتنا “المتخلفة”. التخلف بالطبع تعبير تستخدمه كل الدول البيضاء وعلى رأسها أمريكا. في معالجته يؤكد المسيري أن أمريكا تريد العلمنة! وهو يحاول أن ينحو بذلك نحو تيارات الأيديولوجيا الإسلامية بمستواها السياسي، التي تحرض على أن أمريكا تريد انتشار العلمنة والكفر في بلداننا، تريد نزع خصوصياتنا الدينية والثقافية وغيرها منا، بينما أمريكا في الحقيقة غير معنية بكل هذه الشعارات. الخصوصية في بلداننا هي خصوصية السلطات الحاكمة. خصوصيتها في امتلاك دول فاشلة وأجهزة قمع ضخمة واستهلاك مثير للشبهة والريبة. هذه هي الخصوصية.

ظاهرة الأمركة

هنا لابد من التمييز بين نوعين من الدول النفطية والدول غير النفطية. في الدول النفطية البحبوحة التي يعيش فيها مواطنها تجعل الأمر أكثر إشكالية عند معالجة ظاهرة الأمركة. لهذا سنكتفي في هذه العجالة بمعالجة هذه الظاهرة في بعض الدول. من المفارقات اللافتة: أن الدول النفطية الخليجية دول تحكمها عائلات ملكية أو أميرية ما عدا العراق وإيران. نلاحظ نسبة الفقر في إيران، إذ جاء في تقرير البنك الدولي في نهاية عام 2023 أن أكثر من 10 ملايين إيراني يعيشون تحت الفقر. أما في العراق فإن كافة التقارير تشير إلى أنه ما بين 25 و30% من الشعب العراقي يعيش تحت الفقر. هذه النسب ليست موجودة في بقية الدول الخليجية. في الجهة المقابلة أيضا أعلنت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أن نسبة الفقر في ليبيا ارتفعت إلى 40 في المئة خلال سنة 2023. أما في الجزائر الدولة النفطية العربية الثانية في إفريقيا فيقول تقرير الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، إن عدد الجزائريين الذين كانوا يعيشون تحت خط الفقر عام 2018 قُدِّر بـ 15 مليونا، ما يمثل حوالي 38% من العدد الإجمالي للسكان، أي أن من بين كل 3 جزائريين يوجد جزائري يعيش فقرا مدقعا.

حالة مزرية

هذه الأرقام غير موجودة، كما أسلفت، في الدول النفطية الخليجية. من المهم الحديث عن هذا الجانب لفهم ظاهرة الأمركة. هذه الظاهرة بوصفها سيطرة كبيرة على سوق النفط العالمي تتعامل مع تلك السلطات حيث النفط يذهب إلى السوق العالمية واصحابه شعوب المنطقة في حالة مزرية نسبيا. هذا جانب من ظاهرة الأمركة الذي يقتضي وجود سلطات لا ديمقراطية قمعية وفاسدة، حتى لو كانت ديمقراطية شكلانية كالجزائر. البحث في هذا الجانب أهم بكثير من البحث في الأمركة بوصفها علمنة كما يرى المسيري، لأنني لم ألمس مؤشرا واحدا في الحقيقة على أن أمريكا تريد علمنة دول الشرق الأوسط! خاصة إذا علمنا أن لا علمنة بدون دمقرطة ولا دمقرطة بدون علمنة. إنها عملية نهب من جهة وسيطرة مستمرة من جهة أخرى. ربما الإشارة للمثال الفنزويلي مهمة في هذا السياق، كونها جارة أمريكا ولا تحتاج لعلمنة رغم غياب كامل للديمقراطية فيها تقريبا. بل مستوى الفقر مرعب هناك والاستثمارات الاسبانية في أعلى أرقامها بالتعاون مع أمريكا. لنترك هذا الجانب وننتقل الى جانب مهم آخر في سياق هذه الأمركة وهو إسرائيل ودول الطوق المحيطة بها، المقصود الأردن ومصر ولبنان وسوريا، وبالطبع دخلت إيران على الخط منذ أكثر أربعة عقود. هل أمريكا فعلا حريصة على علمنة المجتمع الإيراني أو المصري؟ هل كانت حريصة على دمقرطة العراق حتى بعد أن احتلته؟ هل كانت أمريكا حريصة على أن ينال الشعب السوري حريته من نظام فاسد وقاتل؟ لهذا رغم كل التعريفات التي يقدمها الباحث عبد الوهاب المسيري في الأمركة، فهي تضيع في الحكم النهائي على هذه الظاهرة في الشرق الأوسط. العنوان العريض لو استعرضنا دول الطوق ومعها إيران والعراق لوجدنا التالي: دول فاشلة مع سلطات ديكتاتورية فاسدة ماليا وسياسيا. وأمريكا تتعامل مع هذا المعطى بوصفه معطى نهائيا حتى اللحظة لا تريد زحزحته. أمريكا احتلت العراق قبل أكثر من عشرين عاما وسلمته لإيران بالمعنى النسبي للكلمة، وما هو وضع العراق الآن؟ ثمة أسطوانة أخرى يستخدمها الكثير من المهتمين في هذا الشأن أن أمريكا تريد استقرارا في هذه الدولة أو تلك من هذه الدول، هذا الأمر يكذبه المثالان العراقي واللبناني وأيضا يمكن أن نضيف الآن السوري. الاستقرار أمر غير مطروح مطلقا على أجندة الأمركة. استقرار أمني بما لا يتعارض مع ثلاثة أمور أساسية: الأول النفط والثاني إسرائيل والثالث الوضع الجيوسياسي لهذه الدول في خارطة الأمركة. أما الفوضى وشعوب تقتل وتحكم بالحديد والنار فهذا آخر هم الأمركة. الاستقرار آخر هم الأمركة أيضا. بعد ذلك كيف يمكننا الحديث عن أن أمريكا تريد علمنة ودمقرطة وطمس خصوصياتنا القومية والدينية؟ الأمركة تعيش وفق السائد الآن وفي هذه اللحظة في كل هذه الدول. السؤال ما هو السائد الآن مثلا في دول الطوق وفي العراق وليبيا وإيران وحتى الجزائر؟ ما هو السائد على صعيد العلمنة والدمقرطة ومستوى معيشة الفرد فيها؟ الأمركة هي في النهاية كما أسلفت: دول فاشلة وسلطات دكتاتورية فاسدة وشكل من أشكال الإبادة السياسية لكل من يعارض هذا الأمر. إسرائيل من وجهة نظر الأمركة تحتاج لمبحث خاص بها.

كاتب سوري

—————————-

الأصولية المسيحية الأمريكية وتجميل حرب الإبادة الإسرائيلية/ صبحي حديدي

18 – يناير – 2024

الأمريكي ماريون غوردون (بات) روبرتسون (1930 ـ 2023) مؤسس وأبرز زعماء «التحالف المسيحي» أكثر الحركات القاعدية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة؛ رحل عن عالمنا قبل أسابيع قليلة من عملية طوفان الأقصى» وانخراط دولة الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، في قطاع غزة أولاً وفي سائر الضفة الغربية تالياً. وهكذا خسر متابعوه الأمريكيون الكثر، وهم أيضاً أنصار دولة الاحتلال لأسباب شتى دينية وسياسية، ما كان سيلقيه من مواعظ وأدعية وصلوات على شاشة التلفزة الناطقة باسم منظمته؛ خاصة تلك التي اعتاد أن يجمع فيها بين الهبل والاستهبال، من طراز موقفه إزاء قرار رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، أرييل شارون، الانسحاب من مناطق في قطاع غزة.

ففي سنة 2006، حين أُصيب شارون بجلطة في الدماغ، خرج روبرتسون على شاشة الـCNN ليعلن أن السبب «قصاص إلهي جزاء الانسحاب من غزة (…) والويل ثم الويل لكل رئيس وزراء إسرائيلي يتخذ المسار ذاته» ذلك لأن قطاع غزة، في ناظر روبرتسون، هي «أرض اعتبرها الله ملكه» وسوف يقول الله لكل مسؤول إسرائيلي يقرر التخلي عنها: «كلا، هذه الأرض أرضي». بعد أيام قليلة، ولأنه خضع لضغوطات هائلة من مجموعات يهودية وأخرى داخل منظمته، واستنكار من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وعدد من ساسة دولة الاحتلال؛ بعث روبرتسون رسالة اعتذار إلى ابن شارون، وصف فيها الأخير بأنه «رجل طيب، ونبيل، ورؤوف» وكان «يحمل عبئاً هائلاً في اتخاذ القرارات لخدمة أمته». ولهذا: «أطلب الصفح منكم ومن شعب إسرائيل».

غير أن غياب روبرتسون عن المشهد، داخل «التحالف المسيحي» أو بعيداً عن شاشة التلفزة، لم يبدل الكثير في نهج المنظمة وخطابها الديني والسياسي تجاه دولة الاحتلال عموماً؛ وبصدد المساندة المطلقة لجرائم الحرب التي تواصل ارتكابها منذ 100 يوم ونيف خصوصاً. وبسبب النفوذ الهائل الذي يمتلكه التحالف، على أصعدة مالية وتنظيمية وإعلامية، وداخل الكونغرس بصفة خاصة، تقود روبرتا كومبز الرئيسة الحالية للمنظمة معارك ضارية تماماً على الطرق ذاتها التي اختطها روبرتسون؛ مع فارق قد لا يكون طارئاً تماماً إلا في مقادير شراسته: جبهة السعار المحافظ واليميني والعنصري ضد الجامعات الأمريكية الكبرى، وحراك الطلبة داخل الحرم الجامعي للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإدانة حرب الإبادة الإسرائيلية.

والحال أن خيارات «التحالف المسيحي» في مساندة دولة الاحتلال تنعكس مباشرة وعلانية، والقليل منها فقط يتسلل على استحياء، في مواقف الغالبية الساحقة من مكونات وقوى ومنظمات بات علم الاجتماع الأمريكي المعاصر يتوافق على توصيفها تحت خانة «الأصولية المسيحية». وهنا، ليس البتة على سبيل الحصر، نماذج عن تلك التيارات:

1 ـ المجموعات اليمينية التقليدية، المدافعة عن حقوق امتلاك مختلف الأسلحة، والمعترضة على النظام الضريبي، والداعية إلى أن ينص الدستور على المزيد من الحريات الفردية.

2 ـ المجموعات العنصرية، والنازية الجديدة.

3 ـ دعاة «المواطن المطلق» ممن يتكئون على تفسير متطرف للتعديلين الرابع عشر والخامس عشر حول الحريات الدستورية. (لافت أن هذه المجموعة تضع السود والإسبان والآسيويين في صف مواطنين من الدرجة الثانية).

4 ـ الأجنحة المعادية لقانون حرية الإجهاض.

5 ـ الجماعات المسيحية «الألفية» و«القيامية» من المؤمنين بأن العالم دخل الآن في طور ما قبل قيام الساعة ومجيء يسوع المخلص.

6 ـ القطاع اللاهوتي الاستقلالي من الشرائح اليمينية في الكنيسة الإنجيلية.

7 ـ الجناح اليميني المتشدد من حركة العداء للنظرية البيئية وحماية الطبيعة.

8 ـ حركة الاستقلال الإداري للمقاطعات الريفية (المناهضة لصيغة الولاية) ممن يطرحون تفسيراً متشدداً للتعديل الدستوري العاشر حول صلاحيات الحكومة المركزية.

وهؤلاء، غني عن القول، أخلص حلفاء حركة الـMaga، المتماهية أساساً مع شعار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول جعل أمريكا عظيمة مجدداً؛ رغم وجود تناقض تكويني في قلب هذه المجموعة بصدد الموقف من اليهود تبعاً لـ«نظرية الاستبدال» الشهيرة. ففي مسيرة الفاشيين الجدد التي شهدتها شارلوتسفيل، فرجينيا، صيف 2017؛ رُفعت لافتات تقول: «اليهود لن يحلوا محلنا» فاقتدى غلاة اليمين القومي الجمهوري برئيسهم ترامب، وسكتوا تماماً عن المحتوى المعادي للسامية في هذه النبرة.

ومن المعروف أن في طليعة الركائز التي تستند عليها الأصولية المسيحية الأمريكية، خاصة فرعها المسيحي الصهيوني، تلك النظرية التي بدأ التبشير بها في القرن الثامن عشر، وتقول بعودة يسوع إلى عالمنا هذا لتخليصه من الشرور، وذلك حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل؛ نجاح إسرائيل في احتلال كامل أرض التوراة، أي معظم الشرق الأوسط؛ إعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبة الصخرة والمسجد الأقصى؛ وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضد إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إما الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهد لعودة المسيح المخلص!

ولأن حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضد الشعب الفلسطيني تقودها حكومة هي الأكثر تشدداً وتديناً وعنصرية وفاشية في تاريخ الكيان الصهيوني، وهي بالتالي تدعو جهاراً وتشتغل منهجياً على صنوف شتى من استهداف الأقصى؛ فإن غالبية التيارات الأصولية المسيحية والصهيونية الأمريكية لا ترى في جرائم الحرب الراهنة ضد الشعب الفلسطيني مجرد «دفاع عن النفس» كما يتشدق الكثيرون من أنصار وأصدقاء دولة الاحتلال، فحسب؛ بل هي خطوات ملموسة على الطرق المفضية إلى أرماغيدون.

وإذا كانت هتافات طلاب هارفارد أو كولومبيا أو ييل المطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة تُصنف، باستسهال فاضح وابتذال غير مسبوق، في سياق العداء للسامية؛ فإن الكثير من الخطوط العقائدية التأسيسية التي تحكم معظم المنظمات المسيحية الأصولية، وحتى تلك المسيحية الصهيونية منها، لا تُذكر نهائياً رغم محتواها الصريح المعادي لليهود، من دون مواربة وتحت لافتات لاهوتية. ما الذي قيل مثلاً، على سبيل الاحتجاج، بصدد مقولة «التحالف المسيحي» المعتمَدة حرفياً على لسان روبرتسون نفسه منذ العام 2014، من أن اليهود «يفضلون صقل الألماس على صناعة السيارات»؟ وكيف انقلبت عند أنصار التحالف، كما عند عدد من كبار أصدقاء دولة الاحتلال في أمريكا، إلى صيغة مديح لليهود واستئناس بالتوراة.

ليس هذا فقط، بل يُشار أيضاً إلى أن محوراً مركزياً في إيديولوجية «التحالف المسيحي» يُستمد من كتاب روبرتسون «الألفية الجديدة» 1990، الذي يؤكد أن دولة الاحتلال سوف تفنى في الأيام الأخيرة قبل الدينونة؛ ولكن السيناريو الذي يقترحه أشد إثارة من أي سيناريو آخر في التراث المعمداني الأمريكي بصدد العلاقة الإسرائيلية بمجيء المخلص: «هذه الأمة الصغيرة قليلة العدد ستجد نفسها معزولة عن العالم. وعندها، كما جاء في التوراة، سوف يضرع اليهود إلى ذاك الذي انتبذوه على الدوام». وأما الأمريكي المسيحي، فإنه سوف «يثور يوماً ما ضد اليهود الكوزموبوليتيين الليبراليين والعلمانيين الذين يطالبون بحرية قصوى للبذاءة والبورنوغرافيا وقتل الجنين» يكتب روبرتسون؛ ويكمل: «اليهود الليبراليون يتابعون جهودهم لتدمير القوة المسيحية لدى عامة الشعب»…

ومع ذلك، لا أحد يتهم روبرتسون أو منظمته بالعداء للسامية؛ فلا ضير من «خزعبلات» كهذه، حسب عتاة الصهاينة المعاصرين، ما دام قائلها يجمل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة: قلباً ولساناً وساسة وتلفزة و… دولارات بالملايين!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

——————————

نصر إلهي: هل يحقّ لنا التفكير بمكاسب دنيوية؟/ محمد سامي الكيال

18 – يناير – 2024

اكتسب تعبير «النصر الإلهي» حمولة دلالية ملغومة للغاية، انطلاقاً من لبنان، عقب حرب تموز/يوليو 2006، عندما استخدمه أنصار حزب الله لوصف نتيجة الأعمال العسكرية، التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية. بالنسبة لخصوم الحزب السياسيين، وكثير من المواطنين العاديين، بدا التعبير أشبه بتعليق ساخر وعبثي على كارثة، حلّت بحياة الناس والبنية التحتية، ولم يشف منها لبنان حتى اليوم، ما دفع لجدل كبير حول معايير النصر والهزيمة، في تفكير وعقيدة حركات مقاومة الاحتلال المعاصرة. وكان الانطباع السائد بين المعارضين أن «النصر الإلهي» ليس إلا طريقة بلاغية ودينية، للتغطية على مغامرات عسكرية لا معنى لها، ولا تؤدي سوى للدمار، دون تحقيق مكاسب فعليّة على الأرض؛ فيما أصرّ مؤيدو «النصر» على أن استمرار المقاومة، وعدم الاستسلام للعدو، وتكبيده خسائر فادحة، هو بحد ذاته إنجاز، لطالما عجزت عنه أكبر الدول العربية، بجيوشها المتضخّمة.

إلا أن هذا السجال، الذي خيض على منابر الإعلام الجماهيري، لم يركّز بما فيه الكفاية على دلالة «الإلهي» في «النصر» التي قد يمكن شرحها كما يلي: ما حدث يخالف سير الأمور الاعتيادي، وما نتوقّعه من دراسة موازين القوى، والمصالح الصغيرة والضيقة لهذا الطرف أو ذاك، فجيش دولة نووية، مدعومة من الدول المسيطرة على النظام العالمي، فشل في تدمير مجموعة من المقاتلين، الذين يجاهدون بأساليب بدائية، لدى مقارنتها في إمكانات العدو. هذا يبدو خرقاً لـ»القانون الطبيعي» نفسه، ويكتسب سمات المعجزة. والمعجزة لا تعني بالضرورة الحكاية الخرافية، التي تظهر فيها كائنات ما ورائية، وإنما قدرة الناس على تجاوز عجز ما، يوقعهم في عبودية ظروفهم القاهرة، عبر الإيمان، وبذل الجهد الأخلاقي، واحتمال الأذى في سبيل المعتقد، والالتزام بتعاليم روحية، لها جانبها الطقوسي المادي، المفيد بمجاهدة النفس، واكتساب القوة.

بهذا المعنى فإن نتائج صراعات كثير من حركات المقاومة المعاصرة تحمل بالفعل بعض خصائص «النصر الإلهي» بالنسبة لمن يودّون مجاهدة أنفسهم والعدو. لكن ماذا عن الآخرين؟ أو الذين لم تبلغ تجربتهم العقائدية والروحية هذا المبلغ؟ لا تتعلّق الإجابة هنا بتعدد المعتقدات والرؤى والخيارات في المجتمع فحسب، بل أيضاً بعمق مفاهيمنا عن السياسة، وثقافتنا السائدة، وفهمنا لذواتنا. هل علينا بالفعل أن نضحّي في سبيل انتصارات إلهية، يصعب على كثير منّا فهمها؟ أم لعل الجهد السياسي والثقافي الأبرز هو رفع وعي الناس، ليساهموا في مشروع مقاوم، أخلاقي وإيماني، فرضته علينا عنجهية العدو؟ وهل بحث البعض عن نتائج ومكاسب واضحة في أي فعل عسكري أو سياسي هو نمط من الانهزامية، وربما الخيانة؟

شبكات الإيمان

يصعب رصد دراسات فعليّة عن الشبكات التنظيميّة لحركات المقاومة المعاصرة، توجد فقط تقارير إعلامية متعددة، وشهادات شخصية، تشير إلى كثير من الوقائع المتضاربة، إلا أنها تفيد، بعيداً عن اتهامات الفساد والعلاقات الزبائنية، بأنه يوجد بالفعل تعليم ديني، وإعداد عقائدي وأيديولوجي شديد الفعالية، إلى جانب التدريب العسكري والتقني للمقاتلين، ما يمكن اعتباره تأسيساً راسخاً للمفاهيم الروحية عن المعركة، ومعنى النصر أو الهزيمة فيها. كما أن تلك الشبكات ليست منفصلة تماماً عن المجتمع خارجها، فهي قادرة على تعميم مفاهيمها، بناءً على المشتركات الطائفية أو الدينية، وتكوين قاعدة واسعة من المتعاطفين؛ والأهم أنها تستطيع الوصول إلى أفراد ومجموعات من مذاهب وأيديولوجيات أخرى، عبر التركيز على قضايا مترسّخة في النماذج الوطنية والقومية في الدول العربية، مثل مواجهة الاستعمار، القضية الفلسطينية، العداء للغرب. يحيط هذا المقاومة بناشطين سياسيين كثر، من مشارب مختلفة، يسارية وقومية ووطنية؛ وبهيئات وأنماط حياة لا تبدو «إسلامية». يستطيع هؤلاء الناشطون أن يتفهمّوا، أو على الأقل يحترموا، المنظور الروحي لتلك الجماعات، وأيضاً «ترجمته» بلغة معلمنة لأوساط واسعة من الرأي العام.

لا نتحدّث هنا إذن عن مجموعات مسلّحة عقائدية مغلقة، لا قاعدة اجتماعية فعلية لها، وبالتأكيد لا يمكن تشبيه تنظيمات مثل حماس وحزب الله بـ»جماعة الجيش الأحمر» الألماني، أو «طائفة الحقيقة المطلقة» اليابانية مثلاً. إلا أن هذه «الشبكات الإيمانية» إن صح التعبير، المنتشرة في المجتمع والثقافة الجماهيرية، تتعرّض لهزّة كبيرة وقت الحرب بالتحديد، إذ تبرز أصوات عديدة، داخل المجتمعات المدمّرة نتيجة المعارك، تتساءل عن الجدوى والمعنى، وتُحمّل الجماعات المسلّحة مسؤولية الخراب؛ فيما يعاني كثير من الناس، لدى مقارنتهم بين واقعهم الصعب، من موت ونزوح وجوع؛ وحديث القادة والناشطين عن النصر الإلهي. يبدو هنا أن البشر غير قادرين على العيش في المعجزة، وهذا تناقض كبير في بنية خطاب المقاومة، إذ أنها تبني كامل وجودها على فكرة محاربة العدو والاستعداد لها، والقدرة على تحقيق النصر؛ إلا أنه مع بدء الحرب المنتظرة، وانتهائها، يتصاعد التشكيك بمفهوم «النصر» بل التهكّم منه، وهذا يعني أن «الشبكات الإيمانية» المذكورة أعلاه ليست فعّالة أيديولوجياً، بالقياس إلى الغاية التي أُنشئت لأجلها، أو على الأقل غير فعّالة كثيراً بين الجمهور الذي يضطر لعيش وقائع الحرب. يمكن هنا ملاحظة أن نسب تأييد المقاومة تظل مرتفعة في أماكن بعيدة نسبياً عن ميادين القتال، وهذا ما بيّنه استطلاع فلسطيني للرأي، أظهر أن تأييد حركة حماس أعلى بكثير في الضفة الغربية من قطاع غزة؛ كما يبدو أن الانجذاب للمقاومة يزيد في مصر وشمال افريقيا عن منطقة المشرق العربي، التي عرف أهلها كثيراً من الانتصارات الإلهية.

يصعب إذن تأسيس شرعية قرارات، شديدة التأثير على حياة المجتمع، مثل الدخول بحرب مدمّرة، على أساس محاولة نقل التقوى الخاصة بتنظيم ما إلى جماعات أوسع من المتعاطفين. بمنطق بسيط، يمكن القول إن المجتمع يدفع ثمن المعارك، وبالتالي يجب أن يمتلك الحد الأدنى من السيطرة على قرار الحرب والسلم، وإذا لم يشعر بذلك، عبر آليات سياسية واجتماعية، يمكن قياسها والتعاطي معها، فربما سيظن أن معجزة النصر الإلهي اعتداء مباشر عليه.

ترجمة الإيمان

لا يمكن بالطبع اختزال حياة أي مجتمع بمجموعة من المصالح والمكتسبات، إذ أن مفهوم «المصلحة» نفسه قد يختلف بين فرد وآخر، وتحديدها قد يتضارب بين المجموعات المتعددة في المجتمع، فما يراه البعض «حياة آمنة» قد يعتبره البعض الآخر مذلّة، لا مصلحة لأحد بتقبّلها. فضلاً عن عوامل المعتقد والعاطفة والرغبة والخيال. ولذلك فإن مناقشة أي حركة مقاومة بناء على المعطيات، التي تصنّف بوصفها «براغماتية» بحتة، لا معنى كبيراً له، ويبدو «خارجياً» للغاية عن السياق.

لا بدّ إذن من وجود آلية ما، تمكّن الأفراد والمجموعات من «ترجمة» تطلعاتها ومعتقداتها، وما ترى أنه مصالحها، للآخرين، وهذا يختلف عن «ترجمة» الناشطين، الموصوفين بالعلمانية واليسار، لأفعال المقاومة بعد حدوثها. فقد سبق لحركات مقاومة كثيرة، ومنها منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، إنشاء نوع من الهيئات والمجالس الوطنية، لإكساب قراراتها الشكل الشرعي. ورغم أن تلك الهيئات والمجالس لم تكن شديدة الفعالية، إلا أنها ساهمت، في حالة المنظمة، ببناء ما نسميه اليوم «الشعب الفلسطيني» فيما اعتُبرت كل الوقائع، الخارجة عن تلك الشرعية الشعبية، «انفلاتاً فصائلياً» حتى لو كان ذلك «الانفلات» هو القاعدة في كثير من الأحيان. المهم هنا أن هيئات الشرعية كانت قادرة على فرز الفعل الوطني عن غير الوطني، أي أنها نجحت ببناء آلية مرنة، لترجمة تعددية معتقدات ومواقع ومصالح الشعب الفلسطيني، إلى لغة عمومية، وأشعرت البشر أنهم يمتلكون «قراراً وطنياً» حول تقلّبات الحرب والسلام.

النصر الدنيوي

في غياب ذلك النوع من «القرار» ستتحول المقاومة إلى مجرد ميليشيا عقائدية، تجترح معجزات لا تعني أحداً سواها؛ فيما سيبدو مبررو أفعالها وشارحو انتصاراتها، سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين، أقرب لكهنة عقيدة غير مفهومة، مليئة بالطلاسم والتعاويذ، قد يمكن هنا اقتراح تعريف للنصر، وهو تعريف دنيوي بالضرورة، وليس إلهياً أو مستمداً من وحي إلهي، ما دمنا لا نتشارك جميعاً الإيمان نفسه بالضبط: تحقيق أهداف، حددتها شرعية وطنية أو شعبية ما، مع إمكانية محاسبة القائمين على تحقيقها، والبحث في مدى جدوى كل تصرّف عسكري أو سياسي بالقياس إلى تلك الأهداف، وكذلك رأي البشر الذين دفعوا ثمنها. وإذا لم تتوفر تلك الشرعية، فإن الفعل المقاوم الأساسي هو السعي لبنائها أولاً. ربما كان لكل طرف، في فلسطين أو لبنان أو اليمن، أو أي بلد آخر، مفهومه الخاص عن المعجزة، وكذلك النصر والهزيمة، وهذا يضع كثيرين في أزمة كبرى مع «معجزة» المسلحين وكهنتهم، فهي ليست إلا فرضاً لرؤيا طرف واحد، بحجة أننا أمة أحادية التطلعات والأفكار والمصالح، وربما يكون هذا نوعاً من الظلامية القاتلة، قتلاً جماعياً.

كاتب سوري

—————————

غزة بين شبكة «سي إن إن» والرقيب الإسرائيلي: الخضوع طواعية/ صبحي حديدي

11 – يناير – 2024

موقع The Intercept، الإخباري والصحافي الأمريكي الذي يفرد مساحة واسعة للاستقصاء والتحليل السياسي، نشر مؤخراً تحقيقاً موثقاً عن واقع تغطية شبكة CNN الأمريكية للحرب التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزّة؛ كتبه دانييل بوغاسلو المحرر المتخصص في تغطية البيت الأبيض والسياسة الخارجية للولايات المتحدة وأدوار وسائل الإعلام المختلفة في هذه الميادين. وقد تضمن التحقيق سلسلة تفاصيل، مثيرة تماماً والكثير منها جديد يُكشف النقاب عنه للمرة الأولى، حول هيمنة مكتب الشبكة في القدس المحتلة على كلّ، وأيّ، مادة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية تخصّ دولة الاحتلال؛ حيث يتوجب إخضاع جميع هذه المواد لمراجعة المكتب، بمعنى التدقيق والتصويب والحذف والتعديل قبيل إجازة البثّ أو النشر.

وهذا الكيان الصهيوني، الذي يتفاخر أنصاره وأصدقاؤه وحماته في الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية بأنه «الواحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط، يُخضع جميع مؤسسات الأنباء الأجنبية العاملة لديه لقواعد صارمة يضعها رقيب معيّن من الجيش الإسرائيلي، هو الذي يقرر المواضيع التي يعتبرها «خارج نطاق الإخبار» كما يراقب المقالات التي يرى أنها مؤذية أو غير ملائمة للنشر. وإلى هذا، وفي سبيل تعزيز السلطة الرقابية أكثر، يتوجب على كلّ صحافي أجنبي بطلب بطاقة اعتماد لدى دولة الاحتلال أن يوقّع على تعهد يُلزمه بالخضوع لاشتراطات الرقيب.

من جانبها لم تتأخر شبكة CNN في المبادرة إلى إجراءات ذاتية لا تجعلها أكثر طواعية تجاه الرقابة الإسرائيلية، فحسب، بل تضيف مقداراً إضافياً من انحيازها الطبيعي إلى دولة الاحتلال ومحاباة بياناتها الرسمية وغير الرسمية بصدد حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ إذْ لجأت الشبكة إلى تعيين عسكرية إسرائيلية سابقة في وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، لتكون مراسلتها المعتمدة في تغطية وقائع الحرب في القطاع. وفي تفسير هذا السلوك، ورداً على استفسار مكتوب من بوغاسلو، أوضح ناطق باسم الشبكة أنّ إخضاع الموادّ لمراجعة مكتب القدس «يستند إلى حقيقة وجود العديد من الفوارق المحلية النوعية والمعقدة التي تستوجب التدقيق الإضافي للتأكد من أنّ التغطية دقيقة ومحددة ما أمكن».

هذا هراء بالطبع، يتغافل ببساطة عن حقيقة أنّ الرقيب الإسرائيلي يفرض حظراً مسبقاً، وقاطعاً لا استثناءات فيه، على ثمانٍ من موضوعات الحرب في قطاع غزّة خصوصاً، ولكن بالجيش والأجهزة الأمنية المختلفة في دولة الاحتلال عموماً. وكان إيميل داخلي مؤرخ في 26 تشرين الأول (أكتوبر) العام المنصرم، حول «المعايير والممارسات الجديدة» موجّه إلى جميع مراسلي ومحرري الشبكة؛ قد نصّ على وجوب وصف وزارة الصحة الفلسطينية بأنها «خاضعة لـ حماس» خاصة حين تتضمن الإشارة إحصائيات حول الضحايا؛ حتى إذا كانت صادرة في الضفة الغربية أو في أي مكان آخر. كما حثّ الإيميل على أن أية تغطية للكلفة الإنسانية الناجمة عن الحرب يتوجب أن «تغطي أيضاً السياق الراهن الجيوسياسي والتاريخي الأعرض للقصة»؛ بغرض واضح هو تجريدها من أيّ بعد يتصل بجرائم الحرب الصريحة، ويحيلها إلى «أضرار مجاورة» تشهدها كلّ الحروب.

وضمن توجيه مستقل، صادر عن المدير الأعلى لإدارة «المعايير والممارسات الجديدة» في الشبكة، كتب دافيد لندسي: «بينما تتواصل حرب إسرائيل ـ غزّة، ينخرط ممثلو حماس في خطاب تحريضي ودعاوة عدائية. معظم هذا سبق أن قيل مراراً، فلا قيمة له. يتوجب أن نحاذر في منحهم منصة للتعبير». وهذه لغة توجيهية تحيل إلى أوامر مماثلة صدرت عن إدارة الشبكة عند ابتداء الحرب الأمريكية ضدّ أفغانستان، يشير بوغاسلو، وتمثلت في مطالبة المراسلين بأن يخفّضوا أرقام الوفيات المدنية مقابل تذكير المشاهدين بأنّ ما يشهدونه من عنف كان نتيجة مباشرة لهجمات 11 أيلول (سبتمبر).

وأمّا المحظورات الثمانية فهي تبدأ من كيفية تغطية اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، وتمرّ بأخبار الرهائن الإسرائيليين، ولا تنتهي عند أنباء الأسلحة والمعدات التي يحدث أن تغنمها المقاومة الفلسطينية خلال المواجهات العسكرية. ولهذا فإنّ القصف الإسرائيلي ضدّ أيّ هدف في قطاع غزة، بما في ذلك المشافي والمدارس والمخابز والملاجئ، يجب أن يوصف بـ«انفجار» ولا يُنسب إلى الجيش الإسرائيلي إلا إذا صدر بيان رسمي إسرائيلي بذلك؛ ولا مكان في اللغة لمفردات وتعابير مثل «إبادة» أو «جريمة حرب» أو «تطهير عرقي» أو «تهجير قسري»؛ والمعلومات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي يتوجب أن تُبثّ بسرعة، على نقيض المعلومات الفلسطينية حيث من الضروري التروي والإبطاء في إذاعتها. وهذه، وسواها من تعليمات وتوجيهات صادرة عن إدارة الشبكة، تتطابق بمقادير مدهشة مع «الأمر» الذي أصدره الرقيب الإسرائيلي العسكري الأول، الجنرال كوبي ماندلبليت، الذي لم يكترث مكتبه بالردّ على الاستفسارات.

ورغم أنّ انحياز وسائل الإعلام الأمريكية إلى السردية الإسرائيلية ليس جديداً ولا طارئاً، كما قد يقول قائل، محقاً بالطبع؛ إلا أنّ ذلك القديم المترسخ لا يلغي، ولا يجوز له أن يطمس، التفاصيل الصارخة التي تتكدس كلّ يوم، وربما كلّ ساعة، حول مستويات الانحطاط المهني خلف ذلك الانحياز. ولعلّ ما يصحّ أن يكون جديداً على المشهد المستعاد هو ذاك الذي بات يتضح أكثر فأكثر لدى شرائح شتى من مكوّنات الرأي العام العالمي، بصدد جرائم حرب نكراء وفظائع ليس لأيّ بصر أن يغمض عنها؛ حتى في قلب الحكومات والقوى والأحزاب والجماعات التي لم تكن تبصر أيّ شرّ في سلوك «واحة الديمقراطية» الإسرائيلية هذه.

وحين تقول الأرقام إنّ الرقيب العسكري الإسرائيلي مارس رقابته، بمعنى أنه راجع أو عدّل أو حظر، ما مجموعه 6,500 مادة صحافية (طبقاً لإحصائية إسرائيلية هذه المرّة، أنجزها «معهد الديمقراطية» في القدس المحتلة) فإنّ أضعاف هذا الرقم يتوجب أن تكون أيضاً نتاج الرقابة الذاتية الطوعية، التي يمارسها الصحافي نفسه على نفسه، لاعتبارات شخصية أو مهنية أو سياسية. هذا عدا عن حقيقة أنّ أولئك الذين يراقبون أنفسهم بأنفسهم، يمكن أيضاً أن ينتقلوا إلى التلفيق الطوعي والتطوعي، ضمن سياق السعي إلى التقرّب من الرئيس في العمل، أو إرضاء الشبكة، أو حتى الرقيب الإسرائيلي ذاته.

وذات يوم غير بعيد شنّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حملة ضدّ الصحافة الأمريكية، فاتهمها على نحو خاص بنشر «الأخبار الزائفة» مما يجعلها «عدوة للشعب الأمريكي بأسره». ومعروف أنّ صحيفة «بوسطن غلوب» قادت الهجوم المضاد في وجه ترامب، فذكّرته بأنّ «عظمة أمريكا تعتمد على دور الصحافة الحرّة في الجهر بالحقيقة أمام القويّ» وبالتالي فإنّ وصم الصحافة بالعداء للشعب أمر «لا ـ أمريكي، بقدر ما هو خطير على اللحمة المدنية التي تشاركنا فيها على امتداد قرنين ونيف». والأرجح أنّ سلوك الإعلام الأمريكي عموماً، وشبكة CNN خصوصاً، في التعمية على جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة وعموم فلسطين؛ سوف تجعل تلك الواقعة أضحوكة مشتركة، متبادلة تماماً بين ترامب وثقاة «اللحمة المدنية»!

ذلك لأنّ الخضوع طواعية، وليس الإخضاع قسراً؛ والتلفيق ذاتياً، وليس الرضوخ رقابياً؛ هي بعض الصياغات ما بعد الحداثية لعلاقة شبكة CNN مع الرقيب الإسرائيلي خصوصاً، ودولة الاحتلال الإسرائيلي عموماً؛ من دون إغفال البرهة السياقية الراهنة، الحاسمة والقاطعة والفارقة، لانفلات التوحش الإسرائيلي من كلّ رادع أو عقال، على مرأى ومسمع مليارات البشر، في مشارق الأرض ومغاربها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

—————————–

تاريخ: مفاصل زمنية وسجلات ثقافية سياسية/ ياسين الحاج صالح

10 – يناير – 2024

ارتبط التيار الرئيسي في الفكر والثقافة العربية المعاصرة بتاريخ الحروب مع إسرائيل أو أمريكا بصورة خاصة. أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1991، 2003، 2006، 2008 ـ 09، وحروب غزة المتواترة، وصولاً إلى الحرب الراهنة منذ نحو 100 يوم. وأفضت هذه الحروب التي خسرناها بتفاوت إلى انفعالات جمعية حادة، وإلى تغيرات في التفكير والحساسية كبيرة، بحيث يتعذر التأريخ للفكر العربي المعاصر بدونها. والإيقاع السريع لهذه الحروب، واحدة كل عقد أو أقل، لا يسمح جدياً بنشوء تيارات فكرية وأدبية وفنية ناضجة، وإن لم يتعارض مع إبداعات متنوعة، ظلت في العموم فردية. وغير ذلك اصطبغت نتاجاتنا باكتئاب عميق، حسب الأكاديمي المغربي نوري غانا، في كتاب حديث مهم بالانكليزية بفعل الخسارات التي تمخصت عنه هذه الحروب.

على أن هناك تتابعاً آخر من التواريخ يحوز طائفة تفسيرية مهمة لأحوالنا الراهنة، وإن لم يُعنَ به التيار الرئيس في الثقافة العربية، تتابع يحيل إلى صراعات اجتماعية وسياسية داخلية وانقلابات وثورات وحروب أهلية: 1952 («ثورة» الضباط الأحرار في مصر) 1958 (ثورة في العراق ووحدة سورية مصرية وحرب أهلية قصيرة في لبنان) 1961 (انفكاك الوحدة السورية المصرية، وقد شهدت اعتقالات وتعذيباً مفرط القسوة للشيوعيين في البلدين) 1962 (استقلال الجزائر) 1963 (انقلابان بعثيان في سوريا والعراق) 1970 («أيلول الأسود» في الأردن، موت جمال عبد الناصر، انقلاب حافظ الأسد في سوريا) 1975 (بدء الحرب اللبنانية) 1976 (التدخل السوري في لبنان ضد الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، ومذبحة تل الزعتر) 1979 (الصلح المصري الإسرائيلي، احتلال الحرم المكي من جماعة جهيمان العتيبي السلفية الفائقة، مجزرة مدرسة المدفعية في سوريا) 1980 (محاول اغتيال حافظ الأسد، مجزة سجن تدمر، واعتقالات واسعة لإسلاميين ويساريين، بدء الحرب العراقية الإيرانية) 1981 (قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، اغتيال أنور السادات) 1982 (مجزة حماه في سوريا) 1983 (تأسيس حزب الله اللبناني التابع لإيران) 1987 (الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اغتيال حسين مروة ومهدي عامل، اعتقالات متجددة في سوريا) 1989 (انقلاب عمر البشير في السودان، اتفاق الطائف في لبنان) 1993 (اتفاق أوسلو) 2000 (موت حافظ الأسد وتوريث ابنه) 2005 (اغتيال رفيق الحريري ومقتل 22 آخرين في بيروت، حركة كفاية في مصر، إعلان دمشق في سوريا، حركة 18 أكتوبر في تونس) 2010 (الثورة التونسية) 2011 (ثورات في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وسقوط بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبدالله صالح، تدخل إيراني مبكر في سوريا) 2013 (تدخل علني لحزب الله في سوريا، ظهور داعش، انقلاب السيسي، المجزرة الكيماوية الكبيرة في الغوطة الغربية والشرقية، الصفقة الروسية الأمريكية لنزع سلاح النظام الكيماوي دون نزعه) 2014 (تدخل عسكري أمريكي في سوريا والعراق) 2015 (تدخل عسكري روسي في سوريا) 2016 (تدخل عسكري تركي في سوريا) 2019 (انتفاضات في العراق ولبنان والجزائر والسودان…). هذه قائمة بعيدة جداً عن الكمال، متمركزة مشرقياً، يحتاج المرء إلى تسمية ما جرى في كل مفصل زمني منها، لأنها ليس عربية عامة. وتأثيرها بالتالي بقي محصوراً في هذا البلد أو ذاك، غير معروف بقدر كاف خارجه أو غير معروف إطلاقاً. ولذلك فقد يكون الأولى وضع قوائم خاصة كل بلد، لأن أكثر ما يحدث في بلد بعينه لا يكاد يكون مؤثراً مباشرة في غيره، وقلما يكون معلوماً لغير المهتمين.

هذان نسقان من التواريخ متمايزان تماماً، ينفتحان على سجلين مختلفين من التفاعلات النفسية والفكرية. البطل في النسق الأول هو التحالف الأمريكي أو الغربي الإسرائيلي، الذي هزمنا كعرب مراراً. البطل في النسق الثاني هو الدول في مجالنا، وقد طورت لنفسها قدرات غولية، وهزمتنا كمجتمعات مراراً. وبين سجلي مفاعيل النسقين تراتب حسب التيار الرئيسي، يعلي من شأن الأول، العام والقومي، على الثاني، المحلي أكثر، وهذا مصدر توترات وعدم فهم تشاهد الآن عينات متكررة منها مع التهاب المشاعر بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وفلسطين بعامة. يراد تغليب السردية الرئيسية على السرديات المحلية، وإغفال ما يتصل بصراعات اجتماية داخلية، ويجري التراجع عن خطاب الربيع العربي المركب، نحو خطاب قومي أو إسلامي، لا صوت يعلو فوق صوته.

وقد يمكن إضافة نسق ثالث من المفاصل الزمنية، وسجل ثالث يتصل هذه المرة بفاعل سياسي أخذ بالصعود في مصر منذ الخمسينيات، وفي سنوات لاحقة في غيرها، الإسلاميون، أشرنا إلى حلقات قليلة منه فوق. وهذا تاريخ اضطهاد واستبعاد بالغ العنف من جهة، لكنه تاريخ انتقامات إرهابية عشواء بالغة العنف بدورها، وهو تاريخ تضعضع وهزيمة المعارضات العربية بفعل الاستقطاب الدولتي الديني الحاد. ولا يبدو أن دائرة العنف استقرت على قاعدة مقبولة إلى اليوم، بعد عقود من الصراع، بما فيه سنوات ما بعد الثورات، ووصول الإسلاميين إلى الحكم في بلدان، قبل أن يُنقلَب عليهم، وتحقق سلطات محلية لهم في سوريا، بعضها مستمرة إلى اليوم.

وهذا كله على الصعيد السياسي. لم نتكلم على صعيد الاقتصاد والتحولات الكبيرة التي جرت في كل الدول العربية، بمبادرة من نخب الحكم، أو بفعل انهيارات الدول، أو بأثر التغيرات الدولية؛ ولا على التغيرات الإيديولوجية ذات المنطلقات الدولية، ومنها بخاصة انهيار الشيوعية وما يشبه خروجاً كاملاً لفكرة الاشتراكية من التداول منذ نهاية ثمانينيات القرن 20؛ ولا كذلك عن التحولات في تكنولوجيا الاتصالات، وآثارها على مستوى المعلومات والإعلام؛ ولا على تغيرات ديمغرافية منفلتة، دون سياسات ديمغرافية؛ ولا على تاريخ الأفكار والأدب والمثقفين…

هذا تاريخ، وهو كثيف، كثير المنعطفات، لا يسمح باستقرار اجتماعي ونفسي (وإن استقرت الأنظمة واستمرت طويلاً) بل هو متوافق مع أزمة روحية دائمة لا تلوح منها مخارج قريبة. وهو بعد ذلك مركب تواريخ غير متزامنة وغير متطابقة، فلا تواقت تغيرات واحد من أنساقها تغيرات غيره. وخلال هذه السنوات الطوال التي تغطي وتزيد أعمار أكثرنا، كان أكثرنا في مواقع منفعلة: مقموعين، ممنوعين من الاجتماع والفعل، من التعبير، ومن السفر.

هذا إلى أن أخذ السد بالانهيار في مطالع العقد الثاني من قرننا.

لا نكون فكرة أقرب إلى الحقيقة عن واقعنا بإخضاع أحد هذه السجلات لغيره. هذا يعرفه المؤرخون، لكن يتعين لقدر من الحس به أن يكون مكوناً لحسنا السليم، إن كان لنا أن نتجنب تراتبيات وتنافسات عقيمة، ونطور إدراكاً لتركيب واقعنا وتوقعاتنا وهوياتنا.

لا وجه للتقليل من شأن سجل الأفعال والانفعالات الرئيسي أو «القومي» ما يتصل بفلسطين وبالاعتداءات الإسرائيلية والغربية، بخاصة على العرب من مواطني من بلداننا (إذ ليس الجميع عرباً، والتفاعل يختلف). لكن ليس للعرب كذلك أن يكونوا قبيلة بقضية واحدة، لا تعنيهم قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية الاعتقاد والمخيلة وإنتاج المعتقدات الجديدة، وما يعني مواطنيهم من غير العرب من هواجس وتطلعات. فإذا كان لسياستنا أن تكون واقعية تحررية، تنطلق من الواقع لتغييره، فهي مدعوة لأن تحيط بتعدد أبعاد تاريخنا، وببناء إجماعات متناسبة مع حقول الصراع المختلفة. فما قد يحظى بإجماع نسبي من نوع ما هنا هو عنصر شقاق وتنازع وحرب أهلية هناك. سوريا في هذا الشأن وكثير غيره أبرز مثال، لأنها عقدة قضايا (قومية وديمقراطية وإسلامية…). تسييد انفعالات بعينها يفضي كل حين إلى إثارة انفعالات مضادة، عدائية، تترك الجميع مريرين مستنزفين.

كاتب سوري

——————————

===================

المدن

————————-

 حليل المشاعر الفلسطينية بين اسرائيل و”غوغل”/ بشير البكر

2024/02/19

ترد في أحد المشاريع بين شركة “غوغل” وإسرائيل، والمعروف باسم “نيمبوس”، خدمات تحليل مشاعر الفلسطينيين. وذلك في إطار تنمية قدرات متقدمة للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، من بينها التعرّف إلى الوجه، وتتبُّع الأشياء، والتصنيف التلقائي للصور. وهي خدمات من شأنها أن تقوي الرقابة الإسرائيلية على الفلسطينيين.

وكشفت حرب اسرائيل على غزة، أن هذا البرنامج ليس الوحيد، على مستوى التكنولوجيا المتطورة، التي توظفها اسرائيل من أجل إدامة الاحتلال. ورغم أنها متقدّمة على صعيد انتاج وتصدير تكنولوجيا المعلومات والمعلوماتية، فهي تقيم شراكات مهمة مع كبرى الشركات العالمية، بما يفيد تفوقها، ليس في المجالات العسكرية والأمنية فحسب، بل بما يذهب بعيداً، إلى قضايا لا تخطر في بال أحد، مثل مسألة تحليل مشاعر الفلسطينيين.

المعلومات التي كشف عنها موقع “ذي إنترسبت”، كانت قد أثارت احتجاجات واسعة داخل المؤسسة، عندما اكتُشفت، منذ أكثر من عامين. وجاءت لتعيد التذكير بالرسالة المفتوحة، التي نشرها أكثر من 500 عامل في “أمازون” و”غوغل” في صحيفة “ذا غارديان” في تشرين الأول 2021، تدين “نيمبوس”. وجاء فيها إن البرنامج “يسمح بمزيد من المراقبة وجمع البيانات غير القانونية عن الفلسطينيين، ويسهّل توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية”. وقد أثارت الرسالة حركة احتجاجية تجاوزت العاملين في المؤسستين، إلى تنظيم ائتلاف مجموعات شعبية، حملة، تشتمل على حركة المقاطعة، وحركة الصوت اليهودي من أجل السلام، تحت شعار “لا لتكنولوجيا الفصل العنصري”.

حركت الحرب على غزة القضية من جديد، ونقلتها إلى مدى أوسع، ونظّم عاملون في “غوغل” في سان فرانسيسكو، وقفة احتجاجية ضد البرنامج، انضم إليها عدد من العاملين في الشركة على الأراضي البريطانية. وأثارت التحركات مسألة التزام الشركة بالقيم والخطوط الحمر، حول استخدام التكنولوجيا الخاصة بالشركة، للأغراض العسكرية والمراقبة من قبل الأنظمة غير الأخلاقية، وجرى الحديث علناً ضد مشروع “نيمبوس”. ولم يتردد عدد من الموظفين في التصريح بأن هناك ثقافة خوف داخل الشركة، “لكننا نملك القوة معاً، حتى ضد غوغل”. وتحدث متظاهرون إلى وسائل الإعلام عن التحولات في الشركة، التي كان شعارها الأصلي “لا تكن شريراً”، وبعدما أعيدت هيكلتها لتنضوي تحت شركة “ألفابت”، أصبح “إفعل الشيء الصحيح”.

ما جرى داخل الشركة منذ عامين لم يصل بصورة كبيرة إلى وسائل الإعلام، وتعامل عدد محدود من المنصات الإعلامية مع العرائض الاحتجاجية، بسبب سطوة اللوبيات المؤيدة لإسرائيل. وظلت تفاصيل المشروع، مثل نوع البيانات وتخزينها وكيفية استخدامها، غامضة لا تُفصح عنها اسرائيل ولا متعاقدوها، منذ الاتفاق في نيسان 2021، عندما حلّت “أمازون” و”غوغل” محل “مايكروسوفت” و”أوراكل” كمزودين مفضلين من قبل إسرائيل للخدمات السحابية. ولولا الحرب الاسرائيلية على غزة، لما تحركت المسألة من جديد، وأدت إلى بروز معارضة داخلية تطالب الشركة بإنهاء مشروع “نيمبوس”، وهو عقد بقيمة 1.22 مليار دولار بين إسرائيل و”غوغل” و”أمازون” لتوفير خدمات الحوسبة السحابية لدولة الاحتلال.

موقع “بي بي سي” عربي، ينقل عن الصحافي الاستقصائي الاسرائيلي يوفال أبراهام، الذي ينقل بدوره عن ضابط في المخابرات العسكرية الإسرائيلية، بأن قادة الجيش الآن “نفذوا ضربات غير متكافئة بالمرة، لأنهم يركزون الآن على عدد الأهداف وليس نوعيتها”، وهذا عائد إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب على غزة. في السابق، قال يوفال مرتكزاً إلى مصادره: “قد يقتلون عشرات من المدنيين في استهداف قيادي في حماس، أما الآن فعدد المدنيين المسموح بقتلهم في هذه العمليات، يصل إلى ما بين عشرة أضعاف وعشرين ضعف الأعداد السابقة”. وهذا نتيجة لاستخدام “غوسبل”، والذي هو عبارة عن برنامج معلوماتية يعتمد على الذكاء الاصطناعي، يسميه الجيش الاسرائيلي “مصنع أهداف يعمل على مدار الساعة”، وسمّاه الصحافي الاستقصائي “مصنع اغتيالات جماعية”، كونه يتيح استخدام أدوات آلية لخلق الأهداف بنسق سريع، ما يضاعف عدد الأهداف مرات عديدة، لأنه لا يفرق بين الأهداف العسكرية الفعلية، والأهداف القائمة على الاحتمالات والتي تخص كل ما هو مدني.

يصل اهتمام اسرائيل بالتكنولوجيا حد الهوس المرضي. لا أحد كان يتصوّر أنها ستشتغل على استغلال طاقة الذكاء الاصطناعي، من أجل تحليل مشاعر الفلسطينيين. حتى توظيف علم النفس، لم يخطر في بال أحد انه سيتحول إلى سلاح بيدَي المؤسستين العسكرية والأمنية في اسرائيل. وارد جداً أن تقوم مراكز أبحاث اجتماعية بدراسة مؤشرات حول تطور مشاعر الفلسطينين تجاه الاحتلال، لكن أن يصبح هذا الأمر بنداً في اتفاق للذكاء الاصطناعي يكلف مئات ملايين الدولارات، فإنه يستدعي التوقف أمامه ودراسة أبعاده وخلفياته والأهداف التي يتوخى الوصول إليها. ومن المؤكد أن تحليل المشاعر لا ينتهي عند معرفة الموقف من الاحتلال، ويتجاوز أمراض التجسس على أحلام الآخرين. لا بد أنه عمل ذو طبيعة عنصرية، في سياق ما تخطط له القوى الاستعمارية لتطوير منظومتها التقليدية، من أجل اختراع أسلحة وأساليب حديثة، لتدمير أحد أهم مقومات المقاومة، وهو الوعي بالاحتلال، وتنفيذ مشروع الاستعمار الإحلالي، وكسب أكبر مساحة ممكنة من فائض “الأرض من دون سكان”.

—————————–

إسرائيل لا تشفع للأسد في واشنطن/ عمر قدور

2024/02/17

قبل يومين، أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق”، في بيان مصوَّر على تلغرام، مسؤوليتها عن استهداف موقع عسكري إسرائيلي في الجولان السوري المحتل مستخدمةً طائرات مسيّرة. إعلام الأسد لم يحتفل بهذا الاستهداف، ولو باعتباره ردّاً على الغارات الإسرائيلية على مواقع تُعدّ شكلياً تحت سيطرته. وكالة سانا، على سبيل المثال، أبرزت خبراً آخر يعود لليوم نفسه، هو انتخاب مندوب الأسد لدى الأمم المتحدة مقرِّراً للجنة تصفية الاستعمار في المنظمة الدولية.

بصرف النظر عن عدم أهمية اللجنة المذكورة، شأنها في ذلك شأن معظم لجان الأمم المتحدة، فالمفارقة الفادحة أن يترأسها مندوب سلطة استجلبت احتلالين، وتسببت باحتلالين آخرين، وورثت خامساً كان عزيزاً عليها. وقد قيل الكثير في موقف الأسد الأب ثم الابن من الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وهناك بين السوريين من يتهم الأول منهما بتقديمه هدية للمحتل في حزيران 1967، لكن من المؤكد أنه رفض استعادة الجولان حتى الحدود الدولية بموجب الوساطة الأمريكية التي توقفت في أواخر آذار 2000.

صمتُ الأسد عن هجمات “المقاومة الإسلامية في العراق” من أماكن سيطرته لا يعكس اتفاقاً بين الجانبين ولا تقاسماً للأدوار، ومن المفهوم أن هذه المقاومة تتبع طهران التي تتعرّض مواقعها في سوريا لغارات وهجمات صاروخية إسرائيلية. ورغم كون القرار إيرانياً في المقام الأول، يبقى من المستغرب غياب وتغييب الأسد نهائياً عن الواجهة. فالغياب عن حدث مؤثّر بالغ الأهمية هو بمثابة إعلان استقالة من الممانعة ذاتها، وتفسير الغياب بحالة الضعف الشديد لا يفي بالغرض لأن استثمار الأسد في العداء لإسرائيل لم يقترن يوماً بقدرته على مواجهتها.

في واحد من مستوياته، ربما يكون إعلان الاستقالة رسالةَ توددٍ لإسرائيل، ومن المرجَّح “إذا كان الأمر كذلك” وجود توافق ثلاثي على تحييد الأسد، يجمع بين الأخير وموسكو وطهران، وغايته الإبقاء على موقف إسرائيل الداعم لبقائه في السلطة. لكنه أيضاً تفسير لا يشرح وحده التبدل الذي طرأ، وجعل الأسد يستقيل من خطاب الممانعة رغم بقائه في الحلف إياه.

منذ انقلاب الأسد الأب واستلامه السلطة، بل منذ الانقلاب على المسار الديموقراطي بعد الاستقلال، كانت الشرعية الثورية “وهي توأم للمقاومة ثم الممانعة” بديلاً عن الشرعية الشعبية المفتقدة. ذلك يتعلق باستبداد لم يكتسب شرعيته يوماً عبر صناديق الاقتراع، وهو الأدرى بزيف التمثيليات الانتخابية وزيف الدساتير التي وضعها. وقد قيل الكثير عن زيف خطاب المقاومة والممانعة، إلا نسبة ملحوظة مما قيل كان أصحابها يهدفون إلى تجريد الأسد من أحقيته بهذه الشعارات، من دون تركيز كافٍ على طبيعة الاستثمار الذي يتوسّل الشرعية من الخارج على حساب الداخل، وهذا نهج لا يتوقف عند إسرائيل، بل لم يتوقف عندها في الواقع.

لا ينفي ما سبق، بل يؤكد عليه، أن الأسد الأب ثم الابن عمَدا في مناسبتين فقط إلى طلب شرعية ما “جزئية” من الداخل. أولهما في المواجهة بين الأب والإخوان المسلمين، ومن المعلوم أن طلب الدعم حينها من قبل الأسد كان يضمر تقسيماً طائفياً تولى الإخوان طرحه علناً. في عهد الابن، بدءاً من آذار 2011، تولى إعلامه تسويق تلميحات طائفية وهو يطلب دعما لا لبس في طائفيته، بينما كان شبيحته أكثر وضوحاً ودموية. في المناسبتين، كان طلب “الشرعية” من الداخل محمولاً على انقسام السوريين وتقسيمهم، أي أنه كان في الواقع طلباً لحرب أهلية لا للشرعية.

يعزّز ما سبق تراجعُ إعلام الأسد الابن عن التلميحات الطائفية عندما أحسّ بالاطمئنان إلى بقائه في السلطة، وليس من المصادفة إطلاقاً أن يأتي الاطمئنان مرة أخرى عبر الدعم الخارجي، لكن مع اختلاف جدير بالملاحظة؛ انتصر الأب أساساً بجيشه ومخابراته، بينما انتصر الابن بطهران وموسكو. هو تحوّل يمكن ترجمته بالانتقال من اعتبار الخارج مصدراً للشرعية، والقدرة على الاستثمار فيه، إلى توسّله كمصدر للحماية. إن عدم حضور الأسد “ولو شكلياً” في واجهة حلف الممانعة خلال الشهور الأخيرة يقع ضمن التحول المذكور، فخطاب معاداة إسرائيل لم يعد يقدّم الفائدة القديمة؛ ليس بسبب انكشافه وتهافت شعاراته، بل لأن الوجهة الاضطرارية للمستثمِر صارت في مكان آخر، وبمعطيات مغايرة تماماً تجرّده من أهليته كمستثمر.

نتيجة لذلك، إذا كان من رسالة لإسرائيل في غياب الأسد عن الواجهة فهي تفترق عن منطق الممانعة الذي يستثمر في العداء لإسرائيل، لتنضوي ضمن منطق طلب الحماية سياسياً، فتستكمل إسرائيل عمل موسكو وطهران. ومن المرجَّح أنها رسالة مزدوجة، إذ تهدف “عبر التودد لإسرائيل” إلى الوصول إلى أصدقائها ضمن النخبة السياسية الأمريكية، والموزّعين على الحزبين الجمهوري والديموقراطي.

يوم الأربعاء الماضي، أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” الذي بدأ يسلك المسار التشريعي منذ أيار 2023. المشروع أُقرّ بأغلبية 389 صوتاً مقابل 32 صوتاً للمعترضين، منهم 28 من الحزب الديموقراطي. هذه الأغلبية فيها مؤشّر واضح على توجهات النوّاب من الحزبين، والتي قد لا تتطابق دائماً مع توجهات البيت الأبيض العلنية أو غير العلنية. وجدير بالتذكير أن قانون قيصر للعقوبات صدر قبل خمس سنوات بموجب الآلية ذاتها، وأُلِحق بمشروع قانون الموازنة لضمان التوقيع عليه من قبل الرئيس ترامب آنذاك.

في الخلفية، كان مشروع “مناهضة التطبيع مع الأسد” قد انطلق في العام الماضي كردّ على التطبيع العربي معه، ومن أجل ردع بعض المطبّعين العرب عن الشطط في دعمه مالياً. ويمكن تأويل ما يتضمنه التشريع بأن الأسد قادر على البقاء بحماية حليفيه ورضا واشنطن وتل أبيب، أما حيازة الشرعية من الخارج التي تعني تطبيعاً دولياً معه فلها مصدر وحيد، أي واشنطن. ومن الواضح أن إسرائيل ومناصريها في الولايات المتحدة لم يشفعوا للأسد في واشنطن، من أجل عرقلة مشروع القانون، أو عدم نيله عدد ضخماً من أصوات المؤيدين.

يوحي أولاً غياب الاشتباك، من أي نوع، بين الأسد وإسرائيل بأن كل شيء على ما يرام بين الطرفين. إلا أن المياه الصافية والراكدة بينهما قد لا تكون لها دلالة إيجابية لصالح الأسد نفسه، والأقرب إلى الواقع أنه لم يعد يُنظر إليه في تل أبيب كـ”شريك” يمكن الاشتباك معه في مستوى ما والتسوية في مستوى آخر. بالطبع هذه ليست بشرى سارة له، ولا يُستبعد أن تكون سارة لحُماته.

———————————

كيف تخسر حماس وتربح فلسطين؟/ عمر قدور

2024/02/13

لا يوجد بعدُ اتفاقٌ على اليوم التالي؛ هذا واحد من أهم مبررات استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. وانقضاء ما يزيد عن أربعة شهور من الحرب لم يغير الكثير من دافعها الذي أطلقته حماس بهجومها يوم السابع من أكتوبر، فحماس وقعت ضحية نجاحها، مثلما وقعت ضحية الفشل الأمني الإسرائيلي. وحتى الآن لا صيغة مطروحة ومقبولة لإنقاذ حماس من نجاحها، ولإيقاف إسرائيل عن إبادة الفلسطينيين ثأراً لذلك الفشل واستغلالاً له.

لا جديد في القول أن نجاح هجوم السابع من أكتوبر كان أعلى مما هو مخطط له، وعلى ذلك تجاوز الانتقام الإسرائيلي أيضاً أسوأ التوقعات. ولم يعد مقبولاً إسرائيلياً أن تعاود حماس حكم غزة، ولا حتى أن تكون شريكاً بارزاً في الحكم. المسألة هنا ليست فقط في استرداد الهيبة الإسرائيلية، هي أيضاً فيما راكمته حماس من خبرات قتالية وتسليحية يُراد التأكد من القضاء عليها. وهي، من جهة السياسة، في أن حماس لم تتحول إلى محض جهاز بيروقراطي شبيه بسلطة رام الله ليتولى الانقسام الفلسطيني تصفية القضية الفلسطينية بلا ثمن تدفعه إسرائيل.

وتقتضي الواقعية القول أن نجاح حماس غير مقبول من أطراف إقليمية عديدة مؤثرة، بدءاً من الجار المصري حيث تقوم الآلة الدعائية للحكم هناك على العداء للإسلاميين. ولا يختلف الحال كثيراً من جهة حكومات تجهر بعدائها للإسلاميين، مثل الإمارات والسعودية. أي أن العديد من الأطراف المنخرطة في المفاوضات الحالية لها مواقف من مجمل الإسلاميين في المنطقة، ما يجعلها غير مؤيدة لنموذج إسلامي ناجح يحفّز أمثاله في المحيط العربي.

وقد أثبت محور الممانعة و”مقاومته الإسلامية” ما كان معروفاً من قبل، لناحية الخبرة المديدة في استثمار القضية الفلسطينية. والمفاوضات التي خاضها حزب الله وطهران، بوساطات متعددة، أسفرت مبكراً عن التفاهم على عدم توسيع رقعة الحرب والاكتفاء بتسخين محسوب هنا وهناك، بينما صار واضحاً أن التفاهمات اللاحقة لا علاقة لها بحماس أو غزة أو الشأن الفلسطيني عموماً. أي أن على حماس الاكتفاء بعبارات التضامن المعهودة، والاقتناع بأن معركة الممانعين هي معركة نفوذ إقليمي على “طريق القدس”، لا يتوخى أصحابها التوجّه أو الوصول إلى القدس نفسها.

قد قيل الكثير في أن هدف القضاء على حماس الذي وضعه صقور إسرائيل غير ممكن التحقيق، وقيل أيضاً أن مقاتلي حماس قادرون على الاستمرار في المقاومة لشهور مقبلة رغم هول الهجوم الإسرائيلي، لتبدو حماس تلقائياً شبه منتصرة بناء على جمع هذه المعطيات. إلا أن الحديث عن النصر يغفل الأثمان الباهظة التي دفعها أهالي غزة، وسيستمرون في دفعها ما بقيت المعركة مستمرة، وأيضاً الأثمان الباهظة من مقاتلي حماس، وهؤلاء شبّان يستحقون العيش الكريم مع أسرهم وأهاليهم. ولعل الاستمرار في دفع الثمن يقول ما هو مغاير للاستنتاجات التلقائية الحماسية، ففشل إسرائيل لا يكون تلقائياً مكسباً لحماس أو للفلسطينيين، وقد شهدنا كيف انصبّ أهوالاً عليهم. ذلك يصحّ على الإسرائيليين الذين ينظرون إلى تلك الأهوال كنصر لهم، في حين لم تحقق حرب الإبادة مكسباً نوعياً يتعدّى إرضاء غرائز الانتقام.

لقد طالبت قيادات حماس منذ اليوم الأول للانتقام الإسرائيلي بوقف إطلاق النار، ولا معنى للمزايدة عليها تحت شعارات الصمود، أو المزايدة على ما يقارب مليونين ونصف فلسطيني تحت الإبادة والتهجير والتجويع. ومن الواضح أن من غير المسموح به إسرائيلياً، ولا دولياً ولا بالنسبة للعديد من حكام المنطقة، أن تتوقف الحرب على نحو تظهر فيه حماس منتصرة ولو على أنقاض غزة. لا يجدي في هذا الصدد اتهام بعض حكام المنطقة بالتواطؤ مع تل أبيب، فالواقع هو الواقع مهما كان تأويله، وميزان القوى يشير إلى استمرار الحرب على غزة حتى يُنجز اتفاق على اليوم التالي يضمن خسارة مشهودة لحماس. بموجب ميزان القوى هذا لعل السؤال الأكثر واقعية هو: كيف تخسر حماس وتربح فلسطين؟

والإجابة على السؤال تقتضي أولاً استعداد حماس لتقديم تضحية كبرى صريحة ومعلنة، من أجل اتفاقٍ على اليوم التالي يتضمن إنهاء العدوان الإسرائيلي، وتسليم غزة لسلطة مُتفق عليها فلسطينياً ودولياً مع ضمانات لرفع الحصار الذي كان مضروباً من قبل على غزة. لقد برهنت حماس منذ تأسيسها على استعداد منتسبيها للتضحية بأنفسهم، ونفترض منطقياً أن تلك الدماء والأرواح، فضلاً عن دماء وأرواح المدنيين، أعزّ على الحركة من تضحية سياسية مشروطة.

بعبارة أخرى، لا يكفي اليوم أن تقدّم حماس روايتها لما حدث في السابع من أكتوبر لتدحض الرواية الإسرائيلية، وأن تطرح خطاباً أكثر اعتدالاً من السابق، لتكون مقبولة كشريك في اليوم التالي. العبرة أصلاً ليست في تقديم خطاب لجمهور ميّال مسبقاً لقبوله، بل هي في تقديم خطاب سياسي متقدّم حقاً، يراعي أصحابه أن يثير التفكير لدى جمهور العدو قبل الصديق. ولأن ما حدث قبل 130 يوماً دراماتيكي بكافة المقاييس فقد يكون ضرورياً طرح مبادرة على قدر ملحوظ من الجدة والشجاعة، تهدف إلى فتح أفق سياسي فلسطيني وتسعى إلى خلخلة الحلف الإسرائيلي الواسع الداعم للحرب في غياب قوى إسرائيلية ذات مشروع بديل.

بمثل هذه الخطوة تمتحن حركة حماس العديدَ من القوى والأطراف التي وجدت فرصة سانحة للقول أن حماس هي المشكلة، وأن أقصى الممكن هي العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر بإدارة جديدة لسجن غزة الكبير، فالمطروح بهذا التصور هو القضاء على حماس وإنزال عقاب جماعي مستدام بالفلسطينيين. وأن تفاوض حماس على قاعدة عدم وجود بديل لها في غزة في اليوم التالي فذلك يجعلها في أسوأ موقع سلطوي، وحينها لن يكون تحرير أي عدد من السجناء في سجون الاحتلال على قدر الثمن الباهظ الذي دُفع من دماء أهالي غزة.

يبقى أن نشير إلى أن الحديث عن خسارة حماس لتربح فلسطين يقيم فصلاً غير مرغوب فيه، إذ من المفترض دائماً أن مصلحة الفلسطينيين ككل تحت الاحتلال تعلو على المصلحة الضيقة لأي تنظيم. ومن ضمن هذه المصلحة العامة يجدر بالقوى والشخصيات الفلسطينية الأخرى ألا تتخلى عن واجبها، فهذه القوى والشخصيات قد تستطيع “بروحٍ من المسؤولية” مساعدة حماس على أن تجعل خسارتها فعلاً وطنياً.   

——————————-

ثقافة الكذب حسب بوتين ونتنياهو/ بشير البكر

الإثنين 2024/02/05

هناك قنوات فضائية ومواقع الكترونية وحسابات في وسائل التواصل، متخصصة في تدبيج وترويج الأخبار الكاذبة، التي باتت أحد أسلحة الحرب الحديثة، تستخدمها الدول والجماعات والأفراد من أجل تضليل الرأي العام وتشويه الحقائق وهز صورة الخصوم. وحسب تقديرات خبراء متخصصين في الميديا الحديثة، فإن الموازنات المخصصة لهذا النمط من الدعاية تفوق تلك التي يتم إنفاقها على وسائل عادية تقدم المعلومات وتغطي الأحداث وتعكس الآراء على اختلافها.

يرى الكثير من الدراسات إن نشر الأكاذيب له تكلفة ديموقراطية عالية جداً. وفقًا لدراسة نشرتها العام 2019 جامعة بالتيمور، فإن الأخبار المزيفة تكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 78 مليار دولار سنويًا، غير أن العواقب لا تتوقف عند هذا الحد. وأظهر باحثون من جامعة إيست أنجليا في بريطانيا، أن المعلومات الكاذبة حول كوفيد-19 انتشرت بسرعة أكبر من المعلومات الحقيقية، وأدت إلى تفاقم الوباء، من خلال توليد سلوكيات محفوفة بالمخاطر. وفي خطاب ألقاه في آذار 2020، أبدى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قلقه بشأن هذه الظاهرة “عدونا المشترك هو كوفيد-19، لكن عدونا هو أيضا “وباء معلوماتي”، وكان يقصد بذلك المعلومات المضللة.

لا يقتصر هذا النشاط على منطقة أو جهة معينة من العالم، هو دارج في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي وأميركا اللاتينية وافريقيا والهند والصين، غير أن هناك جهات متخصصة ومحترفة وأخرى أقل مستوى، وتبرز روسيا والصين وإيران من الأطراف التي تشكل مرجعيات في هذا النشاط الذي لا يقل ضرره عن استخدام السلحة التدميرية في الحروب.

وباتت الحرب الروسية على أوكرانيا مسرحاً مفتوحاً، أمام القيادات الروسية، التي جربت هذا السلاح على نحو فعال في سوريا من أجل تثبيت سلطة رئيس النظام بشار الأسد، وتشويه صورة المعارضة من خلال ترويج اتهامات ونشر أخبار كاذبة حول الارهاب. وقد وصلت صناعة الكذب من طرف الدولة في روسيا إلى ذروتها. وصار تشويه الواقع وازدراء الحقائق من السمات المميزة لفلاديمير بوتين، الذي يعد مخضرماً في ممارسة شمولية موروثة من الحقبة السوفياتية، سمّمت المجتمع الروسي بأكمله لزمن طويل.

ومن بين أبرز من سلط الضوء على أكاذيب بوتين في أوكرانيا، الممثلة الكوميدية الروسية دانيلا بوبريشني، التي صورت بمفردها مشهداً معبراً في تشرين الثاني الماضي، ونشرته في قناتها في “يوتيوب”: “سبونتامر”. تقف الممثلة على خشبة المسرح، مغمورة باللونين الأزرق والأحمر، وتربط الجمل معًا، بلا كلمة انتقالية. “لن أغير الدستور”؛ “نحن نتعامل مع أوكرانيا باعتبارها دولة ذات سيادة”؛ “ليس لدينا أي خطط لشبه جزيرة القرم”؛ “جنودنا ليسوا هناك ولم يكونوا موجودين قط”؛ “لن تكون هناك حرب”؛ “إنها ليست حربًا، إنها عملية خاصة”؛ “إنهم يقصفون أنفسهم”؛ “نحن ننفذ ضربات دقيقة”؛ “لن تكون هناك تعبئة”.

الفنانة تركت بلدها، مثل الكثير من الفنانين والصحافيين، لأن أحداً لا يستطيع أن يقول رأيه من دون أن يتعرض للترهيب والمنع والسجن، لكن ما أخطر من ذلك هو أن هناك الكثير من الأكاذيب التي بدأ الروس يصدقونها. والرأي الرائج: “حسنًا، لا يمكن أن تكون كلها أكاذيب”، مما يشجع على استمرار بروباغندا بوتين، التي يرتفع منسوبها منذ أن أعلن في 24 شباط 2022، عندما كانت الدبابات الروسية تعبر حدود أوكرانيا، في خطاب إلى الأمة “هذه ليست خطتنا لاحتلال الأراضي الأوكرانية. ولا ننوي فرض أي شيء على أحد بالقوة”. وقبل ذلك بأيام، سمع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الدفاع البريطاني، خطاباً مختلفاً من بوتين ووزيري دفاعه وخارجيته سيرغي شويغو وسيرجي لافروف، والفارق الوحيد هو أن المسؤولَين الفرنسي والبريطاني، شعرا بأن بوتين ووزيريه يكذبون عليهم، وقد فات الأوان لمنع حربه على أوكرانيا.

من بين أكبر أكاذيب بوتين، التي روجت لها وسائل الإعلام الروسية والشبكات المحلية والخارجية التابعة لها، مسألة “الإبادة الجماعية”، التي وردت في ذلك الخطاب. ووجه التهمة إلى أوكرانيا، التي قال إنها تقوم بالتمييز ضد السكان الناطقين بالروسية في دونباس منذ العام 2014. وبالتالي خلق ذريعة للحاجة المفترضة إلى “حماية شعبنا”.

وقامت مجموعة من وسائل الإعلام المستقلة، وخبراء مكافحة التضليل، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية متعددة الأطراف، بالتحقيق في هذه الرواية. وأكد فريق تقصي الحقائق في “بي بي سي”: “لا دليل على الإبادة الجماعية”. وكشفت مواقع إعلامية أن بوتين ومسؤولين آخرين في الاتحاد الروسي “استخدموا بحرية مصطلح الإبادة الجماعية” ضد جورجيا أثناء الغزو الروسي لأراضيها في العام 2008. وأشار موقع Polygraph.info إلى أنه “ربما كانت أقرب حادثة للإبادة الجماعية هي التي ارتكبتها القوات الروسية في العام 2014 في سلوفيانسك، حيث عثرت القوات الأوكرانية التي استعادت السيطرة على المدينة، على مقبرة جماعية تحتوي على 20 جثة. وخلص مجلس أوروبا ومفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، وبعثة الخبراء المنشأة في إطار آلية موسكو التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بشكل مستقل، إلى أنه لا يوجد أي دليل على تعرض الأشخاص من أصل روسي أو الناطقين بالروسية للاضطهاد على أيدي الأوكرانيين.

لو استبدلنا بوتين، برئيس الوزراء الاسرائيلي، لن يتغير الأمر. سنقع على الخلاصات ذاتها مع اختلاف الوقائع حسب الحالة في كل من روسيا واسرائيل واوكرانيا وغزة، ومنذ السابع من اكتوبر يتكرر الوضع ذاته، ماكينة دولية تعمل على مدار الوقت لتصدير الأكاذيب، وخاصة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وتحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للحياة.

——————————–

الرئيس بايدن بين الزوجة والعشيقة/ عمر قدور

السبت 2024/02/03

فعل الرئيس بايدن ما لا يطيق بإعطائه الأوامر لتنفيذ غارات على مواقع للميليشيات التابعة لإيران في سوريا والعراق. إيران مستثناة من الانتقام الأمريكي لمقتل ثلاثة جنود في موقع “البرج22” في الأردن، وقد استهدف مواقع في سوريا والعراق تابعة للميليشيات، وقيل من قبل أن الأخيرة أعادت الانتشار فيها قبل الهجوم المرتقب. بمواكبة الغارات الأمريكية، كرر البيت الأبيض والمتحدث باسم مجلس الأمن القومي أن واشنطن لا تسعى إلى حرب مع إيران، رغم أن الطائرة المسيَّرة التي أودت بالجنود الأمريكيين إيرانية الصنع، والذين أطلقوها يأتمرون بأوامر طهران، ورغم أن مسؤولين أمريكيين لمّحوا من قبل “على صعيد متصل بالهجمات” إلى أن الحوثيين يهاجمون السفن الغربية بناء على معلومات استخباراتية إيرانية.

قبل ساعات من الغارات الأمريكية، كان هجوم صاروخي إسرائيلي قد استهدف منطقة السيدة زينب قرب دمشق، وأودى بأحد قادة الحرس الثوري الإيراني بعد أيام قليلة من استهداف مقرّ للحرس الثوري في قلب دمشق أودى بالعديد من القادة. وأن تقصف إسرائيل ما تتحاشىاه إدارة بايدن فهذا ليس توزيعاً متفقاً عليه بينهما للأدوار، بقدر ما يشرح قدرة واشنطن على استهداف مصالح إيرانية خارج إيران كما تفعل إسرائيل، إلا أنها لا تريد ذلك؛ لا تريد استفزاز طهران بالاقتراب من رأس الأفعى، بل تكتفي بالتصويب على ذيولها من أولئك المستعدين أصلاً للتضحية بأرواحهم.

كأنّ بايدن بذل كل جهده لإفراغ ردّه الاضطراري من الجدية، فالتمهّل الشديد بالرد أعطى لقادة ميليشيات إيران في العراق وسوريا فرصة إعادة التمركز والانتشار، وأعطاهم فرصة إعلان تعليق العمليات ضد القوات الأمريكية لمساعدته على التخفيف من قسوة ردّه المنتظر. كما أن التأخر في الرد يستفيد بطبيعة الحال من تراجع غضب الأمريكيين، وقد يستفيد من الأخبار المتفائلة بالاتفاق على هدنة في غزة، لتخرج طهران وقد نالت من هيبة أمريكا بثمن بخس.

وكي لا يُفهم إعلان تعليق عمليات الميليشيات الإيرانية ضد القوات الأمريكية “الذي سبق الغارات” على محمل الضعف، فقد كشفت مصادر عراقية لجريدة العربي الجديد عن أن قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني وعد رئيسَ الوزراء العراقي بالضغط على الفصائل المسلحة العراقية “التابعة لإيران”، من أجل التهدئة وإيقاف التصعيد والعمليات ضد الأمريكيين، مقابل الإسراع بعملية الحوار والتفاوض معهم من أجل إنهاء مهمة التحالف الدولي وإخراج القوات الأمريكية بشكل كامل من العراق وفق جدول زمني معلن. أي أن ميليشيات طهران في العراق وسوريا تريد تحقيق هدفها، حرباً أو سلماً. والهدف المعلن بوضوح شديد لا علاقة له بدعم حماس في غزة؛ الهدف هو إخراج القوات الأمريكية من العراق لتستفرد طهران به، وإخراجها من سوريا لينتهي الدور الأمريكي فيها لصالح طهران وموسكو.

لا يتوقف الأمر عند استغلال إيران الحرب على غزة لتفتح ما هو أقل من معركة ضد الوجود الأمريكي، بأهداف وغايات لا علاقة لها إطلاقاً بغزة. ما يحدث يتعدّى ذلك إلى ما يشبه تواطؤاً من إدارة بايدن مع المسعى الإيراني، من خلال اعتباره متصلاً بالحرب على غزة كجبهة وأهداف، والتغطية على البعد الثنائي للاشتباك وهو سابق على الحرب ومستقل عنها وإن بأدوات مختلفة. تريد إدارة بايدن تصوير صمتها على الاستفزازات الإيرانية كثمن لقاء عدم توسيع الحرب في المنطقة، وتصويره ضمناً كثمن يُدفع من أجل أمن إسرائيل، وهذه كذبة تتغذى من كذبة وجود رغبة لدى طهران في توسيع الحرب.

دخل بايدن فعلياً سنته الانتخابية للفوز بولاية ثانية، وإذا كان قد أخذ على سلفه “حماقة” الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران فإنه لم يفلح خلال ثلاث سنوات تالية على حكم ترامب سوى في تقديم الإغراءات بلا جدوى كي تقبل طهران بالعودة إلى الاتفاق السابق. لقد تجلّى تودد إدارة بايدن بصفقات إفراج عن سجناء نالت فيها إيران مليارات الدولارات من حساباتها المجمَّدة، أي أن الصفقة تمت بمنطق دفع فدية مقابل رهائن. وكان من قرارات الإدارة المبكرة شطب جماعة الحوثيين المدعومة إيرانياً من قائمة الإرهاب الأمريكية، بعدما أعلن بايدن إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن. في الغضون لم تتوقف طهران عن رفع معدلات تخصيب اليورانيوم بما يقترب علناً من المستوى اللازم لإنتاج أسلحة نووية، ولم تبدر عن واشنطن ردود أفعال تتناسب مع اهتمامها المعلن بالعودة إلى الاتفاق النووي!

منذ أن انقضت صدمة هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وبانت النوايا الإيرانية التي لا تتعدى التكسّب مما حدث، راح بايدن يتصرف كأنه واقع بين متطلبات الزوجة ومتطلبات العشيقة. وفق هذا يمكن فهم السعي الأمريكي إلى إنجاز ترسيم حدود برّي بين إسرائيل ولبنان، وهو مطلب يُرجَّح أن يوضع مقابل إنهاء الوجود الأمريكي في سوريا ولبنان، وبذلك يتحقق مطلب إسرائيل بإبعاد الحزب عن الحدود، ويتحقق مطلب طهران إذ تنال عملياً الاعتراف بمناطق نفوذها الممتدة من طهران إلى جنوب لبنان، من دون ربط مكاسبها الإقليمية بتنازلات في الملف النووي.

يحاول بايدن تسويق هذه الصفقة تحت يافطة صفقة ثانية هي إقامة دولة فلسطينية مقابل التطبيع بين إسرائيل والاقتصاديات العربية المغرية بالتطبيع، إلا أن إيجاد صيغة لدولة فلسطينية تقبل إسرائيل بوجودها يكاد يكون مستحيلاً. لذا قد تتمخّض المساعي الأمريكية، في حال نجاحها، عن أجواء تشبه أجواء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام بعد حرب الخليج، تلك الأجواء التي أسفرت عن صفقات ثنائية دون الطموح الشامل الذي كان معلناً.

لقد تسلّطت الأضواء “عن حقّ بالتأكيد” على فداحة انحياز بايدن إلى حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، رغم أن موقفه يتفق مع مجمل مواقف الإدارات السابقة الداعمة لانتهاكاتها بلا قيد أو شرط. لكن، في الحديث عن سياقات متواصلة، تجدر ملاحظة المكانة التي لإيران ضمن السياسة الأمريكية في المنطقة، خاصة من جانب الحزب الديموقراطي الذي وضع التفاهم مع طهران في صدارة أولوياته منذ ولاية أوباما الأولى، وتُرجم ذلك بتمدد النفوذ الإيراني على جثث عشرات آلاف الضحايا في أربع دول عربية. إن تقديم ثمن لطهران على جثث الضحايا في غزة هو استئناف لنهج أمريكي، ديموقراطي على نحو خاص، والذي لم يعد مستبعَداً هو أن تخرج طهران من ولاية بايدن بكل هذه المكاسب فضلاً عن حيازتها قنبلة نووية.

—————————

إيران وقد كسبت في الحرب على غزة/ عمر قدور

السبت 2024/01/27

أعلن العراق يوم الخميس نجاح مفاوضاته مع الحكومة الأميركية لإطلاق لجنة عسكرية عليا بهدف صياغة جدول زمني لوجود التحالف الدولي في البلاد، وكانت مجلة فورين بوليسي الأمريكية قد نقلت يوم الأربعاء عن مصادر مطلعة، في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية، أن واشنطن لم تعد مهتمة بالبقاء في سوريا. وأكّدت المجلة أن مناقشات مكثفة تدور حالياً لبحث توقيت وكيفية سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مشيرةً إلى أن الحكومة الأمريكية أعادت النظر في أولوياتها العسكرية في المنطقة بعدما “بلغت التوترات والأعمال العدائية في الشرق الأوسط ذروتها” إثر هجوم حماس في السابع من أكتوبر.

يُذكر أن لواشنطن 900 عسكري في سوريا، وقد تعرّضت القواعد الأمريكية في سوريا لما يُقارب 100 هجوم منذ السابع من أكتوبر من قبل ميليشيات عراقية تابعة لطهران، والميليشيات ذاتها استهدفت الوجود الأمريكي في العراق بحوالي 40 هجوماً فقط خلال المدة نفسها. وحسبما هو معلن لم تتعرض القوات الأمريكية في البلدين لخسائر جراء عمليات الهجوم الأخيرة، بل هي التي أوقعت بالمهاجمين خسائر أشدّ من الخسائر المادية البسيطة التي تسببوا بها. بصريح العبارة: ليس هناك مبررات ميدانية لقرار الانسحاب الأمريكي من البلدين، والحديث عن إعادة النظر في أولويات واشنطن العسكرية لا يعدو كونه تغطية على الهدية التي تقدّمها لإيران.

للتذكير أيضاً، دأبت التصريحات الإيرانية التي أعقبت هجوم حماس على التصويب على واشنطن، باعتبارها أساس المشكلة، وهو ما عمد إليه نصرالله في خطاباته الأولى من أجل احتساب استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق ضمن مؤازرة حماس، وتحت شعار “وحدة الساحات”. وكان مفهوماً منذ ذلك الوقت، لمن يودّ الفهم، أن صرف الانتباه في اتجاه أمريكا يخدم قرار طهران عدم مواجهة إسرائيل إلا بما يحفظ ماء وجهها كقائدة لمحور الممانعة الذي كان يتوعد بالقضاء على إسرائيل. لكن كان للتصويب على مسؤولية واشنطن عن العدوان الإسرائيلي واستهداف الوجود الأمريكي في سوريا والعراق وظيفة واضحة جداً أيضاً، وهي الإشارة إلى المكان الذي تريد فيه طهران قبض ثمن “وحدة الساحات” لقاء عدم مؤازرة حماس جدياً في الجبهة المؤثّرة حقاً.

السؤال الذي يجدر طرحه هو عن مدى تأثير هجمات الميليشيات الإيرانية على قواعد أمريكية في سوريا والعراق لجهة دعم الفلسطينيين في غزة، والسؤال الآخر الجدير بالطرح أيضاً هو عن مدى المساندة الحقيقية لغزة بمستوى العنف الذي يصرّ الحزب على أن يكون منضبطاً في الجنوب، ويعلن أن التصعيد متصل فقط بالحرب على غزة، وهدفه إشغال جزء من الاهتمام الإسرائيلي بحيث لا ينصرف كلياً لسحق الفلسطينيين. فوضْعُ هذه الذريعة أمام حرب الإبادة في غزة يدفع في أقل الأحوال إلى السؤال عمّا لم تفعله إسرائيل حتى الآن كي تستثير حمية أولئك المتشدّقين بمؤازرة غزة؟

منذ الأيام الأولى التي أعقبت السابع من أكتوبر سرّبت مصادر إيرانية لوماً لقادة حماس لأنهم، حسب تلك المصادر، لم يبلغوا طهران بالهجوم. ذلك التسريب حمل التبرؤ من المسؤولية عن الهجوم، والتبرؤ تالياً من الرد على الانتقام الإسرائيلي. وكان يمكن حقاً أن تُترك حماس وغزة لمصيرهما، ولمفاوضات تجريها أطراف عربية ذات صلة بحماس وغزة بهدف إيجاد التسوية الأفضل للفلسطينيين في غزة، حتى إن لم تكن الأفضل لحماس. إلا أن الانتهازية الإيرانية وجدت فيما حدث فرصة سانحة للتكسب على حساب الفلسطينيين وغزة، وعلى حساب حماس أيضاً.

الخلاصة التي تُستشف حتى الآن من وحدة الساحات هي تصلّب قادة تل أبيب في الشأن الفلسطيني، وتصلّب أمريكي فيما يخص إيقاف الحرب على غزة وتحقيق الأهداف الإسرائيلية فيها، مقابل مرونة أمريكية تجلّت في الصبر على الحوثيين قبل الشروع في الرد، ثم بإظهار نية الانسحاب من سوريا والعراق وتركهما للنفوذ الإيراني المتغلغل فيهما أصلاً. ولا تحتاج إلى ألمعية ملاحظةُ أن طهران تقبض ثمناً هو بمثابة منحها شهادة حسن سلوك أمريكية على مجمل الأداء الإيراني في الحرب الأخيرة، والجزء الباهظ من الثمن دفعه فلسطينيون أحسنوا الظن بالحليف الإيراني.

كنا في وقت مبكر، آخر شهر أكتوبر، قد أشرنا هنا إلى هذا السيناريو بمقال تحت عنوان: هل يُقبض ثمن غزة في سوريا؟ وكنا أشرنا فيه إلى المطامع أو المطالب الإيرانية أكثر من الاستعداد الأمريكي لتلبيتها، لكنّ الأخبار الواردة من العراق، وفي تقرير فورين بوليسي، تفيد بأن الاستجابة الأمريكية وصلت مرحلة متقدّمة، خاصة إذا أضفنا ما أشيع مؤخراً نقلاً عن موقع مونيتور الأمريكي وفيه أن وزارة الدفاع الأمريكية اقترحت على قسد شراكةً مع الأسد ضد داعش كجزء من سياسة واشنطن الجديدة في سوريا، وهو ما طرحته الوزارة أيضاً في اجتماع لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض.

صحيح أن شبكة CNN نقلت عن مسؤول لم يُفصح عن هويته في الإدارة الأمريكية أن الانسحاب من سوريا ليس قيد الدراسة، إلا أن استناد فورين بوليسي إلى أربعة مصادر داخل الإدارة يجعل تقريرها يحظى بصدقية أعلى، خاصة مع ربطه بالإجراءات الممهِّدة للانسحاب الأمريكي من العراق. وما قد يعزز سهولة قرار الانسحاب من سوريا أن وجود القوات الأمريكية هو تحت يافطة الحرب على داعش، وليس هناك مسؤوليات مترتبة عليه تجاه الشأن السوري، أو حتى تجاه الحليف السوري قسد. وفوق ذلك لن يُستغل هذا الانسحاب ضد بايدن في السنة الانتخابية الجارية، لأن منافسه الأقوى بين الجمهوريين “ترامب” كان قد اتخذ قرار الانسحاب عام 2019 ثم تراجع عنه تحت ضغط جنرالات البنتاغون.

في الأصل لم تكن هناك أوهام شائعة تربط الوجود الأمريكي في سوريا بالتغيير الذي يطمح إليه السوريون، وكانت الخشية موجودة دائماً من مقايضة مع موسكو المشتبكة مع الغرب في العديد من الملفات، أو مع طهران التي أعطى الرئيس الديموقراطي السابق أوباما أولوية للاتفاق النووي معها مقابل إطلاق ميليشياتها في سوريا من ضمن العديد من المكاسب الإقليمية. رغم ذلك كان يمكن توقّع إيجابية ما لتفاهم أمريكي-روسي أو أمريكي-إيراني يأتي ضمن حسابات تلحظ ضرورة إحداث تغيير سوري خدمةً للاستقرار ليس إلا، وهذا بالتأكيد ليس حال صفقة هاجسها الأهم التوفيق بين المطامع الإسرائيلية ونظيرتها الإيرانية في المنطقة. في المحصلة، تكسب إيران في الحرب على غزة، ويخسر السوريون في حرب لم يخوضوها. 

————————

عزمي بشارة:أميركا تريد تحويل اسم السلطة الفلسطينية الى دولة

المركز العربي للابحاث

قال المدير العام لـ”المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، د. عزمي بشارة، خلال حوار أجراه مساء الأحد، عبر “التلفزيون العربي”، بشأن الحرب على قطاع غزة ومجرياتها، إنه لا توجد ضمانات واضحة بأن تتحوّل التهدئة المُقترحة في غزة إلى وقف دائم لإطلاق النار، لافتا إلى أن عمليات الجيش الإسرائيلي في الوقت الحاليّ والتي تتركز في خانيونس، أعنف من التي قام بها في شمال ووسط القطاع.

ورأى بشارة، أن فلسطين تقف عند مفترق طرق حالياً، بين تصفية قضيتها والتفريط بدماء أبنائها وتضحياتهم، أو إيجاد حلّ عادل لها لا يمكن التوصل إليه إلا بتوحيد كل الفلسطينيين في إطار واحد يترجم الإنجازات العسكرية للمقاومة إلى نتائج سياسية تخدم قضيتهم. كما نفى بشارة التوصل حتى الآن إلى اتفاق للتهدئة في غزة ولإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين، وتوقع أن يكون ردّ المقاومة الفلسطينية على مسودة الاتفاق الذي اقترحته قطر في الأساس، مفصلاً وليس على طريق نعم أو لا.

وفي حين أشار إلى وجود انتقام أميركي من المقاومة وليس فقط من قبل إسرائيل، فإنه وصف مشروع الدولة الفلسطينية كما تقترحه إدارة الرئيس جو بايدن بأنه مجرد تحويل اسم السلطة الفلسطينية إلى دولة فلسطينية. كما جزم بأن أميركا غير مشغولة بإيجاد حل وبوقف الحرب، بل بإرساء ترتيبات تعيد التطبيع بين إسرائيل وبقية الدول العربية التي لم تطبع علاقاتها بعد مع تل أبيب.

وفي ما يتعلق بالقصف الأميركي لمواقع مليشيات حليفة لإيران في العراق وسورية، وصف بشارة ذلك بأنه رد محسوب لن يتطور إلى حرب أميركية ــ إيرانية، وهو ما رجّح أن يسري أيضاً على القصف المتبادل بين حزب الله ودولة الاحتلال، مستبعداً ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل من دون انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا.

فلسطين ومفترق الطرق

وأعاد بشارة وصف وثيقة حركة “حماس” الصادرة قبل نحو أسبوع بأنها بناءة وجيدة ويمكن البناء عليها، ولفت إلى أن “حركة المقاومة الإسلامية” تريد أن تكون جزءاً من الحراك السياسي في المنطقة وقد اكتسبت شرعية كبيرة.

وانطلق من هذا التوصيف للتذكير بأن ترتيبات تجري لما بعد الحرب على غزة من قبل أميركا وبعض الدول العربية حول كيف تكون غزة من دون حركة حماس، وحذّر من أنه لو كان هناك طرف في القيادة الفلسطينية مشاركاً في هذا المخطط، فإن هذا يعني تفريطاً بكل ما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات وبإنجازات المقاومة. أما إذا كانت هناك قيادة فلسطينية ترفض ذلك، وتعتبر أنه الآن هو الوقت المناسب لتوحيد الفلسطينيين لأن الخطر يطاول جميع الأطراف ومن ضمنهم جزء من السلطة الفلسطينينة، فإنها ستجد أن الحل يكمن في التصدي لهذه المخططات وترجمة قوة المقاومة سياسياً، من دون الاتفاق بالضرورة مع حركة حماس على كل العناوين. كلام خلص منه إلى أن القضية الفلسطينية تقف اليوم عند مفترق طرق: إما تصفيتها والتفريط بالدماء أو التوصل إلى حل عادل لها، وهذا ما يستحيل حصوله بحسب المفكر العربي إلا بتوحيد الفلسطينيين في إطار موحد مثل منظمة التحرير الفلسطينية وانضمام حركة حماس إليه.

وفي السياق، شدد بشارة على وجود انتقام أميركي من المقاومة وليس إسرائيلي فقط على اعتبار أن عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر أعاقت مشروعاً أميركياً كبيراً ينص على إقامة تحالف عربي ــ إسرائيلي يقف في وجه إيران، يُضاف إليه تحالف هندي أوروبي يعرقل مشروع طريق الحرير الصيني ويسمح لأميركا بإيلاء منطقة جنوب شرق آسيا الأولوية بدل الشرق الأوسط. لكن هذا الموقف الأميركي من “حماس” بدأ يلين بحسب تقدير بشارة لأسباب عديدة من بينها ضغط الرأي العام الأميركي وقرب موعد الانتخابات الأميركية، ثم بدأ يظهر خطر آخر على التطبيع هو السلوك الإسرائيلي وليس فقط “الحمساوي”. وفي تحليل بشارة، دفع كل ذلك واشنطن لكي تبدأ الضغط على تل أبيب منذ فترة في سبيل الدخول في مرحلة جديدة من الحرب ولتحديد ملامح “اليوم التالي” لما بعد انتهاء العدوان.

لا اتفاق حتى الآن للتهدئة والتبادل

ورداً على سؤال حول معلوماته عما وصلت إليه المسودة القطرية لاتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، أوضح بشارة أن لا اتفاق حتى الآن، بما أن حركة حماس لم ترسل ردها إلى الوسطاء بعد. وتوقع أن يكون ردها مفصلاً “وليس على طريقة نعم أو لا”، أي أن مسؤولي “حماس” قد يضعون تفاصيل من وجهة نظرهم للمراحل الثلاث بما تتضمنه من تخفيف معاناة الناس وصولاً إلى تفاصيل إدخال مساكن جاهزة بدل الخيم وبدء إعادة الإعمار ومستشفيات ميدانية وإخراج الجرحى وحديث عن تهدئة شاملة بضمانات.

وشرح بشارة بعض ما يتضمنه مشروع الاتفاق الذي اقترحته دولة قطر في مؤتمر باريس وينص على 3 مراحل، أولها يتم فيها تبادل المحتجزين الإسرائيليين بدءاً من المسنين والمرضى مع أسرى فلسطينيين ل45 يوماً يتم التفاوض خلالها على المرحلتين الثانية والثالثة. في الثانية يُطلق سراح الجنديات الإسرائيليات، ثم في المرحلة الثالثة يفرج عن الجنود الإسرائيليين الرجال وما تبقى من رجال مدنيين، وأيضاً خلال تلك المرحلة يبدأ الحديث عن “تهدئة” كون الإسرائيليين يرفضون الحديث عن وقف إطلاق نار “يثير حساسيات سياسية داخل الحكومة الإسرائيلية”. وتابع أنه في المراحل الثلاث، يفترض أن تدخل مساعدات إنسانية إلى القطاع. لكن بشارة تابع أنّ لا ضمانات بأن هذه التهدئة سترسي وقفاً دائماً لإطلاق النار، مع أن الأميركيين يحاولون إقناع الوسطاء والأطراف بأنه بعد 120 يوماً يصعب أن تعود الحرب، لكن هذه ليست ضمانة خصوصاً في ظل هذه الحكومة اليمينية الإسرائيلية بحسب تعبير الدكتور  بشارة.

ماذا تريد أميركا فعلاً؟

وفي إطار متصل، جزم بشارة بأن لا ضغط أميركياً جدياً على إسرائيل لتوقف الحرب، مع أن بايدن قادر أن يفرض قراره على نتنياهو لو أراد ذلك. وذكّر بشارة بأن هناك اعتماداً إسرائيلياً مطلقاً على أميركا للاستمرار في الحرب، لا في السلاح حصراً بل في الذخيرة أيضاً، وهذا يعطي أميركا القدرة للضغط على إسرائيل حين تريد وهذا ما لم تفعله بعد “ولا أعرف إن كان ذلك سيحصل في سنة انتخابات”.

وبرر ذلك بأن انشغال أميركا ليس بالحل ولا بوقف إطلاق النار ولا بوقف المعاناة إنما انشغالها بإرساء ترتيبات قد تعيد التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. في هذا السياق يندرج، وفق تقدير بشارة، الحديث اللفظي عن الدولة الفلسطينية “الذي لا يغير من الواقع شيئاً أي إعطاء وعود لفظية إلى الدول العربية في مقابل التطبيع، علماً أن المطروح أميركياً يقوم على تغيير تسمية السلطة الفلسطينية إلى الدولة الفلسطينية”.

وعاد بشارة هنا إلى أن (الرئيس الراحل ياسر) عرفات وافق على خريطة الطريق الأميركية عام 2002 كما هي، بينما (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرييل) شارون رفضها وانسحب من غزة لإحباط مشروع الدولة في الضفة وغزة ووضع شروطاً على الدولة الفلسطينية تفرغها من أي مضمون وقتل عرفات عام 2004.

واختصر بشارة الواقع بأن “من قتل ورفض كوفئ (شارون) ومن وافق على خريطة الطريق اغتيل” (في إشارة إلى عرفات). وعن هذا الموضوع تابع بشارة قائلاً: كذلك الحال اليوم بالنسبة إلى بايدن، فحل الدولتين بالنسبة إليه نظري، يقوم على الاعتراف بالسلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع وربما مستقبلاً يعترف بدولة من دون سلاح وليس على حدود العام 1967، لأن كل هذا ليس مطروحاً بالنسبة لبايدن اليوم كونه يعتبر أنه لا توجد قيادات فلسطينية وإسرائيلية جاهزة لهذا الأمر.

الإعلام العبري

وفي إطار رصده الأجواء الإسرائيلية التحريضية والعنصرية الدموية اليوم، توقف بشارة عند أحوال الإعلام الإسرائيلي، واصفاً إياه بأنه “إعلام شمولي موجه باتجاه التحريض على الحرب والمزايدة في من يحرض أكثر عنصرياً ودموياً، ومن بين النقاشات أسئلة عن لماذا نسمح بإدخال الطعام والدواء إلى غزة؟”. وجزم بأن “الرأي الآخر من نوع يجب وقف الحرب أو عرض القصص الإنسانية للغزيين غير موجود (كتيّار) في الإعلام الإسرائيلي حالياً”.

ووجد بشارة أن الخطر يكمن في أن هذا الخطاب ينتقل إلى المؤسسات الثقافية والأكاديمية في إسرائيل، “كذلك هناك شعور بأن جزءاً كبيراً مما يُبث مصدره الجيش وجزء كبير منه أكاذيب واختلاق بشكل بدائي ونظريات مؤامرة”. وبعدما استعرض بشارة واقع الإعلام العبري بهذه العبارات، خرج بنتيجة أن هذه من أسباب قد تجعل المراقب يستبعد حصول اتفاق تهدئة وتبادل أسرى، لأن لا تحضير لوقف إطلاق نار في إسرائيل بل تأجيج وتجييش وتصعيد حربي ضد غزة وضد لبنان . وعلى هامش تعليقه هذا، أشار مدير “المركز العربي” إلى أن “المجتمع الإسرائيلي مصدوم من جهله بغزة وبقدرة المقاومة على الصمود، كذلك حال أميركا وعدد كبير من الدول العربية أيضاً”.

المنطقة العازلة

وعلّق بشارة في حديثه مع التلفزيون العربي على تجريف الاحتلال المناطق على طول الحدود مع غزة بمساحة نحو 40 كيلومتراً مربعاً لإنشاء منطقة عازلة هي “جزء من مشاريع اليوم التالي ليكون هناك نوع من الجدار وخلفه منطقة مفتوحة بعد هدم آلاف الوحدات السكنية بما يسمح بنجاح خطتهم للتحكم في غزة ولتكون لديهم نقاط مراقبة دائمة وإشراف أمني على القطاع بما يشبه الحاصل في الضفة الغربية”. وفي غضون ذلك، توقع بشارة أن يكون هذا الموضوع جزءاً من رد حماس على اقتراح اتفاق غزة.

وعن مجرى العدوان، لاحظ بشارة أن “الوجود الإسرائيلي المكثف حالياً في غزة يتركز اساساً في خانيونس وشمال ما يسمونه وادي غزة (وسط القطاع) وهم يعدّون العدة للتوجه إلى رفح لكنهم لن يستطيعوا دخول منطقة رفح من دون تهجير سكانها من جديد إلى الشمال، لذلك ربما يخططون لفعل ذلك بعد انتهاء وقف إطلاق النار” (في حال حصل).

وأوضح في تحليله لمجرى الحرب أنه في خانيونس، القصف والتدمير والقتل أكثر بدرجات مما فعلوه في الشمال والوسط، لذلك أيضاً المقاومة شرسة جداً هناك، بحسب تعابيره. وخلص إلى أن الإسرائيليين ينظرون إلى غزة “لا قضية شعب 80 في المائة منه من اللاجئين، بل من زاوية أمن المستعمِر فقط”. وعن إدارة محور فيلادلفيا مستقبلاً، توقع بشارة حصول خلاف مصري إسرائيلي حول ذلك.

الحرب على “أونروا”

وبالنسبة للحملة على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، أحال بشارة الرأي العام إلى حقيقة أن إسرائيل لم تعترف يوماً بـ”أونروا” ولم تسمح لها بالعمل داخل حدودها وهذه الوكالة لها فضل كبير في تعليم الفلسطينيين خصوصاً، ولكن طوال الوقت كانت إسرائيل تحاول إقناع الدول الغربية بالتوقف عن تمويلها وذلك بهدف تصفية القضية الفلسطينية. واستعرض بشارة كيف حقق مشروع تصفيتها قفزات خلال رئاسة دونالد ترامب وإدارته التي تألفت من بعض المستوطنين، لكن التمويل عاد مع إدارة جو بايدن.

وبعد هذا الاستعراض، توقف بشارة عند أكثر ما هو لافت في قضية اتهام الموظفين الـ12 بالتورط في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو السلوك الأميركي والغربي في وقف تمويل “أونروا”، “وهو سلوك استعماري عنصري، لأنه يقوم على التعامل معنا (كعرب) ليس كأفراد يتحملون مسؤولية أفعالهم، بل كجماعات تعاقب جماعياً”. وتساءل في هذا السياق عن سبب عدم تقديم دول مثل الصين وروسيا مثلاً تمويلاً كبيراً لوكالة “أونروا”؟

الضربات الأميركية

وفي الجزء الأخير من حوار التلفزيون العربي مع مدير “المركز العربي”، شدد بشارة على أن الضربات الأميركية على مواقع لمليشيات مسلحة حليفة لإيران في العراق وسورية رداً على مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة الأسبوع الماضي، “لا تزال من ضمن الرد المحسوب وسيكون الرد مضاعفاً لكنه لن يتطور إلى حرب أميركية ــ إيرانية لأن لا أميركا ولا إيران تريدان حرباً مباشرة”. ولفت إلى وجود قضايا عالقة بين الطرفين لا علاقة لفلسطين بها، مثل هوية المسيطر على العراق، بالتالي أساس الصراع ليس غزة بل النفوذ في المنطقة. أما بالنسبة لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، فهو سيكون “شبه مستحيل من دون إعادة مزارع شبعا”، بحسب تقدير بشارة، مكرراً توقعه ألا تصل الاشتباكات بين حزب الله ودولة الاحتلال إلى حرب شاملة.

————————–

=======================

درج

————————-

عن ازدواجيّة معايير نظام الأسد بين القصفين الإسرائيلي والأردني/ أنجل جرجس

21.01.2024

لم يصدر أي موقف رسمي سوري أو حتى احتجاج على مقتل مدنيين بينهم أطفال، نتيجة استهداف الطيران الأردني منازل المدنيين في القرى الفقيرة في السويداء. لكن في المقابل، علت لهجة النظام ضد استهداف راعيه الإقليمي الإيراني.

تسببت غارات أردنية داخل الأراضي السورية، وتحديداً في منطقة السويداء، بمقتل مدنيين بينهم أطفال. وقد استهدفت منزلين على الأقل في بلدة عرمان، ما أدى الى مقتل ثمانية أشخاص، بينهم طفلتان وأربع سيدات، مع تدمير كامل للمنازل. فالجيش الأردني ينشط منذ سنوات، في مجال إحباط عمليات تهريب أسلحة ومخدرات آتية من سوريا، وتحديداً الكبتاغون الذي يُصنّع في سوريا ويُصدّر إلى دول الخليج.

بعد القصف الأردني بأيام، ضربت إسرائيل قلب العاصمة دمشق مستهدفةً شخصيات إيرانية، ما أدى الى مقتل مسؤول في استخبارات الحرس الثوري وعناصر قيادية إيرانية كانوا برفقته.

هذه الاستهدافات ليست الأولى، فقد باتت سوريا ساحة مفتوحة للأطراف الدولية والإقليمية كافة. إذ تكرر ضرب إسرائيل أهدافاً إيرانية وسورية وأخرى تابعة لـ”حزب الله” في سوريا. وكالعادة، لم يرد النظام عليها سوى بموقفه الذي بات مثار سخرية، وهو أنه “سيرد في المكان والزمان المناسبين”.

وهكذ، ستظلّ سوريا هدفاً لصواريخ اسرائيل، والمتضرر الوحيد هو أجساد السوريين وأرواحهم والبنية التحتية المتهالكة أصلاً.

تجاهل قتل الأبرياء

المفارقة ليست فقط في الهجمات نفسها وفي ضحاياها، ولكن في كيفية تعامل النظام السوري مع هذه الانتهاكات الواضحة لسيادته.

لم يصدر أي موقف رسمي سوري أو حتى احتجاج على مقتل مدنيين بينهم أطفال، نتيجة استهداف الطيران الأردني منازل المدنيين في القرى الفقيرة في السويداء. لكن في المقابل، علت لهجة النظام ضد استهداف راعيه الإقليمي الإيراني واستنفرت أجهزته، وخرجت علينا شخصيات النظام تدين بأشد العبارات القصف الذي استهدف مسؤولين للنظام الحليف لدمشق.

وكأن حيوات السوريين ليست متساوية بالنسبة الى نظام الأسد، فحين يتم الاعتداء على منطقة مثل “مزة فيلات غربية” حيث تسكن شخصيات موالية للنظام، وحين يستهدف العدوان مصالح ايران، يتهافت صحافيو النظام وقنواته الإعلامية وشرطته المحلية على تغطية الخبر وملابساته والمساعدة في انتشال الركام والجثث. في حين يسود الصمت والتجاهل عمداً حيال جريمة الطيران الأردني، التي وقع ضحيتها نساء وأطفال أبرياء عُزّل، لأن هذه الجريمة حصلت نتيجة نشاط النظام السوري غير الشرعي في تصنيع المخدرات وتهريبها عبر جنوب سوريا الى الأردن والسعودية، ولأنه تجاهل تحذيرات الأردن المتكررة ووعودها بالرد الحاسم للدفاع عن أمنها، الذي بلغ حدّ قتل مدنيين في منازلهم، وهي جريمة موصوفة.

يعلم النظام الأردني جيداً، أن دمشق لن تسائله عن مقتل مدنيين، فنظام بشار الأسد احترف استهداف المدنيين وقتلهم، ولن يحرك ساكناً لمقتل عدد منهم في السويداء.

في المقابل، استهدفت صواريخ إسرائيل ضباط الحرس الثوري في منطقة المزة في دمشق، إحدى أكثر المناطق ازدحاماً وحساسيةً أمنياً، إذ إنها تضم سفارات عدة ويقطن في فيلاتها ضباط رفيعو المستوى، سوريون وإيرانيون وروس، الى جانب مدنيين يخشون استخدامهم دروعاً بشرية والاختباء بينهم.

كيف تسمح حكومة مسؤولة بتمركز مسؤولين أمنيين في مناطق سكنية، وإقامة اجتماعات، مع علمها باحتمالية استهدافهم، غير آبهة بحياة من حولهم. وربما يسكن هؤلاء في مناطق سكنية عن قصد، لعل موت الأبرياء يمنحهم ورقة رابحة يستخدمونها أمام المحاكم الدولية والصحافة!

لطالما كان خطاب بشار الأسد في السنوات الأخيرة، احتفائياً ببقائه في منصبه، وهو “صمود” كلّف دماً كثيراً دفعه السوريون، الذين تواطأت قوى إقليمية ودولية على محنتهم، فسمحت ببقاء الأسد على رغم كل جرائم الحرب التي ارتكبها، وها هو يواصل ما دأب عليه بعدما أخذ دعماً عربياً باستقباله في القمة العربية الأخيرة، ليكون رئيساً مرفوعاً على رفاة السوريين وعظامهم.

صمت تام عن الانتهاكات

مع اقتراب حرب إسرائيل على غزة من شهرها الرابع، بكل ما فيها من شراسة وقسوة، يعيد العالم اليوم التفكير في معنى الإنسانية، وفي مواقف الدول والأنظمة، حتى تلك التي تدعي الديمقراطية، وتجاهل الانتهاكات التي تحدث يومياً، فيما لا تجد الشعوب من يردّ لها اعتبارها وحقوقها.

يكتنف عالم اليوم الكثير من الصمت وإشاحة البصر عن جرائم وحشية ظننّا أن القوانين الدولية والإنسانية ستكفل عدم تكرارها. وهذا ما نادى به المجتمع الدولي بعد جرائم الحرب العالمية الثانية، التي ظنّ العالم أنها الأبشع، وأنها لا يمكن أن يتكرر.

اليوم،  تدفع غزة ثمناً قاسياً، وسبق للسوريين الذين انتفضوا ضد نظامهم في العام 2011، أن دفعوا أثماناً باهظة موتاً ودماراً وتهجيراً.

 يتهامس الشارع السوري اليوم بخوف، محتجّاً على ازدواجية معايير نظام جرّدته مواقفه من آخر قشّة من الشرعية.

فهل سيظل السوريون في السويداء يقفون في ساحة الكرامة التي لجأوا إليها في الأشهر الأخيرة، يهتفون بمطالب تمثل السوريين جميعاً ولكن من دون أي نتيجة ومن دون بصيص أمل نحو التغيير؟

هل يواصل النظام الصمت وتجاهل وقفتهم ومطالبهم، ويوجّه “ناشطين” غير رسميين لإدانتهم واتهامهم بالانقسام والانشقاق عن النسيج الوطني، وإدانة ثورتهم ووصفها بثورة الجياع!

لم يعد هناك أي اهتمام إعلامي دولي أو عربي بالمحنة المستمرة التي يعيشها السوريون، الذين يواصلون دفع أثمان باهظة لانتهاكات هذا النظام لكل القوانين الدولية، في وقت يدين هذا النظام نفسه إاسرائيل على انتهاكاتها في غزة، مدعياً وقوفه الى جانب قضية محقة، هي القضية الفلسطينية، والتي سبق له أن استغلّها أبشع استغلال لقمع شعبه باسمها!

نظام الأسد لا يقل عن إسرائيل فتكاً وإجراماً. وما تشهده المناطق الهشّة حول العالم، من فلسطين الى سوريا ولبنان والسودان وأفغانستان وغيرها من الدول، التي عانت شعوبها من حروب الوكالة وسيطرة الأنظمة الاستبدادية المتطرفة، ناهيك بالتمييز والانتهاكات الجمّة، ينذر بأن المستقبل لن يكون أفضل .

وما يثير السخرية أن العالم استطاع بطريقة ما، أن ينظر باتجاه آخر، بمنظور هش متحجّر القلب، وأن يجد سردية تخدم مصلحة أطرافه القوية، وأن يجعل الأمور تسير وفق بوصلته وحاجته، غافلاً عن كثيرين يعانون بصمت ويدفعون ثمن النظام العالمي الجديد!

——————————

الطرف الثالث في حي المزة بدمشق/ فايز سارة

26 يناير 2024

استهدفت آخر العمليات العسكرية الإسرائيلية مقراً أمنياً في العاصمة السورية، اجتمع فيه أمنيون وعسكريون إيرانيون وأقرانهم من سوريين يمثلون نظام الأسد ولبنانيون من «حزب الله» وعراقيون من «الحشد الشعبي»، ورغم عدم إعلان النتائج الكاملة حول قتلى العملية الإسرائيلية، فإنَّ ما تم كشفه، أكد مقتل خمسة من كبار الضباط الإيرانيين، مما يدلل على أنها ضربة تصعيدية هدفها النواة الأمنية الإيرانية وأقرانها من حلفاء طهران وأدواتها، وهذه أبرز سمات العملية، والتي تشمل أيضاً جزءاً من خط عمليات سار الإسرائيليون فيه، ومستمرون في القيام به ضد أهداف إيرانية، وأخرى تتبع نظام الأسد، وميليشيات إيران من «حزب الله» والفصائل العراقية، وكلها جزء من مسار استخدام إسرائيل القوة مع إيران وشبكة حلفائها وأدواتها في المنطقة، وفيه قامت إسرائيل بضرب أهداف عسكرية وأمنية داخل إيران، وأهداف لنظام دمشق في سوريا، كما هاجمت أهداف تتبع «حزب الله» حليف إيران وأداتها في لبنان، وتنفذ في إطاره مذبحة شاملة مستمرة منذ ثلاثة أشهر ضد نحو مليوني ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة تحت شعار محاربة «حماس»، الحليف والأداة الرئيسية لإيران في فلسطين.

حصلت عملية إسرائيل الأخيرة في المنطقة الأمنية بدمشق، والتي توجد فيها مقرات عسكرية وأمنية ذات أهمية، إضافة إلى السفارات والبعثات الدبلوماسية، وكانت تعبيراً عن خرق أمني واضح، مما يطرح موضوع الطرف الثالث الذي وفَّر للإسرائيليين المعلومات الأساسية، وعزز قدرتهم على تنفيذ عمليتهم بسهولة، وتحقيق هدفهم في تصفية المشاركين بالاجتماع.

وساعد الرد الباهت للحكومة الإيرانية على العملية على بروز موقف إيراني يحمل المسؤولية عنها إلى أطراف أخرى، أساسه القول إن روسيا لعبت دور الطرف الثالث، وشاركت شخصيات إيرانية عامة في ترويج الاتهام على وسائل التواصل الاجتماعي من أوساط محسوبة على التيارين الرئيسيين: تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين، وكلاهما دعا لتأكيد مسؤولية روسيا باعتبارها القوة التي يفترض أن تحمي وجود حلفائها الإيرانيين.

ولا يحتاج إلى تأكيد أن هذه الإشارات بعيدة عن المنطق وعن الواقع أيضاً؛ لأن الحقيقة تقول إنَّ الإيرانيين يملكون قدرات في الدفاع الجوي موجودة في سوريا، ومثلهم سلطة الأسد لديها مثل تلك القدرات، وإن كانت الأولى لم تستعمل دفاعاتها على مدار سنوات العقد الماضية لصدّ الهجمات الإسرائيلية، فإنَّ الثانية لم تستخدمها إلا نادراً رغم الطابع التدميري والدموي لهجمات إسرائيل، التي دأبت على تدمير المطارات وإخراجها من الخدمة في دمشق وحلب، ومن الطبيعي إذ لم يستخدم الطرفان دفاعاتهما الجوية لحماية مواقعهم، ألا يقوم الروس باستخدام دفاعاتهم للمهمة ذاتها.

ويؤكد الواقع أن روسيا منذ تدخلها قبل نحو عشر سنوات، لم تقم بأي عمليات حماية جوية في سوريا، واعتبرت تدخلات إسرائيل وعملياتها هناك خارج نطاق اهتماماتها، وذهب الطرفان الروسي والإسرائيلي منذ البداية إلى إقامة خط اتصال ساخن بينهما بشكل علني، يكفل تفادي أي تماس أو مواجهة بينهما في خطوة تكرس حقيقة العلاقات المميزة بين الطرفين.

أما إذا كان المطلوب من روسيا القيام بالحماية الاستخبارية لشركائها في سوريا، فإنَّ يد الشريكين لا تقل حضوراً وتوغلاً في الواقع السوري، وحضورها قائم عبر أجهزة أمنية وجماعات منظمة ومسلحة على شكل عصابات آيديولوجية وطائفية، وتتوفر لديها كل التقنيات التي تسهل قيامها بأعمالها في التجسس والقمع.

إنَّ محاولة إلصاق تهمة الطرف الثالث بالروس على نحو ما جرى، إنَّما كانت تستند إلى خلفية سياسية، جوهرها أنَّ روسيا طرف منافس لإيران في سوريا، وبالتالي فإنَّ من الطبيعي أن تسكتَ عن أي عملية إسرائيلية تضعف إيران، أو أن تساعدَ في تنفيذها، لكن الروس كانوا أبعدَ من غيرهم عن القيام بدور الطرف الثالث، لأنَّهم لم يكونوا مشاركين في لقاء المزة، ويفترض أنَّه تمَّ بعيداً عنهم ومن دون معرفتهم.

يدرك العارفون بطبيعة أطراف الحلف السوري – الروسي – الإيراني، والسياسة التي يتشاركون في ممارستها انطلاقاً من مقولة «الغاية تبرر الواسطة»، أنَّ تلك الأطراف يمكن أن تفعل أي شيء من أجل مصالحها ولو كانت صغيرة جداً، حتى وإن أصابت أقربَ المقربين إلى رأس السلطة ومثالها السوري عملية اغتيال خلية الأزمة في تفجير مكتب الأمن القومي عام 2012 بدمشق، التي قتل فيها بعض أهم أركان النظام، وبينهم العماد آصف شوكت صهر عائلة الأسد، وأحد أهم ضباط النظام.

الشرق الأوسط

————————

إدانة إسرائيل: تفكيك خيوط الحكم

تضمن قرار محكمة العدل الدولية إقرارًا بأن سكان غزة يتعرضون لاحتمال إبادة، تتحمل إسرائيل مسؤولية معاقبة المسؤولين عليها، واتخاذ التدابير اللازمة لمنعها.

قضت محكمة العدل الدولية، في 26 يناير/كانون الثاني 2024، في دعوى جنوب إفريقيا المطالبة بفرض إجراءات تحفظية عاجلة لمنع ارتكاب إسرائيل إبادة لسكان غزة، بالأحكام التالية:

1-    صلاحيتها في النظر في الدعوى المرفوعة، ومتابعة التحقق من تهمة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية.

2-    إلزام إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة كل من يحرض عليها.

3-    إلزام إسرائيل باتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة لتأمين سكان غزة.

4-    إلزام إسرائيل بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية لسكان غزة.

5-    إلزام إسرائيل بحفظ أدلة الإبادة حتى تتمكن المحكمة من النظر فيها.

6-    إلزام إسرائيل بتقديم تقرير شهري، يعرض حصيلة تنفيذ إسرائيل لهذه القرارات، ثم ترسل المحكمة نسخة منه لجنوب إفريقيا كي تعلق عليه.

قراءات متباينة

ردَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الحكم بأن بلاده تحترم القانون الدولي وأن حكومته لا تشن حربًا على الفلسطينيين وإنما على حماس، وبأنها ستواصل تسهيل المساعدات الإنسانية لسكان غزة، لكنه ظل يؤكد أيضًا بأن إسرائيل ملتزمة بحماية شعبها من الهجمات المعادية.

في المقابل، أشادت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، ناليدي باندور، بالقرار، واعتبرته نصرًا حاسمًا لحكم القانون الدولي، وحجر أساس في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. ودعت إلى ضرورة وقف إطلاق النار لتنفيذ القرار لأن استمرار الحرب يمنع تنفيذه.

وقد تراوحت المواقف الدولية بين هذين الاتجاهين: اتجاه يندد بالمحكمة أو يعتبر قرارها لم يأت بجديد؛ لأن إسرائيل تلتزم في حربها بالقانون الدولي، وليست محتاجة لمن يذكِّرها به أو يلزمها بتنفيذه، واتجاه يرى أن القرار يشير في ثناياه إلى أن المحكمة وجدت أدلة كافية على احتمال ارتكاب إسرائيل إبادة لسكان غزة، وأنها ألزمت إسرائيل باتخاذ تدابير تمنع الإبادة، وحفظ أدلة تحتاجها المحكمة لإصدار الحكم النهائي في تهمة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في سكان غزة.

أبعاد الحكم

لم يتضمن الحكم أمرًا لإسرائيل بوقف إطلاق النار، وقد نوهت بذلك القيادة الإسرائيلية، لكن بقية قرارات المحكمة تكتسي أهمية بالغة سواء في المدى القريب أو المتوسط والبعيد.

في المدى القريب، قبول المحكمة اتهام إسرائيل بالشروع في الإبادة الجماعية، ينزع عن إسرائيل صفة الضحية التي حصَّنتها من كل نقد أو مساءلة، وجعلت كل من يتجرأ على اعتبارها دولة عادية تخضع للمساءلة القانونية مثل بقية الدول معاديًا للسامية، يرتكب ما ارتكبه النظام النازي في حق اليهود، وتنبغي مساءلته ومعاقبته. لن تستطيع إسرائيل وأعوانها الاحتماء مستقبلًا بذلك؛ لأنها باتت حاليًّا متهمة بنفس الجريمة التي ارتكبها النازيون في حق اليهود. بدلًا من ذلك ستكون مشغولة بدفع تهمة الإبادة عنها، وتبيين أنها ملتزمة بالقانون الدولي، وتكون تحت المتابعة شهريًّا؛ لأنها ملزمة بتقديم تقرير شهري لمحكمة العدل يسرد الإجراءات التي قامت بها لتنفيذ لقرار المحكمة.

تلزم المحكمة إسرائيل أيضًا بالتكفل بتوفير معاش سكان غزة وضمان أمنهم وصحتهم، ليس تفضلًا إنسانيًّا كما كانت إسرائيل تصور الأمر، بل وتفاوض عليه؛ بل لأن الحصار الذي فرضته يخالف القانون الدولي ويعد جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي.

ألزمت المحكمة إسرائيل بمنع التحريض على الإبادة ومعاقبة دعاتها، ويترتب على ذلك تداعيات مهمة في الآماد المختلفة، فعلى المدى القريب، ستضطر الحكومة الإسرائيلية إلى معاقبة قيادات كبيرة في الدولة، تشمل رئيس الدولة، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ونائب رئيس الكنيست، ووزراء يمينيين متطرفين في الحكومة. إجمالًا، يؤثر الحكم في ركائز السلطة الإسرائيلية القائمة. من المرجح أن تمتنع الحكومة الإسرائيلية عن تنفيذ هذا القرار؛ لأنه يقضي عليها، لكنها تكون خالفت بذلك قرار المحكمة، وقد يترتب على ذلك إجراءات من عدة دول ملتزمة بتنفيذ قرار المحكمة، فتعلن عن إجراءات عقابية، تفرض عزلة متزايدة على إسرائيل.

على المدى المتوسط، قد تمتنع القيادات الإسرائيلية من السفر إلى الخارج لأنها قد تواجه دعاوى جنائية بناء على قرار محكمة العدل الدولية. أما على المدى البعيد، فإن امتناع إسرائيل المتوقع عن تنفيذ القرار، يضعها في عزلة دولية متزايدة، يقضي على الإنجازات الدبلوماسية التي حققتها في سبيل الاندماج الدولي والإقليمي، وهو الهدف الدبلوماسي الرئيسي الذي تطلعت إليه منذ نشأتها.

فرصة القرار

لن يتحقق ما سبق من تلقاء نفسه، لكنه مشروط بانتهاز الدول المناهضة للاحتلال، مثل جنوب إفريقيا، الفرص التي وفرها قرار المحكمة، للاعتماد عليها في تشكيل توافقات دولية ضاغطة، تلزم إسرائيل بتنفيذ قرارات المحكمة الدولية، ويمنح القرار فرصة أيضا للدول العربية والإسلامية لكسر الحصار، فتستطيع مصر خاصة، ودول أخرى، أن تدفع بقوافل المساعدات من معبر رفح إلى غزة، وتطالب برقابة أممية عليها، فيضيق الخناق على إسرائيل التي ستتفادى اعتراض القوافل خوفا من محكمة العدل الدولية. سيسعى حلفاء الولايات المتحدة بالطبع إلى إفراغ القرار من مضامينه، لكن موقفهم ضعيف؛ لأنها لا يستطيعون مناهضة قرار المحكمة علنًا، بل إن الدول الغربية أعلنت احترامها للقرار، ولم تتجرأ الولايات المتحدة على الطعن فيه وإن حاولت تجاهله أو التقليل من مضامينه، لكنهم جميعًا لا يستطيعون رفض تنفيذه إذا تعرضوا لضغوط علنية ودائمة.

إن صدور القرار والضغوط المرتقبة لتنفيذه يجعلان إسرائيل عبئًا على حلفائها وعلى النظام الدولي، وقد يضطر عدد متزايد من المرتبطين بها إلى مراجعة علاقاتهم معها، حتى لا يتقاسموا معها أوزار مروقها عن القانون الدولي.

——————————-

==========================

المجلة

———————–

بايدن وبوش وريغان… وإسرائيل/ إبراهيم حميدي

12 فبراير 2024

الرئيس الأميركي جو بايدن حثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على عدم شن عملية عسكرية في رفح “من دون خطة ذات صدقية قابلة للتنفيذ” لحماية المدنيين في جنوب قطاع غزة.

إذن، المطلوب من نتيناهو، حسب البيت الأبيض، “خطة قابلة للتنفيذ”، وليس وقف اقتحام المعقل الأخير لمئات آلاف النازحين المدنيين الذي هربوا من ويل الغارات والضربات منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وليس مطلوبا، حسب ما سرب عن الاتصال الهاتفي الأخير بينهما، أخذ التهديدات المصرية على محمل الجد، من أن الهجوم على رفح وتهجير الناس إلى غزة، سيهددان اتفاق كامب ديفيد، أول اتفاق سلام بين دولة عربية وإسرائيل، ويزيدان العبء على مصر في هذه المرحلة الحرجة.

واقع الحال، أنه لم يكن متوقعا أن يتخذ بايدن موقفا أكثر صرامة ضد نتنياهو. فمسيرته في التعاطي مع حرب غزة منذ اندلاعها تشير إلى انحيازه لإسرائيل وخضوعه لرواية نتنياهو، بتقديم الدعم العسكري والاستخباراتي والغطاء الدبلوماسي والحصانة في مجلس الأمن لمنع صدور قرارات ضد تل أبيب.

لمعرفة مدى الانحياز بالمعايير الأميركية، لا بأس من المقارنة مع تجربتين في تعاطي الرئيس الأميركي مع رئيس وزراء إسرائيل.

الأولى، كانت بعد حرب الخليج 1991، عندما استخدم الرئيس جورج بوش ضمانات القروض للمستوطنات ووقف التمويل لبنائها، أداة للضغط على إسحق شامير كي يوافق على الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام بمشاركة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وإطلاق عملية سلام متعددة الأطراف وثنائية. تلك الضغوط، جلبت شامير إلى منصة المؤتمر الدولي ومرجعياته، ومهدت الطريق لإخراجه من المشهد الإسرائيلي وقدوم إسحق رابين الذي قاد الطريق إلى “اتفاقات أوسلو”، و”وادي عربة”، والاختراقات السياسية مع سوريا.

الثانية قد تكون أكثر شبها بحرب غزة التي وضع نتنياهو هدفها في القضاء على “حماس” وقتل أو تهجير قيادتها واجتياح بري للقطاع، وتتعلق بكيفية إدارة الرئيس رونالد ريغان العلاقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن الذي بدأ اجتياح لبنان في 1982 لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت والقضاء على ياسر عرفات قتلا أو تهجيرا.

من المحطات الرئيسة في تلك التجربة قبل نحو أربعين سنة، الاتصال العاصف الذي حث فيه ريغان بيغن على وقف قصف بيروت بعد التقدم نحوها في أغسطس/آب 1982. كما ضغط على وزير الدفاع حينها آرئيل شارون لعدم قصف فندق وسط بيروت كان يقيم فيه صحافيون أجانب. واستخدم ريغان أدوات وقرارات مجلس الأمن وتعليق بيع طائرات “إف-16” وتقييد المساعدات العسكرية والمدنية، للضغط على بيغن لسحب قواته من لبنان.

وأمام الحماية التي وفرتها إدارة بايدن لنتنياهو في الأشهر الماضية في نيويورك، روى لورانس كورب، الذي عمل مساعدا لوزير الدفاع في إدارة ريغان، أن البيت الأبيض سمح بإصدار 21 قرارا أمميا ضد إسرائيل، شملت إدانة استهداف لبنان والعراق وتونس. وبعد أقل من ستة أشهر من توليه منصبه في منتصف 1981، شنت إسرائيل غارة مفاجئة على المفاعل النووي العراقي. لم يدعم ريغان قرارا أمميا لإدانة الهجوم وانتهاك سيادة دول عربية وحسب، بل انتقد الغارة علنا وأوقف تسليم طائرات “إف-16”. كما تجاوز انتقادات جماعات الضغط اليهودية وسلّم دولا عربية خليجية طائرات “أواكس”.

أما بوش الأب، فسمح بتمرير 9 قرارات، بما في ذلك القرار الذي انتقد إسرائيل بسبب ترحيل فلسطينيين، في حين سمح جورج دبليو بوش بإصدار ستة قرارات أخرى، بما في ذلك القرار الذي دعا إسرائيل إلى التوقف عن هدم منازل الفلسطينيين. وسمح باراك أوباما بتمرير قرار واحد ضد توسيع المستوطنات قبل أن يغادر منصبه في ديسمبر/كانون الأول 2016.

صحيح أن تغيرات عميقة حصلت في إسرائيل وأميركا والمنطقة والعالم في العقود الماضية، وصحيح أن هجوم “7 أكتوبر” يختلف عما سبقه من حروب عربية- إسرائيلية، لأنه مسّ فكرة وجود إسرائيل وأمنها وإمكانات الردع.

لكن الصحيح أيضا أن موقف بايدن من إسرائيل سابقة حتى بمعايير البيت الأبيض. تأييد عقائدي لا يهتز، ودعم عسكري كامل، وزيارة تاريخية لرئيس أميركا لإسرائيل في زمن الحرب.

كل هذا يزيد عمقا في موسم الانتخابات الأميركية لمراعاة جماعات الضغط اليهودية في أميركا.

—————————-

نص “اتفاق باريس” بين إسرائيل و”حماس”… تحويل الهدنة إلى حل سياسي من ثلاث مراحل

تتضمن تبادل أسرى… ومساعدات… وحكومة فلسطينية جديدة… وخطوات إقليمية- دولية بينها الاعتراف بالدولة الفلسطينية

إبراهيم حميدي

تكثف دول كبرى وإقليمية، جهودها لتحويل مجموعة من الأفكار إلى خطة عمل بمراحل محددة وتفصيلية ومتداخلة، تبدأ بهدنة في غزة لمدة 45 يوما، وتنتهي باتفاق إقليمي- دولي كبير قبل يونيو/حزيران المقبل، موعد بدء انشغال المؤسسات الأميركية خصوصا الكونغرس في الانتخابات التي ستجرى في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

هذه الأفكار، تقوم على ثلاث مراحل: هدنة في غزة. مسار سياسي يخص الإسرائيليين والفلسطينيين. اتفاق إقليمي- دولي.

ونقطة البداية لهذه التحركات، هي الاتفاق على هدنة في غزة بناء على مسودة الاتفاق الإطاري الذي أعده مسؤولون أميركيون وقطريون ومصريون وإسرائيليون في باريس، وحصلت “المجلة” على نص مشروع الاتفاق.

للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية

نص “اتفاق باريس”

كان مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية (سي آي إيه) وليم بيرنز قد عقد مع مسؤولين أمنيين وسياسيين إسرائيليين وقطريين ومصريين محادثات للوصول إلى اتفاق حول هدنة غزة. وبعد جولات مكوكية، تم التوصل إلى ورقة تحمل اسم “إطار عام لاتفاق شامل بين الأطراف”، من ثلاث مراحل.

وحسب النص، الذي حصلت “المجلة” عليه، تستمر المرحلة الأولى 45 يوما، وتهدف “الحركة الإنسانية إلى الإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال (دون سن 19 عاما) والمسنين والمرضى، مقابل عدد محدد من المسجونين الفلسطينيين، إضافة إلى تكثيف المساعدات الإنسانية. وإعادة تمركز القوات خارج المناطق المأهولة بكثافة، والسماح ببدء أعمال إعادة إعمار المستشفيات في كافة مناطق القطاع، والسماح للأمم المتحدة ووكالاتها بتقديم الخدمات الإنسانية، وإقامة مخيمات الإيواء للمدنيين، وذلك وفق ما يلي:

–    وقف مؤقت للعمليات العسكرية، ووقف الاستطلاع الجوي، وإعادة تمركز القوات الإسرائيلية بعيدا خارج المناطق المأهولة بكثافة في كل قطاع غزة، وذلك لتمكين الأطراف من استكمال تبادل المحتجزين والمسجونين.

–    يقوم الطرفان بإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال (دون سن 19 عاما) والمسنين والمرضى، مقابل عدد من المسجونين الفلسطينيين، على أن يتم ذلك بشكل يضمن الإفراج خلال هذه المرحلة عن جميع الأشخاص المدرجة أسماؤهم في القوائم المتفق عليها مسبقا.

–    يسمح الجانب الإسرائيلي بتكثيف إدخال كميات كبيرة (سيتم تحديدها) من المساعدات الإنسانية والوقود وما يشبه ذلك، بشكل يومي، وكذلك يتيح وصول كميات مناسبة من المساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق في قطاع غزة بما فيها شمال القطاع.

–    السماح بإعادة إعمار المستشفيات في كل القطاع وإدخال ما يلزم لإقامة مخيمات للمدنيين/ خيام لإيواء المدنيين، والسماح باستئناف كل الخدمات الإنسانية المقدمة للمدنيين من قبل الأمم المتحدة ووكالاتها.

–    البدء بمباحثات (غير مباشرة) بشأن المتطلبات اللازمة لإعادة الهدوء”.

وتتضمن المرحلة الثانية حسب الورقة: “الإفراج عن جميع المحتجزين الرجال (المدنيين والمجندين)، مقابل عدد محدد من المسجونين الفلسطينيين، واستمرار الإجراءات الإنسانية للمرحلة الأولى، وذلك وفقا لما سيتم التوافق عليه في المرحلة الأولى”، فيما تقول إنه في المرحلة الثالثة “يجب الانتهاء من المباحثات (غير المباشرة) بشأن المتطلبات اللازمة لإعادة الهدوء والإعلان عنها، وذلك قبل نهاية المرحلة الثالثة. وتهدف هذه المرحلة إلى تبادل جثامين ورفات الموتى لدى الجانبين بعد الوصول والتعرف عليهم، واستمرار الإجراءات الإنسانية للمرحلتين الأولى والثانية، وذلك وفقا لما سيتم التوافق عليه في المرحلتين الأولى والثانية”.

“حماس” و”الجهاد”

أرسلت مصر مسودة الاتفاق هذه إلى قادة “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، وهما تدرسان نصها، لإبلاغ القاهرة بموقفهما، لكن النقطة الأساسية لديهما، هي تحويل الهدنة إلى وقف إطلاق نار كامل، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وإطلاق أكبر عدد من الأسرى، إضافة إلى تكثيف المساعدات الإنسانية وعودة النازحين إلى ديارهم. ويتوقع أن ترسل “حماس” و”الجهاد” ورقة بموقفهما إلى مصر قريبا.

كانت مصر قد سلمت الجانبين ورقة مختلفة نهاية العام الماضي، تضمنت بنودا فنية عن الهدنة وأمورا سياسية تشمل بندين: الأول، تشكيل “حكومة تكنوقراط غير فصائلية لإدارة قطاع غزة والضفة الغربية”، وتخلي “حماس” عن حكم غزة، مقابل وقف كامل لإطلاق النار. الثاني: رعاية أميركية– مصرية– قطرية لهذا الاتفاق.

وكانت تلك الورقة تتحدث عن صفقة إنسانية تمتد بين 7 و10 أيام، يتم خلالها قيام “حماس” بالإفراج عن جميع المدنيين الموجودين لديها من النساء والأطفال والمرضى وكبار السن، مقابل إفراج إسرائيل عن عدد مناسب يُتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين لديها.

وتقول إسرائيل إن 129 شخصا لا يزالون محتجزين كرهائن، وكان التقدير في ديسمبر/كانون الأول أن 21 شخصا على الأقل قد ماتوا. وقد أطلقت “حماس” المحتجزين المدنيين، وهم 110 أشخاص، وتم انتشال 11 جثة، بينهم ثلاثة رجال أطلق عليهم الجيش الإسرائيلي النار عن طريق الخطأ. وفي المقابل، أفرجت إسرائيل عن 240 فلسطينيا من سجونها.

المرحلة الثانية: الإطار السياسي

 تراهن أميركا ودول عربية على الاستفادة من “الهدنة الإنسانية” التي تستمر 45 يوما، لإعادة ترتيب الأولويات في إسرائيل والشرق الأوسط. وحسب مسؤولين غربيين، فإن هناك سلسلة من الخطوات التي يجري العمل عليها، وتشمل:

– تحويل الهدنة الإنسانية إلى وقف دائم للنار.

– الضغط على إسرائيل لوقف التحريض في الضفة الغربية ولجم المستوطنين.

– إعلان مواقف سياسية غربية إزاء الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

– إصلاح السلطة الفلسطينية وتشكيل حكومة تكنوقراط، لحكم قطاع غزة والضفة الغربية.

– تنفيذ تل أبيت للاتفاق الأميركي- النرويجي بتحويل أموال الضرائب لدفع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية.

– بحث إعمار قطاع غزة ونشر مراقبين لتوفير الأمن.

– يعمل فريق الرئيس الأميركي جو بايدن على ورقة تسمى “معايير بايدن” للحل السياسي، في تقليد لـ”معايير كلينتون” التي أعلنها الرئيس السابق بيل كلينتون نهاية عام 2000.

ويقول مسؤولون غربيون إن تصريحات وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ومسؤولين غربيين عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هدفه فتح أفق المسار السياسي والضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. كما يجرى تداول مقترح لعقد مؤتمر دولي للسلام في المنطقة، بموجب اقتراح أوروبي.

السياق الإقليمي- الدولي

يأمل العاملون على هذه الأفكار بالانتقال إلى المرحلة الثالثة، أو السياق الثالث، الذي يشمل بحث ترتيبات أمنية وهيكلية إقليمية تغير الأولويات في المنطقة، وتعيدها إلى مرحلة ما قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خصوصا بعد اتخاذ خطوات للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ويشمل ذلك مفاوضات أميركية– سعودية لتوقيع اتفاقات دفاعية استراتيجية.

وحسب مسؤولين غربيين، فإن هناك ثلاث عقد أمام تحويل هذه الأفكار إلى واقع ملموس. الأولى، نتنياهو وحكومته اليمينية، فهو يريد استمرار بقائه في الحكم لتجنب المحاكمة ولا يريد اتخاذ خطوات تؤدي إلى انهيار حكومته. الثانية، يحيى السنوار، قائد “حماس” في غزة، الذي لا يريد بدء مسار يؤدي إلى خروجه من المشهد. الثالث، إيران التي لا تريد إطلاق مسار إقليمي يضعف دورها وأوراقها في الإقليم.

 ويقول المسؤولون، إن الإدارة الأميركية تراهن على أن تحويل الهدنة الإنسانية إلى وقف نار دائم، قد يغير المزاج الإسرائيلي ويدفع باتجاه انضمام يائير لابيد إلى حكومة نتنياهو وخروج وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. ويشيرون إلى أن أفكارا طرحت لاحتمال خروج بعض قيادات “حماس” مثل يحيى ومحمد السنوار، والقائد العسكري لـ”القسام” محمد الضيف، من غزة إلى دولة عربية.

ولا شك أن اجتماع باريس الرباعي، وجولة وزير خارجية أميركا أنتوتي بلينكن في المنطقة، والاجتماع السداسي العربي المقبل، تبحث جوانب هذه النقاط.

———————-

ميليشيات إيران… وكلاء وأوراق/ إبراهيم حميدي

05 فبراير 2024

منذ انطلاقتها في فبراير/شباط عام 1980، استطاعت “المجلة” تكريس مكانتها في طليعة المجلات العربية والدولية، بفضل طواقمها التحريرية ونخبة من ألمع الكُتاب والصحافيين العرب ممن تولوا رئاسة التحرير فيها. وفي فبراير العام الماضي، عادت “المجلة” لتواصل مسيرتها المتميزة بحلة عصرية ورقيا ورقميا، ضمن استراتيجية النمو والتحول في “المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام” (SRMG)، بقيادة الرئيس التنفيذي جمانا راشد الراشد.

وعلى مدى أربعة عقود، شكلت “المجلة” مصدرا إعلاميا ومعرفيا موثوقا، وكانت عاملا مؤثرا في الوعي العام،‏ وأضحت بالفعل “مجلة العرب الدولية”، بفضل تكامل المحتوى بين منصة رقمية يومية ونسخة ورقية شهرية مخصصة للتعمق في الأحداث واستشرافها.

في كل شهر، ينشغل فريق تحرير “المجلة”، بالبحث عن إجابة لسؤال: “ما قصة الغلاف للعدد المقبل؟”. وبقدر ما يبدو السؤال بسيطا، بقدر ما تبدو الإجابة معقدة، فهي تنطوي على قصة غلاف تكون قادرة على العيش سواء على المنصات الرقمية أو في النسخة الورقية، وأن تجمع بين الإثارة والعمق، وبين السرعة والحكمة، وأن تلامس شرائح متنوعة من جمهور يعرف ويريد أن يعرف أكثر.

في الذكرى السنوية الأولى لإعادة إطلاق “المجلة”، واجهنا السؤال نفسه. وبعد اختبار عناوين كثيرة، اخترنا أن تكون قصة الغلاف عن “ميليشيات إيران”. هذا الملف فُتح مرات كثيرة في العقود الأخيرة، لكن راهنيته الحالية أكيدة وأكثر من أي وقت مضى، خصوصا بعد “مفاجأة أكتوبر” وتداعياتها الإقليمية.

ورغم أن “حماس” جزء من شبكة إيران ومحورها، فقد أفادت تقارير بأن طهران فوجئت بالهجوم على غلاف غزة. التقطت إيران أنفاسها وراحت تظهر أوراقها في مسارح عربية ثلاثة:

الأول، شن عشرات الهجمات على قوات أميركية في العراق وسوريا وتداعيات ذلك، سواء بدء بغداد التفاوض مع واشنطن حول وجود قواتها، أو اضطرار طهران لسحب بعض كبار ضباطها من سوريا لتجنب غارات إسرائيل.

الثاني، تصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل في جنوب لبنان.

الثالث، ضربات الحوثيين من اليمن على ناقلات دولية وقوات أميركية في البحر الأحمر.

وأمام محدودية الانخراط في حرب غزة والضربات على وكلائها ولـ”حفظ ماء الوجه”، وجهت إيران ضربات استعراضية في كردستان العراق، وشمال سوريا، وباكستان.

طهران، كما هو الحال مع واشنطن، لا تريد حربا إقليمية واسعة النطاق ومواجهة مباشرة. لذلك، فإن رد إدارة جو بايدن على مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة، على الحدود الأردنية– السورية، بقصف مواقع ميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق، كان ضمن “قواعد الاشتباك” التي ستظل خاضعة للاختبارات الإيرانية في “المسارح الثلاثة” وغيرها، مع قلق من إفلات الضربات من الأصابع والحسابات.

منذ انتصار “الثورة” عام 1979، كرست إيران جهودها لتأسيس شبكة ميليشيات تحت مظلة “محور المقاومة” مع مصادرة لـ”الورقة الفلسطينية”، وتحولت الشبكة إلى “إمبراطورية” لتوسيع النفوذ، وخوض المعارك في ساحات الآخرين، وأوراق للتفاوض والمقايضة مع الأميركيين واللاعبين. وفي هذا الملف، نفرد مساحة من العدد لكل وكيل من الوكلاء، أو لكل حليف من الحلفاء. مساحة تتضمن سردا تاريخيا لمراحل انهيار الدولة الوطنية وبروز “اللا دولتيين”، وتحليلا للتداخل بين المركز والأطراف واقتصاد الميليشيات الذي “ابتلع الدولة”.

نمضي أوسع، بعرض للميليشيات في السودان و”تاريخها المديد” وصولا لـ”حرب الجنرالين”، وتقديم خريطة لتنظيمات ليبيا وعرقلة تنظيم الانتخابات والحل السياسي بعد عقد من رحيل “القائد” معمر القذافي. بالإضافة إلى مقال طويل يسلط الضوء على تمدد نوع ثان من الميليشيات في الساحل الأفريقي، هو تنظيم “داعش” المستفيد من الفوضى والخزان البشري العابر للحدود.

تداعيات حرب غزة، تحضر في هذا العدد، ليس من زاوية التنظيمات المسلحة الفلسطينية وإسرائيل وحسب، بل بمقابلة مع المبعوث الأميركي السابق دينس روس الذي يحذر من “لبننة” قطاع غزة، وسيرة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، “الوسيط المنحاز”.

وفي هذا العدد تواصل “المجلة” نشر وثائق سرية رسمية من سوريا، تكشف أن الرئيس الراحل حافظ الأسد قال في لقاء مع مقربين منه قبل ثلاثة أيام من انتحار رئيس الوزراء محمود الزعبي، منتصف عام 2000، إن الأخير “خانني… ويجب التحقيق معه ومحاسبته”.

وفي ملف “الجدل الكبير”، نعرض رأيين عن التجربة الصينية. واحد يعتبرها “قصة نجاح يجب تعميمها”، وآخر يشير إلى أن هذا النموذج “ضعيف اقتصاديا”.

في العدد أيضا، تحقيقات ومقابلات ومقالات، ترصد اتجاهات ثقافية عربية وعالمية.

————————–

حروب الأشباح/ عالية منصور

04 فبراير 2024

نشرت “رويترز” خبر سحب إيران لكبار ضباط “الحرس الثوري” الإيراني من سوريا بعد الضربات الإسرائيلية، ولفتت إلى أن “سحب إيران ضباطها من سوريا مرتبط بعدم رغبتها في الانجرار المباشر لصراع في المنطقة”. ولكنها أضافت أن “إيران لا ترغب في إنهاء وجودها بسوريا رغم سحب الضباط”.

وبغض النظر عن صحة ما نقلته “رويترز” عن مصدر أمني إقليمي كبير، كما وصفته، من عدمه، فإن الخبر بحد ذاته لا يبدو أكثر من رسالة سياسية في أكثر من اتجاه، رسالة لا يمكن لمتابع للأوضاع السورية أن يرى فيها إلا محاولات إيرانية جديدة لتثبيت احتلالها لسوريا حتى وإن ادعت العكس.

بداية، لقد تحولت سوريا إلى حلبة صراع لكل القوى والجهات التي ترغب في القتال وتوجيه رسائل دموية، وكأنها بقعة جغرافية خالية من البشر تستطيع أي دولة أو جهة خرق سيادتها، وقصفها، والقتال فيها وعليها دون أي رد حقيقي ممن يدعي أنه يمثل “الدولة”. وليس آخرها إطلاق مسيّرة مفخخة من قبل ميليشيا “حزب الله العراقي” الموالية لطهران، واستهداف جنود أميركيين على الحدود السورية- الأردنية، وتسببها في مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح العشرات، والفيلم الهوليوودي الأميركي بعد ذلك بخمسة أيام، وبعد تحذير وتنبيه وإعلام وإعلان بقصف مواقع إيرانية في كل من سوريا والعراق، لم تسفر عن مقتل إيراني واحد كما أعلنت السلطات الرسمية الإيرانية.

لذا من المهم اليوم التذكير بأن انسحاب عدد من ضباط “الحرس الثوري” الإيراني من عدمه من سوريا لا يمكن أن يقرأ بأكثر من كونه تكتيكا في المعركة الدائرة على الأراضي السورية بين إيران وميليشياتها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، والولايات المتحدة أحيانا. والأمر لا يمكن أن يقرأ، كما يرغب البعض، بأنه بداية لانسحاب الاحتلال الإيراني من سوريا.

قبل خبر الانسحاب المزعوم، نشرت “المجلة” وثائق إيرانية رسمية، سربتها “مجموعة قراصنة” معارضة لمسودات اتفاقات بين دمشق وطهران، بما فيها مسودة “مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي” بين البلدين. ومن يطلع على الوثائق سيتيقن أن الانسحاب الإيراني من سوريا أمر غير وارد، فالتدخل الإيراني في الشأن السوري والوجود الإيراني في سوريا، ليسا محصورين بوجود بضعة ضباط كبار من “الحرس الثوري”، لقد دخلت إيران وتدخلت في الجامعات والمدارس ودور العبادة وحتى في الآثار، ناهيك عن الاقتصاد والمرافق والاستثمارات التي وضعت طهران يدها عليها، والتغيير الديموغرافي والإحلال السكاني.

حتى إن الوثائق المسرية تكشف نوايا إيران تجاه الأردن، فسوريا ممر للمتوسط ولبنان وكذلك الأردن الذي يدرك الجميع أنه الهدف التالي لإيران بعدما وضعت يدها بالكامل على العراق وسوريا ولبنان، وليست شحنات الكبتاغون والأسلحة المهربة يوميا من سوريا إلى الأردن إلا أحد أساليب طهران لإخضاع الأردن، الذي كان ملكها عبدالله الثاني أول من حذر من المشروع الفارسي في المنطقة عام 2004.

الوثائق التي تحدثت عن “الاحتلال” الأميركي لسوريا ذكرت أهمية الممر الذي يربط إيران بالعراق وسوريا واعتبرت أن الوجود الأميركي في قاعدة التنف يحرم طهران من الوصول إلى المتوسط.

ومن بين وثائق أخرى سربتها مجموعة “ثورة لإسقاط النظام” المعارضة، من خلال اختراق موقع الرئاسة الإيرانية، فإن الميزانية التي أنفقتها إيران خلال الحرب في سوريا على مدى 10 سنوات تجاوزت 50 مليار دولار، لكن الاتفاقات التي تم إبرامها مع سوريا لاستعادة هذه الأموال لا تتجاوز 18 مليار دولار.

إيران أيضا وبالوثائق أبدت رغبتها في توطيد علاقة نظام بشار الأسد مع محيطه العربي، وتحدثت عن دورها من خلال بغداد لإعادة النظام إلى جامعة الدول العربية، هذه العودة التي ذكرت سابقا أنها أعطت صوتا إضافيا لإيران في الجامعة، وأرادت من خلالها طهران تخفيف العبء الاقتصادي عن كاهل النظام، وحث الدول العربية على الضغط لرفع العقوبات المفروضة عليه.

هذا بعض ما سرب، وما خفي كان أعظم. ولكن هذا البعض المسرب يؤكد أن من يستثمر كل هذه الأموال ويخلق كل هذه الميليشيات ويلقي بكبار ضباطه في سوريا، لن يخرج ببيان أو طلب وتمنٍ، ولن يخرج بضربات محدودة ومنسقة مسبقا مع أحد أذرعه، فطريق خروج إيران من سوريا يبدأ بخطوة، وهي إخراج من أدخلها إلى سوريا وسلمها زمام البلاد وأمنها واقتصادها وتاريخها وتراثها من سدة الحكم، وإن أقررنا أن هذه الخطوة لن تتحقق اليوم فعلينا أيضا أن ندرك أن خروج إيران من سوريا لن يتم قبل تحقيقها، ونقل ضابط من مكان إلى آخر وإحالة آخر على التقاعد، كل ذلك ليس سوى مشهد ضعيف الإخراج.

——————————-

في وداع بايدن واستقبال ترمب/ إبراهيم حميدي

29 يناير 2024

كل أربع سنوات، تتجه بوصلة العالم إلى أميركا في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي الشرق الأوسط، توجه بعض الدول ضرباتها للانتقام من الرئيس الخارج من البيت الأبيض، وتستعرض أوراقها لإغواء “الفارس” القادم إلى “رئاسة العالم”. الضربة “الايرانية” الأخيرة على قاعدة أميركية في زاوية الحدود السورية – الاردنية – العراقية، مثال حي ومكلف.

هذه المرحلة بين القديم والجديد، أشد شراسة هذه المرة. المغادر هو جو بايدن الذي حاول مواصلة مسيرة الطلاق مع الشرق الأوسط، والقادم من جديد هو “المتمرد” دونالد ترمب الذي ترك بصماته في شرق أوسط يعيش بدوره آلام المخاض العالمي الكبير، بين انتهاء التفرد الأميركي في قيادة العالم، وتمدد “التنين الصيني”، وجرأة “الدب الروسي” الجريح.

واقع الحال، يمكن وضع ما يجري من توترات في الشرق الأوسط- في أحد أبعاده- ضمن سياق وداع بايدن واستقبال ترمب أو رئيس جمهوري آخر. صحيح أن هذا ليس العامل الوحيد، لكنه عنصر أساسي في تحليل وتفسير ما يحصل. القائمة طويلة، وهنا بعض محطاتها.

منذ “مفاجأة أكتوبر” وحرب غزة، تصعّد إيران- عبر حلفائها وأذرعها ووكلائها- من الضربات ضد أميركا وجزئيا ضد إسرائيل. وبالإجمال، هناك نحو 600 ضربة إيرانية. وأكثر من 450 هجوما لـ”حزب الله” على إسرائيل، وأكثر من 175 هجوما شنها وكلاء إيرانيون على القوات الأميركية في العراق وسوريا، وأكثر من 30 ضربة صاروخية للحوثيين على سفن تجارية في البحر الأحمر. لاشك ان الهجوم الأخير الذي قتل فيه ثلاثة جنود وجرح عشرات، تطور كبير، يستدعي ردا أميركيا “بايدنيا” يفوق ما سبق.

ردت واشنطن وحلفاؤها بضربات واغتيالات ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان. لكن الهجمات الإيرانية مستمرة، وطالت كردستان العراق وسوريا وباكستان. بعيدا عن الكلام العلني والدعائي، الهدف الإيراني الحقيقي هو الضغط على أميركا للخروج من العراق وسوريا. واشنطن بدأت مفاوضات مع بغداد للاتفاق على “مرحلة انتقالية” لوجود التحالف بقيادة أميركا في العراق. لكن الهدف الإيراني، هو إخراج أميركا من “الجبهة الشرقية”.

معروف أن بايدن واصل سياسة سلفة باراك أوباما بنقل التركيز من الشرق الأوسط إلى الصين. “مفاجأة أكتوبر” أعادته دبلوماسيا وعسكريا، إلى الشرق الأوسط، لكن همه وانشغاله في الصين وصعودها، عبر التفاوض والتفاهم والمكاسرة العسكرية. مزاج ترمب صدامي أكثر مع الصين، وتفاهمي أكثر مع روسيا “البوتينية”. وفي هذه النافذة، تريد إيران الانتقام من بايدن الذي يمكن توقع ردات فعله “العقلانية” قبل مجيء ترمب الذي “لا يمكن توقع ردات فعله وضرباته”. أي إن إيران تريد خلق واقع جديد في آخر أيام سيد البيت الأبيض قبل مجيء رئيس جديد.

تراهن طهران على انسحاب أميركا من العراق أو إعادة تعريف الوجود العسكري فيه، ثم حصول انسحاب آخر من سوريا، لإحداث تحول استراتيجي في “البوابة الشرقية”. تحول سيترك صداه في “الساحات الإيرانية” الأخرى في الإقليم الذي يتقدم فيه النجم الصيني عبر الوساطات الدبلوماسية والسلع الاقتصادية وبرود الأعصاب. أي تريد لعب دور في الترتيبات الأمنية للشرق الأوسط.

هذا السيناريو تنبت أذرعه من فكرة استمرار حرب غزة ونهر الدماء الفلسطينية والعربية. استمرار الحرب يعني بقاء ذريعة استمرار التصعيد وتوجيه الضربات والرسائل وإظهار الأوراق.

ولأن الشرق الأوسط، كما كان في العقود الأخيرة، يقيم بين ضفتين ويقع بين خيارين، هناك جهود لوصفة ثانية، إذ يواصل مستشارو بايدن ومساعدوه علنا، ومساعدو ترمب وأقرباؤه سرا، الإبحار بين العواصم والمحيطات والأروقة لوضع خيار ثان على مائدة الشرق الأوسط المزدحمة، حيث تجرى مفاوضات لترتيب بنود صفقة كبرى. البعض يسميها “معايير بايدن” والبعض الآخر يسميها “صفقة ترمب”. ما هي؟

نتنياهو يرى في استمرار الحرب استمرارا له. التصعيد يعني تأجيل المساءلة. لكن العالم سيستمر بعد نتنياهو. الأمراض باقية بعده وتتطلب علاجا. الأفكار المتداولة تتضمن الاتفاق على مجموعة من المبادئ الاسترشادية لكيفية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والعرب من جهة والإسرائيليين من جهة ثانية. بنود “اليوم التالي” لحرب غزة ترتبط بالتفكير الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط وخياراته والعلاقة مع أميركا. ضمانات أمنية أميركية، واتفاقات عسكرية، وبرنامج نووي سلمي، وممرات اقتصادية كبرى، مربوطة بمسار سياسي تنبت فيه من ركام غزة لبنات دولة فلسطينية وتوفير عوامل استقرار طويلة في الإقليم.

هناك نافذة لبضعة أشهر للوصول إلى صيغة واضحة لـ”معايير بايدن”، كي تبرم صفقة تستخدم في الانتخابات المقبلة، أو توفير ذخيرة وبنود يجدها ترمب أو الرئيس الجمهوري، جاهزة على مائدته في البيت الأبيض.

عليه، فإن الأسابيع والأشهر المقبلة في الشرق الأوسط، حبلى بالضربات والمفاوضات والصفقات. الهجوم الأخير في الزاوية السورية – الاردنية – العراقية لن يكون اللكمة الأخيرة. وصفة لائقة في وداع بايدن واستقبال ترمب… أو رئيس من قماشته.

————————————

قفاز حرير ليد إيران الثقيلة/ عالية منصور

 28 يناير 2024

بعيد عملية “طوفان الأقصى” وبدء حرب إسرائيل الهمجية على قطاع غزة، كتبت على صفحات “المجلة” أن “إيران تريد أن تفاوض على جميع الملفات، وأن تكون على جميع الطاولات، لتتفرغ لما بعد فلسطين في مشروعها الخطير”. واليوم يبدو أن إيران قد بدأت تستعد لقطف ثمار انتصارها، وليس انتصار فلسطين، مما حل في غزة.

إيران التي شنت أذرعها العديدة هجمات على القوات الأميركية ومصالح غربية في العالم العربي بذريعة دعم غزة، لم تؤثر هذه الهجمات على سير المعارك في غزة ولم تثنِ إسرائيل عن ارتكاب أي من جرائمها بحق الفلسطينيين العزل في القطاع الفلسطيني المحاصر.

في سوريا شنت ميليشيات موالية لإيران نحو 100 هجوم على قواعد أميركية منذ بدء الحرب على غزة، وما يقارب 40 هجوما في العراق، لم تتعرض هذه القواعد لأي أضرار تذكر ولم يسقط أي ضحايا من الجنود الأميركيين، بل سقط سوريون وعراقيون.

ليتسرب في الإعلام قبل أيام أن واشنطن لم تعد مهتمة بالبقاء في سوريا، فيعود البيت الأبيض وينفي الخبر ويعلن أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تفكر في الانسحاب من سوريا.

هي ليست المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن نية انسحاب الجنود الأميركيين والذين لا يبلغ عددهم الألف من سوريا، وإن كان هذا الوجود سينتهي عاجلا أم آجلا، إلا أن أمامه ترتيبات واستعدادت لم تستكمل بعد، وخصوصا أن جوهر الوجود الأميركي هو محاربة “داعش”، لا محاربة ميليشيات إيران التي وسعت من وجودها ونشاطها في السنوات الأخيرة في مناطق شرق سوريا حيث الوجود الأميركي.

وإن كان خبر الانسحاب من سوريا الآن قد تم نفيه، فإن خبر الانسحاب من العراق تم تأكيده، حيث أعربت الولايات المتحدة للحكومة العراقية عن استعدادها للبدء في محادثات حول إنهاء مهمة التحالف الدولي ضد “داعش” في العراق، وانسحاب قواتها من هناك.

وذكرت “رويترز” أن السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي، وجهت رسالة لوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين حول انسحاب قوات “التحالف الدولي” وإطلاق آلية لرسم العلاقات الثنائية.

قد يستغرق الانسحاب سنوات، ولكن لا يمكن رؤية الانسحابات الأميركية سياسيا وعسكريا من المنطقة إلا كانتصار جديد لإيران، فالدول التي تصارع الطرفان فيها وتفاوضا عليها أصبحت دولا فاشلة، والكلمة الفصل فيها هي لإيران وأتباعها.

في لبنان أيضا، وبعد أن أصبح فشل سياسييه أمرا اعتياديا، إن بوقف الانهيار الاقتصادي الحاصل منذ أكثر من أربع سنوات، أو بإنهاء الفراغ الرئاسي الذي تحول إلى أمر روتيني عند نهاية ولاية كل رئيس، صار الحديث أكثر فأكثر عن أن قرار انتخاب رئيس من عدمه، واختيار اسم الرئيس موجود في ضاحية بيروت الجنوبية، معقل ميليشيا “حزب الله”، الذراع اليمنى لإيران في المنطقة.

أما في اليمن، ومع استمرار ميليشيا “أنصار الله” في شن هجماتها على السفن، وأيضا بذريعة دعم غزة، فإن المتضرر ليس فقط التجارة العالمية التي تمر من البحر الأحمر، بل سيتكشف مع الأيام حجم الخسائر المصرية جراء تراجع عائدات قناة السويس، مصر الغارقة أساسا في أزمات مالية واقتصادية لا تنتهي.

ترافقت الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة، مع حرب إعلامية بدأت منذ اللحظة الأولى ضد كل ما له علاقة بمفهوم الدولة في العالم العربي، والأصح ضد كل ما هو عربي، وتم نشر كميات هائلة من المعلومات الخاطئة حتى تحولت مع تكرارها عند الكثيرين إلى حقائق لا تقبل الشك. في الوقت نفسه وبحملة إعلامية لا تقل شراسة نشرت إيران وأبواقها أن كل ما تقوم به ميليشياتها هو في سبيل دعم غزة، شيء ما يشبه تدمير حلب والموصل تحت راية “طريق القدس”، والنتيجة أن المدن العربية تدمرت واحدة تلو الأخرى، ولم تعرف بوصلة إيران طريقها إلى القدس، واليوم دمرت غزة واستشهد عشرات الآلاف من أهلها، وشعار “وحدة الساحات” لم يكن إلا معركة منفصلة اتخذت من غزة ذريعة لتثبت أقدام الاحتلال الإيراني في المنطقة، ولتقبض في النهاية إيران ثمن عدم تدخلها في الحرب على غزة.

————————-

الأسد وإيران… و”لحظة السادات”/ إبراهيم حميدي

22 يناير 2024

شيء ما يحصل بين دمشق وطهران في سياق إقليمي ودولي معقد في البحر الأحمر والعراق وسوريا ولبنان، بعد “مفاجأة أكتوبر” التي فجرتها “حماس”. شيء ما له دلالات وإشارات بين حليفين استراتيجيين.

سوريا ليست أمام “لحظة السوفيات” المصرية عندما قرر الرئيس محمد أنور السادات طرد آلاف الخبراء وأحدث تحولا استراتيجيا انتقل فيه إلى الضفة الأميركية. سوريا في 2024 ليست مصر 1972. والعالم والشرق الأوسط قبل خمسين سنة ليسا كما هما عليه الآن. لكن هناك شيئا مثيرا للاهتمام ويستحق المتابعة، وهنا بعض التفاصيل.

– بعد 2011 وضعت إيران كل طاقاتها لـ “منع انهيار النظام السوري”، لأسباب تخص مصالحها الاستراتيجية وتمددها في الشرق الأوسط. نجحت الى العام 2015 عندما تدخلت روسيا و “أنقذت النظام” ومنعته من الانهيار. باتت دمشق محصورة بين حليفين: طهران وموسكو. كما باتت سوريا مقسمة إلى مناطق نفوذ ترتع فيها جيوش أميركا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وروسيا وإسرائيل.

– أراد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قطف ثمار اختراقاته بزيارة رسمية نهاية العام الماضي تثبت تنازلات سيادية تعويضا عن الدماء والأموال والنفط. زيارة هذا “الحليف الاستراتيجي” أرجئت مرات عدة، لأن الرئيس بشار الأسد رفض الموافقة على مسودات اتفاقات كان طلبها ضيفه القادم بعد سنوات عجاف، لكنه جاء في مايو/أيار الماضي، بالتزامن مع هجمة من التطبيع العربي تبلورت بمشاركة الأسد في القمة العربية في جدة السعودية شهر مايو/أيار الماضي.

– تواصل التطبيع العربي تحت سقف العقوبات الغربية؛ حيث واصلت دول عربية التقارب الثنائي والجماعي رغم المنغصات السورية والملاحظات والخيبات، لفتح باب غير مباشر مع الأسد. وهناك دول عربية أرادت الإبقاء على العقوبات لاستخدامها ورقة ضد دمشق. كما ان الاردن باشر ضربات جوية لملاحقة “مهربين” داخل الأراضي السورية.

– بعد “مفاجأة أكتوبر”، واصلت الدول العربية التطبيع، ورفضت دمشق الانصياع للطلبات الإيرانية، كما لم ترحب علنا بهجمات أكتوبر/تشرين الأول “الحمساوية”، ولم تفتح جبهة الجولان، لكنها تابعت تحول شمال شرقي سوريا وجنوبها الشرقي ساحة للمواجهة الأميركية– الإيرانية.

– واصلت إسرائيل غاراتها ضد مواقع إيران في سوريا خاصة مطاري دمشق وحلب بطريقة محرجة للسلطات السورية، لمنع طهران من استخدامهما في المواجهة الإقليمية و”حرب الظل” بين تل أبيب وواشنطن من جهة، وطهران من جهة ثانية.

– مع قرب موعد قيام زعيم عربي بزيارة غير مسبوقة لدمشق الشهر المقبل، تكثفت جهود سرية لإنجاز صفقة: منع طهران من استخدام مطار دمشق في نقل شحنات أسلحة إيرانية وتفكيك مخازن عسكرية إيرانية في المطار، مقابل توقف إسرائيل عن قصف المطار وإحراج دمشق.

– نجاح إسرائيل في اغتيال قيادات من “الحرس الثوري” الإيراني في دمشق، مثل القيادي رضي موسوي الذي قتل جنوبي العاصمة السورية نهاية العام الماضي، واغتيال خمسة من “الحرس” في قلب دمشق قبل أيام.

– الجديد هو حديث “خبراء” إيرانيين أو مسؤولين سابقين، عن أن هذه الاغتيالات ما كانت لتتم إلا باختراق إسرائيلي داخل الجهاز الأمني السوري. وهذا اتهام خطير وله تبعاته. هو يأتي من حليف هو ايران لايتهاون مع اتهامات كهذه في حال ثبتت، وهناك نماذج لعقوباته لـ “الخونة” او من يقفون ضد مشروعه، في العراق ولبنان واليمن… وسوريا أيضا.

– إجراء سلسلة من التغييرات الأمنية في سوريا، مثل نقل اللواء كفاح ملحم من رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية إلى رئاسة مكتب الأمن الوطني، ونقل رئيسه اللواء علي مملوك ليصبح مستشارا أمنيا في الرئاسة السورية، بالتزامن مع جملة من الإجراءات داخل أجهزة الأمن تشمل دمج بعض الأفرع وتعديل صلاحيات بعضها الآخر وسحب وجودها في بعض مؤسسات الدولة.

– الإقدام على اعتقالات و”تهميشات” شملت شخصيات بارزة في قطاعي الاقتصاد والأمن والإعلام، كان لها دور بارز في السنوات السابقة.

– هناك معلومات بأن موسكو أعربت امام شخصيات سورية عن “قلق من انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة في حال استمر الوضع على ما هو عليه من فساد واستقطابات داخلية وعقوبات خارجية”، وأكدوا للأسد نصا على “ضرورة إنقاذ ما تبقى من الدولة”.

هل هذا يعني أن الأسد قرر التخلي عن “المستشارين الإيرانين” كما أبعد السادات “الخبراء السوفييت” قبل نصف القرن؟ وهل هذا يعني أن دمشق انتقلت من اللعب بين حبلي طهران وموسكو إلى وضع بيضها في السلة الروسية- العربية؟

مرة ثانية، سوريا الحالية- المقسمة والمدمرة والضائعة والنازحة- ليست مصر التي ورثها السادات وخاض معها “حرب أكتوبر”، ورتب أوراقه سراً مع الدول العربية الرئيسة والمارد الأميركي  قبل طرد السوفييت، ومضى بها إلى “اتفاق فصل القوات” مع مصر، ثم إلى “كسر الحاجز النفسي” بزيارة الكنيست، ووقع اتفاق سلام كامب ديفيد وغيّر وجهة الشرق الأوسط، لكن شيئا ما يحصل، وما علينا سوى انتظار الحركة المقبلة من اللاعب الإيراني في الملعب السوري، بعد الشرارات الخطرة التي رماها بعض “خبراء” طهران في لهيب الشرق الأوسط.

—————————–

إرهابيون بدوام جزئي/ عالية منصور

21 يناير 2024

قبل ثلاثة أعوام أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن واشنطن سترفع جماعة الحوثي اليمنية من قائمتها للإرهاب، معللا القرار بأنه من باب حرص بلاده على أن لا تعرقل الإجراءات الأميركية التي اتخذتها إدارة ترمب لعمليات الإغاثة في اليمن. لتعود الإدارة الأميركية نفسها قبل أيام وتصنف جماعة الحوثي كمنظمة “إرهابية عالمية”، وليصرح وزير الخارجية بلينكن نفسه بأن “واشنطن تريد أن يجبر هذا التصنيف الحوثيين على الابتعاد عن إيران”.

كما أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أن واشنطن ستدرس رفع هذا التصنيف مجددا إذا أوقف “الحوثيون” هجماتهم في البحر الأحمر.

وإن كان القرار الأميركي الأخير قد جاء بعد نحو 30 اعتداء نفذتها ميليشيا الحوثي في البحر الأحمر، واستهدافها أحد أهم الممرات المائية في العالم، وما نتج عن ذلك من خسائر اقتصادية، ولحق ذلك ضربات جوية شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على مواقع تابعة للميليشيا الحوثية، إلا أنه يعكس أيضا نظرة الإدارة الأميركية للمنطقة.

بين فبراير/شباط 2021 ويناير/كانون الثاني 2024، شنت ميليشيات الحوثي عشرات العمليات الإرهابية، ضدّ اليمنيين وضد كل من السعودية والإمارات أيضا، قتلت مدنيين واستهدفت منشآت اقتصادية ونفطية، ومع ذلك لم تهدد الإدارة الأميركية أو تلوّح بإعادة إدراج هذه الميليشيا على لائحة الإرهاب.

واليوم تستهدف الميليشيات الإيرانية والميليشيات الموالية لطهران المصالح الأميركية في سوريا والعراق وليس في البحر الأحمر فحسب، وإن كانت إيران وميليشياتها تزعم أن ضرباتها هي للرد على العدوان الإسرائيلي على غزة، إلا أنها لم تستهدف إسرائيل بل تركزت أهدافها على مصالح أميركية وقبل ذلك على مواطنين ومصالح دول عربية، إن كان في العراق أو في سوريا.

تأتي هذه الاستهدافات في سياق البازار الإيراني الذي تبرع فيه طهران لابتزاز الولايات المتحدة وترهيب دول المنطقة، وإن كانت سياسات طهران تلك ليست بالأمر الجديد، إلا أن الجديد هو هذه “الميوعة” الأميركية في التعاطي مع هذه السياسات والتي تندرج في معظمها تحت بند الاعتداءات وحتى الإرهاب.

في لحظة ما قررت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفع اسم “الحوثيين” من قوائم الإرهاب تحت ذريعة حقوق الإنسان ودخول المساعدات إلى اليمن، فيما أثبتت اليوم أن موضوع التصنيف مرتبط حصرا بمصالحها؛ كانت يومها على مشارف العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران الذي انسحبت منه إدارة دونالد ترمب، واليوم هي على أبواب انتخابات رئاسية تريد أن تمسك العصا من المنتصف. وهو تصنيف قابل للسحب مجددا في أي لحظة، كما قال سوليفان، وهناك اعتداءات في أماكن أخرى بالكاد تلقى تنديدا من واشنطن.

وما ينطبق على ميليشيا الحوثي ينطبق على جميع الميليشيات الإرهابية الموالية لإيران، هل نرى مثلا اتفاقا برعاية أميركية بين لبنان وإسرائيل يلحقه رفع اسم “حزب الله” من قوائم الإرهاب؟ لمَ لا؟ تستطيع إدارة بايدن أن تتناسى ذريعة حقوق الإنسان إن اقتضى الأمر ذلك، فتنسى دماء آلاف الأميركيين واللبنانيين والسوريين، وقد يخبرنا بلينكن بأنهم يفعلون ذلك لمساعدة لبنان على النهوض من أزماته.

تستطيع إدارة بايدن أن ترفع العقوبات المفروضة على النظام السوري مقابل صفقة مع إيران، ألم يفعل ذلك باراك أوباما يوم قتل بشار الأسد نحو 1500 سوري في ليلة واحدة بالسلاح الكيماوي؟ ألم يخبرنا يومها أنه تغاضى عن الخط الأحمر مقابل سحب السلاح الكيماوي من النظام السوري؟ استخدم الأخير الكيماوي بعدها مئات المرات، لكن الاتفاق بين طهران وواشنطن كان قد تم.

لا تزال المنطقة تدفع ثمن سياسات باراك أوباما، وما رسمه أوباما لم يشذ عنه جو بايدن، فالإرهاب تحول إلى وجهة نظر، إرهاب إيران تحديدا، فلا أظن أن واشنطن سترفع تنظيم “القاعدة” عن قوائم الإرهاب إن أوقف استهداف المصالح الأميركية، ولكنها فعلت وتفعل مع الميليشيات الإيرانية، وإن كان الهدف العودة إلى الاتفاق النووي، وإن كانت دول المنطقة وتحديدا تلك الخاضعة لسيطرة الميليشيات الموالية لإيران تدفع الثمن في كل مرة، ولكن ألا يجوز القول إن سمعة الولايات المتحدة أيضا باتت موضع شك.

ألا يعطي ذلك مبررا لكل من وجد حليفا آخر غير واشنطن، ولا سيما أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة باتوا يشهدون أن لا ثوابت حقيقية في سياسات المنطقة أميركيا سوى ثابت وحيد وهو حماية أمن إسرائيل وتفوقها النوعي، بينما كل الأشياء الأخرى المتعلقة بأمن دول المنطقة ورفاه شعوبها قابلة للمساومة البرغماتية التي غرقت فيها الإدارات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الحد الذي يجعل الجميع يتساءل عن حقيقة وجود “القيم الأميركية ” التي يزعم رؤساء الولايات المتحدة أنهم يخوضون حروبا من أجل حمايتها.

—————————-

حرب غزة… و”الدويلات” السورية/ إبراهيم حميدي

16 يناير 2024

ما موقف سوريا من حرب غزة؟ ما دور دمشق في التداعيات الإقليمية؟ أين تقف في المواجهة الأميركية – الإيرانية؟

يُفترض أن تكون الأجوبة سهلة أو مباشرة- على الأقل- مثل الأسئلة. يُتوقع أن الافادة بالأجوبة من مواقف الدول أو الأطراف الأخرى في الإقليم، من حرب غزة وتداعياتها التصاعدية.

في سوريا الأمر مختلف. لسبب واحد وأساسي، هو أنه لا يمكن الحديث عن “سوريا واحدة”. هناك ثلاث “دويلات” كحد أدنى، بل يمكن الحديث عن أربع أو خمس “سوريات”. وكل واحدة منها لها موقف مختلف عن الأخريات، بعضها متناقض وبعضها الآخر مربك.

– إدلب الخارجة عن سيطرة دمشق، تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” في شمال غربي سوريا. كان موقفها داعما ومحتفلا بـ”مفاجأة أكتوبر” التي فجرتها “حماس” في غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن إدلب ذاتها، تعرضت لقصف مدفعي سوري وجولات استطلاع روسية خلال حرب المئة يوم وأكثر في غزة.

– الجيوب التي تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني” المعارضة شمال سوريا، لم يكن موقفها ملاصقا لجارتها في ادلب، أو موقف “حماس” العقائدي. لكن سياسيا كان أشبه بالمعارض للهجمات الإسرائيلية، أي أقرب لموقف تركيا الداعم لهذه الفصائل السورية المعارضة.

بذلك يكون موقف هذين الطرفين السوريين المعارضيين لدمشق وحلفائها، من غزة، أقرب إلى موقف طهران ووكلائها، مع انها خصم لدود لهما في ساحات المعارك السورية خلال العقد الأخير.

– مناطق شرق نهر الفرات وريف منبج غرب النهر، الخاضعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من التحالف الدولي بقيادة أميركا، كان موقفها الضمني ضد “حماس” وإيران. ويختلف موقفها عن “مغاوير الثورة” في قاعدة التنف الأميركية، التي تضم فصائل عربية.

واقع الحال أن مناطق سيطرة القوات الأميركية، في الجيوب الثلاثة (شرق الفرات، منبج، التنف) تحولت إلى ساحة للمواجهة الأميركية- الإيرانية، وتعرضت قوات واشنطن لأكثر من 90 هجوما من فصائل مدعومة من طهران. الجديد هنا أن قسما كبيرا من القصف كان يأتي من فصائل عراقية مدعومة من طهران. من الساحات العراقية وليس السورية.

– مناطق الحكومة التي تشكل ثلثي مساحة سوريا والمدعومة من روسيا وإيران، كان موقفها من حرب غزة أكثر إثارة وتعقيدا.

 من جهة، تحولت هذه المناطق إلى ساحة لسلسلة من الضربات الاستباقية الإسرائيلية، خصوصا ضد مطاري دمشق وحلب، لمنع إيران من نقل أسلحة وصواريخ إلى “حزب الله”. يضاف إلى ذلك، إقدام إسرائيل على اغتيال رضي موسوي، ممثل الحرس الثوري الإيراني في سوريا لعقود طويلة.كما تعرضت مراكز جوية سورية لقصف من قوات تل أبيب. غارات هجومية وضربات استباقية لردع دمشق عن الدخول الكامل على خط “حرب الساحات” في الإقليم، بقيادة رئيسة “محور الممانعة” إيران.

من جهة ثانية، حاولت فصائل مدعومة من إيران تهريب أسلحة وذخيرة من جنوب سوريا إلى الأردن، في تطور خطر، تجاوز تهريب المخدرات إلى الأردن والخليج. الجديد، أن طائرات أردنية قصفت مواقع داخل الأراضي السورية، وترددت أحاديث عن تهديد من عمان بـ”توغل” داخل أراضي سوريا، وأن دمشق وافقت ضمنا على الغارات الأردنية ضد “مهربين تابعين لايران” في ريفي السويداء ودرعا.

واضح أنها تحاول الإفادة من حرب غزة لتمييز موقفها ضمن “محور الممانعة”. لم تصدر دمشق بيانا رسميا يدعم “حماس”. لم يستقبل الرئيس بشار الأسد وفدا من الحركة بشكل علني. لم تشهد العاصمة السورية ومناطق الحكومة مظاهرات واسعة داعمة لفلسطين وغزة. ولم تقم فصائل أو قوات سورية بشن هجمات ضد إسرائيل عبر الجولان. كانت هناك بعض البيانات والتصريحات التي تطالب بوقف المسار السياسي العربي مع إسرائيل وبعض الرشقات النارية، من باب “حفظ ماء الوجه”.

ماذا تريد دمشق؟

أغلب الظن، أن نهج دمشق قائم على الإيحاء بالابقاء على مسافة مع طهران الحليفة دون الاندماج معها، ودعم غزة دون التماهي مع “حماس”، وتحييد مناطق الحكومة عن المواجهة الأميركية- الإيرانية وعدم تحويلها منطلقا لهجمات على إسرائيل.

رهان دمشق، عاصمة البلاد المقسمة إلى “دويلات” والمنهكة اقتصاديا والمدمرة بنيويا والغائبة عن دورها الاقليمي، على مسار طويل من ترتيق الثوب السوري واستكمال مسار التطبيع العربي بزيارة من الأسد إلى دول عربية كبيرة وزيارات من قادة عرب لدمشق ومشاريع اقتصادية وتمويل… واختراقات لعقوبات “قانون قيصر” الأميركية.

————————

هل تكون سوريا رقعة شطرنج لـ”حزب الله”؟/ حايد حايد

09 يناير 2024

اشتد القلق من اندلاع صراع إقليمي، ولا سيما مخاوف نشوب حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله”، عقب اغتيال نائب رئيس حركة “حماس” صالح العاروري مؤخرا. ومع أن المكانة الكبيرة لهذه الشخصية الفلسطينية المستهدفة تشكل بحد ذاتها مصدرا كبيرا للترقب، فإن موقع الاغتيال هو ما يثير القلق أكثر؛ فوجود العاروري في الضاحية الجنوبية، المعترف بها كمعقل لـ”حزب الله” في بيروت، قد يجبر الحزب على الرد بقوة لردع هجمات مستقبلية وعلى هذه المنطقة بالتحديد.

معظم التكهنات توقعت أن يأتي رد “حزب الله” من لبنان، ولكن من الحكمة أن ندرك أن لبنان قد لا يكون الساحة الوحيدة للانتقام المحتمل. فسوريا التي يحتفظ فيها “حزب الله” بحضور قوي وتحالفات كبيرة يمكن أن تكون ساحة بديلة عمليا لا ينبغي تجاهلها.

وما يزيد من ثقل الغارة التي نفذتها طائرة مسيرة يوم 3 يناير/كانون الثاني، وتسببت في مقتل العاروري وستة أعضاء آخرين من “حماس”، أنها أول هجوم على الضاحية منذ حرب 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”. وتعهد أمين عام “الحزب” حسن نصرالله بحزم في خطاب متلفز في اليوم التالي للغارة، بأن مقتل العاروري لن يمر دون رد، مرددا بذلك صدى تهديدات أطلقتها جماعته من قبل، وإن أحجم عن تحديد الزمان والطريقة.

وبينما أوضح نصرالله أنهم لا يخشون الحرب إذا أرادتها إسرائيل، فقد أكد على استراتيجية محسوبة، حين قال: “في الوقت الحالي، نحن نقاتل على خط المواجهة وفق حسابات دقيقة”. والجماعة في الأساس تتبع سياسة الرد بالمثل وهي تسعى جاهدة لتجنب إثارة صراع واسع النطاق مع إسرائيل.

وفي هذا السياق قد يرى التنظيم في سوريا خيارا استراتيجيا يوفر له الانتقام دون توريط نفسه بالضرورة في صراع أكبر؛ فسوريا البلد المجاور للبنان يعيش بالفعل حالة حرب منذ ما يقرب من 13 عاما. ولطالما كانت أيضا هدفا متكررا للهجمات الإسرائيلية على مر تلك السنوات، مع ارتفاع وتيرتها كثيرا في الأشهر الأخيرة، مما يقلل المخاوف من مزيد من الهجمات الإسرائيلية على سوريا إذا اختار “حزب الله” الانتقام انطلاقا من تلك الجبهة.

إن وجود الكثير من القوات المحلية منها والأجنبية المدعومة من إيران داخل سوريا يكفل لـ”حزب الله” شكلا من أشكال الإنكار المعقول. وحتى الآن اقتصر الرد الرسمي للحكومة السورية حيال الصراع الإسرائيلي مع غزة أساسا على إصدار بيانات الإدانة والتعاون مع الكيانات الإقليمية والدولية لتخفيف التوترات. ويعزى هذا الموقف المنضبط إلى افتقار الأسد للموارد، ولعل السبب الأهم هو عزوفه عن التورط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.

 مع ذلك شهدت خطوط الجبهة السورية الإسرائيلية نشاطا متزايدا، علما أن طهران، لا دمشق، هي التي تحدد سير العمل في هذا المجال؛ فالهجمات المتكررة التي تشنها جماعات ناشطة في سوريا ومدعومة من إيران، على الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، والتي تحدث على الرغم من تردد الأسد الواضح، تكشف عن الهيمنة الإيرانية الواضحة.

أما التطور الملحوظ في هذا المشهد المعقد فهو أن “المقاومة الإسلامية” في العراق، وهي مجموعة تضم تحت مظلتها الميليشيات الموالية لإيران النشطة في كل من العراق وسوريا، قد اتخذت القرار أخيرا بشن هجمات على إسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية. وتسمح هذه الخطوة الاستراتيجية لـ”حزب الله” بإخفاء تورطه. ومنذ بداية الصراع بين إسرائيل وغزة ركزت هذه المقاومة الإسلامية في المقام الأول على استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا. وبخلاف ذلك، ظلت معظم الهجمات على إسرائيل من سوريا دون إعلان مسؤولية، ما عزز الشكوك بتورط “حزب الله”.

غير أن الوضع بات أكثر تعقيدا في الآونة الأخيرة؛ ففي 27 ديسمبر/كانون الأول أعلنت “المقاومة الإسلامية” في العراق مسؤوليتها عن هجوم بطائرة مسيرة على مستوطنة إسرائيلية في مرتفعات الجولان المحتلة. وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن هذا الهجوم انطلق من سوريا، وهو ما يمثل أول ضربة “ملموسة” (حقيقية) بعد عدة ادعاءات سابقة للجماعة باستهداف المصالح الإسرائيلية.

وعقب هذه الحادثة، أعلنت الميليشيات العراقية مسؤوليتها عن هجمات إضافية على إسرائيل. ومن المحتمل أن يتيح هذا التطور لـ”حزب الله” إسناد مسؤولية شن ضربة انتقامية من سوريا إلى “المقاومة الإسلامية” في العراق أو المتعاونين معها بغية التخفيف من أي تداعيات.

 والجدير ذكره بالمثل هو مقدرة “حزب الله” والجماعات المتحالفة معه على شن هجمات من سوريا لها تأثير كبير على إسرائيل؛ فالهجمات الأولى انطلاقا من سوريا كانت متواضعة، وشملت قصفا بقذائف الهاون عبر الحدود على مناطق غير مأهولة. أما في 9 نوفمبر/تشرين الثاني، فقد انطلقت طائرة مسيرة من سوريا وحلقت فوق الأردن ثم أصابت مدرسة في إيلات على بعد أكثر من 400 كيلومتر من أقرب نقطة من الأراضي السورية.

وبالإضافة إلى مداها البعيد، فإن مقدرة هذه الطائرة المسيرة على العمل دون أن تُكتشف وتحقيقها ضربة دقيقة تشير إلى تورط مشغل مدرب جيدا. كما أن الرسالة التي يحملها هذا الهجوم لها القدر نفسه من الأهمية، فهي تؤكد القدرة المحتملة على استهداف أي موقع في إسرائيل انطلاقا من سوريا. وبينما قد تخفف التدابير الأمنية المعززة التي تتخذها إسرائيل من المخاطر التي تشكلها مثل هذه الهجمات بطائرات مسيرة، فإن انخراط إسرائيل على جبهات متعددة وقدرة الجماعات المدعومة من إيران على نشر الكثير من الطائرات المسيرة الأكثر تطورا يقلل من مقدرة إسرائيل على تحييد هذا التهديد بالكامل.

 ومع أن سوريا قد تقدم مزايا استراتيجية فليس من المرجح أن تحمي “حزب الله” أو لبنان من الانتقام الإسرائيلي. زد على ذلك أن خطوة كهذه قد تكون لها تداعيات خطيرة على سوريا، مما قد يضعها على شفا صراع إقليمي يحرض عليه حلفاء إيران. ومع أن الشعب السوري ثابت في دعمه فلسطين، فإن استخدامه كبيادق في صراعات الآخرين لا يتوافق مع الطريقة التي يود اختيارها للتعبير عن تضامنه.

————————–

العالم في مخاض… انتخابات ونزاعات/ إبراهيم حميدي

04 يناير 2024

العالم في مخاض. مؤلم بحروبه ونزاعاته. مفتوح باحتمالاته ومآلاته. الأرقام تقول ذلك. في عام 2023، وقع 183 نزاعا، أعلى رقم منذ أكثر من ربع قرن. في عام 2024، هناك 40 انتخابا، تجرى في دول تشكل نحو نصف سكان العالم.

اخترنا أن نصدر عددا خاصا لـ”المجلة” بداية 2024، باللغة الإنكليزية إلى جانب العربية، للحديث عن هذه النزاعات والانتخابات التي تفتح الباب لصراعات وصفقات.

لا شك أن هذه الحروب وتلك الانتخابات فيها جوانب جيوسياسية وتساهم مع عوامل أخرى، في تشكيل نظام عالمي جديد. حروب صغيرة تسيطر فيها 459 جماعة مسلحة على 195 مليون إنسان، بينها عصابات تتنافس على المخدرات. وحروب كبرى مثل أوكرانيا. ونزاعات مجمدة كما هو الحال في سوريا وملايين من النازحين واللاجئين. أو حروب ساخنة في قطاع غزة. و”حرب الجنرالين” في السودان.

2024 هي سنة الانتخابات، حيث سيقترع 40 في المئة من سكان الأرض المسيطرين على 40 في المئة من الناتج المحلي الكوني. نتائج بعض تلك الانتخابات محسومة، كما هو الحال مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي يبدأ ولاية خامسة في مارس/آذار المقبل ليبقى في الكرملين أكثر من ربع قرن.

صحيح أن باكستان وبنغلاديش على موعد مع الاقتراع على مرمى حجر من “طالبان” الأفغانية، و”الحزب الشيوعي” الصيني المتجدد بقرار الرئيس شي جين بينغ في 2023، لكن الأنظار تتجه في الربيع إلى الهند أكبر دولة ديمقراطية في العالم، حيث يطمح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في ولاية ثالثة. لا بد أن خسارته ستترك تداعيات استراتيجية، ما قد يضر بمحاولات واشنطن جذب الهند بوصفها ثقلا موازيا لبكين، حيث السؤال: ماذا لو فاز الحزب المؤيد للاستقلال في تايوان مرة أخرى؟ كيف سيتصرف شي جين بينغ مع قرب احتمال خروج الرئيس جو بايدن وعودة دونالد ترمب؟

قد يكون صحيحا ما أطلق على الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، على أنها “انتخابات العالم”؛ حيث ستجرى على الأرجح بين رجلين عجوزين ورئيسين: حالي وسابق. كما ستأتي وسط انقسام غير مسبوق في البلاد، وفي خضم انتظار ولهفة خصمين تاريخيين، الصين وروسيا، لنتائجها الحاسمة إلى حد بعيد لمستقبل العلاقات الثنائية والنظام الدولي والنموذج الديمقراطي.

لن يكون الرئيس الصيني سعيدا بعودة ترمب، على عكس بوتين الذي يراهن على عودته لتغيير المعادلات العسكرية في أوكرانيا. لذلك، ليس مفاجئا أن يكون الرئيس فولوديمير زيلنسكي، الذي قد يخوض هو نفسه انتخابات رئاسية في مارس/آذار المقبل بعد انتهاء سنوات ولايته الخمس، من بين أكثر المتلهفين لـنتائج “المكاسرة” بين بايدن وترمب.

أيضا، هناك انتخابات في أريع دول أوروبية “صغيرة” (النمسا وبلجيكا وكرواتيا وفنلندا) وهي مهمة بدرجات مختلفة لقياس مدى شعبية “الشعبوية” والأحزاب المتطرفة والخوف من المهاجرين واستمرار التمسك بالقيم الديمقراطية على عكس رهانات شي وبوتين، في الترويج لنماذج سلطوية، بعد اختبارات المجر وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا. ومع أن المملكة المتحدة، شهدت عدة رؤساء حكومة وغابت ملكتها بعد عقود مستقرة، فإن الانتخابات ستجرى على الأرجح في 2024، وهي اختبار جديد لفعالية الديمقراطية.

مصدر الاهتمام بانتخابات المكسيك في يونيو/حزيران، ليس لأن المنافسة بين سيدتين، بل بسبب حصولها وسط هبات يمينية أو عودة يسارية في أميركا اللاتينية وتهديدات فنزويلا ضد غويانا وتأهب البرازيل. لكن الاهتمام في جنوب أفريقيا، أسبابه محلية وقارية. احتمال أن يخسر الحزب الذي قاده الراحل نيلسون مانديلا لأول مرة منذ ثلاثة عقود. إجراء الانتخابات بحد ذاته، مهم في أفريقيا؛ فهي قارة تعاني من عدم استقرار في ليبيا، وحرب في السودان، ومسرح تنافس أميركي- روسي- صيني. ومقابل 13 انقلابا في 23 سنة، بينها سبعة انقلابات منذ 2020، تجرى انتخابات في 2024 في تسع دول أفريقية بينها الجزائر وتونس وجنوب السودان.

لعل أوضح تداخل بين البندقية والصندوق في تل أبيب وكييف. وأمام تراجع الدعم الغربي وزيادة التفاؤل الروسي، تتجه معركة أوكرانيا إلى الجمود لتنضم هذه البلاد المشتعلة إلى قائمة الأزمات المجمدة باتفاق غربي- روسي أو بحكم الأمر الواقع.

أما في إسرائيل، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو متهم برغبته في إطالة حرب غزة لـ”الإفلات من العقاب”. لكن دخول الحرب في عمق سنة 2024 دون نتائج، سيزيد الضغط للتخلص عبر صناديق الاقتراع من حكومة يمينية فشلت في منع هجمات “7 أكتوبر” وتدحرج كرة النار على “قواعد الإشتباك” في الاقليم وهبوب العواصف والمسيرات على خطوط الإمداد في البحار المدججة.

في هذا العدد أيضا، وثائق سورية جديدة عن “صراع الأسدين” الرئيس حافظ وشقيقه الأصغر رفعت، قبل أربعين سنة، ومراجعات ثقافية وعلمية وصحية لعام 2023… واستشرافات لعام 2024.

————–

=========================

تلفزيون سوريا

————————————

القيود التي تعيق عملية إسرائيلية في رفح/ محمود سمير الرنتيسي

2024.02.22

منذ أسابيع وحتى مع بدايات العملية العسكرية في خان يونس والجيش الإسرائيلي يلوح بعملية عسكرية في رفح على غرار بقية المدن في قطاع غزة من الشمال إلى خان يونس، ويرى جيش الاحتلال أنه يتحتم عليه أن يفكك ما تبقى من بنية كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية في رفح كما أنه يمنّي النفس بالنجاح فيما فشل فيه في بقية المدن وهو العثور على أسراه، كما أن عملية الهجوم على رفح تروق كثيرا للفريق القومي الديني في حكومة نتنياهو والذي يرى أن العملية الأوسع مهمة من أجل سيناريو التهجير.

بداية قد يكون الحديث مضللا عندما يظن القارئ أن العملية العسكرية لم تبدأ بعد في رفح، فمنذ أكثر من 130 يوما تتعرض رفح إلى قصف جوي ومدفعي، وقد خلف القصف مئات الشهداء وآلاف الجرحى وعددا كبيرا من البيوت المهدمة، كما استهدف الاحتلال القوات الشرطية في المدينة بهدف نشر الفوضى في المدينة وتأليب الناس على المقاومة والمقصود هنا بالعملية هو عملية برية لاحتلال مدينة رفح.

مع تأكيد نتنياهو وقادة الجيش والحكومة على ضرورة المضي في عملية رفح فإن هناك جملة من القيود التي تصعب الأمر ومنها الموقف الأميركي الرافض وإن كان ليس بشكل قطعي. وقد بات واضحا أن الأميركان يريدون إنهاء الحرب بأسرع وقت، ولديهم خشية من طول أمدها أكثر من ذلك خاصة أنهم كانوا يريدون انتهاء العملية قبل نهاية العام 2023 في ظل اقتراب موعد الانتخابات وتأثير الحرب عليها في غير صالح إدارة بايدن.

مع الاتهام الموجه لحكومة الاحتلال في محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية ووجود أكثر من مليون ونصف مليون نازح في رفح في ظل وضع إنساني مأساوي فإن أي عملية عسكرية ستجعل الأمور كارثية وستطلق موجة جديدة من الانتقادات والاحتجاجات على الاحتلال، قد يصعب السيطرة على نتائجها في ظل تحذيرات دولية حتى من حلفاء تل أبيب مثل واشنطن وباريس، وهذا الأمر يجعل جيش الاحتلال يفكر كثيرا قبل التوجه إلى احتلال رفح كما فعل في خان يونس وغزة.

من جانب آخر فيما تعد رفح آخر معاقل المقاومة التي لم تمس بنيتها بضرر من قبل الاحتلال بشكل كبير فإن الهجوم على رفح يفتح معه آفاق توسع أكبر للحرب على المستوى الإقليمي، خاصة أن أطرافا إقليمية مثل حزب الله والحوثيين تعهدوا بعدم السماح بالقضاء على المقاومة في غزة وتخشى واشنطن أيضا من هذا السيناريو.

على مستوى ثالث ترتبط رفح بحدود مع مصر ويبقى أحد سيناريوهات أي عملية عسكرية هو توجه موجات من السكان إلى مصر بحثا عن الأمان، وهو ما ترفضه مصر بشكل معلن حتى الآن ولا تريد أن يكون عليها أي تبعات جراء أي عملية عسكرية محتملة في رفح.

تتزايد القناعات لدى الاحتلال أن عددا كبيرا من أسراه موجود في رفح وبالتالي فإن أي عملية عسكرية ستعني المخاطرة بفقدان هؤلاء الأسرى إلى الأبد، وهذا سيزيد من الضغط على حكومة نتنياهو بشكل كبير جدا.

لا يتناقض مع هذه القيود أن يقوم الاحتلال بعمليات استطلاع بالقوة أو اجتياحات لبعض الأطراف في المدينة بهدف تحقيق مزيد من الضغط على طاولة المفاوضات وهذا هو النهج الذي تتبناه حكومة نتنياهو.

كما أن هذه العوائق لا تلغي بالرغم من موضوعيتها وجود تصميم من جيش الاحتلال على المضي نحو رفح لتدمير بنية المقاومة، فهو خيار قد حسمه نظريا منذ 7 أكتوبر، لكن كما ذكرنا فإن هذه العوائق تبطيء من سيره وإذا توفر بجانبها عوامل أخرى مستجدة ضاغطة على الاحتلال فإن إمكانية دخوله لرفح في ظل المعطيات الحالية تبدو صعبة.

—————————-

 نجحت العملية لكن المريض مات/ عدنان علي

2024.02.16

بالمقاييس العسكرية والمهنية، تعد عملية طوفان الأقصى ضد الكيان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، ناجحة جدا، وشكلت صدمة عسكرية واستراتيجية للكيان، لعلها الأقوى منذ نشأته عام 1948.

وقد قيل الكثير عن أبعاد هذه الضربة التي تلقتها إسرائيل، والتي جعلتها تفقد توازنها لبعض الوقت، بل جعلت الغرب كله في حالة “عدم تصديق” لما حدث، وهو يرى وكأن مشروعه في فلسطين المدجج بأحدث ما في ترسانة الغرب من أسلحة، يوشك أن ينهار في ومضة عين، وكأنه نمر من ورق، تمزقه ثلة مستضعفة من المقاتلين الحفاة المحاصرين منذ سنوات طوال.

ومع الأسف، فإن هذا الإنجاز المبهر، بدأ يرتد وبالا وكوارث على الشعب الفلسطيني عامة، وفي قطاع غزة خاصة، حيث تمكنت إسرائيل من الاستفراد التام بالقطاع المحاصر، وما تزال تمعن فيه قتلا وتدميرا منذ أزيد من 4 أشهر، على نحو غير مسبوق في التاريخ المعاصر، وسط صمت عربي ودولي مريب، حيث توافق الجميع كما يبدو على منح العصبة الموتورة الحاكمة في تل أبيب الفرصة الكاملة لتحقيق مآربها في القطاع، والتي لم تخفها منذ اليوم الأول، والمتمثلة في تهجير سكانه، بعد التنكيل بهم، باعتبارهم من وجهة نظر تلك العصبة، جميعا مسؤولين عما حدث يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وليس بينهم أبرياء، كما عبر عن ذلك رئيس الكيان، وغيره من مسؤوليه.

التواطؤ العربي الرسمي مع المذبحة الإسرائيلية في غزة واضح لدرجة تفقأ العيون، ولم يعد ممكنا حجبه أو مدارته لأن الطرف الآخر، أي إسرائيل والولايات المتحدة، غير مهتم، بإخفاء هذا التواطؤ، بل هم يتفاخرون به، ويعتبرونه إنجازا هاما لسياساتهم. وبعد أن أعلنت إسرائيل في محكمة العدل الدولية أن مصر هي التي تغلق معبر رفح، كان رد فعل النظام هناك مجرد نفي غير مقنع، ثم جاء الرئيس الأميركي بايدن ليقول إنه بالكاد أقنع السيسي بالموافقة على فتح المعبر في بداية الحرب. والمعبر، إذا يفتح بالقطارة تحت ضغوط دولية، ووفق الرغبات والأهواء الإسرائيلية (برغم أنه معبر مصري – فلسطيني ويفترض أنه لا علاقة لإسرائيل به) يغلق أيضا في وجه الراغبين بالخروج من القطاع، (كأفراد لظروفهم الخاصة، وليس بشكل جماعي) بمن فيهم الجرحى، إلا لمن يدفع رشاوى بآلاف الدولارات.

وليس الحال أفضل على الجانب الآخر من الحدود، حيث كشفت تقارير إسرائيلية عن وصول منتظم لبضائع ومنتجات زراعية من الأردن، ومن الإمارات عبر السعودية، ثم الأردن، إلى إسرائيل، بغية الالتفاف على طريق البحر الأحمر الذي تعثرت الملاحة فيه بفعل هجمات الحوثيين.

أما النظام في دمشق، ورغم أن الأراضي السورية تتعرض بشكل شبه يومي لعمليات قصف من جانب إسرائيل، فهو لا يجرؤ على الرد، وعمد إلى منع  المظاهرات المؤيدة لفلسطين أيضا، وهو يراهن كما يبدو على أن إسرائيل والولايات المتحدة سيقدران ذلك بعد الحرب، ويسمحان بتخفيف العقوبات المفروضة عليه، وإعادة دمجه في المجتمع الدولي.

وتترافق هذه السلبية العربية، وربما التواطؤ في بعض الحالات، مع تواطؤ أوضح وأكثر فجورا من جانب الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، برغم ما يصدر للإعلام أحيانا من “تذمر” و”استياء” أميركي من سياسات حكومة نتنياهو غير المبالية بحياة المدنيين في غزة، بينما على أرض الواقع تواصل إدارة بايدن ضخ السلاح والذخيرة والأموال لحكومة الاحتلال، وتعمل على حمايتها من أية إدانة دولية. ولا يقل الموقف الأوروبي سوءاً عن موقف واشنطن، ولاحظنا كيف تقاطرت معظم الدول الأوروبية خلف واشنطن لاتخاذ إجراءات ضد منظمة “الأونروا” التابعة للأمم المتحدة لمجرد صدور اتهامات إسرائيلية غير مثبتة لضلوع بعض موظفي الوكالة في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.

والخلاصة، إن الوضع العربي، بما فيه الفلسطيني لجهة العلاقة المتوترة بين سلطتي قطاع غزة والضفة الغربية، فضلا عن الوضع الدولي، لم يساعد أبدا على تثمير ضربة 7 أكتوبر سياسيا، ونجحت إسرائيل في تحويلها من نكسة أمنية استراتيجية، إلى فرصة لتحطيم المجتمع الفلسطيني في غزة وفي الضفة أيضا، ولو بدرجة أقل، مستغلة الأجواء الإقليمية والدولية المواتية، مع أعلى قدر من العجرفة والغطرسة التي لا تكترث، ولو بالحد الأدنى، لأرواح المدنيين الفلسطينيين والذين قتلت وأصابت منهم أكثر من مئة ألف حتى الآن. وبناء على المعطيات المذكورة آنفا، من غير الواضح ما إذا كانت التطورات اللاحقة، أي بعد توقف الحرب، ستحمل أية عوائد إيجابية على الفلسطينيين وقضيتهم، ما دام الطرف الفلسطيني (الحلقة الأضعف) يترك وحيدا في وجه إسرائيل وحلفائها، بينما المواقف العربية لا ترجو في أحسن الحالات، سوى تجنب الآثار السلبية لما يحدث على أمنها، دون وجود أية خطة أو مقاربة عربية جدية لاستثمار ما حدث باتجاه الضغط على إسرائيل وداعميها، باستخدام بعض ما لديها من أوراق، وهي كثيرة، أقلها التهديد بقطع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، بينما يعتبر المتغطرس نتنياهو أن الانتصار على حماس، سيجعل علاقات حكومته مع العديد من الدول العربية، أقوى مما كانت.

—————————–

 الخطاب السياسي الأميركي الملتبس وارتدادات الحرب على غزة/ مرح البقاعي

2024.02.13

من الممكن أن يفوز الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، بترشيح حزبه الديمقراطي وإمكانية إعادة انتخابه هذا العام لفترة رئاسية ثانية وأخيرة، وربما سيكون منافسه في الطرف المقابل الجمهوري الرئيس السابق، دونالد ترامب.

الرئيس بايدن واجه مؤخراً ردة فعل عنيفة من الناخبين العرب الأميركيين، الذين يشعرون بأن الرئيس قد خذلهم بدعمه المطلق للحرب الإسرائيلية على غزة وأهلها، والتي قُتل فيها أكثر من 27 ألف فلسطيني، وفقًا لتقارير رسمية صادرة عن وزارة الصحة في غزة.

وكان الرئيس بايدن قد حصل في الدورة الانتخابية للعام 2016 على دعم منقطع النظير من الجاليات العربية والمسلمة ومن قادة المنظمات العربية الأميركية وأعضائها، لكن الأمر لن يكون على نفس الوتيرة السابقة في العام 2020 على ما يبدو، رغم محاولات بايدن وفريقه المنوط بإدارة حملته الانتخابية طمئنة الجالية العربية الأميركية والتأكيد لها في غير مناسبة برغبة إدارة بايدن ودفعها القوي الداعم لوقف الحرب على غزة والشروع في تأسيس الدولة الفلسطينية ضمن مبدأ “حل الدولتين” الذي يشكل عقدة المنشار بالنسبة لحكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة ورئيسها، بنيامين نتنياهو، وهو طالما سعى بكل السبل الممكنة إلى تقويض المساعي العربية والدولية لإقامة دولة فلسطين ذات السيادة.

ففي ولاية مينيسوتا أسست مجموعة من العرب الأميركيين حملة شعبية لتشجيع الناخبين على التصويت بـ ’لا’ لبايدن سواء لترشيحه عن الديمقراطيين، أو في الانتخابات الرئاسية للعام 2024 في حال فاز بترشيح الحزب. وجاء رد الفعل هذا بعد أن تقدمت مجموعة من الأميركيين المسلمين لإدارة بايدن بطلب عاجل ليدعم وقفًا لإطلاق النار بحلول 31 أكتوبر. وعندما لم يستجب بايدن لهذه الدعوات ولم يدعم وقف دائم للقتال، تعهدت المجموعة بشن حملة لإسقاطه في الانتخابات.

هذا وقد أدلى ما لا يقل عن 146,620 من أصل 200 ألف ناخب أميركي مسلم في ولاية ميشيغان وحدها – وهي معقل للمهاجرين من أصل عربي – بأصواتهم في الدورة الانتخابية لعام 2020، وفاز حينها بايدن بولاية ميشيغان بفارق ثلاث نقاط مئوية عن منافسه ترامب.

هذا الحراك المعاكس لحملة بايدن يحدث في الولايات المتحدة بينما كان رأس دبلوماسية إدارته يجول في الشرق الأوسط في زيارته الخامسة للمنطقة منذ أحداث 7 أكتوبر، في سفرات مكوكية لم يسبقه في تواترها إلا وزير الخارجية الراحل هنري كيسنجر، الذي يعتبر مهندس الرحلات الدبلوماسية المكوكية باسم أميركا. ويحسب لكيسنجر نجاحه في التوصل إلى وقف إطلاق النار في شمال فيتنام، الأمر الذي مهد لخروج الولايات المتحدة في العام 1975، بينما استحق هو جائزة نوبل للسلام العام 1973. وفي العام نفسه 1973، نجح كيسنجر في مساعيه التي بذلها بين مصر وسوريا وإسرائيل في التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتوقيع اتفاقية الفصل بين القوات.

يحاول الوزير بلينكن أن يخفف من التوتر في العلاقات العربية الأميركية التي تأثرت بشكل كبير بالدعم المطلق لإدارة بايدن للعمليات الإسرائيلية العسكرية ضد غزة في فتراتها الأولى، رغم أنه بدأ يتحول بعد ذلك في واشنطن إلى لهجة محذرة لإسرائيل من مغبة استهداف المدنيين بهذا الشكل الانتقامي الأعمى.

أما الطرف الإسرائيلي فبدا أنه يسير في الاتجاه المعاكس للرأي العام العربي والعالمي، وللتاريخ أيضاً، ما يشكل تحديًا جديدًا لبايدن في مرحلة انتخابية دقيقة تبدو فيها شعبيته تتراجع بشكل مطرد على مختلف الصعد وفي العديد من الولايات، حتى المتأرجحة منها التي عادة ما تحسم نتيجة الانتخابات، ومنها ولاية ميشيغان.

في إسرائيل، لا يبدو نتنياهو في حال أفضل من بايدن، فهو يواجه تحدياته السياسية الخاصة، حيث تظهر استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين يريدون إجراء انتخابات مبكرة، وسوف يصوتون لصالح خروج نتنياهو من منصبه وإسقاط حكومته اليمينية.

وفي الوقت الذي يقوم بلينكن برحلاته المكوكية إلى الدول العربية المعنية بالنزاع على أمل تخفيف التوترات الإقليمية وإنهاء الحرب في غزة، فإن الوزراء الإسرائيليين من اليمين المتطرف يصعدون من خطابهم العنصري والعنفي تجاه الفلسطينيين، بينما يأججون في الوقت عينه الخصومة مع الحليف القديم بايدن.

فقد هاجم اثنان من وزراء حكومة بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي جو بايدن. وقال إيتامار بن غفير، وزير الأمن القومي، إن بايدن يعيق الهجوم ضد حماس ويركز بشكل كبير على إيصال المساعدات للمدنيين في غزة. وأشار إلى أن دونالد ترامب، من وجهة نظر إسرائيل، سيكون رئيسًا أفضل. ثم هاجم وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، بايدن لفرضه عقوبات على ستة مستوطنين يهود في الضفة الغربية، وقال إن منع واشنطن وصولهم إلى حساباتهم المصرفية يرقى إلى مستوى “حملة معادية للسامية”.

لطالما كان هذا الوزيران مثيرين للجدل. لكن انتقاداهما الصريح لبايدن – الذي زار إسرائيل بعد وقت قصير من هجوم حماس في 7 أكتوبر ودافع باستمرار عن حقها في شن حرب في غزة – يسلط الضوء على التوترات بين قيادتي البلدين. بينما يحاول نتنياهو من طرفه السير في طريق صعب من خلال الحفاظ على اليمين المتطرف في ائتلافه، والتعاون ظاهريًا مع إدارة بايدن. لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة كلما طال أمد الحرب وكلما واجهت إسرائيل ضغوطا لإنهائها.

رد رئيس الوزراء على تصريحات الوزيرين أتى بتوجيه الشكر لبايدن على دعمه الثابت وعلى الجهود الأميركية المستمرة لإطلاق سراح أكثر من 100 رهينة ما زالوا محتجزين في غزة من قبل حماس. لكنه رفض إدانة أي من شركائه في الائتلاف. ومثله مثل سموتريش، رفض العقوبات التي أقرتها واشنطن على ستة مستوطنين مدانين بارتكاب العنف ضد مدنيين فلسطينيين، والتي تقول الولايات المتحدة إنها عقوبات تهدف إلى منع الاعتداءات على الفلسطينيين من جانب المستوطنين المتطرفين.

أما الوزير بلينكن فيسعى في رحلته الخامسة للشرق الأوسط لأن يشرح ويؤكد على موقف إدارة بايدن، للعرب من جهة، وللعالم الغاضب من حجم الضحايا المدنيين من أهل غزة العزل. ويشير بلينكن في تصريحاته خلال الجولة أنه في حين تدعم الولايات المتحدة حق إسرائيل في مهاجمة حماس، تحاول إقناع نتنياهو بتخفيف حجم عملياته العسكرية.

وتصر واشنطن أيضًا كما تَوافَق العرب في موقف موحد تقوده المملكة العربية السعودية – ما يثير استياء نتنياهو ووزرائه – على أن تقبل إسرائيل بحل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد للسلام مع الفلسطينيين.

رحلة الوزير بلينكن الأخيرة قد لا تكون بنتائجها المتواضعة خير من رحلاته السابقة للضغط على نتنياهو ودفعه إلى الدخول في هدنة طويلة الأمد مقابل الإفراج عن الرهائن، وكذا تقديم المساعدات الإنسانية الملحة للمحاصرين من مدنيي غزة في خط تقاطع النيران. غادر بلينكن برفض قاطع من حكومة الحرب في إسرائيل لإيقاف العمليات العسكرية، بل كان من نتنياهو أن سارع وأعلن فور مغادرة بلينكن مطار بنغوريون أن عملية كبرى ستبدأ على رفح في القريب العاجل.

هكذا تبدو إدارة بايدن عاجزة تمامًا ومرتبكة في فترة ينشغل فيها الرئيس بايدن بحملته الانتخابية متنقلًا من ولاية لأخرى لتجميع ما خسره من تأييد ودعم شعبيين، وذلك عطفًا على أدائه السياسي الباهت في الداخل الأميركي، والخارج الدولي، على حد سواء.

فهل يفوز بايدن بترشيح حزبه رغم هذا الوهن السياسي المتعاظم الذي أصبح محرجاً لأميركا حكومة وشعبًا.

أتساءل…

—————————-

 ما مصير غزة في اليوم التالي؟/ أحمد مظهر سعدو

2024.02.12

في ظل عجز النظام الرسمي العربي، وتخاذل العالم العربي والإسلامي، وصمتهما، إن لم يكن، تواطؤ العالمين الشرقي والغربي، عما يحدث في قطاع غزة، من مقتلة ما برحت مستمرة، وتزداد اضطرادًا يومًا إثر يوم، وتعنت واضح لحكومة التطرف اليميني الإسرائيلي، وفرجة فاقعة للعالم قاطبة، على المجازر الكبرى وغير المسبوقة بحق الإنسانية، ومن ثم هدر إنسانية الإنسان الفلسطيني بكليتها. أمام هذا المشهد الدامي والصمت المطبق، وبالتساوق مع حالة انكشاف كل ادعاءات ما يسمى محور (الممانعة والمقاومة) وعُريه أمام ما يجري، لأهلنا في قطاع غزة، هل بقي من يوم تالٍ لغزة؟ وهل مازال من أمل في يوم تالٍ، فيه بعض الإنصاف والعقلانية، لهؤلاء الناس المحاصرين، والمقتولين والمدمرين يومياً في فلسطين؟

وإذا كان الفيلسوف الفرنسي (روجيه جارودي) قد قال يومًا إن (أميركا طليعة الانحطاط) بينما عنون الباحث الألماني (كارلها ينتس دشنر) كتابه المهم باسم (المولوخ إله الشر _ تاريخ الولايات المتحدة الأميركية) فقد جاء كل ذلك ليؤكد أن سياسات الولايات المتحدة الأميركية هي أبعد ما تكون عن الإنسانية، أو إنصاف حقوق الإنسان في العالم، بل هي تقف مع مصالحها ومع استراتيجيتها المنشودة (الفوضى الخلاقة)، ومع الصهيونية ودول الاستبداد والدكتاتوريات في العالم، دون أن تعطي أي أهمية موضوعية لحقوق البشر ودون الانتباه للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو حتى القانون الدولي الإنساني.

واليوم وضمن مفاعيل الواقع المتحرك في غزة، فهناك من يرى أن الاشتباك المتنوع الحاصل في الإقليم، وهو الذي يتصاعد وينزاح بكل الاتجاهات، وبصورة واسعة وأكثر خطورة، وخاصة بعد تاريخ 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023 أي بعد عملية “طوفان الأقصى” قطاع غزة بات يعيد الأمور إلى متحركات أخرى، وخاصة بالنسبة للأميركان، وكذلك الحال مع إيران/ الملالي، ويبدو أنه أصبح يشكل تلك الفرصة التاريخية التي انتظرتها إيران وأميركا للدخول القوي من أجل إعادة صياغة المعادلات الإقليمية من موقع الشريك الأكثر فاعلية وتأثيرًا وليس من موقع المتأثر أو المنتظر.

فإيران مثلًا تحاول أن يكون مدخلها إلى تأمين هذا الدور ومن ثم توسيع نفوذها كما يراها راسمي السياسة في طهران، ومن يمتلك محركات القرار، عبر العمل على توظيف هذا الاستثمار الذي يأتي عبر فرصة تاريخية قد لا تتكرر، من خلال أدواتها وأذرعها أو تلك القوى التابعة لها، أو كما تسميها وسائل إعلام إيرانية ب(الرديفة).

وهناك من يرى اليوم من النخب الإيرانية أن (ما قامت به الفصائل الرديفة لا يصب في مصلحة إيران) بل يصب (في توريطها بمزيد من الأزمات والمشكلات خدمة لمصالحها الخاصة التي لا تصب في مصلحة طهران) وهؤلاء يرون أيضًا (أن من أولى نتائجها أنها أسهمت في إنهاء ما تبقى من خيوط تواصل وحوار غير مباشر بوساطة عُمانية بين طهران وواشنطن، والتي كانت بمنزلة الخط الساخن أو الهاتف الأحمر بين الطرفين).

إن إطلالة آنية على ما يجري في قطاع غزة من قصف ودمار إسرائيلي يطول كل البنية التحتية الغزاوية، وكل العنصر البشري الفلسطيني بلا استثناء، يشير وبوضوح إلى أن حرب العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى الضفة أيضًا، لم يعد لها من يوم تالٍ أو محددات ما لرسم ملامح الواقع الفلسطيني، عبر ما كانت تقوله أميركا ومعها كثير من دول أوروبا، بل لعل السياسة الإسرائيلية التي ما زالت تصر (وبصمت دولي) على اقتلاع الديمغرافيا الفلسطينية وتهجيرها إلى  صحراء سيناء، أو إلى الأردن أو حتى إلى جزيرة ما، في بحر ما، تريد إيصال الفلسطينيين إليه، تلك الدولة المارقة والفاشيستية التي تسمى إسرائيل. والمشكلة أن كل ما يقال غربيًا من الإدارة الأميركية، أو من بعض دول أوروبا عن أهمية وجود يوم تالٍ وحالة ما بعد غزة، عبر ترتيبات على الأرض، ومفاوضات طويلة الأمد قد تُفضي إلى ما قيل إنه حل الدولتين، وهو ليس جديًا وليس ذو حظوة لدى الإسرائيليين، وهنا ليس المقصود حكومة التطرف فقط، التي تريد إلقاء قنبلة نووية على أهل غزة، وتخليص الإسرائيليين من همهم ومشكلاتهم، بل لعل معظم تشكيلات السياسة ومكونات (العسكريتاريا) والحرب الإسرائيلية لا تود ولا تريد وهي غير مقتنعة بالأصل بفكرة حل الدولتين، وهم لا يرونها قابلة للتنفيذ ولا قابلة للحياة في ظل لا جدية بالطبع من قبل الدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة في الأمم المتحدة، وضمن مفاعيل واقع حرب غزة الذي بيَّن للقاصي والداني انحياز الغرب وليس أميركا فقط إلى جانب القاتل وصاحب حرب الإبادة ضد شعب أعزل لا يملك من أمره شيئًا وضمن خيارات السلطة الفلسطينية الهزيلة، التي أوصلت نفسها إليها إبان اتفاقات أوسلو التي ورغم قلة حيلتها وظلمها للشعب الفلسطيني، لم تنجز على الأرض ما يشير إلى احتمالات حل الدولتين أو إعادة قيامة دولة فلسطينية ما، تلملم الجراح وتعيد بناء مستقبلات وحيوات الفلسطينيين على أسس جديدة ومختلفة تنصف بعض الإنصاف القضية الفلسطينية.

علاوة على أن إدراك إسرائيل (وطبعاً عبر تجربة حرب غزة) هزالة الواقع الرسمي العربي العاجز والصدئ عن فعل أي شيء، سوى بعض التصريحات (الهميونية) التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وترك الشعب الغزاوي يلاقي مصيره وحده عبر إفساح المجال واسعًا أمام ارتكابات متواصلة من المجازر اليومية بحق الفلسطينيين، الذي لم يعد يملك من خيارات أمامه إلا المقاومة أو الاستشهاد.

ضمن هذه المفاعيل الدراماتيكية لا يجد الفلسطيني أمامه أي يوم تالٍ أو إيجابي، ولا يجد أي مصداقية جدية لكل التصريحات الغربية التي يسمعها كل يوم عن حلول لم تعد مقبولة إسرائيليًا ولم يعد بالإمكان إعادة إنتاجها، وفق المعطيات الملموسة على الأرض.

ولن نكون من المشجعين أو الدافعين لحالات من اليأس إذا قلنا مع بعض المنصفين إن هدف إسرائيل الحقيقي قد تحقق بالكامل (القتل والتدمير، وجعل غزة منطقة غير صالحة للحياة، وبلا مستقبل، ما سيدفع بأهلها للهجرة). حيث لا وجود في مواجهة ذلك إلا قدرة وإرادة أهل غزة على الصمود، وهم بشر بالضرورة، لهم طاقاتهم وقدراتهم، ولا يمكن أن يُطلب منهم المزيد.

—————————–

 رهانات الأسد على ما بعد غزّة../ إبراهيم ريحان

2024.02.11

يُمكن القول إنّ روسيا وإيران نجحتا حتّى السّاعة بإبعاد شبحِ الحربِ عن النّظام السّوريّ. تُدركُ موسكو وطهران جيّداً أنّ أيّ حراكٍ أو عملٍ جدّيّ يكون منطلقه جبهة الجولان سيكون دونه عواقبَ وخيمة. هذا ليسَ استنتاجاً، بل معلومات تواترَت عن تحذيرات إسرائيليّة – أميركيّة وصلَت إلى دمشق وطهران وموسكو مع بدء الحرب في غزّة عبر قنوات مُختلفة.

التحذيرات لم تكُن للنّظام السّوريّ، بل لإيران. إذ يعرفُ النّظام السّوريّ الخطوط الحمراء جيّداً.

ومن يُراجع تاريخ جبهة الجولان منذ 1973 إلى اليوم يُدركُ مدى ارتباطِ هدوئها ببقاء آل الأسد في السّلطة. ولأنّ الإنسان بطبيعته كثير النّسيان، فلا بُدّ من العودة بالذّاكرة إلى الكلام الذي أطلقه ابن خالة بشّار الأسد رامي المخلوف مع بداية الثّورة السّوريّة عن جبهة الجولان. لم يكن كلام المخلوف تهديداً على الإطلاق. بل كان تذكيرا بالمُهمّة الأساسيّة للعائلة الحاكمة في قصر المهاجرين.

عُمقُ كلام رامي المخلوف حينذاك كان إعادة ضخّ الدّماء في مُعادلة “الأقليّة في سوريا، تحمي حدود الأقليّة في الإقليم، التي تُمثّلها إسرائيل”.

هذه المعادلة التي رسّخها وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر وحافظ الأسد هي التي كانت، ولا تزال الحاكمة في العلاقة بين واشنطن والعائلة الحاكمة. وهي التي أعادَت للأسد الأمل اليوم، فحرصَ أشدّ الحرصِ على إبقاء جبهة الجولان هادئة، وكأنّ شيئاً لا يحصل في المنطقة.

ولئن قال قائلٌ إنّ قذائفَ يتيمة تُطلَق بين الفينة والأخرى نحو مناطق خالية في الهضبة المُحتلّة، فهذا لا يعدو كونه تذكيراً لتل أبيب وواشنطن بأنّ الحارِسَ يقوم بمهمّته وهو يبحثُ عن ثمنٍ يقبضه بالسّياسة بعدَ انجلاء غُبار الحربِ في غزّة وجنوب لبنان والبحر الأحمر.

كذلك الحال إن سألَ سائلٌ آخر عن الصّواريخ والمُسيّرات التي تستهدف القوّات الأميركيّة في شرق وشمال شرق سوريا. فهُناك لا سلطة ولا ناقة ولا جمل للأسد. هُناك ساحة رسائل وتفاوض أميركيّة – إيرانيّة. الأسد يعلم ذلك. وواشنطن تعلم ذلك ومعها العالم بأسره. زِد أنّها تعلم أنّه لو كانَ الأمر بيد الأسد، لما حلّقَت حمامة فوقَ قواعدها من التّنف وصولاً إلى عين عيسى.

لكن ما هو الثّمن الذي يُريده الأسد؟

في الواقع فإنّ الأسد يُريدُ بعد هذه الحرب أن يقول للأميركيين: “أدّيت قسطي للعلياء والبيت الأبيض. وأثبتّ أنّني قادرٌ على ضمان أمن الحدود مع فلسطين المُحتلّة”.

يبحثُ النّظام السّوريّ اليوم عن عدّة مكاسب سيحاول تحصيلها على وقع النّار المُشتعلة:

أوّلاً: يُراهنُ نظام دمشق على أنّ نيّة واشنطن الانسحاب من جاره العراق ستنسحبُ على القواعد في سوريا. وهذا يعني تمكين حكمه في الشّرق والشّمال الشّرقيّ عبر ميليشيات إيران التي ستُحاول ملأَ الفراغ الأميركيّ المُحتمَل.

ثانياً: يُريدُ من الأميركيين تخفيف القيود والعقوبات التي تلتفّ حول عنق النّظام وأوصلته إلى أسوأ أيّام حياته، من دون أن توجّه له الضّربة القاضية. ليسَ حبّاً بالنّظام، بل حبّاً بضمان أمن ربيبة واشنطن، أي تل أبيب.

ثالثاً: بحسب المعلومات، يُنسّق النّظام السّوريّ مع طهران تخفيف وجود مُستشاري ومُقاتلي الحرس الثّوريّ في سوريا في حال انسحبَت أميركا واستتبّ الأمرُ له في دير الزّور والرّقّة والقامشليّ والحسكة. إذ يعتبر أنّ تخفيف الوجود الإيرانيّ سيسمحُ بانفتاحٍ غربيّ ولو جزئيّ على النّظام بعد نجاحه في حماية حدود إسرائيل. كما يُعتقد أنّ ذلك من شأنه أن يوسِّعَ من التّواصل العربيّ مع دمشق من السّياسة نحوَ الاستثمار والاقتصاد.

رابعاً والأهمّ: يُدركُ النّظام السّوريّ أنّ الأيّام التي ستلي الحرب في غزّة لن تكونَ محصورة بإعادة رسم الخرائط السّياسيّة في جنوبي الأراضي المُحتلّة، بل في المنطقة برمّتها. سوريا هي واحدة من هذه السّاحات التي ستشهد إعادة رسم الخرائط، ويُحاول قدر الإمكان أن يحصرَ أو يُقلّل من خسائره السّياسيّة، بل تحصيل المكاسب التي ورَدَت أعلاه.

فبعدَ أن قدّمَ، أو حاول تقديم نفسه مُحارباً لتنظيم داعش أو ما يُعرَف باسم “الإرهاب”. ها هوَ اليوم يعيدُ تجديدَ العقد بينه وبين واشنطن بصفته ضامنَ أمن إسرائيل في الجولان، وأنّ ما حصلَ يوم معركة طوفان الأقصى في غزّة، لن يكون من سوريا أبداً، ولا حتّى أقلّ من ذلك بكثير.

كما صارَت قناعة راسخة في موسكو عنوانها أنّ الوجودَ الإيرانيّ في سوريا هو “مغناطيس” الضّربات الإسرائيليّة التي من شأنها زعزعة النّظام، وبالتّالي صارَ النّفوذ الإيرانيّ، أقلّه العلنيّ، محطّ النّقاشِ في المرحلة المُقبلة..

—————————

 حرب غزة والروح الصليبية/ عدنان علي

2024.02.02

خلال حرب غزة الحالية، كان واضحا الاصطفاف الغربي شبه الأعمى مع العصبة المتطرفة التي تحكم إسرائيل، في كل ما تذهب إليه من إجراءات ومسالك خارجة عن كل عرف قانوني وإنساني بحق سكان قطاع غزة المستضعفين والمحاصرين في بقعة جغرافية ضيقة.

ولعل من المواقف المعبرة في هذا السياق، الاصطفاف الغربي السريع خلف المزاعم الإسرائيلية تجاه منظمة “إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، حيث بادرت الولايات المتحدة، ونحو 10 دول أوروبية إلى قطع التمويل عن المنظمة، وهي الأهم على صعيد تقديم المساعدات لأهالي قطاع غزة، بزعم مشاركة 12 من موظفي الأونروا في هجوم 7 من أكتوبر ضد إسرائيل.

وتشير هذه الخطوة المنسقة إلى الأساس الرخو الذي تنهض عليه المزاعم الغربية بشأن الحرص على إيصال المساعدات للمنكوبين في قطاع غزة، بحيث تتم التضحية بأهم أداة لتقديم هذه المساعدات بناء على مزاعم هشة تستند إلى حسابات إسرائيلية ثأرية مع هذه المنظمة، والأمم المتحدة ككل، ليس على خلفية موقفها المتوازن نسبيا من العدوان على غزة وحسب، بل لرغبة إسرائيلية قديمة معروفة في إنهاء وجود “الأونروا” لما تمثله من تذكير مستمر بمحنة اللاجئين الفلسطينيين، بينما تريد إسرائيل طي هذا الملف، ودمج اللاجئين في الدول التي هُجروا إليها.

وطبعا، ليس هذا الموقف هو الوحيد الذي عبّرت فيه الدول الغربية عن اصطفافها الأعمى خلف إسرائيل خلال الحرب على غزة، وسبق ذلك بأيام مساندة تلك الدول لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي هي منتوج غربي، لكنه بالطبع، غير مخصص لمحاكمة الغرب وامتداده إسرائيل.

لقد قيل الكثير في تفسير هذا الاصطفاف الغربي الشائن مع إسرائيل، غير أن القليل مما قيل تطرق إلى ما نحسب أنه جوهر العلاقة بين الجانبين، والمتصل بالإرث الديني والتاريخي، وعقد التفوق الحضاري، وحتى العنصري.

وسريعا بعد هجوم 7 من أكتوبر، طفت إلى السطح تصريحات “معبرة” عن الروح الجمعية للعالم الغربي، بوصف ما جرى ضربة غير متوقعة ليس لحليف سياسي أو استراتيجي المتمثل بإسرائيل، بل لـ”الحضارة الغربية” نفسها بإرثها التاريخي والديني المتداخل على نحو ما مع “الإرث اليهودي”، خاصة بالنسبة للمسيحيين البروتستانت الإنجيليين الذي شكلوا نواة الدولة الأميركية بعيد اكتشافها، وقاموا بدور رئيسي في تشكيل الثقافة والهوية الأميركية، ما يعني أن التوراة أسهمت بشكل كبير في تشكيل الهوية الأميركية، ما أدى إلى ظهور ثقافة مسيحية يهودية مشتركة، تؤمن بفكرة الشعب المختار ونظرية نهاية الحياة على الأرض ومعركة “هرمجدون” وعودة المسيح، والتي لن تتم إلا بعد عودة جميع يهود العالم للدولة اليهودية في فلسطين وإعادة بناء الهيكل في أورشليم (القدس) على أنقاض المسجد الأقصى.

ومن المفهوم أن إسرائيل تبتهج لهذا التوصيف، ولم يكفّ نتنياهو طوال الأشهر الماضية عن الصراخ عاليا بأن هجوم حماس لم يستهدف إسرائيل فقط، بل الحضارة الغربية برمتها، وهو يريد بطبيعة الحال توسيع المعركة، ليشارك فيها الغرب كله، وألا تظل محصورة بإسرائيل وحدها.

ومنذ الأيام الأولى للحرب، قال السيناتور الأميركي ليندسي غراهام: “نحن في حرب دينية”، داعيا إسرائيل إلى “تسوية الأرض” للدفاع عن نفسها، ثم أعلن الرئيس الأميركي نفسه جو بايدن “ليس ضروريا أن تكون يهوديا حتى تصبح صهيونيا، وأنا صهيوني وهذه حقيقة لا أعتذر عنها” بينما عبر وزير خارجيته بلينكن بوضوح خلال زيارته التضامنية لإسرائيل “أنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيرا لخارجية الولايات المتحدة فقط، ولكن بوصفه يهوديا”.

وفي إسرائيل نفسها، وبعد سيل من تبريكات الحاخامات والساسة المتطرفين للحرب على غزة ودعواتهم للثأر من كل سكان القطاع، وهدمه فوق رؤوس سكانه، جرى استبدال اسم الحرب على غزة بـ”حرب التكوين” بدل “السيوف الحديدية”، وهو اسم يشير إلى الكتاب التوراتي.

ومنذ الأيام الأولى للحرب، اعتبر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أنه “لا يوجد أبرياء في قطاع غزة” بينما استذكر رئيس الحكومة نتنياهو الحرب مع “العمالقة” الذين كانوا يسكنون فلسطين حين قدوم اليهود إليها قبل 3000 عام، وهو استشهاد تطرق إليه المحامون من جنوب إفريقيا خلال مرافعاتهم أمام محكمة العدل الدولية، واتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في غزة.

ورغم أن إسرائيل اتبعت رسميا سياسات “علمانية” منذ تأسيسها في عام 1948، بهدف الحصول على دعم دولي، والحفاظ على وحدتها الداخلية، إلا أنها تعرف نفسها كدولة يهودية، بمعنى أن سكانها يتألفون بشكل أساسي من العنصر اليهودي، وفق القانون الذي أقره الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في يوليو تموز 2018. واليهود، لم يكونوا يوما أمة جامعة ذات هوية موحدة، لذلك يتم التركيز على “الفكرة الصهيونية” المثقلة بالخرافات التاريخية كهوية فكرية عقائدية توحد هذه الأعراق المتعددة، حيث لا سبيل لجمع اليهودي العراقي والمغربي مع الروسي والإثيوبي والبولندي، إلا بهذه الفكرة الخرافية والمصلحية في آن، إذ يمكن لأي متشرد يهودي في العالم أن يصبح مالكا ومتحكما، بمجرد وصوله لإسرائيل، ونيله جنسيتها.

ولا شك أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بمباركة علنية أو ضمنية من مجمل الطبقة السياسية- الإيدلوجية المتحكمة في دول الغرب، قد عرّت النفاق الرسمي الغربي المديد بشأن مبادئ المساواة بين البشر وحقوق الإنسان، وكشفت حقيقة المواقف الغربية حين توضع على المحكّ، وهو ما شكل صدمة لكثير من النخب في الغرب، وللشارع الأوروبي والأميركي، عبر المظاهرات الكبيرة التي تخرج بشكل شبه يومي في المدن الأوروبية والأميركية.

——————————–

 إيران أميركا.. ما أشبه الليلة بالبارحة/ منير الربيع

2024.02.02

على ما يقول طرفة بن العبد ما أشبه الليلة بالبارحة. فكأن المشهد القائم حالياً بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإيران من جهة أخرى، يشبه إلى حدود بعيدة المشهد الذي كان قائماً في العام 2015 بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، متجاوزاً الخط الأحمر الذي رفعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، يومها عدّل أوباما من خطه الأحمر، فتجاوزه بنفسه، دخلت روسيا عبر وزير خارجيتها سيرغي لافروف في مسار تفاوضي بين الأميركيين من جهة، وإيران والنظام السوري من جهة أخرى حول إبرام اتفاق يقضي بتسليم دمشق للسلاح الكيماوي مقابل تجنّب ضربة عسكرية أميركية. المشهد نفسه يتكرر بعد إقدام كتائب حزب الله العراقي على استهداف موقع عسكري أميركي على الحدود الأردنية السورية تابع ومربوط بقاعدة التنف.

أدى الاستهداف إلى مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة نحو 40 آخرين. وجدت أميركا نفسها في الزاوية، لا يمكنها أن تتحمل مثل هذه الضربة. ثمة من نظر إليها كـأسد جريح لا بد له أن يسارع إلى الانتقام. تراوحت التقديرات حول الوجهة وكيفية الردّ الأميركي وإذا ما سيكون فاعلاً ومؤثراً ودافعاً إلى تغيير موازين القوى، إلا أن ذلك كان مستبعداً، نظراً للسياسة الأميركية العميقة ولمواقف جو بايدن المشابهة تماماً لمواقف أوباما. هددت واشنطن بالردّ وكأنها أعطت مجالاً للإيرانيين وللفصائل العراقية الحليفة لطهران لاتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة. تماماً كما فعل بايدن مع الحوثيين عندما حذرهم بأن بلاده ستوجه ضربة لهم رداً على عملياتهم في البحر الأحمر فاتخذوا الإجراءات والتدابير اللازمة، فيما الضربات لا تؤدي إلى ردعهم عن الاستمرار في التأثير السلبي على الملاحة البحرية والتجارة العالمية.

إثر الضربة التي تلقتها واشنطن، نشطت قنوات الاتصال بين أميركا وإيران، استمرت الولايات المتحدة في منح الوقت وإعطاء الفرص للوصول إلى تفاهم، يأتي ذلك بعد أسابيع على ما كشفه السفير الإيراني في دمشق عن تلقي بلاده عرضاً أميركياً حول الذهاب إلى تسوية شاملة في المنطقة تطول كل الملفات. انطلق التفاوض بين الجانبين في أكثر من مكان وعبر أكثر من وسيط، وبينما لقاءات مباشرة عقدت في أرمينيا بهدف تجنب الصراع أو تصعيد المواجهة التي لا تريدها أميركا، ولن تكون في مصلحة إيران. مفاوضات لا تلغي ضربة أميركية معروفة مسبقاً هدفها رد الاعتبار وحفظ الكرامة، وإسقاط عدد من القتلى في صفوف حلفاء إيران لكن بدون أن تؤدي إلى تغيير موازين القوى، فإيران عنوان أميركي وغاية أميركية في المنطقة. هدف واشنطن استقطابها، وهدف طهران أن تحظى باعتراف أميركي حول تعزيز دورها ونفوذها.

جاء الاتفاق النووي بعد الكيماوي على حساب سوريا وأنقاضها وفوق أشلاء شعبها الذي سحقته الآلة العسكرية وتهجر بشكل ممنهج. ويأتي الاتفاق الحالي فوق أنقاض قطاع غزة وربما القضية الفلسطينية كلها، إثر عمليات التهجير الممنهج التي تتبعها إسرائيل، فيما جبهات المساندة الإيرانية لم تمنع التهجير ولا التدمير إنما فتحت مسارات لما تسميه طهران “التسوية الكبرى”. كان الاتفاق النووي على حساب العرب، وملامح التسوية الحالية ربطاً بحرب غزة وتهجيرها ستكون على حساب العرب وهذه المرة في خلق المزيد من الإشكالات العربية العربية لا سيما أن مصر والأردن تشعران بتهديد كبير.

ما يختلف بين العامين 2015 وحالياً، هو الاعتراض الإسرائيلي الكبير على الاتفاق النووي الذي لم يلحظ إيجاد صيغة حل لحلفاء إيران وأدواتها في المنطقة، وفي تلك الفترة صعّد كثيراً نتنياهو ضد باراك أوباما. المختلف اليوم، هو أن فتح الجبهات بشكل رمزي حتّم على الأميركيين والإسرائيليين البحث في كيفية التعامل مع حلفاء إيران. لأن الضربات التي نفذها الحلفاء جعلت البحث على آلية لضبط تحركات هؤلاء تسبق في أهميتها مسار الاتفاق النووي. كما أنه بعد عملية طوفان الأقصى فإن أميركا ستكون معنية في توفير الحماية والأمن لإسرائيل وهو ما يحصل سواء في دعمها العسكري، أو في دفع حلفاء إيران إلى وقف عملياتهم العسكرية وتوفير مقومات الاستقرار الطويل الأمد وهو طبعاً يحتاج إلى وقت لبلورته.

يريد الأميركيون اتفاقاً مع إيران، حول كيفية انضباط حلفائها في المنطقة، لذلك فإن التهديد الأميركي كان كافياً ليصدر البيان عن كتائب حزب الله العراقية في تعليق العمل العسكري ضد الأميركيين، مع الإشارة إلى اتخاذ فصائل أخرى مثل هذا القرار. سيفرض هذا المسار تغييراً في كل سلوك حلفاء إيران في المنطقة، ما سيفرض عليهم مقاربات سياسية مختلفة. لدى التفكير في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، لا بد من النظر إلى آلية تغير المسارات السياسية لحلفاء طهران من خلال الانخراط في المجالات السياسية أكثر فأكثر، ليكون ذلك تعويضاً عن نشاطهم العسكري، والذي يمكن ستر التخلي عنه بما يحكى عن الانسحاب الأميركي من العراق.

—————————-

 المآزق الإسرائيلية في غزة/ محمود سمير الرنتيسي

2024.01.31

تجاوزت أيام العدوان الإسرائيلي على غزة بعد 7 أكتوبر تشرين الأول 2023 الـ 100 يوم ولا تزال حكومة الاحتلال وجيشها غير قادرين على تحقيق الأهداف التي قاموا بوضعها، والتي شملت تدمير بنية المقاومة، إذ إنه في لحظات كتابة هذا المقال مساء 29 يناير كانون الثاني 2024 كانت رشقة صاروخية تنطلق من غزة باتجاه تل أبيب. كما أن الاحتلال لم يستطع أن يحرر بالقوة أي من الأسرى الذين احتفظت بهم المقاومة الفلسطينية منذ 7 أكتوبر تشرين الأول بل على العكس فقد عشرات منهم حياتهم بسبب قصف وعمليات الجيش الإسرائيلي المدمر على غزة.

مأزق مزيد من الخسائر في غزة

لقد شكلت عملية طوفان الأقصى حالة صدمة لمؤسسات صنع القرار داخل دولة الاحتلال ويمكن القول إن عدم توقع العملية ابتداء كان المؤشر الأول على فشل الاحتلال الأساسي وبالتالي إذا كان هناك فشل في الدفاع فليس من المستبعد أن يكون هناك فشل في الهجوم، كما أن الضربة التي سببت إرباكا شديدا للحالة الدفاعية لا تزال آثارها تنعكس على الحالة الهجومية إذ إن جنرالات الكيان الإسرائيلي مثل يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي يبحثون عن كل شيء يمكن أن يغطي الصورة المنهارة لجيش الاحتلال في 7 أكتوبر وهم في الوقت نفسه لا يدركون كم دمروا من صورة دولة الاحتلال في مجالات أخرى والأمر أن عدم قدرتهم على تحقيق الأهداف خلال 100 يوم راكم صورة أسوأ.

بمعنى أن الجيش الإسرائيلي بعملياته التدميرية في غزة انطلق في سياق رد فعل انتقامي أبعد ما يكون عن أهداف سياسية مرسومة بدقة، وبالتالي دخل في مأزق خطير وهو مزيد من الفشل الميداني ومزيد من الخسائر ومزيد من الضرر لصورته وظل طوال أيام المعركة يرمي بالتهمة في عدم جود أهداف واضحة لاستمراره في الحرب على المستوى السياسي.

مأزق توسع جغرافيا الحرب

نظرا لعدم توقع طول مدة الحرب بهذا الشكل والذي يرجع بالدرجة الأساسية إلى فشل توقع إمكانيات وقدرات المقاومة على الصمود، فإن الجيش حاول تقسيم العملية إلى مراحل لكي يخبئ الفشل تحت نهاية المرحلة السابقة وبداية المرحلة اللاحقة، ولكن في الوقت نفسه كلما طال أمد الحرب زاد إمكانية توسع المعركة على المستوى الإقليمي، وبالفعل يوجد الآن عدة جبهات مفتوحة على الاحتلال الإسرائيلي بالرغم من التفاوت في حدتها سواء في البحر الأحمر أو لبنان وهناك تحرك في جبهة فلسطيني 48 عبرت عنه عملية دعس تحدث لأول مرة منذ بداية الحرب.

مأزق تزايد العبء على الحلفاء

ما من شك أن استمرار الاحتلال في تحمل كلفة العدوان يرجع إلى وجود حلفاء على رأسهم الولايات المتحدة يسهمون في الدعم على كل المستويات، وكذلك فإن طول أمد الحرب سيكلف هؤلاء الحلفاء مزيدا من الكلفة في سبيل حماية دولة الاحتلال وسيشعرون في أطول حرب تخوضها دولة الاحتلال بحجم العبء الملقى عليهم والذي يخصم من رصيدهم الأخلاقي والسياسي والعسكري والمالي. كما أن استحقاقات باتت تدفع من اللحم الحي عندما قتل 3 جنود أميركيين وأصيب عشرات في موقع لهم في الأردن، كما أن الاستحقاق الأكبر المتمثل بالانتخابات العامة في الولايات المتحدة سيكون الاختبار الأهم وسيشكل تداعيات غير مسبوقة على السياسة والمجتمع الأميركي.

وحتى على الأصدقاء المحتملين على المستوى الإقليمي في سياق التطبيع والتحالف فإن الاحتلال الإسرائيلي يعقد ويصعب المهمة عليهم، ويخلق مسافات أكبر بينه وبينهم على المستوى العلني على الأقل.

مأزق نتنياهو

ما من شك أن نتنياهو كشخص يغرد في سرب ودولة الاحتلال كلها تغرد في سرب آخر فهو يحسب الأمور من منطلقات شخصية، ولديه القدرة من خلال تحالفاته على اللعب بالمشهد حتى الآن وهو يريد إطالة أمد الحرب ليزيد من عمره الافتراضي في قيادة السياسة الاحتلالية، ولكن كلما زاد أمد الحرب وكلما زاد عمر نتنياهو السياسي فإن الاحتلال الإسرائيلي يسير نحو خسائر استراتيجية على المستويات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية ويعمق نزول أقدام الاحتلال في مآزق متعددة.

هذه مجرد مجموعة من جملة مآزق عدة يخوضها الاحتلال حاليا ويغامر في مزيد من تعمقها وخلق مآزق أخرى جديدة، وكلما طال أمد الحرب غاصت أقدامه أكثر فيها وهذه كلها من النتائج الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر والتي جعلت اتجاهات الاحتلال كلها مدفوعة الثمن وخطيرة على مستقبله ووضعته في موقف لا يستطيع فيه التصرف إلا باتخاذ قرار سيئ. وكما قال جنرال عسكري أميركي ذات يوم: “أفضل طريقة للفوز في المعركة هي أن تجعل العدو لا يستطيع الفوز”.

——————————–

 توم الأميركي وجيري الإيراني.. الحوثي إذ يهدد أميركا وإسرائيل/ عبد القادر المنلا

2024.01.30

لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة الأميركية مأزقاً سياسياً وعسكرياً كالذي يشهده اليوم، فأميركا التي لا تجرؤ دول عظمى على تحديها حتى على مستوى التصريحات ناهيك عن التحرش بها عسكرياً، تعاني اليوم من تهديد جماعات حديثة النشأة مثل ما يسمى المقاومة الإسلامية في العراق والتي لا ترقى إلى مستوى دولة صغيرة، ولكنها تستطيع أن تعرض أساطيل الولايات المتحدة وجيوشها لضربات تنال من هيبتها وتوقع إصابات مباشرة في جنودها وخسائر في صفوفها..

وآخر تلك التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية هي تلك القادمة من اليمن عبر جماعة الحوثي، والتي نجحت في تهديد التجارة الدولية بما فيها السفن التجارية الأميركية.

ورغم الضربات الأميركية البريطانية المشتركة التي وجهتها الدولتان للحوثي، إلا أن الأخير لم يتأثر كثيراً ولا يزال قادراً على تهديد مصالح الدولتين العظميين ومعهما مصالح أوروبا أيضاً، ويصدر نفسه كقوة متكافئة مع قوة خصمه الأميركي، فهو لا يهتم للتهديدات الأميركية ولا يبدو قلقاً منها ويعلن عن جاهزية تامة لمواجهة الولايات المتحدة والمضي حتى النهاية بمشروعه الذي يزعم من خلاله الانتصار لقضية غزة..

يتجرأ الحوثي على تحدي أكبر قوة إقليمية وهي إسرائيل، وأكبر قوة دولية وهي الولايات المتحدة الأميركية مع جميع حلفائها الغربيين ويعرض مصالحها المباشرة للخطر دون خوف من العقاب.

يلعب الحوثي في اليمن اليوم ذات الدور الذي يلعبه حزب الله في لبنان والدور الذي تلعبه ما تسمى المقاومة الإسلامية في العراق وكل تلك الميليشيات تحتمي خلف العباءة الإيرانية وتتلقى دعمها وأوامرها منها، فإيران هي من يتحرش بالولايات المتحدة عبر تلك الأذرع التي زرعتها في المنطقة، وهنا سينتقل الصراع إلى مستوى أكبر ويجد الغرب نفسه في مواجهة دولة إقليمية قوية لديها من الأوراق السياسية والعسكرية ما يكفي للعب مع الخصم الأميركي، كما تريد إيران أن تقول من خلال تصريحاتها ومواقفها المعلنة..

هنا، يمكن الوقوف مع حقيقة العداء الأميركي الإيراني، والعداء الإسرائيلي الإيراني، حيث لا بد من إعادة النظر في تلك العلاقة الملتبسة التي تصدر حالة في العلن، وتلعب نقيضها في السر..

على مرأى أعين إسرائيل، كبر حزب الله وترعرع في لبنان وهو يحمل شعارات المقاومة، ولم يكن تزايد قوة حزب الله يزعج إسرائيل رغم بعض الحروب التجميلية التي خاضتها ضده أو خاضها هو ضدها، ولكن أهم حرب خاضها الحزب كانت في سوريا وليست في تل أبيب، وضد السوريين وليس ضد إسرائيل، ويبدو أن الثورة السورية كشفت المهمة الأساسية التي عولت فيها إسرائيل على حزب الله، فكان بالفعل الأداة الرئيسية التي استطاعت أن تفرغ سوريا من سكانها سواء عبر المجازر أو عبر التهجير الممنهج، وقدم الحزب لإسرائيل أثمن هدية وهي تخليصها من أي خطر يشكله السوريون عليها لمئة عام قادمة، دون أن تخسر جندياً واحداً أو طلقة واحدة..

وعلى ذات المقياس يمكن دراسة العلاقات الأميركية/الإيرانية، فأميركا التي تدعي خصومة إيران وتتحدث عبر سنوات طويلة عن التهديدات والمخاطر التي تشكلها إيران في المنطقة وفي العالم، قامت باستقدام أساطيلها لغزو العراق ثم سلمته لإيران على طبق من ذهب، وهو أمر يشابه ما فعلته في اليمن حيث كبر الحوثي وترعرع على مرأى أميركا وها هو اليوم يكرر ذات اللعبة التي لعبها حزب الله وبالاتكاء على ذات الذريعة في مقاومة إسرائيل والبحث عن طريق القدس.

أما في سوريا، فقد كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لا يكف عن ترديد عباراته الشهيرة: أيام الأسد معدودة، الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، وفي الوقت ذاته كان يدعم إيران التي تحمي الأسد والتي كانت قد تبنت مهمة الإبقاء عليه في السلطة، وقد أفرج أوباما في العام ٢٠١٣ عن عشرات المليارات من أموال إيران المجمدة والتي استخدمتها في دعم الأسد الذي كان أوباما يطالبه بالرحيل.

ربما تبدو حرب غزة اليوم الامتحان الحقيقي لحالة العداء بين إيران وحزب الله من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، فلو كان الهاجس الأساسي لمحور المقاومة -كما يدعي دائماً- هو القضاء على إسرائيل وتحرير القدس، لكانت تلك فرصته الكبيرة في ظل التهلهل والارتباك الذي تشهده إسرائيل، وهي فرصة قد لا تتكرر، ولا سيما أن حركة حماس لن تستطيع أن تواجه إسرائيل وحدها حتى النهاية، ومهما كانت الضربات التي توجهها حماس لإسرائيل موجعة وثقيلة فإنها في النهاية ستبقى رهينة نظرية جرح الوحش وعدم التمكن من قتله، مما سيجلب المزيد من المآسي على شعب غزة، فيما يقوم حزب الله بمناوشات عسكرية لا تؤذي إسرائيل ولا تقوي موقف الحليف الفلسطيني، مناوشات لا ترقى إلا إلى نظرية ذر الرماد في العيون، فيما تكثر تصريحات الحلف وجعجعاته التي لا يمكن لأحد أن يرى طحنها، مجرد حرب كلامية ومناوشات عسكرية لا تحدث أي فارق في المعادلة، بل يمكن اعتبارها تآمراً على الفلسطينيين وتركهم في مواجهة مصيرهم لوحدهم، وهذا كله ينفي حالة العداء بين إيران وحلفائها وإسرائيل بل ويؤكد على الدور الوظيفي لهما.

بالطبع فإن نفي العداء لا يعني بالضرورة حالة صداقة، فثمة بالتأكيد صراع بين إيران وإسرائيل ولكنه صراع مصالح وليس صراع وجود أو أيديولوجيات، وضمن هذا الصراع ثمة توافق على الكثير من القضايا التي تضمن مصلحة الطرفين، غير أن من المؤكد أن عداء كل من إيران وإسرائيل للعرب هو عداء أصيل يستثمره محور المقاومة لتقوية العلاقات الإيرانية -بأذرعها المختلفة- مع إسرائيل..

لن تعجز إسرائيل عن حزب الله لو كان بينهما حالة عداء حقيقية ولن تعجز أميركا عن إيران مهما كانت مواجهة إيران مكلفة، غير أن سياسة إسرائيل وأميركا تعتمد على “استخدام” الخصم المفترض بدلاً من شن الحرب عليه ولا سيما حينما يكون ذلك الخصم عدو عدوك الحقيقي.

هنا يمكن التفريق بين الخصومة والعداء، فالخصم يمكن التعامل معه واللعب معه والتحالف معه أحياناً بل والتصالح معه إن اقتضى الأمر، الخصم قد يكون شريكاً في بعض القضايا أيضاً، وهذا هو جوهر العلاقة بين أميركا وإيران وبين حزب الله وإسرائيل، فليس ثمة حالة عداء إلا بما تقتضيه مصلحة الطرفين من تصريحات وتصدير لمواقف محددة ليس بالضرورة أن تنضوي على الموقف الحقيقي من الطرف الآخر..

إن العلاقة بين أميركا وإيران وبالتالي بين أتباع إيران وإسرائيل لا تتعدى شكل العلاقة بين توم وجيري في أفلام الكرتون الشهيرة، هي علاقة للتصدير فقط، علاقة مقالب وضربات محدودة الأذى ولا تهدف إلى إزالة الآخر أو إنهاء وجوده، فثمة مسلسل سياسي كرتوني لا يهدف إلى الترفيه بل هدفه التضليل وتلغيز العلاقات والمواقف واللعب بالعواطف للوصول إلى أهداف مختلفة تماماً عن تلك التي يتم الإعلان عنها باستمرار.

في المسلسل الكرتوني توم وجيري -وهو للمفارقة مسلسل من إنتاج أميركي- يبدو الفأر أذكى من القط وهو يستخدم ذكاءه للإيقاع بالقط في كل مرة، ولكن القط الأميركي يلعب بالفأر الإيراني ويوهمه بالذكاء لاستخدامه في المهمات الوظيفية مع احتفاظه بقدرة إنهائه لو تطلب الأمر..

أما الفأر اليمني المستنسخ حديثاً من حزب الله فهو يبحث عن بطولات يقنع بها المغفلين، يبحث عن موقع يرسخ من خلاله مكانة إيران في المنطقة، وهو أمر لا يزعج الإدارة الأميركية والتي أعلنتها صراحة منذ أيام وصرحت عن عدم رغبتها في خوض حرب مع الحوثي وإنما تقليص قدراته في عرقلة التجارة العالمية..

لا أحد يعلم على وجه الدقة كم ستطول حلقات هذا المسلسل الأميركي ولا إلى أي حد سيبقى قادراً على الخديعة رغم انكشاف كواليسه للجمهور، ولكن طالما بقي المنتج والمخرج قادرين على تسويق منتجهما وطالما بقي جمهور جاهز لمتابعة المسلسل والاستمتاع به وتصديق أحداثه، فلا شيء يمنع استمرار كاتب السيناريو في كتابة حلقات جديدة ونصوص باهتة ومملة ودموية في كثير من الأحيان.

—————————

 خريطة فلسطين من الصفقة إلى الحل/ مرح البقاعي

2024.01.29

هل قرأتم قبل اليوم منشوراً بقلم رئيس أميركي يكتبه ويحرّره باللغة العربية على حسابه الخاص الذي يتابعه الملايين في العالم؟

كانت هذه سابقة للرئيس السابق، دونالد ترامب، حين غرد يوم كان رئيسا، قائلا “هذا ما قد تبدو عليه دولة فلسطين المستقبلية بعاصمة في أجزاء من القدس الشرقية”.

أرفق ترامب التغريدة بصورة للخريطة المقترحة للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية في إطار خطة سلام الشرق الأوسط، أو ما اصطلح عليه إعلاميا في ذلك الوقت “صفقة القرن”، وكان مشروعا جدليا يحاول إنهاء النزاع بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وعلى طريقة جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب ومهندس هذه الخطة.

استعادتي اليوم لهذه الواقعة القديمة إلى حد ما سببه أمران: الأول يتعلق بالعودة البالغة القوة للرئيس ترامب إلى الواجهة السياسية في أميركا مع ترشّحه مجدداً إلى سدة الرئاسة في انتخابات 2024 المقبلة، وكذا تزامن هذه العودة مع أحداث الحرب الإسرائيلية الشعواء على قطاع غزة وعلى أهله العزل، بينما تتعالى الأصوات في واشنطن للضغط على إسرائيل بوقف الحرب والمضي في مفاوضات “حل الدولتين” كوضع نهائي تتفق عليه كل الأطراف المنخرطة في النزاع، ويكون أكثر عدلاً من معطيات صفقة ترامب.

لن أدخل هنا في التفاصيل والمقارنة بين الصفقة والحل حيث ينتظرنا شيطان التفاصيل، بقدر ما سأحاول أن أعود إلى الوراء على طريقة فلاش باك لأستعرض شريط الخسارات العربية والفلسطينية منذ نيف وسبعين عاما، في متوالية حروب بين الطرفين الفلسطيني المدعوم عربيا، والإسرائيلي المدعوم أوروبيا وأميركيا، وفي محاولات الطرف الأول استرجاع أرضه المنهوبة رويدا رويدا من قبل إسرائيل، وبغطاء دولي.

سأتوقف في استرجاع الأحداث مع الحلول التي اقتُرحت مع بداية سنوات النكبة الفلسطينية، وفي مقدمتها مشروع الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، وما طرحه على الطرف الفلسطيني من مخارج سياسية تجاري الظرف الميداني في حينها، والمتراجع باطراد في اتجاه الدعم المطلق لإسرائيل ومستوطنيها مقابل التنكّر المبهم لفلسطين وفلسطينييها.

في زيارته لمدينة أريحا في 3 مارس من العام 1965، ألقى بورقيبة خطابا في الشعب الفلسطيني ضمّنه رؤيته لطبيعة الحل الممكن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني ضمن الظروف القائمة.

في خطابه توجّه الرئيس التونسي المؤسس للدولة التونسية الحديثة ما بعد الاستقلال، بالنقد الشديد لسياسة ’الكل أو لا شيء’ التي تتخذ منها القيادات الفلسطينية المتعاقبة من زعامات حركة التحرير نهجا استراتيجيا في تعاملها مع الأزمة الإنسانية والسياسية الكبرى إثر نكبة 1948، والتي شهدت تهجيرا قسريا للشعب الفلسطيني في عملية هي الأبشع والأكبر حجما في اقتلاع شعب برمته من أرضه التاريخية وإعطائها لمهاجرين قدموا من كل بقاع الأرض لا جامع لهم سوى عنصر الهوية الدينية اليهودية.

يقول بورقيبة في خطابه “إن سياسة الكل أو لا شيء هي التي أوصلتنا في فلسطين إلى هذه الحالة، وأصابتنا بهذه الهزائم، خصوصا وقد أبينا إلا أن نتجاهل وجود اليهود، وإلا أن ننكر التطورات والمعطيات الجديدة، وإلا أن نستهين بما حققه اليهود ونبالغ في تقدير قوة العرب وكفاءة جيوشهم”.

ويُسقط بورقيبة الحالة الفلسطينية على التونسية ويقول “وما كنا لننجح في تونس خلال بضع سنوات لولا أننا تخلينا عن سياسة الكل أو لا شيء. ولو رفضنا في تونس في العام 1954 الحكم الذاتي باعتباره حلا منقوصا، لبقيت البلاد التونسية إلى يومنا هذا تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة تحكمها باريس”. ويتابع “أما هنا، فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به “الكتاب الأبيض”، ثم أصابهم الندم وأخذوا يردّدون: ليتنا قبلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها”.

بورقيبة، وقبل ما يقارب الستين عاما، استطاع أن يتنبأ بأن عهدا سيأتي تصل فيه الخريطة الفلسطينية إلى الحال المزري الذي أعلنه الرئيس الأميركي السابق من واشنطن لشكل “الدولة الفلسطينية” الجديدة، وقد بدت أقرب إلى تشكيل تجريدي يجمع بقعا أرضية ضيقة ومتناثرة، لا حدود سيادية لها ولا عاصمة، تربطها أنفاق وجسور ومراكز تسوّق؛ بينما أُسقطت من حساب الدولة الفلسطينية، وعلى طريقة صهر البيت الأبيض كوشنر، روابط الدم والتاريخ واللغة والعروبة والإسلام التي جمعت أهل فلسطين في مقامهم وشتاتهم في آن؛ لا بل طالب الرئيس الأميركي الفلسطينيين باغتنام ’فرصتهم الأخيرة’ ومراعاة المستجدّات، وبالتالي القبول بدولة ’الأوتوسترادات’ المحمية أمنيا من إسرائيل، وإلا خسروا كل شيء!

أما ’الكتاب الأبيض’ الذي تحدّث عنه بورقيبة، فيرجع بتسميته إلى الورق الأبيض الذي كُتب النص عليه لتمييز أهميته، وهو عبارة عن سلسلة من الوثائق الرسمية أصدرتها الحكومة البريطانية على امتداد سنوات إدارتها لفلسطين، وعددها أربع، موجهة إلى العرب الفلسطينيين.

كان أول هذه الوثائق ’كتاب تشرشل الأبيض’ الصادر في العام 1922، حيث سعت الحكومة البريطانية من خلاله إلى إزالة المخاوف التي تشكّلت لدى العرب إثر ’إعلان بلفور’، وذلك بالتأكيد على أن الوطن القومي لليهود الوارد في ذلك الإعلان “سوف لا يكون على حساب سكان فلسطين ككل”، وبأن “الحكومة البريطانية لا تفكر في القضاء على السكان العرب أو إخضاعهم”، وبأن “جنسية الجميع ستكون الجنسية الفلسطينية، والهجرة اليهودية لفلسطين ستخضع للقدرة الاستيعابية الاقتصادية”.

الكتاب الأبيض الثاني، أصدرته الحكومة البريطانية في العام 1928 للتأكيد على الملكية الإسلامية لحائط البراق في القدس، مع حقوق يهودية محددة للوصول إلى الحائط للصلاة.

تلا ذلك كتاب ثالث هو كتاب باسفيلد الصادر في العام 1930 ونص على “التزام الحكومة البريطانية بمصالح مجموعتي السكان من عرب ويهود، وليس بمصالح مجموعة واحدة”.

أما الكتاب الأبيض الرابع الصادر في تاريخ 1939/5/27، وهو ما أشار إليه بورقيبة، فينبني في مبدئه الأساس على إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثّل فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي.

وكان وزير المستعمرات، مالكولم ماكدونلد، هو الذي تبنّاه وعمل على إصداره. وتعهد ماكدونلد بتنفيذه حيث جاء في الجانب الإجرائي للكتاب أنه “سيتم السير في هذه العملية سواء اغتنم كلا الطرفين (العربي واليهودي) هذه الفرصة أم لا”.

تكمن أهمية الكتاب في أنه ظل يشكّل عضد السياسة الرسمية الثابتة للحكومة البريطانية منذ صدوره، وعلى مدى سنوات الحرب العالمية الثانية، على الرغم من محاولات الالتفاف عليه من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة.

ومن نافلة القول إن الكتاب الأبيض الرابع صار إلى فشل ذريع، ليس بسبب محاولات الالتفاف البريطاني الرسمي عليه وحسب، وإنما بسبب غياب قيادة سياسية فلسطينية تضع الاستراتيجيات الرافعة له والدافعة لتنفيذ بنوده، هذا ناهيك عن انتفاء وجود دعم عربي فاعل في الاتجاه ذاته، الأمر الذي غلّب خيار التقسيم بتداعياته التراجيدية على حياة ومستقبل الشعب الفلسطيني كلّه، والعربي جلّه.

    صفقة القرن التي أعلنها البيت الأبيض في العام 2018 بحضور رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، هي الترجمة الأميركية السوداء لكتب بريطانيا البيض

ومن أوراق تشرشل إلى توصيات بورقيبة، مرورا باتفاقية أوسلو وإرهاصاتها، ووصولا إلى صفقة القرن، لا يبقى لقارئ التاريخ الحيادي من خيار إلا تبني “نظرية المؤامرة” التي وصل بها أرذل العمر إلى السبعينيات، وما زالت رياحها الصفراء تضرب بالألم والأمل الفلسطينيين، حتى وصل الحال إلى ما وصل عليه مع الصهر الأميركي المدلل، والأفكار السريالية التي ساقها وبنى عليها تصوراته لمستقبل شعب بكامله هو اليوم لا حول له ولا قوة في غياب قيادات فلسطينية واعية كان بإمكانها أن تجنّبه هذا الانجراف القَدَري نحو الحافات.

صفقة القرن التي أعلنها البيت الأبيض في العام 2018 بحضور رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، هي الترجمة الأميركية السوداء لكتب بريطانيا البيض، تلك التي تمكّن تاج المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس من خلالها تحقيق الهاجس الأممي في إقامة وطن قومي ليهود العالم على “أرض بلا شعب”.

فهل يكون “حل الدولتين” هو الوصف البديل والنهائي والمنصف لحق الفلسطيني المقبوض؟!

أتساءل…

——————————–

 حرب غزة وتفكيك الحلف الأسدي الإيراني/ شادي علاء الدين

2024.01.25

تشظت الساحات بدل أن تتوحد. الحرب الإسرائيلية على غزة أغرت إيران بتشغيل نظام الاستثمارات والتوظيفات المرتبط بها في المنطقة ضمن ضوابط محددة تفيدها في لعبة التفاوض مع الأميركيين. أطلقت من لبنان جبهة مساندة تسببت بأكلاف بشرية واقتصادية هائلة على ربيبها حزب الله وعلى لبنان، استغلته إسرائيل لإظهار مدى الهشاشة الأمنية وعمق اختراقها لبيئته الحاضنة في سلسلة اغتيالات دقيقة، طالت قيادات رفيعة في الحزب بوتيرة متنامية تصل إلى أكثر من عملية في اليوم الواحد.

في اليمن كان تشغيل الحوثيين مكلفا وخطيرا، إذ إنه تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية بتأثيره على طريق التجارة العالمي فكان أن أطلقت حلفا دوليا شرع بتنفيذ ضربات قاسية على الحوثيين في الداخل اليمني وتصفية قياداته.

وكان لافتا أن حراك الحوثيين بدا متجاوزا للتعليمات الإيرانية وخارجا على وصايتها، وكشف عن طموح باحتلال موقع خاص ومستقل داخل تركيبة الممانعة تجعله مفاوضا مستقلا، وتمنحه مكانة تخرجه من الارتباط المباشر بإيران ومن التعامل معه على أنه أحد أذرعها وحسب.

وكانت المغامرة في العراق واستهداف أربيل خطأ استراتيجيا لم تعتد إيران السقوطَ فيه، إذ إنه وعلى الرغم من سطوتها الأمنية والسياسية الكبيرة في العراق بدت خطوتها الاستفزازية مهينة حتى لأقرب حلفائها، كما أسهمت في إيقاظ الوطنية العراقية.

لا يتوقع أنه سيكون من السهل ترميم ما أحدثه هذا العدوان خصوصا مع بروز إشارات الوهن من أماكن عديدة، كما هو الحال في ردّ باكستان على عمليات إيران في أراضيه والإشارات المقلقة عن بروز تصدع أمني داخلي مع عمليات تفجير كرمان، وإقدام عنصر من الحرس الثوري على تصفية خمسة من رفاقه وغيرها من الأحداث المتفرقة في بلد يعيش أجواء ثورة كامنة وشاملة ضد نظام الحكم، كان قد نجح في قمعها ولكنه لم ينجح قي طمس إمكانية تجددها في أي وقت بمجرد نضج الحد الأدنى من الظروف المناسبة.

وفي سوريا التي تمثل درة الاستثمار الأمني والاستراتيجي الإيراني، تقول سلاسل الاغتيالات التي أودت بحياة كبار القياديين في الحرس الثوري في طبيعتها وأماكن تنفيذها ودقتها أن إسرائيل قررت تغيير قواعد اللعبة معها والانتقال إلى مرحلة تخرج من إطار المناوشات المنضبطة إلى مرحلة كسر العظم.

ولكن نجاح الاستهدافات الإسرائيلية وتصاعد وتيرة العمليات وارتفاع شدتها يعني أن الوجود الإيراني في سوريا قد بات متعارضا مع شبكة مصالح عريضة تضم أميركا والعرب والروس والنظام الأسدي الذي يعتبر حليفها الأكبر في المنطقة.

لم يعد سرا نشوء تفاهمات إسرائيلية أسدية تقضي بمنع إيران من استعمال مطار دمشق لنقل السلاح إلى الميليشيات الإيرانية مقابل التوقف عن استهدافه، وكذلك فإن الترتيبات الأمنية التي شملت تغييرات في المواقع القيادية مثل إعفاء علي مملوك من موقعه كمدير لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارا أمنيا للأسد في موقع يفتقد للصلاحيات والسلطات تقول إن النظام يستعد لمرحلة جديدة مختلفة عما سبق.

الحديث عن شراكة أسدية مع إسرائيل في تسريب معلومات استخبارية دقيقة عن المواقع الإيرانية بات علنيا، ويكشف عن أن ذلك الحلف يشرع بالتفكك، وخصوصا بعد فشل المحاولات الإيرانية في انتزاع مكاسب اقتصادية وميدانية ضخمة من الأسد مقابل مشاركتها في حربه ضد الشعب السوري.

لقد حاولت إيران مع انفجار حرب إسرائيل على غزة أن تستعمل نظام الأسد كذراع وتتعامل معه على هذا الأساس، ولكنه رفض ذلك بشدة وحرص على تحييد نفسه من عنوان وحدة الساحات، ويقال إنه رفض مؤخرا طلبا مباشرا من زعيم حزب الله حسن نصر الله بفتح جبهة الجولان.

ذلك التعامل الإيراني مع الأسد الذي ينطوي على احتقار جابهه بفتح عكسي للساحات ضد إيران. عمليا توحدت الساحات في سوريا ضدها في هذه اللحظة وخصوصا مع تطور العلاقات الروسية الإسرائيلية إثر الخلافات الأميركية مع إدارة نتنياهو، ومساعي روسيا للاستفادة من هذا الخلاف في إطالة فترة الحرب وتعقيد مساراتها والاستفادة منها في إشغال أميركا وحجب الأنظار عن حربها على أوكرانيا والتي تنقلب فيها الأمور لصالحها.

التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا ضد إيران يلعب صيغة الدفع في اتجاه تعقيد الأمور وتوتيرها وتعتبره روسيا أساسيا في حربها الدعائية التي لا تكف عن توظيف عنوان تاريخ الحرب على النازية كخطاب عقائدي يوحد بينها وبين إسرائيل.

أميركا من جهتها تعتبر أنه لا بد من توجيه رسائل قاسية إلى إيران للكف عن محاولاتها استهداف الحضور الأميركي في المنطقة، لذلك تعمل على تشجيع الضربات الإسرائيلية ضدها في سوريا، كما تقوم قواتها بتنفيذ ضربات تطلق رسائل حول مدى جديتها في خوض المعركة وفرض حصر التفاعل مع الحرب على غزة في الميدان السوري.

كذلك فإن الانفتاح العربي على الأسد والذي يبدو أنه سيتوج قريبا بزيارة شخصية كبيرة إلى سوريا في الشهر المقبل مرتبط بالانفصال عن إيران، حيث يتوقع أن يعمل العرب على إعادة إنتاج علاقات الأسد الدولية، ومساعدته على الخروج من نفق العقوبات الأوروبية والأميركية، مقابل فض حلفه مع إيران، ما يجعل استمراره في السير فيه خسارة صافية.

إيران ترى نفسها محاصرة في أكثر من ميدان بعد أن بدا أن استثماراتها في تحريك أذرعها في المنطقة قد عاد عليها بنتائج عسكية. التنازلات المطلوبة منها لا توازي ما تتوقعه من أرباح وما كانت قد وضعته من استثمارات بشرية ومادية ضخمة وما راكمته من نفوذ، لذا يبدو أنها ستكون مضطرة إلى الاختيار بين تنازل درامي وشامل يقلص نفوذها إلى الحدود الدنيا أو الركون إلى خيار انتحاري بتصعيد يضعها في مواجهة مباشرة مع تجمع قوى كبرى تتحالف مع حليف لم يعد سابقا وحسب، بل بات بمنزلة العدو الأخطر.

————————-

 الاستهداف الإسرائيلي والوعيد الإيراني/ عمر كوش

2024.01.23

ازدادت، في الآونة الأخيرة، وتيرة الاستهداف الإسرائيلي لقادة عسكريين كبار في “الحرس الثوري” الإيراني، خلال وجودهم على الأراضي السورية، وكان آخرَها قصف إسرائيلي استهدف بناية سكنية في حي المزة بدمشق، أدّى إلى مقتل مسؤول استخبارات “فيلق القدس” في سوريا، صادق أوميد زادة، إلى جانب نائبه حاج غلام وضابطين إيرانيين آخرين.

وكالعادة توعد النظام الإيراني بالرد على مقتلهم، وعلى طريقة النظام السوري، في المكان والزمان المناسبين، فيما تولى وزير خارجية النظام فيصل المقداد، تكرار ما لم يملّ النظام من تكراره حول أن “الإسرائيليين سيدفعون الثمن عاجلاً أو آجلاً”.

طبعاً لن يفعل نظام الأسد أي شيء يؤذي إسرائيل، بل على العكس سيمضي في الحفاظ على تحويل مناطق سيطرته ملعباً إسرائيلياً، تستهدف فيها ما تشاء، فيما لن يكون رد النظام الإيراني استهداف أي شخصية عسكرية إسرائيلية، بل الإيعاز لأحد وكلائه بإطلاق صواريخ نحو إسرائيل، أو استهداف القواعد العسكرية الأميركية، خاصة في سوريا والعراق، وربما في البحر الأحمر، وذلك عبر استهداف جماعة الحوثي اليمنية لسفن تجارية إسرائيلية وأميركية.

الاستهداف الإسرائيلي جاء بعد توتر العلاقات بين النظام الإيراني وحكومتي بغداد وإقليم كردستان العراق على خلفية قصف إيران ما ادعته مقار للموساد الإسرائيلي في مدينة أربيل، والرد الباكستاني السريع على القصف الإيراني لمواقع “جبهة تحرير بلوشستان”.

لكنه عمّق في الوقت نفسه التساؤلات حول مدى الانكشاف الأمني للوجود العسكري الإيراني في سوريا أمام عمليات إسرائيل، ودفع بعض الأوساط الإيرانية إلى اعتبار أن من أعد سيناريو الهجمات الإيرانية على العراق وسوريا وباكستان، مهما كانت مبرراته، خدم إسرائيل خدمة كبيرة وعمل لصالحها، ولصالح معارضي إيران في دول الجوار.

اللافت أن الولايات المتحدة تعتبر “أوميد زادة” العقل المدبر لهجمات الميليشيات الإيرانية على القوات الأميركية في سوريا، الأمر الذي يشي بوجود تنسيق استخباراتي عالي المستوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مثل هذه العمليات.

لكن الأهم أن تواتر العمليات النوعية، التي تستهدف قادة عسكريين كباراً في “الحرس الثوري” واستخباراته في سوريا، يطرح أسئلة حول مدى اختراق الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية للحرس، ولأجهزة الاستخبارات التابعة للنظام السوري، وقدرتها على تجنيد عملاء إيرانيين وسوريين يملكون معلومات دقيقة، وبما يجعل عمليات الاستهداف تحقق غايتها، إذ سبق أن قتلت إسرائيل، رضي الموسوي، المسؤول العسكري الكبير في “فيلق القدس” بضاحية السيدة زينب جنوبي العاصمة دمشق، إضافة إلى استهدافها المتكرر لمواقع إيرانية في سوريا، وشن هجمات على مجمعات ومنشآت عسكرية ونووية داخل إيران، فضلاً عن اغتيالاتها التي طالت قادة من حركة حماس، ومسؤولين عسكريين في “حزب الله” اللبناني، وفي ميليشيات أخرى موالية لنظام الملالي الإيراني.

اعتبرت أوساط إعلامية داخل إيران أن عملية الاغتيال تشكل صدمة وحيرة، كونها تأتي بعد أقل من شهر على مقتل رضي الموسوي، وطالبت بعض الصحف الإيرانية بضرورة إيجاد بروتوكول أمني جديد لحماية القادة العسكريين في سوريا، لأنه من الممكن أن تحدث اغتيالات أكثر مرارة في المستقبل، ولم تتردّد في اتهام النظام السوري بأنه مخترق إسرائيلياً.

في المقابل، نظرت صحف إيرانية أخرى إلى الاغتيالات من جهة الآثار الاقتصادية المترتبة على التصعيد العسكري في المنطقة، التي تظهر بسرعة على الاقتصاد الإيراني، لأنه فقد قوته وتحمله في مواجهة الأزمات، ورأت بضرورة أن تسلك إيران نهجاً يؤدي إلى خفض التوتر وإنهاء التصعيد.

الملاحظ أن بعض المعلقين الإيرانيين بدأ بإثارة تساؤلات عن ممكنات تزويد نظام الأسد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بمعلومات حول تحركات القادة العسكريين والأمنيين الإيرانيين في سوريا، ما يشي بأن أصابع الاتهام بدأت بالتوجه نحو أجهزة الأسد الأمنية.

لكن ذلك لا يخفي حجم تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في إيران نفسها، وتجنيدها إيرانيين كثيرين للعمل لصالحها، وما يدعم ذلك هو تحذيرات العديد من مسؤوليها من ازدياد حجم هذا التغلغل، حيث وصلت تحذيرات بعض مسؤولي النظام الإيراني إلى حدّ القول بأنه بات على جميع المسؤولين الإيرانيين القلق على حياتهم.

وقد سبق لإسرائيل أن نفّذت عمليات عديدة داخل إيران، كان أبرزها اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في مقاطعة “دماوند” شرقي العاصمة طهران، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الأمر الذي أربك المؤسسات الأمنية والإعلامية الإيرانية، التي راحت تتقاذف المسؤوليات حول التقصير في حماية “أبو القنبلة النووية الإيرانية”، بحسب ما كان يلقّب “فخري زادة”.

لا تخرج الاغتيالات التي تنفّذها إسرائيل بحق قادة عسكريين إيرانيين عما تخوضه إيران وإسرائيل من صراع خفي، أو ما يدعى “حرب ظل”، لكن الطرف الإيراني عادة ما يكون رد فعله على العمليات الإسرائيلية عن طريق وكلائه في المنطقة وخاصة “حزب الله” اللبناني، والأمر يتعلق بالتنافس على الهيمنة بين المشروعين التوسعيين لكل من إسرائيل وإيران، وسعي الطرفين إلى تجنب المواجهة المفتوحة، وعدم المخاطرة بمواجهة قد تفضي إلى حرب بينهما.

وذلك على الرغم من أن بعض الأوساط السياسية الإسرائيلية تطالب باستهداف إيران بصورة مباشرة، بدلاً من استهداف مخالبها في المنطقة، تطبيقاً لنظرية قطع رأس الأخطبوط بدلاً من أذرعه، التي يتبناها العديد من ساسة إسرائيل، خاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، بحسب تصريحه لمجلة “إيكونوميست” البريطانية في يونيو/ حزيران 2022، حيث طالب باعتماد إسرائيل معادلة جديدة في المنطقة، وفق ما سماه “عقيدة الأخطبوط”، التي تقضي باستهداف “المنبع”.

تأتي التساؤلات عما إذا كانت أجهزة النظام السوري نفسه متورطة بتقديم معلومات لإسرائيل عن تحركات القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، بعد تحذيرات وتهديدات إسرائيلية للنظام ولبشار الأسد شخصياً للنأي بنفسه عما يجري في المنطقة، وسط استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والقصف الإسرائيلي شبه اليومي والأسبوعي على مطاري في دمشق وحلب، وعلى منشآت ومواقع عسكرية إيرانية في سوريا، فيما يكتفي النظام بتكرار عبارته الفارغة: “الدفاعات الجوية تصدت لصواريخ العدوان”.

ومع ذلك تمضي كل من إسرائيل وإيران في استباحة الأرض السورية وجعلها ساحة للمناوشات بينهما، ضمن معادلة الاستهداف الإسرائيلي والوعيد الإيراني، التي تعمل إيران وفقها بضبط حجم ردود فعلها بعد كل استهداف إسرائيلي.

———————————-

 لماذا حركت طهران أكثر من جبهة إقليمية؟/ سمير صالحة

2024.01.21

يبحث كثير من المتابعين في أسباب الهجمات التي تنفذها إيران بشكل مباشر في اتجاه أكثر من مكان في العراق وسوريا وباكستان، وبشكل غير مباشر عبر وكلاء وشركاء لها في البحر الأحمر وجنوبي لبنان.

تصعد طهران ضد إسرائيل لكنها تبقي حصة العديد من الدول والعواصم قائمة. استهداف أربيل إيرانيا مهم بالنسبة لإسرائيل، واستهداف إدلب مهم بالنسبة لتركيا وروسيا، واستهداف باكستان مهم بالنسبة لأميركا. فكيف ستقاوم طهران التصعيد ضدها على كل هذه الجبهات أم هي تستفيد من حالة التباعد والتشرذم والتوتر بين هذه الأطراف واستحالة توحدها والتقاء مصالحها ضدها؟

تعاني طهران من ضربات موجعة تلقتها على أكثر من جبهة. اغتيالات وتصفيات واستهداف مباشر لقياداتها ونفوذها داخل إيران وخارجها، ولا يمكن لها أن تلتزم الصمت وعدم الرد. لكنها تدرك أيضا أن الرد ينبغي أن يكون مدروسا وأن لا يبتعد عن شعار “الصبر الاستراتيجي” والاكتفاء بعرض العضلات وتوجيه رسائل سياسية وأمنية واقتصادية أكثر مما هي محاربة التنظيمات الإرهابية في إدلب وعلى الحدود مع الجارة الباكستانية كما تقول.

لماذا تغامر إيران في التسبب بشرخ علاقاتها مع دول المنطقة أكثر مما هي عليه؟

تستخدم طهران أذرعها الإقليمية عند اللزوم وتتحرك بشكل مباشر عند الضرورة.

تريد من الوكلاء المحليين أن يحاربوا نيابة عنها في مكان كما يحدث اليوم في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتتدخل هي في المواجهات الإقليمية الصعبة التي تستدعي ذلك كما يحدث على الحدود الإيرانية الباكستانية. لماذا أقحمت إيران باكستان في لعبتها الإقليمية وفي هذه الآونة تحديدا؟ لأن الجميع في ساحة لعب أمنية سياسية اقتصادية واحدة. ولأن ما يجري يندرج في إطار محاولة خلط أوراق المشهد في غزة والبحر الأحمر وشرقي المتوسط والدليل هو الحشود العسكرية الأميركية الأوروبية الروسية الصينية في المنطقة.

قد يكون فتح الطريق أمام المواجهة التركية الإيرانية وتخفيف الأعباء عن إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والاصطفاف الإقليمي والدولي ضدها بين الأهداف الغربية في لعبة التوازنات الجديدة. لكن تحذيرات وتهديدات أنقرة للسليمانية في الآونة الأخيرة، تعني كذلك إيران التي تنسق مع بافل طالباني وتوفر له الحماية والدعم في مواجهة أربيل وقياداتها المنفتحة على تركيا. تتحمل طهران المسؤولية الكبيرة بسبب قبول مهمة مواجهة تركيا في المنطقة بقرار غربي إسرائيلي، خصوصا وأن هناك شبه إجماع على وجود تفاهمات إيرانية إسرائيلية حول حدود التصعيد والشحن في الملفات الخلافية بينهما.

تستمد طهران قوتها من التصعيد الإسرائيلي. وتستفيد تل أبيب إلى أبعد الحدود من التصعيد الإيراني. “شيلني أشيلك”. هدف طهران عبر تحريك ورقة البحر الأحمر هو أبعد من محاولة تمرير رسائل ضغط على تل أبيب، بقدر ما هو محاولة التذكير بنفوذها وحصتها هناك التي لن ترضى أن تهدر أو تتحول إلى مساومات إقليمية على حسابها.

ترحيب الصحف الإيرانية الأكثر انتشارا والمقربة من السلطة الحاكمة بالهجمات الأخيرة واعتبارها شكلا من أشكال الانتقام “الذي سبق أن توعدت به طهران”. إلى جانب التبريرات التي يسوقها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حول أن هجمات الأيام الماضية هي بمنزلة عمليات رد محدود لا علاقة لها بالوضع في غزة، “لكنها تتضمن رسائل مباشرة لإسرائيل والمجموعات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي الإيراني”، لا يمكن أن تغفل حاجة إيران إلى تحرك إقليمي من هذا النوع باتجاه الداخل الذي يعاني من موجات احتجاج اجتماعي اقتصادي إصلاحي يقود إلى انفجار الشارع بين الحين والآخر.

تحدث دبلوماسي مصري عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة لبحث تطورات الوضع في البحر الأحمر. مصادر مصرية تتحدث أيضا عن “اتصالات مكثفة أجرتها القاهرة مع مسؤولين في جماعة الحوثيين وإيران، لمنع اتساع تأثير الهجمات الحوثية على التوازنات الحساسة القائمة في البحر الأحمر وحركة المرور في قناة السويس على وجه الخصوص. هناك من يردد في العاصمة المصرية أيضا أن القاهرة أكدت للإدارة الأميركية خطورة سيناريو الحسم العسكري في باب المندب، وأنه من الأفضل الدفع نحو حل يعجل بإنهاء السبب الرئيسي، وهو الحرب الدائرة في قطاع غزة. هناك من يردد أيضا أنه بين التطمينات التي قدمها المسؤولون في القاهرة لجماعة الحوثي، التقدم الملموس في المباحثات الجارية مع الجانب الإسرائيلي لزيادة حجم المساعدات التي تمر لقطاع غزة كتسوية ترضي أكثر من طرف. مصر حريصة على حماية مصالحها وإبعاد التوتر عن المناطق التي تشكل حديقتها الخلفية، لكن رغبة القاهرة بالتهدئة قد تخدم الحسابات الإيرانية الإسرائيلية دون علم الجانب المصري. ما الذي كانت تريده طهران أو تحلم به أكثر من ذلك؟

لو كانت إيران جادة فيما أعلنته حول قرار الدخول في المواجهات المباشرة لما فرطت بأكثر من فرصة سانحة منحتها تل أبيب وواشنطن لها في الأعوام الأخيرة وهي لا تقل أهمية وقيمة عن الفرص القائمة اليوم.

لا تقود الهجمات الإيرانية في أربيل وإدلب والبحر الأحمر وباكستان إلى قناعة أن طهران قررت تبديل طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية الأمنية التي تعنيها، ولا تدفع باتجاه استنتاج أن الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحسوبة عليه وتتحرك باسمه في المنطقة، قررت تبديل أسلوب المواجهة من الخلف إلى الأمام. فلا طهران راغبة بذلك ولا واشنطن وتل أبيب أيضا.

ما يبعد كثير من هذه السيناريوهات هو احتمال حدوث تحرك أميركي إسرائيلي عسكري مباشر ضد إيران وقواعدها في المنطقة، وهو خارج التوقعات في هذه الآونة أيضا. إلا إذا صحت تنبؤات رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني السابق، حشمت فلاحت بيشه، الذي يرى أن مجمل التطورات الأخيرة يسير في الاتجاه الذي يريده نتنياهو والمتطرفون الإسرائيليون. “نتنياهو سيحوّل موضوع الحرب مع إيران إلى قضية انتخابية، وفي حال أصبح ترامب منافسا لبايدن فإن الديمقراطيين حينذاك لن يكتفوا بحرب محدودة مع إيران، لأنهم إذا لم يخوضوا الحرب معها فإن ترامب سيكون هو الفائز”.

يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إن طهران تحترم سيادة الدول الأخرى ووحدة أراضيها، لكنها في الوقت نفسه تستخدم “حقها المشروع والقانوني لردع تهديدات الأمن القومي”. ويقول الإعلامي اللبناني أيمن جزيني “منذ عام 1979 ونحن ننتظر ونترقّب. لا الشيطانان أزاحا نظام الملالي، ولا الأخيرون طردوا الشيطانَين، أو “طهّروا” المنطقة منهما”. تبحث طهران عن فرص ووسائل تعطيها ما تريده من الغرب وإسرائيل والعديد من اللاعبين الإقليميين عبر التهديد بإشعال الجبهات وتفجير الإقليم دون المضي وراء خطوة تنفيذ ذلك.

شكلت الحكومة العراقية وفداً برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي لزيارة أربيل والاطلاع على الخسائر التى ألحقتها الضربات الإيرانية بتلك المناطق؛ حيث أكد الأعرجي أن “ادعاءات استهداف مقر للموساد في أربيل لا أساس لها من الصحة”، وأن الأهداف التى ضربتها إيران هى أهداف مدنية وليست عسكرية أو استخبارية. يبدو حتى الآن أن أبرز نتائج الهجمات الإيرانية على العديد من الأماكن والمناطق المحسوبة على أميركا في المنطقة هي إثبات انهيار استراتيجية بايدن وفريق عمله في الشرق الأوسط لا أكثر.

—————————-

 بين إيران وأميركا… حرب كبرى أم تسوية كبرى؟/ منير الربيع

2024.01.19

لم تتغير الاستراتيجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء دولة إسرائيل وزرعها كمشروع غربي متقدم في قلب المنطقة، والهدف هو توفير الحماية له. ترتكز الاستراتيجية على أن هذه المنطقة يجب أن تبقى قائمة على أربع صفائح متوازنة مع ترك هامش تفوقي ومتقدم لإسرائيل، وهي الصفيحة الأولى، أما الصفيحة الثانية فهي تركيا، والثالثة إيران فيما الرابعة هي العالم العربي والذي كان في مرحلة الخمسينيات والستينيات تنافسياً بين مصر من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، وسط استقطاب مضاد بين الجانبين للدول العربية الأخرى. تجد واشنطن أن مصلحتها الاستراتيجية هي في إبقاء هذه الصفائح متوازنة فلا تتغلب إحداها على الأخرى وإن كانت الاهتزازات قائمة ومستمرة. لأن أي اختلال بميزان قوى الصفائح سيضر بالمصلحة الأميركية البعيدة المدى ضمن لعبة الإدارة الأميركية للحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، أو ضمن لعبتها في إدارة النظام العالمي بعد سقوطه.

لذلك وعلى الرغم من تغير في الأنظمة أو طبيعتها أو وجهاتها لا تزال الاستراتيجية الأميركية هي نفسها، فتحفظ الرعاية لإسرائيل التي توفر تفوقها، وتتصاعد حيناً أو تنخفض أحياناً مع الصفائح الأخرى. والأهم أن كل صفيحة من هذه الصفائح لها ما يشغلها من الداخل إما بصراعات سياسية أو بأزمات اقتصادية وعقوبات، كما أن هذه الصفائح الأربع والتي تبحث عن مشاريع أكبر لتوسيع نفوذها تبقى في حالة تنافس وتصارع مع بعضها بعضا، وهذا مشهود أيضاً وسط سياسة أميركية جلية منذ اجتياح العراق والانكفاء في سوريا ما عزز دور إيران ونفوذها وصولاً إلى اليمن.

تمنع واشنطن أي طرف من الانتصار على الآخر وأن تعزز دوره أو حضوره، وتبقى له مشكلات كثيرة تشغله. فيما لا يخفي الأطراف الأربعة السعي إلى انتزاع حظوة أكبر من واشنطن، كما تحاول أن تفعل إيران دوماً من خلال حلفائها في المنطقة وهو ما يجري حالياً على وقع الحرب على قطاع غزة وتحريك الجبهات الأخرى. واللافت أن كل هذه الأطراف تحاول استمالة أميركا من خلال الذهاب إلى تنويع خياراتها باتجاه الصين وروسيا تعبيراً عن غضب من السياسة الأميركية، ولعل ذلك يدفع واشنطن إلى إعطاء المزيد من المكاسب. إسرائيل قامت بذلك مع الصين ومن خلال الدخول في مباحثات حول شراكة استراتيجية بمشروع الحزام والطريق، جاء ذلك بعد ذهاب أميركا إلى اتفاق نووي مع طهران وعدم الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الإسرائيلية.

طهران في الأساس تضع نفسها في الوسط، على طريق التفاوض الدائم مع أميركا، وذات علاقة استراتيجية مع الصين وروسيا والانخراط إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا. المملكة العربية السعودية لجأت إلى تنويع الخيارات والتحالفات بعد الاتفاق النووي مع إيران وبعد تخلف أميركا عن الالتزام بمقتضيات التحالف إثر الضربات التي وجهها الحوثيون إلى منشآت أرامكو. تركيا العضو الأبرز في الناتو، تحفظ علاقاتها الروسية جيداً، في حين تحتفظ أميركا بعلاقة قوية مع الأكراد وتستمر بدعمهم أيضاً بكل ما يزعج أنقرة ويبقيها على قلق.

تؤشر هذه الأمثلة البسيطة على المسار الأميركي المعتمدة مع دول المنطقة، وكل واحدة منها حاولت الخروج عن كنف واشنطن تلقت ما يلزم من رسائل أو ضرب تحت الحزام بما في ذلك إسرائيل التي تخوض حرباً تعتبرها وجودية بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تجد إلى جانبها لا الصين ولا روسيا بل أميركا وحدها. في المقابل تسعى إيران إلى توسيع إطار الجبهات بدون الذهاب إلى حرب، لعلها تصل الى اتفاق شامل وكبير مع اميركا. ولذلك رفع الإيرانيون قبل فترة شعاراً أبلغوه للأميركيين إما حرب كبرى أو تسوية كبرى وشاملة. يعرف الإيرانيون أن أميركا لا تريد الحرب، فسعوا إلى توسيع هامش تحركاتهم مع حلفائهم إلى البحر الأحمر لتوسيع تطاق التسوية الشاملة.

ما تريده إيران هو طريق معترف به وبنفوذها عليه إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بأربيل والموصل عبر سوريا وصولاً إلى لبنان. وما تريده أيضاً ترسيخ نفوذها في المتوسط انطلاقاً من معيار نفوذها لبنانياً في مجالات ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز. وما تريده أيضاً هو الربط السياسي بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، لذلك نزل الحوثيون بثقلهم وهم على يقين بأن أميركا لا تريد الحرب، وهي التي منعت قوات التحالف العربي من خوض معركة الحديدة والسيطرة عليها، وهي من منحتهم هذا الدور. إثر هذه التحركات جاء ما كشفه السفير الإيراني في سوريا عن تلقي طهران لعرض أميركي حول التفاوض على اتفاق يشمل المنطقة برمتها.

إثر هذا العرض، وسعياً وراء توفير ظروف التفاوض وتجديدها بعد تعثرها في سلطنة عمان، ومع اشتداد المعارك في قطاع غزة. لجأت طهران إلى توسيع هامش هجماتها وهذه المرة دخلت بشكل مباشر عبر استهداف أربيل وباكستان وهي تعلم أن أميركا لا تريد الحرب، إنما ستستخدم هذا التحرك الإيراني للضغط على إسرائيل والانتقال إلى مرحلة ثالثة من الحرب على غزة والبحث عن اليوم التالي لتجنب حرب إقليمية أصبحت تطل برأسها بفعل الهجمات الإيرانية. ما تريده طهران هو الحصول على اعتراف بنفوذها في العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، ومنع أي حل للقضية الفلسطينية في حال سيكون موجوداً بدونها، والأهم أنها تسعى للبحث عن ضمانات اقتصادية وسياسية في دول ترسيخ النفوذ لتجنب الانهيارات والانفجارات بوجهها. كان الله بعون غزة.

————————-

 حرب غزة والفجوة بين الحكام والشعوب/ عدنان علي

2024.01.18

طوت الحرب الإسرائيلية على غزة مئة يوم من عمرها دون أن تلوح في الأفق نهاية قريبة، وسط تألق فلسطيني في الصمود والتضحية، وصلف واجرام من جانب إسرائيل قل نظيرهما، مقابل حالة من العجز والسلبية في المواقف الدولية، وعلى الأخص العربية.

ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر الماضي، بدا أن معظم المواقف العربية الرسمية كانت تراهن، ولو سرا، على حرب سريعة تتمكن إسرائيل خلالها من هزيمة حماس، ويواصل الجميع سياستهم السابقة كالمعتاد، لأن ما قامت به المقاومة في 7 أكتوبر، شكل “إزعاجا” لهذه السياسات، وخاصة بالنسبة للدول التي كانت تسير في درب التطبيع مع إسرائيل.

غير أن صمود الفصائل في غزة، وطول أمد الحرب، وما ارتكبته وترتكبه العصبة المتطرفة الحاكمة في تل أبيب، من فظائع ضد المدنيين، كل ذلك سبب إرباكا في المواقف الرسمية العربية التي عجزت عن انتهاج سياسة واضحة وحازمة تجاه إسرائيل، وتدرج موقف معظمها من الدعوة إلى التهدئة والهدن (وليس لوقف إطلاق نار) خلال الأسابيع الأولى مهتدية بالمواقف الأميركية والغربية التي ساندت إسرائيل بقوة، ودافعت عن “حقها” في الدفاع عن نفسها دون قيود، لتنتقل بعض المواقف الرسمية العربية إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، وفق ما صدر عن القمة العربية الإسلامية الطارئة في اليوم السادس والثلاثين للعدوان (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) بعد مقتل نحو عشرة آلاف فلسطيني معظمهم مدنيون، لتتبنى بعد ذلك موقف الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار.

وفي الإجمال، كانت هذه الدعوات هي أقصى ما بلغه الموقف الرسمي العربي، دون اتخاذ أو التهديد باتخاذ أية خطوات عملية ضد إسرائيل، مثل قطع العلاقات معها ووقف عمليات التطبيع والعودة لسياسة المقاطعة أو حتى فتح معبر رفح من جانب مصر بغض النظر عن معارضة إسرائيل، ناهيك عن إعلان الدعم للمقاومة والإشادة بأدائها، بل ظلت المواقف الرسمية تحرص على التمسك البليد بمسار التسوية الفاشل، والمرفوض إسرائيليا على أية حال.

والواقع أن ثمة عوامل عدة يمكن من خلالها تفسير هذه المواقف العربية الرسمية الهزيلة حيال العدوان على غزة، والقضية الفلسطينية بشكل عام، مثل الأوضاع الداخلية في العديد من البلدان العربية التي تعيش صراعات وخلافات في ظل توجس الأنظمة العربية من كل ما له صله بالثورات أو التحركات الشعبية غير المنضبطة. وهي إذ تخشى من التحركات الثورية أو الشعبية، باتت أكثر هشاشة في مواجهة الضغوط الخارجية، وتشعر أنها أكثر احتياجا للدعم الخارجي، الأميركي والغربي، وحتى الإسرائيلي بالنسبة للبعض منها، خاصة في ظل التهديدات أو العلاقات غير المريحة مع إيران. بمعنى أنها ما زالت تراهن على العلاقة مع الغرب، كمصدر رئيسي لاستقرارها وداومها في الحكم، بالرغم من اهتزاز هذه الفرضية بعد تخلي الغرب عن حكم الرئيس حسني مبارك في مواجهة الحراك الداخلي. كما أن الطابع الإسلامي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، يثير مخاوف إضافية لدى هذه الأنظمة التي تتوجس من كل التيارات الإسلامية التي تصدرت المشهد في موجات الربيع العربي الداعية إلى التغيير الداخلي. وهذه العدائية من جانب الأنظمة، دفعت حماس والجهاد لفتح خطوط مع إيران لتلقي الدعم المالي والعسكري، وهو ما زاد بدوره من الفجوة مع الأنظمة العربية التي حصرت نظرتها للمقاومة من خلال علاقتها بإيران، وليس من خلال واجباتها تجاه القضية الفلسطينية، أو مقتضيات الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي.

وجاءت عملية 7 أكتوبر من جانب المقاومة الفلسطينية، كعامل تحد واستفزاز لسياسات هذه الأنظمة الماضية في طريق التطبيع مع إسرائيل، والتخلص من تبعات وارتدادات موجات الربيع العربي.

وقد كشف المسؤول الأميركي السابق دينيس روس أنه تحدث مع عدد من الزعماء العرب بعد 7 أكتوبر يعرفهم منذ فترة طويلة، وقد أخبروه أنه لا بدّ من تدمير حماس في غزة، لأنها إذا خرجت منتصرة في الحرب، فإن ذلك سيضفي شرعية على الأيديولوجيا التي تتبناها في عموم المنطقة.

وكامتداد لسياسات الأنظمة العربية، أعادت الحرب تسليط الضوء على دور السلطة الفلسطينية التي أخرجتها حماس من غزة عام 2007، وباتت السلطة اليوم أحد الخيارات المطروحة لملء فراغ “اليوم التالي” للحرب، بالرغم من معارضة حكومة نتنياهو لهذا الخيار معتبرة أن السلطة لا تختلف كثيرا عن حماس، فيما يطرح الأميركيون مسألة “تنشيط” السلطة و”إصلاحها” كشرط لمنحها دورا في إدارة غزة. ولا يخفى أن الحديث الأميركي عن سلطة فلسطينية مجددة هدفه الوصول إلى سلطة مطواعة لإسرائيل، تحارب معها فكرة المقاومة ماديا وثقافيا.

وفي المقابل، فالموقف الشعبي العربي متفاعل بقوة ومتعاطف بشكل شبه كلي ليس مع محنة الشعب الفلسطيني في غزة وحسب، بل إلى حد بعيد مع فكرة المقاومة للاحتلال، بالرغم من تحفظ بعض الفئات على حركة حماس، أو حركات الإسلام السياسي، معتبرين أن الوقت غير ملائم لإثارة هذه التحفظات، طالما أن العدوان مستمر.

ووفق استطلاع للرأي أجراه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” بين 12 كانون الأول/ديسمبر و5 كانون الثاني/يناير الجاري حول الحرب على قطاع غزة، اعتبر معظم المواطنين العرب أن الحرب على غزة تمسّهم مباشرة، وعبّر 97 بالمئة من المشاركين بالاستطلاع عن شعورهم بضغط نفسي نتيجة للحرب على غزة، و85 بالمئة قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير. وحول مشروعية عملية حماس في 7 أكتوبر، اعتبر 85 بالمئة أنها مقاومة مشروعة بغض النظر عما شابها من أخطاء محدودة. وأجمعَ الشارع العربي على اعتبار القضية الفلسطينية هي “قضية جميع العرب وليست الفلسطينيين وحدهم” بنسبة 92 بالمئة. وعبر معظم المستطلع رأيهم عن عدم رضاهم إزاء مواقف الحكومات العربية إزاء الحرب على غزة وطالبوا بقطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء عمليات التطبيع معها، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة من دون موافقة إسرائيل، واستخدام سلاح النفط من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، فيما حث البعض على إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل.

——————————-

 الحرب على غزة والفشل الإسرائيلي/ رضوان زيادة

2024.01.17

مضت 100 يوم على الحرب الإسرائيلية على غزة في أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ عام 1948 لقد غزت إسرائيل شمالي غزة بنحو 40 ألف جندي مقاتل، ثم عزلت شمالي غزة عن جنوبها وبدأت بقصف غزة بواحدة من أعنف حملات القصف في التاريخ. ونتيجة لذلك نزح ما يقارب من مليوني شخص من منازلهم. وقد قُتل أكثر من 24 ألف شخص وفقا للإحصاءات الصحية في غزة تقريبا نحو الثلثين من النساء والأطفال، وقد اعترفت وزارة الخارجية الأميركية أن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك. وقصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف ودمرت نحو نصف المباني في شمالي غزة. ما أدى إلى قطع جميع إمدادات المياه والغذاء وتوليد الكهرباء تقريبا عن سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وبأي تعريف، تعتبر هذه الحملة بمنزلة عمل ضخم من أعمال العقاب الجماعي ضد المدنيين. ولذلك لم يكن مستغربا أبدا اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة.

وحتى الآن، مع توغل القوات الإسرائيلية بشكل أعمق في جنوبي غزة، فإن الهدف الدقيق للنهج الإسرائيلي ليس واضحاً على الإطلاق. ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يردد أن القوات الإسرائيلية تستهدف حماس وحدها، فإن كل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل تهدف إلى تحطيم غزة ومحوها من الوجود كما أشار أكثر من وزير إسرائيلي في حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.

بالرغم من كل ذلك فإن الأهداف التي وضعها الجيش الإسرئيلي في القضاء على حماس وتحرير الرهائن لم يتحقق شيء منها، وهو ما يعكس الفشل الذريع للجيش الإسرائيلي في التصدي لهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول أولا، وثانيا في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها القيادة الإسرائيلية.

وأياً كان الهدف النهائي فإن التدمير الجماعي الذي تلحقه إسرائيل بقطاع غزة يثير مشكلات سياسية وأخلاقية عميقة لإسرائيل خاصة بعد الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، مفندة الحجج الإسرائيلية ومتهمة الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها هدفت إلى الإبادة الجماعية بشكل جزئي أو كلي للسكان الفلسطينيين في غزة.

وفوق ذلك كله لابد من القول إن العقوبات المدنية الجماعية لم تقنع سكان غزة بالتوقف عن دعم حماس. بل على العكس من ذلك، فقد أدى ذلك إلى تفاقم الاستياء بين الفلسطينيين. كما أن الحملة لم تنجح في تفكيك حماس التي كانت مستهدفة ظاهريا. وبعد ما يزيد عن مئة يوم من الحرب وتدمير غزة، إلا أن إسرائيل لا تستطيع تدمير حماس. في الواقع، قد تكون حماس الآن أقوى مما كانت عليه من قبل.

إن إسرائيل ليست الدولة الأولى التي تخطئ عندما تضع ثقتها المفرطة في القوة الجوية. يُظهر التاريخ أن القصف واسع النطاق للمناطق المدنية لا يحقق أهدافه أبدًا. وأعتقد أن التجربة السورية أكبر دليل على ذلك.

فالقصف الجوي يهدف إلى إجبار المدنيين على الاستسلام وتحطيم معنوياتهم. وتقول النظرية إنه عندما يتم دفعهم إلى نقطة الانهيار، فإن السكان سوف ينتفضون ضد حكوماتهم ويغيرون مواقفهم. وصلت استراتيجية العقاب القسري هذه إلى ذروتها في الحرب العالمية الثانية. يتذكر التاريخ القصف العشوائي للمدن في تلك الحرب: هامبورغ (40 ألف قتيل)، ودريسدن (25 ألف قتيل).

والآن يمكن إضافة غزة إلى هذه القائمة سيئة السمعة. وقد شبه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحملة الحالية بمعركة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وبينما نفى تورط إسرائيل في العقاب الجماعي اليوم، أشار إلى أن غارة جوية تابعة لسلاح الجو الملكي استهدفت مقر الجستابو في كوبنهاغن أسفرت عن مقتل العشرات من تلاميذ المدارس.

وما لم يذكره نتنياهو هو أن أياً من جهود الحلفاء لمعاقبة المدنيين بشكل جماعي لم تنجح فعلياً. في ألمانيا، تسببت حملة قصف الحلفاء، التي بدأت في عام 1942، في إحداث دمار كبير في صفوف المدنيين، حيث دمرت منطقة حضرية تلو الأخرى، وفي نهاية المطاف ما مجموعه 58 مدينة وبلدة ألمانية بحلول نهاية الحرب. لكنها لم تضعف أبدًا معنويات المدنيين أو تؤدي إلى انتفاضة ضد أدولف هتلر، على الرغم من التوقعات الواثقة لمسؤولي الحلفاء. في الواقع، شجعت الحملة الألمان على القتال بقوة أكبر خوفًا من السلام الصارم بعد الحرب.

ولا ينبغي لهذا الفشل أن يكون مفاجئاً إلى هذا الحد، نظراً لما حدث عندما حاول النازيون استخدام نفس التكتيك. وأدى الهجوم الخاطف، وهو قصف لندن والمدن البريطانية الأخرى في الفترة من 1940 إلى 1941، إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، ومع ذلك رفض رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الاستسلام. وبدلاً من ذلك، استحضر الخسائر البشرية الناجمة عن ذلك لحشد المجتمع لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق النصر. وبدلاً من تحطيم الروح المعنوية، حفزت الغارة بريطانيا على تنظيم جهد دام سنوات – مع حلفائهم الأميركيين والسوفييت – للهجوم المضاد وغزو الدولة التي قصفتهم في نهاية المطاف.

في الواقع، لم يحدث في التاريخ أن تسببت حملة قصف في قيام السكان المستهدفين بالثورة ضد حكومتهم. وقد جربت الولايات المتحدة هذا التكتيك مرات عديدة، ولكن دون جدوى. وخلال الحرب الكورية، دمرت 90% من توليد الكهرباء في كوريا الشمالية. وفي حرب فيتنام، قضت على نفس القدر من القوة في فيتنام الشمالية. وفي حرب الخليج، عطلت الهجمات الجوية الأميركية 90% من محطات توليد الكهرباء في العراق. لكن في أي من هذه الحالات لم ينتفض السكان ضد حكوماتهم.

وهذا النمط التاريخي يكرر نفسه في غزة. وعلى الرغم من ما يقرب من ثلاثة أشهر من العمليات العسكرية المكثفة إلا أن إسرائيل لم تحقق سوى نتائج هامشية. وبأي مقياس ذي معنى، فإن الحملة لم تؤد إلى هزيمة حماس ولو جزئياً. ولم يتم تفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس، كما هي الآن، بشكل ملموس، حتى بعد العمليات التي تم التبجح بها ضد مستشفى الشفاء، والذي زعم الجيش الإسرائيلي أن حماس تستخدمه كقاعدة عملياتية. ولم تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية في إضعاف سيطرة حماس على غزة بشكل كبير. ولم تنقذ إسرائيل سوى رهينة واحدة فقط من بين 240 رهينة تم أسرها في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وأطلقت حماس سراح الرهائن الآخرين الوحيدين عبر المفاوضات فقط. فهل تتعلم إسرائيل الدرس؟ أشك في ذلك.

—————————–

======================

الغارات الإسرائيلية في سورية.. التصعيد المنضبط

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

16 شباط/فبراير ,2024

ترافق تصعيد العمليات العسكرية، الذي شهدته سورية في الآونة الأخيرة بين الطرفَين الأميركي والإيراني، مع تصعيدٍ إسرائيليّ تمثّل في قصف عددٍ من المواقع التي تتحكّم فيها ميلشيات إيرانية في سورية، وازداد ذلك القصف، من حيث العدد والنوع، حتى وصل إلى استهداف قيادات كبيرة في الميلشيات الإيرانية، في قلب المدن الكبرى في سورية.

هذا التصعيد يطرح مجموعة أسئلة: ما الأهداف الإستراتيجية للتصعيد الإسرائيلي؟ وما حدود تقاطع المصالح بين الفاعلين في سورية لتقليص النفوذ الإيراني؟ وما النتائج المتوقعة لهذا التصعيد؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة؟

تسعى إسرائيل لإضعاف الدول العربية المحاذية لفلسطين، ولمنع هذه الدول من التفوّق عليها، ولا سيّما في مجال التسليح، وهي تعمل على إخراج بعض الدول من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، من خلال المضي في مسار تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية.

 وبعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، تجنّبت إسرائيل التدخّل المباشر في الأزمة السورية، وسعت للمحافظة على بقاء بشار الأسد في السلطة، بطرق غير مباشرة، انطلاقًا من أنّ بقاءَه يعني استمرار حالة الصراع والتشرذم ويُعزز الطائفية فيها، فهي سعيدة ببقاء الأسد الذي حافظ على وقف إطلاق النار منذ عام 1974، ويساورها قلقٌ من وصول ميلشيات جهادية أو معتدلة معادية لإسرائيل، إلى المناطق المحاذية لحدودها، وكان الموقف الأميركي من مصير سورية غير واضح؛ إذ تركّز على إدارة الصراع وإطالة أمده، فالولايات المتحدة ضدّ انتصار الأسد وحلفائه، لكنها في الوقت نفسه لا تقدّم الدعم اللازم لانتصار المعارضة.

 لكن إسرائيل كانت تخشى من اختلال موازين القوى العسكرية في المنطقة، ولا سيّما بعد تدخّل “حزب الله” اللبناني وإيران لدعم النظام السوري، ضدّ المعارضة، ولذلك بدأت إسرائيل تنفيذ ضربات جوية في 30 كانون الثاني/ يناير 2013، حيث ضربت بصواريخ أرض جو موقعًا عسكريًا قرب دمشق[1]، واستمرت في تنفيذ ضرباتها بوتيرة متضاربة، منذ ذلك الوقت، ونفّذت مئات الغارات الجوية على الميلشيات الإيرانية في سورية.

مستجدات الغارات الإسرائيلية بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023:

بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ازدادت الضربات الإسرائيلية، كمًّا ونوعًا، على مواقع عدة سورية، وذلك ردًّا على تهديدات “حزب الله” والميلشيات الإيرانية، وحفاظًا على التفوّق الإسرائيلي، ولا سيّما أن الفترة الأخيرة شهدت تمدّدًا لإيران وحلفائها في الجنوب السوري، حيث باتوا يهددون وجود القواعد الأميركية في شمال شرق سورية.

وبلغ عدد الضربات الإسرائيلية في سورية، عام 2023، نحو 48 ضربة[2]، خلال تسعة أشهر، من كانون الثاني/ يناير حتى أيلول/ سبتمبر. وازدادت وتيرتها بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ووصلت إلى نحو 50 ضربة[3] حتى 10 شباط/ فبراير 2024، أي خلال 4 أشهر فقط.

 وإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نلاحظ أنّ هناك تغيّرًا في قواعد الاشتباك في سورية، بين إيران والميليشيات التابعة لها من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى؛ إذ كان القصف الإسرائيلي يستهدف شحنات أسلحة أو صواريخ في طريقها إلى الميليشيات الموالية لإيران[4]، أما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد ازدادت وتيرة الاستهدافات التي نفّذتها إسرائيل، مثل استهداف مطارَي دمشق وحلب الدّوليين، اللذين خرجا عن الخدمة أكثر من مرة خلال شهر واحد[5]، إضافة إلى استهداف القطع العسكرية القريبة من الحدود السورية الفلسطينية (ريف درعا الغربي)[6]. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، بلغ عدد القتلى من العسكريين الإيرانيين أو الموالين لها 50 قتيلًا[7]، حيث استهدفت الضربات بشكل أساسي المواقعَ التي ينتشر فيها الإيرانيون أو حلفاؤهم، سواء كانت مواقع عسكرية تتبع للنظام السوري.

وكان هناك تطوّر نوعيّ في الغارات الإسرائيلية، تمثّل في قصف أهداف عدة في مناطق سكنيّة داخل المدن، حيث استهدفت إحدى الغارات اجتماعًا لقيادات في الحرس الثوري الإيراني في حيّ المزة بدمشق، في 20 كانون الثاني/ يناير 2024، وأدت الغارة إلى مقتل 5 مستشارين إيرانيين[8]، واستهدفت في قصف آخر مبنًى في حيَّ الحمراء في حمص (أحد الأحياء المدنية الراقية)، في 6 شباط/ فبراير 2024، وقُتِل في القصف قيادات من إيران وحزب الله، كانوا يسكنون في أحد الأبنية المدنيّة هناك.

وكذلك استهدف قصفٌ جوي إسرائيلي، على حيّ السيدة زينب جنوب دمشق، القيادي في الحرس الثوري الإيراني، رضي موسوي، في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وكان موسوي يعمل بصفة مستشار عسكري للنظام في معاركه ضد المعارضة. وهذا التطوّر يدلّ على أن القصف الإسرائيلي يركّز على نوعية الأهداف، ويُعدّ دليلًا على فشل الإيرانيين في الحفاظ على سرّية اجتماعاتهم وتنقلاتهم ومواقعهم، وعلى حجم الاختراق الإسرائيلي لأجهزة النظام الأمنية.

الضربات الإسرائيلية مع الضربات الأميركية دفعت إيران إلى التصريح بانسحاب القيادات الإيرانية، والاعتماد على فصائل متحالفة معها، للحفاظ على نفوذها في سورية[9]. وتوقّفت عمليات استهداف الجولان في كانون الثاني/ يناير 2024، على الرغم من أنها كانت هجمات محدودة، تستهدف مناطق مفتوحة وغير مأهولة في هضبة الجولان السوري المحتل[10].

مواقف الفاعلين في سورية من التصعيد:

من أهمّ العوامل التي أسهمت في استمرار الأزمة السورية، مصالحُ الدول الفاعلة بها، وهي مصالح تتقاطع وتتعارض، ومن هذه القضايا الوجود الإيراني في سورية، الذي تُصرّح بعض الدول الفاعلة في سورية بمعارضته، وترغب كلٌّ من إسرائيل وأميركا في الحدّ منه في المنطقة، ولا سيّما في سورية التي تمثّل ساحة مناسبة لضربه، وتتعامل معه الدول الأطراف في اتفاقات آستانة (روسيا، وتركيا)، ويبدو أن هناك مصلحة لغالبية الفاعلين في سورية في الحدّ من النفوذ الإيراني، بما يتطابق مع الموقف العربي الداعي لذلك.

أما عن أهمّ المواقف من هذا التصعيد، فبالنسبة إلى النظام السوريهناك مؤشرات توحي بأن هناك تعاونًا من بعض ضباط النظام السوري مع الإسرائيليين، حيث يتم تسريب مواقع وأماكن وجود قادة الحرس الثوري الإيراني، وهناك اتهامات إيرانية علنية بتسريب معلومات عنها، إلى الجانب الإسرائيلي، من داخل النظام السوري، وهذا يؤشر إلى عدم موافقة بعض ضباط النظام على النفوذ الإيراني المتزايد في سورية، ولا سيما بعدما صار لإيران اليد العليا في كثير من القطاعات في الدولة. ومن ناحية ثانية، ما زالت إسرائيل، على الرغم من تصعيدها، تتجنب الاستهداف المباشر والكبير لقوات النظام السوري، باستثناء استهداف بعض المصانع العسكرية، في السفيرة ومصياف والمطارات، لذلك يبدو أن النظام سيستمر في التهديد بالردّ على التهديدات الإسرائيلية، من دون أن يكون هناك أي رد فعلي.

أما بالنسبة إلى روسيا حليف النظام الآخر، فقد كان هناك تنسيق روسي إسرائيلي في الهجمات الإسرائيلية، وكانت إسرائيل تبلّغ الروسَ بمواعيد الهجمات وأماكنها قبل حدوثها، وكان الروس يبلغون النظام والإيرانيين بها، لذلك لم يكن هناك أعداد كبيرة من القتلى نتيجة تلك الغارات، لكن يبدو أن هذا التنسيق تراجع بعد الحرب الأوكرانية، بسبب الموقف الإسرائيلي مما يجري في أوكرانيا، ومع ذلك لا يُتوقع حتى الآن أن يكون هناك تعارض في المصالح الروسية الإسرائيلية في سورية، حيث إن روسيا أعلنت مطلع عام 2024 تثبيت نقطتين عسكريتين روسيتين جنوبي سورية، على خلفية “تزايد وتيرة الاستفزازات في المنطقة منزوعة السلاح”، على طول مرتفعات الجولان، ويبدو أن الغاية من  ذلك تخفيف التصعيد في المنطقة، وسيستمر الموقف الروسي في الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، وتجنب أي تصعيد؛ إذ إن روسيا تريد المحافظة على علاقاتها مع الأسد وإيران من ناحية، ومع إسرائيل من ناحية أخرى، وليس من مصلحتها زيادة قوة إيران في سورية، أو زيادة الغارات الإسرائيلية، بما يُخلّ بموازين القوى داخل سورية.

أما الموقف الأميركي، فهناك تنسيق شامل بين أميركا وإسرائيل، في ضرباتها وتصعيدها في سورية، ولا سيّما بعد سقوط ثلاثة جنود أميركيين في قصفٍ نفّذته ميلشيات إيرانية قرب التنف، واتفاقٌ على ضرب تلك الميلشيات، لكن دون الانجرار إلى حالة الحرب الشاملة والمباشرة.

وبالنسبة إلى إيران، عملت على الانتشار في كامل الجغرافية السورية المسيطر عليها من النظام، ولها أهداف استراتيجية عدة في المنطقة، منها المحافظة على الطريق الممتد من إيران حتى البحر المتوسط، لكنها تحذر المواجهةَ المباشرة مع إسرائيل وأميركا، وستعمل على تقبّل هذه الخسائر، لأن لها هدفًا إستراتيجيًا في المنطقة، وما دام القصف خارج الأراضي الإيرانية، فهو لا يشكّل تحديًا كبيرًا لها، لكنها ستسعى للتخفيف من تحركات ميلشياتها ولزيادة درجة الحذر.

تشكّل الغارات تحدّيًا كبيرًا أمام إيران وميلشياتها، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن وجودها سيظلّ قائمًا ويتوسّع، ما بقي الأسد في السلطة؛ أما الحوافز التي تقدّمها بعض الدول إلى الأسد، للتخلّي عن إيران، فمن غير المتوقع أن تترك أثرًا في سياسته في الفترة القادمة.

السيناريوهات المتوقعة:

ما سيحدث في سورية مستقبلًا مرتبطٌ إلى حدٍّ ما بما ستؤول إليه التطوّرات الأخيرة في المنطقة، بعد انتهاء الحرب في غزّة وما سينتج عنها، ومرتبطٌ أيضًا بمستقبل الوجود الأميركي في المنطقة، وهناك قلق إسرائيلي من حدوث انسحاب أميركي من سورية والعراق. ومع استمرار الجمود في كلّ مسارات الحلّ في سورية، يُمكننا توقّع ثلاثة سيناريوهات في ما يتعلّق بالتصعيد الإسرائيلي في سورية:

السيناريو الأول:

حدوث انسحاب أميركي يتلوه هيمنة إيرانية، حيث إن هناك كثيرًا من التسريبات تحدّثت عن هذا الانسحاب، لكن الجانب الرسمي الأميركي نفى ذلك، ومن غير المتوقّع حدوثه في الفترة القريبة القادمة، وفي حال حدوثه، فإنه يعني زيادةً للنفوذ الإيراني في سورية، مما قد يشكل مصدر قلق لإسرائيل، وقد يؤدي ذلك إلى زيادة دور روسيا في التوسّط بين الطرفين، والحدّ من التصعيد بينهما، إضافة إلى أنه قد يشكّل فرصة للأسد للسيطرة على حقول النفط.

السيناريو الثاني:

انسحاب إيران من سورية، وقد يكون الانسحاب كلّيًّا أو جزئيًّا، نتيجة الغارات الإسرائيلية والأميركية على الأهداف الإيرانية، واستجابةً من النظام السوري للطلبات العربية التي تدعو للحدّ من هذا النفوذ. وتحقّق هذا السيناريو يعني زيادة النفوذ الروسي على النظام السوري، وضعف الميلشيات المدعومة من إيران، وربما تكون هناك مفاوضات تُحرّك مسار الحل السياسي في سورية. لكن هذا السيناريو أيضًا غير مرجّح، فقراءة السياسة الإيرانية في المنطقة تشير إلى تغلل النفوذ الإيراني في سورية، على الصعيد الاجتماعي والسياسي والعسكري، وإلى أن إيران ستحافظ على توازن في قواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة الأميركية أو مع إسرائيل.

السيناريو الثالث:

وهو السيناريو الأرجح، ويقوم على استمرار التصعيد، وفقًا لقواعد الاشتباك الحالية بين الطرفين، من دون الانجراف إلى حالة الحرب المباشرة والشاملة، إلا في حال تجاوز إيران وحلفائها لقواعد الاشتباك، وقيامهم بقصفٍ يوقع قتلى في إسرائيل، وهنا ستضطر إسرائيل إلى رفع درجة التصعيد.

والجميع في انتظار ما ستنتج عنه حرب غزة، والسيناريو والاتفاقات التي قد تنتهي بموجبها تلك الحرب، والترتيبات التي قد تنشأ في المنطقة، فحكومة نتنياهو تريد حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وإيران تريد استغلال هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية، والمتمثلة في عدم رغبة أميركا في الدخول بحالة حرب مباشرة مع إيران، ولا سيما أنّ إيران قتلت جنودًا أميركيين في التنف، وكان الرد الأميركي ضعيفًا.

قد تنجح إسرائيل في إبعاد الخطر الإيراني عنها، إلى حدٍّ ما، لكن ليس لديها رغبة في القضاء على النفوذ الإيراني في سورية بشكل كامل؛ ذلك بأن مصلحة الطرفين الإسرائيلي والإيراني ما زالت في بقاء نظام الأسد الذي يشكّل الرابط المشترك لتحقيق أهدافهما في سورية.

[1] أبرز الضربات الإسرائيلية في سوريا منذ عام 2013، الإندبندنت العربية، 6 شباط/ فبراير 2020، شوهد بتاريخ 7 تموز/يوليو 2023. الرابط: https://bit.ly/49x3Tn6

[2] المرصد السوري لحقوق الإنسان، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g

[3] فريق الرصد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

[4] دمشق: قتيلان في غارات إسرائيلية استهدفت مواقع لحزب الله، موقع المدن، 22 آب/ أغسطس 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/yrKr0yI

[5] إسرائيل تقصف مجددًا مطاري دمشق وحلب وتخرجهما من الخدمة، موقع الجزيرة، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/7vJgIVt.

[6] مقاتلون موالون لحزب الله بريف درعا يطلقون صواريخ باتجاه الجولان، موقع العربية، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/zeBPaLd

[7] المرصد السوري لحقوق الإنسان، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g ، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024

[8]  مقتل 5 مستشارين عسكريين للحرس الثوري الإيراني بقصف إسرائيلي على دمشق، العربي الجديد، 20 كانون الثاني/ يناير 2024، شوهد في 14 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://bit.ly/3uxWOnH

[9] رويترز: إيران تقلّص انتشار ضباطها في سورية.. لا نية للانسحاب، موقع عنب بلدي، 1 شباط/ فبراير 2024، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/GfPzMFW

[10] الاحتلال يرد على مصادر النيران.. إطلاق قذيفتين من سورية باتجاه الجولان، التلفزيون العربي، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/tg5RYUa

مركز حرمون

————————-

========================

بين طهران وواشنطن.. استراتيجية تغيير الرجالات لترتيب التفاهمات/ منير الربيع

2024.02.18

لكل زمن دولة ورجال. يمكن لهذه العبارة أن تختصر الكثير في عوالم السياسة ومصالح الدول. وهو مصطلح يستخدم على مر الأزمان في ضوء تحولات الظروف السياسية لكل دولة أو مجموعة. وغالباً ما يكون ضرب أحد القادة أو الرموز أو المسؤولين يهدف إلى طي مرحلة والانتقال إلى مرحلة جديدة. تماماً كما هو الحال بالنسبة لاجتياح العراق وإسقاط صدام حسين والذي نقل العراق من مكان إلى مكان. وكذلك بالنسبة إلى اغتيال ياسر عرفات أو رفيق الحريري. اغتيال هؤلاء الرموز أسهم في تحولات كثيرة على مستوى بلادهم. تماماً كما كان الهدف الأميركي من اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق، فالهدف من وراء ذلك كان إحداث تحول في صيغة العلاقة الأميركية الإيرانية.

جاء اغتيال سليماني بعد تقاطعات كثيرة بين واشنطن وطهران، أبرزها التقاطع في محاربة تنظيم داعش في سوريا والعراق وترتيبات الاتفاق النووي بين الجانبين. ليأتي اغتيال الرجل كمحاولة من واشنطن لدفع الإيرانيين عن مرحلة باتجاه مرحلة أخرى لم تظهر معالمها حتى الآن، لكن الأكيد بالنسبة إلى الطرفين أنهما يريدان الالتقاء مع بعضهما البعض، وتأكيداً على ذلك كشف دونالد ترامب سابقاً أنه عندما احتاج الإيرانيون للرد على اغتيال سليماني أبلغوه بذلك وتعهدوا عدم إيقاع إصابات في صفوف الأميركيين.

منذ الحرب على غزة، تشرع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في تنفيذ عمليات اغتيال لأشخاص وكوادر ومسؤولين في الحرس الثوري الإيراني أو لحلفائهم في فصائل الحشد الشعبي وغيرها. فحصلت سلسلة اغتيالات أبرزها رضي الموسوي، والحاج صادق وهما من مسؤولي العمليات والمخابرات والإشراف على القوات الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان، وبعدها اغتيال المزيد من قادة ومسؤولي الحرس أو الحشد الشعبي كاغتيال أبو باقر الساعدي في بغداد، والذي يندرج عمله في السياق الإيراني أكثر من دوره عراقياً، فهو مسؤول التشكيلات في سوريا والمسؤول عن سلاح المسيرات والصواريخ في سوريا والعراق وبالتالي مسؤول عن العمليات التي تشن ضد مواقع ومصالح أميركية. هنا يظهر أن الأميركيين والإسرائيليين عملوا على فكفكة خلية العمل الإيرانية في سوريا والعراق، بعد اغتيال رضي الموسوي المسؤول اللوجستي لإيران في لبنان وسوريا، وجاء بعدها اغتيال الحاج صادق المسؤول الأمني لقوة القدس في سوريا والعراق، وصولاً إلى أبو باقر الساعدي. في محاولة أميركية إسرائيلية لفكفكة القوة العسكرية الإيرانية الميدانية في المنطقة، علماً أن هؤلاء جميعهم يعتبرون فريق العمل الذي ورث سليماني. وهذه الضربات تعمل طهران على استيعابها لعدم الانخراط في التصعيد، ما سيمهد للانطلاق نحو مسار جديد من التفاوض السياسي وترتيب الوضعية بين الجانبين.

تحصل هذه التطورات في ضوء زيارتين، زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت والتي أكد فيها وجود تفاوض إيراني أميركي، وزيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إلى بغداد والتي شدد فيها على ضرورة التهدئة ومنع التصعيد وعدم إحراج الحكومة العراقية التي يستمر التفاوض بينها وبين الأميركيين حول مسألة الانسحاب الأميركي من العراق، وهي لا تنفصل أيضاً عن المفاوضات القائمة بين طهران وواشنطن في سلطنة عمان وهي تطل على ملفات متعددة، أبرزها الهدنة في غزة، ومستقبل الساحات في اليمن، سوريا والعراق ولبنان. فما يريده الإيراني هو تحقيق الانسحاب الأميركي من سوريا والعراق كقوات قتالية وليس بالمعنى السياسي، وصولاً إلى إبرام تسوية شاملة في المنطقة، فتكون نتيجة ذلك الاعتراف الأميركي بالدور الإيراني في المنطقة. هي مرحلة لتحييد رجالات بحثاً عن مسارات جديدة بين الطرفين.

——————————

الغارات الإسرائيلية في سورية.. التصعيد المنضبط

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

16 شباط/فبراير ,2024

ترافق تصعيد العمليات العسكرية، الذي شهدته سورية في الآونة الأخيرة بين الطرفَين الأميركي والإيراني، مع تصعيدٍ إسرائيليّ تمثّل في قصف عددٍ من المواقع التي تتحكّم فيها ميلشيات إيرانية في سورية، وازداد ذلك القصف، من حيث العدد والنوع، حتى وصل إلى استهداف قيادات كبيرة في الميلشيات الإيرانية، في قلب المدن الكبرى في سورية.

هذا التصعيد يطرح مجموعة أسئلة: ما الأهداف الإستراتيجية للتصعيد الإسرائيلي؟ وما حدود تقاطع المصالح بين الفاعلين في سورية لتقليص النفوذ الإيراني؟ وما النتائج المتوقعة لهذا التصعيد؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة؟

تسعى إسرائيل لإضعاف الدول العربية المحاذية لفلسطين، ولمنع هذه الدول من التفوّق عليها، ولا سيّما في مجال التسليح، وهي تعمل على إخراج بعض الدول من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، من خلال المضي في مسار تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية.

 وبعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، تجنّبت إسرائيل التدخّل المباشر في الأزمة السورية، وسعت للمحافظة على بقاء بشار الأسد في السلطة، بطرق غير مباشرة، انطلاقًا من أنّ بقاءَه يعني استمرار حالة الصراع والتشرذم ويُعزز الطائفية فيها، فهي سعيدة ببقاء الأسد الذي حافظ على وقف إطلاق النار منذ عام 1974، ويساورها قلقٌ من وصول ميلشيات جهادية أو معتدلة معادية لإسرائيل، إلى المناطق المحاذية لحدودها، وكان الموقف الأميركي من مصير سورية غير واضح؛ إذ تركّز على إدارة الصراع وإطالة أمده، فالولايات المتحدة ضدّ انتصار الأسد وحلفائه، لكنها في الوقت نفسه لا تقدّم الدعم اللازم لانتصار المعارضة.

 لكن إسرائيل كانت تخشى من اختلال موازين القوى العسكرية في المنطقة، ولا سيّما بعد تدخّل “حزب الله” اللبناني وإيران لدعم النظام السوري، ضدّ المعارضة، ولذلك بدأت إسرائيل تنفيذ ضربات جوية في 30 كانون الثاني/ يناير 2013، حيث ضربت بصواريخ أرض جو موقعًا عسكريًا قرب دمشق[1]، واستمرت في تنفيذ ضرباتها بوتيرة متضاربة، منذ ذلك الوقت، ونفّذت مئات الغارات الجوية على الميلشيات الإيرانية في سورية.

مستجدات الغارات الإسرائيلية بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023:

بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ازدادت الضربات الإسرائيلية، كمًّا ونوعًا، على مواقع عدة سورية، وذلك ردًّا على تهديدات “حزب الله” والميلشيات الإيرانية، وحفاظًا على التفوّق الإسرائيلي، ولا سيّما أن الفترة الأخيرة شهدت تمدّدًا لإيران وحلفائها في الجنوب السوري، حيث باتوا يهددون وجود القواعد الأميركية في شمال شرق سورية.

وبلغ عدد الضربات الإسرائيلية في سورية، عام 2023، نحو 48 ضربة[2]، خلال تسعة أشهر، من كانون الثاني/ يناير حتى أيلول/ سبتمبر. وازدادت وتيرتها بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ووصلت إلى نحو 50 ضربة[3] حتى 10 شباط/ فبراير 2024، أي خلال 4 أشهر فقط.

 وإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نلاحظ أنّ هناك تغيّرًا في قواعد الاشتباك في سورية، بين إيران والميليشيات التابعة لها من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى؛ إذ كان القصف الإسرائيلي يستهدف شحنات أسلحة أو صواريخ في طريقها إلى الميليشيات الموالية لإيران[4]، أما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد ازدادت وتيرة الاستهدافات التي نفّذتها إسرائيل، مثل استهداف مطارَي دمشق وحلب الدّوليين، اللذين خرجا عن الخدمة أكثر من مرة خلال شهر واحد[5]، إضافة إلى استهداف القطع العسكرية القريبة من الحدود السورية الفلسطينية (ريف درعا الغربي)[6]. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، بلغ عدد القتلى من العسكريين الإيرانيين أو الموالين لها 50 قتيلًا[7]، حيث استهدفت الضربات بشكل أساسي المواقعَ التي ينتشر فيها الإيرانيون أو حلفاؤهم، سواء كانت مواقع عسكرية تتبع للنظام السوري.

وكان هناك تطوّر نوعيّ في الغارات الإسرائيلية، تمثّل في قصف أهداف عدة في مناطق سكنيّة داخل المدن، حيث استهدفت إحدى الغارات اجتماعًا لقيادات في الحرس الثوري الإيراني في حيّ المزة بدمشق، في 20 كانون الثاني/ يناير 2024، وأدت الغارة إلى مقتل 5 مستشارين إيرانيين[8]، واستهدفت في قصف آخر مبنًى في حيَّ الحمراء في حمص (أحد الأحياء المدنية الراقية)، في 6 شباط/ فبراير 2024، وقُتِل في القصف قيادات من إيران وحزب الله، كانوا يسكنون في أحد الأبنية المدنيّة هناك.

وكذلك استهدف قصفٌ جوي إسرائيلي، على حيّ السيدة زينب جنوب دمشق، القيادي في الحرس الثوري الإيراني، رضي موسوي، في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وكان موسوي يعمل بصفة مستشار عسكري للنظام في معاركه ضد المعارضة. وهذا التطوّر يدلّ على أن القصف الإسرائيلي يركّز على نوعية الأهداف، ويُعدّ دليلًا على فشل الإيرانيين في الحفاظ على سرّية اجتماعاتهم وتنقلاتهم ومواقعهم، وعلى حجم الاختراق الإسرائيلي لأجهزة النظام الأمنية.

الضربات الإسرائيلية مع الضربات الأميركية دفعت إيران إلى التصريح بانسحاب القيادات الإيرانية، والاعتماد على فصائل متحالفة معها، للحفاظ على نفوذها في سورية[9]. وتوقّفت عمليات استهداف الجولان في كانون الثاني/ يناير 2024، على الرغم من أنها كانت هجمات محدودة، تستهدف مناطق مفتوحة وغير مأهولة في هضبة الجولان السوري المحتل[10].

مواقف الفاعلين في سورية من التصعيد:

من أهمّ العوامل التي أسهمت في استمرار الأزمة السورية، مصالحُ الدول الفاعلة بها، وهي مصالح تتقاطع وتتعارض، ومن هذه القضايا الوجود الإيراني في سورية، الذي تُصرّح بعض الدول الفاعلة في سورية بمعارضته، وترغب كلٌّ من إسرائيل وأميركا في الحدّ منه في المنطقة، ولا سيّما في سورية التي تمثّل ساحة مناسبة لضربه، وتتعامل معه الدول الأطراف في اتفاقات آستانة (روسيا، وتركيا)، ويبدو أن هناك مصلحة لغالبية الفاعلين في سورية في الحدّ من النفوذ الإيراني، بما يتطابق مع الموقف العربي الداعي لذلك.

أما عن أهمّ المواقف من هذا التصعيد، فبالنسبة إلى النظام السوريهناك مؤشرات توحي بأن هناك تعاونًا من بعض ضباط النظام السوري مع الإسرائيليين، حيث يتم تسريب مواقع وأماكن وجود قادة الحرس الثوري الإيراني، وهناك اتهامات إيرانية علنية بتسريب معلومات عنها، إلى الجانب الإسرائيلي، من داخل النظام السوري، وهذا يؤشر إلى عدم موافقة بعض ضباط النظام على النفوذ الإيراني المتزايد في سورية، ولا سيما بعدما صار لإيران اليد العليا في كثير من القطاعات في الدولة. ومن ناحية ثانية، ما زالت إسرائيل، على الرغم من تصعيدها، تتجنب الاستهداف المباشر والكبير لقوات النظام السوري، باستثناء استهداف بعض المصانع العسكرية، في السفيرة ومصياف والمطارات، لذلك يبدو أن النظام سيستمر في التهديد بالردّ على التهديدات الإسرائيلية، من دون أن يكون هناك أي رد فعلي.

أما بالنسبة إلى روسيا حليف النظام الآخر، فقد كان هناك تنسيق روسي إسرائيلي في الهجمات الإسرائيلية، وكانت إسرائيل تبلّغ الروسَ بمواعيد الهجمات وأماكنها قبل حدوثها، وكان الروس يبلغون النظام والإيرانيين بها، لذلك لم يكن هناك أعداد كبيرة من القتلى نتيجة تلك الغارات، لكن يبدو أن هذا التنسيق تراجع بعد الحرب الأوكرانية، بسبب الموقف الإسرائيلي مما يجري في أوكرانيا، ومع ذلك لا يُتوقع حتى الآن أن يكون هناك تعارض في المصالح الروسية الإسرائيلية في سورية، حيث إن روسيا أعلنت مطلع عام 2024 تثبيت نقطتين عسكريتين روسيتين جنوبي سورية، على خلفية “تزايد وتيرة الاستفزازات في المنطقة منزوعة السلاح”، على طول مرتفعات الجولان، ويبدو أن الغاية من  ذلك تخفيف التصعيد في المنطقة، وسيستمر الموقف الروسي في الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، وتجنب أي تصعيد؛ إذ إن روسيا تريد المحافظة على علاقاتها مع الأسد وإيران من ناحية، ومع إسرائيل من ناحية أخرى، وليس من مصلحتها زيادة قوة إيران في سورية، أو زيادة الغارات الإسرائيلية، بما يُخلّ بموازين القوى داخل سورية.

أما الموقف الأميركي، فهناك تنسيق شامل بين أميركا وإسرائيل، في ضرباتها وتصعيدها في سورية، ولا سيّما بعد سقوط ثلاثة جنود أميركيين في قصفٍ نفّذته ميلشيات إيرانية قرب التنف، واتفاقٌ على ضرب تلك الميلشيات، لكن دون الانجرار إلى حالة الحرب الشاملة والمباشرة.

وبالنسبة إلى إيران، عملت على الانتشار في كامل الجغرافية السورية المسيطر عليها من النظام، ولها أهداف استراتيجية عدة في المنطقة، منها المحافظة على الطريق الممتد من إيران حتى البحر المتوسط، لكنها تحذر المواجهةَ المباشرة مع إسرائيل وأميركا، وستعمل على تقبّل هذه الخسائر، لأن لها هدفًا إستراتيجيًا في المنطقة، وما دام القصف خارج الأراضي الإيرانية، فهو لا يشكّل تحديًا كبيرًا لها، لكنها ستسعى للتخفيف من تحركات ميلشياتها ولزيادة درجة الحذر.

تشكّل الغارات تحدّيًا كبيرًا أمام إيران وميلشياتها، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن وجودها سيظلّ قائمًا ويتوسّع، ما بقي الأسد في السلطة؛ أما الحوافز التي تقدّمها بعض الدول إلى الأسد، للتخلّي عن إيران، فمن غير المتوقع أن تترك أثرًا في سياسته في الفترة القادمة.

السيناريوهات المتوقعة:

ما سيحدث في سورية مستقبلًا مرتبطٌ إلى حدٍّ ما بما ستؤول إليه التطوّرات الأخيرة في المنطقة، بعد انتهاء الحرب في غزّة وما سينتج عنها، ومرتبطٌ أيضًا بمستقبل الوجود الأميركي في المنطقة، وهناك قلق إسرائيلي من حدوث انسحاب أميركي من سورية والعراق. ومع استمرار الجمود في كلّ مسارات الحلّ في سورية، يُمكننا توقّع ثلاثة سيناريوهات في ما يتعلّق بالتصعيد الإسرائيلي في سورية:

السيناريو الأول:

حدوث انسحاب أميركي يتلوه هيمنة إيرانية، حيث إن هناك كثيرًا من التسريبات تحدّثت عن هذا الانسحاب، لكن الجانب الرسمي الأميركي نفى ذلك، ومن غير المتوقّع حدوثه في الفترة القريبة القادمة، وفي حال حدوثه، فإنه يعني زيادةً للنفوذ الإيراني في سورية، مما قد يشكل مصدر قلق لإسرائيل، وقد يؤدي ذلك إلى زيادة دور روسيا في التوسّط بين الطرفين، والحدّ من التصعيد بينهما، إضافة إلى أنه قد يشكّل فرصة للأسد للسيطرة على حقول النفط.

السيناريو الثاني:

انسحاب إيران من سورية، وقد يكون الانسحاب كلّيًّا أو جزئيًّا، نتيجة الغارات الإسرائيلية والأميركية على الأهداف الإيرانية، واستجابةً من النظام السوري للطلبات العربية التي تدعو للحدّ من هذا النفوذ. وتحقّق هذا السيناريو يعني زيادة النفوذ الروسي على النظام السوري، وضعف الميلشيات المدعومة من إيران، وربما تكون هناك مفاوضات تُحرّك مسار الحل السياسي في سورية. لكن هذا السيناريو أيضًا غير مرجّح، فقراءة السياسة الإيرانية في المنطقة تشير إلى تغلل النفوذ الإيراني في سورية، على الصعيد الاجتماعي والسياسي والعسكري، وإلى أن إيران ستحافظ على توازن في قواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة الأميركية أو مع إسرائيل.

السيناريو الثالث:

وهو السيناريو الأرجح، ويقوم على استمرار التصعيد، وفقًا لقواعد الاشتباك الحالية بين الطرفين، من دون الانجراف إلى حالة الحرب المباشرة والشاملة، إلا في حال تجاوز إيران وحلفائها لقواعد الاشتباك، وقيامهم بقصفٍ يوقع قتلى في إسرائيل، وهنا ستضطر إسرائيل إلى رفع درجة التصعيد.

والجميع في انتظار ما ستنتج عنه حرب غزة، والسيناريو والاتفاقات التي قد تنتهي بموجبها تلك الحرب، والترتيبات التي قد تنشأ في المنطقة، فحكومة نتنياهو تريد حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وإيران تريد استغلال هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية، والمتمثلة في عدم رغبة أميركا في الدخول بحالة حرب مباشرة مع إيران، ولا سيما أنّ إيران قتلت جنودًا أميركيين في التنف، وكان الرد الأميركي ضعيفًا.

قد تنجح إسرائيل في إبعاد الخطر الإيراني عنها، إلى حدٍّ ما، لكن ليس لديها رغبة في القضاء على النفوذ الإيراني في سورية بشكل كامل؛ ذلك بأن مصلحة الطرفين الإسرائيلي والإيراني ما زالت في بقاء نظام الأسد الذي يشكّل الرابط المشترك لتحقيق أهدافهما في سورية.

[1] أبرز الضربات الإسرائيلية في سوريا منذ عام 2013، الإندبندنت العربية، 6 شباط/ فبراير 2020، شوهد بتاريخ 7 تموز/يوليو 2023. الرابط: https://bit.ly/49x3Tn6

[2] المرصد السوري لحقوق الإنسان، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g

[3] فريق الرصد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

[4] دمشق: قتيلان في غارات إسرائيلية استهدفت مواقع لحزب الله، موقع المدن، 22 آب/ أغسطس 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/yrKr0yI

[5] إسرائيل تقصف مجددًا مطاري دمشق وحلب وتخرجهما من الخدمة، موقع الجزيرة، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/7vJgIVt.

[6] مقاتلون موالون لحزب الله بريف درعا يطلقون صواريخ باتجاه الجولان، موقع العربية، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/zeBPaLd

[7] المرصد السوري لحقوق الإنسان، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g ، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024

[8]  مقتل 5 مستشارين عسكريين للحرس الثوري الإيراني بقصف إسرائيلي على دمشق، العربي الجديد، 20 كانون الثاني/ يناير 2024، شوهد في 14 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://bit.ly/3uxWOnH

[9] رويترز: إيران تقلّص انتشار ضباطها في سورية.. لا نية للانسحاب، موقع عنب بلدي، 1 شباط/ فبراير 2024، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/GfPzMFW

[10] الاحتلال يرد على مصادر النيران.. إطلاق قذيفتين من سورية باتجاه الجولان، التلفزيون العربي، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/tg5RYUa

مركز حرمون

————————-

 لعبة المحاور الجيوبوليتيكية السورية: البوكمال مثلًا/ جمال الشوفي

2024.02.16

رغم أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتأخر في قراءة المشهد العالمي ومتغيراته الناتجة عن موجة الربيع العربي الأولى، لكنها، تعمدت على إدارة محاورها بعصاها الطويلة متجاهلة عن عمد ضرورة وجود حكومات وطنية ذات سيادة في المنطقة سيكون لها دور هام في تخميد النزاعات العالمية على ساحة منطقة الشرق الأوسط. ففي تقرير خارجيتها المبكر عام 2014، أشارت بوضوح لعودة الجيوبوليتيك الشائن للتمدد العالمي بدءًا من الشرق الأوسط ونقطة ارتكازه سوريا. التقرير الذي تنبأ بعودة القوة العسكرية التقليدية للعب الدور الرئيسي في العلاقات العالمية، ومنها السيطرة على المعابر البرية الدولية ووصلها بالمياه الدافئة على البحر المتوسط. وبمقدمتها مفاعيل القوة الروسية الآخذة بالتزايد، والتمدد الإيراني بدءًا من العراق لداخل سوريا بالتعاون مع حزب الله وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط، وكل هذا كان تحت عين أميركا. فهل تأخرت أميركا باتخاذ إجراءات حاسمة إزاءها أدت لخراب المنطقة برمتها؟ وماذا عن لعبة المعابر الدولية والشرق الأوسط؟

لليوم، لم تزل معادلات النفوذ والسيطرة على المعابر البرية السورية ذات أهمية جيوبوليتيكية محورية لمختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين على الساحة السورية. فكل من تركيا وروسيا إضافة لإيران، ومن خلال مفاوضات أستانة الماراثونية، لم يملّوا من محاولات ترسيم خطوط التماس وأشكال السيطرة على الخطوط البرية في الشمال الغربي من سوريا، فيما بقيت إيران وبدعم روسي تسيطر على منفذ البوكمال الشرقي للأمس القريب. والبوكمال منذ السيطرة عليها عام 2016، اعتبرها مركز كاتخيون للدراسات الروسي وعلى رأسه ألكسندر دوغين، المنظر الأكبر للجيوبوليتيك الروسي، أنها بوابة فتح بوليفار روسيا الكبير، إذ إنها تصل الخطوط البرية من موسكو لطهران فبغداد عبر البوكمال وصولًا لدمشق وللساحل السوري، بحيث تؤمن خطوط الاتصال البري بالوصول للمياه المتوسط الدافئة. هذا بينما اكتفت أميركا بالتمركز في مثلث التنف الحدودي بين العراق والأردن وسوريا تحت عنوان محاربة داعش، وبذات الوقت إدارة اللعبة من بعيد والتدخل عند الضرورة لربط خطوط التمركز في الشرق الأوسط دون أن تكون حاضرة فيها بثقلها العسكري العام.

اليوم، وبعد أحداث غزة، وفشل جميع المساعي السياسية من مفاوضات وتفاهمات لتحجيم الوجود الإيراني في سوريا والعراق ولبنان، وكفاية دورها في تخريب أي مشروع وطني فيها خاصة في سوريا الثورة؛ وحيث إن إيران باتت منافسًا لنفوذ الدول الكبرى خاصة أميركا وروسيا بحكم وجودها على الأرض سواء في سوريا أو العراق، وعادت مسألة المعابر البرية للظهور على مسرح الحرب مجددًا. إذ عادت الولايات المتحدة الأميركية الأيام الماضية لتركيز ضرباتها المنتقاة على مواقع الميليشيات المجندة إيرانيًا في كل من سوريا والعراق، واستهداف قيادتها، كان آخرها قادة حزب الله العراقي في بغداد. وذلك بعد العملية التي تعرضت لها قواتها الأسبوع الماضي من مسيرة إيرانية، من جهة الحدود الأردنية.

بالعودة لإمكانية تحديد المتغير الجديد هذا بالعمليات الأميركية هذه بعد 8 سنوات من بقاء الوضع على حاله من استنقاع المسألة السورية وتأزيم حلها من كل الجهات، والتساؤل عما يمكن أن تحدثه في مسار حلها. فمنذ بدء الثورة السورية، عملت الولايات المتحدة الأميركية وفق خطوط متوازية في إدارة المسألة السورية بطريقة التحكم عن بعد والتدخل المباشر المحدود عند لزوم الأمر. الأمر الذي يتعلق بالاستراتيجية الأميركية عمومًا وآليات عملها في الشرق الأوسط وسوريا بعد العراق، والتي ربما تقرأ من كتاب “العالم كما هو” لـ “بن رودس”، مستشار الأمن القومي الأميركي في فترة حكم باراك أوباما وموقفه من الربيع العربي، فالولايات المتحدة تعمل على إدارة ملفات المنطقة دون الوصول لمرحلة التأزيم العسكري المباشر سواء مع روسيا أو حتى مع إيران. مقابل هذا تراقب عن كثب متغيرات الحرب واختلاط لاعبيها دون السماح لوجود منتصر وحيد فيها.

ومع هذا ذهبت الولايات المتحدة باتجاه تثبيت قواعد عسكرية لها في سوريا تجاوزت العشرة في منطقة محدودة تشمل جغرافيا شرق الفرات السوري، بما يضمن تفرد القوة الفاعلة فيه من الأكراد السوريين، الذين شكلوا بداية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتتطور لاحقًا لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد) بدعم أميركي وتفاهم مع الروس؛ تلك التي رأى فيها عدد من المحللين والباحثين ذات فائدة للكرد خاصة وسوريا عامة تضمن عدم عودة المركزية المطلقة للنظام كما أوردها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. ولكنها لليوم لم تكلل بالنجاح في تحقيق أدنى شروط الاستقرار في ذلك، خاصة حين تقرر أميركا إيقاف دعمها غير المحدود للمنطقة، الأمر الذي كان مؤشره قرار الانسحاب الأميركي 2018 وتداعياته على شبهة الاستقرار فيها، وتكرار هذه الدعايات اليوم. فلمجرد التلويح بالغياب الأميركي هذا، تقع كامل المنطقة في ارتباك متعدد الاتجاهات:

    قسد لا يمكنها مواجهة جيوش منظمة كالجيوش التركية التي تعتزم الدخول في شرقي الفرات بعد الانسحاب الأميركي منها كما فعلت سابقًا.

    وتركيا، تحاول الحفاظ على موقعها الجيوسياسي بالقرب من كل أميركا وروسيا معًا دون خلافات جذرية مع كلاهما. وتمضي باتجاه تنفيذ العديد من التفاهمات مع الروس بخصوص الترتيبات الجيوبوليتيكية معها فيما يتعلق بتوزيع السيطرة العسكرية الجغرافية على واقع الشمال السوري من خلال ملفات أستانة المتعاقبة.

    اليوم تتجلى بوضوح فرصة إمكانية إقفال معبر البوكمال البري وقطع خطوط التوغل البري الإيراني في المنطقة وإمكانية استعاضة روسيا عنها بخط موسكو أنقرة حلب فالساحل السوري

    الأبرز في هذا هو إيران التي تحاول التمسك بمنفذ بري لها إلى العمق السوري، وذلك بعد تشديد التفاهمات الدولية الأميركية الروسية الإسرائيلية حول ضرورة إخراجها من سوريا، وبقاء قدرتها على التمرجح حول الوجود الروسي والاستفادة منه بعد تغللها في قوات النظام السوري. ما يجعلها تمتلك قدرة على المناورة بضرورة بقاء قواتها البرية كسند بري للقوات الروسية، لكنه غير كاف ما لم تلتزم بخطوط التفاهمات الدولية بشأنه، ما يجعل الروس يغضون النظر عن ضرب تمركز قواتها في سوريا من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، هذا عدا عن خلافهما في مواقع السيطرة على الأرض مع الروس.

    اليوم تتجلى بوضوح فرصة إمكانية إقفال معبر البوكمال البري وقطع خطوط التوغل البري الإيراني في المنطقة وإمكانية استعاضة روسيا عنها بخط موسكو أنقرة حلب فالساحل السوري. أضف إلى ذلك ضرورة تحجيم الدور الإيراني وتمدده في المنطقة وانكفائها لداخل إيران. وهذا مترافق بالضرورة مع التهديدات التي ستطول حزب الله في جنوب لبنان، الأمر الذي يعطي مؤشرات عدة لوجود معارك متعددة الساحات ولكن بأزمان متعاقبة، بدأت من غزة، فمعبر البوكمال، وأغلب الظن جنوب لبنان قريبًا.

لعبة المعابر الجيوبوليتيكية اليوم وإن كانت تهدف وضوحًا لإعادة ترتيب مصالح الدول الكبرى وفق معطياتها هي، فيما على السوريين أنفسهم سواء من قسد أو قبائل عربية في شرق الفرات حل خلافاتهم الحادة والتنافس على استفراد قوة إحداهما فقط، والتعاون على ملء الفراغ في البوكمال بريًا وإقفاله بوجه الميليشيات الإيرانية؟ وأغلب الظن هذه مصلحة سورية عامة يمكن استثمارها اليوم خلاف كل مجريات الأعوام السابقة، وشواهد كوارثها لا تخطئها عين، فهل تصلح المصلحة المشتركة ما خربته سياسات القوة والاستفراد الواهية؟

——————————-

 في تفكيك تعقيدات العلاقة الإيرانية – الأميركية/ إياد الجعفري

2024.02.21

يشكّل توصيف العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، منذ أكثر من عقدين ونيّف، واحداً من أعقد قضايا التحليل السياسي وأكثرها إثارةً للجدل والاختلاف، حتى بين المتخصصين في علم السياسة والعلاقات الدولية، نظراً لطبيعة هذه العلاقة المركّبة، وتداخل متغيرات عدّة في تفاعلاتها. لكن استقرار سقوف تلك العلاقة، بصورة لا تشكّل تهديداً حقيقياً للمصالح الاستراتيجية للطرفين، دفع شريحة كبيرة من المتخصصين، نحو توصيفات تتراوح بين “التخادم المتبادل”، و”العداء المفيد”، والتشكيك بوجود “عداء” حقيقي، بين الطرفين، ليكون ركيزة لنطاق واسع من التحليلات المتعلّقة بطبيعة هذه العلاقة.

وقد تكون من أكثر المحطات إثارةً للتشويش والارتباك هي تلك التي شهدت تعاوناً شبه علني، بين الطرفين، للقضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش” في العراق، وما بدا أنه ضوء أميركي أخضر لإنقاذ نظام الأسد في سوريا من الانهيار، خشية البديل الإسلامي “المتطرّف”، حتى وصلت ملامح التفاهم بين الطرفين إلى ذروتها في الاتفاق النووي عام 2015.

لكن، في مرحلة لاحقة، وتحديداً، منذ تراجع خطر “داعش” بالعراق وسوريا، تناقضت مصالح الطرفين، وطبّقت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، سياسة “ضغط قصوى” على إيران، بغية لجم نفوذها المتصاعد في المنطقة، وصلت ذروتها في اغتيال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” بالحرس الثوري الإيراني، مطلع العام 2020. ومنذ ذلك التاريخ، حكمت معادلة تصعيد منخفض الكلفة مرفق بقواعد اشتباك مدروسة بعناية، استهدافاتٍ شنّها كل طرف، ضد قواعد ومصالح الطرف الآخر في سوريا والعراق.

ومع قدوم إدارة الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، إلى سدة السلطة بواشنطن، رفعت طهران من وتيرة استهدافاتها للقواعد الأميركية، خاصة في سوريا، دون أن تخرق قواعد الاشتباك المتمثّلة في تجنب سقوط قتلى من الجنود الأميركيين، على أمل أن يعزّز هذا الاستنزاف الهادئ، مواقف شريحة من النخبة السياسية الفاعلة في واشنطن، والتي تنادي بالانسحاب العسكري من سوريا، نظراً لكونه غير مجدٍ في تحقيق المصالح الأميركية، من وجهة نظر هذه الشريحة.

وجاءت الحرب في غزة، لتشكّل منعطفاً في التصعيد الإيراني المدروس والتدريجي ضد الوجود الأميركي في المنطقة، وصولاً إلى ذروته التي تمثّلت في التسبب بقتل 3 جنود أميركيين وجرح العشرات، بشمال شرقي الأردن، نهاية الشهر الفائت. وهو ما أعاد الاهتمام والجدل مجدداً في تعقيدات العلاقة بين طهران وواشنطن. خاصةً، بعد ما بدا أنها ترتيبات للتهدئة، يعمل الطرفان على الاتفاق بخصوصها، في أعقاب الرد الأميركي، الذي جاء بدوره مدروساً ومشفوعاً بإعلامٍ مُسبق للطرف الآخر.

ويساعد تشريح التصعيد الإيراني بعيد حرب غزة، في فهم جوانب من العلاقة الإيرانية – الأميركية، بصورة تسمح بتوصيفها، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية البعيدة عن التحيّز السياسي. وبقدر ما يعبّر هذا التصعيد عن براعة صانع القرار الإيراني في البحث عن الفرصة في كل تهديد يستهدف مصالح بلاده، بقدر ما يعبّر عن اطمئنان صانع القرار ذاك، إلى استقرار سقوف العلاقة مع واشنطن، بصورة لا تشكّل تهديداً لاستقرار نظامه.

أما مكمن التهديد الذي مثّلته الحرب الإسرائيلية الشرسة ضد حركة حماس في غزة، على مصالح الإيرانيين بالمنطقة، فكان من زاويتين. سياسية – دعائية، تتعلّق بالإحراج الذي يمثّله استفراد إسرائيل بحركة حماس، دون رد فعلٍ من القوى المحسوبة على طهران. وهو ما لم تستطع النخبة الحاكمة الإيرانية تحمّله، حتى مع استيائها وصدمتها من حجم هجوم حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وضخامة خسائر الإسرائيليين من جرائه، خلافاً لقواعد الاشتباك المعتادة بين قوى “المحور الإيراني” وإسرائيل، القائمة على الحرب منخفضة الكلفة. أما الزاوية الثانية، فكانت استراتيجية، وتتمثّل في خطر امتداد الحرب الإسرائيلية زمنياً، دون كوابح، بصورة قد تجعل سيناريو الإجهاز على حماس، أمراً وارداً، وهو ما يعني خروج إسرائيل “منتصرة” بصورة غير مسبوقة، على “المحور الإيراني”، الأمر الذي يهدد بتكرار هذا السيناريو، في حالة “حزب الله”، بلبنان.

أما الفرصة التي قرأتها طهران، في ذاك التهديد، فكانت استعادة جانب من “القوة الناعمة” والتأثير، في الشارع العربي، بعد أن تورطت في حربٍ خشنة ومثخنة بالانتهاكات الجسيمة، خلال العقد الفائت، بغية إنقاذ نظام الأسد من السقوط، بصورة هشّمت صورتها التي عملت في العقد الأول من القرن الفائت، على بنائها، في أوساط غالبية من الجمهور العربي، على أنها “قائدة” محور مقاوم، يستهدف إسرائيل. ولانتهاز هذه الفرصة، كان على طهران دفع القوى التابعة لها، إلى تصعيدٍ مدروس بعناية، أتقنه، بصورة خاصة، حزب الله على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. لكن هذا التصعيد، خرج عن السيطرة في حادثة مقتل الجنود الأميركيين نهاية الشهر الفائت، الأمر الذي دفع طهران إلى إعادة ضبط تصعيدها، وتبادل الرسائل مع واشنطن، لإعادة قواعد الاشتباك بينهما، إلى سابق عهدها.

تلك التطورات الأخيرة، تؤشر بصورة جليّة إلى سقوف العلاقة الإيرانية – الأميركية، والأهداف العميقة للطرفين من تلك العلاقة. فأولوية النخبة الحاكمة في طهران، منذ عقدين ونيّف، هو التحوّل إلى قوة إقليمية كبرى، تكون شريكةً في ترتيب المشهد الإقليمي، مع أي قوة دولية فاعلة بالشرق الأوسط. سواء كانت الولايات المتحدة، أو حتى الصين وروسيا. لذلك، حينما هدّدت الثورة بسوريا عام 2011، إحدى ركائز هذا المشروع الإيراني، متمثّلة في احتمالية إسقاط نظام الأسد، وخسارة صلة الوصل البرّية بين إيران وأيقونة تاج نفوذها بالمنطقة –حزب الله في لبنان-، تبدت الأولوية الإيرانية بصورة لا تقبل الجدل، وتورّطت إيران في حربٍ قذرة ضد غالبية مناوئة للأسد، ولم تهتم بالتضحية بالصورة التي عملت جاهدةً على رسمها قبل الـ 2011، في مخيال الشارع العربي. ويستلزم المشروع الإيراني، بطبيعة الحال، تجنّب أي مواجهة كبرى خارجة عن السيطرة مع الولايات المتحدة الأميركية، أو بين ذراعها اللبناني – حزب الله – وإسرائيل، لأن تراكم القوة لدى القوى التابعة لطهران، في المنطقة، غايته خدمة تطلعات طهران نحو نفوذ إقليمي كبير، لا القضاء على إسرائيل، التي تملك الآن عشرات أضعاف ما يمكن أن تملكه طهران، حينما تفجّر قنبلتها النووية الأولى. وتدعيم هذا النفوذ الإيراني، يتطلّب قوة ناعمة، لا خشنة فقط. ومن أبرز وجوه تلك القوة الناعمة، استعادة التأثير الإيراني، في الشارع العربي، الذي يستند أساساً إلى بروباغندا العداء لإسرائيل وأميركا. وهو التأثير الذي تهشّم خلال العقدية الفائتة، وتحاول طهران استغلال حرب غزة، لترميمه الآن.

أما من الجانب الأميركي. فيدرك صانع القرار بواشنطن أن التهديد الإيراني العلني لإسرائيل، غير دقيق، حتى على المدى البعيد. وأن إيران قوة إقليمية صاعدة، وطامحة، على غرار قوى أخرى، تريد واشنطن ضبط صعودها، بصورة تخدم مصالحها في البقاء بوصفها القوة الدولية الأكثر فاعلية ونفوذاً بالشرق الأوسط. في المقابل، لا ترى واشنطن في إسقاط النظام الإيراني، مصلحةً أميركية، سواء من حيث الكلفة المرتفعة للغاية، لتحقيق هكذا هدف، أو من حيث التداعيات المحتملة له، والتي أقلها، فوضى كبرى في المنطقة، يصعب ضبطها، إن فرط عقد دولة بحجم إيران. ولضبط الصعود الإيراني، دون تهديد استقرار النظام الحاكم بطهران، تزاوج واشنطن بين أدوات اللجم الناعمة كالعقوبات، والخشنة أحياناً، كاستهداف أذرع إيران بالعراق وسوريا، وبين التواصل الدبلوماسي، العلني أو السرّي، المباشر، أو عبر وسطاء.

ونظراً لتلك السقوف والأهداف العميقة في العلاقة الإيرانية – الأميركية، تبدو تلك العلاقة معقّدة. ووتتبدى من حين لآخر، ملامح “تخادم متبادل” يصعب غض الطرف عنها، كما تتبدى أيضاً ملامح “اشتباك” يصعب تجاهلها هي الأخرى. ويحاول كل طرف، بصورة خاصة –الإيراني-، مداراة ذلك، باستخدام البروباغندا، والاشتباكات منخفضة الكلفة. لكن أياً منهما، لا يعنيه تشكيل تهديدٍ نوعي لمصالح أو وجود الطرف الآخر.

تلفزيون سوريا

———————————-

 الضربات الأميركية.. بين الردع والتصعيد/ رائد المصري

2024.02.09

تريد الولايات المتحدة الأميركية الردَّ على الهجمات المتكرِّرة ضدَّ جنود قواتها في العراق وسوريا، لكن في الوقت نفسه تريد تجنُّب الدخول في حرب أوسع مع إيران، فإدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، كان لها هدفان من خلال هذه الضربات التي شكَّلت انحداراً عسكرياً خطيراً على مستوى المنطقة، منها ما له علاقة بتوقيت هذه الضربات، ومنها ما له علاقة بأهدافها، لكن الأهم هو أن الضربات العسكرية الأميركية في العراق وسوريا للفصائل المسلحة الموالية لإيران، لن تمنعها من شنِّ ضربات جديدة على أهداف أميركية، وهو ما يجعل الرئيس الأميركي جو بايدن في وضع مربك، لإيجاد توازن بين الردع والتصعيد.

فمن الواضح أنَّ واشنطن باتت أمام انكشاف كبير في ظل سياسات عمياء، تتفلَّت من أيديها أوراق الصراع والنفوذ، خصوصاً ما يجري على البحر الاحمر وبعد أن هدَّد الحوثيون في اليمن، بقطع كابل الألياف الضوئية الذي يمتد على طول قاع البحر الأحمر، إذا هاجمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المطارات اليمنية مرة أخرى، وهذا تهديد خطير جداً، حيث إن هذا الكابل يغذي قنوات الاتصال الرابطة بين أوروبا وإفريقيا والشرق، وإذا تعطلت فسوف يؤثر ذلك على الاستقرار الجيوسياسي والأسواق المالية العالمية وأمن المعلومات، إذ أن أكثر من 99% من حركة الإنترنت في العالم وأكثر من 80% من خطوط الهاتف الدولية تمر عبر هذه الكابلات البحرية.

هذا التخبُّط والحِيرة التي تحكم فريق الإدارة الأميركية في البيت الأبيض، أراد بايدن من توقيت الضربات العسكرية على الفصائل المسلحة في سوريا والعراق وقواعدها العسكرية إيصال رسائل محددة، في الوقت الذي كان يستقبل فيه الرئيس جثامين الجنود الأميركيين القتلى بنفسه، وهو عمل انتخابي بامتياز، أيضاً، إن توقيت هذه الضربات جاء بعد إقفال البورصات الأميركية ليل الجمعة والسبت، حتى لا تتأثر أسواق الأسهم والسندات وعمليات بيع عقود النفط والطاقة.

أما لناحية أهداف هذه الضربات، فهي للقول والتأكيد، وللرد على اتهامات الجمهوريين بأنَّ الرئيس بايدن جبان وضعيف، وهو من فرَّط بقوة وهيبة الولايات المتحدة حول العالم، ويريد إثبات أنه قادر على استعادة هذه الهيبة والمكانة، وكذلك للقول إن الإدارة الأميركية لم ولن تترك حلفاءها التقليديين من العرب والخليجيين، الذين مالوا عن السياسات الأميركية وفتحوا مسارات لتحالفات باتت تُغضِب واشنطن ومشاريعها، والقول إنها قادرة على ردع أدوات طهران أينما كان، خصوصاً بعد حرب غزة وتورُّط إدارة بايدن مباشرة في هذا الصراع، من دون إيجاد أية حلول في الوقت الراهن، وكذلك جاءت هذه الضربات التي أرادها بايدن ليؤكد في الوقت نفسه أنه يقف إلى جانب حكومة نتنياهو وسياساته، بعد الضغوطات الكبيرة التي تعرَّض لها من الداخل الأميركي ومن العرب والمسلمين وفي أوروبا.

لكن رغم كل ذلك، من الذي يمنع أن لا تتوسَّع هذه الضربات في حال استمرت، أو توسَّعت الحرب، وهي اليوم في مسارها التصعيدي؟ فلن تقدر واشنطن بعد الآن وحدها على ضبط المشهد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، بل إن نتنياهو قد ورَّطها فعلاً في حرب لا يبدو أفقها واضحاً، وسْط انهزام كبير وتطويق عابر للبحار والقارات، واضطراب في سلاسل التوريد والتسبُّب في انقطاع الأمن الغذائي والطاقوي حول العالم، وهذا ما تسبَّب به نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، التي لا تزال حتى الآن رافضة لأي مشروع تسوية، يُعيد الحق الفلسطيني المسلوب ويُخرج واشنطن من أزماتها المتلاحقة. وبناء عليه، وبسبب تراكم هذه الأخطاء في السياسات الخارجية لواشنطن مالياً واقتصادياً ونفطياً ودولارياً، ورفعاً للفوائد المصرفية، فإنه بإمكان الدول الصاعدة بالتحديد الجنوح والكف عن الرهان على الإدارة الأميركية، والبدء برسم سياسات وتحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا وأوروبا بحكم الواقع الاقتصادي المُتاح، وما يساعد في ذلك هو الانقسامات التي باتت حادة داخل أميركا، والتي صارت تهدِّد بيئات العمل الديمقراطي وتنظيم الأحزاب وتداول السلطة.

لكن اللاّفت، هو حجم الإدانات الذي جاء وكان مفهوماً من قبل بغداد ودمشق لهذه الضربات، لكن الإدانة الإيرانية وتنديدها بـ”انتهاك لسيادة سوريا والعراق”، بحسب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، كما دعوة موسكو إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، أشارت مصادر دبلوماسية، إلى أنها كانت مبْعَث سخرية كبيرة، بالنظر إلى حجم الانتهاكات المرتكبة من قبل طهران وموسكو لسيادة كل من سوريا والعراق، وبالتالي جعل دول العراق وسوريا تقف عاجزة عن أي فعل يستبيح سيادتها وأراضيها، وهذه هي الإرادة الدولية والمصالح الإقليمية التي ترغب في إضعاف وتفتيت وحدة هذه الدول في المنطقة، وتقديمها لقمة سائغة على طبق طاولة المفاوضات مع واشنطن، أو لتقاسم النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي مع روسيا.

في موازاة ذلك، تشنُّ ضربات أميركية_بريطانية على أهدافٍ للحوثي في اليمن، الذين هاجموا السفن التجارية في البحر الأحمر، ولهذا تؤشِّر كل مراكز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن إدارة بايدن تحاول السير على خيط رفيع مع الضربات التي شنتها على العراق وسوريا، فهي من جهة تريد إنهاء الهجمات لتقول إن هناك ثمناً يجب دفعه مقابل قتل جنود أميركيين وتقويض قدراتهم على تنفيذ مزيد من الهجمات في المستقبل، ومن جهة أخرى، تريد الإدارة الأميركية تجنُّب التصعيد الذي قد يؤدي إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط، من دون أن توجد أية ضمانات تؤكد بأن هذه الحرب لن تتوسَّع أكثر، فالإدارة الأميركية تقوم بكل ما في وسعها لتتجنب الدخول في حرب أوسع مع إيران، لهذا السبب، لم تضرب أية أهداف داخل إيران، وهذا معناه، أنَّ هناك تخادماً واضحاً بين الطرفين للإبقاء على المصالح المشتركة في ضرب حركات التحرر الوطنية وسيادة الدول العربية، لمنعها من القيام بأي أدوار إقليمية مستقبلية، ومشاريع اقتصادية، يمكن لها أن تفيد منها شعوب المنطقة، في ظلِّ التبدل في علاقات الإنتاج العالمية.. فهي سياسات باتت مكشوفة في طهران وواشنطن، وما على العرب إلاَّ التنبُّه لها، والسير بما يعزِّز سيادة دولها.

————————–

 حرب رمزيّة ضد عدوّ مُدلّل/ مالك داغستاني

2024.02.08

في الشهور الأخيرة ازداد وضوحاً، أن ما يريده الإيرانيون من كامل سياستهم الخارجية، هو الوصول إلى صفقة استراتيجية. صفقة ترسّخ نفوذهم في المنطقة، بمعنى حصولهم على اعتراف دولي بإيران كقوة إقليمية محورية. كان هذا سعياً دائماً، منذ أن خلقت إيران لنفسها ميليشيات عسكرية في عدد من بلدان الإقليم، تأتمر بأوامر طهران. ميليشيات لا تقوّض السلم الأهلي في مناطق وجودها فحسب، بل وتختطف من الدولة قرار الحرب والسلم كما هو حاصل في لبنان. وصولاً إلى سعيها الحثيث لحيازة السلاح النووي، ما يجعل نفوذها أمراً واقعاً. طبعاً تعتمد إيران في هذا، إلى حدٍّ كبير، على دعم وإسناد قوى دولية لها مصلحة في تقويض النفوذ الغربي، وعلى رأس تلك القوى روسيا والصين.

في الخامس من الشهر الحالي شباط/فبراير، مع التصعيد الخطير بين الولايات المتحدة وميليشيات إيران في المنطقة، أعلن “شهرام إيراني” قائد القوات البحرية الإيرانية عن نية بلاده إجراء مناورات بحرية بالاشتراك مع كل من روسيا والصين، ودول أخرى لم يفصح عنها. زاعماً أن المناورات التي ستجري خلال الشهر المقبل، تهدف إلى تأمين الأمن الإقليمي!

للعلم، هذه ليست المرة الأولى لشراكة المناورات البحرية بين الدول الثلاث، ففي ذات التوقيت من العام الماضي تم إجراء نسخة منها شمالي بحر الهند. الهدف المعلن للدول الثلاث هو تطوير التعاون لضمان الأمن البحري. سيبدو الأمر وكأنه من باب الفكاهة، أن إيران التي أصدرت أوامرها للحوثيين لتقويض أمن البحر الأحمر، بحجة دعم غزّة، هي نفسها من تتحدث عن الأمن البحري والإقليمي.

ولكن ماذا عن سياسة إدارة بايدن تجاه إيران؟ عقب الرد الأميركي الرمزي على مواقع ميليشيات تابعة لطهران في كل من العراق وسوريا وإيران، صرح مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأميركي بأن على الرئيس “أن يستيقظ، ويدرك أن سياسة استرضاء إيران قد فشلت” مضيفاً بأن مقتل ثلاثة جنود أميركيين على يد الميليشيات المدعومة من طهران تطلّب رداً واضحاً وقوياً “ولكن لسوء الحظ، انتظر بايدن لمدة أسبوع، أرسل خلاله (برقيّة) إلى العالم كلّه، بما في ذلك إيران، تنبههم إلى طبيعة الرد الأميركي وموعده”. وهذا القول ينطوي فعلاً على حقيقة علاقة إدارة بايدن بإيران.

كثير من التقارير تحدثت عن تحركات لميليشيات إيران خلال الأسبوع الذي سبق الضربة الأميركية، لتفادي أو تقليل الخسائر، خصوصاً في صفوف “مستشاري” الحرس الثوري الإيرانيين. ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن عناصر الحرس الثوري وحزب الله الذين تمركزوا لفترات طويلة على السواحل اليمنية للمساهمة في الهجمات ضد السفن في البحر الأحمر، غادروا تلك المناطق إلى صنعاء واختبؤوا بين المدنيين. وهو ما حصل في العراق وسوريا ولبنان أيضاً. وكما بات معروفاً، لم يتم الإبلاغ عن مقتل أي إيراني في البلدان الثلاثة خلال الضربات الأميركية، حيث انتقل القادة الإيرانيون إلى بلادهم، أو إلى منازل في أماكن مكتظة بالمدنيين. في سوريا انتقل بعضهم إلى مواقع القوات العسكرية الروسية والسورية.

اليوم، وبعد أيام قليلة من رد الولايات المتحدة، بدا من الواضح أن النظام في إيران قد تغلّب على مخاوفه من الغضب الأميركي. مخاوف شعر بها الإيرانيون وأثّرت على أسواق المال في إيران، كما شعر بها العالم خلال الأسبوع الذي سبق الضربة، عندما وصل الأمر بالمسؤولين الإيرانيين إلى التبرؤ الصريح من نشاطات عملائهم. علي فدوي نائب قائد الحرس الثوري الإيراني سيصرح بعد الرد الأميركي بأنه “لم تُطلق رصاصة واحدة على إيران” مؤكداً أن الجهود الأميركية لردع إيران قد فشلت. ثم ليصدر الجيش الإيراني تحذيراً من استهداف سفينتي الشحن بهشد وسافيز، حيث يسود الاعتقاد بأنهما تساعدان الحوثيين على استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر.

إذاً جاء الرد، حتى الآن على الأقل، لرفع الحرج عن إدارة بايدن أمام الرأي العام الأميركي، مع تجنب توسيع الأزمة، عبر إعطاء فرصة للميليشيات التابعة لإيران لاتخاذ تدابير احتياطية بهدف تخفيف الإصابات. بكل الأحوال لم يبدُ الأمر مستغرباً، فمن المعروف أن سياسة بايدن خلال السنوات الثلاث الأخيرة كانت تميل إلى تخفيف العقوبات والحصار على إيران، سعياً منها لإعادة إحياء اتفاق جديد حول النشاط الإيراني النووي. الأمر الذي أدى إلى زيادة عائدات النفط الإيراني، وهو ما يرجع إلى نهج إدارة بايدن الأكثر تساهلاً إذا ما قورنت بما دُعيَ “سياسة الضغط الأقصى” التي انتهجتها إدارة سلفه دونالد ترامب.

بالمناسبة، وحول زيادة عائدات النفط رغم العقوبات، وهو حق مشروع للشعب الإيراني دون شك، فإن الإيرانيين لم يلمسوا أثراً لتلك العائدات التي بلغت 30 مليار دولار عام 2023، فتلك الأموال بحسب الخبير الاقتصادي الإيراني إحسان سلطاني، لا تُنفَق في المجالات التي تهم المواطنين كالتعليم والصحة، وإنما تخصص لأطراف بعينها. استشهد سلطاني على سبيل المثال بزيادة ميزانيّة الإذاعة والتلفزيون ثلاثة أضعاف، وأضاف مخاطباً الجمهور الإيراني “إذا سمعتم أن ميزانية الحكومة قد زادت فلا تفرحوا”. بطبيعة الحال، سلطاني لم يأتِ على ذكر المليارات التي تُصرف لتمويل الميليشيات التابعة.

قبل الرد الأميركي بيومين طلب أكثر من 60 مشرّعاً أميركياً من كلا الحزبين، تطبيقاً أكثر صرامة للعقوبات على إيران، خصوصاً النفطية منها. جاء ذلك على أرضية معرفتهم بتساهل الإدارة مع النظام الإيراني. داعين لمنعه من الحصول على موارد مالية إضافية عبر تجارة النفط التي تتحدى العقوبات. ولكن هل هذا موقف أخلاقي يُحسب لأولئك النوّاب؟ طبعاً لا.

لم يتحرك هؤلاء النواب بدوافع سياسية تمنع التغوّل الإيراني في المنطقة، وهو بدأ منذ عقود، إنما جاء تحركّهم إثر مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة، وعموماً بدأ هذا النوع من الانتقادات بعد هجوم السابع من أكتوبر في غزّة. ما شجّع الجمهوريين والديمقراطيين للضغط من أجل تغيير السياسة المتساهلة تجاه النظام الإيراني. وهذا بالتأكيد لن يعني تغييراً جذرياً، فالمشروع الإيراني حين لا يمس أميركا وحلفاءها، إنما هو مشروع مقبول إلى حدٍّ ما، ولا يتناقض مع المصالح الغربية عموماً. فمن يناله الأذى من مشروع السيطرة الإيرانية هي دول المنطقة، وبخاصة شعوبها، وهو أمر لا يعني الكثير لا للأميركيين، ولا للغرب عموماً.

————————-

 حيثيات الرد الأميركي على ميليشيات إيران/ عمر كوش

2024.02.06

لم تكن الولايات المتحدة الأميركية في عجلة من أمرها للرد على الهجوم الذي استهدف قاعدتها العسكرية (البرج 22) شمالي الأردن، في 28 يناير/ كانون الثاني الفائت، فبعد أقل من أسبوع شنّت قاذفاتها هجمات على عدة مواقع لميليشيات إيرانية في العراق وسوريا، ضمن إطار حملة عسكرية ضدها، قد تمتدّ أياماً، وتريد الإدارة الأميركية منها أن تظهر للعالم أن ردها ليس فقط انتقاماً على مقتل ثلاثة من جنودها وجرح عشرات آخرين، بل أيضاً من أجل التأكيد على أنها ما تزال قوة رادعة لكل من يحاول استهدافها، والنيل من قيادتها في منطقة الشرق الأوسط.

كذلك، لم تذهب الإدارة الأميركية في ردها الانتقامي، المدروس جيداً، إلى استهداف إيران بشكل مباشر، على الرغم من أن العديد من المسؤولين في الإدارة الأميركية، وجّهوا الاتهام مباشر إليها بالوقوف وراء الهجوم على القاعدة الأميركية وحملوها مسؤوليته، وتوعدوا بأن الرد العسكري الأميركي سيكون قوياً و”متعدد المستويات، ويأتي على مراحل، ويستمر بعض الوقت”، لكنهم وبُعيد تنفيذ الهجوم الانتقامي، سارعوا إلى طمأنة إيران بأن هجماتهم لن تستهدفها مباشرة.

تعكس طبيعة الرد الأميركي ارتباك إدارة الرئيس بايدن وتناقض مواقفها، فمن جهة أولى، أرادت تأكيد قيامها بالرد العسكري على مواقع الميليشيات، لكنها من جهة ثانية لا تريد أن يتطور ردها إلى مواجهة مفتوحة مع النظام الإيراني.

فالرئيس الأميركي جو بايدن، لم يفوت فرصة إلا وتحدث عن أن بلاده لا تريد اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط، وبالتالي جاء ردها محسوباً، ومنزوعاً من أي تداعيات فائضة، وانحصر هدفه في إيصال رسالة للداخل الأميركي بأن إدارة بايدن ليست ضعيفة أمام إيران كما يحاول الجمهوريون تصويرها، وأنها حاسبت مَن تسبب في مقتل جنودها، خاصة أولئك الذين ينتشرون خارج الولايات المتحدة، وبما يعيد هيبتها التي تأثرت كثيراً، نظراً إلى عدم ردها بشكل قوي على الهجمات السابقة، التي طالت القوات الأميركية في سوريا والعراق، وتجاوز عددها 160 هجوماً منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي استهدفت معظم القواعد العسكرية الأميركية بينها قواعد مهمة ومحصنة مثل قاعدة “عين الأسد” الجوية غربي العراق، وقاعدتي “العمر” و”كونيكو” شرقي سوريا، وقاعدة “التنف” على المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق، فضلاً عن الهجمات التي ينفّذها الحوثيون في اليمن ضد السفن والبوارج الأميركية وسواها في البحر الأحمر.

يبدو أن ما يشبه تفاهماً غير معلن جرى بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، إذ أوعز الأخير إلى الميليشيات الطائفية التابعة له في سوريا والعراق، بأن تتخذ خطوات تراجعية، عبر تعليق ميليشيا “كتائب حزب الله” عملها العسكري، والإعلان عن عدم قيامهم بالرد على أي ضربة عسكرية أميركية لها، وإشاعة سحب ضباط وعناصر لـ”الحرس الثوري” من سوريا.

كل ذلك مقابل إفراغ الرد العسكري من أنيابه، سواء في عدم استهداف إيران أو في التريث الأميركي، الذي أتاح للميليشيات إفراغ مقارها، وإعادة انتشار عناصرها، وربما أخذت العلم مسبقاً بموعد ومكان الضربات الأميركية، الأمر الذي يفسر أن معظم ضحايا الرد الأميركي كانوا من المدنيين العراقيين والسوريين، وبما يتسق مع أنهم كانوا على الدوام ثمن المناوشات الأميركية الإيرانية.

في المقابل، يتسق الرد الأميركي المدروس مع توجهات في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لا تحبذ فتح مواجهات عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، ولا توسيع الصراع الدائر فيها، وذلك في ظل النقاش الأميركي حول استكمال الانسحاب العسكري من المنطقة، خاصة من العراق وسوريا.

إضافة إلى أن عدم توسيع دائرة الصراع، يعني أن توفر الولايات المتحدة لإسرائيل كل ما يلزمها كي تركز جهودها في الحرب على غزة، من أجل أن تمعن في إبادة وتهجير الفلسطينيين فيها، وهو أمر يسعى النظام الإيراني التكسب من ورائه، عبر لجم “حزب الله” اللبناني، ومنعه من الخروج عن قواعد المناوشات على الجبهة اللبنانية مع إسرائيل، وترك حماس وحدها، خارج وحدة الساحات الزائفة، في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة أميركياً.

إضافة إلى أن النظام الإيراني تبرّأ، وعلى لسان مرشده الأعلى، من مسؤولية أي هجمات تفعلها الميليشيات التابعة له، وأصرّ على أن هذه الميليشيات التي يمولها ويسلحها ويدربها، مستقلة القرار السياسي والعسكري، وأن ما تفعله مرتبط بشكل مباشر بالموقف الأميركي من الحرب الإسرائيلية على غزة، وكرد فعل على الدعم الأميركي لما ترتكبه إسرائيل من جرائم فيها، حيث يقدم انحياز الولايات المتحدة المطلق إلى جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي الأرضية، والذريعة، للنظام الإيراني كي يحقق مكاسب في المنطقة على حساب دماء أهل غزة، في حين أن مناوشاته وتحرشاته بالوجود الأميركي في المنطقة لا علاقة لها بالحرب الإسرائيلية الإجرامية على غزة، بل بمشروعه التوسعي بالمنطقة، والذي تتواطَأ معه إدارة بايدن في هذا المسعى.

تذهب معظم التكهنات والتقديرات إلى أن الإدارة الأميركية في مأزق حقيقي، لأن ردها لا يتوقع أن تترتب عليه إحداث معادلات جديدة في المنطقة، وقد لا تتغير الأمور كثيراً بالنظر إلى عدم اختلافه كثيراً عن ردودها السابقة، حتى وإن نفّذت الولايات المتحدة ضربات جديدة على الشاكلة نفسها، الأمر الذي يعني العودة إلى سلوك قواعد التحرشات والاشتباكات القديمة نفسها، واستمرار استهداف أماكن وجودها العسكري في المنطقة، لأن إيران تحاول الدفع باتجاه تعجيل انسحاب أميركي محتمل من سوريا والعراق، بغية إحلال ميليشيات تابعة لها محله.

ويشهد على ذلك أن فراغات القوة التي حصلت سابقاً في المواقع التي انسحبت منها في كل من العراق وسوريا، استفادت منها إيران كي تشغلها بميليشياتها، لذلك لم يكن الهجوم على القاعدة العسكرية في الأردن، بعيداً عن أجواء النقاش الدائر في الأوساط السياسية الأميركية حول استكمال سحب القوات الأميركية من العراق، والمفاوضات التي تجري بين الإدارة الأميركية والحكومة العراقية لاستكمال الانسحاب الأميركي.

يمكن القول إن حيثيات الرد الأميركي المدروس جاءت متوافقة مع التوظيفات التي أرادتها إدارة بايدن، ولن تشكّل تداعياته أي إحراج للنظام الإيراني، فالطرفان مستفيدان مما يجري في المنطقة، لذلك سيستمران فيما حرصا عليه سابقاً، ومواصلة الحرص على عدم الاشتباك المباشر، وخاصة من طرف نظام الملالي الإيراني، رغم أنه لن يكفّ عن استخدام أدواته الميليشياوية في المنطقة لتنفيذ مخططاته، والتي يستخدمها وقوداً لمشروعه التوسعي في المنطقة.

——————————-

 الحديث عن الانسحاب الأميركي من سوريا والعراق.. حدث جديد أم استراتيجية ثابتة؟/ محمد فواز

2024.02.06

ردّت القوات الأميركية على مقتل ثلاثة من جنودها وإصابة عشرات آخرين بهجوم تعرضت له على الحدود الأردنية السورية، بـ85 ضربة على مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق.

وفي الوقت نفسه انتشرت الأنباء عن تفكير أميركي جدّي في سحب قواتها المتبقية في سوريا والعراق، فمن المعلوم أن الحرب في غزة توسّعت منذ اليوم الثاني لعملية 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وانتقلت إلى العراق وسوريا والبحر الأحمر.

غير أنّ الردود الأميركية داخل الأراضي العراقية أزعجت الحكومة وهو ما عُبر عنه أكثر من مرة، كان آخرها اعتبار رئيس الوزراء العراقي في بيان له أن الهجمات الأميركية في العراق “تجاوز على سيادة العراق بشكل سافر”، ومن شأنها أن تؤدي إلى “تصعيد غير مسؤول”.

لم يكن هذا التصريح يتيماً، فقد قالت وزارة الخارجية العراقية إن المباحثات الدائرة حاليا بين جانبها وبين واشنطن ستكون مهمته “صياغة جدول زمني محدد وواضح يحدد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي، ومباشرة الخفض التدريجي المدروس لمستشاريه على الأرض العراقية”.

يذكر أن 2500 عسكري أميركي متمركزون في العراق على رأس قوات التحالف الدولي الذي أنشئ لمكافحة تنظيم داعش، عام 2014، إضافة إلى نحو 900 عسكري أميركي في سوريا، ويُبحث في إمكانية سحبهم من البلاد.

إن التفكير في سحب هذه القوات من سوريا والعراق لا يتعارض مع الردود الأميركية القاسية، كونها أتت بعد ترتيب غير مباشر مع القوات الإيرانية عبر تحذيرات أميركية متكررة وسحب إيران لقيادات حرسها الثوري من سوريا وغيرها من الإجراءات التنسيقية غير المباشرة، والتي تؤكد بسعي الطرفين لتهدئة الجبهات الإسرائيلية الشمالية والترتيب لتنسيق أوسع في المرحلة المقبلة.

لا يأتي هذا البحث من خارج السياق العام وليس الموضوع بنات ساعته، ولكنه يأتي ضمن مسار طويل من التفكير الأميركي في السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة دائما ما كانت تندفع في بداية الأعمال ولكنها تعيد بعد مدة من الزمن حساباتها فيثقلها تحمل أعباء وجود جنود في هذه البقعة إن من الناحية العسكرية كونها عرضة للاستهداف الدائم والسهل نوعا ما، ويجبر الولايات المتحدة على الرد ويستدرجها للرد والرد المضاد التي هي بغنى عنه، ومن الناحية الشعبية كون الشعوب عادة ما تنسى المنطلقات بعد مدة من الزمن وتدفع نحو إغلاق الملفات بأي ثمن وتضغط على الإدارات الديمقراطية بهذا الهدف دون أن يكون لهم دراية بالحسبة الاستراتيجية، فضلاً عن دوافع اقتصادية عبر ضغط بعض الأجنحة والقواعد لتحويل التمويل المرصود لهذه العساكر نحو ملفات أكثر أهمية بنظرهم.

تبرز كل هذه الاعتبارات عند المحطات أو المتغيرات، فاليوم تتعرض القوات الأميركية التي تقارب الـ2900 عسكري إلى وابل من الضربات بمعدل أكثر من ضربة يومياً.

هذه الضربات المكثفة إلى جانب المطالبة الرسمية العراقية والعقلية الأميركية كما ذكرنا، يجتمع لها عامل إضافي في هذه الحرب وهو محاولات رئيس النظام السوري بشار الأسد إعادة تقديم نفسه عبر لجم أي عملية عسكرية من سوريا باتجاه إسرائيل ومحاولة إحداث تغيرات داخلية توحي بأنه يحارب الفساد داخل النظام.

ليس ذلك فحسب، فقد ذكر موقع “المونيتور” بأن الإدارة الأميركية الحالية طرحت الحاجة لإحداث تقارب بين “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” (التحالف الذي تستخدمه واشنطن للسيطرة على الشمال ويتزعمه الأكراد) والنظام السوري، وتم اقتراح تشكيل لجنة بين الإدارات للتشاور بالأمر.

ورغم نفي البيت الأبيض إمكانية الانسحاب في تعليق لقناة العربية، إلا أن لا دخان بلا نار ومجرد بحث الأمر اليوم يعني إمكانية إنفاذه في وقت قريب لاحق ولو على مراحل، وهذه حال القرارات التي تبدأ بالتسريبات قبل أن تصيح قرارات نافذة في نهاية الأمر.

الانسحاب ليس جديداً على الإدارات الأميركية، فقد سحبت قواتها بشكل مفاجئ من عدة مناطق ومن دون حسبة استراتيجية هادئة كالذي حدث في سوريا مع ترامب وفي أفغانستان مع بايدن، وهو ما يؤكد بأن الأمر ليس بحدث عابر ولكنه نهج مختلف الإدارات.

إن الانسحاب من سوريا والعراق من شأنه كما دائما أن يعزز وجود منافسي الولايات المتحدة في المنطقة، فالخروج دون تحقيق تغيير سياسي أم عسكري يوحي لـ”الأسد” بالانتصار في سوريا وبأن استراتيجيته “التقاربية مع الغرب” قد نجحت في إقناع الإدارة الأميركية وسيدفعه بشكل أكبر لمحاول مد نفوذه بشكل أكبر في سوريا.

أما المستفيد الأوّل فستكون إيران التي ستؤكد بأن استراتيجية حلفائها في سوريا والعراق نجحت في “طرد الولايات المتحدة منها”- على حد التعبير الذي سيكون- وهو انتصار يعطيها دفعة معنوية كبيرة تعزز وجودها على الأرض في كلا البلدين والمنطقة كما يرفع معنويات أذرعها الأخرى للثبات على استراتيجياتها- وإن كان لذلك ترتيب تكتيكي بانسحابات إيرانية سرعان ما تستردها لقرب المسافة وتجذر العقلية الميليشوية.

كذلك، فإن هذا العمل يشكل ضربة إضافية لثقة حلفاء الولايات المتحدة في إمكانية الاعتماد عليها في حمايتها وهذا الأمر ينطبق على قوات قسد والأتراك وكذلك الخليج والأردن الذين سيعتبرون بأن نتيجة هذا الانسحاب الأول والأهم هي توسع النفوذ الإيراني على حسابها ولعل التسريبة نفسها تأتي في إطار الضغط على الدول العربية للانصياع للمطالب الأميركية بما يخص الشأن الفلسطيني-الإسرائيلي.

مرة جديدة تؤكد الولايات المتحدة الأميركية لمعارضيها بأن الصبر في وجهها يأتي بنتيجة أكثر من الانصياع التام لها، وبأن على حلفائها الحذر كون الاعتماد عليها غير مضمون ودعمها يتوقف وينتهي في أي لحظة.

——————————

 إيران أميركا.. ما أشبه الليلة بالبارحة/ منير الربيع

2024.02.02

على ما يقول طرفة بن العبد ما أشبه الليلة بالبارحة. فكأن المشهد القائم حالياً بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإيران من جهة أخرى، يشبه إلى حدود بعيدة المشهد الذي كان قائماً في العام 2015 بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، متجاوزاً الخط الأحمر الذي رفعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، يومها عدّل أوباما من خطه الأحمر، فتجاوزه بنفسه، دخلت روسيا عبر وزير خارجيتها سيرغي لافروف في مسار تفاوضي بين الأميركيين من جهة، وإيران والنظام السوري من جهة أخرى حول إبرام اتفاق يقضي بتسليم دمشق للسلاح الكيماوي مقابل تجنّب ضربة عسكرية أميركية. المشهد نفسه يتكرر بعد إقدام كتائب حزب الله العراقي على استهداف موقع عسكري أميركي على الحدود الأردنية السورية تابع ومربوط بقاعدة التنف.

أدى الاستهداف إلى مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة نحو 40 آخرين. وجدت أميركا نفسها في الزاوية، لا يمكنها أن تتحمل مثل هذه الضربة. ثمة من نظر إليها كـأسد جريح لا بد له أن يسارع إلى الانتقام. تراوحت التقديرات حول الوجهة وكيفية الردّ الأميركي وإذا ما سيكون فاعلاً ومؤثراً ودافعاً إلى تغيير موازين القوى، إلا أن ذلك كان مستبعداً، نظراً للسياسة الأميركية العميقة ولمواقف جو بايدن المشابهة تماماً لمواقف أوباما. هددت واشنطن بالردّ وكأنها أعطت مجالاً للإيرانيين وللفصائل العراقية الحليفة لطهران لاتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة. تماماً كما فعل بايدن مع الحوثيين عندما حذرهم بأن بلاده ستوجه ضربة لهم رداً على عملياتهم في البحر الأحمر فاتخذوا الإجراءات والتدابير اللازمة، فيما الضربات لا تؤدي إلى ردعهم عن الاستمرار في التأثير السلبي على الملاحة البحرية والتجارة العالمية.

إثر الضربة التي تلقتها واشنطن، نشطت قنوات الاتصال بين أميركا وإيران، استمرت الولايات المتحدة في منح الوقت وإعطاء الفرص للوصول إلى تفاهم، يأتي ذلك بعد أسابيع على ما كشفه السفير الإيراني في دمشق عن تلقي بلاده عرضاً أميركياً حول الذهاب إلى تسوية شاملة في المنطقة تطول كل الملفات. انطلق التفاوض بين الجانبين في أكثر من مكان وعبر أكثر من وسيط، وبينما لقاءات مباشرة عقدت في أرمينيا بهدف تجنب الصراع أو تصعيد المواجهة التي لا تريدها أميركا، ولن تكون في مصلحة إيران. مفاوضات لا تلغي ضربة أميركية معروفة مسبقاً هدفها رد الاعتبار وحفظ الكرامة، وإسقاط عدد من القتلى في صفوف حلفاء إيران لكن بدون أن تؤدي إلى تغيير موازين القوى، فإيران عنوان أميركي وغاية أميركية في المنطقة. هدف واشنطن استقطابها، وهدف طهران أن تحظى باعتراف أميركي حول تعزيز دورها ونفوذها.

جاء الاتفاق النووي بعد الكيماوي على حساب سوريا وأنقاضها وفوق أشلاء شعبها الذي سحقته الآلة العسكرية وتهجر بشكل ممنهج. ويأتي الاتفاق الحالي فوق أنقاض قطاع غزة وربما القضية الفلسطينية كلها، إثر عمليات التهجير الممنهج التي تتبعها إسرائيل، فيما جبهات المساندة الإيرانية لم تمنع التهجير ولا التدمير إنما فتحت مسارات لما تسميه طهران “التسوية الكبرى”. كان الاتفاق النووي على حساب العرب، وملامح التسوية الحالية ربطاً بحرب غزة وتهجيرها ستكون على حساب العرب وهذه المرة في خلق المزيد من الإشكالات العربية العربية لا سيما أن مصر والأردن تشعران بتهديد كبير.

ما يختلف بين العامين 2015 وحالياً، هو الاعتراض الإسرائيلي الكبير على الاتفاق النووي الذي لم يلحظ إيجاد صيغة حل لحلفاء إيران وأدواتها في المنطقة، وفي تلك الفترة صعّد كثيراً نتنياهو ضد باراك أوباما. المختلف اليوم، هو أن فتح الجبهات بشكل رمزي حتّم على الأميركيين والإسرائيليين البحث في كيفية التعامل مع حلفاء إيران. لأن الضربات التي نفذها الحلفاء جعلت البحث على آلية لضبط تحركات هؤلاء تسبق في أهميتها مسار الاتفاق النووي. كما أنه بعد عملية طوفان الأقصى فإن أميركا ستكون معنية في توفير الحماية والأمن لإسرائيل وهو ما يحصل سواء في دعمها العسكري، أو في دفع حلفاء إيران إلى وقف عملياتهم العسكرية وتوفير مقومات الاستقرار الطويل الأمد وهو طبعاً يحتاج إلى وقت لبلورته.

يريد الأميركيون اتفاقاً مع إيران، حول كيفية انضباط حلفائها في المنطقة، لذلك فإن التهديد الأميركي كان كافياً ليصدر البيان عن كتائب حزب الله العراقية في تعليق العمل العسكري ضد الأميركيين، مع الإشارة إلى اتخاذ فصائل أخرى مثل هذا القرار. سيفرض هذا المسار تغييراً في كل سلوك حلفاء إيران في المنطقة، ما سيفرض عليهم مقاربات سياسية مختلفة. لدى التفكير في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، لا بد من النظر إلى آلية تغير المسارات السياسية لحلفاء طهران من خلال الانخراط في المجالات السياسية أكثر فأكثر، ليكون ذلك تعويضاً عن نشاطهم العسكري، والذي يمكن ستر التخلي عنه بما يحكى عن الانسحاب الأميركي من العراق.

—————————-

 توم الأميركي وجيري الإيراني.. الحوثي إذ يهدد أميركا وإسرائيل/ عبد القادر المنلا

2024.01.30

لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة الأميركية مأزقاً سياسياً وعسكرياً كالذي يشهده اليوم، فأميركا التي لا تجرؤ دول عظمى على تحديها حتى على مستوى التصريحات ناهيك عن التحرش بها عسكرياً، تعاني اليوم من تهديد جماعات حديثة النشأة مثل ما يسمى المقاومة الإسلامية في العراق والتي لا ترقى إلى مستوى دولة صغيرة، ولكنها تستطيع أن تعرض أساطيل الولايات المتحدة وجيوشها لضربات تنال من هيبتها وتوقع إصابات مباشرة في جنودها وخسائر في صفوفها..

وآخر تلك التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية هي تلك القادمة من اليمن عبر جماعة الحوثي، والتي نجحت في تهديد التجارة الدولية بما فيها السفن التجارية الأميركية.

ورغم الضربات الأميركية البريطانية المشتركة التي وجهتها الدولتان للحوثي، إلا أن الأخير لم يتأثر كثيراً ولا يزال قادراً على تهديد مصالح الدولتين العظميين ومعهما مصالح أوروبا أيضاً، ويصدر نفسه كقوة متكافئة مع قوة خصمه الأميركي، فهو لا يهتم للتهديدات الأميركية ولا يبدو قلقاً منها ويعلن عن جاهزية تامة لمواجهة الولايات المتحدة والمضي حتى النهاية بمشروعه الذي يزعم من خلاله الانتصار لقضية غزة..

يتجرأ الحوثي على تحدي أكبر قوة إقليمية وهي إسرائيل، وأكبر قوة دولية وهي الولايات المتحدة الأميركية مع جميع حلفائها الغربيين ويعرض مصالحها المباشرة للخطر دون خوف من العقاب.

يلعب الحوثي في اليمن اليوم ذات الدور الذي يلعبه حزب الله في لبنان والدور الذي تلعبه ما تسمى المقاومة الإسلامية في العراق وكل تلك الميليشيات تحتمي خلف العباءة الإيرانية وتتلقى دعمها وأوامرها منها، فإيران هي من يتحرش بالولايات المتحدة عبر تلك الأذرع التي زرعتها في المنطقة، وهنا سينتقل الصراع إلى مستوى أكبر ويجد الغرب نفسه في مواجهة دولة إقليمية قوية لديها من الأوراق السياسية والعسكرية ما يكفي للعب مع الخصم الأميركي، كما تريد إيران أن تقول من خلال تصريحاتها ومواقفها المعلنة..

هنا، يمكن الوقوف مع حقيقة العداء الأميركي الإيراني، والعداء الإسرائيلي الإيراني، حيث لا بد من إعادة النظر في تلك العلاقة الملتبسة التي تصدر حالة في العلن، وتلعب نقيضها في السر..

على مرأى أعين إسرائيل، كبر حزب الله وترعرع في لبنان وهو يحمل شعارات المقاومة، ولم يكن تزايد قوة حزب الله يزعج إسرائيل رغم بعض الحروب التجميلية التي خاضتها ضده أو خاضها هو ضدها، ولكن أهم حرب خاضها الحزب كانت في سوريا وليست في تل أبيب، وضد السوريين وليس ضد إسرائيل، ويبدو أن الثورة السورية كشفت المهمة الأساسية التي عولت فيها إسرائيل على حزب الله، فكان بالفعل الأداة الرئيسية التي استطاعت أن تفرغ سوريا من سكانها سواء عبر المجازر أو عبر التهجير الممنهج، وقدم الحزب لإسرائيل أثمن هدية وهي تخليصها من أي خطر يشكله السوريون عليها لمئة عام قادمة، دون أن تخسر جندياً واحداً أو طلقة واحدة..

وعلى ذات المقياس يمكن دراسة العلاقات الأميركية/الإيرانية، فأميركا التي تدعي خصومة إيران وتتحدث عبر سنوات طويلة عن التهديدات والمخاطر التي تشكلها إيران في المنطقة وفي العالم، قامت باستقدام أساطيلها لغزو العراق ثم سلمته لإيران على طبق من ذهب، وهو أمر يشابه ما فعلته في اليمن حيث كبر الحوثي وترعرع على مرأى أميركا وها هو اليوم يكرر ذات اللعبة التي لعبها حزب الله وبالاتكاء على ذات الذريعة في مقاومة إسرائيل والبحث عن طريق القدس.

أما في سوريا، فقد كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لا يكف عن ترديد عباراته الشهيرة: أيام الأسد معدودة، الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، وفي الوقت ذاته كان يدعم إيران التي تحمي الأسد والتي كانت قد تبنت مهمة الإبقاء عليه في السلطة، وقد أفرج أوباما في العام ٢٠١٣ عن عشرات المليارات من أموال إيران المجمدة والتي استخدمتها في دعم الأسد الذي كان أوباما يطالبه بالرحيل.

ربما تبدو حرب غزة اليوم الامتحان الحقيقي لحالة العداء بين إيران وحزب الله من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، فلو كان الهاجس الأساسي لمحور المقاومة -كما يدعي دائماً- هو القضاء على إسرائيل وتحرير القدس، لكانت تلك فرصته الكبيرة في ظل التهلهل والارتباك الذي تشهده إسرائيل، وهي فرصة قد لا تتكرر، ولا سيما أن حركة حماس لن تستطيع أن تواجه إسرائيل وحدها حتى النهاية، ومهما كانت الضربات التي توجهها حماس لإسرائيل موجعة وثقيلة فإنها في النهاية ستبقى رهينة نظرية جرح الوحش وعدم التمكن من قتله، مما سيجلب المزيد من المآسي على شعب غزة، فيما يقوم حزب الله بمناوشات عسكرية لا تؤذي إسرائيل ولا تقوي موقف الحليف الفلسطيني، مناوشات لا ترقى إلا إلى نظرية ذر الرماد في العيون، فيما تكثر تصريحات الحلف وجعجعاته التي لا يمكن لأحد أن يرى طحنها، مجرد حرب كلامية ومناوشات عسكرية لا تحدث أي فارق في المعادلة، بل يمكن اعتبارها تآمراً على الفلسطينيين وتركهم في مواجهة مصيرهم لوحدهم، وهذا كله ينفي حالة العداء بين إيران وحلفائها وإسرائيل بل ويؤكد على الدور الوظيفي لهما.

بالطبع فإن نفي العداء لا يعني بالضرورة حالة صداقة، فثمة بالتأكيد صراع بين إيران وإسرائيل ولكنه صراع مصالح وليس صراع وجود أو أيديولوجيات، وضمن هذا الصراع ثمة توافق على الكثير من القضايا التي تضمن مصلحة الطرفين، غير أن من المؤكد أن عداء كل من إيران وإسرائيل للعرب هو عداء أصيل يستثمره محور المقاومة لتقوية العلاقات الإيرانية -بأذرعها المختلفة- مع إسرائيل..

لن تعجز إسرائيل عن حزب الله لو كان بينهما حالة عداء حقيقية ولن تعجز أميركا عن إيران مهما كانت مواجهة إيران مكلفة، غير أن سياسة إسرائيل وأميركا تعتمد على “استخدام” الخصم المفترض بدلاً من شن الحرب عليه ولا سيما حينما يكون ذلك الخصم عدو عدوك الحقيقي.

هنا يمكن التفريق بين الخصومة والعداء، فالخصم يمكن التعامل معه واللعب معه والتحالف معه أحياناً بل والتصالح معه إن اقتضى الأمر، الخصم قد يكون شريكاً في بعض القضايا أيضاً، وهذا هو جوهر العلاقة بين أميركا وإيران وبين حزب الله وإسرائيل، فليس ثمة حالة عداء إلا بما تقتضيه مصلحة الطرفين من تصريحات وتصدير لمواقف محددة ليس بالضرورة أن تنضوي على الموقف الحقيقي من الطرف الآخر..

إن العلاقة بين أميركا وإيران وبالتالي بين أتباع إيران وإسرائيل لا تتعدى شكل العلاقة بين توم وجيري في أفلام الكرتون الشهيرة، هي علاقة للتصدير فقط، علاقة مقالب وضربات محدودة الأذى ولا تهدف إلى إزالة الآخر أو إنهاء وجوده، فثمة مسلسل سياسي كرتوني لا يهدف إلى الترفيه بل هدفه التضليل وتلغيز العلاقات والمواقف واللعب بالعواطف للوصول إلى أهداف مختلفة تماماً عن تلك التي يتم الإعلان عنها باستمرار.

في المسلسل الكرتوني توم وجيري -وهو للمفارقة مسلسل من إنتاج أميركي- يبدو الفأر أذكى من القط وهو يستخدم ذكاءه للإيقاع بالقط في كل مرة، ولكن القط الأميركي يلعب بالفأر الإيراني ويوهمه بالذكاء لاستخدامه في المهمات الوظيفية مع احتفاظه بقدرة إنهائه لو تطلب الأمر..

أما الفأر اليمني المستنسخ حديثاً من حزب الله فهو يبحث عن بطولات يقنع بها المغفلين، يبحث عن موقع يرسخ من خلاله مكانة إيران في المنطقة، وهو أمر لا يزعج الإدارة الأميركية والتي أعلنتها صراحة منذ أيام وصرحت عن عدم رغبتها في خوض حرب مع الحوثي وإنما تقليص قدراته في عرقلة التجارة العالمية..

لا أحد يعلم على وجه الدقة كم ستطول حلقات هذا المسلسل الأميركي ولا إلى أي حد سيبقى قادراً على الخديعة رغم انكشاف كواليسه للجمهور، ولكن طالما بقي المنتج والمخرج قادرين على تسويق منتجهما وطالما بقي جمهور جاهز لمتابعة المسلسل والاستمتاع به وتصديق أحداثه، فلا شيء يمنع استمرار كاتب السيناريو في كتابة حلقات جديدة ونصوص باهتة ومملة ودموية في كثير من الأحيان.

—————————

 حرب غزة وتفكيك الحلف الأسدي الإيراني/ شادي علاء الدين

2024.01.25

تشظت الساحات بدل أن تتوحد. الحرب الإسرائيلية على غزة أغرت إيران بتشغيل نظام الاستثمارات والتوظيفات المرتبط بها في المنطقة ضمن ضوابط محددة تفيدها في لعبة التفاوض مع الأميركيين. أطلقت من لبنان جبهة مساندة تسببت بأكلاف بشرية واقتصادية هائلة على ربيبها حزب الله وعلى لبنان، استغلته إسرائيل لإظهار مدى الهشاشة الأمنية وعمق اختراقها لبيئته الحاضنة في سلسلة اغتيالات دقيقة، طالت قيادات رفيعة في الحزب بوتيرة متنامية تصل إلى أكثر من عملية في اليوم الواحد.

في اليمن كان تشغيل الحوثيين مكلفا وخطيرا، إذ إنه تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية بتأثيره على طريق التجارة العالمي فكان أن أطلقت حلفا دوليا شرع بتنفيذ ضربات قاسية على الحوثيين في الداخل اليمني وتصفية قياداته.

وكان لافتا أن حراك الحوثيين بدا متجاوزا للتعليمات الإيرانية وخارجا على وصايتها، وكشف عن طموح باحتلال موقع خاص ومستقل داخل تركيبة الممانعة تجعله مفاوضا مستقلا، وتمنحه مكانة تخرجه من الارتباط المباشر بإيران ومن التعامل معه على أنه أحد أذرعها وحسب.

وكانت المغامرة في العراق واستهداف أربيل خطأ استراتيجيا لم تعتد إيران السقوطَ فيه، إذ إنه وعلى الرغم من سطوتها الأمنية والسياسية الكبيرة في العراق بدت خطوتها الاستفزازية مهينة حتى لأقرب حلفائها، كما أسهمت في إيقاظ الوطنية العراقية.

لا يتوقع أنه سيكون من السهل ترميم ما أحدثه هذا العدوان خصوصا مع بروز إشارات الوهن من أماكن عديدة، كما هو الحال في ردّ باكستان على عمليات إيران في أراضيه والإشارات المقلقة عن بروز تصدع أمني داخلي مع عمليات تفجير كرمان، وإقدام عنصر من الحرس الثوري على تصفية خمسة من رفاقه وغيرها من الأحداث المتفرقة في بلد يعيش أجواء ثورة كامنة وشاملة ضد نظام الحكم، كان قد نجح في قمعها ولكنه لم ينجح قي طمس إمكانية تجددها في أي وقت بمجرد نضج الحد الأدنى من الظروف المناسبة.

وفي سوريا التي تمثل درة الاستثمار الأمني والاستراتيجي الإيراني، تقول سلاسل الاغتيالات التي أودت بحياة كبار القياديين في الحرس الثوري في طبيعتها وأماكن تنفيذها ودقتها أن إسرائيل قررت تغيير قواعد اللعبة معها والانتقال إلى مرحلة تخرج من إطار المناوشات المنضبطة إلى مرحلة كسر العظم.

ولكن نجاح الاستهدافات الإسرائيلية وتصاعد وتيرة العمليات وارتفاع شدتها يعني أن الوجود الإيراني في سوريا قد بات متعارضا مع شبكة مصالح عريضة تضم أميركا والعرب والروس والنظام الأسدي الذي يعتبر حليفها الأكبر في المنطقة.

لم يعد سرا نشوء تفاهمات إسرائيلية أسدية تقضي بمنع إيران من استعمال مطار دمشق لنقل السلاح إلى الميليشيات الإيرانية مقابل التوقف عن استهدافه، وكذلك فإن الترتيبات الأمنية التي شملت تغييرات في المواقع القيادية مثل إعفاء علي مملوك من موقعه كمدير لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارا أمنيا للأسد في موقع يفتقد للصلاحيات والسلطات تقول إن النظام يستعد لمرحلة جديدة مختلفة عما سبق.

الحديث عن شراكة أسدية مع إسرائيل في تسريب معلومات استخبارية دقيقة عن المواقع الإيرانية بات علنيا، ويكشف عن أن ذلك الحلف يشرع بالتفكك، وخصوصا بعد فشل المحاولات الإيرانية في انتزاع مكاسب اقتصادية وميدانية ضخمة من الأسد مقابل مشاركتها في حربه ضد الشعب السوري.

لقد حاولت إيران مع انفجار حرب إسرائيل على غزة أن تستعمل نظام الأسد كذراع وتتعامل معه على هذا الأساس، ولكنه رفض ذلك بشدة وحرص على تحييد نفسه من عنوان وحدة الساحات، ويقال إنه رفض مؤخرا طلبا مباشرا من زعيم حزب الله حسن نصر الله بفتح جبهة الجولان.

ذلك التعامل الإيراني مع الأسد الذي ينطوي على احتقار جابهه بفتح عكسي للساحات ضد إيران. عمليا توحدت الساحات في سوريا ضدها في هذه اللحظة وخصوصا مع تطور العلاقات الروسية الإسرائيلية إثر الخلافات الأميركية مع إدارة نتنياهو، ومساعي روسيا للاستفادة من هذا الخلاف في إطالة فترة الحرب وتعقيد مساراتها والاستفادة منها في إشغال أميركا وحجب الأنظار عن حربها على أوكرانيا والتي تنقلب فيها الأمور لصالحها.

التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا ضد إيران يلعب صيغة الدفع في اتجاه تعقيد الأمور وتوتيرها وتعتبره روسيا أساسيا في حربها الدعائية التي لا تكف عن توظيف عنوان تاريخ الحرب على النازية كخطاب عقائدي يوحد بينها وبين إسرائيل.

أميركا من جهتها تعتبر أنه لا بد من توجيه رسائل قاسية إلى إيران للكف عن محاولاتها استهداف الحضور الأميركي في المنطقة، لذلك تعمل على تشجيع الضربات الإسرائيلية ضدها في سوريا، كما تقوم قواتها بتنفيذ ضربات تطلق رسائل حول مدى جديتها في خوض المعركة وفرض حصر التفاعل مع الحرب على غزة في الميدان السوري.

كذلك فإن الانفتاح العربي على الأسد والذي يبدو أنه سيتوج قريبا بزيارة شخصية كبيرة إلى سوريا في الشهر المقبل مرتبط بالانفصال عن إيران، حيث يتوقع أن يعمل العرب على إعادة إنتاج علاقات الأسد الدولية، ومساعدته على الخروج من نفق العقوبات الأوروبية والأميركية، مقابل فض حلفه مع إيران، ما يجعل استمراره في السير فيه خسارة صافية.

إيران ترى نفسها محاصرة في أكثر من ميدان بعد أن بدا أن استثماراتها في تحريك أذرعها في المنطقة قد عاد عليها بنتائج عسكية. التنازلات المطلوبة منها لا توازي ما تتوقعه من أرباح وما كانت قد وضعته من استثمارات بشرية ومادية ضخمة وما راكمته من نفوذ، لذا يبدو أنها ستكون مضطرة إلى الاختيار بين تنازل درامي وشامل يقلص نفوذها إلى الحدود الدنيا أو الركون إلى خيار انتحاري بتصعيد يضعها في مواجهة مباشرة مع تجمع قوى كبرى تتحالف مع حليف لم يعد سابقا وحسب، بل بات بمنزلة العدو الأخطر.

————————-

 الاستهداف الإسرائيلي والوعيد الإيراني/ عمر كوش

2024.01.23

ازدادت، في الآونة الأخيرة، وتيرة الاستهداف الإسرائيلي لقادة عسكريين كبار في “الحرس الثوري” الإيراني، خلال وجودهم على الأراضي السورية، وكان آخرَها قصف إسرائيلي استهدف بناية سكنية في حي المزة بدمشق، أدّى إلى مقتل مسؤول استخبارات “فيلق القدس” في سوريا، صادق أوميد زادة، إلى جانب نائبه حاج غلام وضابطين إيرانيين آخرين.

وكالعادة توعد النظام الإيراني بالرد على مقتلهم، وعلى طريقة النظام السوري، في المكان والزمان المناسبين، فيما تولى وزير خارجية النظام فيصل المقداد، تكرار ما لم يملّ النظام من تكراره حول أن “الإسرائيليين سيدفعون الثمن عاجلاً أو آجلاً”.

طبعاً لن يفعل نظام الأسد أي شيء يؤذي إسرائيل، بل على العكس سيمضي في الحفاظ على تحويل مناطق سيطرته ملعباً إسرائيلياً، تستهدف فيها ما تشاء، فيما لن يكون رد النظام الإيراني استهداف أي شخصية عسكرية إسرائيلية، بل الإيعاز لأحد وكلائه بإطلاق صواريخ نحو إسرائيل، أو استهداف القواعد العسكرية الأميركية، خاصة في سوريا والعراق، وربما في البحر الأحمر، وذلك عبر استهداف جماعة الحوثي اليمنية لسفن تجارية إسرائيلية وأميركية.

الاستهداف الإسرائيلي جاء بعد توتر العلاقات بين النظام الإيراني وحكومتي بغداد وإقليم كردستان العراق على خلفية قصف إيران ما ادعته مقار للموساد الإسرائيلي في مدينة أربيل، والرد الباكستاني السريع على القصف الإيراني لمواقع “جبهة تحرير بلوشستان”.

لكنه عمّق في الوقت نفسه التساؤلات حول مدى الانكشاف الأمني للوجود العسكري الإيراني في سوريا أمام عمليات إسرائيل، ودفع بعض الأوساط الإيرانية إلى اعتبار أن من أعد سيناريو الهجمات الإيرانية على العراق وسوريا وباكستان، مهما كانت مبرراته، خدم إسرائيل خدمة كبيرة وعمل لصالحها، ولصالح معارضي إيران في دول الجوار.

اللافت أن الولايات المتحدة تعتبر “أوميد زادة” العقل المدبر لهجمات الميليشيات الإيرانية على القوات الأميركية في سوريا، الأمر الذي يشي بوجود تنسيق استخباراتي عالي المستوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مثل هذه العمليات.

لكن الأهم أن تواتر العمليات النوعية، التي تستهدف قادة عسكريين كباراً في “الحرس الثوري” واستخباراته في سوريا، يطرح أسئلة حول مدى اختراق الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية للحرس، ولأجهزة الاستخبارات التابعة للنظام السوري، وقدرتها على تجنيد عملاء إيرانيين وسوريين يملكون معلومات دقيقة، وبما يجعل عمليات الاستهداف تحقق غايتها، إذ سبق أن قتلت إسرائيل، رضي الموسوي، المسؤول العسكري الكبير في “فيلق القدس” بضاحية السيدة زينب جنوبي العاصمة دمشق، إضافة إلى استهدافها المتكرر لمواقع إيرانية في سوريا، وشن هجمات على مجمعات ومنشآت عسكرية ونووية داخل إيران، فضلاً عن اغتيالاتها التي طالت قادة من حركة حماس، ومسؤولين عسكريين في “حزب الله” اللبناني، وفي ميليشيات أخرى موالية لنظام الملالي الإيراني.

اعتبرت أوساط إعلامية داخل إيران أن عملية الاغتيال تشكل صدمة وحيرة، كونها تأتي بعد أقل من شهر على مقتل رضي الموسوي، وطالبت بعض الصحف الإيرانية بضرورة إيجاد بروتوكول أمني جديد لحماية القادة العسكريين في سوريا، لأنه من الممكن أن تحدث اغتيالات أكثر مرارة في المستقبل، ولم تتردّد في اتهام النظام السوري بأنه مخترق إسرائيلياً.

في المقابل، نظرت صحف إيرانية أخرى إلى الاغتيالات من جهة الآثار الاقتصادية المترتبة على التصعيد العسكري في المنطقة، التي تظهر بسرعة على الاقتصاد الإيراني، لأنه فقد قوته وتحمله في مواجهة الأزمات، ورأت بضرورة أن تسلك إيران نهجاً يؤدي إلى خفض التوتر وإنهاء التصعيد.

الملاحظ أن بعض المعلقين الإيرانيين بدأ بإثارة تساؤلات عن ممكنات تزويد نظام الأسد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بمعلومات حول تحركات القادة العسكريين والأمنيين الإيرانيين في سوريا، ما يشي بأن أصابع الاتهام بدأت بالتوجه نحو أجهزة الأسد الأمنية.

لكن ذلك لا يخفي حجم تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في إيران نفسها، وتجنيدها إيرانيين كثيرين للعمل لصالحها، وما يدعم ذلك هو تحذيرات العديد من مسؤوليها من ازدياد حجم هذا التغلغل، حيث وصلت تحذيرات بعض مسؤولي النظام الإيراني إلى حدّ القول بأنه بات على جميع المسؤولين الإيرانيين القلق على حياتهم.

وقد سبق لإسرائيل أن نفّذت عمليات عديدة داخل إيران، كان أبرزها اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في مقاطعة “دماوند” شرقي العاصمة طهران، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الأمر الذي أربك المؤسسات الأمنية والإعلامية الإيرانية، التي راحت تتقاذف المسؤوليات حول التقصير في حماية “أبو القنبلة النووية الإيرانية”، بحسب ما كان يلقّب “فخري زادة”.

لا تخرج الاغتيالات التي تنفّذها إسرائيل بحق قادة عسكريين إيرانيين عما تخوضه إيران وإسرائيل من صراع خفي، أو ما يدعى “حرب ظل”، لكن الطرف الإيراني عادة ما يكون رد فعله على العمليات الإسرائيلية عن طريق وكلائه في المنطقة وخاصة “حزب الله” اللبناني، والأمر يتعلق بالتنافس على الهيمنة بين المشروعين التوسعيين لكل من إسرائيل وإيران، وسعي الطرفين إلى تجنب المواجهة المفتوحة، وعدم المخاطرة بمواجهة قد تفضي إلى حرب بينهما.

وذلك على الرغم من أن بعض الأوساط السياسية الإسرائيلية تطالب باستهداف إيران بصورة مباشرة، بدلاً من استهداف مخالبها في المنطقة، تطبيقاً لنظرية قطع رأس الأخطبوط بدلاً من أذرعه، التي يتبناها العديد من ساسة إسرائيل، خاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، بحسب تصريحه لمجلة “إيكونوميست” البريطانية في يونيو/ حزيران 2022، حيث طالب باعتماد إسرائيل معادلة جديدة في المنطقة، وفق ما سماه “عقيدة الأخطبوط”، التي تقضي باستهداف “المنبع”.

تأتي التساؤلات عما إذا كانت أجهزة النظام السوري نفسه متورطة بتقديم معلومات لإسرائيل عن تحركات القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، بعد تحذيرات وتهديدات إسرائيلية للنظام ولبشار الأسد شخصياً للنأي بنفسه عما يجري في المنطقة، وسط استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والقصف الإسرائيلي شبه اليومي والأسبوعي على مطاري في دمشق وحلب، وعلى منشآت ومواقع عسكرية إيرانية في سوريا، فيما يكتفي النظام بتكرار عبارته الفارغة: “الدفاعات الجوية تصدت لصواريخ العدوان”.

ومع ذلك تمضي كل من إسرائيل وإيران في استباحة الأرض السورية وجعلها ساحة للمناوشات بينهما، ضمن معادلة الاستهداف الإسرائيلي والوعيد الإيراني، التي تعمل إيران وفقها بضبط حجم ردود فعلها بعد كل استهداف إسرائيلي.

———————————-

 لماذا حركت طهران أكثر من جبهة إقليمية؟/ سمير صالحة

2024.01.21

يبحث كثير من المتابعين في أسباب الهجمات التي تنفذها إيران بشكل مباشر في اتجاه أكثر من مكان في العراق وسوريا وباكستان، وبشكل غير مباشر عبر وكلاء وشركاء لها في البحر الأحمر وجنوبي لبنان.

تصعد طهران ضد إسرائيل لكنها تبقي حصة العديد من الدول والعواصم قائمة. استهداف أربيل إيرانيا مهم بالنسبة لإسرائيل، واستهداف إدلب مهم بالنسبة لتركيا وروسيا، واستهداف باكستان مهم بالنسبة لأميركا. فكيف ستقاوم طهران التصعيد ضدها على كل هذه الجبهات أم هي تستفيد من حالة التباعد والتشرذم والتوتر بين هذه الأطراف واستحالة توحدها والتقاء مصالحها ضدها؟

تعاني طهران من ضربات موجعة تلقتها على أكثر من جبهة. اغتيالات وتصفيات واستهداف مباشر لقياداتها ونفوذها داخل إيران وخارجها، ولا يمكن لها أن تلتزم الصمت وعدم الرد. لكنها تدرك أيضا أن الرد ينبغي أن يكون مدروسا وأن لا يبتعد عن شعار “الصبر الاستراتيجي” والاكتفاء بعرض العضلات وتوجيه رسائل سياسية وأمنية واقتصادية أكثر مما هي محاربة التنظيمات الإرهابية في إدلب وعلى الحدود مع الجارة الباكستانية كما تقول.

لماذا تغامر إيران في التسبب بشرخ علاقاتها مع دول المنطقة أكثر مما هي عليه؟

تستخدم طهران أذرعها الإقليمية عند اللزوم وتتحرك بشكل مباشر عند الضرورة.

تريد من الوكلاء المحليين أن يحاربوا نيابة عنها في مكان كما يحدث اليوم في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتتدخل هي في المواجهات الإقليمية الصعبة التي تستدعي ذلك كما يحدث على الحدود الإيرانية الباكستانية. لماذا أقحمت إيران باكستان في لعبتها الإقليمية وفي هذه الآونة تحديدا؟ لأن الجميع في ساحة لعب أمنية سياسية اقتصادية واحدة. ولأن ما يجري يندرج في إطار محاولة خلط أوراق المشهد في غزة والبحر الأحمر وشرقي المتوسط والدليل هو الحشود العسكرية الأميركية الأوروبية الروسية الصينية في المنطقة.

قد يكون فتح الطريق أمام المواجهة التركية الإيرانية وتخفيف الأعباء عن إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والاصطفاف الإقليمي والدولي ضدها بين الأهداف الغربية في لعبة التوازنات الجديدة. لكن تحذيرات وتهديدات أنقرة للسليمانية في الآونة الأخيرة، تعني كذلك إيران التي تنسق مع بافل طالباني وتوفر له الحماية والدعم في مواجهة أربيل وقياداتها المنفتحة على تركيا. تتحمل طهران المسؤولية الكبيرة بسبب قبول مهمة مواجهة تركيا في المنطقة بقرار غربي إسرائيلي، خصوصا وأن هناك شبه إجماع على وجود تفاهمات إيرانية إسرائيلية حول حدود التصعيد والشحن في الملفات الخلافية بينهما.

تستمد طهران قوتها من التصعيد الإسرائيلي. وتستفيد تل أبيب إلى أبعد الحدود من التصعيد الإيراني. “شيلني أشيلك”. هدف طهران عبر تحريك ورقة البحر الأحمر هو أبعد من محاولة تمرير رسائل ضغط على تل أبيب، بقدر ما هو محاولة التذكير بنفوذها وحصتها هناك التي لن ترضى أن تهدر أو تتحول إلى مساومات إقليمية على حسابها.

ترحيب الصحف الإيرانية الأكثر انتشارا والمقربة من السلطة الحاكمة بالهجمات الأخيرة واعتبارها شكلا من أشكال الانتقام “الذي سبق أن توعدت به طهران”. إلى جانب التبريرات التي يسوقها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حول أن هجمات الأيام الماضية هي بمنزلة عمليات رد محدود لا علاقة لها بالوضع في غزة، “لكنها تتضمن رسائل مباشرة لإسرائيل والمجموعات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي الإيراني”، لا يمكن أن تغفل حاجة إيران إلى تحرك إقليمي من هذا النوع باتجاه الداخل الذي يعاني من موجات احتجاج اجتماعي اقتصادي إصلاحي يقود إلى انفجار الشارع بين الحين والآخر.

تحدث دبلوماسي مصري عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة لبحث تطورات الوضع في البحر الأحمر. مصادر مصرية تتحدث أيضا عن “اتصالات مكثفة أجرتها القاهرة مع مسؤولين في جماعة الحوثيين وإيران، لمنع اتساع تأثير الهجمات الحوثية على التوازنات الحساسة القائمة في البحر الأحمر وحركة المرور في قناة السويس على وجه الخصوص. هناك من يردد في العاصمة المصرية أيضا أن القاهرة أكدت للإدارة الأميركية خطورة سيناريو الحسم العسكري في باب المندب، وأنه من الأفضل الدفع نحو حل يعجل بإنهاء السبب الرئيسي، وهو الحرب الدائرة في قطاع غزة. هناك من يردد أيضا أنه بين التطمينات التي قدمها المسؤولون في القاهرة لجماعة الحوثي، التقدم الملموس في المباحثات الجارية مع الجانب الإسرائيلي لزيادة حجم المساعدات التي تمر لقطاع غزة كتسوية ترضي أكثر من طرف. مصر حريصة على حماية مصالحها وإبعاد التوتر عن المناطق التي تشكل حديقتها الخلفية، لكن رغبة القاهرة بالتهدئة قد تخدم الحسابات الإيرانية الإسرائيلية دون علم الجانب المصري. ما الذي كانت تريده طهران أو تحلم به أكثر من ذلك؟

لو كانت إيران جادة فيما أعلنته حول قرار الدخول في المواجهات المباشرة لما فرطت بأكثر من فرصة سانحة منحتها تل أبيب وواشنطن لها في الأعوام الأخيرة وهي لا تقل أهمية وقيمة عن الفرص القائمة اليوم.

لا تقود الهجمات الإيرانية في أربيل وإدلب والبحر الأحمر وباكستان إلى قناعة أن طهران قررت تبديل طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية الأمنية التي تعنيها، ولا تدفع باتجاه استنتاج أن الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحسوبة عليه وتتحرك باسمه في المنطقة، قررت تبديل أسلوب المواجهة من الخلف إلى الأمام. فلا طهران راغبة بذلك ولا واشنطن وتل أبيب أيضا.

ما يبعد كثير من هذه السيناريوهات هو احتمال حدوث تحرك أميركي إسرائيلي عسكري مباشر ضد إيران وقواعدها في المنطقة، وهو خارج التوقعات في هذه الآونة أيضا. إلا إذا صحت تنبؤات رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني السابق، حشمت فلاحت بيشه، الذي يرى أن مجمل التطورات الأخيرة يسير في الاتجاه الذي يريده نتنياهو والمتطرفون الإسرائيليون. “نتنياهو سيحوّل موضوع الحرب مع إيران إلى قضية انتخابية، وفي حال أصبح ترامب منافسا لبايدن فإن الديمقراطيين حينذاك لن يكتفوا بحرب محدودة مع إيران، لأنهم إذا لم يخوضوا الحرب معها فإن ترامب سيكون هو الفائز”.

يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إن طهران تحترم سيادة الدول الأخرى ووحدة أراضيها، لكنها في الوقت نفسه تستخدم “حقها المشروع والقانوني لردع تهديدات الأمن القومي”. ويقول الإعلامي اللبناني أيمن جزيني “منذ عام 1979 ونحن ننتظر ونترقّب. لا الشيطانان أزاحا نظام الملالي، ولا الأخيرون طردوا الشيطانَين، أو “طهّروا” المنطقة منهما”. تبحث طهران عن فرص ووسائل تعطيها ما تريده من الغرب وإسرائيل والعديد من اللاعبين الإقليميين عبر التهديد بإشعال الجبهات وتفجير الإقليم دون المضي وراء خطوة تنفيذ ذلك.

شكلت الحكومة العراقية وفداً برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي لزيارة أربيل والاطلاع على الخسائر التى ألحقتها الضربات الإيرانية بتلك المناطق؛ حيث أكد الأعرجي أن “ادعاءات استهداف مقر للموساد في أربيل لا أساس لها من الصحة”، وأن الأهداف التى ضربتها إيران هى أهداف مدنية وليست عسكرية أو استخبارية. يبدو حتى الآن أن أبرز نتائج الهجمات الإيرانية على العديد من الأماكن والمناطق المحسوبة على أميركا في المنطقة هي إثبات انهيار استراتيجية بايدن وفريق عمله في الشرق الأوسط لا أكثر.

—————————-

 بين إيران وأميركا… حرب كبرى أم تسوية كبرى؟/ منير الربيع

2024.01.19

لم تتغير الاستراتيجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء دولة إسرائيل وزرعها كمشروع غربي متقدم في قلب المنطقة، والهدف هو توفير الحماية له. ترتكز الاستراتيجية على أن هذه المنطقة يجب أن تبقى قائمة على أربع صفائح متوازنة مع ترك هامش تفوقي ومتقدم لإسرائيل، وهي الصفيحة الأولى، أما الصفيحة الثانية فهي تركيا، والثالثة إيران فيما الرابعة هي العالم العربي والذي كان في مرحلة الخمسينيات والستينيات تنافسياً بين مصر من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، وسط استقطاب مضاد بين الجانبين للدول العربية الأخرى. تجد واشنطن أن مصلحتها الاستراتيجية هي في إبقاء هذه الصفائح متوازنة فلا تتغلب إحداها على الأخرى وإن كانت الاهتزازات قائمة ومستمرة. لأن أي اختلال بميزان قوى الصفائح سيضر بالمصلحة الأميركية البعيدة المدى ضمن لعبة الإدارة الأميركية للحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، أو ضمن لعبتها في إدارة النظام العالمي بعد سقوطه.

لذلك وعلى الرغم من تغير في الأنظمة أو طبيعتها أو وجهاتها لا تزال الاستراتيجية الأميركية هي نفسها، فتحفظ الرعاية لإسرائيل التي توفر تفوقها، وتتصاعد حيناً أو تنخفض أحياناً مع الصفائح الأخرى. والأهم أن كل صفيحة من هذه الصفائح لها ما يشغلها من الداخل إما بصراعات سياسية أو بأزمات اقتصادية وعقوبات، كما أن هذه الصفائح الأربع والتي تبحث عن مشاريع أكبر لتوسيع نفوذها تبقى في حالة تنافس وتصارع مع بعضها بعضا، وهذا مشهود أيضاً وسط سياسة أميركية جلية منذ اجتياح العراق والانكفاء في سوريا ما عزز دور إيران ونفوذها وصولاً إلى اليمن.

تمنع واشنطن أي طرف من الانتصار على الآخر وأن تعزز دوره أو حضوره، وتبقى له مشكلات كثيرة تشغله. فيما لا يخفي الأطراف الأربعة السعي إلى انتزاع حظوة أكبر من واشنطن، كما تحاول أن تفعل إيران دوماً من خلال حلفائها في المنطقة وهو ما يجري حالياً على وقع الحرب على قطاع غزة وتحريك الجبهات الأخرى. واللافت أن كل هذه الأطراف تحاول استمالة أميركا من خلال الذهاب إلى تنويع خياراتها باتجاه الصين وروسيا تعبيراً عن غضب من السياسة الأميركية، ولعل ذلك يدفع واشنطن إلى إعطاء المزيد من المكاسب. إسرائيل قامت بذلك مع الصين ومن خلال الدخول في مباحثات حول شراكة استراتيجية بمشروع الحزام والطريق، جاء ذلك بعد ذهاب أميركا إلى اتفاق نووي مع طهران وعدم الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الإسرائيلية.

طهران في الأساس تضع نفسها في الوسط، على طريق التفاوض الدائم مع أميركا، وذات علاقة استراتيجية مع الصين وروسيا والانخراط إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا. المملكة العربية السعودية لجأت إلى تنويع الخيارات والتحالفات بعد الاتفاق النووي مع إيران وبعد تخلف أميركا عن الالتزام بمقتضيات التحالف إثر الضربات التي وجهها الحوثيون إلى منشآت أرامكو. تركيا العضو الأبرز في الناتو، تحفظ علاقاتها الروسية جيداً، في حين تحتفظ أميركا بعلاقة قوية مع الأكراد وتستمر بدعمهم أيضاً بكل ما يزعج أنقرة ويبقيها على قلق.

تؤشر هذه الأمثلة البسيطة على المسار الأميركي المعتمدة مع دول المنطقة، وكل واحدة منها حاولت الخروج عن كنف واشنطن تلقت ما يلزم من رسائل أو ضرب تحت الحزام بما في ذلك إسرائيل التي تخوض حرباً تعتبرها وجودية بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تجد إلى جانبها لا الصين ولا روسيا بل أميركا وحدها. في المقابل تسعى إيران إلى توسيع إطار الجبهات بدون الذهاب إلى حرب، لعلها تصل الى اتفاق شامل وكبير مع اميركا. ولذلك رفع الإيرانيون قبل فترة شعاراً أبلغوه للأميركيين إما حرب كبرى أو تسوية كبرى وشاملة. يعرف الإيرانيون أن أميركا لا تريد الحرب، فسعوا إلى توسيع هامش تحركاتهم مع حلفائهم إلى البحر الأحمر لتوسيع تطاق التسوية الشاملة.

ما تريده إيران هو طريق معترف به وبنفوذها عليه إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بأربيل والموصل عبر سوريا وصولاً إلى لبنان. وما تريده أيضاً ترسيخ نفوذها في المتوسط انطلاقاً من معيار نفوذها لبنانياً في مجالات ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز. وما تريده أيضاً هو الربط السياسي بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، لذلك نزل الحوثيون بثقلهم وهم على يقين بأن أميركا لا تريد الحرب، وهي التي منعت قوات التحالف العربي من خوض معركة الحديدة والسيطرة عليها، وهي من منحتهم هذا الدور. إثر هذه التحركات جاء ما كشفه السفير الإيراني في سوريا عن تلقي طهران لعرض أميركي حول التفاوض على اتفاق يشمل المنطقة برمتها.

إثر هذا العرض، وسعياً وراء توفير ظروف التفاوض وتجديدها بعد تعثرها في سلطنة عمان، ومع اشتداد المعارك في قطاع غزة. لجأت طهران إلى توسيع هامش هجماتها وهذه المرة دخلت بشكل مباشر عبر استهداف أربيل وباكستان وهي تعلم أن أميركا لا تريد الحرب، إنما ستستخدم هذا التحرك الإيراني للضغط على إسرائيل والانتقال إلى مرحلة ثالثة من الحرب على غزة والبحث عن اليوم التالي لتجنب حرب إقليمية أصبحت تطل برأسها بفعل الهجمات الإيرانية. ما تريده طهران هو الحصول على اعتراف بنفوذها في العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، ومنع أي حل للقضية الفلسطينية في حال سيكون موجوداً بدونها، والأهم أنها تسعى للبحث عن ضمانات اقتصادية وسياسية في دول ترسيخ النفوذ لتجنب الانهيارات والانفجارات بوجهها. كان الله بعون غزة.

————————-

 حرب غزة والفجوة بين الحكام والشعوب/ عدنان علي

2024.01.18

طوت الحرب الإسرائيلية على غزة مئة يوم من عمرها دون أن تلوح في الأفق نهاية قريبة، وسط تألق فلسطيني في الصمود والتضحية، وصلف واجرام من جانب إسرائيل قل نظيرهما، مقابل حالة من العجز والسلبية في المواقف الدولية، وعلى الأخص العربية.

ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر الماضي، بدا أن معظم المواقف العربية الرسمية كانت تراهن، ولو سرا، على حرب سريعة تتمكن إسرائيل خلالها من هزيمة حماس، ويواصل الجميع سياستهم السابقة كالمعتاد، لأن ما قامت به المقاومة في 7 أكتوبر، شكل “إزعاجا” لهذه السياسات، وخاصة بالنسبة للدول التي كانت تسير في درب التطبيع مع إسرائيل.

غير أن صمود الفصائل في غزة، وطول أمد الحرب، وما ارتكبته وترتكبه العصبة المتطرفة الحاكمة في تل أبيب، من فظائع ضد المدنيين، كل ذلك سبب إرباكا في المواقف الرسمية العربية التي عجزت عن انتهاج سياسة واضحة وحازمة تجاه إسرائيل، وتدرج موقف معظمها من الدعوة إلى التهدئة والهدن (وليس لوقف إطلاق نار) خلال الأسابيع الأولى مهتدية بالمواقف الأميركية والغربية التي ساندت إسرائيل بقوة، ودافعت عن “حقها” في الدفاع عن نفسها دون قيود، لتنتقل بعض المواقف الرسمية العربية إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، وفق ما صدر عن القمة العربية الإسلامية الطارئة في اليوم السادس والثلاثين للعدوان (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) بعد مقتل نحو عشرة آلاف فلسطيني معظمهم مدنيون، لتتبنى بعد ذلك موقف الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار.

وفي الإجمال، كانت هذه الدعوات هي أقصى ما بلغه الموقف الرسمي العربي، دون اتخاذ أو التهديد باتخاذ أية خطوات عملية ضد إسرائيل، مثل قطع العلاقات معها ووقف عمليات التطبيع والعودة لسياسة المقاطعة أو حتى فتح معبر رفح من جانب مصر بغض النظر عن معارضة إسرائيل، ناهيك عن إعلان الدعم للمقاومة والإشادة بأدائها، بل ظلت المواقف الرسمية تحرص على التمسك البليد بمسار التسوية الفاشل، والمرفوض إسرائيليا على أية حال.

والواقع أن ثمة عوامل عدة يمكن من خلالها تفسير هذه المواقف العربية الرسمية الهزيلة حيال العدوان على غزة، والقضية الفلسطينية بشكل عام، مثل الأوضاع الداخلية في العديد من البلدان العربية التي تعيش صراعات وخلافات في ظل توجس الأنظمة العربية من كل ما له صله بالثورات أو التحركات الشعبية غير المنضبطة. وهي إذ تخشى من التحركات الثورية أو الشعبية، باتت أكثر هشاشة في مواجهة الضغوط الخارجية، وتشعر أنها أكثر احتياجا للدعم الخارجي، الأميركي والغربي، وحتى الإسرائيلي بالنسبة للبعض منها، خاصة في ظل التهديدات أو العلاقات غير المريحة مع إيران. بمعنى أنها ما زالت تراهن على العلاقة مع الغرب، كمصدر رئيسي لاستقرارها وداومها في الحكم، بالرغم من اهتزاز هذه الفرضية بعد تخلي الغرب عن حكم الرئيس حسني مبارك في مواجهة الحراك الداخلي. كما أن الطابع الإسلامي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، يثير مخاوف إضافية لدى هذه الأنظمة التي تتوجس من كل التيارات الإسلامية التي تصدرت المشهد في موجات الربيع العربي الداعية إلى التغيير الداخلي. وهذه العدائية من جانب الأنظمة، دفعت حماس والجهاد لفتح خطوط مع إيران لتلقي الدعم المالي والعسكري، وهو ما زاد بدوره من الفجوة مع الأنظمة العربية التي حصرت نظرتها للمقاومة من خلال علاقتها بإيران، وليس من خلال واجباتها تجاه القضية الفلسطينية، أو مقتضيات الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي.

وجاءت عملية 7 أكتوبر من جانب المقاومة الفلسطينية، كعامل تحد واستفزاز لسياسات هذه الأنظمة الماضية في طريق التطبيع مع إسرائيل، والتخلص من تبعات وارتدادات موجات الربيع العربي.

وقد كشف المسؤول الأميركي السابق دينيس روس أنه تحدث مع عدد من الزعماء العرب بعد 7 أكتوبر يعرفهم منذ فترة طويلة، وقد أخبروه أنه لا بدّ من تدمير حماس في غزة، لأنها إذا خرجت منتصرة في الحرب، فإن ذلك سيضفي شرعية على الأيديولوجيا التي تتبناها في عموم المنطقة.

وكامتداد لسياسات الأنظمة العربية، أعادت الحرب تسليط الضوء على دور السلطة الفلسطينية التي أخرجتها حماس من غزة عام 2007، وباتت السلطة اليوم أحد الخيارات المطروحة لملء فراغ “اليوم التالي” للحرب، بالرغم من معارضة حكومة نتنياهو لهذا الخيار معتبرة أن السلطة لا تختلف كثيرا عن حماس، فيما يطرح الأميركيون مسألة “تنشيط” السلطة و”إصلاحها” كشرط لمنحها دورا في إدارة غزة. ولا يخفى أن الحديث الأميركي عن سلطة فلسطينية مجددة هدفه الوصول إلى سلطة مطواعة لإسرائيل، تحارب معها فكرة المقاومة ماديا وثقافيا.

وفي المقابل، فالموقف الشعبي العربي متفاعل بقوة ومتعاطف بشكل شبه كلي ليس مع محنة الشعب الفلسطيني في غزة وحسب، بل إلى حد بعيد مع فكرة المقاومة للاحتلال، بالرغم من تحفظ بعض الفئات على حركة حماس، أو حركات الإسلام السياسي، معتبرين أن الوقت غير ملائم لإثارة هذه التحفظات، طالما أن العدوان مستمر.

ووفق استطلاع للرأي أجراه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” بين 12 كانون الأول/ديسمبر و5 كانون الثاني/يناير الجاري حول الحرب على قطاع غزة، اعتبر معظم المواطنين العرب أن الحرب على غزة تمسّهم مباشرة، وعبّر 97 بالمئة من المشاركين بالاستطلاع عن شعورهم بضغط نفسي نتيجة للحرب على غزة، و85 بالمئة قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير. وحول مشروعية عملية حماس في 7 أكتوبر، اعتبر 85 بالمئة أنها مقاومة مشروعة بغض النظر عما شابها من أخطاء محدودة. وأجمعَ الشارع العربي على اعتبار القضية الفلسطينية هي “قضية جميع العرب وليست الفلسطينيين وحدهم” بنسبة 92 بالمئة. وعبر معظم المستطلع رأيهم عن عدم رضاهم إزاء مواقف الحكومات العربية إزاء الحرب على غزة وطالبوا بقطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء عمليات التطبيع معها، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة من دون موافقة إسرائيل، واستخدام سلاح النفط من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، فيما حث البعض على إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل.

——————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى