منوعات

“السلسلة الخضراء”.. دعوة للتصالح مع الطبيعة/ سناء عبد العزيز

كيف فشلت مخيلتنا في توقع حجم الدمار الذي آلت إليه الطبيعة؟ وكيف تفشل إلى الآن في استيعاب المأزق الناجم عن إهمالنا للهواء والماء والتربة، على الرغم من حقيقة أنه لا يهدد بقاءنا فحسب، بل مصير كوكب بأكمله؟

في عام 1973، قام الفيلسوف النرويجي، أرني نايس، بسك مصطلح “البيئة العميقة”، ويدل النعت “العميقة” على ما يناقض الضحالة، أو البساطة أو السطحية. أراد نايس “أن يذهب أبعد من المستوى الفعلي للبيئة كعلم إلى مستوى أعمق من الوعي الذاتي وحكمة الأرض”(1). وبدأ المستكشفون ومؤرخو الطبيعة الكتابة عن المناطق التي تضررت ومستقبل الحياة البرية. كما نشطت الهيئات والمنظمات والأحزاب في جميع أنحاء العالم من أجل تغيير طريقة الوعي بالبيئة بعد أن استبانت ضحالتها التي لا تغتفر، وباتت تهدد صحة الإنسان وتنذر بانقراضه الذاتي. وهنالك مزاعم بأن جميع الانقراضات التي حدثت منذ عام 1600 (75% انقراض في الثدييات و66% انقراض في الطيور) تُعزى مباشرة إلى النشاط البشري(2). المثير للقلق أن “كل نوع ينقرض، ينتقل نحو 30 نوعًا آخر تابعًا له إلى فئة المعرض للخطر”(3).

“السلسلة الخضراء”

لم يكن الأدب في منأى عن ذلك المأزق الوجودي، باعتباره مرآة عاكسة لكل ما يطرأ على الواقع من تغيرات، وناقوس الخطر المنوط به إيقاظ الوعي الجمعي في لحظات الذروة. ففي الوقت المعرض فيه الإنسان هو وبيئته للخطر، لا يمكن أن تكون عبارة ويستن هيو أودن “الشعر لا يحدث شيئًا”(4) صحيحة!

انطلاقًا من هذا الوعي، ظهر نوع جديد من الأدب المهتم بالتغيرات البيئية والمناخية، وتأثيرها على الوجود البشري، متخذًا من قضية البيئة متنًا له. وأطلق عليه “الأدب البيئي”. ودشنه النقد بمقال وليام روكيرت عام 1978 “الأدب وعلم البيئة: تجربة في نقد التبيؤ”؛ ركز فيه روكيرت على دراسة الكتب التي تناولت الطبيعة وقراءة الأدب مع تسليط الضوء على القضايا “الخضراء” التي تصاعدت خلال ثمانينيات القرن العشرين. وبحلول التسعينيات ظهر نقد التبيؤ بوصفه فرعًا مميزًا داخل أقسام الأدب في الجامعات.

ويعتبر كتَّاب الرومانسية من الأميركيين والبريطانيين من أكثر من أولى الطبيعة اهتمامًا خاصًا. إلا أنه من المرجح أن العمل المميز عن كتابة الطبيعة، هو “الحياة في الغابة” لهنري ديفيد ثورو (1854). ويذهب بعض النقاد إلى أن التراث الأميركي في كتابة الطبيعة مستمد من نموذج ثورو. وهناك عمل آخر أميركي غير قصصي عن الطبيعة لرالف والدو إمرسون تحت عنوان “الطبيعة” (1836)، وفيه يتحدث إمرسون عن الوحدة الصوفية للطبيعة، ويحث قراءه على الاستمتاع بالانتماء إلى البيئة.

لم تعدم دور النشر في دورها وسيلتها لإنقاذ البيئة من خطل البشر، بما ينم عن قدرتها على مواكبة كل ما يحدث حولها؛ ومنها دار بنغوين للنشر التي أعلنت منذ أيام قليلة عن سلسلة جديدة تختص بهذا النوع من الأدب؛ فهي تعتقد أنه غير أسلوبنا في التفكير في الأرض الحية، وطريقتنا في التحدث عنها. وتعد هذه الخطوة جزءًا من اتجاه متزايد في نشر الكتب التي تركز على المناخ، سواء من رجال أعمال، مثل ديفيد آتينبارا، وبيل غيتس، بكتابه “كيفية تجنب كارثة مناخية”، أو من قبل روائيين مثل ريتشارد باورز، وجيني أوفيل.

بدأت بنغوين السلسلة التي أطلقت عليها “الأفكار الخضراء” بـ 20 كتابًا من أهم الكتب التي عالجت الأزمة، بدءًا من غريتا تنبرغ، إلى جيمس لوفلوك، لاعتقادها أنها تشكل “الكلاسيكيات التي صنعت حركة”، من مفكرين واعين من جميع أنحاء العالم، رفعوا أصواتهم عاليًا دفاعًا عن الطبيعة.

تضم السلسلة الناشطة الكينية وانجاري ماثاي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، بكتابها الذي يستكشف قوة الأشجار، ولماذا يدمر البشر الغابات التي تبقينا على قيد الحياة. ماثاي هي من نشرت ما يسمى بحركة الحزام الأخضر في بلدها ودول أفريقية أخرى، وساهمت في زراعة أكثر من ثلاثين مليون شجرة.

يشارك أيضًا الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، الحائز على جائزة كتاب العالم الطبيعي، لدعوته للبشرية أن تستيقظ على دمار الكوكب، ونعومي كلاين لنظرتها إلى تغول الرأسمالية على المناخ.

أما الكاتبة الأميركية، وعالمة الأحياء البحرية، راشيل كارسون، فعلى الرغم من نشرها العديد من الكتب التي تعكس اهتمامها بالحياة في البحار والسواحل، فإن كتابها “ربيع صامت/ Silent Spring”، الصادر عام 1962، هو أكثر ما لفت انتباه الرأي العام، وفجر الوعي في الستينيات بمدى الضرر والدمار من استخدام المبيدات على الحياة البرية، وما يزال تأثيره ممتدًا حتى اللحظة الراهنة.

فتاة صغيرة ألهمت العالم

جاءت فكرة السلسلة في أعقاب نشر كتاب غريتا تنبرغ “لا أحد أصغر من أن يحدث فرقًا/ No One Is Too Small to Make a Difference”. وقد أحدثت غريتا، الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الخامسة عشرة في عام 2018، فرقًا ملحوظًا في قضية المناخ؛ حيث واظبت على الجلوس أمام مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل خلال ساعات الدوام المدرسي، رافعة شعار “إضراب المدارس من أجل المناخ”. كانت مطالب غريتا واضحة جدًا، بعد أن أدركت أننا نواجه أزمة وجودية بسبب التغير المناخي، وعزت المسؤولية عن تلك الأزمة إلى الجيل الحالي من البالغين، بينما الشباب هم من سيدفعون الثمن. لهذا دعت غريتا السياسيين وصانعي القرار إلى الاستماع إلى العلماء، والحد من انبعاثات الكربون، وفقًا لاتفاقية باريس. في العام نفسه، اختارتها مجلة التايمز الأميركية شخصية العام، بعد أن تحولت إلى مصدر إلهام لملايين الأطفال والشباب حول العالم في دفاعها عن كوكب الأرض. وبهذا أصبحت غريتا أصغر شخصية تختارها المجلة كشخصية للعام منذ أن بدأت هذا التقليد عام 1927.

يقول مدير تحرير السلسلة، كلوي كورنز: “لقد رفعت غريتا درجة حرارة الحوار العالمي، فوجدنا أنفسنا فجأة نتحدث عن أزمة بدلًا من مجرد تغير مناخي، واشتعل نهمنا على نحو ملح لمزيد من الأفكار البيئية”.

تنتقل بنغوين في “تتبع القانون البيئي الناشئ”، من الناشطة الصغيرة غريتا إلى عالم البيئة ألدو ليوبولد، المعترف بتأثيره في تطوير الأخلاقيات البيئية الحديثة، وفي حركة الحفاظ على البرية، وشدد على التنوع الحيوي وعلم البيئة، بكتابه “تقويم مقاطعة رملية/ Sand Country Almanac”. باع كتاب ليوبولد أكثر من مليوني نسخة.

يضيف كورنز: “تأثرنا بالكتب العشرين التي اخترناها كنقاط بداية واضحة للسلسلة، من حيث أصالتها وتأثيرها، لكن هناك وفرة من الكتابات البيئية المهمة والمحفزة بحيث يستحيل أن تكون القائمة شاملة”.

العودة من طريق مختصر

تضمنت القائمة كذلك، روبن وول كيميرر، عالمة النبات وعضو رابطة مواطني بوتواتومي، لما قامت به من إرشاد نحو علاقة أكثر تبادلًا وامتنانًا وبهجة مع الأرض. تقول كيميرر: “يشرفني جدًا أن تقف كلماتي في صحبة أبطالي الخياليين”. ترى كيميرر أن هذه السلسلة “بمثابة تعبير جماعي عن الحب والحزن للعالم الحي ولا يمكن أن تكون أكثر أهمية في لحظة الخطر هذه”. كما ترى في كتابتها علاقة تبادلية مع الأرض، ووسيلة للعودة من طريق مختصر، إلى الهبات التي منحتها لها.

تتابع كيميرر: “تقدم النظرة العالمية الطبيعية مناهج لإصلاح علاقتنا بالأرض، والتي تمثل ثقلًا موازنًا للنظرة المادية السائدة للعالم. إنها فكرة قديمة وملحة، على حد سواء، وأنا ممتنة أن هذا سيتم تسليط الضوء عليه هنا. أرجو أن تعمل مقالاتي كعلاج لعلاقة منهارة مع الأرض، وتداوينا من مرض العزلة بين الأنواع والاستثنائية البشرية التي أنتجتها النظرة الغربية للعالم”.

من ضمن من أدرجوا في قائمة بنغوين، الكاتب الهندي البنغالي، أميتاف غوش، لاستكشافه كيف تفشل مخيلتنا الجماعية في فهم حجم الدمار البيئي. يقول غوش معربًا عن سعادته البالغة لتضمينه في السلسلة: “أؤكد في كتابي أن تغير المناخ هو في الأساس مشكلة ثقافية، وأحاول تحديد الأسباب الدقيقة التي تجعل من الصعب معالجة هذا الموضوع ضمن الحدود التقليدية للأدب الحديث”.

ساهم أيضًا جارِد دايموند، أستاذ الجغرافيا والفيزيولوجيا في جامعة كاليفورنيا، المعروف بكتبه العلمية الحائزة على الجوائز، التي تستقصي أسباب تدمير الحضارة النائية في جزيرة إيستر (تقع في المحيط الهادئ الجنوبي على بعد 3700 كم غربي تشيلي) باستنزاف مواردها الطبيعية. يتساءل دايموند: “لماذا تلفت قصة انهيار مجتمع جزيرة إيستر انتباهنا إلى هذا الحد؟”، ولكنه لا يترك السؤال معلقًا: “لأن إزالة الغابات وتدهور إيستر كانا كاملين؛ لأن إيستر كانت المجتمع البشري الأكثر عزلة على الأرض، لذلك فإن انهياره حدث لأسباب بيئية بحتة، حيث لم يكن هناك بشر آخرون حول العالم لتعقيد التفسير؛ لأن مصير إيستر يشير إلى مصير مجتمع الأرض الحديث، المعزول في الفضاء مثل انعزال إيستر في المحيط الهادئ؛ كما أن إنكار بعض الناس لقصة إيستر الواضحة لا يختلف عن إنكار البعض للمخاطر الواضحة التي تواجه عالمنا الحديث”.

وتأمل بنغوين من خلال سلسلتها الخضراء أن تعمق إحساسنا بالمكان بما يغير من أسلوب تفاعلنا معه، ويدلنا على الطريق إلى عالم “أكثر عدلًا وعقلانية واخضرارًا”.

هوامش:

1 ـ Porritt, J. and Winner, D.: The Coming of the Greens (Glasgow: Fontana/Collins, 1988, p. 235)

2 ـ Jones, G.: Op.cit., p.156

3 ـ Jones, G., Op. cit., p. 156-7

4 ـ Auden, W.H.: In Memory of W.B. Yeats, in Mendelson, Edward: W.H. Auden. Selected Poetry (London: Faber and Faber, 1979, p. 88.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى