صفحات الثقافة

جوديث بتلر تردّ على اتهامات صهيونية: ما بعد بانتان

ترجمة حسام موصللي

2024-03-18

    لقد نجمَت هجمات حماس في أكتوبر، كما نعلم، عن فصيلٍ مسلَّحٍ يتبع لحزبٍ سياسيٍّ يديرُ قطاع عزَّة. وإنَّني أضمُّ صوتيِّ إلى أولئك الذين يصفون هذا الهجوم كنوعٍ من المقاومة المسلَّحة ضدَّ الاستعمار والحصار والتشريد المستمرَّين.

ردّاً على تصريحاتٍ أدلَت بها خلال فعاليَّةٍ في باريس في مطلع الشهر الجاري، تلقَّت جوديث بتلر رسائل كراهية ترافقَت مع انتقاداتٍ لاذعة من قبل منشوراتٍ صهيونيَّة. في هذه المقالة، تدافع بتلر عن موقفها وتوضِّحه.

نشرت في “منشورات فيرسو” 14 آذار 2024.. نُشِرت أولاً في موقع “ميديا بارت” الفرنسي في 11 آذار 2024.

غصَّت زيارتي لفرنسا خلال هذا العام الأكاديميِّ بمنعطفاتٍ وتحوُّلاتٍ مثيرةٍ للاهتمام. بدايةً، في مطلع شهر كانون الأوَّل، ألغَت عمدة باريس فعالية عن معاداة الساميَّة ومعاداة الصهيونيَّة، كنت آمل من خلالها توضيح الفارق بين الظاهرتين. أُعيدَت جدولة الفعالية لتُقام في بانتان، وحضر جمع غفير للمشاركة في مناقشة هذا الموضوع، بما في ذلك فرانسوا فيرغيس، وميشيل سيبوني، والمنتج والمؤلِّف المسؤول في ريليه دي بانتان أوليفيه ماربوف. شملَت المنظَّمات الراعية للفعالية جماعتين يهوديَّتين معاديتين للصهيونيَّة، فضلاً عن منظَّماتٍ يساريَّة أخرى. عقب الفعالية، نشرَت حركة “كلمات الشرف” تسجيلاً لما دار خلالها، ومن ثمَّ تداول منتقدون مقطعاً مصوَّراً، مقتطعاً من سياقه، يظهر فيه أنَّني أقول إنَّ الهجمات التي ارتُكبت ضدَّ إسرائيليِّين في السابع من تشرين الأوَّل أكتوبر كانت جزءاً من حركة مقاومة. واقترحتُ ألَّا نُفكِّر في حماس كجماعةٍ إرهابيَّة، بل كجزءٍ من حركة المقاومة تلك. لكن ما فشل ذلك المقتطف في تضمينه كان الجزء الثاني من حجَّتي، وتحديداً، أنَّنا نستطيع، بل ينغي علينا، أن نختلف مع أساليب مثل هذه الحركة، وأنَّ وجهة نظري هي أنَّه ينبغي معارضة كلٍّ من الفظائع التي ارتكبت حينذاك، وأعمال الإبادة الجماعيَّة التي ترتكبها دولة إسرائيل. بعد ذلك، انتقلتُ إلى الحديث عن اللاعنف ومعناه، مؤكِّدةً على تطلُّعاتي إزاء المنطقة، والتي يشاركني فيها كثيرون أيضاً، بصدد إرساء شكلٍ من أشكال الحكمِ يُجسِّد قيم المساواة، والعدالة، والحرِّيَّة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الأصل القوميّ.

ثمَّ ما لبثت أن انهالَت عليَّ رسائل كراهية من صهاينةٍ منزعجين. اتُّهِمتُ مجدَّداً بدعم حماس؛ وباللامبالاة بالانتهاكات الجنسيَّة؛ وبإساءة استخدام مصطلح “مقاومة” المقدَّس في السياق الفرنسيّ. كما أعربَت المؤسَّسة التي استضافتني في باريس عن قلقها إزاء ذلك الغضب الشعبيّ. وعلى الرغم من أنَّني لم أتعرَّض “للإلغاء” تماماً، إلَّا أنَّ بعض الفعاليات التي كان يفترض أن أشاركَ فيها قد “أُجِّلت” في ضوء تهديداتٍ بتعطيل محاضراتي. ما أودُ قوله إنَّ هذه الفضيحة تتعلَّق بي، وليست كذلك، في الوقت نفسه. ففي مثل هذه الأوقات، يصير المتحدِّثون في الفعاليات العامَّة بمثابة دوَّاماتٍ تجتذب قوى متصارعة؛ وتغدو، أوضح من الشمس، ضآلةُ الاهتمام بالمناقشات والأفكار اللائقة التي تحتاج إلى الوقت حتَّى تنضج وتتبلور. ومثلما ذكرتُ في مقالتي المنشورة في العاشر من أكتوبر في لندن ريفيو أوف بوكس تحت عنوان “بوصلة الحداد”، فقد شعرتُ بكربٍ عظيمٍ إزاء مقتل مواطنين إسرائيليِّين يهود في السابع من أكتوبر، وكذلك أدنتُ حماس لما ارتكبته من فظائع. في الوقت نفسه، كان عليَّ أن أسأل نفسي عن السبب الذي يجعلُني أحزنُ بشدّةٍ لتلك الأرواح، بينما تتصاعد كثافة الهجمات ضدَّ الفلسطينيِّين في غزَّة ويُقَتل الآلاف منهم. اعتقدَ البعض أنَّه ينبغي عليَّ الحديث أكثر عن الإسرائيليِّين التي أُزهقت حياتهم بوحشيَّة، أو أخذوا كرهائن؛ في حين رأى البعض أنَّه يتوجّب عليَّ الصمت بشأن ما يعتريني من حزنٍ إزاء تلك الأرواح. بيد أنَّه ليس بمقدوري التخلِّي عن الحزن، أو الغضب، اللذين أشعر بهما حيال أولئك الذين تعرَّضوا للاعتداءات والقتل في السابع من أكتوبر؛ ولا الامتناع عن تأكيد أنَّ هناك إبادةً جماعيَّةً يتعرَّض إليها الشعب الفلسطينيّ. وبالنسبة إليّ، ما من تعارضٍ بين هذين الموقفين.

تظلُّ هذه النوازع كلُّها صحيحةً بالنسبة إليَّ، كيهوديَّةٍ وإنسانة في آن. فكما نعلم، وفي ظلِّ عقودٍ من أعمال العنف التي أفضَت إلى تلك الواقعة، ولا سيما تلك التي ارتكبتها قوَّات الاحتلال، قبل السابع من أكتوبر، فإنَّه ينبغي علينا رواية السرديَّات التاريخيَّة ابتداءً من تلك العقود. منذ ذلك الحين، أسفرَت الهجمات الإسرائيليَّة على غزَّة عن مقتل ما يقرب 30,000 شخص؛ هذه الأرواح تثير فيَّ الأسى وتحثُّني على معارضة عنف الدولة الإسرائيليَّة. لذا، أجدُ نفسي أمام محنةٍ لا تناقُض؛ وهي محنةٌ أتشاركُها مع كثيرين في جميع أنحاء العالم، ألا وهي الحداد على كلِّ الأرواح التي أزهِقت في هذه الحرب الوحشيَّة، والرغبة في عالمٍ لا مكانَ فيه لأيِّ عنفٍ أو قتل.

لقد نجمَت هجمات حماس في أكتوبر، كما نعلم، عن فصيلٍ مسلَّحٍ يتبع لحزبٍ سياسيٍّ يديرُ قطاع عزَّة. وإنَّني أضمُّ صوتيِّ إلى أولئك الذين يصفون هذا الهجوم كنوعٍ من المقاومة المسلَّحة ضدَّ الاستعمار والحصار والتشريد المستمرَّين. لا يعني هذا رمنسة ما ارتُكب من فظائع أو تبرير أيَّ أفعال. وعلى الرغم من صعوبة تقبُّل ما سأقوله للوهلة الأولى، إلَّا أنَّني أرى أنَّ من الممكن وصف حماس كجزءٍ من حركة مقاومةٍ أو كفاحٍ مسلَّح، دون اعتبار أنَّ أفعالها مبرَّرة. ليسَت كافَّة أشكال “المقاومة” مبرَّرة. فجميع صور العنف الجنسيّ مشينةٌ ومُدانة، سواء ارتكبتها حماس أو الجيش الإسرائيليّ. كذلك ينبغي التصدِّي لمعاداة الساميَّة، والعنصريَّة المعادية للعرب، بالحزم نفسه. بالنسبة إليَّ، يجب أن ينصبَّ تركيزنا الآن على كلٍّ من القتل الإسرائيليّ بطرقٍ منفلتةٍ وصفيقةٍ لعشرات الآلاف من العزِّيين؛ وتواطؤ الولايات المتَّحدة والقوى العظمى مع هذه الإبادة الجماعيَّة. لقد آن الأوان للمجتمع الدوليّ، ولا سيما الجهات الفاعلة في المنطقة، أن تعمل معاً لإيجاد حلٍّ عادلٍ ودائمٍ يسمح لجميع سكَّان تلك الأرض بالعيش في مساواةٍ وحرِّيَّةٍ وعدالة. ولتحقيق ذلك، يجب أن نجد سبلاً لفهم أسباب العنف، دون اللجوء إلى: 1) تبريراتٍ مُتعجِّلة ومحلّ شكّ، سواءٌ معه أو ضدَّه، و2) صور كاريكاتوريَّة عنصريَّة تعارِضُه.

التزامي هو التوصُّل إلى وسيلةٍ تسمح بتَصوُّر تطبيق المساواة المطلقة على كلِّ من يستحقّون الرثاء. سيحتجُّ على هذا أشخاصٌ من جميع الأطراف. إنَّ فلسفة اللاعنف تتطلَّبُ منظوراً للحرب لا يتبنَّى بالضرورة موقفاً من داخل الحرب نفسها. ومن الممكن، إن لم نقل لزاماً، تأمُّلُ الحرب وأفعال الإبادة الجماعيَّة -وهذين ليستا مُتماثلتين- من أجل إنتاج تفكيرٍ نقديٍّ ينشد الوصول إلى إمكانيَّة تحقيق سلامٍ حقيقيّ، واستشفاف كلٍّ من السبل والأسباب التي تدفع اللاعبين العسكريِّين إلى إلقاء السلاح والانخراط معاً على طاولة الدبلوماسيَّة وبناء مستقبل جديد.

إذا أردنا مطالبة المتقاتلين بإلقاء أسلحتهم -كما آمل أن نفعل- فإنَّه يتعيَّن علينا فهم الأسباب التي دفعتهم إلى حملها في المقام الأوَّل. لكن ليسَت الغاية من تتبُّع هذا النوع من التحقيق التاريخيّ تبريرَ العنف الناجم عنها؛ ففهمُ النشأة التاريخيَّة لحركةٍ ما لا يعني عقلنة أفعالها. في الواقع، من أجل تحقيق عالمٍ من التعايش اللاعنفيّ وإنهاء القهر والإخضاع، سيكون لزاماً أن نفهم تاريخ القهر الاستعماريّ، وكذلك بُناه وممارساته المستمرَّة، بغية وضع نهايةٍ لذلك القهر. لن ينجح التعايش ما لم نرسِّخ في البداية ظروف المساواة. بالنسبة إليّ، لطالما شكَّلت القيم العليا للمساواة والتعايش مُرتكزَ كلِّ أعمالي، وكذلك فيما يتعلَّق بالالتزام بالأنماط اللاعنفيَّة في النشاط والحشد السياسيّين. فالأدوات التي نستخدمها تعكسُ رؤيتنا للعالم الذي نصبو إليه وتُمثِّله، ولهذا يتيح اللاعنف، مهما بدا غير عمليّ، منظوراً لا يمكننا الاستغناء عنه. ومع أنَّه يُحزنني التطرُّق إلى الجهود المبذولة من أجل تشويه كلماتي وعملي وتحريفها؛ لكن لعلَّ هذه الحادثة تبيِّنُ أيضاً حدودَ ما يمكن سماعُه ومعرفتُه بالنسبة إلى أولئك الذين اتَّخذوا من التواطؤ والتنكُّر للمسؤوليَّات أسلوبَ حياة؛ الأسلوب الذي نحنُ بأمسِّ الحاجة إلى وضعه موضع الطعن والتشكيك.

فيديو اللقاء في بانتان (بالإنكليزية والفرنسية):

جوديث بتلر ترد على إلغاء باريس ندوة لها عن الصهيونية ومعاداة السامية

ترجمة حسام موصللي

2024-02-09

في شهر كانون الأوَّل المنصرم، كان مُقرَّراً أن تشارك جوديث بتلر في حدثٍ تضامنيّ مع فلسطين، في باريس، بيد أنَّ عمدة المدينة ألغَت الحدث بقرارٍ أحاديّ الجانب. في هذه المقالة، تتحدَّث بتلر عن سلسلة من الأحداث التي أفضَت إلى هذا الإلغاء، وتؤكِّد على ضرورة مقاومة الرقابة السياسيَّة ذات الصلة بالقضيَّة الفلسطينيَّة.

نشرت في Verso Book في 1 شباط 2024.

صدرت النسخة الأصليّة من هذا البيان في جريدة ميديا بارت الإلكترونيَّة، باللغة الفرنسيَّة، في 19 كانون الثاني 2024.

وصلتني استفسارات عديدة عن طبيعة ما جرى بالضبط حينما تواصل معي مكتب عمدة باريس. ولا أنكِر أنَّني فوجئت حينها بتسلسل الأحداث، ولا سيما أنَّ لهذه الصراعات تاريخها ودلالاتها الخاصَّة في فرنسا، والتي لم أكن أفهمها تماماً. لكن، وبعد مضيّ وقتٍ كافٍ للتفكير والتحليل، أودُّ أن أوضِح مسار الأحداث بالتفصيل. بدأت القصَّة عندما تواصل معي مُمثِّل عن مكتب العمدة في أوائل شهر كانون الأوَّل لإبلاغي بإلغاء الفعاليَّة التي كان من المفروض انعقادها في السادس من كانون الأوّل/ديسمبر تحت عنوان “ضدَّ معاداة الساميَّة واستغلالها، ومع السلام الثوريّ في فلسطين”. كان من المقرَّر أن أشارك في هذه الفعاليَّة برفقة أنجيلا ديفيس التي كانت سترسل إليَّ مقطعاً مصَّوراً تُعبِّر فيه عن وجهة نظرها ردَّاً على فرانسواز فيرجيس التي سألت عمَّا إذا كانت أنجيلا ديفيس ستوافق على تسجيل رسالة تضامن لأجل الفعاليَّة.

أوضحوا أنَّ مكان انعقادها “سيرك إلكتريك” مُدعَّم بأموال المدينة، وأنَّ الفعاليَّة نفسها تشِّكل تهديداً لـ “النظام العامّ”، وليس بمقدورهم دعم حدثٍ ترعاه حركة تضمُّ حوريّة بوتلجة في لجنتها المنظِّمة. في الواقع، لم تكن الحركة المقصودة، “كلمات الشرف” (Paroles d’honneur)، سوى واحدة ضمن مجموعات أخرى مشاركة في الرعاية؛ من بينها “الاتِّحاد اليهوديّ الفرنسيّ من أجل السلام” و”تسيديك” (التجمع اليهودي المضاد للاستعمار)! وحركة “مناهضة الفاشيَّة” في ضواحي باريس، وحركة ” الثورة الدائمة”، و”الحزب الجديد المناهض للرأسماليَّة” NPA.

أخبروني أنَّهم لا يرغبون بأنّ تكون لديهم أيّ “صلة” ببوتلجة إذ يعتبرون آراءها معاديةً لكلٍّ من النسويَّة والمثليَّة والساميَّة. أوضحتُ لهم بدوري أنَّها ليسَت من ضمن المشارِكات في الفعاليَّة، لكن لم يبد أنَّهم أعاروا توضيحي هذا اهتماماً حقيقيَّاً بحجَّة أنَّ الارتباط بها، أو دعم الحركة التي تنتمي إليها، أمراً غير واردين بالنسبة إليهم.

سألتُهم عمَّا إذا كان تمويلهم مقتصراً على الفعاليَّات المتوائمة مع آراء مكتب العمدة وحسب- فقالوا لا، لكن هناك حدود لحرّيّة التعبير. أقررتُ بأنَّ هناك حدوداً لحرّيّة التعبير بالفعل، بيد أنَّني أشرتُ مجدَّداً إلى مسألة أنَّ بوتلجة لم تكن ستشارك. كما اقترحتُ أنَّه من المفيد عموماً الإصغاء إلى طائفة متنوِّعة من وجهات النظر بصدد قضايا مهمَّة للرأي العامّ، لكن أصرّوا من جديد على أن آراءها غير مقبولة. ومرَّةً أخرى، كرَّرتُ لهم أنَّها ليست من ضمن المشاركات، بعكسي أنا، وأنَّ وجهتي نظرنا مختلفتان دون أدنى شكّ، وربَّما من المهمَّ سماع وجهة نظري.

اقترحوا أن أطلُب إزالة حركة ” كلمات الشرف” من قائمة الجهات المنظِّمة، فرفضت وقلت إنَّني لا بدَّ “ساذجةٌ”؛ وكنتُ أقصدُ بهذا أنَّني لم أتوقَّع أن تؤدّي فعاليَّةٌ عن هكذا موضوعٍ إلى نزاعٍ بمثل هذه الحدَّة يفضي إلى إلغاء. لم أقصِد أنَّني تعرَّضت “للاستغلال” من طرف أيٍّ من المجموعات المنظِّمة، مع العلم أنَّني لستُ عضوةً في أيٍّ منها.

لم تطلُب منِّي أيُّ جهةٍ أن أتبنَّى وجهة نظرها، بل مُنحتُ مطلق الحرّيَّة بالحديث مثلما أشاء. وإنَّني من وافقتُ على المشاركة في فعاليَّةٍ برعاية تلك المجموعات، وسأبدي موافقتي مرَّةً أخرى، ومن دون تردُّد. ليس من الضروريّ أن أتَّفق مع كلِّ وجهة نظرٍ تتبنَّاها الجهات المنظِّمة كي أتمكَّن من التعبير عن مواقفي الخاصَّة في كنف دعمها ودعواتها للمشاركة.

هذا البيان، الذي أدلي به الآن، نابعٌ من إرادتي بصورةٍ محضة. وإنَّه لمن المشين بالنسبة إليَّ مجرَّد الإيحاء حتَّى بأنَّني كنتُ أداةً ساذجةً يستغلُّها أيُّ طرف. الحالة الوحيدة التي كنتُ فيها ساذجةً بحقٍّ هي أنَّني لم أستطع تخيُّل أنَّ عمدة باريس قد تلغي فعاليَّةً من هذا النوع. لكنَّني تعلَّمتُ اليوم من هذا الدرس.

بعد عدَّة أيَّامٍ من الإلغاء، تلقَّيتُ اتصالاً هاتفيَّاً ثانياً من ممثّلٍ عن مكتب العمدة، ذكر أنَّه يرغب في التواصل معي وتوضيح بعض المسائل؛ أولاها أنَّهم لم يلغوني شخصيَّاً ولستُ “المستهدفة”، وأنَّني لن أتعرَّض لإلغاء مشاركاتي مرَّةً أخرى من قبل مكتب العمدة. ذكروا أيضاً أنَّني شخصيَّة مُرحَّب بها في باريس، وأنّ بإمكاني زيارة مكاتبهم العريقة في حال رغبتُ بذلك. كما قالوا إنَّهم ارتكبوا خطأً عندما ذكروا علانيةً اسم الشخصيّة التي كانوا يستهدفونها بالفعل.

استغربتُ لِما حدث أيَّما استغراب؛ نظراً لأنَّني تعرّضتُ للإلغاء بالفعل، وقُيِّدت حرّيّتي الفرديَّة بالتعبير عن وجهة نظري، وبطبيعة الحال، كانوا قد سبق وأصدروا بياناً يَذكر بصراحةٍ اسم بوتلجة. ثمَّ سرعان ما بدأت أتساءل عمَّا إذا كان مكتب باريس قد ندِم على بيانه السابق الذي يُميِّز ضدَّ مواطنةٍ ويصمُها بناءً على ما يتخيَّل أنّ رأيها سيكون عليه لو أنَّها تحدَّثت حقَّاً.

كان إلغاؤهم لجوديث بتلر فِعلاً لغويَّاً غريباً، حيثُ كانوا يقولون عمليَّاً: “إذا تحدَّثت حوريّة بوثلجة، فسنلغيها”- وهذا شكلٌ استباقيّ من أشكال الرقابة. بطريقةٍ ما، بدا أنَّهم كانوا يلغون خطاباً قبل حدوثه، على الرغم من معرفتهم أنَّه لم يكن سيحدث. هل تبادر إلى أذهانهم أنَّني سأنطق بكلمات حوريَّة؟ كلَّا. في واقع الأمر، كانوا يستغلونني لاستهداف حوريّة، لذا لم أكن سوى أداة لتحقيق غايةٍ أخرى.

في الوقت نفسه، كانوا يكتمون صوتي لأنَّني، وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً، أدافعُ عن موقفٍ مناهضٍ للصهيونيَّة من داخل السياسة والفكر اليهوديّين، بما في ذلك إصدار كتابٍ بعنوان “مفترق الطرق: اليهوديَّة ونقد الصهيونيَّة”. حقيقةً، كنتُ آمل أن أشرح وجهة نظري هذه بعنايةٍ وتأنٍ، لكن من الواضح أنَّها -ومهما بلغ اختلافها عن وجهة نظر حوريَّة- تُمثّل مشكلة أيضاً.

في الواقع، سأكون “ساذجة” إذا ما ظننتُ أنَّهم لم يستهدفوا من خلالي سوى حوريَّة فقط؛ إذ من الواضح أيضاً أنَّهم لا يريدون لشخصيَّة مثلي، معروفة نسبيّاً، أن تتبنّى موقفاً يعارضُ بجلاء دعم العمدة غير المشروط لإسرائيل. أعني، لقد أعلنت هيدالغو صراحةً عن استعدادها للمشاركة جنباً إلى جنب مع إريك زمور ومارين لوبان في مظاهرة مناهضة لمعاداة الساميَّة. وبقدر استنكاري لمعاداة الساميَّة، وحماستي للمشاركة في مظاهرة لمكافحتها، فإنَّني لن أتشارك فضاءً برفقة اليمين المتطرِّف الذي “يستغلّ” حركة مناهضة معاداة الساميَّة لصالح زيادة حدَّة النزعات والسياسات المعادية للمهاجرين والمسلمين و”تبريرها”.

استفسرتُ من الممثِّل الآخر عن مكتب العمدة عن أسباب اعتبار الفعاليَّة تهديداً للنظام العامّ، مشيرةً إلى حقيقة أنَّه على الرغم من الإلغاء، فإنَّ “سيرك إلكتريك” تعجُّ بصورٍ مُروِّعة لضحايا هجمات حماس في السابع من تشرين الأوَّل. سألته أيضاً عمَّا إذا كانت المجموعات التي شوَّهت هذه المؤسَّسة الثقافيَّة قد هدَّدت بالتظاهر ضدَّ الفعاليَّة المزمع انعقادها في السادس من كانون الثاني. وهل كان يقصد بمصدر تهديد النظام العامّ المحتجّين الصهاينة المتطرّفين، المستعدّين لإتلاف الممتلكات وتهديد الظروف المناسبة للخطاب الحرّ والمفتوح، وليس المشاركين والمشاركات بالفعاليَّة، وخاصَّة أنا؟

التزم مُحدّثي الصمت أمام سؤالي غير الساذج على الإطلاق. وتخميني هو أنَّ المحتجّين الصهاينة اليمينيّين قد هدَّدوا بتقويض النظام العامّ والتشهير بمكتب العمدة إذا ما دعم بالتمويل فعاليّة تنتقدُ الصهيونيَّة وتلتزم بتحرير فلسطين. واستجابةً لهذه التهديدات، أبدى مكتب العمدة استعداده لتعطيل النقاش العامّ بصدد إحدى أشدّ القضايا إلحاحاً في عصرنا. كان عليهم توخّي الحذر، وألَّا يسمحوا لأنفسهم بالوقوع في مصيدة الاستغلال من قِبل مثل هذه المجموعات التي هدَّدت، مثلما شاهدنا، بإتلاف “سيرك إلكتريك” إذا ما أقيمَت الفعاليَّة؛ ودون نسيان أنَّهم، حتَّى في أعقاب إلغائها، قد نفَّذوا تهديداتهم على أيّ حال. كونوا حذرين من أولئك الذين تبرمون معهم مثل هذه الصفقات، فبعض الالتزامات الأساسيَّة للديموقراطيَّة قد أصبحَت الآن على المحكّ.

ختاماً، أودُّ التأكيد على تضامني مع كلٍّ من تسيديك! والاتِّحاد اليهوديّ الفرنسيّ من أجل السلام، فكلتاهما تُجسّدان مبادئ تتناغم مع ما تتبنَّاه الصوت اليهوديّ من أجل السلام، المنظَّمة التي كنتُ جزءاً منها لأعوام طوال في الولايات المتَّحدة. إنَّهم لم يَستغلوّني بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وكنتُ، وما زلت، فخورةً بمشاركتهم القيم نفسها.

لو أتيحَت لي الفرصة للحديث، لشرحتُ أنَّ التراث اليهوديّ لطالما ضمَّ الاشتراكيّين ونشطاء النقابات غير الملتزمين بالمشروع الصهيونيّ، وأنَّ الصهاينة الأوائل أيَّدوا تأسيس دولةٍ ثنائيَّة القوميَّة ورفضوا مبادئ السيادة اليهوديَّة التي أصبَحت الآن مكرّسةً في القانون الإسرائيليّ، وأنَّ دولة إسرائيل لا تُمثِّلُ اليهود جميعاً، وأنَّ انتقادَ دولة إسرائيل ومعارضة أعمالها الإباديَّة، هو بالنسبة إليَّ، واجبٌ أخلاقيّ يهوديّ، وكذلك الالتزام بالتعايش مع غير اليهود.

تتَّفق جميع المنظَّمات آنفة الذكر على مبدأ أنَّه لا بدَّ من ربط معارضة معاداة الساميَّة بمعارضة كافَّة أشكال العنصريَّة. وأمَّا فيما يتعلَّق بكيفيَّة تبيُّن مواقع الاختلاف بيننا، فالواجب ألَّا نُمنع من النقاش.

مجلة رمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى