نقد ومقالات

عن فوز الروائي “عبد الرزاق قرنح” بجائزة نوبل للأداب لعام 2021

—————————–

نوبل 2021.. تتويج سادس لأفريقيا/ سناء عبد العزيز

في العام السابق أشادت الأكاديمية السويدية المانحة لنوبل بالصوت المتميّز للشاعرة الأميركية لويز إليزابيث غليك، الذي يضفي بجماله المجرد طابعًا عالميًا على الوجود الذاتي. وفي هذا العام، بعد أن بدا واضحًا مدى تقدم الكاتبة الفرنسية المعروفة آني إرنو لدى وكلاء المراهنات، تلتها الشاعرة الكندية آن كارسون، والروائي الياباني هاروكي موراكامي، المرشح الدائم لنوبل، أعلنت عن فائزها غير المحتمل بالمرة، فهو لم يدخل أصلًا سباق الرهانات، وكأنها تنفي عن نفسها فضيحة تسريبات أسماء الفائزين بغرض التكسب التي أثيرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وأدين فيها جان كلود أرنو، زوج الشاعرة كاترينا فروستنسون، عضو الأكاديمية آنذاك.

أدب ما بعد الاستعمار

لم يفز بنوبل من أفريقيا، حتى الآن، سوى خمسة كتاب: وول سوينكا، نجيب محفوظ، نادين جورديمر، جي إم كويتزي ودوريس ليسينج. وما إن أعلنت الأكاديمية السويدية عن فائزها لعام 2021، أمس الخميس 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أصبح الكاتب التنزاني ذو الأصول اليمنية عبد الرزاق غورناه هو السادس من القارة السمراء، وذلك “لقدرته على التغلغل بحساسية شديدة ودقة بالغة، إلى تأثير الاستعمار ومصائر اللاجئين بين الثقافات والقارات”.

غورناه هو أيضًا أول كاتب من ذوي البشرة الملونة يفوز بالجائزة منذ فوز توني موريسون بها عام 1993، فمن بين الـ 118 الفائزين منذ منحها أول مرة عام 1901، أكثر من 80 في المئة من الأوروبيين أو الأميركيين الشماليين. يقول غورناه: “عبر عقود من متابعة جائزة نوبل والكتابة عن الأدب، كانت هذه أكبر مفاجأة – الإعلان الأكثر إثارة للدهشة حتى الآن… لكن لا أحد يظهر في هذه القائمة تلقائيًا، لا بد من أن يكون موجودًا لبعض الوقت”.

ولد غورناه في 20 كانون الأول/ ديسمبر 1948 في إحدى جزر زنجبار، وعاش هناك حتى سن الـ 18، قبل أن يفر أثناء الثورة من الاضطهاد إلى إنكلترا، وهناك درس في جامعاتها في الستينيات. وحصل على درجة الدكتوراه. في الفترة من عام 1980 إلى عام 1983، حاضر في جامعة بايرو كانو في نيجيريا، ثم في جامعة كنت حتى لحظة تقاعده. على مدى رحلته الأكاديمية، انصب اهتمامه على أدب ما بعد الاستعمار والخطابات المرتبطة به، لا سيما ما يتعلق بأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والهند.

أدرجت أشهر رواياته “الجنة” (1994)، التي تدور أحداثها في شرق أفريقيا خلال الحرب العالمية الأولى، في كل من القائمة القصيرة لجائزتي بوكر وويتبريد، وفيها يستلهم من جوزيف كونراد رحلة البطل الشاب البريء إلى “قلب الظلام”. أدرجت كذلك روايته “عن طريق البحر” (2001)، في القائمة الطويلة للبوكر، والقائمة القصيرة لجائزة لوس أنجلوس تايمز للكتاب، وحصل في عام 2006 على زمالة الجمعية الملكية للآداب. أما عن نوبل التي أبلغ بفوزه بها أثناء تواجده في المطبخ وكان يظنها مجرد مزحة، فقد اعتبرها غورناه بمثابة تتويج لمشواره.

“عادة ما يتم طرح أسماء المتنافسين على مدى أسابيع قبل ذلك، أو في بعض الأحيان قبل أشهر، لذلك لم يخطر في ذهني شيء على الإطلاق. كنت أتساءل فقط، مثل الجميع، من سيفوز بها؟.. يشرفني بالطبع أن أحصل على هذه الجائزة وأن أنضم إلى الكتاب الذين سبقوني في هذه القائمة. شيء مذهل، أنا فخور جدًا”.

فوز مستحق لكاتب الشتات

في مقال نشرته صحيفة الـ”غارديان” البريطانية عقب فوز غورناه، وصفت ألكسندرا برينجل، محررته في بلومزبري، فوزه بأنه “الأكثر استحقاقًا” لكاتب لم يحصل من قبل على التقدير الواجب: “إنه أحد أعظم الكتاب الأفارقة الأحياء، ولم ينتبه إليه أحد من قبل. لقد قلت في حلقة الأسبوع الماضي إنه من ضمن الأشخاص الذين تم تجاهلهم تمامًا. وها هو يفوز بنوبل. لطالما كتب غورناه عن التشرد، ولكن بأجمل أسلوب وأكثره إثارة للضمائر حول ما يقتلع الناس من جذورهم ويشتتهم عبر القارات”. تضيف برينجل: “ليس دائما طلبًا للجوء، قد يكون ذلك لأسباب عديدة، يمكن أن تكون تجارة، مهنة، تعليمًا، أو حتى حبًا”.

أول رواية حررتها له في بلومزبري كانت “عن طريق البحر”، وتصف برينجل الصورة المؤرقة لرجل في مطار هيثرو يحمل صندوق بخور مؤطرًا، “هو كل ما لديه. وصل، ونطق بكلمة واحدة، وهذا معنى أن تكون لاجئا”.  تعتقد برينجل أن غورناه لا يقل أهمية عن كاتب مثل تشينوا أتشيبي، “كتاباته جميلة تمتاز بروح الدعابة الشديدة والحساسية. إنه كاتب غير عادي يكتب عن أشياء مهمة حقًا”. بينما وصفته مايا جاجي، الناقدة والمحكمة في جائزة كوستا لعام 2021، بأنه كاتب قوي ودقيق يحارب الصمت والأكاذيب التي فرضها التاريخ الإمبراطوري عندما كان طفلًا في شرق أفريقيا. أعماله قوية حول عيوب الثقافة التجارية المتوحشة مثل فظائع الاستعمار البريطاني والألماني، وليس أقلها خلال الحرب العالمية الأولى، و”أعمال الإرهاب العشوائية” التي تعرض لها كشخص أسود في بريطانيا وهو ما تمكن من تحويله إلى انتصار كوميدي في روايته “طريق الحج”.

اكتشاف لا ينتهي وعوالم غير مكتملة

إلى الآن نشر غورناه 10 روايات وعددًا من القصص القصيرة. يقول عنها أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل، “منذ أول رواية له “ذاكرة الرحيل”، عن انتفاضة فاشلة، إلى آخرها، “بعد الحياة”، وهو ينأى بنفسه عن الأوصاف النمطية ويفتح نظرتنا إلى شرق أفريقيا المتنوع ثقافيًا وغير المألوف للكثيرين في أجزاء أخرى من العالم”.

تحكي روايته “ما بعد الحياة”، التي نُشرت العام الماضي، قصة إلياس، صبي اختطفته القوات الاستعمارية الألمانية من والديه ولم يعد إلى قريته إلا بعد سنوات من القتال في حرب ضد شعبه. وصفتها “غارديان” بأنها “رواية مقنعة، تجمع بين كل ما كان من المفترض أن يُنسى، ويأبى أن يُمَّحى”. في عالم غورناه الأدبي، كل شيء يتغير؛ الذكريات والأسماء والهويات. ربما لأن مشروعه لا يمكن أن يكتمل بأي معنى نهائي، كما استكشاف لا ينتهي، مدفوعًا بشغف فكري في رحلته، التي بدأها كلاجئ يبلغ من العمر 21 عامًا.

“الجدارة الأدبية.. الشيء الوحيد المهم”

تبلغ قيمة جائزة نوبل للأدب 10 ملايين كرونة سويدية (840 ألف جنيه إسترليني)، وتُمنح، على حد تعبير وصية ألفريد نوبل، “لصاحب النتاج الأدبي الأكثر تميزًا في اتجاه مثالي”. من بين من فاز بها مؤخرًا، بوب ديلان، لأنه تمكن من “خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن تقاليد الأغنية الأميركية العظيمة”، وكازو إيشيغورو “الذي كشف، في رواياته الهاوية الكامنة وراء إحساسنا الوهمي بالتواصل مع العالم”. ووفقًا لإلين ماتسون، عضوة الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل: “الجدارة الأدبية هي الشيء الوحيد المهم… نحن لا ننظر أبدًا إلى الحياة الشخصية للفائز. هذا لا دخل له على الإطلاق. ما نبحث عنه دائمًا هو الأدب المتميز فحسب. يجب أن يكون الفائز شخصًا يكتب أدبًا متفردًا، شخصًا تشعر عندما تقرؤه بنوع من القوة، وهو تطور يستمر من خلال كتاباته، وجميع كتبه. لكن العالم مليء بالكتاب الجيدين والرائعين، ولا بد من شيء أكثر لتصبح الفائز. من الصعب جدًا شرح ذلك. إنه شيء تولد به، على ما أعتقد، سيسميه الرومانسيون شرارة إلهية”.

وكان من الطبيعي أن يتسلم غورناه الجائزة من الملك كارل السادس عشر غوستاف في حفل رسمي في ستوكهولم في 10 ديسمبر/ كانون الأول، ذكرى وفاة العالم ألفريد نوبل عام 1896، صاحب الوصية الأشهر في التاريخ. ولكن للعام الثاني على التوالي يلغى الحفل بسبب كورونا، وعوضا عنه، سنشاهد غورناه في حفل متلفز يتلقى جائزته وهو في بلده لم يبرحها.

ضفة ثالثة

————————–

نوبل” لوديعة من زنجبار في الغرب/ معن البياري

تفعلها الأكاديمية السويدية كل عام، غالبا، وتمنح جائزة نوبل للآداب إلى كاتبٍ/ةٍ (أو مغنّ، كما فعلت في 2016!)، لا تتضمّن اسمَه (أو اسمها) توقعاتٌ يتسلّى بها صحافيون وإعلاميون، ينشرونها للإيحاء بأنهم عارفون بما لا يعرفه غيرهم. يخيّبهم أعضاء الأكاديمية هذه. وهؤلاء يتداولون شأنهم هذا في طوطميةٍ، يُلاعبون بها المترقّبين والمنتظرين وأهل الأدب والإعلام. ولمّا أعلنوا أمس الخميس اسم عبد الرزاق قرنح (الكنية الأصحّ، وإن يتردّد أنها غرنة، أو جورناه، أو غورنا، أو … إلخ)، بدوا كأنهم أرادوا أن يرجّوا، بعض الشيء، قناعاتٍ استقرّت عن الجائزة العتيدة، بشأن مركزيّتها الغربية (95 فائزا من 118 أوروبيون وأميركيون)، وهذا صحيحٌ، ونأيها عن أفريقيا وآسيا، وعن العرب والمسلمين، فتمنح قلادَتها في الآداب لثالث كاتبٍ أفريقي (أسود) في قوائمها منذ العام 1901. تنزاني، مسلم، عربي إلى حدّ ما، فهو من أبٍ يمنيٍّ من حضرموت (اسمه سالم) وأمه تنزانية (هناك من ذكر إنها أيضا حضرمية)، ولمّا ولد في زنجبار وعاش فيها طفولته وبعض شبابه الأول، فإنه يكون زنجباريا، غير أن أرومته هذه لا يجوز أن تلغي أن مُقامه وعمله في بريطانيا منذ نحو أربعة عقود (عمل في أثنائها في نيجيريا)، هو المولود في 1948، أسهما في تكوينه مثقفا رفيعا، وأستاذا في جامعة كِنت، وأكاديميا في النقد الثقافي، ومحاضرا وكاتب مقالاتٍ ودراساتٍ في الخطابات الكولونيالية (الاستعمارية؟)، وروائيا، وإن ظهر بصفته هذه متأخرا في 1987، لمّا أصدر أولى رواياته العشر.

يخصّنا، نحن العرب، في أمر الكاتب الذي دخل نادي “نوبل” أمس أن أيا من رواياته غير مترجمةٍ إلى العربية، وكلها بالإنكليزية، فيما كثيرون من أبطالها وشخصياتها عرب، وأسماؤهم عربية، فضلا عن أننا يحسُن بنا أن نكون معنيين بموضوعات نصوصه ومشاغلها، إذ تتعلّق، خصوصا وغالبا، بالهويّات المركّبة والاضطهاد والعبودية والمنفى والذاكرة، كما أنه متعاطفٌ مع فلسطين التي زارها في نشاط ثقافي محترم. والتفسير الأكثر وجاهةً لمسألة عدم انجذاب الناشر العربي (ومعه المترجم العربي) إلى هذا الرجل أنه زاهدٌ عن الإعلام وميديا التسويق. يبدو، بحسب نتفٍ نُشرت عنه، شغّيلا وجدّيا وجادّا. وقد عدّته مظانٌّ وازنةٌ أحد أعظم الكتاب الأفارقة الأحياء، واستثنائيا. وقد نالت رواياتٌ له تقديرا طيبا في أوساط ثقافية بريطانية، ووصفت “الغارديان” الأخيرة منها بأنها ساحرة. وفي الذي وقع عليه صاحب هذه الكلمات بشأن الكاتب الشهير (صار شهيرا بعد الساعة الثانية من ظهر أمس بتوقيت الدوحة) أن لرواياته قيمتها العالية فنيا وجماليا. والبادي أنه فيها شغوفٌ بالحكايات والمروّيات التي تتوالى وتتدافع في سرودها، الغنية بالتشويق بحسب قارئين له، كتبوا إن ثمّة في مباني رواياته جشع تجّار عُمانيين وإيرانيين، وثمّة أبٌ يمنح ابنه (اسمه يوسف) لتاجر عربي لأنه لم يقدر على سداد ديونه، فيرتحل هذا بالفتى الذي يصير شابّا في أراضٍ وبحار ومدن في أفريقيا خصوصا، في أجواء الحرب العالمية الأولى، وثمّة ولع بالترحال والنأي والبعاد، وثمّة حضورٌ عريضٌ لزنجبار، وثمّة تعبيراتٌ عن شقاءٍ وفقرٍ واستغلال وفقدٍ وهجران، وثمّة بحثٌ صعبٌ عن الجذور البعيدة، حفرٌ في ذاكرةٍ مثقلةٍ بما هو قاسٍ، وثمّة كثيرٌ من هذا كله وغيره في روايات عبد الرزاق قرنح (أو …)، تُخبرنا عنه ملخصاتٌ عنها، تعطي فكرةً، طيبةً فيما أظن وإنْ غير كافية، عن عوالم هذا الكاتب الذي كوفئ بالجائزة العالمية العتيدة، وعن مخيّلته المنشدّة إلى الطفولة، وإلى زنجبار، إلى تاريخٍ لم يُحرز مواضع عريضة له من انتباه الأكاديميات الغربية.

عندما تقول الأكاديمية السويدية، في بيان إعلان منْحها الجائزة للباحث الجامعي في الأدب الأفريقي، الروائي حضرمي الأصل، بريطاني الجنسية والإقامة، إنكليزي اللسان بعد سواحليّته (قرأ القرآن صغيرا بالعربية)، التنزاني الزنجباري، عبد الرزاق قرنح، إنه يفوز بها “لاختراقه القوي والمتعاطف آثار الاستعمار ومحنة اللاجئين، بجرأةٍ وعمق غير مسبوقيْن”، فكأنها، في وجهٍ ما، تطلب الاكتراث بالمنسيين والمهمّشين والمتعبين من العنصريات والقمع في شرق أفريقيا، وكأنها تقول إن مخيلة كاتبٍ اهتمّت براهن هؤلاء وماضيهم والمعيش الذي أقاموا فيه تستحقّ اعترافا بها وتكريما لها. أجاد “كرادلة” الأكاديمية السويدية، هذه المرّة، الاختيار، وحسنا فعلوا أنهم يشجّعوننا، نحن العرب (وغيرَنا)، على التعرّف على نتاج قرنح، الكاتب الذي أظنّه “وديعةً زنجباريةً في ثقافة الغرب”، وكان قد كُتب لمّا أعطيت “نوبل للآداب” في 2017 للياباني البريطاني، كازو إيشيغورو، إنه “وديعةٌ يابانية في ثقافة الغرب” .. أما وديعتنا، نحن العرب، في الغرب فكانت أحمد زويل، في الكيمياء، وودائعنا الثقافية بين ظهرانينا.

العربي الجديد

—————————-

ماذا لو لم يكتب عبد الرزاق قرنح بالانكليزية؟/ محمد حجيري

لا ريب أن فوز الكاتب التنزاني الزنجباري اليمني، عبد الرزاق قرنح، بجائزة نوبل للأداب 2021، يشكل “مفاجأة” بالمعنى الإيجابي، ويعيد تفعيل نظرة الجمهور إلى دور جائزة نوبل للآداب، وهي التي عاشت ما يشبه “الرتابة” خلال السنوات الأخيرة، إما بسبب الفضائح الجنسية والتحرش أو بسبب الاختيارات التي لم تعجب كثيرين ولم تكن موفقة… وإيجابية قرنح أنه من خارج الأسماء المكرّسة المستهلكة المتداولة في الصحف العالمية (موراكامي، مارغريت اتوود، آن كارسون، نور الدين فارح)، وأتى الفوز من الجانب الخفي، من الجانب الذي تمناه كثر حين دعوا إلى توسيع آفاق الجائزة، لتكون أكثر تنوعاً حول العالم، وهو من خارج الأسماء المُراهَن عليها في بعض العواصم الأوروبية (تحديداً آني ارنو)، ومع أن الكثير من المقالات ركّز على الصومالي، نور الدين فارح، كمرشح إفريقي للفوز، جاء الفائز من مكان غير متوقع.

هذه هي نوبل عموماً، تعيش مرات في النمطية، ومرات في الصدمات ومرات أخرى في السياسة والصراعات والمحاور، من دون أن ننسى الفضائح…

وأكثر من جانب يمكن التطرق إليه في شخصية عبد الرزاق قرنح، الذي لم نقرأ أدبه بعد، ولا نستطيع أن نحكم عليه، مع أن الكثير من النقاد يصفونه بالمشوّق والمثير للاهتمام لناحية جذب القارئ بأسلوب لا يوازيه روائي إفريقي آخر… وقرنح، الذي له حضور لافت على الصعيدين الأدبي والأكاديمي في بريطانيا وأوروبا، ما زال غير معروف لدى القارئ العربي، فهو لم يترجم الى العربية، وإن كان كُتب عنه هنا وهناك في بعض المجلات العربية، مقالات تناولت تحديداً علاقته بحضرموت والثقافة السواحيلية. وهو أيضاً من الأسماء القليلة الإفريقية التي نالت الجائزة، ومن الأسماء “المُسلمة”، وهذا له دلالاته الواسعة، بالنسبة لمراقبي مسار الثقافة الأوروبية وتعاطيها مع الآخر، وبالنسبة حتى لأصحاب عقلية المؤامرة، إذ لطالما اتهم بعض النقاد الجائزة بـ”أنها معادية للعرب والمسلمين” ومنحازة للصهيونية…

عدا ذلك، قرنح ابن الثقافة الكوزموبوليتية التي تمزج الحداثة الغربية مع ثقافة الشعوب ولغتها، وقد أوضحت لجنة التحكيم أن المؤلف الذي تشكل رواية “باراديس” (“الجنة”) أشهر مؤلفاته، مُنح الجائزة نظراً إلى سرده “المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”… و”تفانيه من أجل الحقيقة، وكرهه للتبسيط، مذهلان”… و”تبتعد رواياته عن التنميط، وتفتح عيوننا على شرق إفريقيا المتنوع ثقافياً، وغير المعروف بالنسبة لكثيرين حول العالم”.

قرنح، العصامي والأفريقي، التنزاني لناحية الأم، اليمني لناحية الأب الحضرموتي لناحية القبيلة او العائلة (تمتد أصوله إلى عائلة قرنح في الديس الشرقية في حضرموت)، والزنجباري لناحية الولادة، ولد العام 1948 في جزيرة زنجبار التابعة لتنزانيا، لكنّه فرّ منها العام 1968 عندما كانت الأقلية المسلمة تتعرض للاضطهاد. فلجأ إلى بريطانيا طلباً للعلم، ولم يتمكن من العودة إلى زنجبار إلا في العام 1984، ما سمح له برؤية والده قبل وقت قصير من وفاته.

وحين سئل عن تصنيفه كأديب “ما بعد الكولونيالي”، أو ضمن “أدب العالم”، قال: “أفضل ألا أٍستعمل أي عبارة من هذه العبارات، لا أصنف نفسي ككاتب ضمن أي تصنيفات. في الواقع، لست أكيداً إن كنت أطلق على نفسي شيئاً غير اسمي”.

قرنح، مثله مثل الكثير من الكتاب المهاجرين (الهندي سلمان رشدي، والباكستاني حنيف قريشي، والمصرية أهداف سويف، والصومالي نور الدين فارح) أعادوا انعاش الثقافة البريطانية بهواجسهم وسردياتهم العابرة للقارات…

لا يتلكم قرنح العربية، مع أنه تعلم القرآن في طفولته، والكثير من القصص التي سمعها هي نتاج ثقافة الامتزاج (عربية وهندية وفارسية) التي تتميز بها بلاده زنجبار، وانعكست في كتاباته، وهو بدأ الكتابة عندما كان ابن 21 عامًا في المنفى الإنكليزي. ورغم أن اللغة السواحيلية كانت لغته الأولى، إلا أن اللغة الإنكليزية أصبحت أداته الأدبية، ونشر 10 روايات وعدداً من القصص القصيرة، ورواياته تعالج عموماً قضايا الهجرة والتاريخ والعنصرية.

وثمة إشارة مهمة قالها بعض الفسابكة: ماذا لو لم يكتب قرنح بالانكليزية وأخواتها الغربيات، هل كان ليفوز بنوبل؟ هل ستبحث لجنة التحكيم عنه؟ كتب الروائي العراقي شاكر الأنباري، تعليقاً بهذا الخصوص، يقول: “خلال مئة سنة من عمر جائزة نوبل، كانت الأعمال المكتوبة باللغات الإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والألمانية، هي المتصدرة في الفوز، ونادراً ما فازت أعمال غير مكتوبة بتلك اللغات، أي مترجمة من لغات خارج تلك الخيمة، ما عدا استثناءات قليلة جداً، وشبه نادرة. هناك روائيون عرب، وشعراء كبار، يوازون، ويقفون في الكفة ذاتها إبداعياً مع كثير من الفائزين النوبليين، لكن قدرهم هو كتابتهم باللغة العربية. اللغة التي صاحبتها، عبر قرون، إشكالات تاريخية، واجتماعية، ودينية، في نظر مؤسسات الثقافة العالمية السائدة، والمهيمنة على موازين التقييمات الإبداعية”.

وكتب المترجم غسان حمدان: “على أدباء العالم الثالث وخاصة الشرق الأوسط، كتابة إبداعاتهم بلغات أجنبية من أجل الشهرة والفوز بجوائز عالمية. وفي غير هذه الحالة، عليهم أن يدفعوا المال من جيبهم الخاص للمترجمين لكي يقدموا رواياتهم إلى قراء الضفاف الأخرى”.

ماذا لو، سؤال دائم، لا غنى عنه، خصوصاً إذا كانت جائزة بمستوى نوبل.. فحين تنتهي الأسئلة حول جائزة، تنتهي الجائزة.

بالطبع، مع فوز قرنح بنوبل، سيكون مسقط رأسه زنجبار موضع اهتمام الرأي العام، وسنقرأ كثيراً عن أصل هذا الكاتب وفصله، ربما على الطريقة اللبنانية…

المدن

——————————

نوبل للآداب 2021.. عبد الرزاق قُرنح ذو الأصول العربية يحكي عن الاستعمار والعنصرية والحنين إلى الوطن/ كاميليا حسين

شاب يجلس تحت شجرة الغار، يدون مسحورا ما يتلقاه من ربة الإلهام، هذا هو المشهد المنقوش على ميدالية جائزة نوبل للآداب، وحول هذا الرسم كُتبت باللاتينية عبارة “Inventas vitam iuvat excoluisse per artes”، والتي يمكن ترجمتها إلى “هؤلاء الذين عززوا حياة البشر على الأرض عبر استكشاف الفنون”.

اقتُبست تلك الجملة من الكتاب السادس من ملحمة الإنيادة التي كتبها الشاعر فرجيل باللاتينية في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وعلى الميدالية البديعة التي صممها النحات السويدي إريك ليندبيرج، حفر اسم “Abdulrazak Gurnah” أو “عبد الرزاق قرنح”، الكاتب التنزاني من أصول يمنية والمقيم في بريطانيا، والذي أصبح للتو الفائز الأخير بالجائزة المرموقة.(1)

    BREAKING NEWS:

    The 2021 #NobelPrize in Literature is awarded to the novelist Abdulrazak Gurnah “for his uncompromising and compassionate penetration of the effects of colonialism and the fate of the refugee in the gulf between cultures and continents.” pic.twitter.com/zw2LBQSJ4j

    — The Nobel Prize (@NobelPrize) October 7, 2021

طبقا لمنشور الكاتب الصحفي المصري محمد شعير على صفحته على فيس بوك المصحوب بلقطة شاشة (screenshot) للصفحة الرسمية لعبد الرزاق قرنح على تويتر، فإن قرنح أعلن عن فوزه بجائزة نوبل قبل الإعلان الرسمي للجائزة بعدة ساعات، وهو الإعلان الذي لم ينتبه إليه أحد تقريبا، حيث لم يكن عدد متابعيه يتجاوز 500 شخص، وهو العدد الذي تزايد بمرور الساعات بالطبع، حيث تخطى 5700 متابع لحظة كتابة هذه الأسطر، ومن المتوقع أن يقفز بالطبع في الساعات التالية.

أصول عربية

من قلب بلدة الديس الشرقية التابعة لمحافظة حضرموت اليمنية، هاجرت عائلة عبد الرزاق إلى جزيرة زنجبار القريبة من الساحل الشرقي ﻹفريقيا في أربعينيات القرن الماضي، حيث وضعت مولودها الذي عرفه العالم للتو عام 1948. تلقى عبد الرزاق تعليمه الابتدائي والمتوسط في الجزيرة، لكن الأمور تغيّرت بعد الأحداث الدموية التي عصفت بزنجبار في ظل نظام الرئيس عبيد كرومي بعد الثورة والاستقلال، والقمع الذي تعرض له المواطنون ذوو الأصول العربية.

في ظل هذه الأجواء، اضطر عبد الرزاق قرنح للهرب إلى بريطانيا عام 1968 قبل أن يتم العشرين من عمره، حيث عمل منظفا في أحد المشافي لفترة، واستطاع أن يستكمل تعليمه ويحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية رذرفورد بجامعة “كنت” في كانتربري عام 1982، ليُعيَّن في عام 1985 أستاذا للأدب ودراسات ما بعد الكولونيالية في الجامعة نفسها.

طبقا لبيان الجائزة جاء اختيار عبد الرزاق قرنح للتتويج بجائزة نوبل للآداب 2021 “تقديرا لسرده المتعاطف والخالي من أي مساومة ﻵثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”، كما أشاد البيان “بتمسكه المتفاني بالحقيقة وإحجامه المذهل عن التبسيط… حيث تتجنب رواياته الوصف النمطي، وتفتح أنظارنا على شرق أفريقيا المتنوع ثقافيا وغير المألوف للكثيرين في أنحاء أخرى من العالم”.(2)

وعلى الرغم من أن معظمنا ربما لم يسمع به من قبل، يحظى عبد الرزاق قرنح بحضور لافت على الصعيدين الأميركي والأوروبي، وتُدَرَّس العديد من رواياته في عدد من المناهج الجامعية لأدب ما بعد الكولونيالية، لكنّ لم يُترَجم أي من أعماله بعدُ إلى العربية. وسبق أن نال عبد الرزاق قرنح جائزة راديو فرنسا العالمي، ورُشِّحت رواياته في القائمة القصيرة للبوكر وجائزة الكتاب التي تقدمها مجلة لوس أنجلوس تايمز. وقد ألّف الأديب التنزاني 10 روايات حتى اليوم، وهي: ذاكرة المغادرة (1987)، طريق الحج (1988)، دوتي (1990)، الجنة (1994)، الإعجاب بالصمت (1996)، عبر البحر (2001)، الهجر (2005)، الهدية الأخيرة (2011)، القلب الحصى (2017)، الحياة بعد الموت (2020).

ويبدو أن تجارب قرنح الذاتية المرتبطة بصباه في زنجبار، وهجرته المبكرة نسبيا إلى بريطانيا، تحضر بقوة في أعماله الروائية جميعا، تلقي بظلالها على شخصياته الروائية والتي يبدو الكثير منها ممثِّلا بشكل أو بآخر لمراحل مختلفة من حياته وتجربته الشخصية، معتمدا في الكثير من رواياته على السرد الخلفي بتقنية “فلاش باك”.

تتناول أغلب أعمال عبد الرزاق قرنح الإرث الاستعماري وما بعد الاستعماري لمنطقة الساحل الإفريقي، معرية بقسوة لا تهادن الممارسات الاستعمارية والسياسية في كل من بلاده وبلاد المهجر، ومسلِّطة ضوءا حادا على تجارب الشتات والتمييز العنصري التي تواجه المهاجرين الأفارقة عموما، وفي بريطانيا على وجه التحديد.(3)

تجربة ذاتية

على الرغم من نزوحه إلى بريطانيا في العشرين من عمره، إلا أن عبد الرزاق يبدو كأنه لم يفارق موطن الصبا، وكأن رحيله وارتحال أبطاله هو استعادة للوطن البعيد مرة تلو الأخرى في كل عمل.

يبدو الرحيل والرغبة في الانعتاق حلما يسيطر على أغلب شخصيات عبد الرزاق قرنح، سواء تلك التي تبدأ رحلتها الروائية من الوطن، أو تلك التي تبدأ من المهجر. هناك رحلة ما يتبعها الشخوص، خلاصٌ يسعَون إليه، وهو خلاص شائك محمل دائما بالإرث الدموي المصاحب للاجئ الإفريقي في زمن ما بعد الكولونيالية.

تظهر هذه الرحلة والسعي نحو الارتحال منذ روايته الأولى “ذاكرة الرحيل” المنشورة عام 1987، حيث نتابع رحلة الراوي (حسن) الذي يعيش في مدينة ساحلية صغيرة في بلد شرق إفريقي، تشجعه والدته على زيارة خاله الذي أصبح رجل أعمال ثريّا في نيروبي، يهرب حسن من مدينته الصغيرة البسيطة وفساد والده المسؤول الحكومي المحلي، إلى مدينة كبرى حديثة تبهره أضواؤها. لكن العالم الجديد الذي لم يكن يعرف قواعده يطحنه بقسوة، كاشفا عن زيف قشرته اللامعة، يتكشَّف لحسن ماضي خاله، والفساد المستشري في المدينة الكبرى، لينتهي به الحال على سفينة مرتحلا مرة أخرى في البحر.

رواية “عبر البحر” عبد الرزاق قرنح

نشهد أيضا ثيمة الرحيل في رواية “عبر البحر”، هنا يصل صالح عمر إلى بريطانيا لاجئا من زنجبار طالبا للحماية، الصدفة وحدها تضعه في مواجهة قاسية مع ماضيه المتمثل في المترجم “لطيف محمود”، لينكشف لنا الماضي الموحش والقبيح الذي يسعى كلاهما للهرب منه. وعبر استخدام ضمير (الأنا)، لكن بصوتين وعلى لسانين متباينين، لسان صالح الهارب من جرمه، وأيضا على لسان ضحيته مستعينا بتقنية الفلاش باك، تصبح الذاكرة والندم هما المسيطرين على المشهد.

يستعرض قرنح كيف غيرت خرائط التجارة الاستعمارية القرن الإفريقي وأثرت على البلدان الصغيرة بطول الساحل، مركزا الضوء على الأثمان الفادحة التي دفعها الناشطون والصحفيون في موطنه الأم، وهو يسلط الضوء أيضا على ممارسات الاتجار بالبشر، والإساءات الجنسية للأطفال، وهو الموضوع الذي يركز عليه في روايته (الفردوس).

رواية “الفردوس” عام 1995 لعبد الرزاق قرنح

نُشرت رواية “الفردوس” عام 1995، وتتتبع رحلة الطفل يوسف الذي يبيعه والده في الثانية عشرة من عمره لسداد ديونه، يقطع يوسف رحلة ملحمية مخلفا وراءه جنة الطفولة البسيطة، إلى واقع استعماري لا يعرف عنه شيئا، على خلفية الحرب العالمية الثانية. في خلفية الأحداث، يقدم عبد الرزاق قرنح تشريحا عميقا ودقيقا للتاريخ من خلال وجهة نظر الطفل يوسف، وحكايات الشخصيات الثانوية التي يلتقيها خلال رحلته، مع تأثيرات واضحة للرواية القرآنية عن النبي يوسف، كما نلمح أيضا تأثره في هذه المرحلة المبكرة برواية جوزيف كونراد “قلب الظلام”. لكن على عكس النهاية السعيدة لقصة النبي يوسف، يُجبَر بطل الرواية على التخلي عن محبوبته “أمينة” والانضمام للجيش الألماني الاستعماري، وكأن تلك هي المنطقية الوحيدة لطفولة عصفت بها الأطماع الاستعمارية التي غيرت خريطة القرن الإفريقي، وخريطة عالم الطفولة الهشة للبطل أيضا.

وفي رحيل عكسي من المهجر إلى الوطن، نشاهد بطل روايته “الإعجاب بالصمت” المنشورة عام 1996، والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، نلتقي ببطل في منتصف العمر، يعمل مدرسا في إحدى ضواحي لندن، بعد أن هجر موطنه في تنزانيا وتزوج من إنجليزية.

الصمت هنا هو الإستراتيجية التي يلجأ إليها الراوي لتجنب الصدام بين الماضي والحاضر، وحماية هويته، حيث يختار الصمت مخفيا ماضيه عن عائلته الإنجليزية، ومبتكرا ماضيا مخترَعا متوائما أكثر مع عالمهم المشترك. يصبح الصمت مزدوجا حين نكتشف أنه يخفي حياته في المنفى عن عائلته في زنجبار، وحقيقة زواجه في إنجلترا وإنجابه لابنة في السابعة عشرة من العمر.

رواية الإعجاب الصامت لعبد الرزاق قرنح

محاصَرا بمهنة يكرهها، وزوجة إنجليزية لا تفهمه، وابنة مراهقة منعزلة عنه، يشعر البطل بالضياع وتتحول حياته إلى شظايا، وتتحطم حياته تماما عندما يصارحه طبيب أمراض القلب بحقيقة مرضه. في ارتحال عكسي، يقرر البطل العودة إلى الحياة التي هجرها في موطنه، من المهجر إلى الوطن، في رحلة يعري فيها قرنح قبح الفساد السياسي المسيطر على تنزانيا من خلال أعين المهاجر العائد بعد غيبة 20 عاما. تنهار حياته العائلية، لكنه يلتقي ما يشبه وعدا بالخلاص مع امرأة هندية يلتقيها في رحلة عودته مجددا إلى إنجلترا، وكأن المنفي لا يجد خلاصا إلا بصحبة منفي مثله.

طقوس خاصة

في حوار مع جريدة المدى العراقية، يتحدث عبد الرزاق قرنح عن طقوسه الخاصة بالكتابة خاصة في ظل انشغاله بالعمل الأكاديمي قائلا: “أكتب خلال العطل الجامعية وعندما أحصل على منحة تفرغ من الجامعة، هكذا كتبت رواياتي بين التدريس والمقالات. أكتب في بيتي، وبشكل ما لا تبدو عملية الكتابة الروائية في مكتبي الجامعي مناسبة أبدا. مكتبي هو مكان اصطناعي يساعدني على كتابة البحوث والمقالات والمحاضرات”.(4)

اليوم، يبدو تتويج عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب تكريما لمسيرة استكشاف ممتدة، مدفوعة بشغف لا يهدأ، شغف لم يختلف في تجدده وعنفوانه في روايته الأخيرة “بعد الموت”، الصادرة في العام الماضي، عن كتاباته الأولى في العشرينيات من عمره، الفارق ربما أن ذلك العنفوان بات أكثر وعيا ونضجا بعد أن صقلته التجارب مرة تلو المرة.

____________________________________________________

المصادر:

    The Nobel Medal for Literature

    بيان الجائزة

    مجلة حضرموت الثقافية سبتمبر 2016

    جريدة المدى

المصدر : الجزيرة

—————————-

ماذا تقول رواية “هجران” للتنزاني عبد الرزاق قرنح: تتناول جزر الأرواح التائهة/ إيليك بوهمر

في رواية تلو الأخرى، يؤكد الكاتب البريطاني المولود في زنجبار، عبد الرزاق غورنا، بقوة أحقيته الخيالية بالساحل الشرقي لأفريقيا، تلك الشواطئ حيث تزفر الهند أنفاسها على القارة السمراء ويزدهر الإسلام المنقول إلى تلك الأراضي. وتقدم روايته السابعة “هجران” Desertion صورة تنضح بالألوان عن جزيرة زنجبار أيام الاستعمار في منتصف القرن العشرين، وكذلك الجزر الصغيرة التابعة لها، إذ تصف ضوضاءهم، وحشودهم، والغبار، والجدران المدمرة، وعلى وجه الخصوص التصميمات الداخلية الخبيئة لأماكنهم حيث ينضج الشغف السري.

تمتد حوادث الحكاية أجيالاً عدة كي تستحضر حوادث محلية رئيسة من الفترة الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر، وكذلك أواخر الخمسينيات، قبل فترة ليست طويلة من الاستقلال. وعلى خلفية هذه الكثافة المفعمة بالحيوية لتاريخ زنجبار الحديث، والمعبرة عنه أيضاً، تعيش الشخصيات الرئيسة في الرواية قصص حب غير محسومة وحيوات تُسكَت فيها الرغبة بطريقة تبدو قاسية وغير عقلانية.

وإذ تروى من وجهة نظر راشد، الأخ الأصغر والمجتهد لأمين، إحدى الشخصيات الرئيسة في منتصف القرن، تبدو رواية “هجران” للوهلة الأولى أنها تدخل في أغنية كئيبة عن الحاضر والماضي يتم التنقل فيها سريعاً بين القرار والجواب [هما حدان يتنقل بينهما الصوت أثناء الغناء]. ثمة شعور قوي بالهلاك والخسارة والهجران الذي لا مفر منه تقريباً، يربط بين قصتي الحب الرئيستين في العمل. ويتجلى ذلك الشعور في ابتعاد راشد نسبياً عن قلب الحدث، إذ يعاني شعوراً مخيفاً مع تحوله طالباً أجنبياً في بريطانيا إبان ستينيات القرن العشرين.

في القسم الأخير والأقصر من الرواية، يتقدم الراوي [راشد] الذي يتمتع بكاريزما واضحة كي يروي قصته الخاصة عن المنفى البارد. ويحلل منطق الأجيال، إذ يولد الهجران المزيد منه، إضافة إلى الإهمال الاستعماري ورفض ما بعد الاستعمار. بأسلوب نثر تحريضي ساخر، يصف الراوي المراحل التي اكتسب من خلالها هوية الأجنبي صاحب البشرة الداكنة في إنجلترا، ولجوءه إلى الحياة الأكاديمية، وتضاؤل ​​أي إمكانية أمامه في العودة إلى جزيرته.

تعني الاضطرابات العنيفة التي شهدتها زنجبار في فترة ما بعد الاستقلال أن ما فعله لم يكن هجران شخص بل بلد بأكمله، وبالتالي، هجران الأسرة. ويؤدي انهيار زواج راشد وغريس، التي التقى بها في إنجلترا، إلى جعله قادراً على التماهي مع أحزان العشاق الآخرين من أبناء جلدته. إن أوجاع القلب ووداع الماضي الإمبراطوري محكوم عليهما بأن يتكررا إلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه راشد قادراً على ربط الخيوط المفككة لحياته وشدها بشكل نهائي، بفضل سياق سرديته، ولقائه مصادفة مع حبيبة جديدة.

كذلك تقدم رواية “هجران” صورة عن مارتن بيرس، ذلك المستعمر “المتذبذب” الذي يفضل التحدث بالعربية مع السكان الأصليين. وتعتبر تلك الصورة تجربة في رسم الشخصيات بأسلوب يعتمد على الانخراط في دواخلها. وبفضل التناقضات القوية [التي تنجم عن مقارنة صورة مارتن] مع الرجال البيض الأكثر “استبداداً”، كاد غورنا ينجح في ذلك. على كل حال، ثمة دلالة كاشفة أن تزْهِر قصة الحب الأقل إقناعاً في الرواية، بين عشيقة بيرس الزنجبارية ريحانة، وذلك الرجل الإنجليزي اللطيف، وقد تنبهنا إلى ذلك منذ لحظة لقائهما الأول، قبل الانزلاق إلى الخزي الاجتماعي والهجران، وحتى قبل الإفصاح عن ذلك الحب.

إذ يأتي تقرب بيرس من عشيقته في خطواته الأولى، محملاً بإشارات استعمارية غير مباشرة، تتراوح بين الروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون [الذي استقر في جزيرة “ساموا” في نهايات القرن التاسع عشر] إلى استكشافات الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون. ويشكل ذلك تمهيداً للتوغل الفادح للغرب في حياة سيعمل على تغييرها تماماً، على الرغم من نياته الحسنة في بعض الأحيان. عند الوصول إلى هذه النقطة، من المتوقع أن يكون محكوماً على قصة الحب بالفشل منذ البداية.

وفي المقابل، على الرغم من كل التواطؤات والمقاربات المقلقة في الرواية، تحتوي “هجران” مواقف مفرحة كثيرة. إذ يجيد الكاتب غورنا بشكل خاص، نقل لحظات التواصل التي تحافظ على “التيارات العشوائية في عصرنا” بصدق، التي تشمل المودة والتسامح بين الإخوة، والحب الأبوي، والهشاشة الحذرة لشاب مغرم. بغض النظر عن التقسيمات الحادة لتاريخ فترتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، تتيح تلك الاستراحات للغضب أن يتحول تفهماً، وكذلك تشجع البدء في العمل على تذكر أشياء الماضي المفقودة.

 تدرس إيليك بوهمر في كلية رويال هولواي بجامعة لندن، ووصل كتابها “الأدب الاستعماري وما بعد الاستعمار” Colonial & Postcolonial Literature، من مطبوعات جامعة أكسفورد، إلى النشر.

© The Independent

—————————————

نوبل للآداب 2021 لعبد الرزاق قرنح.. صوت من أفريقيا الشتات/ مصطفى ديب

أعلنت اﻷكاديمية الملكية السويدية ظهر يوم أمس الخميس، السابع من تشرين اﻷول/ أكتوبر الجاري، فوز الكاتب والروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح بـ “جائزة نوبل للآداب” لعام 2021، تقديرًا: “لكتاباته العميقة والمؤثرة التي توضّح آثار الاستعمار ومصير اللاجئ نتيجة الفجوة التي يعيشها بين قارات وثقافات مختلفة”، بحسب ما جاء في بيان لجنة تحكيم الجائزة التي أشادت بـ “تمسكه بالحقيقة وابتعاده عن التنميط”.

وأثارت اﻷكاديمية الملكية، للسنة السابعة على التوالي، جدلًا وسجالاتٍ واسعة لا بسبب اختيارها لشخصية أدبية أفريقية من خارج المركز الغربي الذي هيمن على الجائزة خلال السنوات السبع اﻷخيرة، أو بسبب تجاهلها المستمر لكتّاب وروائيين عالميين مثل ميلان كونديرا، وهاروكي موراكامي، وبول أوستر، ونيغوغو وا ثيونغو، وغيره؛ وإنما لمنحها الجائزة لشخصية غير معروفة، بل تكاد تكون مجهولة بالنسبة للكثيرين حول العالم.

ولد عبد الرزاق قرنح في جزيرة زنجبار عام 1948، ﻷبٍ ينحدر من أصولٍ يمنية، وأمٍ تنزانية. وفي أواخر ستينيات القرن الفائت، على وقع اﻷحداث التي شهدتها زنجبار بعد ثورة 1964، التي أطاحت بسلطانها العُماني جمشيد بن عبد الله البوسعيدي وحكومته، وبسبب ما ترتب على ذلك من ممارساتٍ انتقامية واسعة ضد العرب وغيرهم من اﻷقليات التي استوطنت في الجزيرة؛ غادر الروائي التنزاني زنجبار باتجاه المملكة المتحدة، حيث حصل على الدكتوراة في اﻷدب اﻹنجليزي من “جامعة كينت” عام 1982، وهي الجامعة التي درّس فيها اﻷدب اﻹنجليزي والدراسات ما بعد الكولونيالية منذ عام 1985، وحتى تقاعده قبل وقتٍ قصير.

 بدأ عبد الرزاق قرنح بالكتابة اﻷدبية بعد نحو عامٍ من وصوله إلى بريطانيا. حينها، لم يكن لديه تصوراتٍ مسبقة عما يريد الحديث عنه بالضبط، إذ يقول في أحد حواراته: “بدأت أكتب بلا مبالاة وبشيءٍ من الخوف من دون أي تصور مدفوعًا برغبة في اﻹفصاح عن المزيد”.

وفي عام 1987، نشر قرنح روايته اﻷولى التي حملت عنوان “Memory of Departure”، ثم أتبعها بسبع رواياتٍ أخرى، هي: “Pilgrim’s Way” (1988)، و”Dottie” (1990)، و”Paradise” (1994)، و”Admiring Silence” (1996)، و”By the Sea” (2001)، و”Desertion” (2005)، و”The Last Gift” (2011).

ركّز الروائي التنزاني، في مجمل أعماله الروائية، على المسائل المرتبطة بالهوية، واللجوء، وآثار الاستعمار وممارساته على الشعوب المستعمَرة، لا سيما شرق أفريقيا. وقدّم، في هذا السياق، شخصيات تكابد مشقات الهجرة، واللجوء، ومحاولات الانتماء إلى هوياتٍ جديدة جاهزة، أو مصطنعة، بهدف التأقلم داخل السياقات الزمانية والمكانية الجديدة، التي وصلتها بحثًا عن حياة أفضل. غير أنها، في نهاية المطاف، وبسبب عوامل عديدة، وجدت نفسها ضحية صراعٍ طويل، لا نهائي، بين الماضي والحاضر الذي جاء على عكس توقعاتهم.

وإلى جانب اشتغاله على ثيمات المنفى والهجرة وآثار الاستعمار، وما بعد الاستعمار أيضًا، يتناول قرنح في أعماله مواضيع أخرى عديدة تدور مدار العنصرية، وثقافة المقاطعة، وإرهاب الدولة، والفوقية الثقافية، والكراهية، والعنف، والاختلاف عن اﻵخر، وتحولات الرؤى الاستعمارية، والتهجين الثقافي والهوياتي وغيرها. كما ويحرص، في الوقت نفسه، على اﻹضاءة على طبيعة مشاعر شخصياته في ضوء السياقات السابقة.

في دراسته “روايات الشتات اﻷفريقي ما بعد الاستعمارية”، يصف الناقد المتخصص في اﻷدب اﻷفريقي، جون ج. سو، أعمال عبد الرزاق قرنح بأنها تصوِّر: “عنف ما بعد الاستعمار في بلده الأصلي تنزانيا، حيث أطاحت الغالبية السوداء بالنخبة العربية التي كانت موجودة في البلد منذ قرون”، وتركز على: “حالة المنفى التي تولِّدُها مثل تلك الصراعات”.

ويرى سو أن الروائي التنزاني يسعى، منذ روايته اﻷولى، إلى استكشاف: “تجارب اﻷفارقة الذين لا يشعرون أنهم في وطنهم، لا في أفريقيا ولا في بريطانيا العظمى. ففي عالم يبدو واضحًا أن العنف يستهلكه، يجد أبطال قرنح أنفسهم في حالة ترحال دائم”. ويضيف: “يبدو أن قرنح يرفض أن يصوِّر لحظة مصالحة نهائية بين أبطال رواياته وعائلاتهم، أو بين الجماعات العرقية والدينية المتناحرة، أو بين الماضي الاستعماري والحاضر ما بعد الاستعماري”.

وإلى جانب أعماله الروائية، قدّم عبد الرزاق قرنح مجموعة من الأعمال النقدية، التي ركزت على أدب ما بعد الكولونيالية داخل أفريقيا وفي منطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. باﻹضافة إلى تحريره مجلدات عديدة حول الموضوع نفسه.

الترا صوت

———————————-

من ألف ليلة والقرآن والشعر العربي إلى العالميّة… نوبل للتنزاني عبد الرزاق قرنح/ آية ياسر

دارت التكهنات هذا العام حول الاسم المحظوظ، خصوصاً مع الوعود من أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، بتوسيع نطاقها الجغرافي، رغم تأكيده الدائم بأن “الجدارة الأدبية” هي المعيار، لكننا نعلم تماماً ماذا تعني هذه المعايير لناحية تقسيم الأدب الواجب مكافئته وتعميمه والأدب الآخر الذي ينبغي التعتيم عليه أو عدم منحه الفرصة للانتشار، وحتى في اختيارها أدباً مكتوباً من طرف غير أوروبي، لا يفوت اللجنة الانحياز إلى الأدب “الأسود” المكتوب بأصابع بيضاء.

وجاءت نوبل هذا العام أفريقية منحازة لأدب ما بعد الكولونيالية وأدب مآسي الاستعمار والأنظمة المستبدة التي حلّت محله، والذي يُعبّر عن قمع الديكتاتوريات التي حلت محل المستعمر، ليظل الظلم باقياً مع اختلاف الوجوه فقط، إذ مُنحت الجائزة للتنزاني المقيم في بريطانيا، عبد الرزاق جرنة.

وأعلنت اللجنة القائمة على الجائزة أن جرنة فاز بها لسرده “المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”، مبتعدة بالتالي عن المرشحين الآخرين الأكثر حظاً، وهما الياباني هاروكي موراكامي، والأميركية جويس كارول أوتس أو حتى الفرنسية آني أرنو.

وبحصول عبد الرازق جرنة على جائزة نوبل للآداب، يصبح بذلك خامس أفريقي يفوز على الجائزة، بعد النيجيري وول سوينكا عام 1986، والمصري نجيب محفوظ عام 1988، والجنوب أفريقيين نادين غورديمير عام 1991، وجون ماكسويل كوتزي عام 2003.

الفرار من القمع والاضطهاد والمجازر إلى المنفى

في نشأته لم يكن عبد الرازق جرنة محظوظاً؛ حيث ولد في جزيرة زنجبار الواقعة في المحيط الهندي، قبالة سواحل شرق إفريقيا، لعائلة عانت من الاضطهاد والإبادة والتهجير، إبان الثورة التي مرت بها زنجبار، عقب التحرر السلمي من الحكم الاستعماري البريطاني في ديسمبر 1963، وأطاحت بالسلطان وحكومته العربية عام 1964، وما أعقب ذلك من قمع واضطهاد ومجازر بحق المواطنين من أصول عربية، في ظل نظام الرئيس الزنجباري عبيد كرومي.

أُجبر جرنة على ترك أسرته والفرار من جمهورية تنزانيا، المشكَّلة حديثاً، وهو ابن ثمانية عشر ربيعاً، إلاّ أن الحظ ابتسم له حين لجأ إلى المملكة المتحدة بغرض الدراسة في عام 1968، واستطاع أن يثبت جدارة ونجاحاً كبيراً على الصعيد الأكاديمي، فحصل على وظيفة محاضر في جامعة بايرو كانو في نيجيريا، خلال الفترة من عام 1980 إلى عام 1982، ثم عاد إلى بريطانيا، ليحصل على درجة الدكتوراه في عام 1982 من جامعة كنت، ويعمل بها أستاذاً ومديراً للدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية.

ويسلط جرنة اهتمامه الأكاديمي الرئيسي على الكتابة في بحوث ما بعد الاستعمار والخطابات المرتبطة به، خاصة فيما يتعلق بأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والهند.

ورغم نجاحه المهني والأكاديمي، عانى جرنة في المنفى البريطاني شعوراً مريراً بالغربة والحنين إلى الأهل والوطن الذي حُرم من زيارته قسراً؛ حيث لم يسمح له بالعودة إلى زنجبار حتى عام 1984، حينها استطاع تحقيق حلمه برؤية والده قبل وقت قصير من وفاة الأخير.

أريد فقط أن أكتب بأكبر قدر ممكن من الثقة

بدأت رحلة جرنة مع الكتابة في عمر الحادية والعشرين، عقب هجرته إلى بريطانيا، ورغم أن اللغة السواحيلية كانت لغته الأولى، إلا أن الإنجليزية أصبحت أداته الأدبية، فأبدع عشر روايات، هي: “ذاكرة المغادرة” 1987، “طريق الحج” 1988، “دوتي” 1990، “الفردوس” 1994، “الإعجاب بالصمت” 1996، “عن طريق البحر” 2001، “الهجر” 2005، “الهدية الأخيرة” 2011، “قلب الحصى” 2017، “الحياة بعد الموت” 2020، وله أيضاً مجموعة قصصية بعنوان “عاشت أمي في مزرعة في إفريقيا” صدرت عام 2006.

ويكشف الروائي التنزاني الفائز بجائزة نوبل 2021، عن أن الشعر العربي والفارسي، وكتاب ألف ليلة وليلة وسور القرآن الكريم، كانوا منبعاً مبكراً ومهماً له في تكوينه الأدبي، مشيراً إلى أنه لا يعتبر كتاباته المبكرة في زنجبار باللغة السواحيلية، أدباً، ومؤكداً على أهمية الثقة بالنسبة إليه ككاتب، قائلاً: “أريد فقط أن أكتب بأكبر قدر ممكن من الثقة، دون محاولة قول شيء نبيل”.

ورغم وجود عبد الرازق جرنة في المنفى البريطاني أغلب سنوات حياته، إلاّ أن أعماله الأدبية جاءت شديدة التعلق بوطنه الأم والقارة السمراء؛ حيث تمحورت روايته الأولى، “ذاكرة المغادرة”، الصادرة عام 1987، حول انتفاضة شعبية فاشلة وتدور أحداثها في القارة الأفريقية.

ويحاول بطل الرواية، الشاب الموهوب، فك الارتباط عن الآفة الاجتماعية للساحل ، على أمل أن يتم وضعه تحت رعاية عم ثري يعيش في نيروبي. وبدلاً من ذلك ، يتعرض الفتى للإذلال وإعادته إلى عائلته المفككة؛ حيث والده المدمن على الكحول والعنيف وأخته التي أُجبرت على ممارسة الدعارة.

أما في روايته الثانية “طريق الحج”، الصادرة عام 1988، فيستعرض جرنة الواقع متعدد الأوجه للحياة في المنفى، ويعالج قضايا الهوية والذاكرة والقرابة، عبر بطل الرواية داود، الذي يواجه المناخ العنصري في وطنه الجديد ، إنجلترا، بعد محاولته إخفاء ماضيه، ولكن يغريه حبه لامرأة بأن يروي قصته، سارداً ما حدث في نشأته المأساوية والذكريات المؤلمة للاضطرابات السياسية في تنزانيا التي أجبرته على الفرار.

وتنتهي أحداث الرواية بزيارة داود لكاتدرائية كانتربري؛ حيث يتأمل في أوجه التشابه بين الحجاج المسيحيين، الذين زاروا المكان في الأوقات الماضية ورحلته الخاصة إلى إنجلترا، ويشعر البطل بأنه قاوم في السابق بتحدٍ كل ما تبتهج به القوة الاستعمارية السابقة ولكن فجأة أصبح الجمال ممكناً بالنسبة إليه.

وانعكست تجربة الكاتب الأفريقي مع الغربة واللجوء إلى بريطانيا، بقوة على روايته الثالثة، “دوتي” الصادرة في 1990، والتي تدور حول امرأة سوداء من أصول مهاجرة، نشأت في ظروف قاسية في إنجلترا، إبان الخمسينيات المشحونة عنصرياً، فتشعر أنها بلا جذور في إنجلترا، رغم كونها البلد الذي ولدت فيه ونشأت فيه؛ فتحاول بطلة الرواية خلق مكانها وهويتها من خلال الكتب والقصص، وتمنحها القراءة فرصة لإعادة بناء نفسها.

ويركز جرنة في معالجته الأدبية لتجربة اللجوء، على قضيتي الهوية والصورة الذاتية، وهو ما تجلى في روايتيه “الإعجاب بالصمت” (1996) و “عن طريق البحر” (2001)، معتبراً أن الصمت يكون دوماً استراتيجية اللاجئ لحماية هويته من العنصرية والتحيز، وتجنب الاصطدام بين الماضي والحاضر، ما ينتج عنه خيبة أمل وخداع ذاتي كارثي.

في عالم جرنة الأدبي كل شيء يتغير

وعقب رحلة بحثية قام بها الكاتب التنزاني إلى شرق إفريقيا، في مطلع التسعينيات، كتب روايته الرابعة “الفردوس” الصادرة عام 1994 ، والتي تعد أشهر رواياته؛ حيث كانت على قائمة الروايات المرشحة لنيل جائزتي البوكر العالمية وويتبريد.

وتصوّر الرواية رحلة البطل الشاب البريء يوسف إلى قلب الظلام، بعد بلوغه سن الرشد وتعرضه لقصة حب محزنة تصطدم فيها عوالم مختلفة وأنظمة معتقدية، على خلفية وصف عنيف ومفصل لاستعمار شرق إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر.

وعلى عكس النهاية المُفرحة لقصة النبي يوسف، التي وردت في القرآن الكريم، والتي يكافأ فيها على قوة إيمانه ، يضطر يوسف بطل رواية “الفردوس” إلى التخلي عن أمينة ، المرأة التي يحبها ، للانضمام إلى الجيش الألماني الذي كان يحتقره سابقاً.

أما في روايته الخامسة “إعجاب الصمت” الصادرة عام 1996، فيختار الراوي المتحيز إخفاء ماضيه عن عائلته الإنجليزية، ويبتكر قصة حياة أكثر ملاءمة لعالمهم المشترك، بينما يخفي حياته في المنفى البريطاني عن عائلته في زنجبار، الذين يجهلون أن لديه عائلة جديدة في إنجلترا وابنة باتت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً.

ويستكمل جرنة تقديم دراما خيبة الأمل وخداع الذات اللذين يعيشهما اللاجئ الأفريقي، عبر روايته السادسة “عن طريق البحر”، الصادرة عام 2001، عبر شخصية صالح ، راوي الجزء الأول من الكتاب، ذلك المسلم العجوز القادم من زنجبار، والذي يتقدم بطلب لجوء إلى إنجلترا بتأشيرة مزورة باسم عدوه اللدود، لكنه يلتقي نجل العدو، لطيف، راوي الجزء الثاني من الكتاب، والذي تم تكليفه بالصدفة لمساعدة صالح على التكيف مع وطنه الجديد.

وخلال مشاجراتهما الحماسية، يعود ماضي صالح المكبوت في زنجبار إلى الانتعاش بداخله، وبينما يحاول رغم كل شيء أن يتذكره ، يفعل لطيف كل شيء من أجل نسيانه، مما يخلق توتراً غريباً في الرواية، حيث اختار جرنة أن يجعل راويين يتحكمان في مسار الرواية واتجاهها.

ويعالج الكاتب في روايته السابعة “الهجر”، الصادرة عام 2005، الاختلافات الثقافية الهائلة في شرق إفريقيا المستعمرة، وتدور الأحداث في مطلع القرن العشرين، حول الإنجليزي مارتن بيرس، الذي انهار فاقداً للوعي في الشارع، وساعده تاجر محلي ونقله عبر متاهات المدينة إلى عالم حيث الثقافة والدين غريبان، لكن بيرس الذي يتحدث العربية، يقع في حب ابنتهما ريحانة.

ويظهر في تلك الرواية تأثر الكاتب بفترة شبابه في زنجبار، حيث يتواجد على مدى قرون العديد من اللغات والثقافات والأديان المختلفة جنباً إلى جنب، لكنهم قاتلوا أيضاً من أجل الهيمنة.

وتتكرر تيمة اللجوء في روايته الثامنة “الهدية الأخيرة”، الصادرة عام 2011؛ حيث يموت اللاجئ الأفريقي المريض، عباس، تاركاً هدية تتكون من شريط تسجيل لتاريخ قاس غير معروف للعائلة الباقية.

ويصوّر جرنه تجربة المهاجرين والصدمات النفسية بين الأجيال وحقبة ما بعد الاستعمار وثورة زنجبار التي أطاحت بالحكم العربي للبلاد، في الرواية التاسعة “قلب الحصى”، الصادرة عام 2017، مقدماً قصة مؤلمة لانهيار إحدى العائلات والعلاقة المتوترة بين الأب ونجله، عبر مصير الشاب سليم، الذي انقلبت حياته رأساً على عقب عندما قام والده فجأة بحزم أمتعته ومغادرة المنزل، واستأجر غرفة صغيرة في الجزء الخلفي من متجر وانعزل مع نفسه، ولم يحصل سليم على أي تفسير من والده أو والدته حول حقيقة ما يحدث، حتى وصوله إلى الكشف المرعب في النهاية عن سر عائلي مُخفي عنه، لكنه حاسم لمساره كفرد لا جذور له في المنفى.

وفي روايته الأحدث “الحياة بعد الموت”، الصادرة عام 2020، يستعرض الكاتب رياح التاريخ المتقلبة، مقدماً حبكتها عبر عدة أجيال، وصولاً إلى خطة النازيين غير المحققة لإعادة استعمار شرق إفريقيا.

وتدور أحداثها في بداية القرن العشرين، قبل نهاية الاستعمار الألماني لشرق إفريقيا، عبر شخصية إلياس، الذي أُجبر على خوض الحرب على الألمان، ويصبح معتمداً على ضابط يستغله جنسياً، لكنه يُصاب في اشتباك داخلي بين جنود ألمان، ويُترك في مستشفى ميداني لتلقي العلاج، وعندما يعود إلى مسقط رأسه على الساحل، لا يجد عائلة ولا أصدقاء.

وبينما صرح عبد الرزاق جرنة بسعادته لفوزه بالجائزة، لم ينس أن “يلفت” نظر الأوروبيين لضرورة تغيير نظرتهم المتفوقة والعنصرية نحو اللاجئين الأفارقة، قائلاً: “إنهم لا يأتون خاليي الوفاض، إنهم أشخاص موهوبون وحيويون”، وربما سيتمّ الحديث كثيراً في الأيام القادمة عن هذا الخطاب “الأبيض الذي يرتدي قناعاً أسود”، بعد أن تبدأ ماكينة الترجمة بتقديم “الفائز المحظوظ”، لقراء اللغة العربية، خصوصاً أن الأقلام بدأت مبكراً بالاحتفاء بالفائز “المسلم” و”ذي الأصول العربية”، كعادة المهزومين وخالي الوفاض.

رصيف 22

حوار مع عبد الرزاق قرنح الفائز بنوبل الآداب

حوار معه أجراه الصحفي والكاتب العراقي سعيد فرحان

نشر في جريدة المدى في 8/5/2008

في المقال عرض لأهم رواياته، وتأكيد لاسمه (قرنح) ولأصوله (من أب يمني وأم تنزانية مولود في زنجبار) تعلّم القرآن في طفولته المبكرة، لكنه لا يعرف العربية الآن. كل رواياته تدور حول ثيمة واحدة (الهجرة).

عبد الرزاق قرنح.. مصير الفرد الأعزل في دوامة التاريخ

عندما رشحت رواية عبد الرزاق قرنح ) ” Abdulrazak Gurnah عبر البحر” ضمن القائمة المصغرة لجائزة البوكر برايس كتب محرر الملحق الأدبي لجريدة التايمز” يحبس القاريء انفاسه وهو يقرأ هذه الرواية لكي لا يخل

بمجرى احداثها” وقد وضع الناشر الفرنسي هذه الكلمة التي تشبه تحديا على غلاف الرواية. وعندما يصل القاريء الى الغلاف الأخير فإنه سيجد كلمات الناقد صحيحة للغاية. فهذا الروائي العصامي الجاد يمتلك فن تشويق لا يباريه فيه أحد من الكتاب الأفارقة. الكتاب الآخرون مثل نور الدين فارح أو شينوا اشيبي على سبيل المثال يمتلكون السطوة في تناولهم انسان قارتهم ولكنهم يفتقدون هذه القيمة النادرة، متعة التشويق في الوصول الى أكثر المشاعر عمقا في الروح البشرية حتى ليصبح الكائن الأفريقي مثالا للإنسان الأعزل الملقى في متاهة التأريخ المريعة.

إن موضوعة النفي هي موضوعة قرنح الأثيرة وفيها يتدفق نثره النقي ليهز يقين القارئ. أبطاله مأخوذون بالحكايات والقصص وكأنها الوسيلة الوحيدة القادرة على انقاذهم من هول الواقع.

في واحدة من أكثر رواياته شهرة ” جنان” التي يدور محورها حول شخصية الطفل يوسف الذي يمنحه أبوه لتاجر عربي يعمل في التجارة لعدم قدرته على دفع ديونه لهذا التاجر. يصطحب التاجر يوسف في رحلاته من جزيرة زنجبار (وهي موطن قرنح) الى العمق من افريقيا باتجاه مناطق البحيرات الكبرى.

لا يفهم يوسف سبب مرافقته للتاجر ويظنه أحد أقاربه ومع المدى الزمني الذي تستغرقه رحلة التجارة هذه لا يستسلم يوسف كليا لهذه الاقتلاع القسري ، لأنه يجد متنفسا لشعور النفي في حكايات افراد الرحلة: السائق الهندي الواسع الثقافة، عمال الحمل، والطبيعة التي تستغرقه والتي يجد في مياهها الرائقة تعويضا للجنة التي فقدها.

وفي رحلة التعلم هذه، رحلة المرور من الطفولة الى مرحلة الصبا، يحلم يوسف بالانعتاق وبالرحيل مثله مثل جميع ابطال قرنح. المفاجآت التي تحملها كل صفحة من صفحات الرواية والشخصيات الثانوية التي تمر مثل طيف وتلقي بمذاق الحياة المرّ تجعل من يوسف شابا يختزن خبرة الوجود التي تجعله في آخر صفحة من الرواية يقرر الرحيل في صفوف أحد الجيوش الغازية. تدور الرواية في مشارف الحرب الكبرى حين تتقاسم البلدان الصناعية مصائر وثروات العالم الثالث تلقي بشعوبها في دوامة يبدو الخروج منها مستحيلا. لا يتردد قرنح في التعرض لتشريح تأريخ بلاده، لغزوات الدول الغربية ولكن الأحداث تروى عبر عينين بريئتين لم تشبعا من رؤية الأم.

رواية “ذاكرة الرحيل” هي أولى رواياته السبع تتابع رحلة “حسن” الذي يهرب من مدينته البائسة (كنج) لكي يحصل على عمل في مدينة بايروبي. شوقه للعيش في المدن الكبرى سرعان ما يصطدم بمرارة واقع يجهل قواعده وعلاماته حين يطرده خاله بقساوة وذلك حين يكتشف حبه العارم لإبنة خاله الجميلة سلمى. يبحث حسن في الهروب عن علاج للشعور بالإهانة. وفي نهاية الرواية التي تأتي مثل يقظة بعد حلم مهول، نجده يكتب رسالة حب لسلمى وهو على ظهر باخرة شحن تمخر البحر بين بومباي وماكاو.

في خضم مطحنة التأريخ السوداء يبدو الرحيل وكأنه علامة للخلاص لشخوص قرنح. ولأنه ولد وترعرع في جزيرة زنجبار فإن البحر هو نافذة الرحيل وسبيل الخلاص، ولكنه خلاص محاط بالاشواك، اشواك الذاكرة التي تستيقظ وتلقي المنفي في دوامة اليأس. في احدى أكثر رواياته تشويقا “عبر البحر” والتي ترجمت إلى معظم لغات الأرض الحية، يجد بطل الرواية صالح نفسه بعد رحلة طويلة تقوده طلب اللجوء السياسي في بريطانيا، امام ماضيه المتمثل بمترجم من

ابناء جزيرته كان قد استولى هو على منزل أبيه في الماضي. في الماضي يتعرف صالح على تاجر بحراني من

أصل إيراني استطاع ان يجمع ثروة هائلة في رحلاته التجارية. يسهب قرنح في وصف جزيرته وفي جعلها شأنها شأن كل جزيرة مأوى للتجار الرحالة، لجشعهم، لأخلاقهم الغريبة التي لا تتردد في اغتصاب الأطفال)مثلما يفضح جشع التجار

العمانيين وطرائقهم الغريبة بالمتجارة بالبشر في رواية “جنان”(. يستغل هذا التاجر غفلة موظف في الأشغال العامة اسمه رجب شعبان، يغتصب أبنه ويخونه مع زوجته ويستولي على بيته ولأنه استدان من صالح مبلغا من المال، يعطيه مقابله سند البيت. يطرد صالح أهل البيت ويسكنه. بعد الأستقلال تنتقم زوجة  رجب منه بالالتجاء إلى معارفها من المتنفذين في السلطة الجديدة. يسجن صالح عشرة أعوام يفقد خلالها زوجته وطفلته. ويعود الى تجارة الخردوات التي كان يزاولها من قبل. ولكنه يصاب بالذعر عندما يسمع بعودة إبن رجب الأصغر الذي عاد في رحلة زيارة لزنجبار. يدبر جواز سفر مزوراً يحمل أسم رجب شعبان ويرحل إلى انكلترا عبر البحر. يجد نفسه في بلد غريب، وحيدا وبهوية مزورة. في واحدة من اجمل وأكثف مشاهد الرواية يصف قرنح رعب صالح امام شرطي المطار اللطيف وهو معلق بين قبوله في هذا البلد وبين امكانية ترحيله إلى ماضيه. غير ان الماضي سرعان ما ينبثق حين تعثر موظفة المساعدة الأجتماعية على مترجم يجيد لغته وحين نتعرف على المترجم نكتشف انه الأبن الأصغر لرجب شعبان. الفصل الأخير من الرواية مكرس للقائهما في بيت كابي وكل واحد منهما يروي احداث ماضيه وكأنه يحاول التخلص منه إلى الأبد. الرواية تجري مثل نهر بفرعين من خلال استخدام ضمير المتكلم، ولكنه، ومن هنا تنشأ قوة الرواية، ضمير متكلم لشخصين مختلفين.

الشخص الأول هو صالح والشخص الثاني هو لطيف أبن رجب شعبان الذي هجر الجزيرة بعد أن فقد أبوه منزله، ويشكل الفقدان الصدمة الرئيسية التي جعلت منه منفيا كره جزيرته ورفض جذوره وانتقل للعيش كليا في أنكلترا. الصوتان يتحاوران في القسم الأخير من الرواية بشكل ساحر دون أن يتخلى أي منهما عن صفة ضمير المتكلم حتى يختلطا وكأنهما يبحثان عن بلسم يشفي جروحهما ويمكنهما من العثور على نوع من التآلف مع المحيط الجديد، كل ذلك ببساطة ساحرة لا يقوى عليها غير كاتب كبير.

من أين يأتي هذا النضج المبكر وهذه القدرة الروائية العالية ولماذا ينشأ كتاب كبار في بلدان لا تعرف التقاليد  الروائية؟ لا يجيب عبد الرزاق قرنح عن هذا السؤال في حوارنا وهو يعتقد ان الكاتب هو مصير فردي لا علاقة له بمكان محدد، غير أن القبض على أكثر مشاعر الإنسان سرية يبدو محيرا و طريق الكاتب الجاد فيما يبدو هو طريق آلام فردي يمتزج فيه الألم بالقدرة على التأمل والتأني واستيعاب دروس الكتاب الكبار. فهو قارئ ممتاز واستاذ ادب  كثير التأثير ) يدرس قرنح الأدب في جامعة “كنت” منذ سنوات طويلة( وهو متابع متفحص لأدب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الكولونيالية وهو أيضا ناقد ممتاز يرشد القارئ بدقة وبصبر الى المادة الأساسية في اعمال الروائيين الذي يتناولهم. هل اهتدى قرنح إلى صوت الموهبة في داخله في الغرب. لا يجيب بشكل قطعي على تساؤلنا، انما يلمح لتأثير في طريقة عمله، فقد وصل بريطانيا في سن العشرين ومنذ ذلك الوقت وهو يعيش في برايتن ويدرس في “كنت” ويكتب بأنكليزية يصفها نقاد الأدب بأنها انكليزية رفيعة ناصعة مشبعة بمفردات دقيقة. ولد عبد الرزاق قرنح في جزيرة زنجبار عام 1948 من أب ينحدر من أسرة يمنية وأم تنزانية من موباسا وأصدر حتى الآن سبع روايات هي على التوالي: “ذاكرة الرحيل”، “دوتي”، “طريق الحاج”، “جنان”، “عبر البحر”، “صمت مدهش”، “فرار”. وقد حرر هذا

الكاتب مجلدات عديدة عن أدب ما بعد الكولونيالية وكتب المئات من المقالات النقدية والبحوث. يبدو هذا الكاتب وكأنه قد كرس حياته كليا للأدب حتى يصعب تصوره أبا لعائلة ومدرساً جامعياً مرموقاً. لا يفارق الكاتب موطن طفولته رغم بعده عنها ويرصد في كل رواية مصير الكائنات البشرية التي تئن تحت وطأة تأريخ لا يرحم ألقيت في أتونه دون حماية حتى ليبدو الرحيل أحد أشكال القرب منها. في رواية “صمت مدهش” التي أخلفت موعدها مع البوكر برايس بفارق صوت واحد، يتحول المنفى الى عبء جديد وكأن أرض المنفي هي مخيلته التي تتسع باتساع المسافة بينه وبين موطنه

وتعيقه من التأقلم مع المحيط الجديد. بطل الرواية ينحدر من الجزيرة ذاتها، ذاتها يصل إلى انكلترا شابا، هاربا من جحيم الانقلابات السياسية. يتزوج من أنكليزية ويحصل على عمل كمدرس في أحدى المدارس في ضواحي لندن.

غير أن حياته تأخذ بالتصدع شيئا فشيئا. فوظيفته مرهقة ولا تملا جوعه أزاء طلبة متعبين لا يرون في الدراسة غير عبء ثقيل. زوجته الأنكليزية لا تفهم صمته وأبنته لا تكلمه وهي في دوامة المراهقة. وهاهو الطبيب ينبئه بأن قلبه بدأ يعطي اشارات مخيفة. يدور حول نفسه من دون أن يعثر على مخرج، وينصرف للكحول ويفكر بالعودة إلى زنجبار بعد التغيير السياسي الذي طرأ عليها. يقوم بهذه الرحلة بعد عشرين عاما من الغياب. غير أنها ستضع حدا لحياته العائلية. فالبطل يراوح في موطنه ولا يفهم كيف تحولت جزيرته إلى واحدة من أكثر المناطق فقرا واندثارا. يبرع قرنح برسم صورة قاسية للقادة السياسيين المحليين ويعري النذالة والجشع اللذين يتميز بهما ممثلو الشعب. وهذا الفصل هو أكثر فصول الرواية سوداوية. غير أن الفصل الذي يصف فيه الراوي عائلة زوجته هو أكثرها هزلا. فالراوي يخترع حكايات وحياة متخيلة على مسمع حماه وكأنه يسرد احدى مسلسلات طرزان. ولكن دهشته تأخذ مدى سحريا عندما يكتشف أن الحكايات التي كان يخترعها لتطمين حماه هي وقائع حدث معظمها في غيابه.

يطول غياب الراوي حتى تقرر زوجته أن تهجره ويجد نفسه في دوامة وغربة جديدتين. في آخر صفحات الرواية يجد الراوي نوعا من الخلاص بالتعرف إلى امرأة هندية رافقته في رحلة العودة بالطائرة وهي مثله هربت إلى انكلترا بعد طرد عائلتها من كينيا، مثله في طريق الضياع بين حضارتين لا يفصلهما البحر فقط إنما الأغتراب العميق الذي يصبح هوية الكائن المنفي. هذه الرواية هي بمثابة قاموس للنفي، لمن أضاع بيته الأول وحلت عليه لعنة الرحيل الدائم من بيت إلى آخر.

في هذا الحوار لا يدلنا قرنح على مفاتيح للدخول إلى أسراره انما يوحي لنا وما أشد قدرة الإيحاء بالإفصاح عن حيرة الكاتب العميقة.

– كيف تعمل؟ هل تعمد إلى تجميع ارشيف عن شخوصك؟ هل تستيقظ صباحا باكرا؟ أين تكتب؟ في كل مكان، في البيت، في الجامعة؟ أسأل ذلك لأنك ما زلت شابا ومع ذلك أصدرت سبع روايات والعديد من كتب النقد والبحث الأدبي أضافة إلى مئات المقالات. لدي شعور بأنك تكتب دائماً حتى يصعب تصورك أبا لعائلة وأستاذاً جامعياً يشرف على الكثير من طلبة الأدب، كيف توفق بين ذلك كله، كيف تعمل؟

– أكتب خلال العطل الجامعية وعندما أحصل على منحة تفرغ من الجامعة. هكذا كتبت رواياتي بين التدريس والمقالات. أكتب الرواية في البيت. وبشكل ما تبدو لي عملية الكتابة الروائية في مكتبي الجامعي غير مناسبة أبدا. مكتبي هو مكان اصطناعي يساعدني على كتابة البحوث والمقالات والمحاضرات. أنه للطف منك أن تصفني بالشاب رغم أنك تعرف أنني أشارف على الستين من العمر. أنه لخيلاء أن تعتبرني شابا.

– ثيمتك الأساسية هي النفي. ولكن شخوصك يبحثون دون جدوى عن معنى للوجود، حتى ولو انصهروا بشكل كامل في البيئة الجديدة ) لطيف محمود في “عبر البحر” والراوية في ” صمت مدهش”( انهم في حالة رواح ومجيء إلى موطن الطفولة. ولكنهم لا يشعرون بالتآلف لطول الغياب مع الموطن الأصلي، هل يعني النفي فقدان معنى الوجود؟

– ما أقترحه هو أنه من الصعب جدا بل من المستحيل الانصهار كليا في مجتمع جديد مهما كانت معاني هذا الانصهار. ما تصفه بالضيق وبانعدام المعنى هو الصيرورة المستمرة للخيال الذي ليس له مكان مادي. انه يتنقل مع صاحبه. كل شخص له حياة داخلية وخارجية، الخيال والواقع اليومي ولكن المسافة بين الاثنين في حالة المنفي هي بشكل ما كثيرة الأتساع.

– أنت تحلل بلا رحمة بيئتك الأصلية، اتساءل ما إذا كنت ستفعل الشيء نفسه في بلدك، لدي شعور بأن الكتاب المهاجرين يمتلكون حرية أكبر في التعرض للمحرمات التي تبدو ممنوعة لأقرانهم الذين ظلوا في البلد، أهي الحرية التي تمنحها لهم أقامتهم في الغرب؟

– حرية النقد محدودة في كثير من الأماكن، سواء كانت من قبل الدولة أو عبر الضغط الأجتماعي. مثقفو الغرب نالوا هذه الحرية لأنفسهم ولمن استطاع الاستفادة منها. البعد يعزز إمكانية نسيان الضغوط ولكنني اعتقد على المدى البعيد أن يكتب الكاتب ما يشعر بالحاجة اليه مهما كانت الظروف.

– عندما قرأت اسمك للمرة الأولى تصورت انه يعني “قرنة” وهي المدينة التي يلتقي فيها دجلة بالفرات، هل أصلك عربي، هل هنالك تأثير عربي في طريقة ضمك للحكايات في نصوصك؟

– لا أعتقد ان هنالك تأثيراً عربياً في طريقة كتابتي. لا أتكلم العربية رغم انني تعلمت قراءة القرآن في طفولتي والكثير من القصص التي سمعتها طفلا والتي تتنقل في رواياتي لها اصل عربي، فارسي وهندي بوجه الأحتمال. زنجبار كانت ولا تزال مكانا لثقافة كثيرة الامتزاج. اما فيما يخص أصولي العائلية فوالدي ينحدر من أسرة يمنية ولذلك لا أعتقد بوجود علاقة مع العراق ولكن من يدري.

– أنت في رواح ومجيء دائمين بين تأريخ أفريقيا وبين الغرب ولكنك لست رقيقا مع أي منهما. شخوصك يبحثون بشكل دائب عن جذورهم وعن ماهية هذه الجذور ولكنهم لا يصلون إلى نتيجة. ومع ذلك فليس لديك ارتباط سياسي وتبدو مشغولا بشيء أبعد من السياسي، أهو المصير البشري الذي يشغلك؟

– ربما كان من السهولة الحديث عن المصير البشري بالفرنسية مما هو بالأنكليزية، أحاول الأجتهاد بتوضيح أن كل شيء معقد.

– من أين يأتي هذا النضج المبكر. أنت ونور الدين فارح، وليدا بلد ليس له تقاليد روائية ومع ذلك ومنذ عملك الأول الذي أعتبره ضربة استاذ ماهر، يأخذ هذا النضج مجالا واسعا، كيف تعلل ذلك؟

– أنه لطف منك أن تصف كتاباتي بهذا الشكل وبالطبع لا أستطيع الأجابة على هذا السؤال. أعتقد ان الكتابة تأتي من القراءة ومن شبكة المصادرة، من السياق الذي يهيئه الكاتب للقارئ. لا أعتقد بوجود مكان جغرافي للتراث الكتابي.

– في رواياتك اشارات لكتاب آخرين مثل جوزيف كونراد ونايبول وستيفنسن وفورستر ، ما هي مصادرك الأدبية؟

– لدي رقعة واسعة من مصادر القراءة وحتى لو طوعت عزائمي كلها فلن استطيع اجابتك على هذا السؤال لشدة اتساع هذه الرقعة. إن من الصائب القول أنها نصوص أكثر منها أسماء كتاب التي تشكل هذه المصادر.

– عبد الرزاق قرنح، هذه المقالة ستنشر في جريدة بغدادية، ما الذي تود قوله لكاتب يعيش في بغداد؟

– حظا سعيدا لكل كاتب في أي مدينة في الأرض، اما لأولئك الذين يعيشون في بغداد فأقدم لهم التعازي مع افضل امنياتي

لتحميل الحوار اتبع الرابط التالي

https://almadapaper.net/file/archiveto2615//1217/17.pdf

——————————-

==================

تحديث 09 تشرين الأول 2021

———————————

صاحب نوبل للآداب 2021 يُحرج المترجمين العرب/ صدام الزيدي

تفاعلًا مع نبأ إعلان الأكاديمية السويدية القائمة على جائزة نوبل، فوز الروائي الزنجباري التنزاني البريطاني ذي الأصول الحضرمية اليمنية، عبد الرزاق سالم غورناه (قرنح)، بجائزة نوبل للآداب لهذا العام 2021، تباينت انطباعات وآراء الأدباء والكتاب العرب، حول شخصيته، التي بدت لهم شخصية جديدة، إذ لم يكن في حسبان أحد أن اسمًا كهذا سيتوج بجائزة نوبل العالمية المرموقة، إلى درجة أن روائيًا عربيًا معروفًا كتب في صفحته على فيسبوك: “لا أحد قرأ لعبد الرزاق غورناه، ومع ذلك، سيكتب كثيرون أنهم قرأوا له. إنها معجزة نوبل في كل عام”.

في بادئ الأمر، تداول أدباء عرب، على فيسبوك، صورًا لعبد الرزاق غورناه، وكتب كثير منهم، مستفسرًا: هل فعلًا الرجل من أصول يمنية؟ وكانت هنالك تعليقات سريعة تستبعد هذا الأمر، منطلقةً من محتوى بيان الأكاديمية السويدية، الذي لم يشر إلى ذلك بتاتًا، فيما عدا بعض مواقع الصحافة الثقافية العربية، التي ذكرت في سياق تناقلها للخبر أن غورناه زنجباري تنزاني بريطاني من أصول عربية.

غير بعيد، كتب أدباء ونقاد ما مفاده أن غورناه فاز بجائزة نوبل “لأنه عبّر عن الإنسان وقضاياه”، وليس مهمًا أن تكون أصوله من هنا أو هناك. وفي السياق نفسه، كتب الناقد اليمني عصام واصل: “غورناه تنزاني من أب وأم حضرميين، تعرضت أسرته لعذابات شتى لم تعقه، بل مثلت له حافزًا للتعبير والتجاوز. كما أن فوزه بالجائزة مكافأة لتعبيره عن الإنسان وقضاياه الإشكالية”.

المؤسف أن الفائز بنوبل للآداب هذا العام لم يسبق لأحد أن تُرجم له كتاب إلى العربية، مما زاد الطين بِلّةً، لدى الفسابكة، في سخريتهم من مترجمينا، ومن دور النشر العربية، التي “ستبدأ حملة (مسعورة) لترجمة منجزه الروائي”، الذي يقدر بـ10 روايات، على الأقل. وفي الأثناء، شرع مترجمون عرب بنشر مقتطفات من أعمال غورناه. لكن السخرية لم تقف عند ذلك، بل تعدته إلى محاكمة اللغة العربية عندما ذهب البعض للقول إن روايات غورناه لو أنها كتبت بغير الإنكليزية لما توجت بنوبل 2021.

ورغم أهمية الجائزة، يبقى “الإبداع الجدير بالاهتمام هو ما يخترقنا، ويفرض نفسه علينا، وتكون فيه جرأة وتجريب، وقدرة على الإضافة والابتداع، أو ما يكون كتابة قادمة من المستقبل”، وفقًا للشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف. هذا من دون أن نتحدث “عن ظلم العربية، والكتابات العربية”، في الشعر والرواية، وليس نجيب محفوظ وحده من يمكنه أن يمثلنا في الكون، رغم قيمته، لأن هنالك كتابات وإبداعات عند كل الأجيال، فيها ما لا تبلغه لجنة نوبل، على حد تعبير بوسريف.

وفقًا للباحث الأكاديمي اليمني، خالد يسلم بلخشر، فإن الروائي الفائز بجائزة نوبل للآداب 2021، عبد الرزاق قرنح، من مواليد (زنجبار) الأفريقية، وهو من أبوين يمنيين، فوالده حضرمي يدعى “سالم قرنح”، أما أمه فاسمها “سلمى باسلامة”، وهي من مدينة “الشحر”، إحدى مدن حضرموت (شرقي اليمن).

وفي حديث خاص لـ”ضفة ثالثة”، أوضح بلخشر، أن غورناه ينتمي إلى أسرة “قُرنح”، المعروفة في بلدة “الديس الشرقية”، الواقعة على بعد 100 كيلومتر شرقي مدينة المكلّا: “هذه المعلومة، استقيتها من منبعين، الأول، أنني بنفسي، ذهبت في 2016، إلى (الديس الشرقية)، وقابلت أسرة عبد الرزاق، تحديدًا ابن شقيقه، واسمه “جمال”، يعمل في (جمعية التراث بالديس الشرقية). وللتوثيق التاريخي، استندت إلى معلومة من المؤرخ الباحث الراحل، عبد الرحمن الملاح، الذي أفاد بأن أسرة (آل قُرنح) هاجر بعض أفرادها إلى (زنجبار) في أربعينيات القرن الماضي، وما زالت أسرتهم تتواصل بالداخل الحضرمي، وبحكم هجرة الحضارم، فكثير من أقاربهم منتشرون في الإمارات، والمملكة المتحدة، وأفريقيا، وغيرها”.

وكشف بلخشر أنه نشر بالإنكليزية أكثر من بحثين عن تجربة عبد الرزاق غورناه الروائية، إضافة إلى مقال بالعربية نشرته مجلة “حضرموت الثقافية”، في عددها الأول، عام 2016، بعنوان “حكايتي مع عبد الرزاق قرنح”. كما أن هنالك رسالة ماجستير أشرف عليها الدكتور بلخشر، في جامعة حضرموت ـ كلية الآداب، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أنجزتها الباحثة اليمنية، ألفت وزير عبده حسين، تحت عنوان: “ديناميكية هوية الشتات في روايتي عبد الرزاق قرنح: (الهدية الأخيرة)، و(قلب الحصى)”.

في ملخص لبحث موسع، نشرته إحدى المجلات العلمية المحكمة، بعنوان: “الذاكرة الأليمة: الهجرة والعنصرية والتاريخ، في رواية عبد الرزاق قرنح: (طريق الحجاج)”، ينوه الباحث بلخشر أن البحث يقرأ من منظور النقد ما بعد الكولونيالي ـ توظيف الذاكرة الأليمة، رواية عبد الرزاق قرنح “طريق الحجاج” (الصادرة عام 1988)، حيث يواجه داؤود المهاجر التنزاني المسلم، وهو الشخصية المحورية في الرواية، أصنافًا شتى من العنصرية المقيتة، التي جعلته غير قادر على التكيف، مع واقع الحال في إنكلترا. ومن هذا المنطلق، يناقش الباحث، التواجد المزدوج للماضي (من خلال الذاكرة)، والحاضر، اللذين من خلالهما، تتجلى حقائق الهجرة والعنصرية. فمن خلال توظيف الذاكرة التي تعيد إنتاج الماضي بمآسيه، استطاع “قرنح” أن يدين الممارسات الاستعمارية، في موطنه الأصلي. كما أن علاقة داؤود بالممرضة الإنكليزية البيضاء، تأتي لتعزز جدارته للعيش في الغربة، ووسيلة لنسيان الماضي وذكرياته المؤلمة في زنجبار (قبيل وحدتها مع تنجانيقا لتصبح تنزانيا)، موطن طفولته وصباه، وما عايشته الجزيرة من أعمال القتل الجماعي والتشريد، لبعض الجاليات المقيمة على الجزيرة عقب الاستقلال، وتحديدًا، في ثورة يناير/ كانون الثاني…. أو كبته في الأقل. ولكن، وبشكل غير واع، تعاود الذاكرة سيطرتها على فكر داؤود خلال السرد، وهنا تأتي محاولاته لتذكر طقوس من ذاكرة طوباوية جميلة عن بلده الأم، في محاولة للهرب من واقعه الأليم، وإحساسه بالتشرد وعدم الانتماء، غير أنه يقع فريسة للذاكرة الأليمة التي تسيطر عليه خلال السرد. وبهذا يخلص البحث إلى نجاح الرواية في توظيف الذاكرة الأليمة، لتوضيح حقائق عن الهجرة والعنصرية والتاريخ، وعن الاستعمار، وزيفه، وما خلفه وراءه من كوارث.

ومتحدثًا لـ”ضفة ثالثة”، ينوه بلخشر أن روايات عبد الرزاق قرنح تركز على التمييز العنصري، والهوية، والشتات، والبحث عن الجذور. كما أنه يتميز بأسلوب يعتمد كثيرًا على الذاكرة، فهو كثيرًا ما يسترجع الماضي بكل ما فيه.

ويعتقد بلخشر أنه، عند قراءة قرنح، ينبغي علينا أن نقرأ عن تاريخ زنجبار، فهي دائمًا إما تكون مكان الحدث، أو تكون مكان الذاكرة، التي يعود إليها الروائي مستذكرًا الطفولة الجميلة والجزيرة الرائعة، ولكن لا يغيب عنها، ما حدث في زنجبار عام 1964، من مجزرة بشعة، قام بها المناهضون للوجود اللاأفريقي (العربي والإيراني والهندي)، ذهب ضحيتها آلاف من غير الأفارقة، وذلك بعد الاستقلال مباشرةً، وضم الجزيرة إلى ما عرف في ما بعد بتنزانيا، فكان مزيجًا من الذاكرة الأليمة، والذاكرة الطفولية البريئة. فعبد الرزاق، في رواياته، يتحدث كثيرًا عن “الحركة” من الجزيرة إلى بريطانيا، حيث استقرّ، وواجه صنوفًا من العنصرية، بحكم اللون الأسمر، وأيضًا بحكم عدم قدرته على الاندماج، في المراحل الأولى، من تواجده في بريطانيا، بسبب الإحساس بالانتماء للجزيرة، لهذا نجد هذا الصراع يتواجد في داخل عبد الرزاق ما بين المكان الذي يعيش فيه، وإحساسه بالانتماء إلى مكان آخر، فيأخذنا من الذاكرة إلى الطفولة، ومن ثم يمزجها بتلك النبرة من الألم، لما صار في جزيرة زنجبار.

ويتابع بلخشر: كما أسلفت، تحدث عبد الرزاق قرنح (في رواياته) عن الشتات، عن الإرث الاستعماري، والممارسات الاستعمارية في زنجبار، التي ألقت بظلالها على مستقبل الجزيرة، وأيضًا، على مستقبل من هاجر، هروبًا من تلك المذبحة، ليستقرّ في أوروبا.

وكان قرنح، يضيف بلخشر، يظن أن بريطانيا ستحتضن هؤلاء الناس الذين غادروا من الجزيرة، على أساس أن ثمة إرثًا متبادلًا في ما بينهما، لكن للأسف، وُجِدت عنصرية، ومع هذا، استطاع قرنح أن يعيش في بريطانيا، وأن يكتسب الجنسية البريطانية، وأن يحصل على شهادة الدكتوراة في الأدب الإنكليزي، ليتدرج أكاديميًا حتى أصبح بدرجة بروفيسورًا، ورئيسًا لقسم اللغة الإنكليزية في جامعة بريطانية.

حرج المترجمين العرب

يقول الناقد والأكاديمي اليمني عبد الحكيم باقيس، رئيس نادي السرد في عدن، لـ”ضفة ثالثة”: في الواقع، أنا مندهش مثلك لهذا الفوز الذي يلفت الانتباه إلى اسم عبد الرزاق قرنح، في عالم الأدب الروائي.. وبالتأكيد، كما ورد في بيان الجائزة، أنه يكتب أدبًا متميزًا ينتمي إلى مرحلة ما بعد الكولونيالية/ ما بعد الاستعمار، وهو توجه عالمي في الكتابة يعيد صياغة المرويّ، وينقض فكرة المركزية الأوروبية.

وأضاف باقيس: لعل في هذا الفوز اهتمامًا بالكتَّاب الأفارقة والعرب المهاجرين الذين يكتبون باللغة الإنكليزية.

غير أن باقيس يشدد على أنه “لا يهم، الآن، الحديث عن جذور قرنح العربية اليمنية الحضرمية، أو التنزانية، كما عرفه من خلالها العالم، لأن لهذا الفوز دلالته على الاهتمام بكتابات المهاجرين ممن تتسم كتاباتهم بخصوصية في التناول بالنسبة للقارئ الغربي”.

كما أن هذا الفوز، يضيف باقيس، هو فوز للرواية التي تؤكد مكانتها وحضورها وتأثيرها الكبير.. وقد علمت في زحمة الاحتفاء المحلي بهذا الحدث، أن هناك إشارات ظلت متكررة إليه وإلى رواياته في بعض الأوساط الأكاديمية في جامعة حضرموت.

ومستدركًا، قال باقيس، إنه، من اللافت أنه لم تصدر أي ترجمة عربية لروايات عبد الرزاق، على الرغم من مكانته هذه، وعدّ ذلك تقصيرًا، في ظل غياب اهتمام الجهات المعنية بالترجمة، وربما التقصير من المترجمين العرب كذلك، ما يجعل سؤالًا ماكرًا يخطر في البال: هل ذلك بسبب الكاتب نفسه، أم بسبب أصوله اليمنية، وهل نحن نعاني في عالمنا العربي من عقدة مركزيات أخرى؟!.. ومهما يكن، أظن أن هذا الفوز “سيحرج المعنيين بالترجمة إلى العربية” علهم يجتهدون في البحث، لاكتشاف ما يمتع القارئ العربي.

وبحسب الناقد سعيد سالم الجريري، فإن الروائي عبد الرزاق غورناه من مواليد زنجبار عام 1948، أبوه ممن هاجروا إلى شرق أفريقيا، وكانت لهم مكانة اجتماعية. أمه سلمى عبد الله حضرمية، أيضًا، من الشحر، من عائلة باسلامة. وقد أهدى إحدى رواياته إليها. عائلته الكبيرة تعيش في مدينة الديس الشرقية في محافظة حضرموت. هاجر إلى بريطانيا عام 1966، بعد المجزرة المشهورة في زنجبار، في عام 1964، التي ألقت بظلالها على وضع العرب هناك، ولا سيما العمانيين والحضارم. حصل على الدكتوراة في الأدب الإنكليزي، وترقى أكاديميًا حتى نال لقب برفيسور في الأدب في جامعة كينت البريطانية. ولم يكن أغلب الأدباء والمثقفين اليمنيين يعلمون عنه شيئًا، فرواياته لم تترجم إلى العربية، وكان اسم عائلته بالحروف اللاتينية يقرأ غورنه، أو غورناه، بحيث لا يحيل على اسم عائلة معروفة لديهم.

ويضيف الجريري: هنالك قلة من أدباء حضرموت ومثقفيها يعلمون عنه، وشخصيًا أعرف عائلته وأقاربه، فهم من بلدتي الديس الشرقية (شرقي حضرموت)، وقد أقمنا فعالية خاصة برواياته في فرع اتحاد الأدباء في المكلَّا قبل عشر سنوات، تناول فيها د. خالد بلخشر، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة حضرموت، أعمال قرنح السردية بالتحليل النقدي.

تجدر الإشارة إلى أنه في منتصف العام 2008، أجرت صحيفة “المدى” العراقية حوارًا مع عبد الرزاق قرنح، وهو الحوار الوحيد الذي أجري معه عربيًا، قبيل فوزه بنوبل. وكان من بين الأسئلة: “عندما قرأت اسمك للمرة الأولى تصورت أنه يعني (قرنة)، وهي المدينة التي يلتقي فيها دجلة بالفرات. هل أصلك عربي، وهل هنالك تأثير عربي في طريقة ضمك للحكايات في نصوصك؟”. أجاب قرنح قائلًا: “لا أعتقد أن هنالك تأثيرًا عربيًا في طريقة كتابتي. لا أتكلم العربية رغم أنني تعلمت قراءة القرآن في طفولتي، والكثير من القصص التي سمعتها طفلًا، والتي تتنقل في رواياتي، لها أصل عربي وفارسي وهندي بوجه الاحتمال. زنجبار كانت ولا تزال مكانًا لثقافة كثيرة الامتزاج. أما في ما يخص أصولي العائلية، فوالدي يتحدر من أسرة يمنية، ولذلك لا أعتقد بوجود علاقة مع العراق.. ولكن من يدري”.

العربي الجديد

——————————

حاشية في موسم “نوبل”/ معن البياري

“لا يأتي الأفارقة إلى أوروبا فارغي الأيدي”.. قال العبارة هذه الروائي وأستاذ النقد الثقافي، عبد الرزاق قرنح، الفائز، أول من أمس، بجائزة نوبل للآداب. قالها في مقابلةٍ مقتضبةٍ معه نشرتها مؤسّسة نوبل، دعا فيها أوروبا إلى اعتبار اللاجئين الأفارقة الوافدين إليها بمثابة ثروة. يبدو الرجل، وهو التنزاني اليمني الزنجباري الأصول، المهاجر إلى بريطانيا في شبابه، للعمل أولا في غير مهنة، ثم للدراسة الجامعية، ثم للتدريس الجامعي والتألق باحثا وناقدا، ثم ليفوز بجائزة نوبل، يبدو في قوله هذا كأنه يُطلق صيحةً لتصحيح حالٍ غير سويّ. ولمّا كان مؤكّدا أن المهاجرين الأفارقة في أوروبا، بكيفياتٍ شرعيةٍ أو بالتهريب أو باللجوء الإنساني، ليسوا كلهم ثروة، فإن المؤكّد أن سياسة رعايةٍ وتأهيلٍ، إنسانيةٍ وحضاريةٍ وتقدّميةٍ، كفيلةٌ بالعثور على من هم ثروةٌ من بينهم. يبدو هذا الكلام جائزا بشأن غير الأفارقة، اللاجئين الهاربين أو القادمين من أجل العمل الكريم أو الدراسة، فموسم جوائز نوبل للعام الحالي (ينتهي بعد غد الاثنين) لم يكتف بالحضرمي الأرومة، عبد الرزاق قرنح، دليلاً على “ثروة” المهاجرين من مجتمعاتهم العالمثالثية إلى الغرب، فثمّة أيضا عالِم الأحياء الجزيئيّة (ما هي؟)، عالم الأعصاب المتخصص في النقل الحسّي (ما هو؟)، أردم باتوبوتيان (54 عاما)، الأميركي الجنسية، اللبناني المهاجر، الأرمني الأصل، يقتسم جائزة نوبل في الطب مع عالم أميركي آخر، عن استخدامه “الخلايا الحسّاسة للضغط لاكتشاف فئةٍ جديدةٍ من أجهزة الاستشعار التي تستجيب للمحفّزات الميكانيكية في الجلد والأعضاء الداخلية”. غادر بيروت التي درس فيها سنةً جامعيةً واحدةً إلى الولايات المتحدة، ثم درس ودرّس، وصار عالما بالذي أُشير إليه. وبعيدا عن سردياتنا التقليدية، نحن العرب، عن العقول المهاجرة، وعن أحمد زويل الذي لم يكن له أن يخترع ويتميز لو بقي في مصر، ثمّة المعنى الجوهري، البديهي، أن المواهب والقدرات الإنسانية تحتاج بيئات إبداع وتميز وابتكار، وأجواء صحية نفسيا وماديا ومعنويا، من أجل أن تعمل، وتطلق طاقاتها، وتستنفر مخيلاتها، من أجل أن تُنتج .. ثم تتألق، ثم تحرز التقدير والتكريم المستحقيْن.

تدلّ قوائم الفائزين بجوائز نوبل في فروعها منذ أزيد من مائة عام على القول أعلاه، ففيها أوروبيون وآسيويون (من اليابان مثلا) وجدوا البيئات العلمية للإنجاز والعطاء والاختراع في الولايات المتحدة، جامعاتها ومعاهدها ومخابرها. وثمّة أيضا في الآداب والفنون (السينما مثلا) من غادروا بلدانهم للإقامة في الغربين، الأوروبي والأميركي، وتفرّدوا وصاروا نجوما لامعة. ولكنها، تلك القوائم، ليست وحدَها تؤكد هذا، فالمنتخبات الرياضية، في كرة القدم غالبا، دليلٌ ظاهرٌ على أن ثمّة ثروةً حقيقيةً في المهاجرين إلى الغرب. كان غريبا جدا (أقلّه لكاتب هذه الكلمات) أن ثلث لاعبي منتخب سويسرا في كأس العالم عام 2010 سودٌ من أصولٍ أفريقية. وكان في محلّه تماما قول من قال إن للقارّة الأفريقية دورا كبيرا في فوز فرنسا بكأس العالم في مونديال روسيا 2018، للعدد غير القليل من اللاعبين في المنتخب من “المجنّسين” من أفريقيا، وطالعنا أن 40 لاعبا من أصول إفريقية كانوا في بطولة أمم أوروبا قبل عام، وليست منسيةً نجوميةُ الجزائري، زين الدين زيدان، في تحقيق انتصاراتٍ كرويةٍ فرنسيةٍ مشهودة.

غير بعيد عن المسألة المتحدّث عنها، ثمّة الكيني الأرومة الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة، واسمُه باراك حسين أوباما، وثمّة نوابٌ من أصولٍ عربيةٍ وأفريقيةٍ متعدّدة في الكونغرس وبرلماناتٍ أوروبية، وثمّة وزراء من أصولٍ مغاربيةٍ في حكوماتٍ فرنسية. وفي المقابل، ثمّة عنصرياتٌ بغيضةٌ تعبر عنها أصواتٌ يمينيةٌ متطرّفة، تستثمر في موضوع الهجرة وقضاياها، وتغذّي حساسياتٍ عرقيةً ودينيةً وإشكالاتٍ معيشية، سيما مع ما صارت تسبّبه أعداد المهاجرين المتزايدة من أعباء في غير بلد أوروبي. وإذ نلقى أخبارا سيّارة عن تميز شبّانٍ في الشتات السوري الراهن، كافحوا في كدّهم في غير شأن، وتمكّنوا من التغلب على ظروفٍ معيشيةٍ صعبة، وعلى بيئات النبذ والإنكار، في غير بلدٍ عربي، فإنها أخبارٌ تشيع الابتهاج والحبور، وهي، من قبلُ ومن بعد، تُطلق أجنحةً من الأخيلة بشأن زوبعةٍ من أسئلةٍ تستثير نفسَها بنفسها عمّا يمكن أن يؤدّيه هؤلاء لبلدهم وناسهم ومجتمعهم، بل ولأمتهم أيضا، لو أن سورية على غير الكارثية التي تقيم عليها منذ عقود ..

يا الله، لو أن سورية ليست على الحال الذي نعلم، لأعطت الثروةُ البشريةُ فيها العالم كثيرا، قد تقصُر جوائز نوبل عن مكافأته.

العربي الجديد

—————————–

قرنح وكأس العالم للأدب: أفريقيا بلا أفارقة؟/ شادي لويس

في تغطيتها لفوز عبد الرزاق قرنح، بنوبل للآداب هذا العام، تشير الصحافة البريطانية، بوجل، إلى أن آخر فائز أفريقي أسود نال الجائزة، كان النيجيري وولي سوينكا في العام 1986. لا يحتسب فوز المصري (الإفريقي) نجيب محفوظ بعدها بعامين، كونه غير أسود، ولا نادين غوردمير، الجنوب أفريقية البيضاء في العام 1991، وبعدها جي إم كوتزي الجنوب أفريقي أيضاً، والأبيض كذلك في العام 2003. بعض لوائح الفائزين بنوبل تضع كلود سيمون، الفرنسي الأبيض المولود في مدغشقر لأب عسكري، كأول أفريقي ينال الجائزة في العام 1985. كان فوز سيمون، المرتبط اسمه بالرواية الجديدة في فرنسا، حدثاً قد أثار بعض اللغط والكثير من الإحباط، خصوصاً في أفريقيا. بعض اللوائح الأخرى، تضع في قمة الفائزين بالجائزة من أفريقيا، اسم ألبير كامو، الجزائري – الفرنسي في العام 1958.

النظر إلى تلك اللائحة، مشفوعة بالصور، تدفع المرء للتساؤل إن كان هناك سود في أفريقيا جنوبي الصحراء؟ أم أن الأكاديمية السويدية مصابة بنوع خاص من عمى الألوان؟

بعد استلام سوينكا للجائزة، استقبلته الجماهير في لاغوس كبطل قومي، يليق بالفائز بـ”كأس العالم للأدب”، الأفريقي والأسود الأول على الإطلاق. لا يبدو الربط بين الرياضة والأدب مقحماً هنا، فانطلاق الفعاليات الثقافية الدولية الأولى جاء على مثال البطولات الرياضة الدولية. فبينالي فينيسيا، المعرض الفني الدولي الأعرق، حين أنطلق في العام 1895، كان محاكاة واعية لبطولات كرة القدم بين الفرق الوطنية في أوروبا. ولم يكن من باب الصدفة فقط، أن يتواكب افتتاح الدورة الأولمبية الأولى في العام 1896، مع الإعلان عن وصية نوبل. الجدير بالذكر أن الفوارق بين الرياضي والثقافي لم تكن بهذا الوضوح في مطلع القرن العشرين، ففي الدورات الأولومبية الأولى كانت تعقد منافسات في الآداب والغناء الرقص، بل وحتى في دورة العام 1921، والتي استضافتها مدينة ستوكهولم دون غيرها، فاز مؤسس الأولمبيات الحديثة، بيير دي كوبرتان، بميدالية ذهبية لفرنسا، وكانت في الشِّعر.

في ذلك السياق، نالت نوبل منذ انطلاقها في العام 1901، وزناً استثنائياً، لا يعود فقط لقيمة الجائزة المالية الكبيرة، بل باعتبارها المنافسة الدولية الأولى عن حق في الآداب، والتي يحكم نتيجتها سويديون “محايدون” (فالحجم الهامشي للسويد في الساحة السياسية والثقافية والأوروبية، كان واحداً من أهم مسوغات القبول بمصداقية نوبل).

فقط في 1986، جاء اعتراف الأكاديمية السويدية بأفريقيا، إلا أن فوز سوينكا بنوبل في ذلك العام، لم يكن سبباً لاحتفاء الجميع في القارة. ففي نيجيريا، أشارت إحدى الصحف إلى الجائزة بـ”غير المرغوب يكرم غير المقروء”، فنصوص سوينكا الغامضة والحداثية كانت تقرأ في بريطانيا أكثر منها في نيجيريا، أما سوينكا نفسه فكان معروفاً في السويد بوصفه معارضاً سياسياً أكثر منه كاتباً. وقد أصاب فوزه الكثير من الدوائر الأدبية الأفريقية بخيبة الأمل، فالتوقعات كانت تعول، على فوز ليوبولد سنغور، شاعر السنغال الكبير وأحد منظري استقلالها، ورئيسها لأول عقدين بعد الاستقلال، وأحد رواد حركة الزنوجة في الأدب الفرانكفوني.

منذ منتصف السبعينات، كان سوينكا معادياً بشكل علني لجماليات الزنوجة، وسخر في أكثر من مناسبة من محاولات البحث عن “أصالة” أفريقية غير موجودة. وكان خيار نوبل واعياً بتلك المواجهة بين “ضد الاستعماري” و”بعد الاستعماري”، فاختيار سوينكا لم يكن اعتباطياً، بل مدفوعاً بكوزموبوليتانيته، فهو يستلهم ثقافته المحلية وأساطير مجتمعه داخل “تقاليد أدبية أوروبية” (بحسب بيان الأكاديمية السويدية). وعلى الأغلب، لم يكن دافع الجائزة في خيارها هذا سياسياً، ببساطة كان “ما بعد الكولونيالي” هو الذائقة الجديدة، والأوسع انتشاراً.

بعد ثلاثة عقود ونيف، تعود نوبل إلي أفريقيا وإلى ما بعد الكولونيالية. ففي سياق سعى الجائزة إلى ترميم سمعتها بعد سلسلة من الفضائح، مالت الأكاديمية في الدورتين الأخيرتين إلى خيارات آمنة، و”صائبة سياسياً”. بحسب تلك المعايير، يبدو عبد الرزاق قرنح مرشحاً مثالياً، مُسلم وأفريقي لاجئ ومهاجر وكاتب كوزموبوليتاني وأكاديمي ما بعد كولونيالي، وبالإضافة إلى ذلك غير معروف، مما يسمح للجائزة باستعراض أثرها المعجزي، أي تحويل كاتب شبه مجهول إلى واحد من الأكثر مبيعاً، بعقود ترجمات إلى عشرات اللغات.

لكن، وأياً كان خيار الجائزة، فلن يعدم الوسيلة الراغبون في انتقاده. فهل قرنح، ذو الأصول العربية، أسود بشكل كافٍ؟ ولماذا، حين تذهب الجائرة أخيراً إلى أديب أفريقي، يكون مقيماً في بريطانيا وينشر فيها، ويكتب بالإنكليزية، وينتمي إلى طائفة الروائيين-الأكاديميين من أصول عالم ثالثية، في جامعات المراكز الكولونالية القديمة/الجديدة؟ هل كان ذلك التكريم مجرد تأكيد آخر على آليات عمل السوق الرمزي المعولم، والهيمنة الغربية على تنظيمه وهيراركيته، أم إنها محاولة إعادة توزيع أكثر عدلاً لرأسماله المعنوي؟

تظل تلك النوعية من الأسئلة والانتقادات، مثلها مثل الفضائح السابقة، أحد الأركان الأساسية في العمليات التي تعيد بها نوبل إنتاج مصداقيتها. فهي تتضمن افتراضات مسبقة عن المعايير الواجبة للاختيار الصحيح، أي أن كل نقد لخيارات الجائزة يحمل إيماناً بمنطق الجائزة بالعموم، وبحقها، بل وحتى واجبها تجاه تعيين حدود الأبيض والأسود، العالمي والمحلي، ورسم خريطة لجغرافيا السوق الرمزي وتحديد تراتبية القيمة في حقول الثقافة المعولمة.

المدن

————————

نوبل للآداب 2021 لعبد الرزاق قرنح.. صوت من أفريقيا الشتات/ مصطفى ديب

أعلنت اﻷكاديمية الملكية السويدية ظهر يوم أمس الخميس، السابع من تشرين اﻷول/ أكتوبر الجاري، فوز الكاتب والروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح بـ “جائزة نوبل للآداب” لعام 2021، تقديرًا: “لكتاباته العميقة والمؤثرة التي توضّح آثار الاستعمار ومصير اللاجئ نتيجة الفجوة التي يعيشها بين قارات وثقافات مختلفة”، بحسب ما جاء في بيان لجنة تحكيم الجائزة التي أشادت بـ “تمسكه بالحقيقة وابتعاده عن التنميط”.

وأثارت اﻷكاديمية الملكية، للسنة السابعة على التوالي، جدلًا وسجالاتٍ واسعة لا بسبب اختيارها لشخصية أدبية أفريقية من خارج المركز الغربي الذي هيمن على الجائزة خلال السنوات السبع اﻷخيرة، أو بسبب تجاهلها المستمر لكتّاب وروائيين عالميين مثل ميلان كونديرا، وهاروكي موراكامي، وبول أوستر، ونيغوغو وا ثيونغو، وغيره؛ وإنما لمنحها الجائزة لشخصية غير معروفة، بل تكاد تكون مجهولة بالنسبة للكثيرين حول العالم.

ولد عبد الرزاق قرنح في جزيرة زنجبار عام 1948، ﻷبٍ ينحدر من أصولٍ يمنية، وأمٍ تنزانية. وفي أواخر ستينيات القرن الفائت، على وقع اﻷحداث التي شهدتها زنجبار بعد ثورة 1964، التي أطاحت بسلطانها العُماني جمشيد بن عبد الله البوسعيدي وحكومته، وبسبب ما ترتب على ذلك من ممارساتٍ انتقامية واسعة ضد العرب وغيرهم من اﻷقليات التي استوطنت في الجزيرة؛ غادر الروائي التنزاني زنجبار باتجاه المملكة المتحدة، حيث حصل على الدكتوراة في اﻷدب اﻹنجليزي من “جامعة كينت” عام 1982، وهي الجامعة التي درّس فيها اﻷدب اﻹنجليزي والدراسات ما بعد الكولونيالية منذ عام 1985، وحتى تقاعده قبل وقتٍ قصير.

بدأ عبد الرزاق قرنح بالكتابة اﻷدبية بعد نحو عامٍ من وصوله إلى بريطانيا. حينها، لم يكن لديه تصوراتٍ مسبقة عما يريد الحديث عنه بالضبط، إذ يقول في أحد حواراته: “بدأت أكتب بلا مبالاة وبشيءٍ من الخوف من دون أي تصور مدفوعًا برغبة في اﻹفصاح عن المزيد”.

ركّز الروائي التنزاني، في مجمل أعماله الروائية، على المسائل المرتبطة بالهوية، واللجوء، وآثار الاستعمار وممارساته على الشعوب المستعمَرة، لا سيما شرق أفريقيا. وقدّم، في هذا السياق، شخصيات تكابد مشقات الهجرة، واللجوء، ومحاولات الانتماء إلى هوياتٍ جديدة جاهزة، أو مصطنعة، بهدف التأقلم داخل السياقات الزمانية والمكانية الجديدة، التي وصلتها بحثًا عن حياة أفضل. غير أنها، في نهاية المطاف، وبسبب عوامل عديدة، وجدت نفسها ضحية صراعٍ طويل، لا نهائي، بين الماضي والحاضر الذي جاء على عكس توقعاتهم.

وإلى جانب اشتغاله على ثيمات المنفى والهجرة وآثار الاستعمار، وما بعد الاستعمار أيضًا، يتناول قرنح في أعماله مواضيع أخرى عديدة تدور مدار العنصرية، وثقافة المقاطعة، وإرهاب الدولة، والفوقية الثقافية، والكراهية، والعنف، والاختلاف عن اﻵخر، وتحولات الرؤى الاستعمارية، والتهجين الثقافي والهوياتي وغيرها. كما ويحرص، في الوقت نفسه، على اﻹضاءة على طبيعة مشاعر شخصياته في ضوء السياقات السابقة.

في دراسته “روايات الشتات اﻷفريقي ما بعد الاستعمارية”، يصف الناقد المتخصص في اﻷدب اﻷفريقي، جون ج. سو، أعمال عبد الرزاق قرنح بأنها تصوِّر: “عنف ما بعد الاستعمار في بلده الأصلي تنزانيا، حيث أطاحت الغالبية السوداء بالنخبة العربية التي كانت موجودة في البلد منذ قرون”، وتركز على: “حالة المنفى التي تولِّدُها مثل تلك الصراعات”.

ويرى سو أن الروائي التنزاني يسعى، منذ روايته اﻷولى، إلى استكشاف: “تجارب اﻷفارقة الذين لا يشعرون أنهم في وطنهم، لا في أفريقيا ولا في بريطانيا العظمى. ففي عالم يبدو واضحًا أن العنف يستهلكه، يجد أبطال قرنح أنفسهم في حالة ترحال دائم”. ويضيف: “يبدو أن قرنح يرفض أن يصوِّر لحظة مصالحة نهائية بين أبطال رواياته وعائلاتهم، أو بين الجماعات العرقية والدينية المتناحرة، أو بين الماضي الاستعماري والحاضر ما بعد الاستعماري”.

وإلى جانب أعماله الروائية، قدّم عبد الرزاق قرنح مجموعة من الأعمال النقدية، التي ركزت على أدب ما بعد الكولونيالية داخل أفريقيا وفي منطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. باﻹضافة إلى تحريره مجلدات عديدة حول الموضوع نفسه.

الترا صوت

——————

====================

تحديث 11 تشرين الول 2021

———————

عبد الرزاق غرنة و(غياب) الترجمة/ صبحي حديدي

ذهاب جائزة نوبل الأدب إلى التنزاني عبد الرزاق غرنة (قرناح، لمن يفضّل الكنية الأصلية الحضرمية)، أثار لدى بعض المعلّقين والكتّاب العرب سلسلة من الأسئلة؛ تقترن عادة بالحدث ذاته كلما فاز بالجائزة اسم غير ذائع الصيت، أو «مغمور» على نحو أو آخر، في الإطار الثقافي العربي. وكان طبيعياً أن يتصدر سؤال الترجمة تلك السلسلة، فتساءل البعض: أين الناشر العربي من أدب الرجل؟ بل أين المترجم العربي، خاصة ذاك المنهمك في ترجمة الآداب المنتمية إلى هذه المركزية أو تلك؟

السؤال مشروع، لا جدال حوله، ليس لأنّ أعمال غرنة الروائية جديرة حقاً بالترجمة إلى العربية، فحسب؛ بل كذلك لسبب إضافي جوهري (لعلّه في صلب الكثير من جوهر الاحتجاح!) يتمثل في أنّ الرجل يماني الأصول أولاً، ثم» ثانياً لأنّ معظم رواياته تتناول الهجرة والنزوح والترحّل وما تخلّفه هذه السيرورات من جدل إنساني عميق في جوانب الغربية والتيه والانتماء واستعصاء الهوية. غير أنّ الإقرار بهذا البُعد، المسوَّغ تماماً، لا يلغي عدداً من الأبعاد الأخرى ذات الصلة، وبعضها ليس أقلّ قيمة ومشروعية واحتواء على التسويغ؛ من وجهة نظر شخصية، على الأقلّ.

فالظاهرة هذه، أي المفاجأة باسم حائز على نوبل غير مترجم إلى العربية، ليست جديدة البتة، وقد تكررت في حالات عديدة ومع أسماء تضاهي غرنة في المكانة الأدبية والرسوخ المحلّي/ العالمي، وربما حجم النشر والانتشار. وكي لا تذهب هذه السطور بعيداً، أشير إلى أنّ حظنا مع لويز غلوك، الشاعرة الأمريكية الفائزة بنوبل 2020، كان أفضل بكثير: بوغت باسمها الكثيرون في العالم العربي، لكنّ المفاجأة اقترنت باكتشاف أنها بالفعل مترجمة إلى العربية قبل زمن طويل من فوزها بالجائزة (شخصياً، ومن دون تواضع كاذب، كنتُ قد اقترحت نماذج من قصائدها على القارئ العربي منذ سنة 2004). أشير أيضاً، ما دمنا في ميدان البوح الشخصي، إلى أنني أعتزّ بترجمة الشاعر الكاريبي الكبير ديريك ولكوت منذ سنة 1990، أي قبل سنتين من فوزه بالجائزة.

كذلك أقرُّ، كمترجم نقلتُ إلى العربية اثنتين من روايات الياباني الكبير ياسوناري كاواباتا، أنني لو امتلكت الوقت والسانحة وشئتُ اقتراح ترجمة رواية من أفريقيا، فالأرجح أنني كنت سأختار النيجيري شينوا أتشيبي أو الكيني نغوجي واثيونغو؛ رغم تقديري الكبير وتثميني العالي لنتاج غرنة الروائي. هذا، في نهاية المطاف، أحد أفضل الروائيين الأفارقة الأحياء، من أبناء المستعمرات السابقة عموماً، الذين استقروا على إضاءة شخوص أبناء البلد وتجاربهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والشعورية في ظلّ الاستعمار وما بعد الاستعمار؛ وتلك ميادين دراسية غالية عندي، وأثيرة ومتأصلة وهادية، وسبق لي أن اشتغلت عليها بكثافة وتعمّق سواء في النظرية أو في التطبيق النقدي.

تفضيل أتشيبي أو واثيونغو على غرنة (أو على أمثال الأوغندية غوريتي كيوموهندو، النيجيرية أكويكي إميزي، الزامبية ناموالي سيربل، الأنغولي خوسيه إدواردو أغوالوسا، الكونغولي ألان مابانكو، أو حتى ج. م. كويتزي ونادين غورديمر…)؛ قائم على اعتبارات الذائقة الشخصية في المقام الأوّل، وعلى إنصاف المنجز الفنّي تالياً، فضلاً عن الموقع التاريخي لهذا الكاتب أو ذاك ضمن مشهد السرد الأفريقي عموماً. ذلك لا ينتقص في شيء من المستوى الرفيع الذي تتحلى به رواية غرنة «فردوس» Paradise، 1994، على سبيل المثال فقط؛ وهي المفضّلة عندي لأنها عمل يردّ البريد من عناوين أبناء أفريقيا إلى تاجر العاج كيرتز في رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام»، ليس بهدف مقارعة التنميطات الاستشراقية، بل على سبيل تصويب تمثيلات الماضي والحاضر معاً، واستشراف المستقبل.

يبقى، بالطبع، اعتبار آخر يخصّ سياسة الترجمة إلى اللغة العربية عموماً، لجهة ما يصحّ تسميته بـ»الموجة» التي تهبّ لأسباب شتى، ليست جميعها وجيهة دائماً؛ فتقلب ترجمة هذه المنطقة أو تلك، وهذا الكاتب أو ذاك، إلى ما يشبه «الموضة» الطاغية. تلك كانت الحال مع الروايات «الوجودية» الفرنسية خلال ستينيات القرن الماضي، والواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية بعدئذ وراهناً، أو الأدب الياباني أواخر القرن وأوائله، والإقبال على كتّاب أفراد مثل الإسباني كارلوس زافون والتركية إليف شفق والتشيلي روبرتو بولانيو… حظّ الآداب الأفريقية كان ضئيلاً في هذا المضمار، ولا جديد في القول إنّ المسؤولية تقع على عاتق المترجم العربي في المقام الأوّل، إلى جانب الناشر الذي يستوي أن يكون فرداً أم مؤسسة.

الأمر، في نهاية المطاف، أكثر تعقيداً من تشخيص السطور السالفة (وهي، هنا، محض توصيف شخصي)، إذْ حتى في حالة تلهّف الناشرين على ترجمة روايات الواقعية السحرية مثلاً، تعرّض كتّاب كبار في أمريكا اللاتينية للظلم والإهمال، رغم أنهم كانوا ذرى كبيرة في بلدانهم ولغاتهم. والأصل، في العودة إلى غرنة، أنّ فوزه بجائزة نوبل سوف يضعه على لائحة أولويات الترجمة والنشر في العالم العربي، لاعتبارات تجارية على الأقلّ؛ وهذا لا يعني أنّ أعماله سوف تشكّل «موجة» أو تنقلب إلى «موضة بالضرورة، فحذار من التسرّع: الرجل صاحب أسلوبية شاقة مركبة، ولغة خاصة تطعّم الإنكليزية بمجازات تنزانية وزنجبارية ويمانية مبهرة، وموضوعات متفردة غير تقليدية في مقاربة الاغتراب والغربة والترحّل وانشطار الهويات…

القدس العربي

————————

قرنح وكأس العالم للأدب: أفريقيا بلا أفارقة؟/ شادي لويس

في تغطيتها لفوز عبد الرزاق قرنح، بنوبل للآداب هذا العام، تشير الصحافة البريطانية، بوجل، إلى أن آخر فائز أفريقي أسود نال الجائزة، كان النيجيري وولي سوينكا في العام 1986. لا يحتسب فوز المصري (الإفريقي) نجيب محفوظ بعدها بعامين، كونه غير أسود، ولا نادين غوردمير، الجنوب أفريقية البيضاء في العام 1991، وبعدها جي إم كوتزي الجنوب أفريقي أيضاً، والأبيض كذلك في العام 2003. بعض لوائح الفائزين بنوبل تضع كلود سيمون، الفرنسي الأبيض المولود في مدغشقر لأب عسكري، كأول أفريقي ينال الجائزة في العام 1985. كان فوز سيمون، المرتبط اسمه بالرواية الجديدة في فرنسا، حدثاً قد أثار بعض اللغط والكثير من الإحباط، خصوصاً في أفريقيا. بعض اللوائح الأخرى، تضع في قمة الفائزين بالجائزة من أفريقيا، اسم ألبير كامو، الجزائري – الفرنسي في العام 1958.

النظر إلى تلك اللائحة، مشفوعة بالصور، تدفع المرء للتساؤل إن كان هناك سود في أفريقيا جنوبي الصحراء؟ أم أن الأكاديمية السويدية مصابة بنوع خاص من عمى الألوان؟

بعد استلام سوينكا للجائزة، استقبلته الجماهير في لاغوس كبطل قومي، يليق بالفائز بـ”كأس العالم للأدب”، الأفريقي والأسود الأول على الإطلاق. لا يبدو الربط بين الرياضة والأدب مقحماً هنا، فانطلاق الفعاليات الثقافية الدولية الأولى جاء على مثال البطولات الرياضة الدولية. فبينالي فينيسيا، المعرض الفني الدولي الأعرق، حين أنطلق في العام 1895، كان محاكاة واعية لبطولات كرة القدم بين الفرق الوطنية في أوروبا. ولم يكن من باب الصدفة فقط، أن يتواكب افتتاح الدورة الأولمبية الأولى في العام 1896، مع الإعلان عن وصية نوبل. الجدير بالذكر أن الفوارق بين الرياضي والثقافي لم تكن بهذا الوضوح في مطلع القرن العشرين، ففي الدورات الأولومبية الأولى كانت تعقد منافسات في الآداب والغناء الرقص، بل وحتى في دورة العام 1921، والتي استضافتها مدينة ستوكهولم دون غيرها، فاز مؤسس الأولمبيات الحديثة، بيير دي كوبرتان، بميدالية ذهبية لفرنسا، وكانت في الشِّعر.

في ذلك السياق، نالت نوبل منذ انطلاقها في العام 1901، وزناً استثنائياً، لا يعود فقط لقيمة الجائزة المالية الكبيرة، بل باعتبارها المنافسة الدولية الأولى عن حق في الآداب، والتي يحكم نتيجتها سويديون “محايدون” (فالحجم الهامشي للسويد في الساحة السياسية والثقافية والأوروبية، كان واحداً من أهم مسوغات القبول بمصداقية نوبل).

فقط في 1986، جاء اعتراف الأكاديمية السويدية بأفريقيا، إلا أن فوز سوينكا بنوبل في ذلك العام، لم يكن سبباً لاحتفاء الجميع في القارة. ففي نيجيريا، أشارت إحدى الصحف إلى الجائزة بـ”غير المرغوب يكرم غير المقروء”، فنصوص سوينكا الغامضة والحداثية كانت تقرأ في بريطانيا أكثر منها في نيجيريا، أما سوينكا نفسه فكان معروفاً في السويد بوصفه معارضاً سياسياً أكثر منه كاتباً. وقد أصاب فوزه الكثير من الدوائر الأدبية الأفريقية بخيبة الأمل، فالتوقعات كانت تعول، على فوز ليوبولد سنغور، شاعر السنغال الكبير وأحد منظري استقلالها، ورئيسها لأول عقدين بعد الاستقلال، وأحد رواد حركة الزنوجة في الأدب الفرانكفوني.

منذ منتصف السبعينات، كان سوينكا معادياً بشكل علني لجماليات الزنوجة، وسخر في أكثر من مناسبة من محاولات البحث عن “أصالة” أفريقية غير موجودة. وكان خيار نوبل واعياً بتلك المواجهة بين “ضد الاستعماري” و”بعد الاستعماري”، فاختيار سوينكا لم يكن اعتباطياً، بل مدفوعاً بكوزموبوليتانيته، فهو يستلهم ثقافته المحلية وأساطير مجتمعه داخل “تقاليد أدبية أوروبية” (بحسب بيان الأكاديمية السويدية). وعلى الأغلب، لم يكن دافع الجائزة في خيارها هذا سياسياً، ببساطة كان “ما بعد الكولونيالي” هو الذائقة الجديدة، والأوسع انتشاراً.

بعد ثلاثة عقود ونيف، تعود نوبل إلي أفريقيا وإلى ما بعد الكولونيالية. ففي سياق سعى الجائزة إلى ترميم سمعتها بعد سلسلة من الفضائح، مالت الأكاديمية في الدورتين الأخيرتين إلى خيارات آمنة، و”صائبة سياسياً”. بحسب تلك المعايير، يبدو عبد الرزاق قرنح مرشحاً مثالياً، مُسلم وأفريقي لاجئ ومهاجر وكاتب كوزموبوليتاني وأكاديمي ما بعد كولونيالي، وبالإضافة إلى ذلك غير معروف، مما يسمح للجائزة باستعراض أثرها المعجزي، أي تحويل كاتب شبه مجهول إلى واحد من الأكثر مبيعاً، بعقود ترجمات إلى عشرات اللغات.

لكن، وأياً كان خيار الجائزة، فلن يعدم الوسيلة الراغبون في انتقاده. فهل قرنح، ذو الأصول العربية، أسود بشكل كافٍ؟ ولماذا، حين تذهب الجائرة أخيراً إلى أديب أفريقي، يكون مقيماً في بريطانيا وينشر فيها، ويكتب بالإنكليزية، وينتمي إلى طائفة الروائيين-الأكاديميين من أصول عالم ثالثية، في جامعات المراكز الكولونالية القديمة/الجديدة؟ هل كان ذلك التكريم مجرد تأكيد آخر على آليات عمل السوق الرمزي المعولم، والهيمنة الغربية على تنظيمه وهيراركيته، أم إنها محاولة إعادة توزيع أكثر عدلاً لرأسماله المعنوي؟

تظل تلك النوعية من الأسئلة والانتقادات، مثلها مثل الفضائح السابقة، أحد الأركان الأساسية في العمليات التي تعيد بها نوبل إنتاج مصداقيتها. فهي تتضمن افتراضات مسبقة عن المعايير الواجبة للاختيار الصحيح، أي أن كل نقد لخيارات الجائزة يحمل إيماناً بمنطق الجائزة بالعموم، وبحقها، بل وحتى واجبها تجاه تعيين حدود الأبيض والأسود، العالمي والمحلي، ورسم خريطة لجغرافيا السوق الرمزي وتحديد تراتبية القيمة في حقول الثقافة المعولمة.

المدن

—————————

عبد الرزاق غورناه: أشعر أنني ما زلت أعيش هناك… في زنجبار

الفائز بـ{نوبل للآداب» بدأ الكتابة بعد وصوله إلى إنجلترا

نيويورك: تريب غابرييل

فاز الروائي التنزاني عبد الرزاق غورناه، بجائزة نوبل للأدب، حسب بيان الأكاديمية السويدية، لـ«تصويره الدقيق والراسخ لآثار الاستعمار وصدمة تجربة اللاجئين». وغورناه (72 عاماً)، الذي ولد ونشأ في جزيرة زنجبار لكنه رحل إلى إنجلترا كلاجئ في أواخر الستينات هرباً من الاضطهاد/ خامس أفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب.

كان غورناه، الذي ولد في جزيرة زنجبار بالمحيط الهندي، قبالة ساحل شرق أفريقيا، عام 1948، قد بدأ الكتابة بعد انتقاله إلى إنجلترا كلاجئ، حيث يقيم الآن.

ويقول الروائي إنه عندما وصل إلى إنجلترا، لم تكن كلمات مثل «طلب اللجوء» تحمل الرنين نفسه الذي تحمله الكلمة الآن، فهناك حالياً المزيد من الناس الذين يكافحون للهروب من «الدول الإرهابية». لقد بات العالم الآن أكثر عنفاً مما كان عليه في الستينات، لذلك هناك ضغط أكبر الآن على الدول الآمنة، مشدداً على أنه «يجب أن نتعامل مع هذه القضايا بأكثر الطرق حكمة».

وفي مقابلة له مع «مؤسسة نوبل»، حث غورناه أوروبا على النظر إلى اللاجئين الأفارقة على أنهم أناس لديهم «ما يعطونه. الكثير من هؤلاء الناس الذين يأتون إلى أوروبا جاءوا بسبب الحاجة، وأيضاً لأنهم بصراحة تامة لديهم ما يعطونه. فهم لا يأتون خالي الوفاض، فمن بينهم الكثير من الأشخاص الموهوبين والنشطين الذين لديهم ما يقدمونه»، مشيراً إلى أنه لا يزال يحتفظ بصلاته مع تنزانيا.

وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، قال «نعم، عائلتي لا تزال على قيد الحياة ولا تزال تعيش هناك. أذهب إلى هناك عندما أستطيع ذلك. ما زلت على اتصال بهم… أنا من هناك، وفي رأيي ما زلت أعيش هناك».

كاتب بالمصادفة

بدأ غورناه الكتابة في السنوات القليلة الأولى من وصوله إلى إنجلترا في حوالي سن 21 عاماً، ووصل إلى البلاد بعد تعرض أفراد الأقلية العربية في زنجبار للاضطهاد في أعقاب الثورة هناك عام 1964، وفقاً لصحيفة «الغارديان».

وقال للصحيفة في مقابلة نشرت عام 2004، «كانت الكتابة تعثرت فيه، ولم تأت وفق تخطيط. كان الأمر يتعلق في الغالب بالشعور الغامر بالغرابة والاختلاف الذي شعرت به».

ومرت 20 عاماً أخرى تقريباً قبل أن يطلق روايته الأولى «ذاكرة المغادرة» عام 1987، وتبع ذلك روايته «طريق الحج» بعد عام واحد، ثم روايته «دوتي» عام 1990. استكشفت الروايات الثلاثة تجارب المهاجرين في بريطانيا المعاصرة، بما في ذلك قضيتا العنصرية والهوية. ويقول الأكاديمي لوكا برونو، إن أعمال غورناه «هيمنت عليها قضايا الهوية والتهجير والتشكيل من خلال إرث الاستعمار والعبودية».

وكتب برونو على موقع المجلس الثقافي البريطاني على الإنترنت يقول: «تستند جميع روايات غورناه إلى التأثير المدمر للهجرة والسياق الجغرافي والاجتماعي الجديد على هويات شخصيته».

في الوقت ذلك، وبعد عامين قضاهما في جامعة في نيجيريا، عاد غورناه إلى بريطانيا وحصل على الدكتوراه في عام 1982 من جامعة كنت البريطانية، حيث عمل حتى تقاعده.

جاء الاعتراف النقدي بأعماله مع روايته الرابعة، «الجنة» (1994) التي دارت أحداثها في شرق أفريقيا الاستعمارية خلال الحرب العالمية الأولى، والتي وضعته في القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» البريطانية للرواية المرموقة، رغم خسارته أمام المؤلف الاسكوتلندي جيمس كيلمان.

تروي رواية غورناه الصادرة عام 1996، التي حملت عنوان «الإعجاب بالصمت»، قصة شاب يعود إلى زنجبار بعد 20 عاماً من سفره إلى إنجلترا، حيث تزوج من امرأة إنجليزية وعمل مدرساً.

هوية ما بعد الاستعمار

في رواية «عبر البحر» » التي صدرت عام 2001، رصد غورناه رحلة وحياة صالح عمر، وهو طالب لجوء قديم وصل لتوه إلى بريطانيا. وأحدث أعماله هما رواية «الهجران» التي صدرت عام 2005، التي رشحته لجائزة كتاب الكومنولث لعام 2006، و«الهدية الأخيرة» (2011).

وصفت مجلة «ببليشرز ويكلي» روايته الأخيرة بأنها «رواية مؤرقة» ذات «حبكة قوية وتأملات قوية في الفناء، والذاكرة، والنضال من أجل تأسيس هوية ما بعد الاستعمار».

طرح غورناه الذي يعيش الآن في برايتون، على الساحل الجنوبي لإنجلترا، رواية «Gravel Heart» عام 2017، التي وصفها ناشرها «بلومزبري» بأنها «قصة قوية عن المنفى والهجرة والخيانة».

صدرت روايته الأخيرة «ما بعد الحياة» العام الماضي، وهي تحكي قصة صبي صغير بيع لقوات الاستعمار الألماني. وقال أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل عن هذه الرواية، «هناك استكشاف لا ينتهي مدفوع بالعاطفة الفكرية في جميع كتاباته، وبرز بالقدر نفسه الآن، في رواية (ما بعد الحياة)، كما حدث عندما بدأ الكتابة كلاجئ يبلغ من العمر 21 عاماً».

وحرر غورناه كتاب «دليل كامبريدج لسلمان رشدي» في عام 2007، وتقاعد كأستاذ للغة الإنجليزية وأدب ما بعد الاستعمار في عام 2017.

* خدمة «نيويورك تايمز»

الشرق الأوسط

———————

================

تحديث 14 تشرين الأول 2021

———————

نوبل للآداب وأسئلة الترجمة/ نجوى بركات

على هامش جائزة نوبل للآداب التي مُنحت أخيرا للكاتب التنزاني – الإنكليزي من أصل يمني، عبد الرزاق قرنح، والسجال الذي رافق الإعلان عنها حول تجاهل المترجمين العرب الأدب الأفريقي عامة، وعدم وجود أيٍّ من كتب الفائز مترجما إلى العربية، لا بد من طرح بعض الأسئلة:

هل يكفي أن تتقنَ لغةً أجنبية لكي تصير مترجمَ أعمالٍ أدبية منها وإليها؟ لا، لا يكفي. لأن الترجمة الأدبية تتطلّب ثقافةً وإدراكا ومعرفةً وحساسيةً تتجاوز إتقان مفاتيح لغوية بعينها أو امتلاكها، إلى وعيٍ بالحدّ الأدنى لثقافة الآخر وطرق عيشه وشيء من تاريخه ونوعية أزماته ومآلها. فالرواية، والآداب بشكل عام، هي ابنة بيئتها بعِقَدها وأزماتها وصراعاتها. هناك بالطبع الجانب الإنساني الذي قد لا يختلف كثيرا بين مجتمع وآخر، لكن، من لا يدرك التلوينات والتدرّجات الصغيرة التي تحكم عالمًا ما ينوي ولوجه والخوض فيه، لن يجيد سبر أغوار النصّ المنكبّ على ترجَمته بهدف بلوغ جوهره و خلاصته ونقله إلى لغة أخرى.

هل يكفي أن تتقنَ الترجمةَ لتختار الكاتبَ أو الكتابَ الذي ينبغي ترجمته؟ قطعا لا. فلقد أخبرتنا التجربة أن كثيرا ممّا يتمّ اقتراحه للترجمة في الدور الغربية عامة، على سبيل المثال، لا يعبّر دائما عن خصوصية الأدب المنتج في بلد عربي ما، بقدر ما يراعي اعتباراتٍ أخرى من بينها الذائقة، والعلاقة الشخصية، ومحدودية الثقافة الأدبية لدى المترجم واطلاعه على ما يُنتج محليا وعالميا، إضافة إلى الخلط التعيس بين معايير الانتشار ومعايير الجودة، إلخ.

هل يقع على عاتق المترجم جزءٌ من مسؤولية إنهاض الثقافة وتطويرها وتمكينها؟ نعم، إلى حد كبير. فهكذا للأسف، يجهل أو يتجاهل المترجمُ مِن العربية وإليها المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقه، ومساهمتَه المخرّبة أحيانا في نشر كتب سطحية وفي تعميم ثقافة “الميديوكر” (ما هو دون المستوى الوسط)، مع ما يعنيه ذلك من إضاعة البوصلة والاحتفال بأعمالٍ لا تستأهل أن يُهلّل لها، مقابل أعمال مهمّةٍ تبقى طي التجاهل، لأن المترجم لم يكلّف نفسَه عناء البحث عنها. أجل، لقد بات المترجمُ من العربية إلى لغة أجنبية على سبيل المثال صاحب نفوذ ينبغي إرضاؤه وممالأته ودعوته وإغراؤه، علّه يقبل بمدّ سجّادة “العالمية” تحت أقدامنا، تلك العالمية التي ما زالت تتجاهل نتاجنا، وتنظر إليه أنه أدب “قاصر” غير جدير بالاهتمام. أما المترجم إلى العربية، فيعمل وحيدا، يتيما، متحرّرا بذلك من أي واجب أو تخطيط تفرضه عليه عادة مؤسساتٌ تموّل الترجمة ضمن خطة ثقافية شاملة.

لست أذكر هذه البديهيات كي أثقل كاهل المترجمين من العربية وإليها، ولهم كبير الفضل في تعريف العالم بعددٍ لا يستهان به من كتّابنا، وفي تعريفنا بكبار الكتّاب العالميين. لكن، لا بدّ من تذكير بعضهم، وهم يتزايدون، بأنّ الترجمة لم تعد مبنيةً على القيمة حصرا بقدر ما باتت خاضعةً لاعتباراتٍ تسويقيةٍ ومالية، في حين أنها عمليةٌ إبداعيةٌ بالدرجة الأولى. فهي كتابة وليست نقلا، مع التذكير بأن كبار الكتّاب كانوا مترجمين لأهم التحف الأدبية التي وصلت إلينا في ما مضى، وهو ما يلفت الانتباه إلى أن جزءا مهمّا من عالم الترجمة وأدواتها ومقوّماتها ضاع في الطريق سهوا.

سؤال أخير: ما الذي يمنعنا نحن الكتّاب العرب من ترجمة أعمال أدبية عالمية نكتشفها ونحبها ونؤمن بضرورة نقلها إلى العربية؟ عمل واحد قد يكفي. ألم يفعل أسلافنا هذا من قبلنا؟ ألم تكن الفترات التي نشطت فيها حركة الترجمة هي من أكثرها خصوبة وإنتاجا؟ ولمَ ترانا لا نقترح على الأقل أعمالا للترجمة لا تحظى بالترويج، ولا يلتفت إليها بالضرورة المترجمون أو القرّاء؟

العربي الجديد

————————

من لا يعرف عبد الرزاق؟/ عائشة بلحاج

بعد ترتيب بعضِهم لَائحةً تضمُّ الأسماء المحتمل فوزها، من مشاهير الكتاب في العالم، ألْقت لجنة جائزة نوبل للآداب في حضنهم مفاجأةً ثقيلة، بفوز كاتبٍ لا يعرفه أحد. لتنزل مطارقُ اللّوم في موقعة “غورنا” (أو قرنح)؛ فلام القارئ المترجم، ولام المترجمُ الناشر، ولام الناشر القارئ والسّوق والمكتبات، وبقي أن يلوموا الكاتب نفسه، أي عبد الرزاق، على عدم معرفتنا به.

المنشغلون عن اللّوم بحثوا عن أصل عبد الرزاق، أكثر مما بحثوا عن أعماله، وفرحوا بشَجرة نسبه العربية التي سقط من فروعها في دولةٍ أفريقية، لتلفظه إلى البحر، هاربا من ذلك كله؛ الأصل، الشّجرة، والأرض التي نما جريحا عليها، بحثا عن هواءٍ صحيٍّ وحياة تليق بإنسان. لكنّ العرب وشجرة أنسابه طاردوه وأحضروه، وذكّروه بالأصل والفصل، وصار له بينهم أعمام وأخوال. ونسوا أنّه هاربٌ من الجنوب، بكلّ ضفافه العربية والأعجمية، ولا يحمل من همومهم إلا ذكريات الهروب، والطفولة المعذّبة في أفريقيا، مع انتصاره للقضية الفلسطينية، التي يجب أن ينتصر لها كلّ ذي حسّ إنساني.

حتّى لو كان عبد الرزاق عربياً، كامل الأصل والفصل؛ وُلد هنا، وقرأ بعض الذي قرأنا، ثم غادر، وكتب هناك بلغةٍ أخرى، ولقارئ آخر، فهذا لا يعني أنّه أديب عربي فائز بجائزة نوبل. لنتخيّل كاتبا تنطبق عليه الصّفات التي ذكرنا، مثل الطاهر بنجلون، فاز بـ”نوبل”. هل سنصفه بأنه كاتب عربي فائز بالجائزة العالمية العتيدة؟ لا أظن، لأننا سنجد حينها أنفسنا أمام ورطاتٍ كثيرة؛ أوّلها أننا درجنا على تسمية الأدب العربي، كلّ أدبٍ مكتوبٍ باللغة العربية، بغض النظر عن أصل الكاتب، ونحن لدينا ملايين من غير العرب، أمازيغَ أو كرداً يكتبون بالعربية، لكن هذا لا يعني أنّهم عرب، خصوصاً أنّ عددهم كبير؛ ففي المغرب الكبير عدد مهم من الكتاب أمازيغ، وفي سورية والعراق أكراد كثيرون كتبوا وأحسنوا الكتابة بالعربية.

ولكن عندما نضمُّ كاتبا لا ينطبق عليه ما سبق، ونعتبره منا، لأنه ذو أصل عربي، علينا أن نعتبر غير العرب خارج دائرة الكتّاب العرب، وسيفقد الأدب العربي حينها معظم كتّابه، وكثيرا من وزنه. الحلّ أن يدع العرب عبد الرزاق لنفسه، ولإنسانيته التي نشترك فيها معه، ولندع له أن يختار انتماءه. هو الذي، من خلال كتاباته، وفيّ لأفريقيته وهمومها، ولا أثر للعرب فيه.

هو الذي أجاب في حوار صحافي: “لن أسمّي نفسي كاتبًا لأي نوع. في الواقع، لست متأكدًا من أنني سأطلق على نفسي أي شيءٍ بخلاف اسمي. أظن، إذا ما تحدّاني شخصٌ بطريقة أخرى للقول: هل أنت واحد من هؤلاء؟ فربما سأقول له: كلا. .. على وجه التحديد، لا أريد لاسمي، وهو جزءٌ مني أن يختزل بتسمية”.

من جهة التلقي والقراءة، من يتحمّل اللّوم عن عدم معرفة العرب بعبد الرزاق؟ الإجابة الشاملة ستقول إنهم كثر؛ المكتبات، لأنها غير مبدعة ولا مبادرة، ولا حتى مواكبة للقارئ وللكتاب. أصحابها مجرّد تجار فحسب، لا يعرفون الفرق بين كاتب وآخر، يطلبون دفعةً من الكتب حسب نوعها، روايات أو فكرا أو فلسفة، بغض النظر عن الاسم. كأن الكاتب مجرّد خياط. والأهم موضة (ونوعية) الفستان الذي خاطه. فمثلا، عبد الفتاح كيليطو الذي يعدُّ كاتبا معروفا ومطلوبا، لا تجد له كتبا في المكتبات المغربية، مع أنه نشر في دار مغربية كبيرة، توزّع جيدا، أفضل من معظم دور النشر الأخرى على الأقل. الطرف الثاني، دور النشر التي تبحث عن الربح، وتختار ما هو قابلٌ للاستهلاك، ولم تكن الأعمال ذات الروح الأفريقية من بين اهتماماتها، كما أن موضوع توزيعها لما تنشره يمثل وصمة عارٍ كبيرةٍ يطول الحديث فيها. الطرف الثالث، القارئ المثقف الذي ليس بالقارئ الكبير، ولا يُقبل على القراءة واقتناء الكتب كما يُفترض. صحيحٌ أن الحياة غالية، لكنّ الكتب جزءٌ من ضروريات الحياة، ستدخل معها وستجد لها مكاناً ضمن الميزانية، إذا كان معنيا بها. وإذا لم يكن هذا المثقف يرى ذلك فهناك خلل. وبالفعل، أصبحت الثقافة من مظاهر الادّعاء أكثر مما هي إقبالٌ على المعرفة.

من جهة أخرى، ليست حالة عبد الرزّاق غورنا (أو قرنح) فريدة من نوعها، فهي بين حالات أخرى غيرها، حصل كُتّاب على جائزة نوبل للآداب ولم يكن العرب يعرفونهم، من الفرنسي باتريك موديانو والبولندية أولغا تشوكارتوك وغيرهما من آخر الفائزين بـ”نوبل” الذين سارع العرب لترجمتهم بعد الفوز، لكنّهم لم يستمروا في السوق، سوى وقت قليل. بعضهم غير جماهيري، مثل بيتر هاندكه، المترجمة بعض أعماله إلى العربية قبل الجائزة. مع العلم أنّ اختيارات العرب الأعمال المقروءة غير خاضع لمنطق الجودة أو الشهرة؛ فحتى أشهر النوبليين لم يُقرأوا كما يجب، فكثيرون من القرّاء القدامى لم يقرأوا رواية “العمى” الشهيرة، للبرتغالي ساراماغو، على سبيل المثال.

مع ذلك، يمكن ملاحظة اختلاف تدريجي في سلوك القراءة، واقتناء الكتب لدى العرب؛ فمثلا صارت دور النّشر المتخصّصة في الأدب تعرف رواجا أكثر من غيرها، مع أنّه بالأمس القريب كانت كتب التنمية البشرية وكتب الفقه والتفسير والحديث أكثر رواجا في المعارض. والآن صارت الروايات هي الأكثر رواجا، إذ اكتشف الشباب، بشكل خاص، سحر الرّواية. بعدما روّج من روّج أنها تفسد الأخلاق، مثلما كانت الأفلام تفعل، بحسب ذهنية الأوساط المحافظة. وإذا كانت الأفلام قد تخلّصت من هذا الحكم، منذ وقت طويل، بفعل سحر الصّورة، فإنّ الأدب تأخر في اكتساب الشّرعية الاجتماعية، بسبب ضعف نسب القراءة، وانتشار الأمية، وضعف القدرة الشرائية. لكن يبدو أن وسائل التواصل التي كان يُخشى من تقليلها القراءة ساهمت في انتشارها لدى الشّباب الذين لم يملكوا من قبل مصدر تشجيعٍ على القراءة.

الأكثر غرابةً من الانشغال بأصل عربي بعيد لعبد الرزاق غورنا، ما فعلته الحكومة التنزانية، بتهنئته التي اعتبرت فيها فوز عبد الرزاق فوزا لتنزانيا. مع أن هذه الحكومة نفسها وغيرها كانت السبب في هجرة غورنا الذي كان يمكن أن يعيش ويبدع في بلاده، بدلا من بلاد الآخرين التي يمكن اعتبارها الفائز مع من فاز، لا البلد الأصلي. ولكن يُشكر عبد الرازق على حمله هموم إخوته الأفارقة، وهو يهاجر ويكتب. في وقت أنكَرَنا فيه كتابنا المغاربيين بشكل خاص، عندما ذهبوا إلى الغرب، وكتبوا له رواياتٍ كنا فيها مجرّد مهرّجين وعرائس تُسلّي القارئ الأوروبي، المنبهر بسحر شرقٍ يتخيّله ولا يعرفه.

العربي الجديد

———————–

موضوعاته لفتت الانتباه.. إشادة إسبانية باختيار قرنح لنوبل الأدب

مدريد- أحمد عبد اللطيف

احتفت الصحف الإسبانية بفوز الروائي الأفريقي ذي الأصول اليمنية عبد الرزاق قرنح (غورناه) بجائزة نوبل هذا العام، وأشارت في العديد من المقالات إلى أعماله المترجمة إلى اللغة الإسبانية، كما أثنت على اختيار اللجنة للأدب الأفريقي المهمّش والموضوعات الحيوية التي اختار عبد الرزاق الكتابة عنها وكشف آلامها: الهجرة، اللجوء، أزمات المهاجرين في المملكة المتحدة. الموضوع هو ما لفت الانتباه، دون أن يتطرق أحد حتى الآن لتناول جماليات أدبه، ولعل ذلك يرجع لارتباط موضوعاته بقضايا راهنة، وأسئلة لا تزال مطروحة في أوروبا لم تُحسم بعد.

في مقال له بـ “الباييس”، كتب خوسيه نارانخو أن أسباب اختيار اللجنة لعبد الرزاق أسباب راهنة وساخنة: أثر الكولونيالية الأوروبية على أفريقيا ومصير اللجوء المُدان بالحياة بين عالمين. بعد 70 عامًا من استقلال دول أفريقيا، ظهرت مبادرات عديدة وحركات مدنية في القارة الأفريقية وفي المنافي لتذكرنا بأن الطريق لا يزال طويلًا لتجاوز الجروح مثل العبودية والعنصرية وتجريم الهجرة، وهي قضايا يعيشها الملايين يوميًا في العالم.

في رواية “ما بعد الحياة” (2020) يتناول قرنح الاحتلال الألماني لتنزانيا الحالية في بدايات القرن العشرين، تقول إحدى شخصياته: “قتل الألمان أناسًا كثيرين حتى صار البلد مترعًا بالجثث والعظام وصارت الأرض متخثرة بالدماء”. بهذه العبارة يرصد قرنح تاريخ الجريمة في بلده ويسجّل أحداثًا لا تُنسى على الأقل من ذاكرته. لقد اعترفت ألمانيا في أيار/ مايو العام الماضي بأنها ارتكبت مذابح ضد إثنيات مثل الهيريرو والناما في ناميبيا، وقدمت اعتذارًا لأحفاد الضحايا. وفي 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وبعد الضغط المتزايد من حكومات أفريقية، أعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، في خطاب له ببوركينا فاسو، عن بداية عملية إعادة آلاف القطع التاريخية المسروقة من القارة خلال فترة الاستعمار. يشير نارانخو في مقاله إلى أن المبادرة لا تزال متواضعة، وأن الأشياء المستردة قليلة حتى الآن، فلا تزال هناك متاحف أفريقية في فرنسا.

إن الاستعمار وبصماته في العلاقات بين الدول الاستعمارية والقارة الأفريقية في طور المراجعة. وفي عام 2016 نشر البروفيسور السنغالي فيلوين سار كتابًا بعنوان “أفروتوبيا”، تناول فيه الحاجة إلى إعادة التفكير في أفريقيا بناء على “تحرير العقل من الاستعمار”، ليفتح أفقًا للبحث عن تفسير جديد للواقع، يتلاقى مع رؤية الفيلسوف الغيني الاستوائي إوخينيو نكوجو ويقتفي خطى المؤرخ الكاميروني أشيل مبمبي. ولقد لعب أبناء الأفارقة الموزعون في العالم دورًا رئيسيًا في هذه العملية. فبعد النضال من أجل الحقوق المدنية في الستينيات في الولايات المتحدة وما أعقبها من مطالب عالمية بإنهاء التمييز العنصري، وحركات قليلة مثل الـ Black Lives Matter التي ظهرت ضد العنف الشرطي الموجه للسود، تمكنت من إيقاظ الضمائر، خاصةً بعد التوترات التالية لاغتيال جورج فلويد والفيديو الشهير الذي يقول فيه “لا أستطيع أن أتنفس”، تحت ركبة الشرطي ديريك شاوفين. وفيما ينضم الرياضيون السود من كل العالم إلى هذه القضية، ويركعون على ركبهم فيما ينطلق النشيد الوطني ويرفعون قبضاتهم في إشارة للاعتراض، عشرات الأفلام والمسلسلات الناجحة تتناول موضوع العبودية وميراثها. ثمة ستارة تنفتح وتكشف المعاملة المخزية للسود والمنتشرة في العالم الصناعي اليوم. وفي خطاب نيكولا ساركوزي في داكار عام 2007، نفى رواية الشعوب الأفريقية، واستعباد المهاجرين في ليبيا في منتصف العقد الماضي، ما أثار موجة من الاستياء ساهمت في تعزيز خلق الضمير الجديد.

قرنح يتناول في أعماله حياة اللاجئين التنزانيين في أوروبا، “الهوة بين الثقافات والقارات”، التي أشارت إليها الأكاديمية السويدية. أوروبا المحصنة والعاجزة عن تقديم حلول للتحدي في حدودها الجنوبية، يموت فيها كل عام آلاف الشباب الأفارقة وهم يبحثون عن حياة أفضل، من هنا تأتي أهمية تقرير نوبل ودقته. ثمة إشارة مبطنة إلى الحواجز الحدودية في اليونان أمام النساء والأطفال الهاربين من الحرب، وطرد طالبي اللجوء لأوروبا في بلدان مثل تركيا وموريتانيا، أو فرض الرقابة على مد خطوط السيطرة على البلدان الأفريقية، كما في حالة النيجر وليبيا، كل ذلك يعمّق الهوة التي يشير إليها قرنح في أعماله. وينضم الكاتب التنزاني إلى قائمة الكتاب الأفارقة الفائزين بنوبل: النيجيري وول سوينكا، الجنوب أفريقية نادين جورديمر وابن بلدها كوتزي، والمصري نجيب محفوظ. الملفت أن الثلاثة الأوائل يكتبون بالإنكليزية، مثل قرنح، والأخير هو الوحيد الذي يكتب بالعربية، ما يعني أن الثقافة الفرانكو أفريقية لم تمثل حتى الآن بأي جائزة. في المقابل، سينتظر الكاتب نجوجي وا ثيونجو عامًا آخر، بعد أن اختار الكتابة بلغة الأقلية الجيكويو، ورفض الكولونيالية اللغوية.

في مقال له بنفس الجريدة، يشير رافا دي ميجيل إلى النضج الذي يتمتع به قرنح، ليس نضجًا مهنيًا فقط، وإنما نضج حياتي تكوّن عبر تجربة طويلة، فيقول: “يتمتع قرنح بقناعات ثابتة، لكن راديكاليته مغلفة بنبرة مهذبة ومتفاهمة”، ويستعير كلمات قرنح: “يبدو أحيانًا أن الجدل حول الهجرة تغير إلى الأفضل، لكننا نتقهقر من جديد. كل موجة جديدة من المهاجرين تصل إلى المملكة المتحدة – سواء كانوا أفارقة، كاريبيين، باكستانيين، هنود، رومان- يجب أن تمر بجو الكراهية نفسه والرد المتعسف من الحكومة”. يقول قرنح إن الرد الأوروبي ينقصه الأخلاق والرأفة، لكن الأسوأ “أنه ليس منطقيًا. المهاجرون لا يأتون بأيد خاوية، إنما يحملون الشباب والقوة والحيوية، وفكرة أنهم يأتون لينتزعوا جزءًا من رفاهيتنا ينقصها الإنسانية”.

يحمل عبد الرزاق الجنسية البريطانية، يدرّس الأدب الإنكليزي منذ عقود، يعيش في كانتربيري. لا يمكن أن يكون بريطانيًا أكثر من ذلك. ربما لهذا، بحسب دي ميجيل، يعكس رأيه حول الهجرة في السنوات الأخيرة إلى المملكة المتحدة التعب الذي يتعرض له أبناء وطنه. لكن ما يميز عبد الرزاق آراءه الحاسمة، مثل اعتراضه على البريكسيت واعتباره خطيئة “لكن الناس أرادوا ذلك”.

“يشير رافا دي ميجيل إلى النضج الذي يتمتع به قرنح، ليس نضجًا مهنيًا فقط، وإنما نضج حياتي تكوّن عبر تجربة طويلة، فيقول: “يتمتع قرنح بقناعات ثابتة، لكن راديكاليته مغلفة بنبرة مهذبة ومتفاهمة””

يخبئ قرنح خلف صوته المنخفض والناعم وشبه الخجول، سخرية من السهل الاستسلام أمامها. يقول لأحد الصحافيين “هل تريد حضرتك أن أعيد الجائزة؟”، بعد أن طلب منه الصحافي أن يكون صوتًا ضد المؤسسات ذات النبرة العنصرية والكارهة للأجانب. الحقيقة أنه يتعاطف مع الناس ويتفهمهم، يقول رافا. مع ذلك يتهم المؤسسات بتواطؤها مع ما عارضه في رواياته. يحكي قرنح: “عندما وصلت إلى المملكة المتحدة، كان الناس يتوجهون إليك ويستخدمون كلمات محددة لا تحمل قلقًا ولا خوفًا، ولا حتى ينتبهون إلى أنها كلمات قد تجرحك أو تهينك. كان ذلك يحدث لقلة الوعي أكثر منه الشر المجاني. أعتقد أنه الآن، خاصةً في المدن، مع اختلاط الأطفال مع زملائهم في المدرسة أو اللعب معًا كرة القدم، هناك وعي أكبر بالخطأ والصحيح. مع ذلك، أعتقد أن المؤسسات لا تزال عمياء وسلطوية. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تغييرات كبرى”.

ضفة ثالثة

——————————-

موسم جلد الذات… الذي سبقه احتقارها!/ إبراهيم نصر الله

أظهر الإعلان عن اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب حسًّا عربيًّا عارمًا بالتقصير، دفع الكثيرين لإعلان الاستنكار الشديد لتقاعس دور النشر والمترجمين العرب بسبب عدم وجود كتاب واحد للفائز بلغة الضاد، ورأى البعض في ذلك عارًا وجهلا وقلة معرفة وعزلة ونكوصًا ثقافيًّا.

طبعًا من حقّ القارئ العربي أن يطلع على كل تجارب الكتاب الرائعين في العالم، ومن حقّ الثقافة أن تكون ابنة حاضرها وجديد هذا الحاضر من مشارق الشمس إلى مغاربها، لكن هذه الفورة الرهيبة التي أصابت أمة راحت تلعن نفسها أمرٌ ما كان يجب أن يكون على هذه الدرجة من العنف، فالكتّاب العظماء الرائعون موجودون في كل أنحاء العالم، بعضهم سمعنا به وبعضهم لم نسمع، وأجزم أن ليست هناك دولة على وجه الأرض، كبيرة أو صغيرة، استطاعت أن تترجم أعمال الكتاب الرائعين كلهم، وفي الحقيقة لن تستطيع، لأن دولة ما أو لغة ما مهما كان وزنها الثقافي لن تتسع مطابعها ولا مكتباتها ولا نبالة مترجميها لاستيعاب هذا الكم الهائل من الجمال.

وبقدر ما في الغضبة العربية من غيرة، إلا أنها مطاردة بحسّ عميق من جلد الذات الذي لا مبرر له، ولا أخال أن أمّة أو لغة في العالم كان سيصرخ مثقفوها لو فاز كاتب عربي هذا العام بنوبل (وإن اعتبر البعض فائز العام يمنيًّا): لماذا لم نكن نعرفه؟! ولما اتّهموا أنفسهم بكل ما اتّهمنا به أنفسنا، نحن الذين حين نضرب أمثالًا تعليقًا على جائزة نوبل لهذا العام بذكرنا أسماء في العالم تستحق الجائزة العالمية هذه، لا نورد اسم أي كاتب عربي في معظم القوائم التي وردت في مقالات حُبِّرتْ من الخليج إلى المحيط.

نحن نُقصي أنفسنا ههنا مرتين، مرة نقصيها عن المعرفة، ونصفها بالجهل، لأنها لم تعرف كتابات عبد الرزاق، ومرة نقصيها عن حقها في أن تكون كتابتها جزءًا من المشهد العالمي، وكان يمكن أن يكون هناك حديث طويل عن جهل العالم بالكتابة العربية وجهل جائزة نوبل بالكتابة العربية، وإصرار دور النشر العالمية على إقصائها من برامج نشرها.

في الشهور الماضية، كان ثمة أكثر من فرصة ليطل المرء على «قرارات» لدور نشر أجنبية بشأن العزوف عن الاقتراب من الكتاب العربي، وهذا انعكس على الوكلاء الأدبيين بصورة واسعة، ولذا يمكن أن تسمع وكلاء أدبيين كثراً يقولون: «نحن نبذل عشرة أضعاف الجهد الطبيعي الذي نبذله من أجل إقناع الناشر بكتاب عربي، مقارنة بالجهد الذي نبذله لأي كاتب آخر من العالم، وإذا كان الكِتابُ فلسطينيًّا فإن علينا أن نبذل عشرين ضعفًا، والنتيجة غالبًا مخيبة للآمال، إلا في ما ندر، وإذا نجحنا يكون ذلك مع دور نشر صغيرة».

وإذا كنا نريد أن نكون أوضح، وما زلت أتحدث عن جَلْد الذات «هنا»، وتطهيرها بتقديس كل ما هو «هناك»، فإن خيرة كتابنا وأروعهم ظلوا خارج الفرصة التي تدفع «الهناك» لجلد نفسه لأنهم لم يفوزوا.

من حق الثقافة العربية أن تملك من يدافع عنها ويتساءل: كيف يمكن لكاتب عربي اليوم، باستثناء من يكتبون باللغات الغربية، أن يصل إلى أي جائزة أو مرتبة عالمية، ما دام الكتاب العربي خارج حلبة الثقافة والمنافسة؟ كيف يمكن لأي ناقد أو مؤسسة تعليمية أن ترشح كتّابًا لا وجود حقيقيًا لهم في سوق النشر الأجنبية؟!

طبعًا، هناك من يتفنّنون في احتقار الثقافة العربية، وأذكر أن صحافيًا غليظ القلب والروح، يعيش منذ سنوات في دولة أوروبية متحضرة! جلس في إحدى الندوات ليقول بصفاقة بالغة وهو يتحدث عن الرواية العربية: «طبعًا لا يمكننا أن نقارن المستوى الرائع للروايات التي تفوز بالجوائز في الغرب بالروايات العربية أيًّا كان نجاحها!

ذلك الصحافي في الحقيقية، المغترب، لم يكن يدري في تلك اللحظة أنه يشتم الثقافة العربية كلها، ما دام يشتم بعض أجملها، ويدافع في الوقت نفسه عن مستوى كل عمل غربي لمجرد أنه فاز بجائزة، ونحن نعرف أن عددًا كبيرًا من الكتاب (العالميين) الذين فازوا بأكبر جوائز الغرب «نوبل» انتهوا بعد عام واحد من الضجة التي أعقبت يوم فوزهم، وما ينطبق على نوبل ينطبق على أفلام الأوسكار وغيرها.

هذه العبادة المتمثلة في هجاء الذات ومديح كل ما هو خارجها، للظهور بمظهر الإنسان الموضوعي العارف! لا ينقص صاحبها، حين يكتب عن نوبل هذا العام، إلا أن يخشى حرمانه من دخول الجنة بسبب جهل أمته بكاتب ما. أمر مرعب؛ فلا أحد في العالم يعرف كل شيء، لا الكتب ولا الأفلام ولا اللوحات ولا المسرحيات، وكل معروف عرفناه لا ينفي أن يكون هناك ما هو أهم منه لم يزل مجهولًا لسبب ما.

قبل أيام كانت قارئة نجيبة تكتب عن رواية عربية: «ونستطيع أن نلمح أثر رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موركامي في هذه الرواية»، مع أن الرواية العربية التي تتحدث عنها منشورة قبل ست سنوات من رواية موركامي! ولا ينجو من ذلك إلا قلة من النقاد العرب الذين يتفننون في جعل كل رواية عربية تابعة لرواية أخرى غربية أو أكثر، في حين أن الرواية العربية نفسها حين تنشر بلغة أجنبية لا يقوم الناقد الأجنبي أو طالب الدكتوراه بالحديث عنها كرواية تابعة، بل كرواية تقدم للرواية العالمية الكثير. ولماذا يصرّ ناقد عربي بتأثر رواية عربية برواية لساراماغو، مع أن العربية منشورة قبل رواية ساراماغو بربع قرن؟! ولماذا لا يجهر آخر بأن «عرس الزين» لا تقل جمالا عن كثير من روايات ماركيز، وأن «فساد الأمكنة» المنشورة في نهاية الستينيات أروع من مئات الروايات المترجمة للعربية قديمًا وحديثًا؟! ولكيلا يبقى الأمر محصورًا في الكتب، أضيف: وينبهر مشاهد عربي بمسلسل كوري جديد، وفكرته المبدعة الطازجة، مع أن رواية عربية قامت على هذه الفكرة من ألفها إلى يائها صدرت قبل ثلاثة وعشرين عامًا من تفضّل نتفليكس علينا بإنتاج هذه المسلسل، في حين أن عمى المنتج العربي وخوفه من أي جديد منعه من الالتفات إلى هذه الرواية، بل إن كاتبها أسرّ لي أن منتجًا عربيًا يتعامل مع نتفليكس عُرضت عليه الرواية قبل ثلاث سنوات لكنه لم يتخيل أن قصة كهذه يمكن أن تقبلها نتفليكس!

وبعد: كان من الجيد لو عرفنا الفائز بنوبل قبل فوزه، لكن عدم معرفتنا بمبدع ما، قد لا يكون معروفًا في بلده أيضًا، ومبدعين كثر فازوا بالجوائز لا يعرفهم تسعة وتسعون في المائة من سكان العالم، وهذه نسبة غير مبالغ فيها، لا يقتضي إهانة الذات على هذا النحو! لقد جاء الوقت لنعرفهم.. وسنعرفهم.

القدس العربي

—————————

شكراً لجنة نوبل/ محمد صبحي

شكراً لجنة نوبل كيف تاه عن أسماعنا هذا الصوت المتصل بإحدى قضايانا الأساسية، إرث الاستعمار والعنصرية وتجربة الهجرة واللجوء؟!

في أوائل ستينيات القرن العشرين، تعرّضت الأقلية المسلمة للاضطهاد في زنجبار، وهو الاسم الذي يمكن ترجمته عربياً إلى “ساحل الزنج”. زنجبار جزيرة تقع قبالة سواحل تنزانيا، كانت جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، قبل حصولها على الاستقلال في العام 1963.

عندما تكون الحياة على المحك وتشيع المذابح، فإن المستقبل يكمن في مكان آخر. عبد الرزاق قرنح، شاب زنجباري يبلغ من العمر 18 عاماً، وصل كلاجئ إلى المملكة المتحدة في أواخر الستينيات، وكان يدرس للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة كينت، ليبدأ التدريس والكتابة باللغة الإنكليزية ونشر الروايات. الخيال هو المكان المناسب لإزاحة القوالب النمطية وفتح العيون على التنوع في أفريقيا. في كتاباته، تظهر التوترات بين القبول والرفض، بين الشعور بالراحة بعد الهروب من الموت، وفقدان المنزل الذي لن تعود إليه أبداً، بين السواحلية – لغته الأم، والإنكليزية – لغة الإقامة. بعد أكثر من خمسين عاماً وعشر روايات منشورة، أصبح قرنح سادس كاتب أفريقي يحصل على جائزة نوبل للآداب، “لوصفه المؤثر لتأثيرات الاستعمار في أفريقيا ومصير اللاجئين في الهاوية بين مختلف الثقافات والقارات”.

من المثير للدهشة والفضول أن الفائز بجائزة نوبل في الأدب للعام 2021، هو عملياً مؤلف غير معروف. من بين رواياته العشر باللغة الإنكليزية، لم تترجم أي منها للعربية. في ألمانيا، تُرجمت أربعة فقط من أعماله، آخرها في العام 2005. في إسبانيا، تُرجمت ثلاثة عناوين، وواحد فقط هو المتاح. رغم ذلك، قرنح هو فائز نوبلي جيد جداً ومفيد كذلك. فهو مؤلف مختار، أو روائي للخاصة والدوائر الصغيرة، وبالتالي هذه إشارة إلى أنه ما زال هناك أشخاص يقرأون في ستوكهولم، ولا يلهثون وراء صيحات الكتابة الرائجة، والمؤلفين الأعلى صخباً. وهو مفكر يتمتع بمكانة عالية، بالإضافة إلى كونه مؤلفاً يسهل الوصول إلى كتاباته. فهو يكتب بالإنكليزية بصوت يمكن أن يشبه صوت أي بريطاني. وهو يكتب كأستاذ من جامعة كينت، أكثر من كونه شخصاً يتحدث من مكان بعيد أو يعالج موضوعات “إكزوتيكية” بعيدة من اهتمامات الدوائر الفكرية الأوروبية.

وفي الوقت ذاته، يعتبر قرنح كاتباً أفريقياً بامتياز، بالنظر إلى تيمات أعماله ومروحة شخصيات رواياته المختلفة، التي تمتد من منطقة مولده، شرقي أفريقيا، وتملك تاريخاً استعمارياً معقداً عمره قرون. ففيما كانت غالبية أقاليم المنطقة تحت السيطرة الألمانية والبريطانية، فإن جزيرة زنجبار، حيث ولد قرنح، خضعت للحكم البرتغالي والعُماني والبريطاني، فضلاً عن كونها الميناء الرئيسي لتجارة الرقيق في المنطقة. مثلاً، تحفل رواياته بالآسيويين الذين قدموا إلى شرق أفريقيا للتجارة، وكثر منهم مسلمون، وبعض السيخ.

لكن ما يميّز أعمال قرنح عن غيرها من روايات الأدب الأفريقي، التي مثّلت أفريقيا قبل وصول الأوروبيين، باعتبارها “فردوساً مثالياً” كردٍّ على النظرة الاستعمارية؛ هو أنه يُظهر عالماً فيه أناس طيبون وسيئون وعاديون، لا مكاناً متخيلاً بريئاً يكاد يكون كاريكاتورياً. يكتب عن فترة ما بعد الاستعمار خارج نطاق المعارضة المعتادة. يهتم بحركات الأدب واللغة، من خلال استكشاف مصائر شخصيات بلا منزل أو وطن غالباً، في ذلك البرزخ الفاصل بين انتماءات وهويّات. بإخضاعها واقع زنجبار، تلك الجزيرة التنزانية التي كانت مستعمرة بريطانية ودخلت نفق التهجين الثقافي، تستكشف روايات قرنح آثار الاستعمار في مفترق طرق ثقافي وكيف تُبنى الهويّات الشخصية في عالم ما بعد الاستعمار.

بفوزه هذا العام حققت الأكاديمية السويدية “كوتا” التنوع، وهي نادرة جداً عند النظر إلى لغات ودول الفائزين بجوائز الأدب؛ لكنها ستمضي سنوات عديدة قبل أن تتمكن من تعويض هذا الخلل. من بين الفائزين الـ117، هناك 95 كاتباً من أوروبا أو أميركا الشمالية، أي ما يعادل نسبة 81%. من حيث الجندر، فغياب التماثل أكثر وضوحاً: 101 رجلاً، يمثلون 86٪، في مقابل 16 امرأة فقط. بالنسبة للكتّاب الأفارقة السود، يتعين على المرء أن يعود إلى جائزة نوبل 1986، وحائزها النيجيري، وولي سوينكا، للعثور على سلف عبد الرزاق قرنح المباشر.

“اعتقدت أنها مزحة. حقاً. هذه الأشياء، أسماء الفائزين، عادة ما تحوم حولها التكهنات لأيام، وحتى شهور، أعني مَن سيكون الفائز. لم يكن هذا في ذهني على الإطلاق. في الواقع، كنت أفكر في مَن سيفوز بها هذا العام”، يعترف قرنح، الذي نشر أيضاً مقالات عن أدب ما بعد الاستعمار، وهو أستاذ فخري في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة كينت البريطانية. في كتاباته، قام بتحليل أعمال ف.س.نايبول، وسلمان رشدي. هذا الأخير، خصّص له كتاباً كاملاً دافع فيه عن حق رشدي، الذي طاردته فتوى الخميني بالقتل، في التعامل مع الموضوعات الإسلامية بأسلوب أدبي، ضمن ما ينجزه الكتاب الذي يعمل كمقدّمة شاملة لأعمال رشدي، من منطلق تعامله مع بعض القضايا الحيوية في عصرنا، كالهجرة، وما بعد الاستعمار، والاستبداد الديني.

“كان الناس يتنقلون في جميع أنحاء العالم. إن ظاهرة القادمين من إفريقيا إلى أوروبا هذه جديدة نسبياً. وربما يكون السبب في صعوبة تقبُّلها على كثير من الناس في أوروبا، هو نوع من الجشع، كما لو لم يكن هناك ما يكفي الجميع”، يقول قرنح في مقابلة أجرتها مؤسسة نوبل. وأضاف الكاتب التنزاني الذي يؤمن بأن دور الأدب في العالم هو النهوض بالمجتمع: “الكثير من هؤلاء الذين يأتون، جاءوا بدافع الضرورة، ولأنهم بصراحة لديهم ما يعطونه. إنهم لا يأتون خاليّ الوفاض. كثير منهم موهوبون وحيويون، ولديهم ما يعطونه”.

الهوة بين الثقافات والقارات، وتجربة اللاجئين في الأطراف الحضرية في عالم غير متساوٍ بشكل متزايد، والعنصرية والعنف، وكيف اجتاح الاستعمار الأوروبي الثقافات الأفريقية.. هي بعض الموضوعات التي تظهر في أعماله. في روايته الأولى، “ذاكرة رحيل” (1987)، يروي قصة الشاب المسلم، حسن عمر، في بلدة صغيرة في شرق إفريقيا، عندما نامت الانقسامات الداخلية من اجل القتال ضد عدو مشترك: الغزاة البريطانيون. في روايته “طريق الحجّاج” (1988)، نلتقي داود، وهو ممرض ومهاجر أسود يعمل في مستشفى كانتربري ببريطانيا، وكفاحه من أجل التصالح مع رعب ماضيه ومعاناته من الصور النمطية العنصرية في البلد الأوروبي المضيف. روايته الثالثة، “دوتّي” (1990)، نصّ يستكشف تقلبات وتحوّلات شابة بريطانية سوداء.

روايته الأشهر، “فردوس” (1994)، هي قصة نضوج وأوديسه شخصية تتبع القصص القرآني، بطلها يوسف، وهو صبي أفريقي، يجد نفسه محصوراً في المساحات الرمادية لتقاطع مظالم الاستعمار الأوروبي مع الصراع بين المسلمين والمسيحيين في شرق القارة الأفريقية. تبدأ رواية “هَجْر” (2005) بقصة حبّ ممنوع بين شاب أوروبي، وإبنة بقّال هندي، في القرن التاسع عشر ثم تقفز إلى الخمسينيات من القرن العشرين، أثناء الثورة ضد العرب والصراعات التي أدت إلى استقلال جزيرة زنجبار. “أردت أن أكتب عن الألم. كيف أن حياتنا البشرية مؤلمة حتماً. لقد كتبت دائماً عن مدى ضعفنا”، يقول قرنح.

من ساحل الزنج إلى جائزة نوبل في الأدب، قطع قرنح شوطاً طويلاً. أما نحن، كقرّاء ومترجمين وناشرين عرب، فأمامنا أشواط أطول نقطعها لردم مسافات وسدّ فجوات والإجابة على أسئلة، أوّلها كيف تاه عن أسماعنا مثل هذا الصوت المتصل بإحدى قضايانا الأساسية، إرث الاستعمار والعنصرية وتجربة الهجرة واللجوء؟! كان عليه أن يكتب عشر روايات باللغة الإنكليزية، أفضل من معظم الإنكليز، حتى يمكن ملاحظته. كما كنّا بحاجة إلى لجنة جائزة نوبل للقاء عبد الرزاق قرنح. فشكراً لجنة نوبل.

المدن،

———————————

جائزة نوبل وخارطة “قرنح” الوراثية/ مالك داغستاني

“هنيئاً لمن، وهو يعشق امرأة تقيّة، يسكن بيتاً، في وطن معروف، وتحت سماء صافية. حينئذٍ، وهو الرجل المطمئن، سوف تضيء له سماؤه بصورة أجمل” ما سبق هو جزء من قصيدة للشاعر الألماني المعروف فريدريش هولدرلين، ولو أردتم الحقيقة، فإن المقطع السابق هو ما علق في ذاكرتي من تلك القصيدة التي أدهشتني قبل ربع قرن، ولن يفاجئني أن تكون ذاكرتي قد تلاعبت ببعض مفرداتها، وهذا ليس مهماً هنا، فأنا لن أستعرض قصائد الشاعر هنا. لكن هذا المقطع عاد إلى ذاكرتي، بعد فوز الروائي التانزاني عبد الرزاق جورنَه، بالجيم المصريّة  Abdulrazak Gurnah (عامداً لا أستخدم هنا كنيته الأصلية الحضرمية “قرنح” التي تنتهي بحرف الحاء العربي). بأسلوب طريف دوّن الصديق إسلام أبو شكيّر كل رسم للكلمات التي حاولنا بها كتابة اسم عائلة الرجل “جورناه، جورنة، غورنا، غرنا، قرنه، قرنح”، مضيفاً أن العرب ما زالوا مشغولين بترجمة الاسم، قبل ترجمة أي رواية له من اللغة الإنكليزية التي يكتب بها إلى اللغة العربية.

بمحاولة تتبع أصول هذا الرجل كما أوردها الكثيرون، فقد بات معروفاً أنه ولد لأب يمني حضرمي، وأم اختُلف على نسبها إن كانت حضرمية أم زنجبارية. ولد الطفل عام 1948 في المحمية البريطانية زنجبار بعد هجرة والديه إليها. عام 1963 سوف تستقل جزيرة زنجبار، لتنضم بعدها إلى تانجانيقا وتشكلا معاً جمهورية تانزانيا الاتحادية، وكما هو واضح، فإن اسم الجمهورية الجديدة منحوت من حرفين من كلٍّ من طرفي الاتحاد. أردت إيراد هذا الإيجاز عن تانزانيا لأزيد الإشكال في أصول الرجل وتحديد هويته. فهل هو يمني أم زنجباري أم تانزاني أم بريطاني بحسب جنسيته واستقراره المديد في ذاك البلد الأخير؟

بالعودة إلى رومانسية مقطع الشاعر هولدرلين. من أين نأتي بذاك المواطن والرجل السعيد المستقر في بيت، في وطن معروف، حتى تضيء له سماؤه بصورة أجمل؟ من أين نأتي به في عالمنا ذي السماوات الغائمة التي لا تشبه في شيء سماء هولدرلين الصافية؟ نحن نعلم، منذ بدء التاريخ المدون، عن تغير خرائط الأمم والإمبراطوريات والممالك، وهجرات الأفراد وحتى الشعوب، من جغرافيا إلى أخرى، عرفوا خلالها أكثر من وطن وأكثر من سماء. بعد جيل آخر سينسى أبناء صاحب نوبل وأحفاده أن كنية جدهم الأصلية كانت “قرنح”، هذا إن استقروا في بلدهم الحالي، ولم ينتقلوا في هجرة أخرى ويضطروا مرة أخرى لتبديل كنيتهم الحالية، مع افتراضنا أنهم اليوم ما زالوا يكترثون لأصول عائلتهم تاريخياَ.

في العالم أجمع، وعلى نحو خاص في منطقتنا، كانت الهجرات هي الحالة الأعم للأشخاص، ولو تحدثنا عن سوريا تحديداً فسوف نجد أنها كانت عبر تاريخها، وما زالت “كوريدور” للهجرات، منها بسبب الكوارث التي حلت في عديد من المحطات التاريخية، والأغلب بسبب تغييرات الحدود، فقبل نحو قرن كنا جميعاً نحمل هويات السلطنة العثمانية، ومنذ تلك الفترة وما قبلها توزع مئات الآلاف من سكان المنطقة في أربع جهات الأرض وتغيرت أسماؤهم وكنياتهم، ومعظمهم اليوم لا يجيد اللغة العربية، إن لم يكن قد نسي كل هذا الانتماء أصلاً. وفي كثير من الحالات هناك سوريون من غير العرب قد اضطروا بسبب التمييز القومي والعنصرية إلى تبديل أسمائهم وكنياتهم، ومنعوا حتى من الحديث بلغتهم الأم، الكرد السوريون أسطع الأمثلة.

اليوم بعد عشر سنوات من ثورة السوريين، وتهجير وهجرة الملايين منهم إلى العديد من دول العالم، فإن الكثيرين منهم بدؤوا يحصلون على جنسيات بلدانهم الجديدة، وقد يكون محرجاً أن نستعرض كم منهم قد غيروا أسماءهم وكنياتهم، ليس لقلّة الأصالة فيهم، وإنما بهدف التعايش مع تلك المجتمعات الجديدة، وربما بسبب طبيعة لغات تلك البلدان. بعد جيلين أو ثلاثة قد ينسى أحفاد هؤلاء أنهم سوريون، وسوف ينخرطون بهموم ومشكلات وسياسات مجتمعاتهم الجديدة، وهذا من طبيعة الأمور. أعتبر نفسي شخصياً مثالاً جيداً في هذا الحقل. جدي المباشر هاجر مع والده من موطنه الأصلي واستقرا في سوريا، بعد توقف في تركيا لسنوات قليلة. أنا اليوم أكتب باللغة العربية ولا أجيد الكتابة بغيرها، وفي اهتماماتي العامة فقد انخرطت طوال حياتي حتى أذني في انتمائي السوري اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ولم أكن أتابع من أخبار وطن أجدادي إلا ما يرد بين فترة وأخرى عبر نشرات الأخبار، أتابعها كما أتابع كل الأخبار الدولية. هل من الطريف الذكر أنه لو لم يهاجر جدي، كنت سأكتب مادتي هذه باللغة الروسية، ولو لم يتابع الهجرة من محطته الأولى لكنت اليوم أكتبها بالتركية. أنا اليوم كملايين السوريين الذين هجّرتهم مجازر الأسد، لا أعلم بأي لغة سيتحدث أحفادي وأبناؤهم.

تلفتني غالباً الأخبار العلمية الخفيفة عن تحليلات DNA لبعض الأشخاص بهدف معرفة خارطتهم الوراثية، وأتابع بطرافة كيف أنه ليس هناك من سلالات صافية، وكيف يتفاجأ البعض أن في جيناتهم أصولا لأعراق لم يتوقعوها. أحياناً يكره صاحب التحليل النتائج على أرضيّة عنصرية، فهو يستنكر بل ولا يريد أن تكون في جيناته أصول أفريقية أو عربية أو يهودية. أعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن لجنة نوبل لم تُقِم لانتماء الرجل، أفريقي مسلم من أصول عربية، أي اعتبار. هو فاز بحسب بيان الجائزة بسبب سرده المتعاطف مع مصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات، مع إشادة البيان بتمسكه المتفاني بالحقيقة وإحجامه المذهل عن التبسيط. البيان لم يذكر أية إشارة إلى دينه أو عرقه أو قوميته. فقط نحن انشغلنا بها.

تلفزيون سوريا

———————————-

الراية السياسية التي سيكون على أديب نوبل أن يحملها!/ سليمان جودة

اعتذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن خوض السباق الانتخابي الذي جرى في السادس والعشرين من الشهر الماضي، فصارت تُوصف في الإعلام بأنها المستشارة المنتهية ولايتها، وأصبحت تقف في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة، لتنصرف إلى بيتها، حيث ستفكر هناك في لا شيء، على حد تعبيرها عندما سألوها عما ستفعله بعد المغادرة.

وفي هذا الشهر أعلنت لجنة جائزة نوبل في السويد، فوز الكاتب التنزاني عبد الرزاق غورنا بالجائزة في مجال الأدب.

والذين طالعوا شيئاً من سيرة غورنا، اكتشفوا أنه تنزاني من حيث النشأة وفقط، ومن حيث الأصول ولا شيء غير ذلك، لأنه إذا كان يخطو اليوم نحو الثالثة والسبعين من العمر، فلقد غادر أرخبيل زنجبار التنزاني في نهاية الستينات من القرن العشرين.

والمعنى أن وعيه تفتح في بريطانيا التي هاجر إليها في ذلك الزمان البعيد، ثم المعنى أيضاً أن تنزانيا بالنسبة له تبدو صورة شاحبة المعالم لا يكاد يظهر فيها ملمح واضح. ولكن هذا على كل حال يظل قصة أخرى، وهي قصة تطرح سؤالاً عما إذا كان من الممكن النظر إلى جائزته على أنها جائزة للقارة السمراء المتمثلة فيه، باعتباره واحداً من أبنائها الذين يتحدثون لغاتها المتعددة، أم أنها جائزة لبريطانيا التي يتكلم لغتها ويكتب بها منذ ما يزيد على نصف القرن؟!

سبب السؤال أن منصات إعلامية راحت تقارن بينه بعد فوزه، وبين نجيب محفوظ الذي حاز الجائزة نفسها في 1988، وكان أساس المقارنة أنهما ينتميان إلى أفريقيا، وأن مصر وتنزانيا يجمعهما حوض واحد في القارة هو حوض نهر النيل، وبينهما بالتالي أكثر من رابط على مستوى القارة والحوض، ولو توقفت المقارنة عند هذا الحد فلا مشكلة تقريباً.

المشكلة سوف تنشأ إذا كان أساس المقارنة هو انغماس كل واحد منهما في قضايا مجتمعه العريض بالدرجة نفسها، والكيفية ذاتها. هنا سوف لا تستقيم المقارنة، وسوف تكون غير متكافئة، لأن محفوظ الذي عاش 95 سنة، قضاها كلها في بلده فلم يغادره في حياته سوى ثلاث مرات، إحداها كانت إلى اليمن، والثانية جاءت إلى يوغوسلافيا، والثالثة كانت إلى لندن للعلاج، ولولا حاجته إلى العلاج لكان دفتر أسفاره قد اقتصر على اليمن ويوغوسلافيا اللذين زارهما شبه مضطر.

فأين هذا من عبد الرزاق الذي لم يبدأ الكتابة إلا بعد أن غادر بلاده، والذي يقيم في بلاد الإنجليز ولا يغادرها إلى بلده الأم، إلا لزيارة هي أقرب إلى زيارة السائح العابر منها إلى أي شيء آخر؟!

ومع ذلك، فليس هذا هو موضوعنا الأساسي، لأن الموضوع هو تلك الصلة الخفية التي جعلت مغادرة ميركل دار المستشارية تأتي في سبتمبر (أيلول)، وجعلت فوز غورنا يأتي في أكتوبر (تشرين الأول)، وجعلت ملفاً محدداً من الملفات الدولية المثارة هذه الأيام في أرجاء الأرض، يربط بينهما من دون سابق موعد وبغير سابق اتفاق.

وقد بدا الأمر في إطاره العام، وكأن الأقدار قد رتبت أن تسلم المستشارة المنتهية ولايتها أوراق الملف إلى أديب نوبل، الذي سيكون عليه أن يتولاه كما فعلت هي، أو على الأقل يحتفظ به في عهدته إلى أن يبعث الله له سياسياً أوروبياً آخر في قوة المستشارة المغادرة وفي بأسها!

الملف هو ملف الهجرة إلى أوروبا ولا ملف سواه، والذي لا تزال موجاته الأفريقية وغير الأفريقية تضرب أوروبا على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط.

ورغم أن ألمانيا لا تطل على هذا البحر، فإنها كانت تقريباً صاحبة النصيب الأكبر من المهاجرين الذين تدفقوا على أراضيها، وكان تدفقهم أو حتى السماح بعبورهم إلى أرض الألمان موضع خلاف كبير بين ميركل، وبين بقية الساسة في بلادها. كانت هي تتحمس لاستقبالهم، وترحب بوجودهم، وتصرف لهم المساعدات والإعانات، وتعمل على دمجهم في البلد وفي نسيجه العام، وكان الساسة المنافسون على الجانب الثاني لا يرحبون، ولا يشجعون، ولا يرون في المهاجرين ما يستدعي المساعدة، أو يستوجب الاستقبال والمساندة.

لم تكن المستشارة تتنازل عن رأيها، ولا كانت تتراجع عن سياستها المعلنة، وسواء كانت تفعل ذلك عن أسباب سياسية أو إنسانية، فإن الحصيلة كانت واحدة في الحالتين، وهي أن مهاجرين لجأوا إلى ألمانيا مرغمين، وأنهم صادفوا سياسية قوية مثل ميركل تحنو عليهم، وتتلقاهم، وتفتح أمامهم الأبواب!

وهناك بالطبع كثيرون يقدمون الأسباب السياسية على الإنسانية، عند تقييم السياسة الميركلية في هذا الملف، وهؤلاء الذين يرون هذا الرأي يبررون رأيهم فيقولون إن نسبة العجائز بين الألمان كبيرة، وأن الذين يستطيعون العمل بينهم قليلون، وأن ذلك كان يقلق المستشارة التي رأت في مجيء المهاجرين حلاً مؤقتاً يسعف سوق العمل إلى أن يكون في الإمكان حل آخر.

وهذه وجهة نظر صحيحة نظرياً، وهي منطقية في مجملها، والأرقام في التركيبة السكانية الألمانية تدعمها وتؤيدها، ولكن الحقيقة أن ميركل لم تتحدث فيها، ولم تتوقف عندها، وكانت تميل إلى الجانب الإنساني في الموضوع، إذا ما وجدت أن عليها أن تبرر ترحيبها بالمهاجرين.

ومن الوارد أنها كانت تهدف إلى شيء من وراء ترحيبها بهم، ثم تتحدث عن شيء آخر سواه عند الضرورة، ولكن ما يهمنا في القضية هو الظاهر منها، لا المختبئ في النوايا وراء الأستار.

وقد كشف غورنا بعد فوزه عن أنه يؤمن في الموضوع، بما تؤمن به المستشارة في مسألة المهاجرين بالضبط، فأطلق عبارتين كانت كل عبارة منهما كفيلة بأن تضعه إلى جوار ميركل رأساً برأس في نظر كل مهاجر، لولا أن أحداً لم يكن ينتبه إلى رأيه قبل أن تأتيه نوبل التي ركزت عليه الأضواء، وجعلت كل كلمة ينطق بها تأخذ طريقها إلى صدر الشاشات والصفحات!

قال في عبارتيه إن المهاجر يبقى ثروة في حد ذاته، وإنه لا يذهب إلى ألمانيا ولا إلى سواها من دول أوروبا فارغ اليدين، وإنما يذهب وعنده ما يقدمه بالفعل إلى البلد الذي يهاجر إليه، وإن هذه النظرة هي التي لا بد أن تحكم الأوروبيين إذا ما تطلعوا إلى أعداد المهاجرين.

ومن بعد ميركل حين تتشكل الحكومة الجديدة في برلين، سوف لا يجد المهاجرون أحداً من الساسة في القارة العجوز يتطلع إليهم كما كانت المستشارة تفعل، وسوف لا يكون في العالم صوت مسموع يتبنى هذه النظرة ويدافع عنها، اللهم إلا عبد الرزاق غورنا، ليس لأنه كاتب تنزاني أو حتى بريطاني، وإنما لأنه حائز نوبل التي ستعطيه أهمية منذ اليوم، وستعطي كلامه أهمية أيضاً، وستجعل ما يقوله محل إنصات سواء كان في قضية الهجرة أو في غيرها من القضايا.

هذا ما سوف يظل يربط بين السياسية الألمانية الشجاعة، وبين أديب نوبل الذي سيكون عليه أن يخلفها في شجاعتها، ثم في إيمانها بالقضية التي عاشت سنين تتحصن في موقع الدفاع عنها، وسيكون عليه أن يحمل رايتها إلى حين على المستوى السياسي بالمعنى المباشر، وسيكون ذلك مضافاً إلى المستوى الأدبي لديه كما عاش يفعل منذ أن بدأ يكتب!

الشرق الأوسط

————————-

==================

تحديث 15 تشرين الأول 2021

————————-

«السرد غير المهادن» وتوسيع المركزية الغربية/ محمد سامي الكيال

تثير الجوائز الثقافية والأدبية دوماً كثيراً من الجدل، والاتهامات بالتحيّز على أسس سياسية وأيديولوجية وعرقية وجندرية. وهي اتهامات من الصعب تجاوزها، لكن المجال الثقافي أساساً قد يكون، من حيث بنيته وآلياته، الموطن الطبيعي لكل أشكال «التحيّز». إذ لا يمكن فصل أنماط التلقي، والقيم الجمالية بحد ذاتها، عن سياقات تاريخية، تشهد نزاعاً وجدلاً بين فاعلين وفئات اجتماعية متعددة، وبالتالي فمن يمنح دعماً أو اعترافاً بعمل ثقافي معيّن، لا يفعل ذلك غالباً بناء على معطيات جمالية متعالية عن السياسة والمجتمع، بل «يتحيّز» بكل وضوح، لغايات تتعلق بموقعه الاجتماعي.

يرتبط هذا بما يمكن تسميته البنية التحتية للإنتاج الثقافي، خاصة في الشرط الحديث، فتلقي الأعمال الأدبية والفنية لا يتم بشكل مباشر بين منتج العمل ومتلقيه. كما كان يحدث مثلاً مع الفرق الفنية الجوّالة في القرون المنصرمة، التي كانت تجوب الأرياف لتسلية الفلاحين، بل يتم بواسطة سلسلة كثيفة من المؤسسات المادية، التي تسعى لإنتاج الحس الجمالي والمزاج الثقافي للعموم. مثل دعم الدول لاتجاهات ثقافية معينة؛ التعليم العام والاختصاصي؛ عمل المؤسسات الإعلامية والثقافية العامة والخاصة والمنظمات غير الحكومية؛ الصحافة والنقد الفني والأدبي. باختصار كل مؤسسات الحيز العام، وهي موطن التداول والنزاع بين مختلف القوى الاجتماعية، ومجال فرض الهيمنة الأيديولوجية. لا يعني هذا بالتأكيد رد الجماليات بالكامل إلى عوامل سياسية واجتماعية، لكنه يشرح أسباب سيادة تفضيل جمالي معيّن في عصر وشرط اجتماعي ما.

في حالة الجوائز الأدبية تمتزج الاعتبارات المتعلقة بصناعة الثقافة بالعوامل الأيديولوجية بشكل لا يمكن فصله: تنشّط الجوائز سوق النشر، وتؤسس جمهوراً متعطشاً للاطلاع على أعمال المبدعين، الذين نالوا التكريس. وذلك التنشيط، الذي يحافظ على الصناعة ويطوّرها، يحفّز بدوره رؤى وتوجهات وقيماً، ترى الجهات المشرفة على الإنتاج الثقافي أنها يجب أن تسود.

ربما يُمكّننا المنظور المشروح أعلاه، من طرح أسئلة مفيدة عن الجدل الذي أثاره منح الأديب التنزاني عبد الرزاق غورناه (أو غورناه) جائزة نوبل للآداب. فالجائزة، المُتهمة دوماً بتمثيل الانحيازات الغربية البيضاء، مُنحت هذا العام لكاتب افريقي أسود مسلم ذي أصول عربية. لا يتهاون، حسب بيان الجائزة نفسها، مع «مخلفات الاستعمار». هل نحن هنا أمام تغيّر جذري في توجهات الجائزة؟ أم هي مجرد حركة تزيينية، لإرضاء المنتقدين؟ أو بالأحرى: ما الذي يكشفه الميل الأيديولوجي المستجد للأكاديمية السويدية عن الثقافة السائدة المعاصرة؟ لا أسئلة هنا عن الأدب نفسه. فالتلقي، العربي بالخصوص، سيواجه صعوبات كبيرة في التذوق المجرّد لجماليات غورناه، مع كل تلك الحمولة الأيديولوجية لفوزه بالجائزة.

إعادة مركزة المركزية

يمكن ملاحظة تناقض مهم في الانتقادات التي تطال جائزة نوبل الأدبية كل عام: يقول المنتقدون إن نوبل فضّلت دائماً الذكور البيض عبر تاريخها. ولم تر أبعد من القارة الأوروبية واستطالاتها في العالم الجديد، إلا في مرات معدودة، ومع كتّاب استطاعوا أن يلاقوا هوى في نفوس الغربيين، مثل طاغور الذي بات أشبه بـ«كيتش» عن الحكمة الهندية في الغرب، ونجيب محفوظ المتهم بشرائه لرضى اللجنة المانحة للجائزة عن طريق الترحيب بالسلام مع إسرائيل.

وسم الجائزة بالمركزية الغربية، يستلزم منطقياً رفضها ومقاطعتها من قبل كل الساعين لتجاوز تلك المركزية، وعدم الانشغال كثيراً بها وبحيثياتها، لحساب إيجاد بديل عنها، يوصل أصوات من همشتهم طويلاً.. وهو أمر ممكن من الناحية المادية البحتة، إذ يوجد كثير من الدول، مثل الصين ودول الخليج العربي وروسيا وإيران، قادرة على رصد مكافآت مالية كبرى للأدباء المتمردين على المركزية. إلا أن تلك الدول لا تمتلك هيمنة ثقافية عالمية كافية لمنح الانتشار والقبول للكتاب الذين تكرّمهم. تبقى دولة أوروبية مثل السويد، لا يتجاوز عدد سكانها العشرة ملايين بكثير، الأقدر على ذلك، وذلك يتعلق أساساً بطبيعة الأدب الحديث نفسه: الأشكال المعاصرة للكتابة نشأت بشكلها الحالي في الغرب، بما في ذلك الشعر الحديث نفسه، فما بالك بالرواية، القالب الأكثر ارتباطاً بالتمدن والتحديث والحيز العام البورجوازي، وبالتالي فعندما نتحدث عن أديب وصل إلى «العالمية» فالمقصود هنا أنه نال القبول في المركز الذي شهد بروز حرفته الأدبية.

لا شيء في نقد نوبل إذن يتعلق بمواجهة المركزية الغربية، بل على العكس، الأمر يتعلق بما يمكن تسميته إعادة مركزة المركزية، أي تقوية وتوسيع قدرة الغرب على فرض معايير القبول والانتشار، لتشمل ثقافات وفئات وأعراق أكثر. تجد، أخيراً، الاعتراف المنتظر لدى الغرب/المركز، الذي طالت قسوته عليها.

يمكن نقد هذا بصورة أفضل بالعودة إلى مشاريع التفكيك، وبعد الكولونيالية في صيغتها الأولى، أي قبل أن تصبح جانباً من «دراسات التظلّم» الأمريكية: أدرك مفكرو هذا التيار أن التحرر الوطني نفسه، المناهض للمركزية الغربية، هو من منتجاتها بشكل من الأشكال، ونتيجة طبقات متراكمة من عمليات الإخضاع والتحديث الاستعماري، ولذلك فالأجدى، بدلاً من البحث عن «إصالة» غير غربية مفترضة، يستحيل الوصول إليها في الشرط بعد الكولونيالي، تفكيك الخطاب الغربي نفسه، و»تلغيمه» بأصوات وتجارب مقبلة من الهامش. يمكن اعتبار أدب الكاتب الهندي سلمان رشدي خير مثال على ذلك، والهدف آنذاك لم يكن إعادة مركزة المركزية، بل تكثير المنظورات والرؤى في عالم وحّدته الكولونيالية بالفعل، فصار من الممكن اللعب على معاييرها وقيمها، وإنتاج نصوص متعددة الدلالة، تكسر الاستقرار والوحدة المصطنعين للنص الإمبريالي.

التعامل مع نوبل وغيرها بمنطق التظلّم، يوصل بطريق مباشر إلى إعادة مركزة المركزية، وكأن المتظلمين يقولون: «نحن ضحاياكم. أرجوكم اعترفوا بنا في مؤسساتكم المكرّسة. وإلا ستكونون مركزيين». التناقض الطريف هنا أنه كيف يمكنك أن تطالب من تعتبرهم أصلاً مركزيين بكسر المركزية؟ ألا يعني هذا أن تجاوز المركزية نفسه بات من امتيازات المركز؟

«غير مهادن»

تقول الهيئة المانحة لنوبل إن سرد غورناه «يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار، ومصير اللاجئين العالقين بين القارات والثقافات». في الواقع لا يقول هذا شيئاً عن أدب الكاتب التنزاني بحد ذاته، فخطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والجزائري هواري بومدين مثلاً، كانت أيضاً «خالية من المساومة» دون أن يفكر أحد بالتأكيد بمنحهما جوائز أدبية. كما أن أي ناشط في منظمة غير حكومية مهتم بـ«مصير اللاجئين العالقين» وهذا أمر لا يستحق تكريم الأكاديمية السويدية.

ما يقوله بيان نوبل بشكل واضح، إن أيديولوجيا «التمكين» السائدة حالياً باتت مستوعبة بشكل كامل لدى الأكاديمية، التي كانت دوماً الأكثر حساسية للتقلبات السياسية والأيديولوجية عبر تاريخها، فهي من منح، إبان الحرب الباردة، منشقاً روسياً مثل ألكسندر سولجنيتسين أكبر جوائزها، بعد أن منحتها لأديب مرضي عنه سوفيتياً مثل ميخائيل شولوخوف، عند الانفراج الجزئي في العلاقات الأمريكية السوفييتية في منتصف الستينيات.

غورناه من جهته ليس أديباً مهمشاً للدرجة التي يتصورها البعض، فهو مقيم في أوروبا ويكتب بالإنكليزية، وأستاذ جامعي متخصص بما بعد الكولونيالية. وقد تمت ترجمته سابقاً للغات عديدة، خمس من روايته مثلاً ترجمت للألمانية ابتداءً من منتصف التسعينيات.

«السرد غير المهادن» بهذا المعنى يدل على إصرار صلب على جعل أصوات أدبية من هذا النوع جزءاً أساسياً من الأيديولوجيا الغربية السائدة عالمياً. وهذا مآل حزين لمشاريع النقد بعد الكولونيالي: بدلاً من تفكيك النص الغربي المركزي، نجح الأخير بدمج الأصوات التي حاولت تفكيكه في بنيته، بل صار نثرها اللغة الأساسية للبيانات، التي تكتبها أكثر المؤسسات الغربية مركزيةً و«بياضاً».

محاولات الانفلات

لكن هل توجد إمكانية فعلية للانفلات من النص المركزي الغربي؟ يذكّر هذا بالنكتة الفلسفية الشهيرة، عن أن كل من يحاول تجاوز هيغل سينتهي به الأمر هيغلياً مشوهاً. وبنقد جاك دريدا لكتاب ميشيل فوكو عن «تاريخ الجنون»: لا يمكنك أن تكتب تاريخاً للجنون بلغة العقل والمنطق والتأليف الأكاديمي، أي بلغة السجّان الذي اعتقل المجانين في مصحات الطب النفسي، والمحاولة لن تقود إلا إلى إعادة موضعة العقل والجنون في ثنائية جديدة، تؤكد مركزية العقل مرة أخرى. كما لا يبدو أن العودة لمشاريع دريدا نفسه عن التفكيك، التي ألهمت عدداً من مفكري بعد الكولونيالية، ستكون مجدية. فكثيرون جربوا، ومحاولاتهم ساهمت في إيصالنا لوضعنا الأيديولوجي الراهن.

ربما كان الأجدى تجاوز سؤال «المركزية» نفسه. وألا يركّز الأدباء والمثقفون على أن يكون سردهم مهادناً أو غير مهادن للاستعمار والرجل الأبيض. ففي أيامنا أسئلة جديدة، قد تكون أكثر ثراءً. ولعل من أهمها: كيف تكتب نصاً يطرح إشكاليات أكثر تعقيداً من أن تتمكن الأكاديمية السويدية أو غيرها من وصفه ببيان مبتذل؟

كاتب سوري

القدس العربي

————————-

إنها امبراطورية نوبل الأدبية… أليست كذلك؟/ لطفية الدليمي

إمبراطورية نوبل الأدبية !! هل يبدو هذا العنوان الصادم متفقاً مع لافتة تتشح بها أعظم جائزة عالمية يتسابق عليها الجميع – أفراداً وبلداناً – ؛ بل قد يتصارعون أحياناً لأنها الكفالة المضمونة بولوج جنة الخلود الموعودة مع كلّ امتيازاتها الاعتبارية والمادية ؟ أرى العنوان من جانبي في الأقل متفقاً كتوصيف عادل مع نوبل الأدب. نعم، صارت نوبل الأدب – وليس سواها من الجوائز النوبلية – إمبراطورية تشوبها علل كلّ الإمبراطوريات التي نعرف. كنّا حتى عقدٍ من السنوات، ومع اقتراب الموعد السنوي الثابت للإعلان عن جائزة نوبل للآداب، نترقبُ بشيء من المتعة والشغف هذا الماراثون الأدبي ونحن نتوقع فوز كاتبنا المفضل وسط موجات صاخبة حول توقعات الصحافة الأدبية في العالم وتوقع سوق الرهانات – الأقرب لرهانات سباق الخيل – عمّن سيكون صاحب الحظوة في نيل التكريم العالمي الأرفع بجائزة نوبل التي ستكفل للفائز شهرة غير مسبوقة مع الامتيازات المترتّبة عليها. لم يكن مثل هذا الصخب مع جوائز الطب أو الفيزياء أو الكيمياء أو الاقتصاد ؛ فثمة اتفاق شبه محسوم على أحقية الفائزين فيها. معيار النزاهة في نوبل العلوم تكاد أن تكون مطلقة ؛ أما في نوبل الأدب فثمة ظلال ودهاليز ومسالك معتمة.

تعدّت نوبل الأدب – بالتحديد – كونها امتيازاً فردياً لتصبح اكسسواراً لازماً تسعى له الدول لاستكمال مستلزمات هيبتها الجيوبوليتيكية. ” قنبلة ذرية ونوبل الأدب ” : هذا ماتسعى له كلّ دولة باعتبار أنّ القنبلة الذرية إشارة إلى القدرة العلمية الضاربة، ونوبل الأدب إشارة إلى التسامي الروحي في نطاق الرأسمال الرمزي ؛ ولأجل نيل الامتياز الروحي النوبلي توظفُ كل دولة أي قدرة متاحة لها للحصول على نوبل الأدب، وثمة حكايات مخزية ومشينة في هذا الشأن تطعن نزاهة نوبل الأدب يمكن للقارئ أن يعرف بعضاً منها إذا ماقرأ الموضوع المنشور في الصفحة الثقافية بالقدس العربي بتأريخ 8 أكتوبر 2019 تحت عنوان ( كواليس نوبل للأدب : رشاوى، وضغوط، وتآمر، وصفقات ). الأمر ليس بجديد ؛ بل حتى أن تشرشل يمكن أن يكون له يدٌ في هذا الشأن. كيف ؟ سأتركُ الأمر للقارئ لكي يقرأ المقالة أعلاه المدعومة بشهادات من أفراد ينتمون للإمبراطورية النوبلية.

تتمحور الموضوعة الخلافية التي أريدها مدخلاً لتأشير الخلل الخطير الذي أصاب نوبل الآداب في معيار النزاهة المؤسسة على قدر كافٍ ومتفق عليه من الموضوعية في تقييم كلّ من الإنجازات العلمية والأدبية، وهنا سيسارع الكثيرون لتأكيد تلك المقولات الشائعة بشأن “موضوعية العلم وذاتية الأدب” التي لم تعُد تُحسَبُ سوى مقولة رثّة عتيقة يتعكّز عليها بعض قليلي الموهبة والعمل الجاد في محاولة تمريرهم لأعمال تفتقد الحدّ الأدنى المقبول من الرصانة تحت لافتة أنّ الأدب فرشة واسعة تتحمّلُ قول أي شيء وكل شيء.

إنّ أصل الإشكالية في نوبل الأدب في مقابل نزاهة نوبل العلوم ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب ؛ بل يعود إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ منهما : لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب مزادات التصويت للأسماء المرشّحة ؛ بل ثمّة على العكس شبه إجماع على الأسماء المستحقّة للفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد – باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مثلبة لن تسلم منها نوبل -، وواضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكةً من دور النشر والعلاقات التجارية المحكومة باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المرتجاة.

لنخصّصْ حديثنا الآن لنوبل الأدب 2021 وملكها المتوّج . ذهبت السكرة وحان وقت العمل الذي يسابق الزمن لاقتناص فرصة لاتجود بها إمبراطورية نوبل الأدبية إلا مرّة كل عام ؛ إذ لاتكاد تمرّ سويعات على إعلان اسم الملك المطوّب على رأس مملكة الأدب حتى يسارع المستفيدون في ترتيب أجندتهم القادمة : طبعات جديدة من أعمال قديمة للفائز نُشِرت ببضعة آلاف وهاهي جاهزة للنشر بالملايين. إنه موسم (بزنس) في نهاية المطاف، ولاضير في هذا أبداً طالما اعتمد معايير النزاهة.

عرفتُ اسم الفائز النوبلي بجائزة الأدب 2021، عبد الرزاق غورناه (أو قرنح أو قرنة أو جرنة أو سواها ماشئت من الأشكال) قبل نحوٍ من عشر سنوات عندما كنتُ أشتغلُ على ترجمة كتاب (مقدّمة كامبردج في الآداب مابعد الكولونيالية). توقفتُ كثيراً عند إسمين هما Abdulrazak Gurnah و Aijaz Ahmed وردا في الفصل الأخير المسمّى ( أطفال العالم ) ضمن أسماء كثيرة يعرفها المتمرسون في حقل الدراسات الاستشراقية ومابعد الكولونيالية، وجُلّهُم من التلاميذ الخلّص لإدوارد سعيد حتى لو إختلفوا معه لاحقاً. قضيتُ أوقاتاً ليست بالقليلة في معرفة الجذر الاشتقاقي ( الإثنولوجي ) لكلا الإسميْن السابقين، كما قرأت مواد تختص بكلّ منهما وبالطريقة ذاتها التي فعلتها – وأفعلها – مع كل اسمٍ جديد يُعْرَضُ لي في سياق ترجمة كتاب أو مقالة أو حوار.

عبد الرزاق غورناه

أثارت فيّ مسألة فوز عبد الرزاق غورناه جملة من الموضوعات الإشكالية سأتناولها في سياق سريع :

أولاً : ليس الجهل بِـ (عبد الرزاق غورناه) قبل فوزه بنوبل الأدب مثلبة أو دالة على جهلنا المفترض وبخاصة لدى عموم القراء. لماذا نريدُ من قارئنا العربي أن يكون غولاً معرفياً يحيطُ بكلّ الأسماء الأدبية أو الثقافية العالمية وبخاصة أنّ دور النشر العربية لم تترجم له شيئاً من قبلُ ؟ هل يعرفُ كل القرّاء الغربيين نجيب محفوظ الذي حصل على نوبل الأدب قبل أكثر من ثلاثين سنة ؟ معرفة أسماء الأدباء والروائيين المعاصرين ليست إشارة إلى سعة الثقافة أو شرطاً لها. لم يسمع الكثير من القرّاء العرب مثلاً بالروائية الايرلندية (سالي روني Sally Rooney) التي حققت أعلى المبيعات خلال السنوات القليلة الأخيرة، وهذا أمر بديهي لأنّ اعمالها لم تُتَرجم حتى اليوم، وحتى لو تُرْجِمت فليس شرطاً أن يقرأها الجميع. هل القارئ العربي مطلوب منه أن يكون قارئاً حصرياً للرواية دون سواها من الألوان المعرفية ؟ وحتى لو كان قارئاً حصرياً للرواية فلن يواكب الأسماء الجديدة التي تطلّ علينا كل عام. أنا روائية ومُتابِعة وأحكي عن معرفة وثيقة في هذا الميدان. كفى ظلماً للقارئ العربي، ولاتزيدوا أعباء الحياة القاسية على كاهله.

يصوّرُ لنا البعض أنّ القرّاء الغربيين كانوا يقفون بالطوابير منذ الصباح الباكر ( مثلما يفعلون مع كلّ إصدار جديد للآيفون مثلاً ) عقب الإعلان عن كلّ رواية جديدة لعبد الرزاق غورناه. هذا أمر لم يحصل أبداً، ولن يحصل حتى بعد إعلان فوزه بنوبل الأدب 2021. ستزيد مبيعات كتبه بالتأكيد، وستنشط حركة ترجمتها إل لغات عديدة ؛ لن يكون في الأمر تسونامي أدبي. من جانب آخر تقصّدتُ البحث عن ناشر روايات غورناه العشرة فوجدتها داراً واحدة هي ( بلومزبري Bloomsbury) وهي وإن كانت دار نشر محترمة لكنها لاترقى بأي حال من الاحوال لكبريات دور النشر العالمية المعروفة.

ثانياً : جرّب أن ترفع إسم ( عبد الرزاق غورناه ) من ديباجة الإعلان النوبلي الذي كرّس فوزه، وضع بدلاً عنه ( نغوغي واثيونغو، أو تشيماماندا نغوزي أديتشي، أو بن أوكري، أو تسي تسي دانغاريمبكا ـ أو جامايكا كينكايد ” مع تحويرات مناطقية محسوبة “،،،، إلخ) ولن يحصل كبير فرق في الديباجة. المسألة كيفية وانطباعية وعمومية إلى حد كبير.

ثالثاً : يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit. لن أقتنع يوماً – وأحسبُ كثيرين يشاركونني في قناعتي هذه – أنّ عبد الرزاق غورناه أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا. ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير مانرى، ولو فعلوا فأحسبهم سيكذبون. المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس. لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي (ضياء حيدر رحمن) الذي كتب روايته المبهرة (في ضوء مانعرفه) أكثر استحقاقاً لنوبل الأدب. تذكروا منذ اليوم هذا الاسم ( ضياء حيدر رحمن ) الذي قد يحوز الجائزة بعد عشرين أو ثلاثين سنة. تذكروه حتى لايتهمكم أحد بالجهالة حينها !.

رابعاً : سيفرحُ البعض بأنّ عبد الرزاق غورناه ذو جذور عربية يمنية. هؤلاء شبيهون بالقرعاء التي تتباهى بشعر بنت عمها. دعونا من هذه المخادعات السايكولوجية. غورناه لايعرف الحديث والكتابة سوى باللغة الإنكليزية (الكولونيالية!!) مضافاً لها السواحلية ؛ فعلام تهلّلون؟ حتى كبارُ الأدباء الأفارقة من المرشحين الدائمين على قوائم نوبل الأدب هم من أساتذة كبريات الجامعات الغربية، ولهم باعٌ في حقل دراسات التعددية الثقافية ومابعد الكولونيالية. ربما سيكون مشهداً ديستوبياً كالحاً لانتمناه لأشقى الأشقياء أن نتخيل حال عبد الرزاق غورناه لو كان في اليمن يجاهد للحفاظ على حياته وسط الجحيم الانساني المروّع. هل كانت ستأتيه نوبل الأدب حينها ؟

خامساً : لو كان ثمة حَسَنَةٌ تعزى لنوبل الأدب 2021 فهي أنها ستساهمُ في إعلاء إسمٍ سيفيده المليون من الدولارات النوبلية – فضلاً عن المترتبات المالية لحقوق التوزيعات الجديدة من كتبه السابقة – في عيش حياة مسترخية من الناحية المالية. ماالذي كانت مارغريت آتوود – مثلاً – ستفعله بملايين إضافية؟ لاأرى أنّ الشهرة والمال النوبليين كانا سيسعدانها وهي ترتشف قهوتها الصباحية في منزلها الكندي الفخم أو في منزلها اللندني المبني على طراز عمارة قصور القرن الثامن عشر.

سادساً : يبدو أنّ دور النشر العالمية قد استنفدت مصالحها المالية مع كبار الروائيين المعروفين ولم يعُد متّسعٌ لحلب المزيد من الاموال، وسيكون من المنطقي رفع أسماء جديدة إلى مصاف عرش المملكة الأدبية بواسطة الرافعة النوبلية ؛ الامر الذي سيحرّك موجة خامدة من المصالح المالية المتوزّعة على كبار الناشرين. كم سيحصل الفائز النوبلي ؟ سيحصل نسبة قليلة مهما تعاظمت من الارباح المتوقعة.الأمور محسوبة بدقة (شايلوك ) ينتمي للقرن الحادي والعشرين. حمداً لله أنّ الشايلوكات المعاصرين لايطلبون أرطالاً من لحومنا بل يكتفون بدولاراتنا!!

سابعاً : سيثير الكثيرون من أتباع اليسار الجديد ضجيجاً عن قيم العدالة والمساواة المطلوبة في معايير نوبل الأدب، ويرى هؤلاء أن الجائزة غالت كثيراً في إعلاء شأن المراكز الثقافية على حساب الأطراف، متناسين الأسماء العديدة الآسيوية والإفريقية التي فازت بنوبل الأدبية منذ عقود بعيدة. أقترحُ حلاً لهذه الإشكالية أن تعتمد نوبل الأدب ستراتيجية المحاصصة الثلاثية : أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية، واحدة لكاتب، وثانية لكاتبة، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بالهوامش الثقافية ( آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية حصرياً ). لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من اسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى ( أحياناً ) السلام والإقتصاد ؟

ثامناً : معرفة الأدباء والروائيين (وصُنّاع الثقافة العالمية بعامة ) عبر وسطاء لاتصلحُ أن تكون بديلاً عن المعرفة المباشرة. سنسمعُ كلاماً طويلاً عن السياسات الثقافية الجديدة والقيم العولمية وسياسات الهوية والمنفى والذاكرة،،،، إلخ، وسيرى كثيرون في فوز أسماء جديدة محسوبة على هذه الاشتغالات الثقافية تحولاً ثورياً في موقف لجنة نوبل الأدبية. نحنُ لانعرفُ حقاً مايحصلُ في الكوليس، وليس من بديلٍ عن القراءة المباشرة ( أو الترجمات المتوقعة لاحقاً ) لكي نتيح لذائقتنا الأدبية وجهازنا الثقافي شيئاً من الاسترخاء وهو يحكمُ على مايقرأ. هذا أفضلُ كثيراً من التهليل لثياب ( أباطرة نوبل ) الجديدة !.

قد يراودنا التساؤل أحياناً : هل ثمّة من وسيلة تكون مصدّاً واقياً من صعود الأعمال الهزيلة أو غير المستحقة لشهرة نوبل الأدبية أو سواها من الجوائز الأدبية المرموقة ؟ سيتفنّن الكثيرون في تصميم وسائل وآليات يحسبونها قادرة على حجب الغثّ وترسيخ الرصين ؛ لكنّ الضمير النقيّ المستند إلى المروءة المنزّهة من سطوة المال هو ماينبغي التعويل عليه في النهاية، وكم آسف إذ أدركُ أنّ ذلك الضمير لم يزل غير راسخ في ضمائر النوبليين الأدبيين على العكس من نظرائهم في فروع الجائزة الأخرى، ولا نملك  سوى انتظار ما ستجود به الامبراطورية النوبلية الأدبية في السنوات القادمة.

كاتبة وروائية عراقية

القدس العربي

—————————-

نوبل العنصرية، الجائزة منذ إطلاقها هدفها واضح: أن تدعم النوابغ من القارة الأوروبية والولايات المتحدة/ أحمد الفيتوري

إذا كان لا بد من الحديث عن هوية عبد الرازق قرنح، الحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 2021، فإنه بريطاني، وإن كان في الأصل أفريقي، فقد حصل على الجائزة كبريطاني الجنسية لغته الإنجليزية. وبالتالي لم تحصل أفريقيا على الجائزة، كما لم تحصل عليها اليابان، ساعة حصل عليها عام 2017 البريطاني كازو ايشيجورو، الياباني الأصل، بل في هذه أيضاً، بريطانيا حصلت على الجائزة. وهذا لا ينقص ولا يكبر من الجائزة، ولا من أحقية الحاصلين عليها، لكنه يؤكد حقيقة موضوعية، أنها جائزة غربية: أوروبية أميركية.

لقد مُنحت لتلك الأسباب، وأيضاً كما جاء في تعليل منحه الجائزة، لأن “رواياته تخوض على الأغلب بتجارب الهجرة، بشكل أساسي إلى المملكة المتحدة، والنزوح والذاكرة، والهويات المتعددة الثقافات”، التي هي هموم أوروبية جامحة في هذه اللحظة. وهكذا منحت الجائزة  لعبد الرازق قرنح، بغض النظر عن أصوله، كما مُنحت لأمثاله من قبل. وعليه أستبعد عن الجائزة أي مشاعر عنصرية في هذا، حيث لم تبحث في الأصل والمفصل. فالجائزة في تقديري منذ مطلعها، وهدفها واضح: أن تدعم النوابغ، من القارة الأوروبية والولايات المتحدة، ومن يسهم في ذلك. فمن يكتب بلغة من لغاتها، ويجيد ذلك، يسهم في تطويرها، ومن هذا تقر الجائزة استحقاقه نيلها. وفي حالات نادرة، تم فيها تسييس الجائزة، بحيث منحت لمن يدعم السياسات الغربية، وهذا العنصر كان على الخصوص، ومما لا شك فيه، أكثر ما يخص جائزة نوبل للسلام، المستحدثة نسبياً.

وإن نوبل جائزة دولية، من حيث مركزية الغرب، وكل ما يصدر عنه يكون دولياً بالقوة والفعل. ولهذا حتى على مستوى العلوم، ثمة مركزية في منح الجائزة، ليس لأن ذلك من هدف الجائزة وهويتها وحسب، بل أيضاً من حيث إن العلم كمنتج، مركزه غربي، إلى درجة أن على من يرى في نفسه كفاءة علمية أن يهاجر غرباً، حتى الآن على الأقل.

إذاً، نوبل لم تخرج عن أهدافها، هذا العام وما قبله، وكذلك لم تخرج عن وسائلها. ومن جهة الأهداف، وجه لها نقد، أولاً من قبل مفكرين وكتاب في الغرب، ضد المركزية الغربية، بخاصة في زمن الحرب الباردة، التي وظفت الجائزة فيها كسلاح ثقافي إعلامي ضد الاتحاد السوفياتي. ولعل هذا يؤكد الحقيقة الموضوعية: أن كل عمل بشري دافعه نفوذ ومصالح، بخاصة في الزمن الرأسمالي، الذي يُحسب بالمكاسب والخسائر، والعرض والطلب. ومن هذا الجائزة التي لم تحسب بالقلوب والعواطف، بل بمقدارها المادي، حتى وصل أن أصاب نوبل الفساد، من جانب جنسي!

ولعل علو القيمة الإعلامية لنوبل، يوضح أن الوسائل مركزية، في عرف آل الجائزة، الذين حولوها إلى احتفال باذخ ومظهر طاغ. ومن هذا يكون نجم نجوم نوبل: الحاصل على جائزة الآداب. والآداب وجدان البشرية، أكثر لمعاناً كما نعلم، وأيضاً يمكن الاختلاف فيها وحولها، وليست كالعلوم وهي حقائق دامغة. من هذا المعلوم، تنحى الجائزة إلى المجهول، فيكون من سيحصدها، في كل عام، محل تنجيم وبخت، حتى ظهرت في أوروبا مراهنات في الخصوص، في الأعوام الفائتة. وهذا مما يبين، أن وسائل الجائزة كأهدافها، شغل مؤسسات محكمة.

إذاً، نوبل جائزة المركزية الغربية، حقيقة لا تنكرها، بل فخارها، وليس ثمة جائزة، حتى الآن، في شهرتها. من هذا تسقط الأماني والرغبات، على الجائزة، حتى تتحول إلى سحر وشعوذة، عند بعض من يتاجر ويتلاعب، في كل شيء حتى لا شيء. إذاً، الجائزة تمنح وتكسب، في كل الأحوال، واللغط الذي تثيره، في جانبها الأدبي، مكسب لها ولترويجها، ولمن دار حوله اللغط، خاصة إذا كان كاتباً شهيراً، يزيد من ألق نوبل، التي حتى رفض استلامها، من كاتب كجان بول سارتر، وظف إعلامياً لصالحها. وهذا اللغط لم يكن نتاج اليوم، بل منذ ولدت جوائز نوبل، مما زاد في شهرتها، وقد أنتج ذلك جوائز كثيرة جداً، وإن لم تنل من الحصة الكبرى، لجائزة نوبل صانع الديناميت.

————————

====================

تحديث 16 كانون الأول 2021

———————-

عبد الرزاق غورناه… الكاتب ومصيره الفردي/ محمد عبد الرحيم

جاء الإعلان عن فوز الكاتب البريطاني ـ زنجباري الأصل ـ عبد الرزاق غورناه (قرنح كما تحلو تسميته بالعربية) بجائزة نوبل للآداب، وقد هلل العرب، لكونه عربي الأصل ـ تعود أصوله إلى اليمن السعيد ـ وكذلك مُسلماً تعلّم القرآن في طفولته وصباه، لكنه في الواقع نسيّ العربية تماماً، ولم يعد لها وأساطيرها أي أثر في كتاباته أو تكوينه الثقافي، الذي يُعد إنكليزياً بامتياز، اللهم إلا خلفية لمجتمع سقط في جب النسيان. وحتى إن كان الاحتفاء ـ انتقامياً ـ بما أن الرجل يكتب عن افريقيا المنسيّة ومآسيها في ظل الاستعمار، والذي لم ينته حتى الآن، ككتابة تستمد وجودها من الذاكرة بالأساس، ومن تجارب ذاتية تكتمل من خلالها الصورة الكبيرة لهذا الأدب، الذي تم تتويجه مؤخراً بنوبل 2021.

ورغم أن الرجل افريقي الأصل وعربي ومسلم، إلا أنه لم يُترجم له أي عمل أدبي، روائياً أو قصصياً أو حتى مقالاً نقدياً إلى العربية ــ زار غورناه القاهرة عام 2016 ــ فلابد أن يكون الكاتب معروفاً عالمياً ولو بقدر ما، وأن يكتب بالضرورة إما بالإنكليزية أو الفرنسية، حتى يُلتفت إليه عربياً، فهناك نظرة تعال غير منكرة من العرب أو مَن يتحدثون العربية للكتابات الافريقية، وهي آفة تعويض النقص في مواجهة الغرب، لذا نستند إلى بعض الحوارات التي سبق أن نشرها لغورناه في بعض الصحف والمواقع المهتمة بأدب القارة السوداء وكُتابها، إضافة إلى بعض الترجمات التي جاءت في عُجالة لبعض من هذه الحوارات، كمتابعة للحدث، ربما نستشف منها فكر الرجل وعالمه الروائي، انتظاراً لن يطول بالطبع لترجمة عمل كامل أو عدة أعمال من أعماله. مع ملاحظة أن أول حوار تم مع الرجل لصحيفة عربية أجراه سعيد فرحات لجريدة «المدى» العراقية في مايو/أيار 2008.

اللغة

«لا أعتقد أن هناك تأثيراً عربياً في طريقة كتابتي. لا أتكلم العربية رغم أنني تعلمت قراءة القرآن في طفولتي، والكثير من القصص التي سمعتها طفلاً، والتي تتنقل في رواياتي لها أصل عربي، فارسي وهندي بوجه الاحتمال». هكذا يقول غورناه في ما يخص اللغة العربية. أما عن الإنكليزية التي يُعبّر من خلالها عن أفكاره، يقول في أحد حواراته رداً على سؤاله.. عن مدى انحيازة لرأي (أتشيبي) دون (نجوجي) في سجالهما بشأن لغة الكتابة والتعبير، يقول غورناه: «لا أعتقد أنني أنحاز إلى أحدهما، يزعم أتشيبي، الإنكليزية يمكن توظيفها في مناهضة الاستعمار، لكن نجوجي يعارضه بأن اللغة مُتغلغلة في كل شيء نفعله. لكنني أرى أن اللغة لا تعمل بهذه الطريقة، خاصة بالنسبة للكاتب، وأعترف بأن بعض الأسباب التي دفعتني للكتابة بالإنكليزية لها علاقة بالطبع بالاستعمار، وأيضاً بما قرأته، والذي كان معظمه مكتوباً بالإنكليزية، ومتعلقا بمكان وجودي حينما بدأتُ الكتابة».

الذاكرة

«الماضي حاضر، لأننا نعيش في خيالنا ونعيش كذلك في الواقع، فالماضي ما زال حياً بالنسبة لنا، ولن ينتهي قط». من هذه الرؤية تنطلق كل أعمال غورناه، مُستندة إلى ذاكرة حاولت أن تؤسس عالماً يواجه أو يُناقض الاستعمار، لكنها ذاكرة ملتبسة، تعمل من خلال هذا الاستعمار أو من خلال عالم صاغه الغرب. وعن تفاصيل العملية الإبداعية يذكر الرجل أن هذه (الذاكرة) تتحوّر وتتشكل وفق أفق معرفي يتطور باستمرار، فيقول .. «الأمر لا محالة يتعلق بالذاكرة، لكنها ليست بالضرورة الذاكرة بمعنى تذكّر أشياء وقعت لي أو لأفراد من عائلتي. لا أعتقد أنني كتبت فعليا أي قصة تصف حقيقة وفق ذاكرة محددة، لكنها شذرات بسيطة قد تشير إلى شيء وقع بالفعل لقريب أو لشخص أعرفه. والقصة في النهاية لا تصور الحقيقة، بل تفصيلة بسيطة قد تكون شيئاً مرّ بي وعرفته أو سمعت به… خلال تلك العملية قد يحدث أن تفقد الإحساس بما حدث فعلياً أو ما تخيلت أنت أنه حدث، وفي بعض الأحيان قد تتصور أن أشياء معينة حدثت وهي في الواقع لم تحدث، وإنما أنت اختلقتها، أو يقول لك الناس إن أشياء معينة حدثت وتنفي لهم ذلك، لأنك غيرت ذاكرتك في ما يتعلق بها… وهكذا يعمل الخيال والذاكرة، الذاكرة شديدة الأهمية، تجعل الأشياء حقيقة، لكنها لا تمنحك قصة كاملة يمكنك إدراجها في نص».

النشأة والهجرة

ولد عبد الرزاق غورناه في جزيرة زنجبار في 20 ديسمبر/كانون الأول 1948 لأب ينحدر من أصول يمنية، وأم تنزانية. وفي أواخر ستينيات القرن الفائت، على وقع الأحداث التي شهدتها زنجبار بعد ثورة 1964 التي أطاحت بسلطانها العُماني (جمشيد بن عبد الله البوسعيدي) وحكومته، بعدها اندلعت الاضطرابات بين الأفارقة والعرب في الجزيرة واستولى الحزب الشيوعي على السلطة وبدأ اضطهاد كل مَن له أصول عربية، وبسبب ذلك غادر غورناه باتجاه المملكة المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي من جامعة كنت عام 1982 وهي الجامعة التي درّس فيها الأدب الإنكليزي والدراسات ما بعد الكولونيالية منذ عام 1985 وحتى تقاعده منذ فترة قصيرة.

بدأ غورناه الكتابة الأدبية بعد نحو عام من وصوله إلى بريطانيا. حينها، لم تكن لديه تصورات مسبقة عما يريد الحديث عنه بالضبط، إذ يقول: «بدأت أكتب بلا مبالاة وبشيء من الخوف دون أي تصور مدفوعاً برغبة في الإفصاح عن المزيد». وتوالت رواياته وأعماله الإبداعية، التي تدور كلها حول الرحيل والهجرة والمنفى والشتات والتمييز ضد اللاجئين الأفارقة، كأن كل أعماله تعيد إنتاج القصة نفسها بأشكال وحكايات مختلفة.

المصير الفردي

ونعود في النهاية إلى الفصام العربي، ومحاولة التباهي بآخر لا نعرفه إلا عند إعلان اسمه ـ هذا الاسم المختلف في صياغته عربياً حتى الآن ـ بل وصل الأمر إلى الاستنكار لما قاله الرجل، دون ذكره لموطن أجداده (اليمن) واقتصاره في الحديث عن افريقيا، هذا الجزء المنسي من العالم. لكن .. هل يفكر الرجل في كل ذلك؟ لا يهم بالطبع، المهم أن نشجب ونستنكر ونناضل على الورق، دون معرفة الرجل وأفكاره، الذي أكد في أحد حواراته أن «الكاتب هو مصير فردي لا علاقة له بمكان محدد». نافياً بذلك أي أفضلية أو مكانة لمكان ما، وقد خط مصيره بيده، ومن خلال وجوده في الجانب الآخر من العالم. وهنا نتوقف عند الملاحظة اللافتة للأكاديمية والكاتبة المصرية شيرين أبو النجا، التي أدارت حواراً مع غورناه عند زيارته للقاهرة في 2016 ذاكرة أنه «نموذج مثالي للدرس النقدي الخاص بسياسات الهوية في النقد ما بعد الكولونيالي.. مهاجر من افريقيا بسبب اضطهاد عنصري، اختيار مكان المستعمر السابق، اضطهاد مرّة أخرى بسبب العرق واللون، عدم القدرة على القطع مع الجذور، اندماج في المجتمع الجديد بشكل مغاير للذات وللآخر، الكتابة بلغة المستعمر، من أجل التذكير بما فعله الاستعمار، ثم نهاية سعيدة تعلن فيها لجنة نوبل أن أعمال غورناه تُظهر بوضوح ولاءه للحقيقة، ونفوره من التبسيط». (راجع شيرين أبو النجا، مقال بعنوان: عبد الرزاق قرنة أثناء زيارته إلى مصر.. كاتب لم يسمع به أحد «النهار العربي» 9 أكتوبر/تشرين الأول 2021). فهل لنا في النهاية أن نكف عن أفعال (عواجيز الفرح) أو كما يُقال في المثل الشعبي المصري «القرعة تتباهى بشَعر بنت أختها».

‏كاتب مصري

القدس العربي»

———————-

==================

تحديث 19 تشرين الأول 2021

—————————-

نحن ونوبل/ أمير تاج السر

منذ أيام قليلة، أعلن في السويد، عن الفائز بجائزة نوبل للآداب هذا العام، وكان اسما جديدا على أسماع معظم القراء العرب، وفيهم متابعون للشأن الثقافي بشدة، وأيضا قراء لا ينتظرون الترجمة العربية للكتب، لكن قد يلاحقونها في نسخها الإنكليزية، أو الفرنسية حسب ثقافتهم، وقد كتبت صراحة أنني لم أسمع من قبل بالتنزاني من أصل حضرمي: عبد الرزاق قرنه، أو قرنح، لا أدري بالتحديد، واعتبر بعض متابعيي أن هذا قصور في معرفتي، والحقيقة ليس ثمة قصور، فليس من المطلوب أن تعرف كل شيء، وتلم بكل قلم ساح في الميادين الكتابية، سواء كان عربيا أو أجنبيا.

وأعتقد أنني ذكرت من قبل أن لي جارا لصيقا، في الحي الذي أسكنه، كان يزورني أحيانا، يسمعنى أشعارا وأغنيات من نظمه، ويحدثني عن جبران خليل جبران، والعقاد، وطه حسين وآخرين، دون أن يعرف أنني أكتب أيضا، وأنني في الواقع، أنفقت عمري كله في الكتابة.

عبد الرزاق قرنه، بلا شك مفاجأة من مفاجآت نوبل، ودرس قوي في قهر التوقعات للذين يجلسون سنويا ليختاروا فائزهم من بين أسماء يعرفونها، ولا يودون معرفة غيرها، وليس الأمر يخصنا فقط كعرب، لكن حتى في التوقعات الأجنبية، تأتي دائما سير المعروفين عالميا، أو لنقل إعلاميا، فالكل يعرف التشيكي ميلان كونديرا، والياباني موراكامي، والسوري العربي أدونيس، وبعضهم قد يرشح اسما يحبه شخصيا، ويود لو نال تلك الجائزة الرفيعة، بينما قد لا يخطر ذلك الاسم على بال أعضاء لجنة الجائزة، وقد ظل اليهودي عاموس عوز، بكتاباته الصادمة، والعنصرية، اسما لامعا يتوقع أن ينال نوبل، حتى رحل منذ سنوات، دون جائزة.

على أن اختيار كاتب لا نعرفه، لا يعني بالتأكيد أننا أمام مبتدئ أو مغمور، فكل كاتب يصل إلى هذه الجائزة الضخمة، هو بالضرورة صاحب مشروع كبير، ورونق، وعالم قد يكون مبهرا للبعض وغير مبهر للبعض الآخر، ودائما ما أشير إلى أنني لم أكن أعرف الألمانية، هيرتا ميلر جيدا، قبل أن تحصل على نوبل، وعرفتها بعد ذلك كاتبة في غاية الجمال، لها عالم يخص فقراء موطنها النازحين إلى ألمانيا، أيام شاوشيسكو وجنونه وديكتاتوريته، شخصيات هشة وقوية، ومتفاعلة، وتبحث عن الأوطان البديلة، داخل نصوص عظيمة، أيضا عرفت أولغا توكارتشوك جيدا، من بعد نوبل وإن كنت قرأت لها من قبل، وكتبت عن كتابها: «رحلة» أو «رحالة» الذي قرأته باستمتاع لما فيه من المعرفة والجمال، وأنها تنقلك إلى عوالم لا تعرفها ولا تتوقع وجودها.

وهكذا كثيرون منهم شعراء طبعا، لم تصنعهم جائزة نوبل، لكن صنعتهم المثابرة والموهبة، وترك بصمات جديرة بتتبعها، ويبدو أن لجان تحكيم نوبل تفعل ذلك، تلقي الأضواء اللامعة خلف ظهرها، وتبحث في عتمة الإعلام عما تظنه جديرا بالبحث عنه.

أعرج على الأدب العربي، وأقول كما أقول دائما، إنه إحدى المعضلات الكبرى لشعوب لا تود أن تتعرف إليه جيدا، لا تود مصادقته أو التآخي معه كما حدث مع الأدب الآسيوي، واللاتيني، وكل آداب الكرة الأرضية. إنه في الحقيقة أدب ثانوي، لا يلفت النظر كثيرا، على الرغم من إيمان قليل من المترجمين والناشرين، به، لكن أتحدث عن النظرة عامة، فالكاتب العربي مهما اجتهد، وتعمق في الكتابة، واخترع بصمات واضحة، ورصف عوالم من الدهشة المطلقة، لكن لا بد من خيبة أمل عند المتلقي الغربي، وخيبة الأمل ليس في نقده أو التقليل من شأنه، وإنما في تجاهله وعدم قراءته إن ترجم إلى لغة أخرى، خاصة الإنكليزية، فلم يحدث أن شاهدت في أوروبا قراء يتزاحمون في مكتبة للحصول على رواية مترجمة لكاتب عربي، بينما شاهدتهم في روما مثلا يتزاحمون للحصول على رواية لهاروكي موراكامي، الذي يترجم عن اليابانية، وأورهان باموق الذي يترجم عن التركية، وعاموس عوز الذي كان يكتب بالعبرية، وهكذا يمكنك الوصول إلى لغات كثيرة، تجد مساحة من التسامح القرائي، حين تنقل نصوصها للغات أوروبية، بينما مساحة صغيرة جدا، من الإحساس بما يترجم عن اللغة العربية.

بالطبع أتحدث عن النصوص المترجمة عن العربية، لكتاب كبار وصغار على حد سواء، وليس عن الكتابة بلغة أوروبية، التي يقوم بها كتاب عرب نشأوا في الغرب، أولئك جزء من النسيج الغربي، على الرغم من انتماءاتهم، وتسليطهم الضوء، على معاناة أوطانهم، لأن القارئ يصل إليهم مباشرة دون وساطة، فالنجاح هناك إن حدث، فهو نجاح طبيعي، وعادي ولا غرابة فيه، كما حدث مع الأفغاني خالد حسيني، والتركية أليف شافاق، والياباني إيشجورو وحدث الآن مع عبد الرزاق قرنة، التنزاني المولود في زنجبار.

إذن كيف نحل معضلة الأدب العربي، ونجعله أخا لآداب الشعوب كلها؟ تلك المرتبة التي لم يصل إليها، حتى بعد نيل نجيب محفوظ لنوبل؟ المسألة ليست بسيطة بلا شك، رغم مجهودات مترجمين وناشرين غربيين يحاولون تقديم شيء، بإحساس نابع من قناعتهم بجدوى واختلاف ما يكتبه العرب، مثل الأمريكي وليام هتشنز، والبريطاني جوناثان رايت، والإسباني رافائيل أورتيغا، والإيطالية فدريكا بستانو، والإيطالية أيضا باربرا بنيني، وعدد آخر في لغات مختلفة مثل الفرنسية والتركية والفارسية.

رأيي الشخصي أن تنشأ جائزة عربية موازية لجائزة نوبل، لكنها تمنح للعرب فقط، ليس في مجال الإبداع الكتابي، لكن حتى الإبداع العلمي، والاجتماعي والتاريخي، ولا تكون مجرد جائزة مالية، لكن جائزة ذات ضجيج وصخب، ويسمع بها القاصي والداني، إنه رأي حلم كما أعتقد، ومن الصعب تحقيقه، والإبداع الإنساني ليس من أولويات العالم العربي، على الرغم من وجود جوائز، خاصة في المجال الأدبي، وهي جوائز مهمة مثل كتارا والبوكر العربية، والشيخ زايد، فقط نحتاج لجائزة تشمل كل المجالات كما ذكرت.

وحتى يقترب ذلك الحلم من مرفأ ما، وهذا ربما يحدث يوما، سنظل، نحن المتفرجين على جائزة نوبل الأدبية، ترسو هنا وهناك، ولا شاطئ عربي واحد يعجبها، لا أقول جائزة متكبرة أو عنصرية، وأقول فقط إن الأدب العربي ليس من أولوياتها.

 ‏كاتب سوداني

 —————–

معايير التتويج في الجوائز/ بروين حبيب

هل تخضع الجوائز العالمية والأجنبية عموما لمجموعة من المقاييس التي لا نعرفها، إضافة إلى المقاييس الأدبية في اختياراتها؟ أم أن الأمر يتهيّأ لنا؟ فالقصص نفسها يعاد سردها من طرف الكُتّاب بمختلف جنسياتهم ولغات إبداعهم، وهي قصص الإنسان العادية، في صراعه الدائم مع المفاهيم المعادية للحب والسلام والتآخي.

في كل مرة يُسلّط الضوء من طرف مانحي الجوائز على المكان الأكثر عتمة لإبهار قرّاء العالم. وفي الوقت نفسه يحاول الكُتّابُ الدخول إلى ما يعتقدونه فضاء مجهولا في خبايا المجتمعات المشتعلة بالحروب، والانتكاسات والخيبات والغرائب الخارجة عن المألوف.

نوبل للآداب هذا العام تروي لنا حكاية اللاجئين بشكل مغاير. إيقاع نوبل بالتأكيد ليس إيقاع خبر عابر في نشرات الأخبار، وليس «ترند» نتداوله لفترة وجيزة قبل أن يجرفه «ترند» آخر. إذ يبدو أن العالم نسي سريعا صورة الطفل «إيلان» الذي تقاذفته الأمواج ميتا، ومعه قوافل الهاربين من أوطانهم من الضفّة الجنوبية الزّاخرة بشتى أنواع الإقصاء والتهميش والإذلال للإنسان. الخوض في أرشيفات أكثر الجوائز الأدبية المرغوبة في العالم، يكشف لنا أن المعايير المعتمدة ثابتة ولا تتغير إلاّ قليلا وفق مستجدات الأحداث العالمية. للحصول على فرصة للفوز بجائزة بحجم نوبل، في المقام الأول تحتاج أولا لتكون رجلا، ولا بأس بترشيح اسم نسائي للجعجعة الإعلامية قبل إبعاده، مثلما حدث هذا العام بذكر الفرنسية آني إيرنو، والكندية آن كارسون. ولا داعي لتذكيرنا بأن الأمريكية لويز إليزابيث غليك، فازت بها في العام الماضي، أو البولندية أولغا توكارتشوك في العام الذي قبله، لأن تتويج امرأة بجائزة نوبل أو بغيرها يأتي كحدث استثنائي كل عدة سنوات لغايات يفرضها الرأي العام بشكل غير مباشر. ولا شك في أن فضيحة التحرش التي أدت إلى حجب الجائزة فرضت على أعضاء الأكاديمية مقياسا جديدا لتهدئة النسويات، وأنصار المرأة الذين أصبح صوتهم أقوى من ذي قبل، وألزمتهم منح الجائزة لامرأتين تباعا على مدى سنتين.

ثمة شروط ضمنية أخرى يتفق عليها القاصي والدّاني وهي أن الجائزة تمنح لخريجي الجامعات المهمة، ومن النّادر أن يحصل عليها خريج جامعة محلية غير معروفة، إذ تسطع دائما أسماء جامعات مثل هارفرد، كامبريدج، أوكسفورد، إلخ. ومن المعروف أيضا أن أكثر الأسماء تكرارا لدى وكلاء المراهنات مثل الياباني هاروكي موراكامي أو التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا وأدونيس السوري، والألباني إسماعيل كاداري، والمجري بيتر ناداس وغيرهم، يحرمون من الجائزة وكأنّه من غير اللائق أن تكون معروفا عند جمهور القرّاء، لأن المطلوب إحداث مفاجأة بالجائزة وليس تكريس المألوف.

تُخرج لنا الأكاديمية السويدية اسم عبد الرزاق قرنح أو غورنا مثل أرنب الساحر من القبّعة، وعلينا أن نندهش، ونشعر بالغباء والتقصير والجهل، لأنّنا لم نقرأ له، ولم نترجمه للغتنا «الجميلة» على الرّغم من أنّه ذو أصول يمنية من حضرموت، ولد وكبر في زنجبار في تنزانينا، وتألّق اسمه عدة مرات بإدراج رواياته في قوائم طويلة وأخرى قصيرة لجوائز مهمة مثل، البوكر وجائزة «لوس أنجلس تايمز» للكتاب. يصبح الأمر أكثر إهانة لنا لأننا لم نسمع بهذا العربي الافريقي، رغم أنّ نوبل نفسها وهي الجائزة الأبرز والأغلى في العالم، كُرّست لذوي البشرة البيضاء، ولم تلتفت للكتاب ذوي الأصول الافريقية والآسيوية إلا نادرا.

يأتي في الأخير عامل آخر مهم، قبل التطرّق للبِّ الأدب والموضوعات التي تفضلها لجان التحكيم عموما، إنه «النّاشر القوي» الذي يقاتل مع كُتّابه بشراسة، ولا يتركهم في ساحة الوغى الأدبية يقاتلون بسيوفهم الخشبية مثلما يفعل كتابنا في العالم العربي. الناشرون العرب الذين يرون في مؤلفيهم «الدجاجات التي تبيض ذهبا» بقليل من العلف إن أمكن. وهذا موضوع أرهق أهل الكتاب من مؤلفيه وصناعه وإعلامييه، وليسوا بحاجة لعتاب لأن أحدا ممن فرَّ من منظومتهم غاب عن اهتمامهم. أمّا عن لبِّ هذا الأدب فالحب والموت متلازمة الآداب كلها، وفي أغلب الأحيان يفوق الموت الحب بكثير، بل إن الحب يُوظّف كعنصر للتحلية، بعد إغراقنا بسيل من المآسي والمصائب لأبطال عالقين في شباك أنواع من القتلة والظالمين والسفلة والجهلة وعديمي الضمير. تُبنى القصص في أدب الجوائز على الموضوعات القاسية والعنيفة، أمّا نوبل وغيرها من الجوائز المسيلة للعاب الأدباء، فتبني على الأساطير المبتكرة لإيهامنا في كل مرة أن الفائزين أشخاص متفردون بأدوات ومخيلات إبداعية لا مثيل لها. قد أبالغ إذا قلت إن في الرواية العربية أدباء استحقوا نوبل ولا أحد انتبه لهم، وآخرين استحقوا ترجمة تخرجهم من المظالم العربية بحقهم وبحق أفكارهم التحررية المتقدمة، لكن الغاية اليوم للجوائز العالمية بسط مزيد من النفوذ اللغوي والثقافي لبلدانهم. فمثلا تراجع اللغة الفرنسية في عقر البلدان التي اعتبرت فرنكفونية على مدى عشرات السنين، جعل «مطابخ الجوائز» تقدّم الوجبات الخفيفة المنقذة لما يمكن إنقاذه لدى شعوب الشمال الافريقي، وبعض دول افريقيا الناطقة بالفرنسية، التي أصبحت منقسمة في ميولها اللغوية نحو العربية والإنكليزية.

في الحقيقة جوائز مثل غونكور وفيمينا ورينودو والأكاديمية الفرنسية، ما كانت لتمنح لكُتّاب المغرب العربي، لولا التّراجع المخيف لاستخدام الفرنسية بين أبنائه، تداركت هذه الجوائز أخطاءها، وأصبحت بين الحين والآخر تتوّج كاتبة شابة أو كاتبا لتوسيع دائرة المقروئية الفرنسية، وهو التّوجه نفسه الذي انتهجته جائزة البوكر باللغة الإنكليزية وجوائز أخرى.

وفيما يشعر كُتّاب اللغة العربية من كل الجنسيات بالغبن والبؤس، مقارنة مع زملائهم الذين يكتبون باللغات الأجنبية، المتألقين من خلال منظور الجوائز الأدبية، يستعيد سوق الكتاب الأجنبي المساحات التي خسرها، والأمر هنا غير مرتبط بالسطوة اللغوية فقط، بل بالاقتصادية أيضا وهي الغاية طبعا. إعادة توزيع المجالات الثقافية على الخريطة الافريقية العربية ليس مجرّد منح فرص لتغطية إعلامية للأدب والنّقد، وإنّما فتح لمجال ربحي مالي، واستثمار لرأس مال قد يصبح ضخما، وفق الانتشار اللغوي الذي قد يضمنه الأدب كقاعدة تأسيسية للبزنس المقبل.

إننا أمام إشكالية كبيرة حول الصناعات الثقافية، كون المشهد الإعلامي المصاحب لنجاح نظام الجوائز يلعب دورا حاسما في تلقي الجمهور للوصفة السحرية التي تحوّل الكاتب إلى أيقونة أدبية، تتحكم عن بعد بالخيال الجماعي. كما أن تغيٌّر الرسائل الواردة من الجهات المانحة للجوائز مرتبط ارتباطا وثيقا بتطور الوضع البشري، وفق المعطيات الجغرافية والتاريخية والسياسية. جائزة نوبل لا تختلف عن أي جائزة أخرى من هذا النمط، بل إن إصرارها على تقديم تبرير سنوي مصاحب لكل عمل فائز يؤكد هذا التحليل، ويؤيّده، مع ملاحظة أنها تمنح شرعية فوق العادة للأدب، واعترافا دوليا للغات، أمّا ما تبقّى من تأويلات فهي قراءة مشروعة لمعطياتها الثابتة والمتغيّرة. تلعب الجوائز، خاصة جائزة بحجم نوبل، دورا رئيسا في إنتاج الذوق، يفوق دور وسائل الإعلام كلها، بما فيها، وهذا يبين لنا مدى الدور القيّادي الذي تخوضه أكاديمية مانحة لجائزة، في تشكيل جزء مهم من المكوّن الفكري الثقافي المشترك للمجتمعات رغم اختلافها عن بعضها بعضا.

اعتقد الكاتب عبد الرزاق قرنح أن اتصال الأكاديمية السويدية به لإخباره بفوزه «مزحة» فقد تفاجأ مثله مثل غيره، وأخبر ناشره السويدي أنه لم يتخيّل أبدا أنّه سيحقق هذا الفوز. كلنا متفاجئون إذن، لكن ما لا يفاجئنا أن الإعلام العالمي كله قدمه على أنه وصل المملكة المتحدة لاجئا أواخر الستينيات، منجزه الروائي منحصر في عشر روايات، أمّا منجزه الأكاديمي فطويل.

كملاحظة أخيرة في هذا المقال، قرنح حالة مختلفة تماما عن حالة نجيب محفوظ العربي الافريقي هو أيضا، إذا ما أردنا أن نقارن بين معايير التتويج، وهذا باب آخر يمكن لغيري أن يخوض فيه بإسهاب.

شاعرة وإعلامية من البحرين

—————————–

عندما تربط “نوبل” حرية الصحافة بالسلام/ داود كتّاب

أصابت اللجنة النرويجية المخوّلة باختيار جائزة نوبل للسلام بالتركيز على الصحافة المستقلة، وربط البحث الصحافي الصادق عن الحقيقة بأساسيات العمل الجادّ من أجل السلام. جائزة نوبل للسلام هذا العام تكريم لمهنة البحث عن الحقيقة، في عالمٍ تشيع فيه الأخبار الكاذبة والمضللة والمبالغ فيها. كرّمت اللجنة الصحافيين الفيليبينية ماريا ريسا والروسي دميتري موراتوف، على “كفاحهما الشجاع من أجل حرية التعبير” في بلديهما. قالت رئيسة اللجنة بيريت ريس – أندرسن، في أوسلو، إنهما “يمثلان جميع الصحافيين المدافعين عن هذا المثل الأعلى في عالم تواجه فيه الديمقراطية وحرية الصحافة ظروفاً غير مواتية بشكل متزايد”. وقالت ريسا إن جائزة نوبل للسلام للصحافيين أثبتت أن “لا شيء ممكناً من دون الحقائق”. وأضافت، في مقابلةٍ أذاعتها على الهواء مباشرة عبر موقعها الإعلامي الاستقصائي، أن “عالماً بلا حقائق يعني عالماً بلا حقيقة وبدون ثقة”.

علاقة السلام والإعلام المستقل هي علاقة الحرية بالصدق. وكما يقول المثل “حبل الكذب قصير”، بالمبدأ نفسه، حبل التضليل من خلال الأمن والعسكرة لا بد أن ينتهي، وبعد أن يذوب الثلج يتبين من كان صادقاً ومن كانت أقواله وتقاريره كاذبة. وقد تكون نظرة لجنة نوبل للسلام غير محصورة في غياب الحرب، فهناك الحاجة للسلم الأهلي في المجتمعات المختلفة، كما هناك ضرورات لحرية التعبير الحقيقية في مجتمعات مغلقة، وذلك كله على أساس ضرورات التفرقة بين الإعلام التابع للحكومات (بصور مباشرة أو غير مباشرة) والإعلام التابع للشعوب والقارئ الواعي والمتابع وسائل الإعلام المختلفة.

أرسلت لجنة نوبل برقية رقمية سريعة إلى من يحاولون احتكار الإعلام من خلال منصّات رقمية يسيطر عليها عدد محدود من المليارديرات، والذين يقرّرون ما نقرأ من خلال التلاعب بالخوارزميات المرتبطة بأولويات الأخبار والتقارير والفيديوهات حسب رغباتهم، فإضافةً إلى تكريم صحافيين مستقلين ينشرون موادهم عبر مواقع إلكترونية، فقد وجهت اللجنة ضربة موجعة إلى حيتان الإعلام الرقمي، والذين يفضلون أخبار الإثارة والأكاذيب على الأخبار الصادقة بغرض الربح المادي. وكان ملفتاً أن الجائزة كرّمت إعلاميين يناضلان في بلديهما في ظروف صعبة، ولم يتم تكريم صحافة معارضات يعمل بعضها براحة من فنادق في المهجر.

السؤال المهم: كيف يمكن ترجمة مثل هذه الجوائز لبلادنا العربية ومنطقتنا الشرق أوسطية؟ وكيف يمكن أن نقنع القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين أن الإعلام الحر أحد أهم أسس النظام الديمقراطي السليم، والذي يوفر القدرة على التحرّي والمساءلة، ويوفر مرآة حقيقية للرأي العام، عكس المحاولات الفاشلة لتوفير معلومات مضلّلة للقادة أن الشعب يحبّهم، ومستعد للتضحية بحياته من أجل بقائهم في السلطة؟

قد يكون حال العرب كما هو حال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي هنأ الصحافي المستقل المعارض له، منوّهاً بـ “موهبته وشجاعته”، إذ قال دميتري بيسكوف المتحدث باسم الرئيس بوتين للصحافيين “تهنئة. إنه موهوب وشجاع، ومتمسّك بمبادئه”. وذلك على الرغم من أن ما ينشره وما يؤمن به مناهض مائة بالمائة لما يؤمن به بوتين، ولكن يبدو أن الوطنية الشوفينية تعلو حتى على المعارضة السياسية.

إحدى أهم مزايا الفوز بجائزة عالمية، مثل “نوبل”، أنها توفر للحاصل عليها قسطاً، ولو صغيراً، من الحماية والحرية في الحركة، لأن تسليط الضوء على صحافي مستقلٍّ وشجاع سيوفر قسطاً من الحرية وإبعاد المخاطر الكبيرة عن ذلك الصحافي أو تلك الإعلامية المستقلة. ولكن على الرغم من أهمية جوائز الصحافة للإعلاميين المستقلين في الدول المختلفة، تبقى أسئلة: كيف يمكن أن تخرج صحف عديدة، وكذلك كتاب مشهورون عديدون وغيرهم من التحيز غير المفهوم للمحتلّ الإسرائيلي والسياسات الأميركية المناهضة للحريات في مناطق عديدة، فهل يمكن أن نقتنع أن الإعلام الأميركي، على الرغم من تحسّن ظهر أخيراً، وخصوصاً بعد أحداث سيف القدس، لا يزال منحازاً، ولم ينشر أي معارضة تُذكر لقرار الكونغرس غير المنطقي بتوفير مليار دولار لإسرائيل بحجة إعادة تسليح القبة الحديدية (التكلفة الحقيقية لذلك عشر المبلغ المرصود)؟ وكيف يمكن أن نفسّر دور الإعلام الإسرائيلي الذي يعتبره القائمون عليه حرّاً، فيما قليلون جداً الكتاب المناصرون لحق الشعب الفلسطيني، فيما السواد الأعظم من الإعلاميين يدعم اليمين والمستوطنين والحكومات المتلاحقة، وجديدها برئاسة من تباهى بأنه قال للرئيس الأميركي لاءات ثلاثاً، للتفاوض مع القيادة الفلسطينية ولحل الدولتين ولوقف الاستيطان؟ هل من الطبيعي أن يكون رئيس حكومة لا يزيد نواب حزبه عن 6% من البرلمان يتباهى بقوله لاءات ثلاثاً للرئيس الأميركي، ولا يحصل انتقاد داخلي أو أي تغيير في السياسة الأميركية تجاه دولته؟

سعدنا، نحن المدافعين عن الحرّيات في العالم الثالث، لتكريم زميلينا الصحافيين، الفليبينية والروسي، ونأمل تسليط الضوء، من خلال تكريمهما، على كل الصحافيين، العرب وغير العرب، ممن يحاولون قول الحق، على الرغم من الصعوبات الجمّة. ولكن يبقى الأمل أن نجد في أميركا وإسرائيل صحافيين بالشجاعة نفسها، وعلى مستوى عالٍ من التأثير، لكي يكون للسلطة الرابعة دور في تغيير السياسات الاحتلالية والمنحازة للأقوياء، ويتم احترام أصحاب الأرض والحق.

——————–

“نوبل” الآداب تذكر حضرموت بابنها المهاجر

ابن شقيق عبد الرزاق يروي لـ “اندبندنت عربية” قصة الأسرة التي أنجبت الأديب من هجرتها إلى زنجبار حتى استقرارها في بريطانيا

جمال شنيتر  صحافي ومراسل تلفزيوني

احتفلت حضرموت كبرى محافظات اليمن مساحة، بفوز الأديب العالمي ذي الأصول الحضرمية عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب، وبعد أسبوع من إعلان فوزه، أقامت الحكومة المحلية فعالية احتفالية متواضعة في بلدة الديس الشرقية التي تنحدر منها أسرة الأديب.

وزارت شخصيات سياسية وحكومية وثقافية منزل أسرة قرنح التي باتت محل اهتمام كبير بعد فوز ابنها بالجائزة العالمية، إذ لا تزال الأسرة تحتفظ ببعض مما تيسر من تاريخ لفت أنظار كثيرين.

جذور قرنح

وبحسب جمال قرنح ابن شقيق الفائز بجائزة نوبل للآداب، تنتمي عائلة ٱل قرنح إلى قبيلة كندة، وهاجر جدهم الأول عبدالشيخ من منطقة حريضة في وادي دوعن قبل حوالى ثلاثمائة عام، وأخذ ابنه الوحيد في ذلك الوقت سعيد عبدالشيخ الذي استوطن المكلا، بينما اختار عبدالشيخ في ما بعد العيش في مديرية الديس.

الهجرة إلى الشرق الأفريقي

وحول هجرة الأسرة إلى الشرق الأفريقي، يوضح قرنح في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، أن جذور الهجرة الأولى للأسرة إلى جزيرة زنجبار (تنزانيا) تعود إلى عام 1850، إبان حكم أسرة آل بو سعيد العُمانية، بسبب البحث عن مصادر الرزق، إذ كانت حضرموت في تلك الحقبة الزمنية مناطق تعتمد على الزراعة وصيد الأسماك بخاصة مناطق شرق حضرموت، وكانت مصادر الرزق شحيحة جداً، ما اضطر الناس إلى الهجرة الداخلية إلى مثل عدن، أو الهجرة الخارجية إلى شرق أفريقيا، بخاصة إلى مدن “كمباسا وتنجانيقا وزنجبار ودار السلام ونيروبي ومقديشو”، وغيرها.

ويضيف قرنح “عمي الروائي عبدالرزاق، والده سالم عبدالله قرنح، هاجر إلى جزيرة زنجبار في الأربعينيات، وعمل في التجارة إبان حكم الأسرة العُمانية ٱل أبوسعيد للجزيرة، وتزوج الجد سالم ثلاث نساء، الأولى والثانية حضرميتان قبل الهجرة، أما الثالثة تزوجها في زنجبار، وهي امرأة من أصول حضرمية أيضاً، تنتمي إلى عائلة باسلامة من مدينة الشحر الحضرمية، وأنجبت له عبدالرزاق عام 1948 وأحمد وأربع بنات”.

ويشير قرنح إلى أنه بعد اندلاع ثورة 1964 ضد الحكم العُماني لزنجبار، تعرض الحضارم والعرب لمضايقات شتى، فقرر أعمامي عبدالرزاق وأحمد الهجرة إلى بريطانيا عام 1968.

هجرة الحضارمة

فوز المهاجر ذو الأصول الحضرمية قرنح بجائزة نوبل، يقود إلى الحديث عن هجرة الحضارمة التي لطالما عرفوا بها منذ الفتوحات   الإسلامية حتى القرن العشرين، وتأثرهم في مواطن المهجر ونبوغهم ونجاحهم.

يعزو عبدالباسط الغرابي رئيس لجنة التراث المشقاصي أهم أسباب الهجرة الحضرمية التي اشتهرت، إلى البحث عن الرزق لا سيما أن حضرموت عاشت فترات من القحط والظروف المعيشية الصعبة، فيما كان العامل الديني المتمثل في حب الحضارم لنشر الدعوة الإسلامية سبباً آخر للهجرة.

ويردف “كانت الهجرات المتأخرة من حضرموت في أواخر القرن التاسع عشر إلى شرق آسيا وأفريقيا والسعودية والخليج، ونقلوا معهم ثقافتهم الإسلامية والعربية، وعرفهم من يعاشرهم بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وعمل معظمهم في التجارة، وكان لعديد منهم دور في نشر الإسلام في شرق آسيا وسواحل أفريقيا بحسن الخلق والمعاملة، أما بالنسبة إلى هجرتهم إلى السعودية فكان لموقعها الديني المقدس لدى المسلمين، فكانوا يأتون أفواجاً للحج والعمرة، واتخذها عديد منهم موطناً لهم، وقد نجح كثير منهم في حياتهم العامة والخاصة”. 

 أسلوب حياة مختلف

تمكن عدد من المهاجرين الحضارم من إقامة نشاط تجاري مستقل في دول شرق أفريقيا بخاصة القرن الأفريقي، بينما اشتغل الأغلبية من الفقراء غير المتعلمين في أعمال البناء والزراعة ودباغة الجلود، وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلى جهد بدني في موانئ الساحل الأفريقي.

ونقل صالح علي باصرة رئيس جامعة عدن السابق عن المقيم البريطاني في زنجبار “أف بي بيرس” عام 1919، قوله عن الحضارم “إنهم  يشكلون قسماً مهماً من سكان زنجبار العربي، ويختلفون في مظهرهم وسعيهم للمعيشة وأسلوب حياتهم عن عرب عُمان، وفي الأحوال العادية في زنجبار هم عمال أشداء يعيشون في مساكن جماعية، وعلى الرغم من أن بعض الأثرياء منهم قد استقروا في زنجبار، فإن الغالبية يأتون لفترات يجمعون فيها بعض المال ليعودوا ثانية إلى بلادهم”.

زعامة في جزر القمر

ويلفت الغرابي إلى هجرة بعض أبناء حضرموت إلى جزر القمر في شكل مجموعات بشرية منذ القرن الـ14 الميلادي، وكان معظم المهاجرين من العلويين (آل البيت الذين ينتسبون إلى الإمام علي بن أبي طالب)، ونشروا الإسلام والمذهب الشافعي في الجزر، وباتت لهم الزعامة الروحية والدنيوية التي استمرت حتى الوقت الراهن.

وأسهم الحضارم في قيادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي التي كان من أبرز قادتها السيد محمد آل الشيخ أبو بكر بن علوي، وقد تولى رئاسة الحكومة قبل استقلال جزر القمر.

كما مثل السيد أحمد بن عبدالله بن عبد الرحمن العلوي جزر القمر نائباً في البرلمان الفرنسي، ثم تولى رئاسة الدولة عام 1975، وأعلن استقلال بلاده من جانب واحد بعد أن طالت مفاوضات الاستقلال في فرنسا، غير أن فرنسا أبعدته عن الحكم ونفته إلى خارج بلاده، ثم اضطرت إلى إعادته والاعتراف باستقلال جزر القمر تحت ضغط الحركة الوطنية.

وذكر الكاتب حسن صالح شهاب في كتابه “تاريخ اليمن البحري” عن أحد الغربيين، قولاً يلخص دور وتأثير المهاجرين العرب بعد الإسلام في شرق أفريقيا وبخاصة في الشريط الساحلي، فكتب “على طول الشريط الساحلي الممتد من مقديشو شمالاً إلى سفالة (في موزمبيق) جنوباً والجزر المجاورة له، أنشأ العرب مستوطنات كتلك المستوطنات التي أقامها الفينيقيون على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وشيدوا حضارة أدهش مستواها الرفيع البرتغاليين عندما شاهدوها أول مرة، وكان الدور الذي لعبه الحضارمة في بناء هذه الحضارة دوراً لم يقوموا بمثله حتى في وطنهم الأصلي”.

منبع الثقافة

يتطرق الغرابي إلى تميز الحضارمة ونهضتهم الثقافية داخل أرضهم قائلاً “مجرد أن تذكر حضرموت، فإنك ذكرت  منبع الثقافة والأدب والعلم، وتخطر في البال أسماء مدنها ومعالمها التاريخية، كتريم مدينة العلم والعلماء، والشحر أرض عاد، والأحقاف شبام حيث ناطحات السحاب، والمكلا وبحرها، وأرض المشقاص في الديس الشرقية والريدة وقصيعر، ورأس المرزبان التاريخي الذي اتخذه الفرس مقراً لحكمهم وسيطرتهم على التجارة البحرية، ومدينة الحامي وربابينها وسفنها الشراعية، وغيرها كثير من المعالم التي لا تعد ولا تحصى”.

ثقافة أصيلة

ويتابع، “عندما نأتي للثقافة الحضرمية فهي ثقافة أصيلة جاءت من الثقافة العربية والإسلامية مع الخصوصية الحضرمية، فهذه الثقافة منها أتى علماء وكتاب وشعراء وموسيقيون عظام برزوا في مواطنهم وانتقلت إبداعاتهم إلى خارج حضرموت، مثل الكاتب  المؤرخ الكبير محمد عبدالقادر بامطرف، المتوفى في المكلا عام 1988”.

وذكر أن من مؤلفات الراحل الجامع والشهداء السبعة والميزان وفي سبيل الحكم، والشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار الذي ولد في الشحر في عام 1930 وتوفي فيها في 2000، وله دور بارز في صناعة الأغنية الحضرمية، وقد أعطى الأغنية روح خلودها وتطورها، واستطاع أن يتميز عن من سبقوه مثل الفنان الكبير محمد جمعة خان في تطوير الألحان الشعبية وتطويرها موسيقياً، وقد ذاعت أغانيه واشتهرت في جميع الوطن العربي، بل إن بعضها غنيت عالمياً، مثل كما الريشة التي أدتها الأوركسترا الفرنسية، والفنان الكبير الراحل أبوبكر سالم بلفقيه الذي ذاع صيته في الآفاق.

 وفي الجانب الاقتصادي هناك طابور طويل من الحضارم الذين سجلوا أسماءهم في سجل الاقتصاد العربي والعالمي، لعل أبرزهم محمد بن لادن الذي أسس في السعودية شركة إنشاءات، ولفت انتباه الملك الراحل عبد العزيز بن سعود من خلال مشاريع البناء، وبعد ذلك حصل على عقود لأعمال ترميم كبرى في مكة.

 ويخلص الغرابي إلى القول، إن حضرموت تبقى ولّادة بالمواهب والمبدعين في مختلف مجالات الحياة، ولعل من أبرزهم المخترع هاني باجعالة، الذي له رصيد حافل من العطاء والإنجاز، وحصد عدداً من الجوائز الدولية في اختراعاته.

——————————–

====================

تحديث 22 تشرين الأول 2021

————————–

ما قاله بشير أبو منّة عن زميله الحائز على نوبل للأدب، عبد الرزاق غورنه: يضفي غورنه الكرامة على قصص التشريد الاستعماري/ جويس هاكل

ترجمة رهام درويش

تم منح جائزة نوبل للأدب لعبد الرزاق غورنه المولود في زنجبار والمقيم في بريطانيا، وهو مؤلف عشرة روايات والعديد من القصص القصيرة. قال الكاتب المخضرم أنه صُدم عند علمه بنبأ فوزه، فقد أخبر وكالة الأنباء البريطانية BBC أن الأمر كان بمثابة “سماع صدمة مفاجئة تبث الرجفة في الجسد”. أشادتْ لجنة نوبل بغورنه وبـ “استكشافه الحسّاس وغير المُجامِل لآثار حقبة الاستعمار ومصير اللاجئين في الخليج الواقع بين الثقافات والقارات”.

أمضى غورنه أغلب سنين رشده في المملكة المتحدة، إذ وصل إليها لاجئاً عام 1960. يخبر غورنه BBC أن الكتابة عن بُعد منحته فرصة الاعتماد على مخيّلته، فيقول: “هذه أشياء مخزّنة في ذهني، المكان الذي نشأتُ فيه والذي إليه أنتمي. بشكل ما، أعتقد أن ما من شيء غريب أو غير معتاد في أن يحتفظ الأشخاص الذين تنقلوا أو هُجّروا أو اختاروا المنفى بكل شيء في أذهانهم. إذ يبقى شيء منكَ هناك، في المكان الذي تركت، تماماً كما يشعرون تجاه المكان الذي يتواجدون فيه”.

يرأس بشير أبو منّة قسم اللغة الإنجليزية في جامعة كِنْت، حيث درّس هو وغورنه جنباً إلى جنب لسنوات عدة. تحدث أبو منّة إلى ماركو ويرمان مقدم برنامج “ذا وورلد” عن رأيه بإنجاز زميله الهام.

يقول أبو منّة: “لقد اكتشفوا السّحر الكامن في قلب مشروع عبد الرزاق، هذه القدرة على الجَمع بين الشعور بالاستقلال الذاتي والسّعي وراء الحرية وهو ما يتقاطع مع تاريخ كبير وعمليات موضوعية. فهذه القدرة على سرد القصص الفردية من أفريقيا ومن زنجبار، هذه الجزيرة الصغيرة جداً في شرق أفريقيا، والعمل على ربطها بأشخاص لهم قصص أكبر تتعلق بالهجرة والمنفى واللاجئين والتشرد وعنف الاستعمار والعبودية عبر التاريخ. أعتقد أن هذه القدرة هي التي لفتت انتباه لجنة نوبل.”

كذلك يلاحظ أبو منّة نزعة اللين الواضحة في أسلوب كتابة غورنه، فيقول: “لدى غورنه أسلوب كتابة بسيط جداً بحيث أنه لا يحدث الضجّة. فهو واقعي ملتزم تماماً بالبحث عن الحقيقة، ومهتم للغاية بالجوهر الحقيقي للأشياء وبمنح التقدير للأفراد والمجتمعات والمجتمع ككل. كما أنه يستخدم صوتاً واثقاً جداً رزيناً يملؤه الالتزام الأخلاقي، كما أن لديه وضوح أخلاقي مطلق. أعتقد أن هذه من ضمن الأسباب التي تميز أعماله”.

عندما تجلس لقراءة أحد كتبه، ما الذي تجده فيه ولا تجده في أي كتاب آخر؟

أعتقد أن لعبد الرزاق غورنه وتيرة بطيئة في الكتابة تمكنّك من استكشاف عالم بأسره لا شخصاً بعينه فقط. فيتيح لكَ فرصة اكتشاف تاريخ بأكمله ويسمح لك شيئاً فشيئاً بفهم وجهة نظر الشخصيات التي يتحدث عنها من زوايا مُطّلعة على الأحداث، كذلك يعرّفك على الخيارات الصعبة التي يتوجب على كل من الشخصيات اتخاذها، ويمنحك الفرصة لفهم المكوّنات التي يصعب على الشخصيات التحكم أو الإتيان بها. لذا، فهو يساعدك على فهم الحالة التي يمر بها شخص آخر من خلال إبطاء الأحداث وإبداء الكثير الكثير من الحذر عند تقديم التفاصيل وشرح وجهات النظر. ينتهي الحال بما يبنيه غورنه بتأنٍ على هيئة عالم متكامل، عالم يتعرض إما للتدمير والضياع أو للتقدير والاستمتاع.

إذا كان بوسعك ترشيح إحدى رواياته لنا، فأيّها تختار؟ وهل يمكنك أن تقدم لنا موجزاً سريعاً عن أحداثها؟

أعتقد أنني سأختار روايته Paradise التي كتبها عام 1994 والتي تم اختيارها آنذاك للقائمة القصيرة لجائزة بوكر في المملكة المتحدة. فهي رواية عن طفل يتم إرساله لشخص يدين لوالديه بالمال ليعمل لديه، فنتعرف على مسيرته التي تُروى من وجهة نظر طفل في أفريقيا في بدايات القرن العشرين أثناء تحوّل القارة من مرحلة الاستقلال الذاتي وقدرتها على التحكم بمصير نفسها إلى أفريقيا الواقعة تحت حكم الإمبريالية البريطانية والألمانية، فتسردُ الرواية تلك الحكاية ببراعة. أعتقد أن أهم ما تقوم به هذه الرواية بحرفيّة هو قدرتها على تقديم ما لا يقتصر على الأشكال الخارجية للاضطهاد والسلطة المؤثرين على القارة، إنما تقديم الاضطهاد وانعدام الحرية الداخليَين كذلك، كالمظالم الفردية التي تعد أساسية لمنظوره وللطريقة التي يعبّر فيها عن أنواع المعاناة وآلام أبناء القارة وزنجبار، ما يجعلها رواية بالغة الأهمية.

تنطوي أعمال غورنه على الكثير من الأحداث التاريخية. في هذه الأيام لا شك أن العالم يصارع العنصرية بشدّة، إضافة إلى محنة الكثير من اللاجئين والأثر طويل الأمد للاستعمار. كيف تحاكي أعمال غورنه أحداث هذا الزمان؟

يبرز في أعماله بوضوح مفهوم التمركز حول الكرامة الفردية، أنّ عليك معرفة القصة وفهم الحكاية. أن عليك فهم العالم من وجهة نظر المحرومين والمهمشين والمعذبين. فتتحدث عن عبور الحدود ومحاولات كسب العيش ومحاولات بدء حياة في مكان جديد بعيداً عن الوطن، كل ذلك جرّاء الضغوط السياسية. أعتقد أن هذه أبرز قصص القرن الحالي والقرن العشرين. وهذا يرتبط بالطبع بالاستعمار وما نجم عنه من تشريد وحرمان، كما يرتبط كذلك بالمنفى والبُعد عن الوطن وخسارة الوطن وخسارة منزل العائلة وخسارة العلاقات الشخصية. كما أن هناك بُعداً إيجابياً لأعماله يتمثل في فكرة التكيّف ومحاولة العثور على وطن جديد والانتماء له نتيجة لهذه الأحداث الخارجة عن الإرادة. هكذا تجد شيئاً من العقلانية في أعماله.

ماذا تعلمت من أعمال غورنه عن الجِراح العميقة التي خلّفها الاستعمار وكيف أنها لا تزال حاضرة بعمق في طريقة تأثيرها على النفس، وهو ما قد نغفل عنه هنا نحن في الغرب؟

تعلمت معنى أن يتم إبعادك عن تاريخك وإدماجك في تاريخ جديد بقوة، تعلمت معنى العنف في ذلك. ليس العنف فحسب إنما الآثار الدائمة التي تنجم عن ذلك. فكرة أنك لا تستطيع العودة إلى زمن ما قبل الاستعمار الضائع والذي تعرض للتدمير في نهاية المطاف، بل أن هناك استمرارية بين هذين الأمرين. مفهوم أن ما نصبوا إليه سواء قبل الاستعمار أو أثناءه أو بعده هو تحقيق الاستقلالية والحرية الفردية التي يسعى إليها الناس، أن يتمكنوا من تشكيل حيواتهم بطرق تسمح بتحقيق العدالة والتطور الشخصي. هذا ما تعلمته منه أثناء عملي عن قرب معه. لذا، أُتيحت لي فرصة جيدة لمشاهدته وهو يحدّث الجيل الجديد من الطلاب عن الإمبريالية والاستعمار البعيدين كل البعد عن تجاربهم. فهم لا يعرفون أوجه هذه الأحداث ولا يشعرون بالذنب حيالها بسبب التراث الأبوي وما إلى ذلك.

بما أنك عملت معه في جامعة كِنْت، هل لكَ أن تشاركنا إحدى قصصك المفضلة عن عبد الرزاق غورنه؟

كانت المرة الأولى التي أشاهده فيها مدرّساً. كنتُ مبهوراً وأنا أرى تأثيره على الطلاب، بقدرته وهدوئه وصوته الرزين. أبهرتني قدرته على إيصال التاريخ المعقد للطلاب، وكيف تحدّث عن أمور بالغة الألم وهو أمر في غاية الصعوبة في وسط تملؤه الحجج الدفاعية وسوء الفهم اللذين يحيطان بهذا التاريخ. لكن قدرته على التقاط قصة واحدة، رواية واحدة، عبارة مجازية واحدة ومزج ذلك مع افتراضات ومفاهيم نظرية في غاية التعقيد أحياناً، كان ذلك ساحر تماماً. كان بوسعك أن ترى أثر ذلك على الطلاب طوال الوقت. هناك إدراك عميق لما مثّله غورنه بالنسبة لهم، هذه القدوة المتمثلة في شخص مهيب ملتزم أخلاقياً يسعى لمصارعة آلام ومعاناة العالم بطريقة ملؤها الكرامة. أعتقد أن هذا ما بَرع فيه. اعتقد الطلاب أنه معلّم مذهل لأن جلّ ما كان يحاول إيصاله لهم أن عليهم أن يفكروا بكل شيء بأنفسهم. أن علينا أن نقدم لك الحقائق التاريخية وأن نشرح أحداث الاستعمار والإمبريالية وأشكال القهر المتعددة حول العالم، لكن عليك في نهاية الأمر أن تستخلص العبرة لنفسك بنفسك. هكذا كان يعبّر عن احترامه لهم بصفتهم مفكّرين وقد شعروا هم بهذا الاحترام، لهذا رغبوا دائماً في استكمال الحوارات معه.

كتبها جويس هاكل لـ The World.

مجلة رمان

—————————–

الكتابة والمكان/ عبد الرزاق قرنح

ترجمة أنس سمحان

عن بداياتي الكتابيّة

بدأت الكتابة في سنيني الأولى في إنكلترا، كان عمري وقتها 21 سنة تقريبًا. كان عثوري على الكتابة تعثرًا فيها وليس بحثًا عنها. كنت أكتب في أيام المدرسة في زنجبار، ولكن للمتعة، ولم تكن مهمة جدية. كتبتُ لأسلي أصدقائي ولأقرأ ما كتبتُ في ممرات المدرسة ولأملأ وقت فراغي ولأستعرض قدراتي. لم أفكر يومًا في الكتابة على أنها تحضير لأي شيء، ولم أسعَ لأكون كاتبًا.

لغتي الأولى هي السواحيلية، وخلافًا لكثير من اللغات الإفريقية، كانت لغتي كتابية من قبل وصول الاستعمار الأوروبي، ولكن هذا لم يعنِ أن القراءة والكتابة كانتا منتشرتين للغاية. تعود أقدم الأمثلة للكتابة الخطابية إلى أواخر القرن السابع عشر، وعندما كنت مراهقًا، كان لهذه الكتابة معنىً، وكان استخدامها يأتي جزءًا من الميزة الشفاهية للغة. ولكن الكتابة السواحيلية المعاصرة الوحيدة التي عرفتها كانت لقصائد قصيرة منشورة في الصحف أو لبرامج القصص الشعبية على الراديو، أو لكتب القصص القليلة هنا وهناك. امتلكت العديد من هذه المنتجات بعدًا أخلاقيًا أو هزليًا وصنعت للاستهلاك الشعبي، وكان كتابها يعملون في وظائف أخرى، إما معلمين أو موظفي خدمة مدنية ربَّما. لم يخطر على بالي بأني قد أكون كاتبًا أو أن علي أن أكون كاتبًا. منذ ذلك الوقت، حصلت الكثير من التطورات على الكتابة السواحيلية، وأنا أتحدث الآن عن تصوري عنها في ذلك الوقت. كنت أنظر إلى الكتابة على أنها حادث عرضي أو أنها فعل عقيم إلى حدٍ ما، ولم يهب لي أن أجربها إلا للأسباب الطائشة التي ذكرتها.

على كُل حال، عندما غادرت موطني، كانت طموحاتي بسيطة. قاسيتُ وقتها المتاعب والقلق والخوف والإهانات المتكررة، ومع بلوغي سن الثامنة عشرة، كل ما أردته هو أن أغادر وأن أجد الأمان والراحة في أي مكان آخر. لم تكن الكتابة في مخططاتي البتَّة. لجأت إلى الكتابة في إنكلترا وتغيرت فكرتي عنها لاحقًا لتقدمي في العمر، إذ أخذت أفكر، وساورني القلق حيال أمور بدت أقل تعقيدًا قبل الهجرة، ولكن ما دفعني حقًا نحو الكتابة، كان شعوري الغامر بالغرابة والاختلاف. اجتاحني التردد وأنا أتلمس طريقي في صياغة الكلمات. لم أكن واعيًا لما يحصل معي، وقررت أن أكتب عنه. بدأت الكتابة بدون تخطيط، ولكني أعرف أنني كنت مكروباً. لم أكن أعرف ما سأكتب، ولكني كنت مدفوعًا بالرغبة لأقول أكثر. ومع مضي الوقت، صرتُ أتساءل عن ماهية فعلي، فتوقفت لوهلة، ثم بدأت أنظر إلى أن ما أفعله هو الكتابة. ثم أدركتُ بأني أكتب مستعيدًا ذكرياتي، وكيف أن تلك الذكريات كانت واضحة وعارمة، وكما أنها كانت تختلف عن وجودي الغريب والخفيف لسنواتي الأولى في إنكلترا. كثَّفت الغرابة الإحساس بالحياة السابقة، بالأناس الذين تركتهم هناك دون تفكير، بالمكان الذي صار مفقودًا إلى الأبد بالنسبة لي. عندما بدأت الكتابة، كتبتُ عن تلك الحياة الضائعة. عن المكان الضائع، وعن ذكرياته عنه. وبشكلٍ من الأشكال، كنت أكتب عن إنكلترا أيضًا، أو على الأقل عن مكانٍ لا يشبه المكان في ذاكرتي ووجودي… مكانٌ آمن بما فيهِ الكفاية… وبعيد بما فيهِ الكفاية عن المكان الذي تركته… مكانٌ جعلني أشعر بذنب وندم غير مفهومين. ومع استمراري في الكتابة، وجدت نفسي مهزومًا للمرة الأولى بالمرارة وعدم الجدوى نظرًا للأوقات الأخيرة التي عشناها، وبكل ما فعلناه لجلب تلك الأوقات على أنفسنا، وما بدا بعد ذلك حياة غير واقعية بشكل غريب في إنكلترا.

ثمة منطق مألوف لما حصل معي. سفري بعيدًا عن وطني أعطاني المسافة والمنظور ودرجة من السعة والحرية. كثَّف قدرتي على التذكر، والذاكرة كما نعلم، عالم الكاتب. تسمح المسافة للكاتب بالتواصل غير المنقطع مع هذه الذات في داخلهِ، والنتيجة…  تحكم أعلى بخياله. هذه الفكرة ترى الكاتب على أنه كون كامل مكتفٍ بذاتهِ، وأنه يُخرِج أفضل ما عنده في العزلة. أعرف أنها فكرة قديمة، وتصوير ذاتي رومانسي للمؤلفين من القرن التاسع عشر، ولكنها  فكرة لها أساسها الذي تقف عليه، وتفسر كثيرًا من الحالات التي نعيشها حتى هذه اللحظة.

وإذا كانت إحدى طرق التعامل مع المسافة تنظر للكاتب/ة على أنه عالم مغلق، ترى أخرى المسافة على أنها مُحررة للخيال النقدي. وثمة وجهة نظرة ثانية ترى الاغتراب على أنه ضرورة، وأن الكاتب يقدم أفضل أعمالهِ في العزلة، لأنه يتحرر من المسؤوليات والحميميات التي قد تجبره إلى إخفاءِ وتغييب الحقيقة. هنا يكون الكاتب بطلًا ومستبصرًا. فإن كانت الفكرة الأولى لعلاقة الكاتب بالمكان تعود لرومانسية القرن التاسع عشر، فإن الفكرة الثانية تذكرنا بحداثيي أوائل وأواسط القرن العشرين. كثيرٌ من كتّاب الحداثة الإنكليزية كتبوا أعمالهم وهم بعيدون عن أوطانهم، ليكونوا قادرين على وصف الحقيقة كما عرفوها، وليهربوا من الجو الثقافي الذي رأوه قمعيًا وباعثًا على السكوت.

توجد حجة ثالثة مفادها أن الكاتب وفي عزلته بين الغرباء يفقد الإحساس بالتوازن ويفقد الإحساس بالناس وعلاقته معهم ووزن تصوراته تجاههم. ويقال إن هذا يكون صحيحًا بشكلٍ خاصٍ في عصر ما بعد الإمبراطورية، وينطبق على الكُتَّابِ الذي كانوا جزءًا من المُستعمرات الأوروبية السابقة. شرعنت الكولونيالية نفسها عبر تسلسل هرمي للعرقية والدونية، وانتقل هذا إلى كثير من سرديات الثقافة والمعرفة والتقدم. وعمدت القوى الكولونيالية لاستخدام كل ما لديها لإذعان الشعوب المُستعمَرة للفكرة نفسها. كما أرى، فإن أكبر خطر يحدق بالكاتب ما بعد الاستعماري هو أن فرصة النجاح قد تتأتى له إذا لجأ إلى العزلة وحياة الغربة في أوروبا. ومن المرجح أن يصبح هذا الكاتب مهاجرًا يشعر بالمرارة، ويسخر من أولئك الذين تركهم في بلادهِ، ويهتف له الناشرون والقراء الذين لم يتخلوا عن العداء غير المعترف به، والذين يسعدون للغاية بالإشادة بأي نصٍ يصف القساوة الآتية من العالم غير الأوروبي. هذه الحجة تشير إلى أن الكتابة بين الغرباء تدفع بالشخص للكتابة بقسوة لكسب المصداقية، واعتماد ازدراء الذات دليلًا على حقيقة المكتوب أو رفضهِ باعتبارهِ متفائلًا عاطفيًا.

كلا وجهتي النظر، التي ترى المسافة إما على أنها محررة أو مشوِّهة، تبسِّط الأمر بشكل سخيف، وهو ما لا ينفي أنهما تحملان بعضًا من الحقيقة في كنههما. عشتُ كل سنين حياتي بعد البلوغ بعيدًا عن مكان ولادتي، واستوطنت بين الأغراب، وأعجز الآن عن تخيل عيشي لأي حياة أخرى. أحاول أن أعيش حيوات مختلفة أحيانًا، ولكني أعود مهزومًا باستحالة حل الاختيارات الافتراضية التي أضعها لنفسي. أن أكتب وأنا أنعم بخيرات ثقافتي وتاريخي لم يكن خيارًا متاحًا، وربما ليس خيارًا لأي كاتبٍ يرغب في أن يكتب عنها. أعلم أني بدأت الكتابة وأنا مغترب، وأدرك الآن أن كوني من مكان وانتقالي للمعيشة في آخر كان محور كتاباتي على مر السنين، ولكنها لم تكن كتابة عنها لأنها تجربة فريدة مررت بها، وإنما لأنها واحدة من قصص عصرنا.

أتيح لي أن اقرأ باستفاضة أيضًا في إنكلترا. كانت الكتب في زنجبار مرتفعة التكلفة والمكتبات قليلة. وعلى قلتها، كانت المكتبات ضعيفة والكتب فيها قديمة. والأهم من ذلك، لم أكن أعرف ما أريدُ أن اقرأ، وقرأت ما وجدته عشوائيًا. أما في إنكلترا، بدا خيار القراءة غير محدود، وشيئًا فشيئًا، صارت اللغة الإنجليزية تبدو لي منزلًا فسيحًا وواسعًا وقادرًا على استيعاب الكتابة والمعرفة بترحاب كبير. وكان هذا هو طريقي الآخر إلى الكتابة. أعتقد في قرارة نفسي أن الكُتّاب يعثرون على الكتابة عبر القراءة، وأن الكتابة تكون نتيجة لعملية التراكم والمعالجة والتكرار للدرجة التي يطور عبرها الكُتّاب صوتًا يمكِّنهم من التعبير. وهذا الصوت قضية حساسة أخرى، إذ لا يمكن وصفه، على الرغم من أن النقاد الأدبيين يكرسون وقتهم محاولين فهمه، ليس لأنه أداة تسمح برواية القصة، وإنما لأنه، وحين ينجح، يكون خليطًا من الحركات السردية المناسبة والمقنعة. لا أحاول إلصاق صفة الغموض بالكتابة، ولا أقول باستحالة الحديث عن الكتابة، ولا أدّعي أن النقاد واهمون. يعلّمنا النقد الأدبي عن النص وعن الأفكار الكامنة في ما وراء النص، وما أقوله هو أنه لا يمكن لا يمكن للكاتب أن يعثر على الصوت الذي أتحدث عنه عبر النقد الأدبي، لأن الصوت ينبع من أماكن أخرى، أهمها القراءة.

كان التعليم الذي تلقيته في زنجبار بريطانيًا كولونياليًا، على الرغم من أننا في آخر مراحله كنا قد استقللنا ونعيش في رحاب دولة ثورية. يحمل الاعتقاد القائل إن كثير من الشباب يذهبون إلى المدارس ويكتسبون معرفة لا تعني لهم شيئًا في وقتها الكثير من الصحة، وذلك لأن تلك المعرفة تبدو مؤسساتية وغير ذات علاقة بالواقع المعاش. كان الأمر ملغزًا أكثر لنا بشكل خاص، وكان كثير مما تعلمناه قد جعلنا نبدو مستهلكين عَرضيين لمواد تعليمية صممت لشعوب أخرى. ولكن برفقة باقي أطفال المدارس، تعلمنا شيئًا مفيدًا نهاية. تعلمت، من بين كثير من الأمور، الطريقة التي تنظر فيها بريطانيا إلى العالم والطريقة التي تنظر فيها إليّ. لم أتعلم ذلك مباشرة، ولكن مع مرور الوقت، وعبر التذكر. لم تكن المدارس أداة التعليم الوحيدة، إذ كنت أتعلم من المسجد وفي مدارس القرآن ومن الشوارع ومن البيت وعبر قراءاتي الأناركية، وما كنت أتعلمه من هذه الأماكن كان في الغالب يناقض ما أتعلمه في المدرسة. لم يكن الأمر مزعجًا ومُعجزِا كما يبدو، إلا أنه كان مؤلمًا ومخزيًا في بعض الأحيان. ومع مرور الوقت، صار التعامل من هذه السرديات المتناقضة يبدو بالنسبة لي عملية ديناميكية، حتى لو كانت بطبيعتها تنفذ من موقع ضعف. ومن هذه العملية، تولدت لدي الطاقة لأرفض ولأجادل، ولأتعلم كيفية التمسك بالتحفظات التي تقويها المعرفة وتستمر مع مضي الزمن. ومنها أيضًا صارت لدي القدرة على تقبل الاختلاف وسهلت عليَّ الاعتراف بإمكانية وجود طريقة أخرى أكثر تعقيدًا لمعرفة أمرٍ ما.

لذا، وعندما لجأت إلى الكتابة، لم أركن إلى تفريغ عشوائيتي على الورق آملًا أن يصير صوتي مسموعًا. كان علي أن أكتب آخذًا بعين الاعتبار أن بعضًا من قرائي المحتملين لديهم نظرة خاصة تجاهي وأن علي أن أتناول موضوع هذه النظرة في عملي. كنت مدركًا لحقيقة أنني أقدم نفسي لقراءٍ يرون أنفسهم على أنهم هم «الطبيعيون» وأنهم أحرار الثقافة و وعلى قمة هرم العرقية، لقراءٍ لا يعرفون الاختلاف. احترتُ في مقدار ما يجب عليهِ قوله، والمعرفة التي يجب سكبها في النص، احترت ما إذا كانت سرديتي مفهومة أو لا. تساءلتُ كيف أن علي أفكر في كل هذا وفي الوقت نفسه أن أكتب الرواية.

وبالطبع لم تكن هذه الأسئلة فريدة في تجربتي، على الرغم من أن التفاصيل تبدو فريدة عند كتابتك عنها. وهي حتى ليست تجربة معاصرة أو تجربة خاصة، حسب تعبيري عنها، ولكنها تبقى تجربة كتابية مميزة، لأنها تبدأ من الإدراك الذاتي بالهامشية والاختلاف. ومن هذا المنطلق، فإن الأسئلة التي أطرحها ليست أسئلة جديدة، بل متأثرة بالإمبريالية والتفكك ووقائع عصرنا. وأحد أهم حقائق عصرنا هو نزوح كثير من الغرباء إلى أوروبا. ولم تكن هذه الأسئلة إشكالية بالنسبة لي فقط، ففي وقت انشغالي بها، كان غرباء غيري في أوروبا يتعاركون مع مشاكل أخرى وينجحون في التعامل معها. وهذا النجاح يتجسد الآن في امتلاكنا لفهم أفضل وأكثر حساسية للسردية وكيفية سفرها وترجمتها، وساهم هذا الفهم في جعل العالم أصغرَ وأقل إبهامًا.

مجلة رمان

—————————-

من أين نبدأ في قراءة عبد الرزاق غورنه؟/ مازا ماغنيتس

ترجمة أمل نصر

كتبتها Maaza Mengiste ونُشرت في الغارديان في ٨/١٠/٢٠٢١

تحدثنا الروائية الإثيوبية الأمريكية مازا ماغنيتس تكتب عن تجليات أشكال المنفى في أعمال الحائز حديثا على جائزة نوبل عبد الرزاق غورنه من خلال استعراض مساره المهني.

بقناعة راسخة وثابتة كتب عبد الرزاق غورنه لأكثر من ثلاثة عقود، عن أولئك الذين يقبعون في ظلال التاريخ المنسية. وُلد غورنه في زنجبار عام ١٩٤٨ وهرب من الاضطهاد السياسي ليستقر في إنجلترا في سن الثامنة عشر. وهو مؤلف للعديد من القصص القصيرة والمقالات، بالإضافة إلى عشرة روايات في رصيده الأدبي. وقد كرس حياته المهنية في الكتابة عن اختلاف المساعي التي يمكن للإنسان أن يسلكها في سبيل تحقيقه لذاته في المنفى، من خلال تجسيده للأوطان، والعائلات ومجتمعاتهم، وربما الأهم من ذلك، تجسيده للأفراد في تحقيق ذواتهم من خلال أنفسهم. ينكشف ستار الحميمية في رواياته من خلال المساحات العائلية والرفاق والصداقات التي أنشأتها هذه العائلات، تلك المساحات التي يغذيها الحب والواجب ولكن لا تلبث تأكلها الهشاشة بطبيعة الحياة. ورغم ما تراكمه أعماله من لحظات تاريخية كان لها آثار كارثية وانقسامات مجتمعية مدمرة، يعرض غورنه بسلاسة الجوهر الحقيقي في استمرارية وسلامة تلك العائلات والصداقات ومساحات الحب من التذرر والاندثار.

ترتكز بنية العديد من أعماله ، بما في ذلك روايته الأولى Memory of Departure (ذاكرة الرحيل)، ١٩٨٧ على تصوير كم الخديعة والوعود الكاذبة التي تمارسها الدولة أو من هم في السلطة، وفي انعكاس ذلك على الأفراد الذين يغادرون أوطانهم بحثًا عن حياة أفضل. روايته الثانية Paradise (الفردوس) التي تم ترشيحها في القائمة القصيرة لجائزة بوكر عام ١٩٩٤، تدور أحداثها قبل الحرب العالمية الأولى مباشرة، وهي عبارة عن تمظهر صادق -ومفجع- لآثار الاستعمار الألماني والعدوان السياسي. ويظهر ارتباط هذا العمل فيما بعد وكأنه مقدمة لأحداث روايته Afterlives (بعد الموت)، والتي تبدأ في خضم انتفاضة عام ١٩٠٧ ضد المستعمرين الألمان وتتكشف من خلال شخصيات معقدة نفسيا، تتبلور مصائرها على مر الأجيال ومن خلال الانتقال من الحكم الألماني إلى الحكم البريطاني. شخصيات تكافح من أجل الحفاظ على عائلاتها ومحيطها الاجتماعي في بلدة ساحلية صغيرة في البر الرئيسي لتنزانيا.

روايتاه The last gift (الهدية الأخيرة)، ٢٠١١، و By the Sea (على الشاطئ)، ٢٠٠١، وهما العملان اللذان تم إدراجهما في القائمة الطويلة لجائزة البوكر للعام ٢٠٠٢، وتم ترشيح ذات الروايتين لجائزة الكتاب في “لوس أنجلوس تايمز” عن الأعمال الروائية. وهي أعمال تجسد حياة اللاجئين الذين يحاولون بناء أوطان لهم في إنجلترا. من خلال هذه الأعمال ، يطرح غورنه سُؤاله المُلح عن معنى الانتماء وما إذا كان بإمكان المرء أن يترك الماضي حقًا وراءه.

تفرض كل رواية من روايات غورنه سردها الخاص من خلال قصص أولئك الذين قد لا تكون حيواتهم قد وصلت إلى الأرشيف. أولئك الذين لا تجسد معاناتهم وثائق تستحق الذكر في العالم الأكبر. فأصحاب البقالات، وربات البيوت، والعسكريون -الجنود المحليين الذين يخدمون في الجيوش الاستعمارية- والطلاب واللاجئون، هم أبطاله الذين منحهم استحقاقاً سردياً يذكرنا بثراء وتعقيد حياة كل فرد في هذا الوجود.

وبعد أن أصبحت أوروبا مركزا للجوء في السنوات الأخيرة، وحيث تحاصر سلسلة الأزمات الإنسانية الأفراد بشكل بائس وتحثهم على المخاطرة بحياتهم بحثاً عن أمل في بعض من الاستقرار وايجاد مستقبل أفضل، اكتسبت أعمال غورنه صدى وأهمية أكبر. في مقال نشره عام ٢٠٠١ في صحيفة “الغارديان”، كتب: “لا بد للنقاش حول اللجوء أن يتزاوج مع سرد يمسه هوس عرقي، وهو نقاش مقنَّع ومغلف في عبارات ملطفة عن الأراضي الأجنبية والتكامل الثقافي”.

تصر أعمال غورنه على تجريد هذا السرد “المذعور” من سلطاته، لكن ليس بالصراخ أو إلقاء المناظرات، ولكن من خلال منح صوت ثابت، لا هوادة فيه ولا يزعزعه وقت، صوت سوف يغدو هو الصوت المسموع.

—————————-

غورنا ونوبل.. عن المركزية الغربية والهيمنة والأدب العالمي ومعناه/ فخري صالح

ما زال فوز عبد الرزاق غورنا (أو قرنة أو قرنح) بجائزة نوبل للآداب، بكل ما يثيره الاسم من مشكلات تتعلق بالأصل والهوية والانتماء العرقي، يحدث ضجيجًا في الأوساط الثقافية، في العالم عامة، وفي المنطقة العربية خاصة. في العالم لأن الكاتب مجهول، أو على الأقل فإنه اسم غير متداول، ولا يُعدُّ من الأسماء المعروفة حتى في بريطانيا التي يحمل جنسيتها، منذ ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، وفي العالم الناطق بالإنكليزية التي يكتب بها، حيث بلغت مبيعات رواياته العشر ومجموعته القصصية اليتيمة ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسخة في أميركا. وهذا ما يجعله كاتبًا مغمورًا في أعراف النشر في بريطانيا وأميركا، وفي الدول الغربية عامة. أما في المنطقة العربية، فمعايير الاندهاش، والصدمة، والخجل من عدم معرفة الفائز، من قبل، وعدم ترجمة أي عمل له إلى العربية، والتعبير الخجول عن الفرح، لكونه يحمل اسمًا عربيًّا، وينتمي في أصوله القريبة إلى اليمن، وقد ولد وعاش في شبابه في زنجبار التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العُمانية إلى وقت قريب.

“في المنطقة العربية، صادفنا معايير الاندهاش والصدمة والخجل من عدم معرفة الفائز هذا العام وعدم ترجمة أي عمل له إلى العربية، والتعبير الخجول عن الفرح، لكونه يحمل اسمًا عربيًّا، وينتمي في أصوله القريبة إلى اليمن”

يثير هذا الالتباس، والدهشة لوصول اسم أدبي قابع في الظل، وإن كان يكتب بلغة إنكليزية رفيعة المستوى، تحاكي في فصاحتها لغة روائيين بريطانيين كبار، بدءًا من جين أوستن وجوزيف كونراد، وليس انتهاءً بالكاتب ذي الأصل الكاريبي في. إس. نايبول، الكثير من الأسئلة حول مفهوم تكريس الأسماء الأدبية، وطرحها للتداول في بورصة ما يسمى “الأدب العالمي” World Literature أو “الأدب العولمي” Global Literature، وهو الاسم الذي يُروّج الآن للتعبير عن مجموع الآداب الآتية من جهات الأرض الأربع لتشكل تعريفًا جديدًا يدرج آداب الشرق والغرب في بوتقة واحدة، وكنوع من محاولة الابتعاد عن، والتخلص من آثار، المركزية الأوروبية Eurocentrism، أو الغربية عمومًا، إذا ما ضممنا إليها أميركا الشمالية، والولايات المتحدة خصوصًا، لكونها ممثلة الحضارة الغربية في هذا الزمان. 

وبغض النظر عن اللغط الكثير، الذي ثار في الصحافة الغربية، والصحافة العربية، ووسائط التواصل الاجتماعي في العالم العربي، فإن فوز كاتب ذي أصول أفريقية، ويمنية حضرمية، رغم أنه يكتب بالإنكليزية، بجائزة نوبل للآداب، هو خبر سعيد، دون أي شك. هذا يعني أن لجنة نوبل للآداب تلتفت أخيرًا، بعد حوالي ربع قرن تقريبًا، إلى خارج المركزية الغربية (فاز الكاتب الياباني كينزابورو أوي بالجائزة عام 1994، أما كازو إيشيغورو الفائز عام 2017 فيكتب بالإنكليزية وعوالمه إنكليزية في الأساس). فقد دأبت اللجنة خلال السنوات الأخيرة على منح الجائزة لكاتب أوروبي أو أميركي. هذا يعني أن الجائزة تصر على أن الآداب الكبيرة طالعة من الغرب، من الشمال، لا من الشرق، أو الجنوب. ومنح الجائزة لعبد الرزاق غورنا لا يرفع التهمة عن جائزة نوبل بأنها تتجاهل الآداب الأخرى. إنها تتجاهل الآداب الأفريقية، والآسيوية، وحتى الأميركية اللاتينية، خلال السنوات الأخيرة. تتجاهل اليابان، والهند، والعالم العربي، وحتى الصين، التي لم تمنح الجائزة لكاتب منها سوى مرتين على مدار تاريخها. إنها مركزية فاقعة تتحكم في هذه الجائزة العريقة، المهمة، والقادرة على تسليط ضوء ساطع على الفائز واللغة التي يكتب بها، وكذلك على المشكلات وشروط العيش التي يصوّرها في أعماله، والبلد الذي أتى منه. فهو كاتب متعدّد الهويات، يمكن أن نلحظ تأثيرات هذه الهوية الهجينة، المتعددة في أعماله الروائية والقصصية، وكذلك في دراساته الأكاديمية التي تركز على آداب العالم الثالث، وآداب المستعمرات، وصيغ تفاعل هذه الآداب مع الميتروبول (المركز) الغربي، في نوع من الرد بالكتابة Writing Back (بتعبير بيل آشكروفت وهيلين تيفين وغاريث غريفيثْس في كتاب The Empire Writes Back) على التجربة الاستعمارية.

ومن الواضح أن هذه الخلفية، بكل مركباتها العرقية والأصلانيَّة واللغوية (حيث تحضر العربية بوصفها لغة النص القرآني الذي تعلمه الكاتب في طفولته على يدي والديه، والسواحلية التي يتكلم بها، أو الإنكليزية التي تعلمها كلغة ثانية أو ثالثة، ويكتب بها)، وكذلك تلك العلاقة المركبة مع اللغة الإنكليزية التي يعبر بها المستعمَر والمهاجر عن تجربته كمستعمَر، في بلده الأصلي أو في أحضان الإمبراطورية؛ كل هذه العوامل تجعل من عبد الرزاق غورنا اسمًا مناسبًا تمامًا للفوز بالجائزة هذا العام، إذ يبدو أن الوعود المتكررة  للجنة نوبل للآداب، خلال السنوات الأخيرة، بالخروج من أسر التركيز على الآداب الغربية، والتذمر الواسع من مركزية الجائزة الغربية، حتى في دول الغرب نفسه، قد دفع اللجنة إلى الذهاب جنوبًا، هذه المرة، حتى ولو أن الفائز يكتب بالإنكليزية، إحدى لغات المركزية الأوروبية الكبرى.

ومع ذلك، فإن منح الجائزة لكاتب أفريقي لا يعني أننا تحركنا بعيدًا تمامًا عن مفهوم تكريس الآداب الغربية، فنوبل تمنح الجائزة في الوقت نفسه للغة التي أنجز بها غورنا نصوصه، والعالم المُتخيَّل الذي عبَّر به عن مشاعره وأحلامه وأفكاره من خلال اللغة الإنكليزية وتاريخها وعالمها الرمزي، والآداب الإنكليزية بمتخيَّلها وميراث كتابها وروائييها ومفكريها. فاللغة، بتاريخها ومحمولها الرمزي، والتراكم المعرفي الوجداني في قاموسها، تشدنا إليه بأمراس غليظة يصعب الفكاك منها. وحتى لو حاول الكاتب ما بعد الكولونيالي، ابن المستعمرات، المرتحل، أو المهاجر، أو المنفي، أو الهارب، إلى مركز الإمبراطورية، أن يتخلص من إرث الاستعمار، أو يتحرر من تجربته المرة وآثاره المدمرة، من خلال الكتابة بلغة استعمارية مختلفة، متحايلًا على نحو هذه اللغة، ومحمولها الرمزي والثقافي، فإنه يظل منشدًّا إلى عوالمها. وهذا يعني أننا نبقى داخل المركزية الأوروبية (الغربية)، ولا نغادرها.

وقد عبرت عن هذه الإشكالية المعقدة في مؤتمر حول “الأدب العالمي” عُقد في بداية هذا الشهر في كوريا الجنوبية، تحت عنوان “الجنوب يصبح عالميًّا” South Going Global، وشارك فيه باحثون من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، منتقدًا انشداد الكاتب العالم ثالثي، ابن الجنوب، إلى المركز الغربي، ليحوز ما يتوهم أنه “عالميَّةٌ” تنقله من سياقه المحلي، الوطني، إلى “العالم”، الواسع، فيما هو ينتقل في الحقيقة إلى المركز الغربي الذي يقاومه ويهاجمه، ويتهمه بالتحيز، والمركزية، والعرقيَّة، والشعور بالتفوق.

ولقد قلت في سياق مداخلتي ما يلي:

“إن منح الجائزة لكاتب أفريقي لا يعني أننا تحركنا بعيدًا تمامًا عن مفهوم تكريس الآداب الغربية، فنوبل تمنح الجائزة في الوقت نفسه للغة التي أنجز بها غورنا نصوصه، والعالم المتخيَّل الذي عبَّر به غورنا عن مشاعره وأحلامه وأفكاره من خلال اللغة الإنكليزية”

“إن الأصل في مفهوم الأدب العالمي هو أوروبيته، غربيَّته، فمنذ أن صك الكاتب الألماني يوهان فولفغانغ غوته مصطلح “الأدب العالمي” Weltliteratur، ساعيًا إلى توسيع آفاق الآداب الأوروبية، ضامًّا إليها خيوطًا من تأثيرات الآداب الأخرى غير الغربية، عنى مفهوم “الأدب العالمي” تلك الآداب الطالعة في الغرب، في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية. كما نُظر إلى الشعوب واللغات والآداب والثقافات الأخرى بوصفها تدور في فلك ذلك الجزء الغربي، الشمالي من العالم. لكن شمول آداب وثقافات أخرى ضمن مفهوم الأدب العالمي، لتوسيع دائرته، بدأ في النصف الثاني من القرن العشرين، لأسباب عديدة، على رأسها عملية التحرر من الاستعمار التي شهدتها تلك الفترة، واستقلال العديد من البلدان في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من الاستعمار الغربي.

لكن، ومع أننا نتحدث الآن عن عكس مسار حركة الأدب العالمي، وشمول الكثير من الآداب المنسيَّة، والأصوات التي لم يكن مسموحًا لها بالكلام من قبل، من دول الجنوب وثقافاته، فإننا ما زلنا نتواصل من خلال لغات الغرب، وخصوصًا الإنكليزية والفرنسية. انظروا إليَّ الآن، فها أنا أتكلم معكم بالإنكليزية لا العربية. وبدلًا من أن أعبّر عن نفسي بلغتي الأم، أقوم بترجمة نفسي إلى الإنكليزية. وهذا يعني أن المركزية الأوروبية ما زالت تعمل بقوة في عالم ما بعد الاستعمار! فالهيمنة الغربية تعبر عن نفسها من خلال اللغة، والثقافة والأدب. ستةُ أيام تفصلنا عن إعلان الفائز بنوبل للآداب، وكثيرون منا يأملون أن تذهب الجائزة إلى الجنوب هذه المرة. فنحن ما زلنا نؤمن بأننا كي نصبح جزءًا من الأدب العالمي علينا أن نحصل على جوائز من الغرب، وأن نترجم إلى “لغات المركز”، وأن تصدر أعمالنا في لندن وباريس. أن نتعمَّد في مياه الغرب، وأن يكون مرحبًّا بنا في أوساطهم الثقافية. إن الحج إلى الغرب خطوة ضرورية، لا غنى عنها، لنصبح عالميين!”. 

ضفة ثالثة

——————————-

نوبل من الفائز؟/ أحمد الفيتوري

لستُ كرويا، لكني شجعت بحماسة نادي الأهلي، في مدينتي بنغازي. حدث ذلك في أول الصبا، وكانت حماستي المتطرفة، تمنعني من حضور مباريات فريقي الأهلي مع الفرق الكبيرة، مثل نادي الهلال. ففي يوم المباراة، تصيبني حمى الخسارة، لذا أشغل نفسي بتخرصات لا منطق لها، وأدس نفسي في رمل غير المهتم، وأتقصى النتيجة، بخفاء المرعوب. وحين تكون الصاعقة، أنني هزمت، أقصد هزم الأهلي، أُبردُ الأمر وأهونه على نفسي، بأن ما حدث، كان يجب أن يحدث، وأنني كنت أتوقع ذلك.

هكذا تبين لي هذه السنة، أن على طريقتي، في سيناريو الصِبا ونادي الأهلي البنغازي، العرب وأمثالهم يتابعون جائزة نوبل، ما تخص الآداب خاصة. فالعرب وأمثالهم ليس لهم في غير الآداب نصيب، ومن ذا طفق الجمع يهلل، عقب فوز عبد الرزاق غورنا (قرنح)، الأفريقي ذو الأصول العربية! والأمر اللافت أن الجائزة، هذا العام، باغتت الجميع. فنوبل هذه المرة أضافت لنفسها بأن أضافت اسماً غير معروف، وكاتباً متميزاً وليس نجماً، إذ إن النجم هو ما يُلمع الجائزة عادة. وتأسيساً على ذلك، وجدتني أتلقط ما يتيسر، حول هذا الكاتب، مما قيل إن له، صفحة في السوشال ميديا، فيها لا يتعدى معجبوه المئة.

طبعاً، ليس ثمة عمل بشري من دون غرض، لكن غرض نوبل، في هذه، حقق المستوى المطلوب من هذه الجائزة، أي أنها وكدت كاتباً يتميز بمنزع الكاتب المبدع، لا المبدع النجم. فأسلوبه نسج يدوي، يركز على التفصيل، والتأني في ضم المفردات الاعتيادية، وجمله نحت خاص، فيها إيقاع الشفهي وإلقاء الحكاء، فالنزر اليسير مما ترجم، ينبض بهذه الخصوصية غير النمطية، بمعني لا تأتي بالعجب، بقدر ما تمنح المعتاد، روح المكتشف. والقليل الذي طالعت، يجعل الكاتب تحت نور الظل، فسرديته كلما اشتد نورها اشتدت ظلالها، لأنه يمزج ما بين الطريقة والموضوعة.

لقد ترك غورنا، بعيداً من الأضواء، فنسج منواله وطريقته، وغرف من معين تجربته، كمهاجر قديم، حينما لم تكن الهجرة، هجرة غير شرعية! وفي قصة “أقفاص” (ترجمة أحمد جمال شرابي)، ينساب السرد، وتنسج اللغة في تدفق، محمول بحدث بسيط، ومن دون تكلف، تنمو القصة والحدث معاً، ومن دون تفاصيل، نشتبك في العلاقة بين حميد والفتاة، ونستقي من هذا المسكوت عنه، ونعرف بعمق، المؤشر إليه، الهجرة، التيمة الرئيسة في كتابات غورنا، هي الروح التي لا نتبينها، لكنها تتجسد كظلال الشخصيات.

لقد هاجر غصباً، من جزيرة مُسْتَعمَرة إلى جزيرة مُسْتعمِرة، وهكذا عجنته اللغة الإنجليزية وكوّنته ثقافتها، باعتباره زنجبارياً مسلماً، أي زنجي. وعن السواحلية كلغة أولى، ومن مكون ذاكرته، يقول غورنا “الكتابة المعاصرة الوحيدة، بالسواحلية التي وعيتُها، كانت قصائد قصيرةً، منشورةً في الصحف، وبرامج القصص الرائجة، على المذياع، أو كُتب القصص النادرة”. لعل هذا ما شفّ، عن أصالته ككاتب، حيث يقول “بدأتُ الكتابة، خلال السنوات القليلة الأولى، من إقامتي في إنجلترا، حين كنت في سن الحادية والعشرين، وبمعنى ما، تعثرتُ بالكتابةِ مُصادفةً، ولم تكن تنفيذاً لخُطة ما، لقد بدأتُ الكتابة عرضاً، مثقلاً بالمعاناة، من دون أي خطة، بل مدفوعاً بالرغبة، في قول مزيد فحسب” (الكتابة والمكان، ترجمة حيدرة أسعد). والمصادفة، توصم حياة المهجرين، وفلسفة وجودهم، حتى أن نوبل صدفة تلقاها غورنا، كما دهشة العالم أيضاً، فهو كاتب مغمور، معجب بالصمت. وفي مقال أليكس شيبرد “لماذا فاز عبد الرزاق غورنا بجائزة نوبل في الآداب؟” (ترجمة عبد الرحيم يوسف)، كتب “روايات غورنا نفسها مجهولة، إلى حد كبير خارج بريطانيا، وليست معروفة تماماً داخلها. وعلى الرغم من أن الناشرين الأميركيين، نشروا أعماله في الماضي، إلا أن حقوق طبع كل عناوينه تقريباً، قد أعيدت إلى أصحابها. فلم تبع كتبه، وفقاً للصحافية جين فريدمان، إلا 3000 نسخة في كل الولايات المتحدة”.

لقد كشفت نوبل عن كنزها المجهول تقريباً، من دون مقدمات، أو إشارات في الطريق، فكان غورنا كاتب نوبل، ما منحها خاصية، المبادرة والاكتشاف مرة ثانية. وإن الفائز بالجائزة، في حالة كهذه، جائزة نوبل نفسها، الفوز بكاتب مبدع مغمور، وهذه هي الجائزة الحقيقة، التي تمنح للثقافة البشرية وإبداعها.

———————–

===================

تحديث 28 تشرين الأول 2021

——————————-

عبد الرزاق غورناه ومركزية المنظور الأوروبي عن الاستعمار/ جوليان بيري

ترجمة: عبدالله الحيمر

غائبا عن قوائم توقعات ناشري الكتب المرشحة لجائزة نوبل للأدب، حصل الكاتب عبد الرزاق غورناه على جائزة نوبل للأدب المرموقة، ما أثار دهشة النقاد وناشريه، والكاتب نفسه. عندما اتصلت به الأكاديمية السويدية، قال الفائز «اعتقدت أنها مزحة» حسبما ذكرت وكالة فرانس برس. ومع ذلك، فقد تمت مكافأة هذا الروائي، خاصة عن «روايته المتعاطفة والمتصلبة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين المحاصرين بين الثقافات والقارات» وكذلك «ارتباطه بالحقيقة ونفورها من التبسيط». من خلال تتويج عمل يتمحور حول الاستعمار والهجرة، يكرس نوبل الأسئلة الحالية بين الاعتذارات التذكارية وتوترات الهوية.

ستكون جائزة نوبل في الأدب رقم 118 في الترتيب العالمي للجائزة (من بين 118 فائزا في الأدب منذ إنشاء الجوائز عام 1901 (95) أو ما يقرب من 80% من الأوروبيين أو الأمريكيين الشماليين).فرصة في المجال الناطق بالفرنسية، لإبراز وترجمة وفهم عمل التنزاني عبد الرزاق غورناه، وهو عمل لا هوادة فيه لم يتوقف أبدا عن استكشاف آثار الاستعمار وصراع الثقافات. وأوضح أن عمله يبتعد عن «الأوصاف النمطية، ويفتح أعيننا على شرق افريقيا المتنوع ثقافيا غير المعروف كثيرا في أجزاء كثيرة من العالم». وقد ألف غورناه 10 روايات وعددا من القصص القصيرة، وأهم رواياته: «ذاكرة المغادرة ذاكرة الرحيل» (1987) «طريق الحج» (1988) «دوتي» (1990) «الجنة» (1994) «الإعجاب بالصمت» (1996) «عن طريق البحر» (2001) «الهجران» (2005) «الهدية الأخيرة» (2011) «القلب الحصى» (2017) و»الحياة بعد الموت» (2020) والمجموعة القصصية: «أمي عاشت في مزرعة في افريقيا» في عام 2006. بالإضافة إلى أعماله الروائية والقصصية، قام بتحرير مجلدين من «مقالات عن الكتابة الافريقية» ونشر مقالات عن عدد من كتاب ما بعد الاستعمار المعاصرين. لقد تمت ترجمة ثلاث من رواياته للفرنسية: «الجنة» (1994) و«طريق البحر» (2001) التي توجت سنة 2007 بجائزة شاهد على العالم، ورواية «الهجران» (2009) فقد نفدت طبعتها الآن. فشلوا في فرض عبدالرزاق غورناه كمؤلف أساسي في الفرانكفونية. انضم إلى العدد القليل الفاضح لفائزي جائزة نوبل للآداب المولودين في افريقيا من البيض: نجيب محفوظ، نادين جورديمر، وجون ماكسويل كويتزي،، وواحد أسود هو وولي سوينكا (1986). وهناك أيضا كامو وكلود سيمون، ولدوا في القارة الافريقية، وتحديداً في الجزائر ومدغشقر، وهذا لا يغير العدد المخيب للآمال حتما… لذلك تحاول الأكاديمية السويدية تقليل هذا التأخير الرمزي (الانفتاح على العالم وتحرير نفسها من رؤية ذكورية للغاية وأوروبية المركز، كانت هذه هي الرغبة التي صاغتها اللجنة في عام 2019. وغالبا ما تُنتقد الأكاديمية بسبب مركزيتها الأوروبية، وقد سعت منذ عام 2019 لتوسيع آفاقها. حتى لو حرص رئيس لجنة نوبل على إعادة التأكيد في بداية الأسبوع على أن «الجدارة الأدبية» ظلت «المعيار المطلق والفريد».

لغة السواحيلية والعربية

ولد عبد الرزاق غورناه عام 1948 في زنجبار – وهي أرخبيل يقع قبالة سواحل شرق افريقيا وهي الآن جزء من تنزانيا. ترجع أصوله إلى اليمن من خلال عائلته، وقد فر من زنجبار إلى إنكلترا في أواخر الستينيات، وهي جزيرة عالمية شهدت فترات عديدة من الهيمنة: البرتغالية والهندية والعربية والألمانية ثم البريطانية… لكن في عام 1963، انزلقت زنجبار، التي تحررت بصعوبة من الإمبراطورية البريطانية، في ثورة دموية. تعرض فيها المواطنون من أصل عربي للاضطهاد والذبح، ما اضطر عبد الرزاق غورناه الذي ينتمي إلى هذه الأقلية، إلى الفرار في سن 18 واللجوء إلى إنكلترا. لم يستطع العودة إلى موطنه الأصلي حتى عام 1984 قبل وقت قصير من وفاة والده. ثقافته متجذرة بالأساطير السواحيلية، وبلغة سواحيلية ساحرة جمعت مفرداتها ومفاهيمها من العربية والهندية ومن التاريخ الاستعماري للشرق الافريقي. ثقافة عالمية تشكلت بالحرف والعرق المشترك، التي يمكن العثور عليها في أعماله، استكشاف آلام المنفى، واستبطان السيرة الذاتية والتأمل في حالة الإنسان.

العنصرية والاستعمار

جاء عبد الرزاق غورناه إلى المملكة المتحدة عام 1968 للدراسة، على الرغم من أنه كان يكتب منذ أن كان عمره 21 عاما، إلا أنه لم يتم نشر أعماله حتى عام 1987 مع 10 روايات وقليل من القصص القصيرة منذ ذلك الحين. تتميز جميع أعماله منذ ذلك الحين بموضوع الهجرة والعنصرية والاستعمار. من بين مصادر إلهامه، حكايات ألف ليلة وليلة والشعر الفارسي وشكسبير. في إنكلترا، عمل في مهنة أكاديمية، وأصبح أستاذا للغة الإنكليزية وأدب ما بعد الاستعمار في جامعة كنت، وتخصص في دراسة المؤلفين وول سوينكا ونجوج واثيونغو وسلمان رشدي. في مقال في صحيفة «الغارديان» البريطانية، نُشر عام 2004، أوضح عبد الرزاق غورناه أنه بدأ الكتابة في سن 21 عاما، بعد فترة وجيزة من انتقاله إلى إنكلترا. قال إنه «سقط» في الكتابة دون أن يتوقع ذلك. وأوضح: «بدأت في الكتابة بشكل عرضي، في قدر معين من الألم، دون أي فكرة عن خطة، لكن في عجلة من أمري بالرغبة في قول المزيد».

نحن لا نتوقف أبدا عن إعادة النظر في ذاكرته، دونها لا يوجد حاضر أو مستقبل ممكن. مع الروائي عبد الرزاق غورناه، تتكون هذه الذكرى من الدموع. تداخل الهجرة في رواية «الهجران» (2005) بين ثلاث طبقات والعديد من وجهات النظر في استحضار المستوطنين الإنكليز، الذين يغادرون افريقيا، دون القلق بشأن الفوضى التي أحدثوها، لكن أيضا الجيل الجديد من التنزانيين الذين هجروا بلادهم لتجربة حظهم في الخارج.

يروي كتابه الأخير الذي نُشر بالإنكليزية العام الماضي، «بعد الحياة» قصة حمزة، الصبي الذي انضم إلى القوات الاستعمارية الألمانية في مطلع القرن العشرين، ولا يزال في تنزانيا. أُجبر حمزة على القتال ضد أسرته، وكان يعامل مثل العبد، وسيعود بعد خمس سنوات من الحرب إلى قريته التي أصبحت غريبة عنه.

هويات ممزقة

يقول الباحث لوكا برونو، عن أعمال عبدالرزاق غورناه: «تهيمن عليها مسائل الهوية والتشريد، وكيف تتشكل من خلال إرث الاستعمار والعبودية». مبدعا، يلعب بالاتفاقيات، وعلى التأثير المدمر للهجرة في سياق جغرافي واجتماعي جديد على هويته. يتجنب أي حنين إلى فترات ما قبل الاستعمار، وأي انزياح عاطفي لها أيضا، تمكنت كتب عبد الرزاق غورناه من استعادة تعقيد ومفارقات الهويات الممزقة، في الهجرة الدائمة بين اللغات والقارات، بين الاستعمار والعبودية، بين الماضي والحاضر، لكن أبطال غورناه يعيدون بناء أنفسهم بصبر، بما في ذلك من خلال العلاقات الرومانسية والنظر إلى التاريخ وجها لوجه.

ويظهر المؤلف أن كل مصير يحتوي على الكثير من المفارقات، وهكذا في روايته «الهجران» كتب: «هناك» أنا « في هذه القصة، لكنها ليست قصة عني. إنها قصة عنا جميعا. ما نتحدث عنه هو كيف تحتوي القصة على العديد، وكيف أنها لا تنتمي إلينا، لكنها جزء من التيارات العشوائية للعصر الذي نعيش فيه، وكيف تلتقطنا القصص وتجذبنا إلى الأبد.

في تقديم جائزة نوبل، دعا عبد الرزاق غورناه أوروبا بشكل خاص إلى اعتبار اللاجئين من افريقيا ثروة. «يأتي الكثير من هؤلاء الناس بدافع الضرورة، وأيضا بصراحة لأن لديهم ما يعطونه. وقال الكاتب في مقابلة مع مؤسسة نوبل «إنهم لا يأتون خاليي الوفاض» داعياً إلى تغيير النظرة إلى «الأشخاص الموهوبين والحيويين».

جوليان بيري / ترجمة بتصرف

عن مجلة LE TEMPS/ 7 أكتوبر 2021

القدس العربي

————————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى